كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين15%

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 376

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين
  • البداية
  • السابق
  • 376 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 127210 / تحميل: 8233
الحجم الحجم الحجم
كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

ثانياً: الانحراف السياسي

اتّبع الحكّام الأمويون سياسة من سبقهم في تحويل الخلافة إلى ملك يتوارثه الأبناء عن الآباء دون سابقة علم أو تقوى، وتوزيع المناصب المهمّة والحسّاسة في الدولة على أبنائهم وأقربائهم والمتملقين لهم، واستبدوا بالأمر فلا شورى ولا استشارة إلاّ مع المنحرفين والفسّاق من بطانتهم. ولشعورهم بعدم الأحقية بالخلافة استمروا على نهج من سبقهم في اتخاذ الإرهاب والتنكيل وسيلة لتثبيت سلطانهم، فحينما وجد الوليد بن عبد الملك أنّ ولاية عمر بن عبد العزيز على مكة والمدينة قد أصبحت ملجأً للهاربين من ظلم بقية الولاة، قام بعزله(١) تنكيلاً منه بالمعارضين وارهابهم وغلق منافذ السلامة أمامهم.

وكان سليمان بن عبد الملك محاطاً بثُلّة من الرجال الذين عرفوا بفسقهم وانحرافهم وسوء سيرتهم كما وصفهم أعرابيّ عنده، بعد أن أخذ منه الأمان، فقال له: يا أمير المؤمنين، أنه قد تكنّفك رجال أساءوا الاختيار لأنفسهم، وابتاعوا دنياهم بدينهم، ورضاك بسخط ربهم، خافوك في الله، ولم يخافوا الله فيك، حرب للآخرة وسلم للدنيا، فلا تأمنهم على ما يأمنك الله عليه، فإنّهم لم يأتوا إلاّ ما فيه تضييع وللأمة خسف وعسف، وأنت مسؤول عما اجترموا،

ــــــــــــــ

(١) الكامل في التاريخ: ٤ / ٥٧٧.

٨١

وليسوا مسؤولين عمّا اجترمت، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك(١) .

واتّبع أبناء عبد الملك الوليد وسليمان سيرة أبيهم، والتزموا بوصيته في قتل الرافضين للبيعة، والتي جاء فيها: ادع الناس إلى البيعة، فمن قال برأسه هكذا فقل بسيفك هكذا(٢) .

وأقرّ كثير من الفقهاء سياسة الحكّام الأمويين خوفاً أو طمعاً أو استسلاماً للأمر الواقع، فقد أقرّوا ما ابتدعوا من ممارسات في تولية الحكم كالعهد إلى اثنين أو أكثر، فقد عهد سليمان بالحكم إلى عمر بن عبد العزيز ومن بعده ليزيد بن عبد الملك، فأقرّ كثير من الفقهاء ذلك، حتى أصبحت نظرية من نظريات تولّي الحكم(٣) .

وحينما تولّى عمر بن عبد العزيز الحكم حدث انفراج نسبي في السياسة الأُموية، كما لاحظنا، وقام ببعض الإصلاحات ومنح الحرية النسبية للمعارضين، وألغى بدعة سبّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام وردّ إلى أهل البيتعليهم‌السلام بعض حقوقهم، واعترف بالممارسات الخاطئة لأسلافه من الحكّام، حتى امتدحه الإمام الباقرعليه‌السلام على ذلك(٤) .

ولكن حكمه لم يدم طويلاً ; إذ عاد الوضع إلى ما كان عليه.

وامتازت هذه المرحلة بسرعة تبدّل الحكّام، فقد حكم سليمان ثلاث سنين، وحكم عمر بن عبد العزيز ثلاث سنين أو أقل، وحكم يزيد بن عبد الملك أربع سنين، وكان كل حاكم ينشغل بالإجهاز على ولاة من سبقه، وكثرت الاختلافات في داخل البيت الأُموي تنافساً على الحكم، كما كثرت

ــــــــــــــ

(١) الكامل في التاريخ: ٣ / ١٧٨.

(٢) البداية والنهاية: ٩ / ١٦١.

(٣) الأحكام السلطانية: ١٣، الماوردي.

(٤) الكامل في التاريخ: ٥ / ٦٢.

٨٢

الفتن الداخلية في عهدهم، حتى قام قتيبة بن مسلم بخلع سليمان والاستقلال في خراسان(١) .

وقام يزيد بن المهلب في سنة ( ١٠١ هـ ) بخلع يزيد بن عبد الملك وجهّز إليه يزيد من قتله وقتل أتباعه.

وأحاط يزيد نفسه بالمتملّقين الذين يبررون له انحرافاته حتى أفتوا له أنه ليس على الخلفاء حساب(٢) .

وهكذا كانت الأمة الإسلامية محاطة بالمخاطر من كل جانب، ففي سنة ( ١٠٤ هـ ) ظفر الخزر بالمسلمين وانتصروا عليهم في بعض الثغور.

وفي عهد هشام بن عبد الملك ازداد الإرهاب والتنكيل بأهل البيتعليهم‌السلام وأتباعهم وسائر المعارضين، حتى اجترأ هشام بن عبد الملك على سجن الإمام الباقرعليه‌السلام وأقدم على اغتياله(٣) . وأصدر أوامره بقتل بعض أتباع الإمام الباقرعليه‌السلام إلاّ أنّ الإمام استطاع أن ينقذهم من القتل(٤) .

والتجأ الكثير إلى العمل السرّي للإطاحة بالحكم الأُموي، فكان العباسيون يعدّون العدّة ويبثون دعاتهم في الأقاليم البعيدة عن مركز الحكومة وخصوصاً في خراسان، وأخذ زيد ابن الإمام زين العابدينعليه‌السلام يعدّ العدّة للثورة على الأمويين في وقتها المناسب، لأنّ الأمويين كانوا قد أحصوا أنفاس الناس عليهم لكي لا يتطرقوا إلى انحرافاتهم السياسية أو يعلنوا عن معارضتهم لها.

ــــــــــــــ

(١) تاريخ ابن خلدون: ٥ / ١٥١.

(٢) البداية والنهاية: ٩ / ٢٣٢.

(٣) مناقب آل أبي طالب: ٤ / ٢٠٦.

(٤) بحار الأنوار: ٤٦ / ٢٨٣.

٨٣

ثالثاً: الانحراف الأخلاقي

لقد حوّل الأمويون الأنظار إلى الغزوات، وحشّدوا جميع الطاقات البشريّة والمادّية باتجاه الغزوات; وذلك من أجل إشغال المسلمين عن التحدّث حول الأوضاع المنحرفة، وعن التفكير في العمل السياسي أو الثوري لاستبدال نظام الحكم بغيره، ولم يكن هدفهم نشر مفاهيم وقيم الإسلام كما يتصوّر البعض ذلك، لأنّهم كانوا قد خالفوا هذه المفاهيم والقيم في سياستهم الداخلية، وداسوا كثيراً من المقدسات الإسلامية، وشجّعوا على الانحرافات الفكرية.

وأدّى توسّع عمليات الفتح والغزو إلى خلق الاضطرابات في المجتمع الإسلامي وتشتيت الأُسر بغياب المعيل أو فقدانه، كما كثرت الجواري والغلمان ممّا أدّى إلى التشجيع على الانحراف باقتناء الأثرياء للجواري المغنّيات وتملك المخنثين، وانتقل الانحراف من البلاط إلى الأمة تبعاً لانحراف الحكّام وفسقهم، فقد انشغلوا باللهو والانسياق وراء الشهوات دون حدود أو قيود حتى كثر الغزل والتشبيب بالنساء في عهد الوليد بن عبد الملك بشكل خاص(١) .

وكانت همّة سليمان بن عبد الملك في النساء، وانعكس ذلك على المجتمع حتى كان الرجل يلقى صاحبه فيقول له: كم تزوجت ؟ وماذا عندك من السراري ؟(٢) .

وقد وصف أبو حازم الأعرج الوضع الاجتماعي والأخلاقي مجيباً سليمان بن عبد الملك على سؤاله: ما لنا نكره الموت؟ بقوله: لأنكم عمّرتم

ــــــــــــــ

(١) الأغاني: ٦ / ٢١٩.

(٢) البداية والنهاية: ٩ / ١٦٥.

٨٤

دنياكم وأخربتم آخرتكم، فأنتم تكرهون النقلة من العمران إلى الخراب(١) .

وكان سليمان يسابق بين المغنيين ويمنح السابقين الجوائز الثمينة(٢) ، ويجزل العطاء للمغنيات. كما ازداد عدد المخنثين في عهده(٣) .

وأقبل يزيد بن عبد الملك على شرب الخمر واللهو(٤) ، ولم يتب من الشراب إلاَّ أسبوعاً حتى عاد إليه بتأثير من جاريته حبّابة(٥) .

وكان يقول: ما يقرّ عيني ما أوتيت من أمر الخلافة حتى اشتري سلامة وحبّابة فأرسل من يشتريهما له(٦) .

وهكذا وصل الانحراف إلى ذروته، حينما أصبح اللهو والمجون من أولى هموم حكّام الدولة.

وليس غريباً أن تنحرف الأمة بانحراف حكامها وولاتهم وأجهزة الدولة، وبهذا الانحراف كانت تبتعد الأغلبية من الناس عن الأهداف الكبرى التي حددها المنهج الإسلامي، ولا تكترث بالأحداث والمخاطر المحيطة بالوجود الإسلامي.

رابعاً: الانحراف في الميدان الاقتصادي

لقد تصرّف الحكّام بالأموال العامّة وكأنّها ملك شخصي لهم، فكانوا ينفقونها حسب رغباتهم وأهوائهم، على ملذاتهم وشهواتهم وكان للجواري والمغنيين نصيب كبير في بيت المال، كما كانوا ينفقون الأموال لشراء الذمم

ــــــــــــــ

(١) مروج الذهب: ٣ / ١٧٧.

(٢) الأغاني: ١ / ٣١٧.

(٣) المصدر السابق: ٤ / ٢٧٢.

(٤) مروج الذهب: ٣ / ١٩٦.

(٥) الأغاني: ١٥ / ٢٩٥.

(٦) المصدر السابق: ٨ / ٣٤٦.

٨٥

والضمائر، ويمنحونها لمن يشترك في تثبيت سلطانهم أو مدحهم والثناء عليهم، فقد مدح النابغة الشيباني يزيد بن عبد الملك فأمر له بمائة ناقة، وكساه وأجزل صلته(١) .

فتنافس الشعراء فيما بينهم للحصول على مزيد من الأموال كما تنافس المغنّون لنيل الهدايا من الحكام أو ولاتهم.

وكان الحكّام يعيشون في أعلى مراتب الترف والبذخ، ويبذّرون أموال المسلمين على لهوهم وشهواتهم، وعلى المقربين لهم، في وقت كان كثير من الناس يعيشون حياة الفقر والجوع والحرمان.وازداد التمييز الطبقي حينما عُطِّل مبدأ التكافل الاجتماعي، ولم تكترث الدولة بمعاناة الناس وهمومهم ولم تتدخل في الحث على الإنفاق.

وقد ضاعف الحكّام من الضرائب، فأضافوا ضرائب جديدة على الصناعات والحرف وخصوصاً في عهد هشام بن عبد الملك، الذي كان ينفق ما تجمّع لديه على الشعراء المادحين له(٢) .

وقد وصف سليمان بن عبد الملك حالات الترف والمجون التي وصلوا إليها قائلاً: قد أكلنا الطيب، ولبسنا اللين، وركبنا الفاره، ولم يبق لي لذة إلاّ صديق أطرح معه فيما بيني وبينه مؤنة التحفظ(٣) .

وهكذا انساق الناس ـ وخصوصاً ـ أتباع الأمويين وراء شهواتهم ورغباتهم، وانشغل الكثير في السعي للحصول على الأموال بأي وجه أمكن.

ــــــــــــــ

(١) الأغاني: ٧ / ١٠٩.

(٢) المصدر السابق: ١ / ٣٣٩.

(٣) مروج الذهب: ٣ / ٧٦.

٨٦

الفصل الثالث: دور الإمام محمّد الباقرعليه‌السلام في إصلاح الواقع الفاسد

على الرغم من انحراف الحكّام وأجهزتهم الإدارية والسياسية عن المبادئ الثابتة التي أرسى دعائمها القرآن الكريم والسنّة النبويّة; إلاّ أنّ القاعدة الفكرية والتشريعية للدولة بقيت متبنّاةً من قبل الحاكم وأجهزته في مظاهرها العامة، وعلى ضوء ذلك فإنّ دور الإمامعليه‌السلام كان دوراً إصلاحياً لإعادة الحاكم وأجهزته وإعادة الأمة إلى الاستقامة في العقيدة والشريعة، وجعل الإسلام بمفاهيمه وقيمه هو الحاكم على الأفكار والعواطف والمواقف.

وكان أسلوب الإمامعليه‌السلام الإصلاحي متفاوتاً تبعاً لتفاوت الظروف التي كانت تحيط به، وبالحكم القائم، وبالأمة المسلمة.

لقد كان الإمامعليه‌السلام مقصد العلماء من كل بلاد العالم الإسلامي. وما زار المدينة أحد إلاّ عرّج على بيته يأخذ من فضائله وعلومه، وكان يقصده كبار رجالات الفقه الإسلامي: كسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وأبي حنيفة.

وكان دورهعليه‌السلام في الإصلاح يتركّز على اتجاهين متزامنين:

الاتجاه الأول: التحرك في أوساط الأمة وعموم الناس، بما فيهم المسلمون وأصحاب الديانات الأخرى، فضلاً عن التحرك على الحكّام وأجهزتهم لإعادتهم إلى خطّ الاستقامة أو الحدّ من انحرافاتهم وحصرها في نطاق محدود.

الاتجاه الثاني: بناء الجماعة الصالحة لتقوم بدورها في إصلاح الأوضاع العامة للأمة وللدولة طبقاً للأسس والقواعد الثابتة التي أرسى دعائمها أهل البيتعليهم‌السلام بما ينسجم مع القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة.

٨٧

محاور الحركة الإصلاحية العامّة للإمام الباقر عليه‌السلام

أوّلاً: الإصلاح الفكري والعقائدي

من الأزمات التي خلّفتها سيرة الحكّام السابقين هي أزمة ارتباك المفاهيم وما رافقها من تقليد وسطحية في الفكر، فلم تتجلّ حقيقة التصور الإسلامي عند الكثير من المسلمين لكثرة التيارات الهدّامة ونشاطها في تحريف المفاهيم السليمة وتزييف الحقائق، فكان دور الإمامعليه‌السلام هو حمل النفوس على التمحيص لتمييز ما هو أصيل من العقيدة عمّا هو زيف، وعلى تحكيم الأفكار والمفاهيم الأصيلة في عالم الضمير وعالم السلوك على حد سواء، والاستقامة على المنهج الذي يريده الله تعالى للإنسان.

وقد مارس الإمامعليه‌السلام عدة نشاطات لإصلاح الأفكار والعقائد، نشير إلى أهمّها كما يلي:

١ ـ الردّ على الأفكار والعقائد الهدّامة والمذاهب المنحرفة

وجد المنحرفون لأفكارهم وعقائدهم الهدّامة أوساطاً تتقبّلها وتروّج لها ـ جهلاً أو طمعاً أو تآمراً على الإسلام الخالد ـ وفي عهد الإمام الباقرعليه‌السلام نشطت حركة الغلاة بقيادة المغيرة بن سعيد العجلي.

٨٨

روى علي بن محمد النوفلي أن المغيرة استأذن على أبي جعفرعليه‌السلام

وقال له: أخبر الناس أنّي أعلم الغيب، وأنا أطعمك العراق، فزجره الإمامعليه‌السلام زجراً شديداً وأسمعه ما كره فانصرف عنه، ثم أتى أبا هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية فقال له مثل ذلك، فوثب عليه، فضربه ضرباً شديداً أشرف به على الموت، فلمّا برئ أتى الكوفة وكان مشعبذاً فدعا الناس إلى آرائه واستغواهم فاتّبعه خلق كثير(١) .

واستمرّ الإمامعليه‌السلام في محاصرة المغيرة والتحذير منه وكان يلعنه أمام الناس ويقول:(لعن الله المغيرة بن سعيد كان يكذب علينا) (٢) .

ولعنعليه‌السلام بقية رؤساء الغلاة ومنهم بنان التبّان، فقال:(لعن الله بنان التبّان، وإن بناناً لعنه الله كان يكذب على أبي) (٣) .

وكانعليه‌السلام يحذّر المسلمين وخصوصاً أنصار أهل البيتعليهم‌السلام من أفكار الغلو، ويرشدهم إلى الاعتقاد السليم، بقوله:(لا تضعوا عليّاً دون ما وضعه الله، ولا ترفعوه فوق ما رفعه الله) (٤) .

وكانعليه‌السلام يخاطب أنصاره قائلاً:(يا معشر الشيعة شيعة آل محمد كونوا النمرقة الوسطى: يرجع إليكم الغالي، ويلحق بكم التالي) (٥) .

وحذّرعليه‌السلام من المرجئة ولعنهم حين قال:(اللهمّ العن المرجئة فإنهم أعداؤنا في الدنيا والآخرة) (٦) .

وكانعليه‌السلام يحذّر من أفكار المفوضة والمجبرة. ومن أقواله في ذلك:(إيّاك

ــــــــــــــ

(١) شرح نهج البلاغة: ٨ / ١٢١.

(٢) بحار الأنوار: ٢٥ / ٢٩٧.

(٣) المصدر السابق: ٢٥ / ٢٩٧.

(٤) المصدر السابق: ٢٥ / ٢٨٣.

(٥) المصدر السابق: ٦٧: ١٠١.

(٦) المصدر السابق: ٤٦ / ٢٩١.

٨٩

أن تقول بالتفويض! فإنّ الله عَزَّ وجَلَّ لم يفوّض الأمر إلى خلقه وهناً وضعفاً، ولا أجبرهم على معاصيه ظلماً) (١) .

وفي عرض هذا الردّ القاطع الصريح كان الإمامعليه‌السلام يبيّن الأفكار السليمة حول التوحيد لكي تتعرف الأمة على عقيدتها السليمة.

وكان ممّا ركّز عليه الإمامعليه‌السلام في هذا المجال بيان مقومات التوحيد ونفي التشبيه والتجسيم لله تعالى.

قالعليه‌السلام :(يا ذا الذي كان قبل كل شيء، ثم خلق كل شيء، ثم يبقى ويفنى كلّ شيء، ويا ذا الذي ليس في السموات العلى ولا في الأرضين السفلى، ولا فوقهنّ، ولا بينهنّ ولا تحتهنّ إله يعبد غيره) (٢) .

وفي جوابهعليه‌السلام للسائلين عن جواز القول بأنّ الله موجود، قال:(نعم، تخرجه من الحدّين: حدّ الإبطال، وحدّ التشبيه) (٣) .

وقالعليه‌السلام :(إن ربّي تبارك وتعالى كان لم يزل حيّاً بلا كيف، ولم يكن له كان، ولا كان لكونه كيف، ولا كان له أين، ولا كان في شيء، ولا كان على شيء، ولا ابتدع له مكاناً) (٤) .

كما ركّز الإمام الباقرعليه‌السلام على العبودية الخالصة لله ونهى عن الممارسات التي تتضمّن الشرك بالله تعالى.قالعليه‌السلام :(لو أن عبداً عمل عملاً يطلب به وجه الله عزّ جلّ والدار الآخرة، فأدخل فيه رضى أحد من الناس كان مشركاً) (٥) .

ــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار: ٥ / ٢٩٨.

(٢) المصدر السابق: ٣ / ٢٨٥.

(٣) المصدر السابق: ٣ / ٢٦٥.

(٤) المصدر السابق: ٣ / ٣٢٦.

(٥) المصدر السابق: ٦٩ / ٢٩٧.

٩٠

كما دعا إلى الانقطاع الكامل لله تعالى بقوله:(لا يكون العبد عابداً لله حق عبادته; حتى ينقطع عن الخلق كلّه إليه) (١) .

ونهى الإمامعليه‌السلام عن التكلم في ذات الله تعالى، وذلك لأنّ الإنسان المحدود لا يحيط بغير المحدود فلا ينفعه البحث عن الذات اللامحدودة إلاّ بُعداً، ومن هنا كان التكلم عن ذاته تعالى عبثاً لا جدوى وراءه، فنهىعليه‌السلام عن ذلك، وحذّر منه بقوله:(إن الناس لا يزال لهم المنطق، حتى يتكلموا في الله، فإذا سمعتم ذلك فقولوا: لا اله إلاّ الله الواحد الذي ليس كمثله شيء) (٢) .

وممّا ركّز عليه الإمام الباقرعليه‌السلام الردع من اتّباع المذاهب المنحرفة والأفكار الهدّامة هو بيان عاقبة أهل الشبهات والأهواء والبدع، واستهدف الإمامعليه‌السلام من التركيز على عاقبة المنحرفين فكرياً وعقائدياً إبعاد المسلمين عن التأثر بهم، وإزالة حالة الأنس والألفة بينهم وبين الأفكار والعقائد المنحرفة.

قالعليه‌السلام في تفسير قوله تعالى:( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) : هم النصارى والقسيسون والرهبان وأهل الشبهات والأهواء من أهل القبلة والحرورية وأهل البدع(٣) .

٢ ـ الحوار مع المذاهب والرموز المنحرفة

يعتبر الحوار إحدى الوسائل التي تقع في طريق إصلاح الناس، حيث تزعزع المناظرة الهادفة والحوار السليم الأفكار والمفاهيم المنحرفة.

ــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار: ٦٧ / ٢١١.

(٢) المصدر السابق: ٣ / ٢٦٤.

(٣) المصدر السابق: ٢ / ٢٩٨.

٩١

من هنا قام الإمامعليه‌السلام بمحاورة بعض رؤوس المخالفين، لتأثيرهم الكبير على أتباعهم لو صلحوا واستقاموا على الحقّ. وإليك بعض مناظراته:

مع علماء النصارى: حينما أخرج هشام بن عبد الملك الإمامعليه‌السلام من المدينة إلى الشام كانعليه‌السلام يجلس مع أهل الشام في مجالسهم، فبينا هو جالس وعنده جماعة من الناس يسألونه، اذ نظر إلى النصارى يدخلون في جبل هناك، فسأل عن حالهم، فأُخبر أنهم يأتون عالماً لهم في كل سنة في هذا اليوم يسألون عمّا يريدون وعمّا يكون في عامهم، وقد أدرك هذا العالم أصحاب الحوارييّن من أصحاب عيسىعليه‌السلام ، فقال الإمامعليه‌السلام : فهلمّ نذهب إليه؟ فذهبعليه‌السلام إلى مكانهم، فقال له النصراني: أسألك أو تسألني؟ قالعليه‌السلام : تسألني، فسأله عن مسائل عديدة حول الوقت، وحول أهل الجنّة، وحول عزرة وعزير، فأجابهعليه‌السلام عن كل مسألة.

فقال النصراني: يا معشر النصارى، ما رأيت أحداً قطّ أعلم من هذا الرجل لا تسألوني عن حرف وهذا بالشام ردّوني فردّوه إلى كهفه، ورجع النصارى مع الإمامعليه‌السلام .

وفي رواية: أنّه أسلم وأسلم معه أصحابه على يد الإمامعليه‌السلام (١) .

مع هشام بن عبد الملك: ناظره هشام بن عبد الملك في مسائل متنوعة تتعلق بمقامات أهل البيتعليهم‌السلام ، وميراثهم لعلم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وادعاء الإمام عليعليه‌السلام علم الغيب، فأجابه الإمامعليه‌السلام عن مسائله المتنوعة وناظره في إثبات مقامات أهل البيتعليهم‌السلام مستشهداً بالآيات القرآنية والأحاديث الشريفة،

ــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار: ٤٦ / ٣١٣ ـ ٣١٥.

٩٢

فلم يستطع هشام أن يردّ عليه، وناظره في مواضع أخرى، فقال له هشام: (أعطني عهد الله وميثاقه ألاّ ترفع هذا الحديث إلى أحد ما حييت)، قال الإمام الصادقعليه‌السلام :فأعطاه أبي من ذلك ما أرضاه (١) .

وقد ذكرنا تفصيل المناظرتين في بحث سابق فراجع(٢) .مع الحسن البصري: قال له الحسن البصري: جئت لأسألك عن أشياء من كتاب الله تعالى.

وبعد حوار قصير قال لهعليه‌السلام :بلغني عنك أمر فما أدري أكذاك أنت؟ أم يُكذب عليك؟ قال الحسن: ما هو ؟

قالعليه‌السلام :زعموا أنّك تقول: إنَّ الله خلق العباد ففوّض إليهم أمورهم .

فسكت الحسن... ثمّ وضّح له الإمامعليه‌السلام بطلان القول بالتفويض وحذّره قائلاً:وإيّاك أن تقول بالتفويض، فإنّ الله عَزَّ وجَلَّ لم يفوّض الأمر إلى خلقه، وهناً منه وضعفاً، ولا أجبرهم على معاصيه ظلماً (٣) .

ولهعليه‌السلام مناظرات مع محمد بن المنكدر ـ من مشاهير زهاد ذلك العصر ـ ومع نافع بن الأزرق أحد رؤساء الخوارج، ومع عبد الله بن معمر الليثي، ومع قتادة بن دعامة البصري(٤) واحتجاجات لا يتحمّل شرحها هذا المختصر.

ــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار: ٤٦ / ٣١٣ ـ ٣١٥.

(٢) راجع مبحث: ملامح وأبعاد هامة في عصر الإمام الباقرعليه‌السلام .

(٣) الاحتجاج: ٢/١٨٤.(٤) أعيان الشيعة: ١/٦٥٣ .

٩٣

٣ ـ إدانة فقهاء البلاط

جاء قتادة بن دعامة البصري إلى الإمامعليه‌السلام وقد هيّأ له أربعين مسألة ليمتحنه بها، فقال لهعليه‌السلام :أنت فقيه أهل البصرة؟ قال قتادة: نعم، فقالعليه‌السلام :(ويحك يا قتادة إن الله عَزَّ وجَلَّ خلق خلقاً، فجعلهم حججاً على خلقه، فهم أوتاد في أرضه، قوّام بأمره، نجباء في علمه اصطفاهم قبل خلقه) ، فسكت قتادة طويلاً، ثم قال: أصلحك الله، والله لقد جلست بين يدي الفقهاء، وقدّام ابن عباس، فما اضطرب قلبي قدّام أحد منهم ما اضطرب قدّامك(١) .

وأدان الإمام الباقرعليه‌السلام أبا حنيفة لقوله بالقياس، وعلّق الأستاذ محمد أبو زهرة على هذه الإدانة قائلاً: تتبيّن إمامة الباقر للعلماء، يحاسبهم على ما يبدو منهم، وكأنّه الرئيس يحاكم مرءوسيه ليحملهم على الجادة، وهم يقبلون طائعين تلك الرئاسة(٢) .

٤ ـ الدعوة إلى أخذ الفكر من مصادره النقيّة

لقد حذّر الإمامعليه‌السلام الناس من الوقوع في شراك الأفكار والآراء والعقائد المنحرفة، وحذّر من البدع وجعلها أحد مصاديق الشرك فقال:(أدنى الشرك أن يبتدع الرجل رأياً فيُحَبّ عليه ويبغَض) (٣) .

كما حذّر من الإفتاء بالرأي فقال:(من أفتى الناس بغير علم ولا هوى من الله لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، ولحقه وزر من عمل بفتياه) (٤) .

ــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار: ٤٦ / ٣٥٧.

(٢) تاريخ المذاهب الإسلامية: ٦٨٩.

(٣) المحاسن: ٢٠٧.

(٤) المصدر السابق: ٢٠٥.

٩٤

ومن هنا كان يدعو الناس إلى أخذ العلم والفكر من منابعه النقية وهم أهل البيت المعصومون من كل زيغ وانحراف. قالعليه‌السلام لسلمة بن كهيل وللحكم بن عتيبة:(شرّقا وغرِّبا فلا تجدان علماً صحيحاً إلاّ شيئاً خرج من عندنا) (١) .

وكان يحذّر من مجالسة أصحاب الخصومات ويقول:(لا تجالسوا أصحاب الخصومات، فإنهم يخوضون في آيات الله) (٢) .

كما كان يشجع على ذكر مقامات أهل البيتعليهم‌السلام وفضائلهم فإنّها من أسباب نشر الحق والفضيلة، فعن سعد الإسكاف، قال: قلت لأبي جعفرعليه‌السلام : إني أجلس فأقصّ، وأذكر حقكم وفضلكم. فقالعليه‌السلام :(وددت أن على كل ثلاثين ذراعاً قاصّاً مثلك) (٣) .

٥ ـ نشر علوم أهل البيتعليهم‌السلام

لقد فتح الإمامعليه‌السلام أبواب مدرسته العلمية لعامة أبناء الأمة الإسلامية، حتى وفد إليها طلاب العلم من مختلف البقاع الإسلامية، وأخذ عنه العلم عدد كبير من المسلمين بشتى اتّجاهاتهم وميولهم، منهم: عطاء بن أبي رباح، وعمرو بن دينار، والزهري، وربيعة الرأي، وابن جريج، والأوزاعي، وبسام الصيرفي(٤) ، وأبو حنيفة وغيرهم(٥) .

وفي ذلك قال عبد الله بن عطاء: ما رأيت العلماء عند أحد أصغر علماً

ــــــــــــــ

(١) الكافي: ١ / ٣٩٩.

(٢) كشف الغمّة: ٢ / ١٢٠.

(٣) رجال الكشي: ٢١٥.

(٤) سير أعلام النبلاء: ٤ / ٤٠١.

(٥) تاريخ المذاهب الإسلامية: ٣٦١.

٩٥

منهم عند أبي جعفر، لقد رأيت الحكم عنده كأنّه متعلم(١) .

وكانت أحاديثه مسندة عن آبائه عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما كان يرسل الحديث ولا يسنده. وحينما سئل عن ذلك، قال:إذا حدّثت بالحديث فلم أسنده، فسندي فيه أبي زين العابدين عن أبيه الحسين الشهيد عن أبيه علي بن أبي طالب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن جبرئيل عن الله عَزَّ وجَلَّ (٢) .

ثانياً: تأسيس المدرسة الفقهية النموذجية(٣)

لقد جهد الإمام الباقر وولده الصادقعليهما‌السلام على نشر الفقه الإسلامي وتبنّيا نشره بصورة إيجابية في وقت كان المجتمع الإسلامي غارقاً في الأحداث والاضطرابات السياسية، حيث أهملت الحكومات في تلك العصور الشؤون الدينية إهمالاً تاماً، حتى لم تعد الشعوب الإسلامية تفقه من أمور دينها القليل ولا الكثير، يقول الدكتور علي حسن: (وقد أدى تتبعنا للنصوص التاريخية إلى أمثلة كثيرة تدل على هذه الظاهرة ـ أي إهمال الشؤون الدينية ـ التي كانت تسود القرن الأول سواء لدى الحكام أو العلماء أو الشعب، ونعني بها عدم المعرفة بشؤون الدين، والتأرجح وعدم الجزم والقطع فيها حتى في العبادات، فمن ذلك ما روي أن ابن عباس خطب في آخر شهر رمضان على منبر البصرة فقال: اخرجوا صدقة صومكم فكان الناس لم يعلموا، فقال: من ها هنا من أهل المدينة؟ فقوموا إلى إخوانكم فعلموهم، فإنهم لا يعلمون فرض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٤) .

ــــــــــــــ

(١) مختصر تاريخ دمشق: ٢٣ / ٧٩.

(٢) إعلام الورى: ٢٩٤.

(٣) راجع حياة الإمام محمد الباقرعليه‌السلام ، باقر شريف القرشي ١/٢١٥ ـ ٢٢٦.

(٤) الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم: ٢ / ١٣١.

٩٦

فأهل البلاد الإسلامية لم يعرفوا شؤون دينهم معرفة كافية، وقد كان يوجد في بلاد الشام من لا يعرف عدد الصلوات المفروضة، حتى راحوا يسألون الصحابة عن ذلك(١) .

إن الدور المشرق الذي قام به الإمام الباقر والصادقعليهما‌السلام في نشر الفقه وبيان أحكام شريعة الله كان من أعظم الخدمات التي قدّماها للعالم الإسلامي.

وسعى إلى الأخذ من علومهما أبناء الصحابة والتابعون، ورؤساء المذاهب الإسلامية كأبي حنيفة ومالك وغيرهما، وتخرج على يد الإمام أبي جعفرعليه‌السلام جمهرة كبيرة من الفقهاء كزرارة بن أعين، ومحمد بن مسلم وأبان بن تغلب، وإليهم يرجع الفضل في تدوين أحاديث الإمامعليه‌السلام وقد أصبحوا من مراجع الفتيا بين المسلمين، وبذلك أعاد الإمام أبو جعفرعليه‌السلام للإسلام نضارته وحافظ على ثرواته الدينية من الضياع والضمور.

ومن الجدير بالذكر أن الشيعة هم أول من سبق إلى تدوين الفقه فقد قال مصطفى عبد الرازق: (ومن المعقول أن يكون النزوع إلى تدوين الفقه كان أسرع إلى الشيعة لأن اعتقادهم العصمة في أئمتهم أو ما يشبه العصمة كان حرياً إلى تدوين أقضيتهم وفتاواهم)(٢) .

وبذلك فقد ساهمت الشيعة في بناء الصرح الإسلامي، وحافظت على أهم ثرواته... ولابد لنا من وقفة قصيرة للنظر في فقه أهل البيتعليهم‌السلام الذي هو مستمد من الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ــــــــــــــ

(١) سنن النسائي: ١ / ٤٢.

(٢) تمهيد لتأريخ الفلسفة الإسلامية: ص٢٠٢.

٩٧

مميّزات مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام الفقهيّة

١ ـ الاتصال بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والشيء المهم في فقه أهل البيتعليهم‌السلام هو أنه يتصل اتصالاً مباشراً بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فطريقه إليه أئمة أهل البيتعليهم‌السلام الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وجعلهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سفن النجاة، وأمن العباد، وعدلاء الذكر الحكيم حسبما تواترت الأخبار بذلك.

قالعليه‌السلام :(لو أننا حدثنا برأينا ضللنا كما ضل من قبلنا، ولكنا حدثنا ببينة من ربنا بينها لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فبينها لنا) (١) .

٢ ـ المرونة: إن فقه أهل البيت يساير الحياة، ويواكب التطور، ولا يشذ عن الفطرة ويتمشى مع جميع متطلبات الحياة، فليس فيه ـ والحمد لله ـ حرج ولا ضيق، ولا ضرر، ولا إضرار، وإنما فيه الصالح العام، والتوازن في جميع مناحي تشريعاته، وقد نال إعجاب جميع رجال القانون، واعترفوا بأنه من أثرى ما قنن في عالم التشريع عمقاً وأصالة وإبداعاً.

٣ ـ فتح باب الاجتهاد: إنّ من أهم ما تميز به فقه أهل البيتعليهم‌السلام هو فتح باب الاجتهاد، فقد دلّ ذلك على حيوية فقه أهل البيت، وتفاعله مع الحياة واستمراره في العطاء لجميع شؤون الإنسان، وإنه لا يقف مكتوفاً أمام الأحداث المستجدة التي يبتلى بها الناس خصوصاً في هذا العصر الذي برزت فيه كثير من الأحداث واستحدثت فيه كثير من الموضوعات، وقد أدرك كبار علماء المسلمين من الأزهر مدى الحاجة الملحّة إلى فتح باب الاجتهاد، ومتابعة الشيعة الإمامية في هذه الناحية.

ــــــــــــــ

(١) أعلام الورى: ٢٧٠.

٩٨

قال السيد رشيد رضا: (ولا نعرف في ترك الاجتهاد منفعة ما، وأمّا مضارّه فكثيرة، وكلها ترجع إلى إهمال العقل، وقطع طريق العلم، والحرمان من استغلال الفكر، وقد أهمل المسلمون كل علم بترك الاجتهاد، فصاروا إلى ما نرى)(١) .

٤ ـ الرجوع إلى حكم العقل: انفرد فقهاء الإمامية عن بقية المذاهب الإسلامية فجعلوا العقل واحداً من المصادر الأربعة لاستنباط الأحكام الشرعية، وقد أضفوا عليه أسمى ألوان التقديس فاعتبروه رسول الله الباطني، وإنه مما يُعبَد به الرحمن، ويكتَسب به الجنان. ومن الطبيعي ان الرجوع إلى حكم العقل إنّما يجوز إذا لم يكن في المسألة نص خاص أو عام وإلا فهو حاكم عليه، وإن للعقل مسرحاً كبيراً في علم الأصول الذي يتوقف عليه الاجتهاد.

ثالثاً: الإصلاح السياسي

استثمر الإمامعليه‌السلام بعض ظروف الانفراج السياسي النسبي من أجل بناء وتوسعة القاعدة الشعبية، وتسليحها بالفكر السياسي السليم المنسجم مع رؤية أهل البيتعليهم‌السلام ، وتعبئة الطاقات لاتخاذ الموقف المناسب في الوقت المناسب، ولهذا لم تنطلق أي ثورة علوية في عهده، لعدم اكتمال شروطها من حيث العدة والعدد.

وكان الإمامعليه‌السلام يقدّم للأمة المفاهيم والأفكار السياسية الأساسية مع الحيطة والحذر; وكانت له مواقف سياسية صريحة من بعض الحكام لإعادتهم إلى جادة الصواب.

وقد تجلّى دوره الإصلاحي في الممارسات التالية:

١ ـ الدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحرّران الإنسان والمجتمع من ألوان الانحراف في الفكر والعاطفة والسلوك، ويحوّلان المفاهيم والقيم الإسلامية الثابتة إلى ممارسات سلوكية واضحة المعالم، تترجم فيها الآراء والنصوص إلى مشاعر وعواطف وأعمال وحركات وعلاقات متجسدة في الواقع لكي تكون الأمة والدولة بمستوى المسؤولية في الحياة، والمسؤولية هي حمل الأمانة الإلهية وخلافة الله تعالى في الأرض.

ــــــــــــــ

(١) الوحدة الإسلامية: ٩٩.

٩٩

ومن هنا جاءت تأكيدات الإمامعليه‌السلام على هذه الفريضة التي جعلها شاملة لجميع مرافق الحياة الإنسانية حيث قال:(إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصالحين، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض، وتأمن المذاهب، وتحلّ المكاسب، وتردّ المظالم وتعمّر الأرض، وينتصف من الأعداء ويستقيم الأمر، فأنكروا بقلوبكم، والفظوا بألسنتكم، وصكّوا بها جباههم، ولا تخافوا في الله لومة لائم...) (١) .

وحذّرعليه‌السلام من مغبّة التخليّ عن المسؤولية، ومداهنة المنحرفين حكّاماً كانوا أم من سائر أفراد الأمة فقال: (أوحى الله تعالى إلى شعيب النبيعليه‌السلام إنّي لمعذّب من قومك مائة ألف: أربعين ألفاً من شرارهم، وستين ألفاً من خيارهم، فقال: يا ربّ هؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار ؟

فأوحى الله عَزَّ وجَلَّ إليه: إنهم داهنوا أهل المعاصي، ولم يغضبوا لغضبي)(٢) .

وحثعليه‌السلام على هذه المسؤولية وبيّن آثار التخلي عنها فقال:(الأمر

ــــــــــــــ

(١) تهذيب الأحكام: ٦ / ١٨٠.

(٢) المصدر السابق: ٦ / ١٨١.

١٠٠

عهده كانت مدرسة باريس للّغات الشرقيّة - التي أشرنا إليها والتي قامت في أوجّ حماسة فرنسا الثوريّة، النموذج لمؤسّسة الاستشراق العلمي والعلماني، ومن جرّاء ذلك ظهرت كلمة مستشرق Orientoiliste في فرنسا عام ١٧٩٩م. وأُدرجت كلمة الاستشراق Orientoile في قاموس الأكاديميّة الفرنسيّة عام ١٨٣٨م، وأخذَت فكرة إيجاد فرع متخصّص من فروع المعرفة لدراسة الشرق تلقى المزيد من التأييد، ولم يكن هناك حتّى ذلك الوقت مختصّون بأعداد تكفي لتأسيس مجلاّت أو جمعيّات تهتم حصراً ببلدٍ واحد، أو بشعبٍ واحد أو منطقة واحدة في الشرق، وبدلاً من ذلك كان نطاق المجلاّت والجمعيّات يمتدّ ليشمل عدّة مجالات، وإنْ لم تحظَ جميعها بدرجةِ العمق نفسها في البحث(١) .

ويمكن أنْ نقول: إنّ الاستشراق الفرنسي بشكلٍ خاص قد نما وترعرع عندما جاءت مبادرته الميدانيّة، نتيجةً للأحداث المتعلّقة بالشرق الإسلامي، من حيث التغيّرات السياسيّة والنظرة الأوربيّة التي كانت تعتبر الشرق الإسلامي من المشاكل العظمى التي تواجه السياسة الأوربيّة بالخصوص في القرن التاسع عشر.

مناطق نفوذ المدرسة الاستشراقيّة الفرنسيّة

إنّ الاقتران الذي أكّدناه في حركة الاستشراق بالتبشير والاستعمار، يحتّم علينا جدلاً أنْ نجعل من مناطق النفوذ السياسي والثقافي لفرنسا مجالاً أساسيّاً للاستشراق الفرنسي، على نحو التمهيد أو الترسيخ لتلك الحركة السياسيّة والثقافيّة،

____________________

(١) رودنسون، مكسيم - تراث الإسلام ق١: ٧٨.

١٠١

سواء أكانت على شكل عمل تبشيري بكافّة أبعاده الثقافيّة والدينيّة، أو نفوذ اقتصادي أو استعمار عسكري مباشر. ومن خلال استعراض الجغرافية السياسيّة لمناطق النفوذ الفرنسي نجدها تحتلّ رقعةً واسعةً ومهمّة من مناطق الوطن الإسلامي ابتداءً من سواحل شمال إفريقيا (الجزائر، المغرب، تونس، مصر) إلى وسطها الذي يسمّى بالسودان الفرنسي، بما فيها جيبوتي والسنغال وموريتانيا وتشاد ومالي وغينيا، والنيجر وكانم البرتو والغور والحوصة وسنغاي، ومن غرب آسيا المتمثّل ببلاد الشام (سوريا ولبنان إلى شبه القارة الهنديّة).

وقد بدأ الاستشراق الفرنسي عمله الميداني المباشر عندما اكتُشف رأس الرجاء الصالح عام ١٤٨٨م، فتدفّق المستشرقون بعناوينهم المتعدّدة، علماء ومنقّبين عن الآثار ومبشّرين للنصرانيّة. وقد سبق هذا الانتشار افتتاح مراكز للتبشير في إفريقيا السوداء، كان أوّلها في الكونغو عام ١٤٩١م، فعملت على التعرّف على هذه القارّة، والتمهيد بالتعاون مع عصابات تجّار الرقيق لدخول فرنسا بوصفها اكبر قوّة غازية، ثقافيّاً واقتصاديّاً وعسكريّاً لهذه القارّة(١) .

وممّن انتحل صفة الاستكشاف والبحث والتنقيب الكاردينال(لا فيجري) (٢) الذي عمل بشكلٍ فاضحٍ وصريح لتكريس الوجود الاستعماري الفرنسي من خلال عمله، وقد أعلن عن ذلك في معرض حديثه عن إفريقيا، وأبدى أسفه الشديد من عدم تمكّنه من نشر النصرانيّة بين المسلمين وخصوصاً الجزائرييّن بقوله: إنّه أراد أنْ يحبّب فرنسا إلى الناس باسم المسيح(٣) .

____________________

(١) محمود، سامي - انتشار الإسلام والدعوة إليه: ٤٣ - ٤٤.

(٢) لا فيجري (١٨٢٥ - ١٨٩٢م) كردينال فرنسي اهتمّ بشؤون الشرق، رئيس أساقفة الجزائر. أُسس جمعيّة الآباء البيض عام ١٨٦٨م. بدأ حياته مبشّراً في شمالي إفريقيا والسودان، كلّفه بذلك البابا بيوس التاسع (١٨٤٦ - ١٨٧٨م) نفسه.

(٣) فروخ، عمر. والخالدي، مصطفى - التبشير والاستعمار: ٢٤٧.

١٠٢

وقد تبلورت وتحدّدت مناطق النفوذ الفرنسي خصوصاً في القارّة الإفريقيّة، وقد بدأت عمليّة الإخضاع العسكري المباشر للنفوذ الفرنسي بالجزائر عام ١٨٣٠م، ثمّ تونس عام ١٨٨١م، ودخلوا السنغال عام ١٨٥١م، إمّا بنين (داهومي سابقاً) فقد احتلّتها فرنسا عام ١٨٩٤م، ومنذ عام ١٨٥٤م خاض الاستكبار الفرنسي من خلال السنغال عدّة محاولات لاحتلال موريتانيا حتّى تمّ له احتلالها في عام ١٩٠٣م، أمّا احتلال بلاد الشام (سوريا ولبنان) فقد تمّ في مطلع هذا القرن(١) .

كما امتدّ النفوذ الفرنسي وثبّت أقدامه في مسقط وزنجبار عام ١٨٨٤ م عندما عقدت فرنسا معاهدة مع سعيد بن سلطان، حاكم هاتين المنطقتين، كما حصلت في عام ١٨٩٩م على تنازل من سلطان مسقط، تحصل بموجبه على مستودع للوقود بطريقة الإيجار في ميناء الجصة(٢) ، وقد نافس الفرنسيّون الانجليز على شبه القارّة الهنديّة واشتبكوا معهم في صراع اقتصادي سياسي عنيف حتّى اضطروا لتأسيس شركة الهند الشرقيّة الفرنسيّة في (بندر عباس) في نفس العام في مقابل شركة الهند الشرقيّة البريطانيّة(٣) .

على ضوء مقرّرات مؤتمر برلين الذي انعقد في عام ١٨٧٨ م والتي وضعت أُسُس هذا النفوذ وحاولت أنْ تخفّف من أسباب الصراع بين الدول الأُوربيّة، وخصوصاً بين فرنسا وانجلترا حول القارة الإفريقيّة(٤) .

وبعد وضوح حدود النفوذ الفرنسي في إفريقيا بدأت حركة واسعة لإخضاع شعوبها إلى الثقافة الفرنسيّة، وبشتّى الصيّغ والأساليب. ففي عام ١٨٩٨م كتب الباباليّون الثالث عشر إلى الكاردينال(لانجينو) ما يلي: (لقد علمنا برضا

____________________

(١) انتشار الإسلام والدعوة إليه: ٤٠ - ٤٩ والخطابي وجمهوريّة الريف.

(٢) السياسة الفرنسيّة في الشرق الأوسط/ المركز الإسلامي للأبحاث السياسيّة: ٣٦١.

(٣) الخطيب، مصطفى عقيل إسحاق - التنافس الدولي في الخليج، السياسة الفرنسيّة: ٣٨٤.

(٤) للمؤلّف - السياسة الفرنسيّة في الشرق الأوسط: ٨٢.

١٠٣

كامل... بأنْ تفكير شخصيّات بارزة يتّجه نحو تكوين لجنة وطنيّة في فرنسا للحفاظ على الحماية الفرنسيّة في الأراضي المقدّسة والدفاع عنها... فعسى أنْ تضمن هذه الجهود المتّحدة وجوداً مستقرّاً للكنيسة الكاثوليكيّة في الشرق؛ لكي تعمل بنجاح على نشر الإيمان الحقيقي ولعودة الرعايا الضالّين إلى حضيرة المراعي الكنسي الأوحد والأعلى)(١) .

صيغ وأساليب المدرسة الاستشراقيّة الفرنسيّة وتشكيلاتها

إنّ من أبرز وأهمّ الأساليب والتشكيلات التي اعتمدتها هذه المدرسة في عملها الاستشراقي، والتي أثّرت في النتائج أثراً بليغاً حقّق أغلب الأهداف والمرامي المتوخّاة منه هي:

أ - تسخير المبشّرين والأقليّات النصرانيّة واليهوديّة المتواجدة في البلدان الإسلاميّة؛ لتجميع المعلومات الأوليّة والدراسات الميدانيّة عن الإسلام والمسلمين في بلدانهم؛ لتكون مادّةً أوليّةً بين يدَي المستشرقين لينطلقوا منها ويتابعوا تفصيلاتها، ويُخضعوها للبحث والتحليل ضمن الخطط الموضوعة لذلك من قِبلهم، وقد تمّ ربط النصارى من مواطني البلدان بالتشكيلات التي اعتمدتها فرنسا عن طريق الحصول على امتيازات خاصّة، بحجّة (حماية المسيحيّين في الإمبراطوريّة العثمانيّة).

ويشير إلى ذلك G. Bouchad أحد مسؤولي البعثات الفرنسيّة حيثُ قال: (... في هذا القرن [القرن التاسع عشر] دخلت أوربّا في عصرٍ جديد من

____________________

(١) مجلّة المنتقى - العدد الأوّل: ٦٧ ابريل ١٩٨٣م.

١٠٤

التوسّع العسكري والسياسي، بدأ مع الثورة الصناعيّة التي قلبت الأوضاع الاجتماعيّة والفكريَّة داخل أوربّا، وأدّت إلى ولادة الرأسماليّة، وخروج أوربّا من حدودها لمواجهة الكتلة الإسلاميّة الضخمة، المتمثّلة في (الإمبراطوريّة العثمانيّة) المترامية الأطراف، وكانت الامتيازات التي حصلت عليها دول أوربّا (لحماية المسيحيّين) داخل (الإمبراطوريّة) حجّةً وجسراً، عبرت عليه البعثات المختلفة إلى الطوائف المسيحيّة والأقليّات الدينيّة، تحميها شرعيّة القنصليّات والسفارات، أو القوّة العسكريّة المباشرة، فأسّست مدارسها الخاصّة بها، وأرست أُسس نظام تعليمي يستلهم الثقافة الأوربيّة ويبشّر بها)(١) .

ولم يكتفوا بذلك بل أخذوا بإعداد وتربية مبشّرين محلّيّين، من خلال مدارس(اكليركيّة) يتخرّج منها ما يسمّى بالاكليروس المحلّي، خصوصاً وأنّ عامل اللغة يعدّ أساساً في أداء الدور الأمثل لهؤلاء المبشّرين المحلّيّين، وفي هذا الصدد يركّز مؤرّخو تلك الفترة: إنّ اليسوعيّين لجأوا بعد سنوات من العمل المتواصل والدؤوب إلى إعداد (الدعاة المحلّيّين)، أملاً في تثبيت مستقبل العمل التبشيري في المشرق، وسعياً لتجاوز عائق اللغة الذي كان يُقلق مرسليهم ويُعرقل صلتهم اليوميّة بالذين يتوجّهون إليهم؛ لأن المبشّرين لا يعرفون العربيّة لغة السكّان في هذه المناطق.

هذه الحاجة الماسّة والمتناهية لهؤلاء (الدعاة) يُعبّر عنها أحدُ الآباء المسؤولين في دمشق عام ١٨٦٠م بقوله:

لا(اكليروس) محلّي بدون مدرسة(الكليركيّة) ، ولا مستقبل للإرساليّات في المشرق في غياب(الأكليروس) المحلّي. إنّ إرسال البعثات مفيد ولا شك، خاصّة وسط هذه الأُمم الجاهلة والكسولة، لكنّ المؤسّسة الأوربيّة ليست مؤسّسة صلبة

____________________

(١) الدكتور عتريسي، طلال - البعثات اليسوعيّة: ٢٤.

١٠٥

بشكلٍ كاف؛ لأن جذورها لا توجد في البلد نفسه... والسبب الذي يدعونا لتكوين(اكليروس) محلّي هو عينه الذي يدفعنا لإعداد أساتذة محلّيّين أيضاً.. إنّ المعلّم والمعلّمة العربيّين يستطيعان الذهاب، وكلٌّ بمفرده، إلى أيّة قرية، فهما متكيّفان مع اللغة والمناخ والعادات والغذاء مع بؤس البلد، كما يكفي الواحد منهما مئة فرنك في السنة(١) .

لذا وتثبيتاً لمستقبل هذه الإرساليّات، ضمّ اليسوعيّون مساعدين لهم من أهل البلاد، بعد اختيارهم بدقّة وعناية؛ لأن بإمكانهم ممارسة نفوذ وتأثير يعجز عنه الأجانب غالباً.

(لقد كان ذلك تطبيقاً للقاعدة الحكيمة التي طالما نادى بها البابا ليون الثالث عشر، وهي إغواء الشرق بواسطة الشرقيّين أنفسهم)(٢) .

واتّسعت فكرة استثمار النصارى والأقليّات المذهبيّة الأُخرى من أبناء الشرق لتشمل اليهود، خصوصاً في بعض المناطق التي كانت لهم فيها طموحات دينيّة وتاريخيّة كفلسطين، حيثُ ذهب بعضهم إلى: (إنّ المبشّرين كانوا مقتنعين جداً، بأنّ جمع اليهود في فلسطين يُسهّل لهم مهمّتهم في الوصول إلى المسلمين، من أجل ذلك أرادوا أنْ يفتحوا أبواب فلسطين على مصاريعها لهجرة اليهود)(٣) .

(فليس من المستغرب إذن أنْ تجد سبعاً وعشرين جمعيّة تبشيريّة مختلفة الجنسيّات كانت تعمل بلا مَلل في فلسطين)(٤) .

ب - اعتماد أُسلوب ضخ اكبر عدد من المستشرقين الفرنسيّين من ذوي

____________________

(١) شقالييه، مجمع جبل عامل: ٢٦٧.

(٢) Bullet In Doeuvres Des Ecoles Dorient ١٨٦٢: ٢١٠ – ٢١٢.

(٤) Richter ٢٣٨.

١٠٦

الاختصاصات التبشيريّة إلى بلدان الشرق الإسلامي.

لقد أعدّت فرنسا جيشاً من المبشّرين والمستشرقين الذي ينتشرون في إفريقيا ولبنان، ويذكر مالك بن نبي: (أنّ المستشرق الفرنسي(ماسنيون) قد تفرّغ آخر حياته للتبشير، ومدّ وزارة الخارجيّة الفرنسيّة بالمعلومات والتوصيّات حول البلاد الإسلاميّة وتهيئة العملاء والكتاب)(١) .

ويكفي أنْ نشير إلى الرقم الآتي ليعبّر عن مدى العمق الرابط الوثيق، بين الصليبيّة والرهبانيّة الفرنسيّة وبين الاستشراق والاستكبار، فقبل الحرب العالميّة الأولى بلغ عدد المبشّرين المرتبطين بالمقام البابوي ٧٣٠٠٠ مبشّراً، كان ثلاثة أرباع هؤلاء من التابعيّة الفرنسيّة الذين توجّهوا إلى سوريا في مجال التعليم.

أمّا (مؤسّسة الدّعاية)، وهي منظمة صليبيّة تبشيريّة فرنسيّة، فقد أصدرت عام ١٨٨٨م هذا التعميم: (إنّنا نعلم بأنّ الحماية الفرنسيّة قائمة في المشرق مُنذ عدّة قرون، ولقد تأكّدت هذه الحماية من خلال المعاهدات الموقّعة بين الحكومات، لذلك يجب أنْ لا يتمّ أيّ تغيير على الإطلاق بخصوص هذه النقطة.

يجب الحفاظ دينيّاً على هذه الحماية أينما كانت سارية، كما يجب أنْ تعلم البعثات التبشيريّة بأنْ تلجأ عند الحاجة - لأيّ عَون - إلى قناصل وممثّلي الأمّة الفرنسيّة)(٢) .

ج - توجيه المبشّرين الفرنسيّين للتخصّص في الاستشراق، ورسم مناهجه بما يخدم الأهداف الثقافيّة والسياسيّة للاستكبار الفرنسي.

فقد تلبّس المبشّرون بجميع المظاهر، حتّى في ثوب المستكشفين الذين ظهروا أمام العالم، علماءً أعلاماً، بل إنّ نابليون حوّر وطوّر من أساليب الاحتواء

____________________

(١) د. الخالدي، مصطفى، د. فروخ، عمر - التبشير والاستعمار: ٢٢١.

(٢) مجلّة المنتقى - ع١: ٦٨ ابريل ١٩٨٣م.

١٠٧

الاستشراقي لمصر قبل وبعد احتلالها باستخدام أدوات المعرفة والقوّة الغربيّتين، ومنذ ذلك التاريخ تغيّرت لغة الاستشراق ذاتها تغيّراً جذريّاً، فقد ارتقت واقعيّتها الوصفيّة وغدت لا مجرّد أُسلوب للتمثيل، بل لغة، بل بالأحرى وسيلة للخلق(١) .

لقد أصبح المستشرقون، خلال القرنَين التاسع عشر والعشرين، جماعة أكثر جدّية؛ لأنّ أبعاد الجغرافيا التخليليّة والواقعيّة كانت بهذا الوقت قد تقلّصت، إذ إنّ العلاقة الشرقيّة الأوربيّة كانت قد تحدّدت بتوسّع أوربّي لا يُصدّ، بحثاً عن الأسواق والمصادر الطبيعيّة والمستعمرات.

وأخيراً لأنّ الاستشراق كان قد أنجز تقمُّصَه وتحوّله من إنشاء بحثيّ إلى مؤسّسة إمبرياليّة(٢) .

ولقد أصبحت باريس فترة تنوف على النصف الأوّل من القرن التاسع عشر عاصمة للاستشراق (وعاصمة القرن التاسع عشر نفسه، كما يرىفالتر بنجمن )(٣) .

وتكفي للإحاطة بهذه الحقيقة المراجعة لكتاب جُول مول (سبعة وعشرون عاماً من تاريخ الدراسات الشرقيّة)(٤) .

د - خلِق أرضيّة الارتباط الروحي والمعنوي بفرنسا، والعمل على تشويه الثقافة الإسلاميّة، وإثارة الشبهات حول الإسلام والحركات الإسلاميّة، باعتبارها عقَبة أساسيّة أمام ترسيخ اتّجاهات الفكر الاستكباري. وهذا ما يؤكّده المتخصّصون في دراسة الاستشراق، فعند المقارنة والتمييز بين المدرسة الاستشراقيّة الفرنسيّة والمدرسة الاستشراقيّة البريطانيّة مثلاً يقولون: (... في

____________________

(١) سعيد، ادوارد - الاستشراق: ٥١، ١١٢.

(٢) سعيد، ادوارد - الاستشراق: ١٢٠.

(٣) سعيد، ادوارد - الاستشراق: ٨٢.

(٤) وهو سجل في مجلّدين لكلّ ما له قيمة من أحداث في الاستشراق بين ١٨٤٠م - ١٨٦٧م، وقد كان مول هذا أميناً للجمعيّة الآسيويّة في باريس.

١٠٨

عرف بريس - موريس بريس مؤلّف كتاب (اكتناه بلدان شرق المتوسّط)، وهو سجل لرحلة عبر الشرق الأدنى عام ١٩١٤م - إنّ الحضور الفرنسي يُرى بأفضل صورة في المدارس الفرنسيّة... وإذا كانت فرنسا لا تمتلك مستعمرات في الشرق فعليّاً، فإنّها ليست دون ممتلكات بصورة مطلقة... ثمّة في الشرق شعور حول فرنسا هو من الدينيّة والقوّة بحيث إنّه قادر على أنْ يتمثّل، ويُصالح بين تطلّعاتنا الأكثر اختلافاً وتنوعاً.

ففي الشرق نمثّل نحن الروحانيّة، والعدالة، وفُصْلَةَ المثالي... نحن نمتلك الأرواح الشرقيّة... كيف نستطيع أنْ نشكّل لأنفسنا نخبة فكريّة نقدر على العمل معها، تتألّف من شرقيّين لنْ يكونوا قد اقتلعوا من جذورهم، شرقيّين يستمرّون في الارتقاء تبعاً بيننا وبين جماهير السكّان الأصليّين؟ كيف سنخلق علاقات بهدف تمهيد الطريق لاتّفاقيّات ومعاهدات، ستكون هي الشكل المرغوب فيه لمستقبلنا السياسي (في الشرق)؟ هذه الأشياء جميعاً في النهاية ذات مدار واحد، هو تنمية ذوق استمراء لدى هذه الشعوب الغربيّة للبقاء على اتّصال بذكائنا، رغم أنّ هذا الذوق قد ينبع في الواقع من حسّهم الخاص بمصيرهم القومي)(١) .

ويؤكّد هذه الميزة أيضاً منهج السياسة الفرنسيّة في التعامل مع الشرق التي تتمثّل بمقولة: (إذا كان لفرنسا أنْ تستمرّ في منع (عودة الإسلام)، فقد كان من الخير لها أنْ تحتلَّ الشرق، وكانت هذه منظومة طرَحها كريساني وثنّى عليها السيناتور بول دومر. وقد كُرِّرت هذه الآراء في مناسباتٍ كثيرة، وبالفعل فقد نجحت فرنسا بمفردها في شمال افريقيا بعد الحرب العالميّة الأُولى)(٢) .

____________________

(١) سعيد، إدوارد - الاستشراق: ٢٥١.

(٢) سعيد، إدوارد - الاستشراق: ٢٣٤.

١٠٩

ويحذّر الكاردينال(لافيجيري) من خطر قوّة الإسلام وتهديدها للتطلّعات الفرنسيّة في الشرق فيقول: (وبينما كان الإسلام على وشك أنْ ينهار في أوربّا مع عرض السلاطين (من آل عثمان)، كان لا يزال ناشطاً في تقدّمه وفتوحه على أبواب مملكتنا الإفريقيّة)(١) .

ولا يجد هؤلاء مناصاً من الإمعان في تشويه الإسلام تحقيقاً للهدف الأساسي، في إضعاف قوّته وردم سدوده أمام غزوهم الثقافي واستعمارهم السياسي والعسكري، حتّى وصل بهم الأمر إلى أنْ يقول أحدهم: (إنّ الإسلام مقلّد، وإنّ أحسن ما فيه مأخوذ من النصرانيّة، وسائر ما فيه أُخذ من الوثنيّة كما هو، أو مع شيء من التبديل)(٢) ، ويبلغ التدجيل ذروته(بجون ثاكلي) أنْ يقول عن المسلمين: (يجب أنْ نستخدم كتابهم [أيّ القرآن الكريم]، وهو أقصى سلاح في الإسلام، ضدّ الإسلام نفسه لنقضي عليه تماماً.

يجب أنْ نُري هؤلاء الناس أنّ الصحيح في القرآن ليس جديداً، وأنّ الجديد فيه ليس صحيحاً)(٣) .

وفي معرض إثارتهم للشبهات حول الحركات الإسلاميّة كتب(يوليوس رشتر) عن(ثورة المهدي على الانجليز) في السودان قائلاً في وصفها: (... هذا التعصّب الإسلامي الضيّق الأُفق بكلّ ما فيه من بُغض للثقافة)(٤) .

هـ - الدعوة إلى تطوير الإسلام كأُسلوب للدس فيه وتشويه معالمه. فمن انجازات المستشرقين الكبيرة - وفي مقدّمتهم المستشرقون الفرنسيّون - إنّهم أثاروا في قلوب قادة العالم الإسلامي اليوم وزعمائه - ممّن تثقّفوا في مراكز الغرب

____________________

(١) pottier ١١٣.

(٢) Islam And Missions ٤٣.

(٣) Islam And Missions ٢١٧ f

(٤) Julius Richter ٣٦٦.

١١٠

الثقافيّة الكبرى أو درسوا الإسلام بلغات الغرب - شُبهات حول الإسلام والمصادر الإسلاميّة، وأحدثوا في نفوسهم بأساً كبيراً في الحثّ على نعرة (إصلاح الديانة) و(إصلاح القانون الإسلامي)(١) .

ومن أبرز هؤلاء المستشرقين الذين بذلوا عناية خاصّة بهذه الدعوة هو المستشرق الفرنسي(ماسينيون) ، فقد كان له حضور رئيسي في العلاقات الإسلاميّة الفرنسيّة، في السياسة كما في الثقافة، وكان بوضوح رجلاً ذا شبوب انفعالي.

آمن بأنّ عالم الإسلام يُمكن اختراقه لا عن طريق البحث، حصريّاً، بل عن طريق تكريس النفس لجميع أوجه نشاطاته، التي لم يكن أقلّها عالم المسيحيّة الشرقيّة المنضوية ضمن الإسلام، والتي تلقّت إحدى جماعاتها الفرعيّة، الجمعيّة الخيريّة البدليّة، تشجيعاً حارّاً من قِبل ماسنيون(٢) .

ويؤكّد هذه الدعوة، التي أخذت اتّجاهاً عاماً في أغلب الدراسات الاستشراقيّة، التركيز والاهتمام الشديد الذي أولاه المستشرقون الفرنسيّون بالدراسات الإسلاميّة، وهذا نابع من روحهم الصليبيّة وغرضهم الرئيسي، وهو تحديد نقاط ضعف المسلمين ومحاولاتهم فهم الإسلام؛ لكي ينفذوا إلى المجتمع الإسلامي عن طريق ذلك، ولهذا تجد أنّ(كريساني) ومن بعده السيناتور(پول دومر) قد طرحا منظومة مفادها أنّ من الخير لفرنسا إذ كانت مستمرّة في منع عودة الإسلام أنْ تحتلَّ الشرق.

وقد كرّر هذان المستشرقان هذه الآراء في مناسبات كثيرة، وبالفعل فقد نجحت فرنسا بمفردها في شمال إفريقيا وسوريا بعد الحرب العالميّة الأولى(٣) .

____________________

(١) الصراع بين الفكرة الإسلاميّة والفكرة الغربيّة: ١٧٨.

(٢) سعيد، إدوارد - الاستشراق: ٢٧٠.

(٣) سعيد، إدوارد - الاستشراق: ٢٣٤.

١١١

و - توقيت حركة المستشرقين الفرنسيّين وتغلغلهم في البلاد الإسلاميّة، بما يمهّد لمقدّمات الغزو الفرنسي لهذه البلدان، وتحكيم السياسة الفرنسيّة منها، ومن الأرقام الكاشفة عن هذه الحقيقة أنّ عدداً كبيراً مِن مترجمي نابليون كانوا تلاميذ (سلفستر دوساسي)، الذي كان - بِدءاً من حزيران عام ١٧٩٦م - المدرّس الأوّل والأوحد للعربيّة في المدرسة الأهليّة للّغات الشرقيّة.

وأصبح ساسي فيما بعد تقريباً معلّماً لكلّ مستشرق بارز في أوربّا، حيث سيطر تلاميذه على هذا الحقل ما يُقارب ثلاثة أرباع القرن، وكان كثيرون منهم نافعين سياسيّاً، بالطُرق التي كان بها عدد آخر نافعاً لنابليون في مصر(١) .

بل إنّ دور المستشرقين أخذ مدىً أكبر من ذلك عندما أصبح التنافس الاستكباري يدفع بالمستكبرين، إلى إدخال دول الشرق بمنظورهم الاستعماري في مجال الاستشراق، فقد (كان قدرٌ كبير من الحمى التوسّعيّة في فرنسا خلال الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، وليد رغبةٍ صريحة للتعويض عن النصر البروسي في ١٨٧٠م - ١٨٧١م، وإلى حدٍ لا يقلّ أهميّة وليد رغبةٍ لمضاهاة الانجازات الامبرياليّة البريطانيّة.

ولقد كانت الرغبة الأخيرة من القوّة، كما كانت نابعة من تراثٍ طويل من المنافسة الانكلو - فرنسيّة في الشرق، بحيث إنّ فرنسا بدت حرفيّاً مشبوحةً ببريطانيّا، حريصة في كلّ ما يتعلّق بالشرق على اللّحاق بالبريطانيّين ومحاكاتهم.

وحين صاغت الجمعيّة للهند الصينيّة في أواخر عام ١٨٧٠م أهدافها، وجدت مهمّاً أنْ (تدخل الهند الصينيّة في مجال الاستشراق) لماذا؟ من أجل أنْ تُحيل صين كوشين إلى (هندٍ فرنسيّة)!

وقد عزا العسكريّون إلى عدم وجود مُمتلكات استعماريّة كبيرة لفرنسا،

____________________

(١) سعيد، إدوارد - الاستشراق: ١٠٩.

١١٢

ذلك المزيجَ من الضعف العسكري والتجاري إثناء الحرب ضدّ بروسيا، كي لا تقول شيئاً عن الشعور العريق والصريح بالنقص، استعماريّاً، بالمقارنة مع بريطانيا.

وقد طرح جغرافي بارز هو (لا رونسيير لو نوري) منظومةً تقول: إنّ قوّة توسّع العروق الأوربيّة وأسبابه وعناصره وتأثيراته على المصائر البشريّة، ستشكّل مادّة دراسة جميلة للمؤرّخين في المستقبل)(١) .

ولهذا تجد أنّ (أكثر الإرساليّات مساهمةً في تحقيق انتداب فرنسا على سوريا ولبنان هي الإرساليّات الفرنسيّة)، (لأنّ من بين الاثني عشر ألفاً من طلاّبهم، كما يقول الأب(لوروا) : سبعةٌ كانوا وزراء أو سكرتيري دولة في مصر.. وأنّ مدراء الخدمات الرسميّة في لبنان وسوريا، وفي دولة العلويّين آنذاك كانوا جميعاً من طلاّب العازاريّين)(٢) .

كما (لم تحمل البعثات الفرنسيّة والتبشيريّة التي توافدت إلى سوريا ولبنان مشاريعَ مستقلّة عن السياسة الفرنسيّة فيها، إنّما اقتصر أمر التمايز والاختلاف على المرحلة الأولى من عمل اليسوعيّين، التي احتلّت موقع الصدارة بين البعثات جميعاً)(٣) .

والطريف المثير ذكره هنا أنّه: (في الحرب العالميّة الأولى ترك المبشّرون عملهم التبشيري، وجعلوا يطوفون في المناطق ويجمعون المتطوّعين لجيوش دولهم)(٤) .

ز - استعانة المستشرقين الفرنسيّين، ضمن برامج المؤسّسات السياسيّة الفرنسيّة، بالأقليّات النصرانيّة واليهوديّة وأمثالها القاطنة في البلدان الإسلاميّة، كمصدر للمعلومات الميدانيّة والرؤى المباشرة للواقع، وكسندٍ سياسي واقتصادي

____________________

(١) Agnes Murphy, The Ideology of French Imperialism ١٨١٧ – ١٨٨١ (Washington: Catholic University of America Press, ١٩٤٨) pp. ٤٦ , ٥٤ , ٣٦ , ٤٥.

(٢) Revue Dhistorie Des Missions. P ٥٢٢.

(٣) الدكتور عتريسي، طلال - البعثات اليسوعيّة: ١٦١.

(٤) الدكتور خالدي، مصطفى والدكتور فروخ، عمر - التبشير والاستعمار في البلاد العربيّة: ٢٤٤.

١١٣

بل وعسكري للاستعمار الفرنسي، ويميط اللثام عن هذا الأمر ما أشار إليه كتاب السياسة الدوليّة في الشرق العربي، حيثُ جاء فيه: (كانت بلاد الشام محطّة نموذجيّة لنشاط البعثات، وأطماع الدول الأوربيّة وتنافسها)(١) ولانتشار المدارس التي رافقت عمل المبشّرين، بحيث تحوّلت الخصوصيّات الاجتماعيّة والطائفيّة إلى صراعات وولاءات ثقافيّة وسياسيّة، تحتضنها الإرساليّات ويدعمها القناصل والتجّار.

وتحوّل الهدف الأساسي لتعليم المرسلين، بعد أنْ تداخل مع السياسة والتجارة، إلى إعداد (لعقول) تتلاءم مع الأوضاع الجديدة، و(نخب) ستتربّع على رأس كيانات التجزئة التي فُرِضت قسراً.

وكان لجبل لبنان، قبل أنْ تلحق به أقضية ومناطق في سوريا، ويتحوّل إلى (دولة لبنان الكبيرة) عام ١٩٢٠م، وبعد ذلك أيضاً؛ حصّة وفيرة من نشاط البعثات وأهدافها، لا بل نقطة جذب قويّة لها بسببِ كاثوليكيّتها من جهة، والحضور الفرنسي السياسي والعسكري والاقتصادي من جهةٍ أُخرى، وهي عوامل أدّت إلى إلحاق سكّان الجبل المسيحيّين بفرنسا على جميع المستويات(٢) .

وفي أجواء هذه التحوّلات الاقتصاديّة السياسيّة، والتدخل في شؤون الطوائف المحليّة، انتشرت بعثات التبشير والتعليم اليسوعيّة؛ لتجعل لتلك التحوّلات ولذلك التدخّل أُسُساً فكريّة (وجذوراً تاريخيّة)، (ففتحت نفوس الأهالي على الأفكار الفرنسيّة، وعلى العواطف الفرنسيّة، وأصبحوا فرنسيّين نوعاً ما... هذه السياسة تؤدّي إلى فتح بلدٍ بواسطة اللغة)(٣) .

____________________

(١) راجع إسماعيل عادل - السياسة الدوليّة في الشرق العربي ٤: ١١٣ - ١١٦.

(٢) الدكتور عتريسي - البعثات اليسوعيّة: ٢٧.

(٣) Paul Huvelin – Conger,s francais surga Syrie – Fascicule ١١١ Champe De Commeree Marseille ١٩١٩ – p. ٧. ٨.

١١٤

وهكذا حتّى أصبح الموارنة، مثلاً، في منتصف القرن التاسع عشر مركزاً لتلقى التأثيرات الثقافيّة والاقتصاديّة والسياسيّة الفرنسيّة. خاصّةً وأنّ فرنسا أصبحت صاحبة (الحق) في (حماية مسيحيّي الشرق)، فتداخل آنذاك هذا الموقع المتقدّم لفرنسا، قياساً إلى الدول الأوربيّة الأخرى، مع علاقاتها التاريخيّة مع الموارنة التي يُعرب كلّ طرفٍ عن شدّة تمسّكه بها وفقاً للظروف السياسيّة والدوليّة(١) .

وتختلف الروايات التاريخيّة في تحديد هذه العلاقة، ما بين الدعم العسركي المتبادل، أو الحماية المعنويّة، فيقول بوديكور مثلاً: (عندما انطلق ملكَنا(سان لويس) في حربه الصليبيّة، توقّف في قبرص حيثُ لاقاهُ دعم ٣٥ ألف ماروني خاض معهم معركة مصر..)(٢) ، (كما أرسل إليهم بونابرت مبعوثه قائلاً لهم: (أعترف أنّ الموارنة فرنسيّين مُنذ الأزل)(٣) .

ووجّه ملك فرنسا إلى أمير الموارنة الرسالة التالية: (.. نحن مقتنعين بأنّ هذه الأمّة التي تنتسب إلى القدّيس مارون هي جزء من الأُمّة الفرنسيّة)(٤) . كما كتب وزير البحريّة الفرنسيّة عام ١٧٥٠م إلى القناصل الفرنسيّين في الدولة العثمانيّة: (إنّ الرهبان الموارنة الذين يؤلّفون رهبنة(مارانطونيوس) في جبل لبنان، قد شملهم الملك بحمايته الخاصّة في كلّ وقت، وقد توسّطوا إلى جلالته أنْ يُجدّد تلك الحماية ويثبّتها لهم، فتنازل جلالته واستجاب طلبهم وأوصاني أنْ أكتب إليكم، أنْ تعاملوهم كما تعاملون المُرسلين الفرنسيّين، الموجودين في الشرق من قِبل جلالته..)(٥) .

____________________

(١) الدكتور عتريسي، طلال - البعثات اليسوعيّة: ٤٩.

(٢) Baudicour. Louis De: Le France en syrie – paris ١٨٦٠ – p. ٦.

(٣) Rochementeix C.P.J: Leban Et I ex pedition Frandcaise En Syrie ١٨٦٠ – ١٨٦١ Documents Inedits Du General A. Ducroit Paris ١٩٢١ – p. ٧٩.

(٤) المصدر السابق، عتريسي: ٧٠.

(٥) الخورس بطرس غالي - (فرنسا صديقة ومحامية): ٣٢٦ - ٣٢٧. ذكره الكوثراني: ٤٤.

١١٥

وتزداد هذه الحقيقة وضوحاً إذا عرفنا (إنّ فرنسا تعتبر نفسها مسؤولةً عن حماية مسيحيّي المشرق أمام الباب العالي، وإنّ هذه المسؤوليّة تشكّل دعماً أساسيّاً لقوّتها في المشرق، ولا يُمكن لرجال الدين الذين تُرسلهم روما، أنْ يتجاوزوا هذه الحماية القانونيّة والعمليّة)(١) .

ولم يقتصر الأمر على الطوائف المسيحيّة، بل استُخدم اليهود في الشرق كرَتل خامس، ورجال المعلومات الخاصّة. فمثلاً (عندما قامت الثورة الفرنسيّة، التي لعبت اليهوديّة الفرنسيّة فيها دوراً خطيراً، قامت اليهوديّة العالميّة بخدمات جليلة لحساب نابليون بونابرت، حيث تحوّل اليهود في أوربّا وفي الشرق العربي إلى طابورٍ خامس يعمل لحساب جيوش بونابرت، وتقديراً لتلك الخدمات التي تبلغ مرتبة الخيانة العُظمى لشعوب دول روسيا القيصريّة، أعلن نابليون هيئة السنهدريون، وكوّن فرقة من اليهود لإعادتهم إلى فلسطين، إلاّ أنّ المشروع لم يتحقّق لظروفٍ لم تكن مواتية)(٢) .

ح - توصية المستشرقين الفرنسيّين لحكوماتهم المتعاقبة، على اعتماد أُسلوب التجزئة للبلاد الإسلاميّة، وتدمير البُنى الأساسيّة لها ثقافيّاً واجتماعيّاً واقتصاديّاً، وتركهم ضعفاء لا يملكون القدرة على مواجهة تيار العلمانيّة الفرنسيّة الجديد.

ولعلّ من أبرز من كان لهم الدور الأساسي في تنظير هذه التوصيات، هو(ماسنيون) أحد أكبر أئمّة المدرسة الاستشراقيّة الفرنسيّة، خصوصاً عندما أصبح مستشاراً لوزارة المستعمرات الفرنسيّة، وتدلّنا الوثائق العديدة التي نشرت وما زالت تُنشر أنّ فرنسا قبل وبعد دخولها إلى الشام، قد قامت من خلال الاستعانة بالمستشرقين وتوصياتهم بعدّة دراسات عن الوضع الاجتماعي والطائفي

____________________

(١) شقالييه دومينيك، مجتمع جبل لبنان: ٢٦١.

(٢) السعدين، مصطفى - أضواء على الصهيونيّة: ١٠.

١١٦

والاقتصادي.. وإنّها قد صمّمت سياسةً فرنسيّةً خاصّةً بها، تقوم على تصوّرات دقيقة ومتعدّدة، منها ما يخصّ تصميم البنية السياسيّة، وبناء الدولة وإقامة الأنظمة الطائفيّة، أو تسليط طبقة من النصارى على المؤسّسات السياسيّة والثقافيّة والاقتصاديّة الحسّاسة.. وهذه كلّها تهدف إلى نقطةٍ جوهريّةٍ وأساسيّة، هي: ضمان إبعاد الإسلام عن مسرح الحياة، والنشاط السياسي والثقافي، وخلق أنظمة علمانيّة، وإعداد الكوادر والقيادات السياسيّة المواكبة لها(١) .

كما جاء أيضاً في تقرير(ديبوسك) إلى وزارة الخارجيّة الفرنسيّة: (لقد تسنّى لي في القاهرة وبيروت ودمشق أنْ أطّلع على الآراء الحميمة، التي باح لي بها بعض المسلمين الذين يحتلّون مراكز مرموقة، فلقد صرّح لي هؤلاء ببساطة: أنّ الوفاق مع المسيحيّين يبدو في نظرهم ضروريّاً؛ لأنّ المسيحيّين هم أذكي منهم، وخصوصاً أكثر ثقافةً منهم، وبالتالي فهم أجدر في إظهار مطالباتهم الخاصّة.

ومن جهتهم فلقد صرّح لي مسيحيّون أعضاء في المجالس - يقصد مجالس اللجان العربيّة - بأنّهم لا يرتجون عن طريق انضمامهم إلى صفوف المسلمين سوى تدخّل فرنسا، وفضلاً عن ذلك فأنّهم - أيّ المسيحيّين - خلافاً لما يعتقده المسلمون، يرون أنّه ليس بإمكان سوريا أنْ تحكم نفسها بنفسها، إلاّ أنّهم يتجنّبون مواجهة المسلمين بذلك)(٢) .

وبنفس الاتّجاه يوصي القسسيمون حكومته الفرنسيّة قائلاً: (إنّ الوحدة الإسلاميّة تجمع آمال الشعوب السمْر وتساعدهم على التخلّص من السيطرة الأوربيّة).. ولذا (قالوا: يجب أنْ تحوَّل بالتبشير مجاري التفكير في الوحدة الإسلاميّة)(٣) .

____________________

(١) للمؤلّف - السياسة الفرنسيّة في الشرق الأوسط: ١١٠.

(٢) الكوثراني، وجيه - بلاد الشام: ٣١٦.

(٣) الدكتور خالدي، مصطفى والدكتور فروخ، عمر - التبشير والاستعمار في البلاد العربيّة: ٣٧.

١١٧

وعلى ضوء ذلك فقد قام الاستعمار الفرنسي بإنشاء كيانات مُجزّأة سياسيّاً واقتصاديّاً وسكّانيّاً، وفقا للنماذج والأشكال القوميّة الغربيّة والعلمانيّة، وبذلك يتمكّن الاستعمار الفرنسي وشُركاؤه أنْ يطمئنّوا إلى أنّ البلاد الإسلاميّة، أصبحت لا تشكّل خطراً على نفوذهم ومصالحهم حاضراً ولا مستقبلاً، فالمسلم في (تشاد) هو (تشادي) لا علاقة له بما يجري في (المغرب) أو (تونس) لأنّ الآخرين (مغاربة) أو (تونسيون)... وهكذا الأمر في كافّة أنحاء العالم الإسلامي(١) .

ط - اعتماد أُسلوب تربية وإعداد قادة ومفكّرين للعالم الإسلامي، على النهج العلماني من خلال الجامعات الفرنسيّة، التي يشرف عليها كبار رجال الاستشراق الفرنسي، المتميّزين بقدرتهم على الدسّ في الإسلامي وتشويه صورة مجتمعاته الإسلاميّة.

وكان على رأس أساتذة ومنظّري هذه الأُطروحة، هو المشرف الروحي للكنائس المسيحيّة البروتستانتيّة الفرنسيّة لما وراء البحار، والمستشرق الشهيرماسنيون ، الذي تعهّد مجموعة من أنبغ رجال الشرق - كما يصفهم - حتّى قال بشأن أحدهم وهو(ميشيل عفلق) مؤسّس حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي ظلّ يلعب دوراً أساسيّاً في قيادة بعض الأنظمة العلمانيّة في الشرق الأوسط، طيلة الفترة بعد الحرب العالميّة الثانيّة: (إنّه أنبغ وأعزّ تلميذ في حياتي)(٢) .

ويتحدّث الباحث الفرنسي دانيال لوغاك في كتابه (باسم فلسطين) عن دور فرنسا أيّام الاحتلال في تنمية ورعاية حزب البعث فيقول: (إنّ ميشيل عفلق، وبدرجةٍ أقلّ من صلاح الدين البيطار (الأبوين المؤسّسين للبعث) مدينان جزئيّاً لفرنسا بتأليف الحزب الأكثر تماسكاً والأكثر تأثيراً في العالم العربي

____________________

(١) للمؤلّف - السياسة الفرنسيّة في الشرق الأوسط: ٧٥.

(٢) بلوط، عليّ - دمشق.. إعدام البعث / مجلّة الدستور اللبنانيّة.

١١٨

بأسره)(١) .

وكان لابدّ من التمهيد لهذا الأمر عن طريق تشويه صورة الإسلام، في كتب وبرامج التعليم المعتمدة في المدارس والجامعات، المؤسّسة بهدف صياغة وإعداد الكوادر والقادة السياسيّين على الطريقة العلمانيّة الفرنسيّة، فقد جاء في كتاب (البحث عن الدين الحقيقي)، الذي صدر عن مؤسّسات التعليم الفرنسي في باريس، وعاش هذا الكتاب في المدارس النصرانيّة في الشرق والغرب حتّى اليوم: (إنّ الإسلام عدوّ للمسيحيّة وإنّه أُسّس بقوّة السيف، وقام على أشدّ أنواع التعصّب... ويؤكّد هذا الكتاب - أيضاً - أنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد سمح لأتباعه بالفجور والسلب(٢) .

وقد حملت مؤسّسات اليسوعيّين على تنوّعها، أهدافاً تتكامل فيما بينها، من نشر الثقافة الفرنسيّة، وسيطرة لغتها وأفكارها، إلى إعداد (النخبة القائدة) التي تمثّل الهدف الرئيسي بينها؛ (لأنّ إعداد النخبة المسيحيّة.. يسمح لهذه الجماعة التي أثقل كاهله النيّر الإسلامي، أنْ تتحضّر شيئاً فشيئاً.

وقد أعدّ المرسلون لساعة الحريّة، طبقة وسطى قادرة على انتزاع الفائدة، ونخبة ذكيّة، مثقفّة ومؤهّلة لقيادة الأُمم المحرّرة.. غنّه لواجب على المرسلين أنْ يُطوّروا النخبة الأهليّة ويضاعفوها، وذلك بانتظار اليوم الذي ستترك فيه سوريا ولبنان، لكن هناك شيء يجب الانتباه والإشارة إليه، ذلك: إنّ النخبة لا تبقى كذلك إلاّ إذا سيطرت، وإذا أردنا توسيع هذه النخبة، فيجب ألاّ نخفض مستواها بأنْ نفتح المجال أمام الجميع لتولّي المراكز والمسؤوليّات، وذلك تفادياً للإخلال بالتوازن والانسجام الاجتماعي في

____________________

(١) دانيال لوغاك - باسم فلسطين/ إصدار البعث العربي الاشتراكي - سلسلة الدراسات السياسيّة: ٦٤.

(٢) الدكتور خالدي، مصطفى والدكتور فروخ، عمر - التبشير والاستعمار في البلاد العربيّة: ٧٢.

١١٩

البلد)(١) .

ويرى بعضهم أنّ (المدارس قوّةٌ لجعل الناشئين تحت تأثير التعليم المسيحي أكثر من كلّ قوّةٍ أُخرى، ثمّ إنّ هذه التأثير يستمر حتّى يشمل أولئك الذين سيصبحون يوماً ما قادة في أوطانهم)(٢) ، ويؤكّد آخرون على أنّه (كان للمبشّرين غاية من التعليم العالي، هي أنْ يؤثّروا في قادة الرأي في البلاد، وفي الجيل الناشئ في الشرق الأدنى خاصّة، ذلك التأثير الذي لا يمكن أنْ يتحقّق إذا لم يكن ثمّة تعليم عال)(٣) .

وعلى هذا الأساس أوجد المبشّرون البروتستانت كليّة في بيروت عام ١٨٦٢م ن وجعلوا على رأسها المحترم (دانيال بلس).

هذه الكليّة أصبحت فيما بعد: الكليّة السوريّة الإنجيليّة ثمّ هي اليوم الجامعة الأميركيّة في بيروت.

ومِن رأي المبشّرين أنْ تؤسَّس الكليّات في المراكز الإسلاميّة، ولذلك لم يكتفوا ببيروت، بل أرادوا أنْ تكون ثمّة كليّة في القاهرة نفسها إلى جانب الأزهر.. ولم يكن رأي المبشّرين الفرنسيّين مخالفاً لذلك فأنشأوا كليّة لهم في مدينة لاهور، وهي مدينة من المدن الإسلاميّة الكبرى(٤) .

ي - انتهاج طريقة إحياء الفكر القومي والطائفي، والدعوة إلى تنظيم الحركات القوميّة العلمانيّة والطائفيّة على أساسه، لتكون الأساس في حركة المجتمع الإسلامي السياسيّة.

ولا تنفرد المدرسة الاستشراقيّة الفرنسيّة بهذه الميّزة نظريّاً، بل إنّها تمثّل رؤية عامّة لدى كافّة المدارس الاستشراقيّة. فهذا المبشر الشهير (صموئيل زويمر) أحد كبار المستشرقين يقول: (إنّ أوّل ما يجب عمله للقضاء

____________________

(١) Revue D Historie Des Missions p. ٣٣٤. ٣٣٥،

(٢) Milligan ١٢٤ – ٥.

(٣) Milligan ١٦٤.

(٤) الدكتور خالدي، مصطفى والدكتور فروخ، عمر - التبشير والاستعمار في البلاد العربيّة: ٧٩.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376