كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين0%

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 376

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين

مؤلف: الشيخ فؤاد كاظم المقدادي
تصنيف:

الصفحات: 376
المشاهدات: 123299
تحميل: 7759

توضيحات:

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 376 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 123299 / تحميل: 7759
الحجم الحجم الحجم
كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين

مؤلف:
العربية

عهده كانت مدرسة باريس للّغات الشرقيّة - التي أشرنا إليها والتي قامت في أوجّ حماسة فرنسا الثوريّة، النموذج لمؤسّسة الاستشراق العلمي والعلماني، ومن جرّاء ذلك ظهرت كلمة مستشرق Orientoiliste في فرنسا عام ١٧٩٩م. وأُدرجت كلمة الاستشراق Orientoile في قاموس الأكاديميّة الفرنسيّة عام ١٨٣٨م، وأخذَت فكرة إيجاد فرع متخصّص من فروع المعرفة لدراسة الشرق تلقى المزيد من التأييد، ولم يكن هناك حتّى ذلك الوقت مختصّون بأعداد تكفي لتأسيس مجلاّت أو جمعيّات تهتم حصراً ببلدٍ واحد، أو بشعبٍ واحد أو منطقة واحدة في الشرق، وبدلاً من ذلك كان نطاق المجلاّت والجمعيّات يمتدّ ليشمل عدّة مجالات، وإنْ لم تحظَ جميعها بدرجةِ العمق نفسها في البحث(١) .

ويمكن أنْ نقول: إنّ الاستشراق الفرنسي بشكلٍ خاص قد نما وترعرع عندما جاءت مبادرته الميدانيّة، نتيجةً للأحداث المتعلّقة بالشرق الإسلامي، من حيث التغيّرات السياسيّة والنظرة الأوربيّة التي كانت تعتبر الشرق الإسلامي من المشاكل العظمى التي تواجه السياسة الأوربيّة بالخصوص في القرن التاسع عشر.

مناطق نفوذ المدرسة الاستشراقيّة الفرنسيّة

إنّ الاقتران الذي أكّدناه في حركة الاستشراق بالتبشير والاستعمار، يحتّم علينا جدلاً أنْ نجعل من مناطق النفوذ السياسي والثقافي لفرنسا مجالاً أساسيّاً للاستشراق الفرنسي، على نحو التمهيد أو الترسيخ لتلك الحركة السياسيّة والثقافيّة،

____________________

(١) رودنسون، مكسيم - تراث الإسلام ق١: ٧٨.

١٠١

سواء أكانت على شكل عمل تبشيري بكافّة أبعاده الثقافيّة والدينيّة، أو نفوذ اقتصادي أو استعمار عسكري مباشر. ومن خلال استعراض الجغرافية السياسيّة لمناطق النفوذ الفرنسي نجدها تحتلّ رقعةً واسعةً ومهمّة من مناطق الوطن الإسلامي ابتداءً من سواحل شمال إفريقيا (الجزائر، المغرب، تونس، مصر) إلى وسطها الذي يسمّى بالسودان الفرنسي، بما فيها جيبوتي والسنغال وموريتانيا وتشاد ومالي وغينيا، والنيجر وكانم البرتو والغور والحوصة وسنغاي، ومن غرب آسيا المتمثّل ببلاد الشام (سوريا ولبنان إلى شبه القارة الهنديّة).

وقد بدأ الاستشراق الفرنسي عمله الميداني المباشر عندما اكتُشف رأس الرجاء الصالح عام ١٤٨٨م، فتدفّق المستشرقون بعناوينهم المتعدّدة، علماء ومنقّبين عن الآثار ومبشّرين للنصرانيّة. وقد سبق هذا الانتشار افتتاح مراكز للتبشير في إفريقيا السوداء، كان أوّلها في الكونغو عام ١٤٩١م، فعملت على التعرّف على هذه القارّة، والتمهيد بالتعاون مع عصابات تجّار الرقيق لدخول فرنسا بوصفها اكبر قوّة غازية، ثقافيّاً واقتصاديّاً وعسكريّاً لهذه القارّة(١) .

وممّن انتحل صفة الاستكشاف والبحث والتنقيب الكاردينال(لا فيجري) (٢) الذي عمل بشكلٍ فاضحٍ وصريح لتكريس الوجود الاستعماري الفرنسي من خلال عمله، وقد أعلن عن ذلك في معرض حديثه عن إفريقيا، وأبدى أسفه الشديد من عدم تمكّنه من نشر النصرانيّة بين المسلمين وخصوصاً الجزائرييّن بقوله: إنّه أراد أنْ يحبّب فرنسا إلى الناس باسم المسيح(٣) .

____________________

(١) محمود، سامي - انتشار الإسلام والدعوة إليه: ٤٣ - ٤٤.

(٢) لا فيجري (١٨٢٥ - ١٨٩٢م) كردينال فرنسي اهتمّ بشؤون الشرق، رئيس أساقفة الجزائر. أُسس جمعيّة الآباء البيض عام ١٨٦٨م. بدأ حياته مبشّراً في شمالي إفريقيا والسودان، كلّفه بذلك البابا بيوس التاسع (١٨٤٦ - ١٨٧٨م) نفسه.

(٣) فروخ، عمر. والخالدي، مصطفى - التبشير والاستعمار: ٢٤٧.

١٠٢

وقد تبلورت وتحدّدت مناطق النفوذ الفرنسي خصوصاً في القارّة الإفريقيّة، وقد بدأت عمليّة الإخضاع العسكري المباشر للنفوذ الفرنسي بالجزائر عام ١٨٣٠م، ثمّ تونس عام ١٨٨١م، ودخلوا السنغال عام ١٨٥١م، إمّا بنين (داهومي سابقاً) فقد احتلّتها فرنسا عام ١٨٩٤م، ومنذ عام ١٨٥٤م خاض الاستكبار الفرنسي من خلال السنغال عدّة محاولات لاحتلال موريتانيا حتّى تمّ له احتلالها في عام ١٩٠٣م، أمّا احتلال بلاد الشام (سوريا ولبنان) فقد تمّ في مطلع هذا القرن(١) .

كما امتدّ النفوذ الفرنسي وثبّت أقدامه في مسقط وزنجبار عام ١٨٨٤ م عندما عقدت فرنسا معاهدة مع سعيد بن سلطان، حاكم هاتين المنطقتين، كما حصلت في عام ١٨٩٩م على تنازل من سلطان مسقط، تحصل بموجبه على مستودع للوقود بطريقة الإيجار في ميناء الجصة(٢) ، وقد نافس الفرنسيّون الانجليز على شبه القارّة الهنديّة واشتبكوا معهم في صراع اقتصادي سياسي عنيف حتّى اضطروا لتأسيس شركة الهند الشرقيّة الفرنسيّة في (بندر عباس) في نفس العام في مقابل شركة الهند الشرقيّة البريطانيّة(٣) .

على ضوء مقرّرات مؤتمر برلين الذي انعقد في عام ١٨٧٨ م والتي وضعت أُسُس هذا النفوذ وحاولت أنْ تخفّف من أسباب الصراع بين الدول الأُوربيّة، وخصوصاً بين فرنسا وانجلترا حول القارة الإفريقيّة(٤) .

وبعد وضوح حدود النفوذ الفرنسي في إفريقيا بدأت حركة واسعة لإخضاع شعوبها إلى الثقافة الفرنسيّة، وبشتّى الصيّغ والأساليب. ففي عام ١٨٩٨م كتب الباباليّون الثالث عشر إلى الكاردينال(لانجينو) ما يلي: (لقد علمنا برضا

____________________

(١) انتشار الإسلام والدعوة إليه: ٤٠ - ٤٩ والخطابي وجمهوريّة الريف.

(٢) السياسة الفرنسيّة في الشرق الأوسط/ المركز الإسلامي للأبحاث السياسيّة: ٣٦١.

(٣) الخطيب، مصطفى عقيل إسحاق - التنافس الدولي في الخليج، السياسة الفرنسيّة: ٣٨٤.

(٤) للمؤلّف - السياسة الفرنسيّة في الشرق الأوسط: ٨٢.

١٠٣

كامل... بأنْ تفكير شخصيّات بارزة يتّجه نحو تكوين لجنة وطنيّة في فرنسا للحفاظ على الحماية الفرنسيّة في الأراضي المقدّسة والدفاع عنها... فعسى أنْ تضمن هذه الجهود المتّحدة وجوداً مستقرّاً للكنيسة الكاثوليكيّة في الشرق؛ لكي تعمل بنجاح على نشر الإيمان الحقيقي ولعودة الرعايا الضالّين إلى حضيرة المراعي الكنسي الأوحد والأعلى)(١) .

صيغ وأساليب المدرسة الاستشراقيّة الفرنسيّة وتشكيلاتها

إنّ من أبرز وأهمّ الأساليب والتشكيلات التي اعتمدتها هذه المدرسة في عملها الاستشراقي، والتي أثّرت في النتائج أثراً بليغاً حقّق أغلب الأهداف والمرامي المتوخّاة منه هي:

أ - تسخير المبشّرين والأقليّات النصرانيّة واليهوديّة المتواجدة في البلدان الإسلاميّة؛ لتجميع المعلومات الأوليّة والدراسات الميدانيّة عن الإسلام والمسلمين في بلدانهم؛ لتكون مادّةً أوليّةً بين يدَي المستشرقين لينطلقوا منها ويتابعوا تفصيلاتها، ويُخضعوها للبحث والتحليل ضمن الخطط الموضوعة لذلك من قِبلهم، وقد تمّ ربط النصارى من مواطني البلدان بالتشكيلات التي اعتمدتها فرنسا عن طريق الحصول على امتيازات خاصّة، بحجّة (حماية المسيحيّين في الإمبراطوريّة العثمانيّة).

ويشير إلى ذلك G. Bouchad أحد مسؤولي البعثات الفرنسيّة حيثُ قال: (... في هذا القرن [القرن التاسع عشر] دخلت أوربّا في عصرٍ جديد من

____________________

(١) مجلّة المنتقى - العدد الأوّل: ٦٧ ابريل ١٩٨٣م.

١٠٤

التوسّع العسكري والسياسي، بدأ مع الثورة الصناعيّة التي قلبت الأوضاع الاجتماعيّة والفكريَّة داخل أوربّا، وأدّت إلى ولادة الرأسماليّة، وخروج أوربّا من حدودها لمواجهة الكتلة الإسلاميّة الضخمة، المتمثّلة في (الإمبراطوريّة العثمانيّة) المترامية الأطراف، وكانت الامتيازات التي حصلت عليها دول أوربّا (لحماية المسيحيّين) داخل (الإمبراطوريّة) حجّةً وجسراً، عبرت عليه البعثات المختلفة إلى الطوائف المسيحيّة والأقليّات الدينيّة، تحميها شرعيّة القنصليّات والسفارات، أو القوّة العسكريّة المباشرة، فأسّست مدارسها الخاصّة بها، وأرست أُسس نظام تعليمي يستلهم الثقافة الأوربيّة ويبشّر بها)(١) .

ولم يكتفوا بذلك بل أخذوا بإعداد وتربية مبشّرين محلّيّين، من خلال مدارس(اكليركيّة) يتخرّج منها ما يسمّى بالاكليروس المحلّي، خصوصاً وأنّ عامل اللغة يعدّ أساساً في أداء الدور الأمثل لهؤلاء المبشّرين المحلّيّين، وفي هذا الصدد يركّز مؤرّخو تلك الفترة: إنّ اليسوعيّين لجأوا بعد سنوات من العمل المتواصل والدؤوب إلى إعداد (الدعاة المحلّيّين)، أملاً في تثبيت مستقبل العمل التبشيري في المشرق، وسعياً لتجاوز عائق اللغة الذي كان يُقلق مرسليهم ويُعرقل صلتهم اليوميّة بالذين يتوجّهون إليهم؛ لأن المبشّرين لا يعرفون العربيّة لغة السكّان في هذه المناطق.

هذه الحاجة الماسّة والمتناهية لهؤلاء (الدعاة) يُعبّر عنها أحدُ الآباء المسؤولين في دمشق عام ١٨٦٠م بقوله:

لا(اكليروس) محلّي بدون مدرسة(الكليركيّة) ، ولا مستقبل للإرساليّات في المشرق في غياب(الأكليروس) المحلّي. إنّ إرسال البعثات مفيد ولا شك، خاصّة وسط هذه الأُمم الجاهلة والكسولة، لكنّ المؤسّسة الأوربيّة ليست مؤسّسة صلبة

____________________

(١) الدكتور عتريسي، طلال - البعثات اليسوعيّة: ٢٤.

١٠٥

بشكلٍ كاف؛ لأن جذورها لا توجد في البلد نفسه... والسبب الذي يدعونا لتكوين(اكليروس) محلّي هو عينه الذي يدفعنا لإعداد أساتذة محلّيّين أيضاً.. إنّ المعلّم والمعلّمة العربيّين يستطيعان الذهاب، وكلٌّ بمفرده، إلى أيّة قرية، فهما متكيّفان مع اللغة والمناخ والعادات والغذاء مع بؤس البلد، كما يكفي الواحد منهما مئة فرنك في السنة(١) .

لذا وتثبيتاً لمستقبل هذه الإرساليّات، ضمّ اليسوعيّون مساعدين لهم من أهل البلاد، بعد اختيارهم بدقّة وعناية؛ لأن بإمكانهم ممارسة نفوذ وتأثير يعجز عنه الأجانب غالباً.

(لقد كان ذلك تطبيقاً للقاعدة الحكيمة التي طالما نادى بها البابا ليون الثالث عشر، وهي إغواء الشرق بواسطة الشرقيّين أنفسهم)(٢) .

واتّسعت فكرة استثمار النصارى والأقليّات المذهبيّة الأُخرى من أبناء الشرق لتشمل اليهود، خصوصاً في بعض المناطق التي كانت لهم فيها طموحات دينيّة وتاريخيّة كفلسطين، حيثُ ذهب بعضهم إلى: (إنّ المبشّرين كانوا مقتنعين جداً، بأنّ جمع اليهود في فلسطين يُسهّل لهم مهمّتهم في الوصول إلى المسلمين، من أجل ذلك أرادوا أنْ يفتحوا أبواب فلسطين على مصاريعها لهجرة اليهود)(٣) .

(فليس من المستغرب إذن أنْ تجد سبعاً وعشرين جمعيّة تبشيريّة مختلفة الجنسيّات كانت تعمل بلا مَلل في فلسطين)(٤) .

ب - اعتماد أُسلوب ضخ اكبر عدد من المستشرقين الفرنسيّين من ذوي

____________________

(١) شقالييه، مجمع جبل عامل: ٢٦٧.

(٢) Bullet In Doeuvres Des Ecoles Dorient ١٨٦٢: ٢١٠ – ٢١٢.

(٤) Richter ٢٣٨.

١٠٦

الاختصاصات التبشيريّة إلى بلدان الشرق الإسلامي.

لقد أعدّت فرنسا جيشاً من المبشّرين والمستشرقين الذي ينتشرون في إفريقيا ولبنان، ويذكر مالك بن نبي: (أنّ المستشرق الفرنسي(ماسنيون) قد تفرّغ آخر حياته للتبشير، ومدّ وزارة الخارجيّة الفرنسيّة بالمعلومات والتوصيّات حول البلاد الإسلاميّة وتهيئة العملاء والكتاب)(١) .

ويكفي أنْ نشير إلى الرقم الآتي ليعبّر عن مدى العمق الرابط الوثيق، بين الصليبيّة والرهبانيّة الفرنسيّة وبين الاستشراق والاستكبار، فقبل الحرب العالميّة الأولى بلغ عدد المبشّرين المرتبطين بالمقام البابوي ٧٣٠٠٠ مبشّراً، كان ثلاثة أرباع هؤلاء من التابعيّة الفرنسيّة الذين توجّهوا إلى سوريا في مجال التعليم.

أمّا (مؤسّسة الدّعاية)، وهي منظمة صليبيّة تبشيريّة فرنسيّة، فقد أصدرت عام ١٨٨٨م هذا التعميم: (إنّنا نعلم بأنّ الحماية الفرنسيّة قائمة في المشرق مُنذ عدّة قرون، ولقد تأكّدت هذه الحماية من خلال المعاهدات الموقّعة بين الحكومات، لذلك يجب أنْ لا يتمّ أيّ تغيير على الإطلاق بخصوص هذه النقطة.

يجب الحفاظ دينيّاً على هذه الحماية أينما كانت سارية، كما يجب أنْ تعلم البعثات التبشيريّة بأنْ تلجأ عند الحاجة - لأيّ عَون - إلى قناصل وممثّلي الأمّة الفرنسيّة)(٢) .

ج - توجيه المبشّرين الفرنسيّين للتخصّص في الاستشراق، ورسم مناهجه بما يخدم الأهداف الثقافيّة والسياسيّة للاستكبار الفرنسي.

فقد تلبّس المبشّرون بجميع المظاهر، حتّى في ثوب المستكشفين الذين ظهروا أمام العالم، علماءً أعلاماً، بل إنّ نابليون حوّر وطوّر من أساليب الاحتواء

____________________

(١) د. الخالدي، مصطفى، د. فروخ، عمر - التبشير والاستعمار: ٢٢١.

(٢) مجلّة المنتقى - ع١: ٦٨ ابريل ١٩٨٣م.

١٠٧

الاستشراقي لمصر قبل وبعد احتلالها باستخدام أدوات المعرفة والقوّة الغربيّتين، ومنذ ذلك التاريخ تغيّرت لغة الاستشراق ذاتها تغيّراً جذريّاً، فقد ارتقت واقعيّتها الوصفيّة وغدت لا مجرّد أُسلوب للتمثيل، بل لغة، بل بالأحرى وسيلة للخلق(١) .

لقد أصبح المستشرقون، خلال القرنَين التاسع عشر والعشرين، جماعة أكثر جدّية؛ لأنّ أبعاد الجغرافيا التخليليّة والواقعيّة كانت بهذا الوقت قد تقلّصت، إذ إنّ العلاقة الشرقيّة الأوربيّة كانت قد تحدّدت بتوسّع أوربّي لا يُصدّ، بحثاً عن الأسواق والمصادر الطبيعيّة والمستعمرات.

وأخيراً لأنّ الاستشراق كان قد أنجز تقمُّصَه وتحوّله من إنشاء بحثيّ إلى مؤسّسة إمبرياليّة(٢) .

ولقد أصبحت باريس فترة تنوف على النصف الأوّل من القرن التاسع عشر عاصمة للاستشراق (وعاصمة القرن التاسع عشر نفسه، كما يرىفالتر بنجمن )(٣) .

وتكفي للإحاطة بهذه الحقيقة المراجعة لكتاب جُول مول (سبعة وعشرون عاماً من تاريخ الدراسات الشرقيّة)(٤) .

د - خلِق أرضيّة الارتباط الروحي والمعنوي بفرنسا، والعمل على تشويه الثقافة الإسلاميّة، وإثارة الشبهات حول الإسلام والحركات الإسلاميّة، باعتبارها عقَبة أساسيّة أمام ترسيخ اتّجاهات الفكر الاستكباري. وهذا ما يؤكّده المتخصّصون في دراسة الاستشراق، فعند المقارنة والتمييز بين المدرسة الاستشراقيّة الفرنسيّة والمدرسة الاستشراقيّة البريطانيّة مثلاً يقولون: (... في

____________________

(١) سعيد، ادوارد - الاستشراق: ٥١، ١١٢.

(٢) سعيد، ادوارد - الاستشراق: ١٢٠.

(٣) سعيد، ادوارد - الاستشراق: ٨٢.

(٤) وهو سجل في مجلّدين لكلّ ما له قيمة من أحداث في الاستشراق بين ١٨٤٠م - ١٨٦٧م، وقد كان مول هذا أميناً للجمعيّة الآسيويّة في باريس.

١٠٨

عرف بريس - موريس بريس مؤلّف كتاب (اكتناه بلدان شرق المتوسّط)، وهو سجل لرحلة عبر الشرق الأدنى عام ١٩١٤م - إنّ الحضور الفرنسي يُرى بأفضل صورة في المدارس الفرنسيّة... وإذا كانت فرنسا لا تمتلك مستعمرات في الشرق فعليّاً، فإنّها ليست دون ممتلكات بصورة مطلقة... ثمّة في الشرق شعور حول فرنسا هو من الدينيّة والقوّة بحيث إنّه قادر على أنْ يتمثّل، ويُصالح بين تطلّعاتنا الأكثر اختلافاً وتنوعاً.

ففي الشرق نمثّل نحن الروحانيّة، والعدالة، وفُصْلَةَ المثالي... نحن نمتلك الأرواح الشرقيّة... كيف نستطيع أنْ نشكّل لأنفسنا نخبة فكريّة نقدر على العمل معها، تتألّف من شرقيّين لنْ يكونوا قد اقتلعوا من جذورهم، شرقيّين يستمرّون في الارتقاء تبعاً بيننا وبين جماهير السكّان الأصليّين؟ كيف سنخلق علاقات بهدف تمهيد الطريق لاتّفاقيّات ومعاهدات، ستكون هي الشكل المرغوب فيه لمستقبلنا السياسي (في الشرق)؟ هذه الأشياء جميعاً في النهاية ذات مدار واحد، هو تنمية ذوق استمراء لدى هذه الشعوب الغربيّة للبقاء على اتّصال بذكائنا، رغم أنّ هذا الذوق قد ينبع في الواقع من حسّهم الخاص بمصيرهم القومي)(١) .

ويؤكّد هذه الميزة أيضاً منهج السياسة الفرنسيّة في التعامل مع الشرق التي تتمثّل بمقولة: (إذا كان لفرنسا أنْ تستمرّ في منع (عودة الإسلام)، فقد كان من الخير لها أنْ تحتلَّ الشرق، وكانت هذه منظومة طرَحها كريساني وثنّى عليها السيناتور بول دومر. وقد كُرِّرت هذه الآراء في مناسباتٍ كثيرة، وبالفعل فقد نجحت فرنسا بمفردها في شمال افريقيا بعد الحرب العالميّة الأُولى)(٢) .

____________________

(١) سعيد، إدوارد - الاستشراق: ٢٥١.

(٢) سعيد، إدوارد - الاستشراق: ٢٣٤.

١٠٩

ويحذّر الكاردينال(لافيجيري) من خطر قوّة الإسلام وتهديدها للتطلّعات الفرنسيّة في الشرق فيقول: (وبينما كان الإسلام على وشك أنْ ينهار في أوربّا مع عرض السلاطين (من آل عثمان)، كان لا يزال ناشطاً في تقدّمه وفتوحه على أبواب مملكتنا الإفريقيّة)(١) .

ولا يجد هؤلاء مناصاً من الإمعان في تشويه الإسلام تحقيقاً للهدف الأساسي، في إضعاف قوّته وردم سدوده أمام غزوهم الثقافي واستعمارهم السياسي والعسكري، حتّى وصل بهم الأمر إلى أنْ يقول أحدهم: (إنّ الإسلام مقلّد، وإنّ أحسن ما فيه مأخوذ من النصرانيّة، وسائر ما فيه أُخذ من الوثنيّة كما هو، أو مع شيء من التبديل)(٢) ، ويبلغ التدجيل ذروته(بجون ثاكلي) أنْ يقول عن المسلمين: (يجب أنْ نستخدم كتابهم [أيّ القرآن الكريم]، وهو أقصى سلاح في الإسلام، ضدّ الإسلام نفسه لنقضي عليه تماماً.

يجب أنْ نُري هؤلاء الناس أنّ الصحيح في القرآن ليس جديداً، وأنّ الجديد فيه ليس صحيحاً)(٣) .

وفي معرض إثارتهم للشبهات حول الحركات الإسلاميّة كتب(يوليوس رشتر) عن(ثورة المهدي على الانجليز) في السودان قائلاً في وصفها: (... هذا التعصّب الإسلامي الضيّق الأُفق بكلّ ما فيه من بُغض للثقافة)(٤) .

هـ - الدعوة إلى تطوير الإسلام كأُسلوب للدس فيه وتشويه معالمه. فمن انجازات المستشرقين الكبيرة - وفي مقدّمتهم المستشرقون الفرنسيّون - إنّهم أثاروا في قلوب قادة العالم الإسلامي اليوم وزعمائه - ممّن تثقّفوا في مراكز الغرب

____________________

(١) pottier ١١٣.

(٢) Islam And Missions ٤٣.

(٣) Islam And Missions ٢١٧ f

(٤) Julius Richter ٣٦٦.

١١٠

الثقافيّة الكبرى أو درسوا الإسلام بلغات الغرب - شُبهات حول الإسلام والمصادر الإسلاميّة، وأحدثوا في نفوسهم بأساً كبيراً في الحثّ على نعرة (إصلاح الديانة) و(إصلاح القانون الإسلامي)(١) .

ومن أبرز هؤلاء المستشرقين الذين بذلوا عناية خاصّة بهذه الدعوة هو المستشرق الفرنسي(ماسينيون) ، فقد كان له حضور رئيسي في العلاقات الإسلاميّة الفرنسيّة، في السياسة كما في الثقافة، وكان بوضوح رجلاً ذا شبوب انفعالي.

آمن بأنّ عالم الإسلام يُمكن اختراقه لا عن طريق البحث، حصريّاً، بل عن طريق تكريس النفس لجميع أوجه نشاطاته، التي لم يكن أقلّها عالم المسيحيّة الشرقيّة المنضوية ضمن الإسلام، والتي تلقّت إحدى جماعاتها الفرعيّة، الجمعيّة الخيريّة البدليّة، تشجيعاً حارّاً من قِبل ماسنيون(٢) .

ويؤكّد هذه الدعوة، التي أخذت اتّجاهاً عاماً في أغلب الدراسات الاستشراقيّة، التركيز والاهتمام الشديد الذي أولاه المستشرقون الفرنسيّون بالدراسات الإسلاميّة، وهذا نابع من روحهم الصليبيّة وغرضهم الرئيسي، وهو تحديد نقاط ضعف المسلمين ومحاولاتهم فهم الإسلام؛ لكي ينفذوا إلى المجتمع الإسلامي عن طريق ذلك، ولهذا تجد أنّ(كريساني) ومن بعده السيناتور(پول دومر) قد طرحا منظومة مفادها أنّ من الخير لفرنسا إذ كانت مستمرّة في منع عودة الإسلام أنْ تحتلَّ الشرق.

وقد كرّر هذان المستشرقان هذه الآراء في مناسبات كثيرة، وبالفعل فقد نجحت فرنسا بمفردها في شمال إفريقيا وسوريا بعد الحرب العالميّة الأولى(٣) .

____________________

(١) الصراع بين الفكرة الإسلاميّة والفكرة الغربيّة: ١٧٨.

(٢) سعيد، إدوارد - الاستشراق: ٢٧٠.

(٣) سعيد، إدوارد - الاستشراق: ٢٣٤.

١١١

و - توقيت حركة المستشرقين الفرنسيّين وتغلغلهم في البلاد الإسلاميّة، بما يمهّد لمقدّمات الغزو الفرنسي لهذه البلدان، وتحكيم السياسة الفرنسيّة منها، ومن الأرقام الكاشفة عن هذه الحقيقة أنّ عدداً كبيراً مِن مترجمي نابليون كانوا تلاميذ (سلفستر دوساسي)، الذي كان - بِدءاً من حزيران عام ١٧٩٦م - المدرّس الأوّل والأوحد للعربيّة في المدرسة الأهليّة للّغات الشرقيّة.

وأصبح ساسي فيما بعد تقريباً معلّماً لكلّ مستشرق بارز في أوربّا، حيث سيطر تلاميذه على هذا الحقل ما يُقارب ثلاثة أرباع القرن، وكان كثيرون منهم نافعين سياسيّاً، بالطُرق التي كان بها عدد آخر نافعاً لنابليون في مصر(١) .

بل إنّ دور المستشرقين أخذ مدىً أكبر من ذلك عندما أصبح التنافس الاستكباري يدفع بالمستكبرين، إلى إدخال دول الشرق بمنظورهم الاستعماري في مجال الاستشراق، فقد (كان قدرٌ كبير من الحمى التوسّعيّة في فرنسا خلال الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، وليد رغبةٍ صريحة للتعويض عن النصر البروسي في ١٨٧٠م - ١٨٧١م، وإلى حدٍ لا يقلّ أهميّة وليد رغبةٍ لمضاهاة الانجازات الامبرياليّة البريطانيّة.

ولقد كانت الرغبة الأخيرة من القوّة، كما كانت نابعة من تراثٍ طويل من المنافسة الانكلو - فرنسيّة في الشرق، بحيث إنّ فرنسا بدت حرفيّاً مشبوحةً ببريطانيّا، حريصة في كلّ ما يتعلّق بالشرق على اللّحاق بالبريطانيّين ومحاكاتهم.

وحين صاغت الجمعيّة للهند الصينيّة في أواخر عام ١٨٧٠م أهدافها، وجدت مهمّاً أنْ (تدخل الهند الصينيّة في مجال الاستشراق) لماذا؟ من أجل أنْ تُحيل صين كوشين إلى (هندٍ فرنسيّة)!

وقد عزا العسكريّون إلى عدم وجود مُمتلكات استعماريّة كبيرة لفرنسا،

____________________

(١) سعيد، إدوارد - الاستشراق: ١٠٩.

١١٢

ذلك المزيجَ من الضعف العسكري والتجاري إثناء الحرب ضدّ بروسيا، كي لا تقول شيئاً عن الشعور العريق والصريح بالنقص، استعماريّاً، بالمقارنة مع بريطانيا.

وقد طرح جغرافي بارز هو (لا رونسيير لو نوري) منظومةً تقول: إنّ قوّة توسّع العروق الأوربيّة وأسبابه وعناصره وتأثيراته على المصائر البشريّة، ستشكّل مادّة دراسة جميلة للمؤرّخين في المستقبل)(١) .

ولهذا تجد أنّ (أكثر الإرساليّات مساهمةً في تحقيق انتداب فرنسا على سوريا ولبنان هي الإرساليّات الفرنسيّة)، (لأنّ من بين الاثني عشر ألفاً من طلاّبهم، كما يقول الأب(لوروا) : سبعةٌ كانوا وزراء أو سكرتيري دولة في مصر.. وأنّ مدراء الخدمات الرسميّة في لبنان وسوريا، وفي دولة العلويّين آنذاك كانوا جميعاً من طلاّب العازاريّين)(٢) .

كما (لم تحمل البعثات الفرنسيّة والتبشيريّة التي توافدت إلى سوريا ولبنان مشاريعَ مستقلّة عن السياسة الفرنسيّة فيها، إنّما اقتصر أمر التمايز والاختلاف على المرحلة الأولى من عمل اليسوعيّين، التي احتلّت موقع الصدارة بين البعثات جميعاً)(٣) .

والطريف المثير ذكره هنا أنّه: (في الحرب العالميّة الأولى ترك المبشّرون عملهم التبشيري، وجعلوا يطوفون في المناطق ويجمعون المتطوّعين لجيوش دولهم)(٤) .

ز - استعانة المستشرقين الفرنسيّين، ضمن برامج المؤسّسات السياسيّة الفرنسيّة، بالأقليّات النصرانيّة واليهوديّة وأمثالها القاطنة في البلدان الإسلاميّة، كمصدر للمعلومات الميدانيّة والرؤى المباشرة للواقع، وكسندٍ سياسي واقتصادي

____________________

(١) Agnes Murphy, The Ideology of French Imperialism ١٨١٧ – ١٨٨١ (Washington: Catholic University of America Press, ١٩٤٨) pp. ٤٦ , ٥٤ , ٣٦ , ٤٥.

(٢) Revue Dhistorie Des Missions. P ٥٢٢.

(٣) الدكتور عتريسي، طلال - البعثات اليسوعيّة: ١٦١.

(٤) الدكتور خالدي، مصطفى والدكتور فروخ، عمر - التبشير والاستعمار في البلاد العربيّة: ٢٤٤.

١١٣

بل وعسكري للاستعمار الفرنسي، ويميط اللثام عن هذا الأمر ما أشار إليه كتاب السياسة الدوليّة في الشرق العربي، حيثُ جاء فيه: (كانت بلاد الشام محطّة نموذجيّة لنشاط البعثات، وأطماع الدول الأوربيّة وتنافسها)(١) ولانتشار المدارس التي رافقت عمل المبشّرين، بحيث تحوّلت الخصوصيّات الاجتماعيّة والطائفيّة إلى صراعات وولاءات ثقافيّة وسياسيّة، تحتضنها الإرساليّات ويدعمها القناصل والتجّار.

وتحوّل الهدف الأساسي لتعليم المرسلين، بعد أنْ تداخل مع السياسة والتجارة، إلى إعداد (لعقول) تتلاءم مع الأوضاع الجديدة، و(نخب) ستتربّع على رأس كيانات التجزئة التي فُرِضت قسراً.

وكان لجبل لبنان، قبل أنْ تلحق به أقضية ومناطق في سوريا، ويتحوّل إلى (دولة لبنان الكبيرة) عام ١٩٢٠م، وبعد ذلك أيضاً؛ حصّة وفيرة من نشاط البعثات وأهدافها، لا بل نقطة جذب قويّة لها بسببِ كاثوليكيّتها من جهة، والحضور الفرنسي السياسي والعسكري والاقتصادي من جهةٍ أُخرى، وهي عوامل أدّت إلى إلحاق سكّان الجبل المسيحيّين بفرنسا على جميع المستويات(٢) .

وفي أجواء هذه التحوّلات الاقتصاديّة السياسيّة، والتدخل في شؤون الطوائف المحليّة، انتشرت بعثات التبشير والتعليم اليسوعيّة؛ لتجعل لتلك التحوّلات ولذلك التدخّل أُسُساً فكريّة (وجذوراً تاريخيّة)، (ففتحت نفوس الأهالي على الأفكار الفرنسيّة، وعلى العواطف الفرنسيّة، وأصبحوا فرنسيّين نوعاً ما... هذه السياسة تؤدّي إلى فتح بلدٍ بواسطة اللغة)(٣) .

____________________

(١) راجع إسماعيل عادل - السياسة الدوليّة في الشرق العربي ٤: ١١٣ - ١١٦.

(٢) الدكتور عتريسي - البعثات اليسوعيّة: ٢٧.

(٣) Paul Huvelin – Conger,s francais surga Syrie – Fascicule ١١١ Champe De Commeree Marseille ١٩١٩ – p. ٧. ٨.

١١٤

وهكذا حتّى أصبح الموارنة، مثلاً، في منتصف القرن التاسع عشر مركزاً لتلقى التأثيرات الثقافيّة والاقتصاديّة والسياسيّة الفرنسيّة. خاصّةً وأنّ فرنسا أصبحت صاحبة (الحق) في (حماية مسيحيّي الشرق)، فتداخل آنذاك هذا الموقع المتقدّم لفرنسا، قياساً إلى الدول الأوربيّة الأخرى، مع علاقاتها التاريخيّة مع الموارنة التي يُعرب كلّ طرفٍ عن شدّة تمسّكه بها وفقاً للظروف السياسيّة والدوليّة(١) .

وتختلف الروايات التاريخيّة في تحديد هذه العلاقة، ما بين الدعم العسركي المتبادل، أو الحماية المعنويّة، فيقول بوديكور مثلاً: (عندما انطلق ملكَنا(سان لويس) في حربه الصليبيّة، توقّف في قبرص حيثُ لاقاهُ دعم ٣٥ ألف ماروني خاض معهم معركة مصر..)(٢) ، (كما أرسل إليهم بونابرت مبعوثه قائلاً لهم: (أعترف أنّ الموارنة فرنسيّين مُنذ الأزل)(٣) .

ووجّه ملك فرنسا إلى أمير الموارنة الرسالة التالية: (.. نحن مقتنعين بأنّ هذه الأمّة التي تنتسب إلى القدّيس مارون هي جزء من الأُمّة الفرنسيّة)(٤) . كما كتب وزير البحريّة الفرنسيّة عام ١٧٥٠م إلى القناصل الفرنسيّين في الدولة العثمانيّة: (إنّ الرهبان الموارنة الذين يؤلّفون رهبنة(مارانطونيوس) في جبل لبنان، قد شملهم الملك بحمايته الخاصّة في كلّ وقت، وقد توسّطوا إلى جلالته أنْ يُجدّد تلك الحماية ويثبّتها لهم، فتنازل جلالته واستجاب طلبهم وأوصاني أنْ أكتب إليكم، أنْ تعاملوهم كما تعاملون المُرسلين الفرنسيّين، الموجودين في الشرق من قِبل جلالته..)(٥) .

____________________

(١) الدكتور عتريسي، طلال - البعثات اليسوعيّة: ٤٩.

(٢) Baudicour. Louis De: Le France en syrie – paris ١٨٦٠ – p. ٦.

(٣) Rochementeix C.P.J: Leban Et I ex pedition Frandcaise En Syrie ١٨٦٠ – ١٨٦١ Documents Inedits Du General A. Ducroit Paris ١٩٢١ – p. ٧٩.

(٤) المصدر السابق، عتريسي: ٧٠.

(٥) الخورس بطرس غالي - (فرنسا صديقة ومحامية): ٣٢٦ - ٣٢٧. ذكره الكوثراني: ٤٤.

١١٥

وتزداد هذه الحقيقة وضوحاً إذا عرفنا (إنّ فرنسا تعتبر نفسها مسؤولةً عن حماية مسيحيّي المشرق أمام الباب العالي، وإنّ هذه المسؤوليّة تشكّل دعماً أساسيّاً لقوّتها في المشرق، ولا يُمكن لرجال الدين الذين تُرسلهم روما، أنْ يتجاوزوا هذه الحماية القانونيّة والعمليّة)(١) .

ولم يقتصر الأمر على الطوائف المسيحيّة، بل استُخدم اليهود في الشرق كرَتل خامس، ورجال المعلومات الخاصّة. فمثلاً (عندما قامت الثورة الفرنسيّة، التي لعبت اليهوديّة الفرنسيّة فيها دوراً خطيراً، قامت اليهوديّة العالميّة بخدمات جليلة لحساب نابليون بونابرت، حيث تحوّل اليهود في أوربّا وفي الشرق العربي إلى طابورٍ خامس يعمل لحساب جيوش بونابرت، وتقديراً لتلك الخدمات التي تبلغ مرتبة الخيانة العُظمى لشعوب دول روسيا القيصريّة، أعلن نابليون هيئة السنهدريون، وكوّن فرقة من اليهود لإعادتهم إلى فلسطين، إلاّ أنّ المشروع لم يتحقّق لظروفٍ لم تكن مواتية)(٢) .

ح - توصية المستشرقين الفرنسيّين لحكوماتهم المتعاقبة، على اعتماد أُسلوب التجزئة للبلاد الإسلاميّة، وتدمير البُنى الأساسيّة لها ثقافيّاً واجتماعيّاً واقتصاديّاً، وتركهم ضعفاء لا يملكون القدرة على مواجهة تيار العلمانيّة الفرنسيّة الجديد.

ولعلّ من أبرز من كان لهم الدور الأساسي في تنظير هذه التوصيات، هو(ماسنيون) أحد أكبر أئمّة المدرسة الاستشراقيّة الفرنسيّة، خصوصاً عندما أصبح مستشاراً لوزارة المستعمرات الفرنسيّة، وتدلّنا الوثائق العديدة التي نشرت وما زالت تُنشر أنّ فرنسا قبل وبعد دخولها إلى الشام، قد قامت من خلال الاستعانة بالمستشرقين وتوصياتهم بعدّة دراسات عن الوضع الاجتماعي والطائفي

____________________

(١) شقالييه دومينيك، مجتمع جبل لبنان: ٢٦١.

(٢) السعدين، مصطفى - أضواء على الصهيونيّة: ١٠.

١١٦

والاقتصادي.. وإنّها قد صمّمت سياسةً فرنسيّةً خاصّةً بها، تقوم على تصوّرات دقيقة ومتعدّدة، منها ما يخصّ تصميم البنية السياسيّة، وبناء الدولة وإقامة الأنظمة الطائفيّة، أو تسليط طبقة من النصارى على المؤسّسات السياسيّة والثقافيّة والاقتصاديّة الحسّاسة.. وهذه كلّها تهدف إلى نقطةٍ جوهريّةٍ وأساسيّة، هي: ضمان إبعاد الإسلام عن مسرح الحياة، والنشاط السياسي والثقافي، وخلق أنظمة علمانيّة، وإعداد الكوادر والقيادات السياسيّة المواكبة لها(١) .

كما جاء أيضاً في تقرير(ديبوسك) إلى وزارة الخارجيّة الفرنسيّة: (لقد تسنّى لي في القاهرة وبيروت ودمشق أنْ أطّلع على الآراء الحميمة، التي باح لي بها بعض المسلمين الذين يحتلّون مراكز مرموقة، فلقد صرّح لي هؤلاء ببساطة: أنّ الوفاق مع المسيحيّين يبدو في نظرهم ضروريّاً؛ لأنّ المسيحيّين هم أذكي منهم، وخصوصاً أكثر ثقافةً منهم، وبالتالي فهم أجدر في إظهار مطالباتهم الخاصّة.

ومن جهتهم فلقد صرّح لي مسيحيّون أعضاء في المجالس - يقصد مجالس اللجان العربيّة - بأنّهم لا يرتجون عن طريق انضمامهم إلى صفوف المسلمين سوى تدخّل فرنسا، وفضلاً عن ذلك فأنّهم - أيّ المسيحيّين - خلافاً لما يعتقده المسلمون، يرون أنّه ليس بإمكان سوريا أنْ تحكم نفسها بنفسها، إلاّ أنّهم يتجنّبون مواجهة المسلمين بذلك)(٢) .

وبنفس الاتّجاه يوصي القسسيمون حكومته الفرنسيّة قائلاً: (إنّ الوحدة الإسلاميّة تجمع آمال الشعوب السمْر وتساعدهم على التخلّص من السيطرة الأوربيّة).. ولذا (قالوا: يجب أنْ تحوَّل بالتبشير مجاري التفكير في الوحدة الإسلاميّة)(٣) .

____________________

(١) للمؤلّف - السياسة الفرنسيّة في الشرق الأوسط: ١١٠.

(٢) الكوثراني، وجيه - بلاد الشام: ٣١٦.

(٣) الدكتور خالدي، مصطفى والدكتور فروخ، عمر - التبشير والاستعمار في البلاد العربيّة: ٣٧.

١١٧

وعلى ضوء ذلك فقد قام الاستعمار الفرنسي بإنشاء كيانات مُجزّأة سياسيّاً واقتصاديّاً وسكّانيّاً، وفقا للنماذج والأشكال القوميّة الغربيّة والعلمانيّة، وبذلك يتمكّن الاستعمار الفرنسي وشُركاؤه أنْ يطمئنّوا إلى أنّ البلاد الإسلاميّة، أصبحت لا تشكّل خطراً على نفوذهم ومصالحهم حاضراً ولا مستقبلاً، فالمسلم في (تشاد) هو (تشادي) لا علاقة له بما يجري في (المغرب) أو (تونس) لأنّ الآخرين (مغاربة) أو (تونسيون)... وهكذا الأمر في كافّة أنحاء العالم الإسلامي(١) .

ط - اعتماد أُسلوب تربية وإعداد قادة ومفكّرين للعالم الإسلامي، على النهج العلماني من خلال الجامعات الفرنسيّة، التي يشرف عليها كبار رجال الاستشراق الفرنسي، المتميّزين بقدرتهم على الدسّ في الإسلامي وتشويه صورة مجتمعاته الإسلاميّة.

وكان على رأس أساتذة ومنظّري هذه الأُطروحة، هو المشرف الروحي للكنائس المسيحيّة البروتستانتيّة الفرنسيّة لما وراء البحار، والمستشرق الشهيرماسنيون ، الذي تعهّد مجموعة من أنبغ رجال الشرق - كما يصفهم - حتّى قال بشأن أحدهم وهو(ميشيل عفلق) مؤسّس حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي ظلّ يلعب دوراً أساسيّاً في قيادة بعض الأنظمة العلمانيّة في الشرق الأوسط، طيلة الفترة بعد الحرب العالميّة الثانيّة: (إنّه أنبغ وأعزّ تلميذ في حياتي)(٢) .

ويتحدّث الباحث الفرنسي دانيال لوغاك في كتابه (باسم فلسطين) عن دور فرنسا أيّام الاحتلال في تنمية ورعاية حزب البعث فيقول: (إنّ ميشيل عفلق، وبدرجةٍ أقلّ من صلاح الدين البيطار (الأبوين المؤسّسين للبعث) مدينان جزئيّاً لفرنسا بتأليف الحزب الأكثر تماسكاً والأكثر تأثيراً في العالم العربي

____________________

(١) للمؤلّف - السياسة الفرنسيّة في الشرق الأوسط: ٧٥.

(٢) بلوط، عليّ - دمشق.. إعدام البعث / مجلّة الدستور اللبنانيّة.

١١٨

بأسره)(١) .

وكان لابدّ من التمهيد لهذا الأمر عن طريق تشويه صورة الإسلام، في كتب وبرامج التعليم المعتمدة في المدارس والجامعات، المؤسّسة بهدف صياغة وإعداد الكوادر والقادة السياسيّين على الطريقة العلمانيّة الفرنسيّة، فقد جاء في كتاب (البحث عن الدين الحقيقي)، الذي صدر عن مؤسّسات التعليم الفرنسي في باريس، وعاش هذا الكتاب في المدارس النصرانيّة في الشرق والغرب حتّى اليوم: (إنّ الإسلام عدوّ للمسيحيّة وإنّه أُسّس بقوّة السيف، وقام على أشدّ أنواع التعصّب... ويؤكّد هذا الكتاب - أيضاً - أنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد سمح لأتباعه بالفجور والسلب(٢) .

وقد حملت مؤسّسات اليسوعيّين على تنوّعها، أهدافاً تتكامل فيما بينها، من نشر الثقافة الفرنسيّة، وسيطرة لغتها وأفكارها، إلى إعداد (النخبة القائدة) التي تمثّل الهدف الرئيسي بينها؛ (لأنّ إعداد النخبة المسيحيّة.. يسمح لهذه الجماعة التي أثقل كاهله النيّر الإسلامي، أنْ تتحضّر شيئاً فشيئاً.

وقد أعدّ المرسلون لساعة الحريّة، طبقة وسطى قادرة على انتزاع الفائدة، ونخبة ذكيّة، مثقفّة ومؤهّلة لقيادة الأُمم المحرّرة.. غنّه لواجب على المرسلين أنْ يُطوّروا النخبة الأهليّة ويضاعفوها، وذلك بانتظار اليوم الذي ستترك فيه سوريا ولبنان، لكن هناك شيء يجب الانتباه والإشارة إليه، ذلك: إنّ النخبة لا تبقى كذلك إلاّ إذا سيطرت، وإذا أردنا توسيع هذه النخبة، فيجب ألاّ نخفض مستواها بأنْ نفتح المجال أمام الجميع لتولّي المراكز والمسؤوليّات، وذلك تفادياً للإخلال بالتوازن والانسجام الاجتماعي في

____________________

(١) دانيال لوغاك - باسم فلسطين/ إصدار البعث العربي الاشتراكي - سلسلة الدراسات السياسيّة: ٦٤.

(٢) الدكتور خالدي، مصطفى والدكتور فروخ، عمر - التبشير والاستعمار في البلاد العربيّة: ٧٢.

١١٩

البلد)(١) .

ويرى بعضهم أنّ (المدارس قوّةٌ لجعل الناشئين تحت تأثير التعليم المسيحي أكثر من كلّ قوّةٍ أُخرى، ثمّ إنّ هذه التأثير يستمر حتّى يشمل أولئك الذين سيصبحون يوماً ما قادة في أوطانهم)(٢) ، ويؤكّد آخرون على أنّه (كان للمبشّرين غاية من التعليم العالي، هي أنْ يؤثّروا في قادة الرأي في البلاد، وفي الجيل الناشئ في الشرق الأدنى خاصّة، ذلك التأثير الذي لا يمكن أنْ يتحقّق إذا لم يكن ثمّة تعليم عال)(٣) .

وعلى هذا الأساس أوجد المبشّرون البروتستانت كليّة في بيروت عام ١٨٦٢م ن وجعلوا على رأسها المحترم (دانيال بلس).

هذه الكليّة أصبحت فيما بعد: الكليّة السوريّة الإنجيليّة ثمّ هي اليوم الجامعة الأميركيّة في بيروت.

ومِن رأي المبشّرين أنْ تؤسَّس الكليّات في المراكز الإسلاميّة، ولذلك لم يكتفوا ببيروت، بل أرادوا أنْ تكون ثمّة كليّة في القاهرة نفسها إلى جانب الأزهر.. ولم يكن رأي المبشّرين الفرنسيّين مخالفاً لذلك فأنشأوا كليّة لهم في مدينة لاهور، وهي مدينة من المدن الإسلاميّة الكبرى(٤) .

ي - انتهاج طريقة إحياء الفكر القومي والطائفي، والدعوة إلى تنظيم الحركات القوميّة العلمانيّة والطائفيّة على أساسه، لتكون الأساس في حركة المجتمع الإسلامي السياسيّة.

ولا تنفرد المدرسة الاستشراقيّة الفرنسيّة بهذه الميّزة نظريّاً، بل إنّها تمثّل رؤية عامّة لدى كافّة المدارس الاستشراقيّة. فهذا المبشر الشهير (صموئيل زويمر) أحد كبار المستشرقين يقول: (إنّ أوّل ما يجب عمله للقضاء

____________________

(١) Revue D Historie Des Missions p. ٣٣٤. ٣٣٥،

(٢) Milligan ١٢٤ – ٥.

(٣) Milligan ١٦٤.

(٤) الدكتور خالدي، مصطفى والدكتور فروخ، عمر - التبشير والاستعمار في البلاد العربيّة: ٧٩.

١٢٠