كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين10%

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 376

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين
  • البداية
  • السابق
  • 376 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 127162 / تحميل: 8225
الحجم الحجم الحجم
كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين

مؤلف:
العربية

كتاب الثّقلين

الإسلام و شُبهات المستشرقين

الشيخ فؤاد كاظم المقدادي

١

٢

كتاب الثّقلين

الإسلام و شُبهات المستشرقين

الشيخ فؤاد كاظم المقدادي

المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)

سلسلة كُتب دوريّة تصدر عن مجلّة رسالة الثقلين

٣

٤

كَلِمَةُ المَجَلَّةِ

ابتُلي الحقّ على امتداد مسيرة البشريّة بالجهل، ولأنّ مِن طبيعة الإنسان أنْ يكون عدوّاً لما جهل، فإنّ الحقّ بدوره عانى من جهل الجاهلين ومواقفهم المتزمّتة الشيء الكثير، ولكنّ الحقّ هو المنتصر على طول الخطّ؛ لأنّ الله هو الغالب، وليس نصيب الجهل والتزمّت إلاّ الاندحار والخذلان.

والإسلام العظيم رسالةُ خاتم الأنبياء محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى الأرض، وهو الحقّ الذي ليس وراءه حقّ، وكيف لا يكون كذلك وهو هديّة الحقّ المتعال إلى عباده؟ إنّه وحي السماء الذي رسمه القرآن الكريم بكلماتٍ من نور، ليكون هدىً لا ريب فيه للعالمين، ومنقذاً لهم من الضلال والظلمات إلى الصراط الجليّ المستقيم.

لقد عانت الأديان الإلهيّة جمعاء، منذ بزوغ شمسها على هذه الأرض ومنذ أنْ صدع الرسُل والأنبياء بها، عانت العداء السافر، والمواجهات الساخنة التي كان الجَهَلة يواجهون بها رُسُل الله تعالى وأنبياءه ورسالاتهم الحقّة، إذ لم يقف هؤلاء عند حدّ رفضهم لما يُحييهم، بل تجاوز الأمر ذلك إلى الحرب الشرسة بالكلمةِ واليد، ولم يسلم نبيّ قطّ من مثل هذه المواقف، ولم تنجُ رسالة من مثل هذا العداء.

وكان الإسلام المحمّديّ الأصيل هدفاً لسهام الأعداء وغرضاً لنهجهم العدائي، لا لشيءٍ إلاّ لأنّ الإسلام هو الخطر الحقيقي الذي يهدد أفكارهم ومناهجهم، ويقف حائلاً منيعاً دون تحقّق رَغَبَاتهم الشرّيرة وأطماعهم الخبيثة في

٥

نشر الانحراف والزيغ، وتمكين الطواغيت مِن التحكّم والسيطرة اللاشرعيّة على خيرات البلاد ومقدّرات العباد.

وكانت الأساليب التي يستخدمها أعداء الإسلام متعدّدة ووسائلهم مختلفة، وكلّها تصبّ - رغم اختلافهم فيما بينهم - في هدفٍ واحد هو القضاء على الإسلام ورسالته الخالدة، فكانت الحرب النفسيّة والاقتصاديّة والفكريّة والثقافيّة والعسكريّة في نهاية المطاف، عندما تكون الظروف مواتية للأعداء لشنّ حربهم على الإسلام والمسلمين، كما هو الحال في الحروب الصليبيّة الممتدّة منذ مئات السنين، والتي لم يخمد أوارها ولم تهدأ فورتها منذ اشتعالها.

وقد كانت تلك الحروب على ثلاثة خطوط:

١ - الخطّ العسكري في المواجهة، متمثّلاً بالهجوم على البلاد الإسلاميّة واحتلال أراضيها وقتل أبنائها وتشريد رجالها، وغيرها من الأساليب ووسائل المواجهة العسكريّة.

٢ - الخطّ الاقتصادي، متمثّلاً بنهب خيرات البلدان الإسلاميّة وفرض الحصار عليها.

٣ - الخطّ الثقافي الفكري، متمثّلاً بالغزو الثقافي المقيت وما يمهّد له من خطط جهنميّة، هي تشويه المفاهيم الإسلاميّة والدسّ والتشكيك في مصداقيّتها ونهجها القويم.

وهذا الخطّ هو الذي عمِل عليه أكثر المستشرقين، وعبّأوا كلّ طاقاتهم وسخّروا كلّ إمكانيّاتهم من أجل إحكام خططه وتنفيذ فقراته، إذ إنّ هدف هؤلاء المستشرقين هو المسلم الأصيل، وقبله المسلم العادي، فإنّ بذر الشكّ في نفسه وزعزعة إيمانه بالمبادئ الحقّة التي يعتنقها، هو خير سبيل لحرفه وإبعاده عن دينه ثم السيطرة عليه نهائيّاً وتحويله من عدوٍّ للكفر والفساد إلى عدوٍّ للإسلام والرشاد.

٦

إنّ هؤلاء المستشرقين ببحوثهم ودراساتهم الاستشراقيّة حول الإسلام والمسلمين مهّدوا الطريق لزرع بذور الشكّ من خلال دسّهم وتشويههم للمبادئ الإسلاميّة، وحقّقوا في نفوس بعض المسلمين قابليّة الاستعمار، فأصبح البعض من المسلمين يدعون إلى الانحراف والتبعيّة للغرب، ويحاربون الإسلام وعقيدته جهلاً منهم وضلالاً.

لقد تقنّع هؤلاء المستشرقون بقناع البحث العلمي لإضفاء الصبغة العلميّة على بحوثهم، حتّى يتمكنّوا مِن خلالها من خداع وتضليل الجَهَلة وضِعَاف النفوس الذين لم يدخل الإيمان قلوبَهم، ولم تكن لهم القدرة على التمييز بين الخطأ والصواب والغثّ والسمين.

والكتاب الذي بين يديّ القارئ الكريم يُسلّط الأضواء على واقع المستشرقين، وطبيعة بحوثهم ودراساتهم وأهدافهم، ومدى تأثيرهم في مسيرة الأحداث، ويفتح أعيُن المسلمين على هذا الموضوع الحسّاس والخطير، حتّى يكون المسلم على بصيرةٍ من أمره واعياً لما يحيكه أعداء الإسلام من مؤامرات، محصّناً بالفكر والحجّة والدليل لردّ جميع الشبهات التي يثيرها هؤلاء المستشرقون ضدّ إسلامه الحنيف وعقيدته الخالدة.

ويمتاز هذا الكتاب بأُسلوبه السلس ومنهجيّته العلميّة التي استندت في مناقشتها وطرحها إلى المصادر الموثوقة، وقد بذل الكاتبسماحة الشيخ المقدادي الجهد الكثير من أجل التعرّف على الأساليب والأهداف والنتائج التي وصل إليها المستشرقون، وناقش الشبهات بروح علميّة موضوعيّة بعيدة عن التعنّت والتعصّب.

وسيدرك القارئ الكريم عند متابعته لبحوث الكتاب هذه الحقيقة ويعرف مدى الجهد الذي بذله الكاتب المحقّق في هذا السبيل من أجل الدفاع عن كيان

٧

الإسلام وحومة المسلمين، وقد حدّد وبيّن بصورة خاصّة الكثير من الشبهات التي أثارها أعداء الإسلام، وخاصّةً المستشرقون منهم وردّها رداً علميّاً منطقيّاً لا يدع مجالاً للتردّد في الاقتناع به وقبوله.

نتمنّى أنْ تكون هذه الدارسة القيّمة محلّ اهتمام المسلمين، لكي يتعرّفوا على الملابسات والظروف العصيبة التي مرّ ويمرّ بها الإسلام خصوصاً في هذه الفترة العصيبة، حيث يجتمع كلّ الأعداء شرقاً وغرباً للفتك بالإسلام والمسلمين( ...وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ.. ) .

صدق الله العليّ العظيم.

هيئة التحرير

مجلّة رسالة الثقلين

٨

مُقدَّمَةٌ

للعلاّمة الشيخ محمّد عليّ التّسخيرى

الأمين العامّ للمجمع العالميّ لأهل البيت (عليه السلام)

لقد كانت فكرة إصدار سلسلة (كتاب الثقلين) فكرة جيدة... يقف القارئ الكريم فيها على كلّ الفكرة التي جاءت متفرّقةً وفي أعدادٍ متعدّدة، ممّا يعطيه صورةً كاملة عن الموضوع... وما انتشر منها لحدِّ الآن يوضّح الفوائد الجمّة من تحقيق هذه الفكرة.

وموضوع هذا الكتاب من أهمّ المواضيع التي شغلت بال المخلصين والمفكّرين من أبناء هذه الأُمّة لعقود طويلة.. إلا وهو موضوع (المستشرقين)، فرغم وجود بعض العناصر المخلصة أو المحايدة فيهم، فإنّ الغالبيّة العظمى منهم جاءت لتدرس الإسلام مِن خلال موقف نفسي مسبق مِلؤه الحقد والسعي للتشويه - بل والتمهيد - لتحقيق هزيمة نفسيّة للمسلمين تسبق الحملة العسكريّة المنظمة، التي كان يخطّط لها أُولئك الذين دفعوا هؤلاء لمثل هذه الأساليب.

وقد حاول هؤلاء تشويه التاريخ الإسلامي والتشكيك في كلّ المقدّسات الإسلاميّة، وإثارة الشُبهات حول النسب السماوي للقرآن الكريم، والسلوك الطاهر لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته الطاهرين وصحابته المنتجبين، منتحلين الكثير من القصص ومستغلّين الكثير من الفجوات الموجودة - مع الأسف - في تواريخنا

٩

ومرويّاتنا لتحقيق هدفهم المشؤوم، مما دفع الكاتب الكريمالأُستاذ المقدادي لعرض هذه الشبهات والتنبيه على مكامن الخطر فيها، متتبّعاً نشأة الاستشراق وعوامله ومستعرضاً بعض مدارسه المشهورة ومُركّزاً على ما دسّوه في الإنتاج الموسوعي، ودوائر المعارف الشهيرة، ومبيّناً جوانب الخلْط والخطأ الفادح فيها، فإلى مطالعة هذا الكتاب الجيد ندعو القرّاء الأعزّة راجين للأُستاذ الفاضل الكاتب كلّ موفقيّة وسداد في عمله المبارك.

محمّد عليّ التسخيري

١٠

المدخل

أهلُ الكتابِ وَالثَّقلينِ

١١

١٢

منذ بزوغ فجر الإسلام، وصدوع الرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالدعوة الجديدة، تنادت قُوى الكفر والشرك والضلال، وأجمعتَ أمرها على التصدّي لها بكلّ ما تملك من وسائل، وحاولت جاهدةً القضاء عليها في مهدها مستهدفةً ثقليها الكريمين: القرآن المجيد والرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام).

وكان لأهل الكتاب، ممّن نكثوا العهد ونقضوا المواثيق المأخوذة عليهم من قِبَلِ أنبيائهم بالالتحام مع الرسالة المحمّديّة، الدور الأكبر والجهد الفاعل في التصدّي والتآمر على شخص الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وعلى الرسالة التي جاء بها.

ولعلّ ما يؤكّد ذلك هو أنّ من أكثر ما تناوله القرآن الكريم ونزلت به آياتٌ كريمة بهذا الصدد يتعلّق بأهل الكتاب، من بيانٍ لطبيعة سلوكهم وموقفهم من الثقلين، وإرشاد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى ما يجب أنْ يتّخذه من موقف رسالي تجاههم.

فقد بلغت الآيات القرآنيّة الكريمة النازلة بهم (٢٦٧ آية تقريباً)، وهذا يدلّ دلالةً واضحةً على أهميّة دورهم، وخطرهم على حركة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في تثبيت دعائم الرسالة الإسلاميّة، وضمان مستقبلها على صعيد حفظها من التحريف والتزوير، وتبليغها لكافّة الناس، وامتداد لوائها إلى أقصى أمصار الأرض.

ومِن الواضح أنّ الآيات الكريمة في هذا المجال تنقسم إلى قسمين رئيسيّين، وقد يتداخل القسمان في الآية الواحدة وقد ينفصلان، وقد تتداخل مفردتان تفصيليّتان فيها أو أكثر وقد تستقلّ بواحدة.

ونستعرض كلاً منهما كالآتي:

١٣

القسم الأوّل

الآيات الناظرة إلى موقف أهل الكتاب من الثقلين، ويُمكن عرضها على شكل عناوين تفصيليّة تُظهر لنا أبرز مواقفهم تلك:

١ - كتمان الحقّ وتحريفه:

وهُم يعلمون... ففي الآيات المبيّنة التالية نرى أنّ كلّ آيةٍ منها تجري مع الخطّ الأساسي العريض في مجموعها، وهو خطّ المواجهة بين أهل الكتاب والثقلين وبها يتجلّى ما بذله هؤلاء الأعداء من جهدٍ وحيلةٍ، ومن مكيدةٍ وخداع، ومن كِذْب ولبسٍ للحقّ بالباطل، وبثّ الريب والشكوك وتبييت الشرّ والضرّ لهما بلا توقّف ولا انقطاع، كما في قوله تعالى:( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) (١) .

وقوله تعالى:( مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ... ) (٢) .

وقوله تعالى:( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ) (٣) .

وقوله تعالى:( أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (٤) .

ومِن المثير في موقفهم هذا أنّهم كانوا ينتظرون بزوغ فجر الدين الجديد، وكانوا يبشّرون به ويفتخرون على غيرهم مِن الأُمم والأديان بأنّ النبيّ المتوقّع

____________________

(١) آل عمران: ٧١.

(٢) النساء: ٤٦.

(٣) آل عمران: ١٨٧.

(٤) البقرة: ٧٥.

١٤

سيكون منهم، ولكنْ ما إنْ جاءهم حتّى كفروا به.

قال تعالى:( وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ) (١) .

ثم إنّهم كانوا يعرفون النبيّ محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) باسمه وبمشخّصاته، ولكنْ بعد أنْ بعثه الله سبحانه لم يؤمنوا به، كما جاء ذلك في قوله تعالى:( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) (٢) .

وقوله تعالى:( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (٣) .

٢ - نقض العهود والمواثيق:

وهُم لا يتّقون... رغم كلّ ما أخذه عليهم أنبياؤهم مِن مواثيق وعهود بضرورة الإيمان بالرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) المبشَّر به في كتبهم وبما يأتي به من كتاب الله.

ومن صريح الآيات في ذلك قوله تعالى:( الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ ) (٤) .

وقوله تعالى:( أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) (٥) .

وقوله تعالى:( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا

____________________

(١) البقرة: ٨٩.

(٢) الأنعام: ٢٠.

(٣) البقرة: ١٤٦.

(٤) الأنفال: ٥٦.

(٥) البقرة: ١٠٠.

١٥

تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ) (١) .

٣ - النفاق والتضليل:

وما يضلّون إلاّ أنفسهم وما يشعرون... قال تعالى:( وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ) (٢) .

وقال أيضاً:( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (٣) .

وقوله تعالى:( وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلا مَا يُؤْمِنُونَ ) (٤) .

وقوله تعالى:( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) (٥) .

وبهذا الأُسلوب حاول بعضهم جاهدين التوغّل في صفوف المسلمين، عن طريق مؤامرةٍ خسيسةٍ كشفها الله سبحانه وتعالى، وأوضح خطّتها الرامية لزعزعة الإيمان وإخراج المسلمين من عقيدتهم وهي تقوم على أساس التظاهر

____________________

(١) آل عمران: ١٨٧.

(٢) آل عمران: ٦٩.

(٣) المائدة: ٤١.

(٤) البقرة: ٨٨.

(٥) البقرة: ٤٤.

١٦

بالإيمان بالرسالة ثُمّ الانسحاب منها بحجّة التوصّل إلى قناعةٍ تامّة ببطلانها وبطلان دعوى النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالنبوّة، قال تعالى:( وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) (١) .

وعلى نفس النهج يكشف الله تعالى مؤامراتهم الواحدة تلو الأُخرى كالتي يشير إليها قوله تعالى:( وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (٢) .

٤ - الحسد والتعصّب:

كأنّهم لا يعلمون... فقد استولت على فريق من أهل الكتاب هذه الحالة الطاغية من الحسد والحقد والتعصب عندما حصحص الحق وبان لهم حدّه، فراحوا يكيدون للثقلين ما وسعتهم المكائد واحتوته نفوسهم المريضة من خداع وتزييف.. ومن الآيات المحكمات التي تسوق لنا هذه الحقيقة هي قوله تعالى:( وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (٣) .

وقوله تعالى:( وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ... ) (٤) .

____________________

(١) آل عمران: ٧٢.

(٢) آل عمران: ٧٨.

(٣) البقرة: ١٠١.

(٤) البقرة: ١٠٩.

١٧

وقوله تعالى:( مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) (١) .

وقوله تعالى:( وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ) (٢) .

وقوله تعالى:( وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (٣) .

وقوله تعالى:( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً ) (٤) .

٥ - التعالي والاستهزاء:

لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون... وهذا أُسلوبٌ آخر تميّز به المُكابرون مِن أهل الكتاب، فهو لغةُ مَن أعيَته السُبل فراح يتخبّط في وهمٍ أغمض فيه عينيه عن الحقائق، هارباً من الحقّ إلى الباطل، تارةً بمسلك العتوّ والاستعلاء وأُخرى بمنطق السُخرِيَة والاستهزاء كما تشير إليه آياتٌ كريمة، منها قوله تعالى في الذين هادوا:( ... وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ

____________________

(١) البقرة: ١٠٥.

(٢) البقرة: ٨٩.

(٣) البقرة: ١٣٥.

(٤) النساء: ٥١.

١٨

لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلاً ) (١) .

وقوله تعالى:( وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (٢) .

وقوله تعالى:( وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) (٣) .

٦ - الحقد والعدوان:

لبئس ما كانوا يعملون..... مِن صدٍّ عن سبيل الله ومسارعتهم في الإثم والعدوان، بعد أنْ رأوا دين الله يعلو وينتشر وأمرُ نبيّه محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يذيع بين القبائل والأُمم... فأعدّوا العدّة للحرب والعدوان... بِدءاً بمعركةِ النصارى مع المسلمين في مُؤتة، التي استشهد فيها جعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة وزيد بن حارثة، فمعركة اليرموك وما بعدها...

ومنه ما كان مِن اليهود الذين عُرِفوا بالخيانة ونقض العهود، كالذي حدَث في معركة الأحزاب عندما نقضوا العهد مع النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وتحالفوا مع المشركين ضدّه... وكذا واقعة خيبر التي كانت كانت فيها هزيمتهم الماحقة على يد الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وقد عرَضت آياتٌ من القرآن الكريم هذهِ النزعة فيهم... ويظهر هذا الموقف مِن خلال جملةٍ من آيات القرآن كما في قوله تعالى:( وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا

____________________

(١) النساء: ٤٦.

(٢) آل عمران: ٧٥.

(٣) المائدة: ١٨.

١٩

كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (١) .

وقوله تعالى:( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ) (٢) .

وقوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ... ) (٣) .

وقوله تعالى:( فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا ) (٤) .

القسم الثاني

الآيات المرشدة للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والمسدّدة له في اتّخاذ الموقف الإلهي مِن سلوك ومواقف أهل الكتاب. ولعلّ أبرز عناوينها التي تحدّد تلك المواقف الإلهيّة هي:

١ - دعوة أهل الكتاب وترغيبهم فيه:

قد جاءكم من الله نورٌ وكتابٌ مبين..... ففي الآيات التالية حكايةٌ وبيانٌ بليغ لذلك.

قال تعالى:( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ) (٥) .

وقال تعالى:( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ

____________________

(١) المائدة: ٦٢.

(٢) المائدة: ٥٩.

(٣) التوبة: ٣٤.

(٤) النساء: ١٦٠.

(٥) المائدة: ١٥.

٢٠

الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (١) .

٢ - التحاجّ إلى الحقّ:

فانْ تولّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون..... وصريح هذا الموقف الإلهي للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نجده في قوله تعالى:( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) (٢) .

وقوله تعالى:( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ) (٣) .

وقوله تعالى:( أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ) (٤) .

وقوله تعالى:( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ... ) (٥) .

وقوله تعالى:( هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (٦) .

____________________

(١) المائدة: ١٩.

(٢) آل عمران: ٦٤.

(٣) آل عمران: ٢٣.

(٤) الأنعام: ١١٤.

(٥) المائدة: ٦٨.

(٦) آل عمران: ٦٦.

٢١

وقوله تعالى:( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ) (١) .

٣ - الردّ على شُبهاتهم:

ثُمّ ذرهم في خوضهم يلعبون..... وآيات هذا الموقف كثيرة، منها قوله تعالى:( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ) (٢) .

وقوله تعالى:( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ) (٣) .

وقوله تعالى:( وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) (٤) .

٤ - كشف نواياهم وامتحان مدى صدقهم:

والله أعلم بما كانوا يكتمون..... كما في قوله تعالى:( وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ ) (٥) .

____________________

(١) آل عمران: ٧٠.

(٢) الأنعام: ٩١.

(٣) المائدة: ٦٤.

(٤) البقرة: ٨٠.

(٥) المائدة: ٦١.

٢٢

وقوله تعالى:( الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) (١) .

وكذا قوله تعالى - في امتحان مدى صدقهم -:( قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) (٢) .

٥ - إنصاف طلاّب الحق منهم:

أُولئك لهم أجرهم عند ربهم.... كما في قوله تعالى:( وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) (٣) .

وغالباً ما يكون هؤلاء من المنتظرين بإخلاصٍ وصدق، لبعثة الرسول بالرسالة الإسلاميّة الموعودة، ويدلّ على ذلك قوله تعالى:( لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ... ) (٤) .

وقوله تعالى:( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ ) (٥) .

٦ - رفض ولايتهم:

ومن يتولّهم منكم فإنّه منهم.... فقد جاء في الخطاب الإلهي للمؤمنين قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ

____________________

(١) آل عمران: ١٨٣.

(٢) الجمعة: ٦.

(٣) آل عمران: ١٩٩.

(٤) النساء: ١٦٢.

(٥) القصص: ٥٢.

٢٣

بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) (١) ، وكذلك قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (٢) .

وأيضاً في قوله تعالى:( وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ) (٣) .

٧ - احترام العهود والمواثيق معهم:

إنّ الله يحبّ المتّقين... وبيان ذلك مِن خلال شمول إطلاق المشركين لأهل الكتاب في قوله تعالى:( إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ) (٤) .

وقوله تعالى:( .... إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ) (٥) .

وكذلك في خطاب الله سبحانه لبني إسرائيل في قوله تعالى:( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ) (٦) .

٨ - الحذر من إغوائهم وتضليلهم:

إنّ الله يعلم ما يُسرّون وما يُعلنون... ويظهر لنا هذا المعنى مِن خلال سياق

____________________

(١) المائدة: ٥١.

(٢) المائدة: ٥٧.

(٣) المائدة: ٨١.

(٤) التوبة: ٤.

(٥) التوبة: ٧.

(٦) البقرة: ٤٠.

٢٤

آياتٍ كريمةٍ في قوله تعالى:( أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ * أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ) (١) .

وكذلك في قوله تعالى:( وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ ) (٢) .

وأيضاً قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ) (٣) .

٩ - التهديد والوعيد للمعاندين منهم:

فإنّ الله سريع الحساب... وفي هذا نجد مجموعةً مِن الآيات الكريمة صريحةً في بيانها، شديدةً في مدلولها، كما في قوله تعالى:( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) (٤) .

وأيضاً قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (٥) .

وقوله تعالى:( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ

____________________

(١) البقرة: ٧٥ - ٧٧.

(٢) البقرة: ١٤٥.

(٣) آل عمران: ١٠٠.

(٤) آل عمران: ١٩.

(٥) البقرة: ١٧٤.

٢٥

عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ) (١) .

وقوله تعالى:( لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ) (٢) .

١٠ - لعن وقتال المحاربين منهم:

حتّى يُعطوا الجِزية عن يدٍ وهم صاغرون... وهذا صريحٌ مبيّن في قوله تعالى:( قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ) (٣) ، وكذلك في قوله تعالى:( هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ ) (٤) .

وهكذا جاءت الآية الكريمة من قوله تعالى:( وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً ) (٥) .

____________________

(١) البقرة: ٧٩.

(٢) آل عمران: ١٨١.

(٣) التوبة: ٢٩.

(٤) الحشر: ٢.

(٥) الأحزاب: ٢٦.

٢٦

العداء دائم ما دامت علّته

فمن قوله تعالى:( وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (١) . وقوله تعالى:( وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) (٢) .

نعرف أنّ العلّة الأساسيّة للموقف العدائي لأهل الكتاب مِن ثقليّ الرسالة الإسلاميّة (القرآن الكريم والعترة الطاهرة) قائمة دائمة في محور المواجهة بينهما، وهي عدم رضا أهل الكتاب عن المسلمين وأئمّتهم حتّى يتّبعوا ملّتهم، ولا ينحصر هذا العناد والعداء بمرحلة دون أُخرى، بل يمتد في الأرض ما انتشر الإسلام، ويتزامن عبر العصور مع كل قيامِ شوكةٍ للمسلمين، إلاّ أنّه يتكيّف ويتشكّل بما يُوحيه إليهم شيطانهم من مكرٍ وخديعةٍ وخُبثٍ ووقيعة، وفي مقدّمتها المواجهة الفكريّة والإعلاميّة بكافّة أشكالها وكيفيّاتها...

ومنها ما اصطلح عليه مؤخّراً بالاستشراق... ويبقى موقفنا منهم متقوّماً بنفس ما أرشد إليه القرآن الكريم نبيّنا محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهو ما استعرضناه في مدخل كتابنا هذا... وفي الفصول التالية سنتناول بشيءٍ من التفصيل هذا الشكل من المواجهة لثقليّ الإسلام وعطاءاتهما الرساليّة للبشريّة.

____________________

(١) البقرة: ١٣٥.

(٢) البقرة: ١٢٠.

٢٧

٢٨

الفصل الأوّل

نشأة الاستشراق

* هويّة الاستشراق.

* النشأة والبدايات.

* نشأة الاستشراق والاقتران بالتبشير.

* نشأة الاستشراق بين النَّهج العلمي والاستعداد التبشيري.

* مبدأ الاستشراق اختراق ثقافي لدحر المسلمين في أوربّا.

* الاستعراب أوّلا ثمّ الاستشراق.

* بروز نظريّات الاستشراق الاستعماري.

٢٩

٣٠

هوية الاستشراق

تعريف الاستشراق:

يُعرّف الاستشراق اصطلاحاً بأنّه: (العلم باللّغات والآداب والعلوم الشرقيّة)(١) ، والعالم بها يُسمّى بالمُسْتَشْرِق والذي ينحصر مصداقهُ عادةً بالمتخصّص الغربي بتلك العلوم.

ومن خلال الاستقراء الشامل لمّا تمخّض عنهُ الاستشراق فعلاً، نجد أنّ الغالب على ما تناوله من الشرق هو الإسلام معارف وحضارة، وعليه يُمكن بَدواً موافقة المُستشرق الفرنسي الشهير(مكسيم رودنسون) في تعريفه للاستشراق بأنهُ: (اتّجاه علمي لدراسة الشرق الإسلامي وحضارته)(٢) .

وبما أنّ الاستشراق نشأ على يد الأوربّيّين، لذلك كان متماشياً ومتناسباً مع طبيعة الفكر الأوربّي في كلّ مرحلةٍ من مراحلهِ التاريخيّة، وكذلك منسجماً مع نظرة أوربّا إلى الشرق وبالخصوص الشرق الإسلامي، فعندما كانت الطبيعة التبشيريّة هي السمة البارزة للفكر والحكومات الأُوربيّة كان الاستشراق يندفع بهذا الاتجاه، ويتأكّد هذا إذا كان المستشرق ينطلق في عمله من خلال مؤسّسة تبشيريّة، حينئذٍ سيأخذ الاستشراق مساراً وحركةً ذات اتجاهاً تبشيريّاً وليس علميّاً محضاً، فيمتد عمل المُستشرق ليشمل كلّ ما يخدم مهمّة التبشير، فهو

____________________

(١) المنجد - مادّة (شرق).

(٢) رودنسون، مكسيم، حوار تحت عنوان (الاستشراق في الميزان)، مجلّة رسالة الجهاد، العدد ٧٠.

٣١

عندما يتناول الإسلام فكراً وحضارة بالبحث والدراسة، سيكون ذلك على ضوء ما تمليه عليه طبيعة الفكر التبشيري... ويشير إلى ذلك المُستشرق(در منغهام) في معرض بيانه عن النفي الكيفي، وإثارة الشكوك في مُعطيات السُنّة النبويّة والتاريخ الإسلامي، من قِبل المستشرقين (ذوي الدوافع التبشيريّة) فيقول: (مِن المُؤسف حقّاً أنْ غالى بعض هؤلاء المتخصّصين - من أمثال (موير، ومرجليوث، ونولدكه، وشبرنجر، ودوري، وكيتاني، ومارسني، وغريم، وغولد صيهر، وغودفروا)، وغيرهم - في النقد أحياناً، فلم تزل كتبهم عاملَ هدمٍ على الخصوص.

ومن المُحزن أنْ لا تزال النتائج التي انتهى إليها المُستشرقون سلبيّةً وناقصة، ولنْ تقوم سيرةٌ على النفي، وليس مِن مقاصد كتابي، أنْ يقوم على سلسلةٍ من المجادلات المتناقضة... ومِن دواعي الأسف أنْ كان الأب (لامانسي) الذي هو مِن أشهر المستشرقين المعاصرين، ومن أشدهم تعصّباً وأنّهُ شوَّهَ كتبه الرائعة الدقيقة وأفسدها بكرهه للإسلام ونبيّ الإسلام، فعند هذا العالِم اليسوعي أنّ الحديث إذا وافق القرآن كان منقولاً عن القرآن، فلا أدري كيف يُمكن تأليف التاريخ إذا اقتضى تطابق الدليلين تهادمهما بحكم الضرورة، بدلاً مِن أنْ يُؤيد أحدهما الآخر؟)(١) .

كما نجد ذلك واضحاً في مجموعة من المجلاّت الاستشراقيّة كمجلّة (العالم الإسلامي) التي يصدرها المُستشرقون الأميركيّون والتي أنشأها(صموئيل زويمر) (٢) في سنة ١٩١١م وتصدر الآن من(هار تفورد) بأميركا ورئيس تحريرها

____________________

(١) در منغهام - حياة محمّد - المقدّمة ص٨ - ١١.

(ومع ذلك فقد وقع در منغهم في نفس الداء ونفث في كتابه هذا سُمّاً ناقعاً ومفاهيماً سيّئةً منكرة عن الإسلام ونبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

(٢) صموئيل زويمر: (١٨٦٧ - ١٩٥٢م) مستشرق أميركي محرّر مجلّة (عالم الإسلام)، له مؤلّفات عن الإسلام في العالم وعن العلاقات بين المسيحيّة والإسلام، منها(يسوع في إحياء الغزالي) - (القاموس المنجد (في الإعلام).

= كان أحد أعضاء الإرساليّة الأميركيّة العربيّة [التبشيريّة] التي تأسّست عام ١٨٨٩م وقد افتتح مع المُبشّر(جيمس كانتين) أوّل محطّة عمل تبشيريّة لهذه الإرساليّة في البصرة عام ١٨٩١م، ثُمّ تلتها محطّة البحرين التبشيريّة عام ١٨٩٣م، واستمرّ في أداء دوره التبشيري في منطقة الخليج العربي بمشاريع متنوّعة هادفة بهذا الاتّجاه.

(د. التميمي، عبد الملك خلف - التبشير في منطقة الخليج العربي ص٤٥ - ٧٠).

٣٢

(كنيث كراج) وطابع هذه المجلّة تبشيري سافر، وللمستشرقين مجلّةٌ شبيهة بتلك المجلّة في روحها واتّجاهها العدائي التبشيري، وتحمّل نفس الاسم (العالم الإسلامي) مع العلم أنّ أغلب المحرّرين لمثل هذه المجلاّت هُم مِن المبشّرين، كالقسّيس(ا. ا. الدر) والقسيس(ا. بشوب) والقسّيس(ل. ل. براون) والقسّيس(د. م. دونالدستون) (١) .

وهكذا عندما يكون طابع الفكر الأوربّي السائد هو الطابع الاستعماري (بالمعنى الحديث للمصطلح) فإنْ الاستشراق يندفع بهذا الاتجاه ليخدم كل ما من شأنه تكريس الاستعمار، كتزويد الحكومات المستعمرة بالدراسات والتحليلات الوافية عن الشرق والبلاد المستعمّرة، وكذلك تزيين صورة المُستعمرين، وتبرير مُمارساتهم وإظهارهم بمظهر المُنقذ والمُحرِّر وحامل راية الحرّية والحضارة مثلاً، أو قد يكون المُستشرق عاملاً في إحدى مؤسّسات الدول الاستعماريّة بصورة رسميّة، كأنْ يكون مثلاً مستشاراً لوزارة المستعمرات في هذه الدول، كما هو الحال بالنسبة للمُستشرق الفرنسي(هانوتو) ، الذي كان يعمل مستشاراً لوزارة الاستعمار الفرنسيّة، نجدهُ يتّجه في دراساته الاستشراقيّة إلى كلّ ما يخدم الحركة الاستعماريّة لفرنسا في الشرق، بل يُحاول توظيف رعيلٍ مِن المُستشرقين لهذا الغرض من خلال رسم مناهج بحثهم ودراساتهم الاستشراقيّة من وحي الدوافع الاستعماريّة لبلاد الشرق الإسلامي...

وهكذا يصب الجهد الاستشراقي في الإطار الاستعماري لأُوربّا بشكلٍ

____________________

(١) الدكتور محمّد البهي - الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي.

٣٣

مباشر أو غير مباشر.

ومن نماذج ذلك ما كتبه(هانوتو) هذا عن المسلمين وعقيدتهم، واضعاً المقترحات الضروريّة في نَظَره لتوجيه سياسة فرنسا في مستعمراتها الإفريقيّة الإسلاميّة تحت عنوان (قد أصبحنا اليوم إزاء الإسلام والمسألة الإسلاميّة)، وقد نشرت جريدة(المؤيّد) في تمام القرن التاسع عشر ترجمة لمقالتهِ هذه، نورد مقاطع منها هي قولهُ: (... في تلك البقعة الإفريقيّة التي أصبحت مقرّ مُلك الإسلام، جاءت الدولة الفرنسيّة لمباغتته.

جاء القدّيس لويس - الذي ينتمي إلى إسبانيا بوالدته - ليضرم نيران القتال في مصر وتونس، وتلاه لويس الرابع عشر في تهديده الإمارات الإفريقية الإسلاميّة، وعاود هذا الخاطر نابليون الأوّل، فلم يوفّق في تحقيقه الفرنسيون إلاّ في القرن التاسع عشر، حيثُ أخنوا على دولة الإسلام التي كانت لا تني في متابعة الغارات على القارّة الأوربيّة، فأصبحت الجزائر في أيديهم مُنذ سبعين عاماً، وكذلك القطر التونسي منذ عشرين عاماً).

(... إذَن فقد صارت فرنسا بكلّ مكان في صِلة مع الإسلام، بل صارت في صدر الإسلام وكبده، حيث فتحت أراضيه وأخضعت لسطواتها شعوبهُ وقامت تجاههُ مقام رُؤسائه الأوّلين، وهي تدير اليوم شؤونهُ وتجبي ضرائبه، وتحشد شبابه لخدمة الجنديّة، وتتّخذ منهم عساكر يذبّون عنها في مواقف الطِعان ومواطن القتال).

(إنّ شعباً جمهوريّ المبادئ (شعب فرنسا) يبلغ عدد نفوسه أربعين مليوناً لا مُرشد لهُ إلاّ نفسهُ - لا عائلات ملوكيّة فيه يتنازعْنَ عن الحكم، ولا رُؤساء يتناولون الرئاسة بطريق الوراثة - هو الذي تقلّد زمام إدارة شعبٍ آخر لا يلبث أنْ ينمو حتّى يساويه في العدد، وهو ذلك الشعب المنتشر في الأرجاء الفسيحة والأصقاع المجهولة، والمُتّبع لتقاليدٍ وعاداتٍ غير التي نقولها ونحترمها... هو الشعب

٣٤

الإسلاميّ الساميّ الأصل، الذي يحمل إليه الشعب الآري المسيحي الجمهوري الآن مِلح المدنية وروحها!!

ليس الإسلام في داخلنا فقط، بل هو خارج عنّا أيضاً... قريبٌ منّا في(مراكش) تلك البلاد الخفيّة الأسرار،... قريبٌ منّا في(طرابلس الغرب) ، التي تتمّ بها المواصلات الأخيرة بين مركز الإسلام في البحر الأبيض المتوسّط، وبين الطوائف في باطن القارّة الإفريقية، قريبٌ منّا في(مصر) حيثُ تصادمت معنا الدولة البريطانيّة فصادمنا إيّاها في الأقطار الهنديّة، وهو موجود وشائعٌ في(آسيا) ، حيث لا يزال قائماً في بيت المقدِس وناشراً أعلامهُ على (مهد الإنسانيّة مقرّ المسيح)، ويحسب أنصاره وأشياعهُ في قارّات الأرض القديمة بالملايين، وقد انبعثت منهُ شعبةٌ في بلاد الصين فانتشر فيها انتشاراً هائلاً، حتّى ذهب البعض إلى القول بأنّ العشرين مليوناً مِن المسلمين الموجودين في الصين لا يلبثون أنْ يصيروا مِئة مليون، فيقوم الدعاء لله مقام الدعاء(لساكياموني) ، وليس هذا بالأمر الغريب، فإنّه منتشرٌ في الآفاق...).

(لا تظنّوا أنّ هذا الإسلام الخارجي الذي تجمعهُ جامعة فكرٍ واحد، غريب عن إسلامنا (في تونس والجزائر)، ولا علاقة له به؛ لأنهُ وإنْ كانت البلاد (الإسلاميّة) التي تحكمها شعوب مسيحيّة ليست في الحقيقة بـ (دار إسلام) وإنّما هي دار حرب، فإنّها لا تزال عزيزة ومُوقّرة في قلب كلّ مسلم صحيح الإيمان، والغضب لا يزال يحوم حول قلوبهم كما تحوم أنثى الأسد حول قفص جلست فيه صغارها، وربما كانت قضبان هذا القفص ليست متقاربة ولا بدرجة من المتانة تمنعها عن الدخول إليها من بينها).

(يُؤخذ ممّا تقدّم أنّ جراثيم الخطر لا تزال موجودة في ثنيّات الفتوح، وعلى أفكار المقهورين الذين أتعبتهم النَكبات التي حاقت بهم، ولكنْ لم تثبط هِمَمَهُم،

٣٥

نعم ليس لمقاومتهم رُؤساء يشدّون هذهِ المقاومة، ولكن رابطة الإخاء الجامعة لأفراد العالم الإسلامي بأسره كافلة بالرئاسة... ففي مسألة علاقتنا مع الإسلام تجد المسألة الإسلاميّة والمسألة الدينيّة والمسائل الداخليّة والخارجيّة، شديدة الاتّصال بعضها ببعض، وهذا ما يجعل حلّها صعباً ومتعذّراً، كما سنبيّنهُ).

هذا الدافع (الاستعماري) الذي تجلّى عند المُستشرق الفرنسي(هانوتو) ، خلَق تلك النظرة إلى المسلمين في آسيا وإفريقيا، وهي نفسها التي يحملها المُستعمر الفرنسي والإنجليزي والهولندي عند تعامله مَعَهم وتوجيهه إيّاهم، وبهذا تتّضح سياسة الاستعمار في الشرق الإسلامي مِن خلال توجيه الاستشراق كحركة، وتوسيع مفهومه مِن الإطار العلمي المحض إلى إطار حركة الاستعمار وأهدافه.

وقد لا يكون وراء الاستشراق كحركة دافعٌ واحد يُضاف إلى مُدّعى الدافع العلمي، بل كثيراً ما تجتمع وراءه دوافع متعدّدة تنحو به باتّجاه استيعاب كلّ الأغراض والأهداف المشتركة للقوى الكامنة وراءه، فيندفع في مرحلةٍ تأريخيّة واحدة باتجاهات متعدّدة، هدفها تشويه وتحريف العقائد والمتبنّيات الفكريّة السائدة في الدائرة التي تتناولها دراسات المستشرقين وأبحاثهم، ومثال ذلك ما ذكره لنا الكاتب (أنور الجندي) في معرض بيانه لمخطّطات الاستشراق في ضرب الإسلام والوحدة الإسلاميّة من خلال نظرته إلى مصدر الدين، فيقول:

(حاول الاستشراق فرض مفهومه أنّ الدين ظاهرةٌ اجتماعيّةٌ لم تنزل من السماء، وإنّما خرجت من الأرض، كما خرجت الجماعة نفسها على النحو الذي قال به(دوركايم) (١) ومدرسة العلوم الاجتماعيّة التي يتصدّر لقيادتها الاستشراق اليهودي والتي خضع لها وخُدِعَ بها الكثير من الأسماء اللامعة من الذين تلقّوا

____________________

(١) دوركايم (أميل) (١٨٥٨ - ١٩١٧م): عالم اجتماعي فرنسي، قال: إنّ المجتمع هو مصدر الأحداث الأدبيّة والدينيّة. (القاموس المنجد (في الأعلام).

٣٦

تعليمهم في أوائل هذا القرن في(السوربون) وغيرها وفي مقدّمتهم(طه حسين) و(محمود عزمي) وغيرهم.

وينظر الاستشراق (والمنهج الغربي كلّه) إلى الأديان جميعاً من خلال مقولة مضلّلة تقول: إنّ الأديان ظاهرة اجتماعيّة وظاهرة مرحليّة تلت مرحلة الوثنيّة، وأعقبتها مرحلة العلم التي لم يَعُد الإنسان أو المجتمع خلالها في حاجةٍ إلى وصاية الدين، وإنّ الأمم الراقية الآن لا تحتاج إلى الدين أصلاً.

ومِن ثمّ فإنّ الاستشراق يمضي إلى التشكيك في قاعدة (عالميّة الإسلام) وختم الرسالة، ويفتح الباب واسعاً أمام دعوات البهائيّة والقاديانيّة في الدعوة إلى وحدة الأديان، كما يشير دائماً إلى ما ترمي إليه الماسونيّة ممّا يطلق عليه دين البشريّة(الهومنيزم).

وهذهِ كلّها محاولات تجتمع عليه مخطّطات الاستشراق الغربي والماركسي والصهيوني، في محاولة إزاحة الإسلام والتشكيك فيه(١) .

من كلّ ما سبق نخلص إلى أنّ الاستشراق كمفهوم، ليس اتّجاهاً علميّاً لدراسة الشرق الإسلامي وحضارته، كما ادّعاه المُستشرق الفرنسي الشهير (مكسيم رودنسون)، بل هو في حقيقته حركةٌ واسعةُ الدوافع والقُوى الكامنة وراءه حتّى استوعب في كثير من مراحله وأدواره أغلب التطلّعات الحضاريّة، لأُوربّا وحركتها الاستعماريّة في الشرق خصوصاً الإسلامي منه.

____________________

(١) الجندي، أنور - مجلّة منار الإسلام العدد ٧ - السنة ١٤ (مخطّطات الاستشراق).

٣٧

النشأة والبدايات

يرى المُتتبّع الفاحص لما احتوته الكتب والدراسات التي تبحث في تاريخ نشوء الاستشراق، وبداياته التكوينيّة، والأدوار التي مرّ بها، ومن خلال مقارنةٍ بين مضامينها، أنّها غالباً ما تكشف عن وحدة الرأي في طبيعة النشوء وصبغته، من أنّه نشَأ وبَدأ تبشيرياً في روحه وأهدافه، إلاّ أنّهم يختلفون في زمان نَشأته وبدايته بالمعنى المصطلح.

فمنهم من قال: إنّه نشأ في القرن التاسع الميلادي،كالدكتور سمير سلمان (١) .

ومنهم من قال: إنّه نشأ في القرن العاشر الميلادي،كبطرس البستاني (٢) ،ونجيب العقيقي (٣) ،ويوسف أسعد داغر (٤) . ومنهم مَن يعتقد بأنّه نَشأ في القرن الثاني عشر، مِن أمثالرودي بارت (٥) .

أمّا شوقي أبو خليل أُستاذ الحضارة العربيّة الإسلاميّة والاستشراق في كلّية الدعوة الإسلاميّة (فرع دمشق) فيقول: (إنّ بداية الاستشراق الفعلي كانت بعد فشل الحروب الصليبيّة.

لقد غادر لويس التاسع في ٨ أيار (مايو) عام ١٢٥٠م،

____________________

(١) مجلّة التوحيد - العدد ٣٢ - (الجذور التكوينيّة للاستشراق في الأندلس): ١٢٣.

(٢) أُدباء العرب في الأندلس وعصر الانبعاث: ٣٤٠.

(٣) المُستشرقون: ١١٠.

(٤) مصادر الدراسات الأدبيّة ٢: ٧٢٣.

(٥) الدراسات العربيّة والإسلاميّة في الجامعات الألمانيّة: ٩.

٣٨

مدينة دمياط مُتّجهاً إلى عكّا، وكانت صيحته بعد هزيمته: لنبدأ حرب الكلمة فهي وحدها القادرة على تمكّننا من هزيمة المسلمين)(١) .

وبهذا يكون قد وافق ما ذهب إليه محمّد البهيّ مِن أنّ الاستشراق قد نَشَأ في القرن الثالث عشر(٢) ، في حين قد ذهب البعض إلى القول باقتران نشوء الاستشراق بالقرارات التي صدَرت من قِبَل رؤوس السلطات الكنسيّة، التي كانت بيدها مقاليد الأُمور في رسم وتحديد سياسة دُول أوربّا في تلك العصور، فكان اتّخاذ قرار تأسيس عدد من الكراسي لتدريس اللغة العربيّة واليونانيّة والعبريّة والسريانيّة، في جامعات باريس وأكسفورد وبولونيا وأفينيون وسلامنكا، وبعض الجامعات الأوربيّة الأُخرى من قبل مجمع فيَنّا الكنسي عام ١٣١٢م فاتحة لبداية الاستشراق(٣) .

ولكلّ من أصحاب هذه الآراء التي سقناها مستند ودليل يعتمد عليه، إلاّ أنّ الأهم مِن كلّ ذلك هو اتّفاق أغلب الكتّاب عن الاستشراق من المسلمين وغيرهم، على أنّ نشأته كانت تبشيريّة في المحتوى والوسائل والأهداف.

وعليه لابدّ لنا مِن معرفة جذور هذه الصبغة لما لها من تأثيرٍ كبيرٍ في تشخيص مسار حركة الاستشراق، وتحديد الأدوار والمراحل التي مرّ بها، وإرسائها على أُسُس موضوعيّة من واقع النشأة والصيرورة، وصولاً إلى الأهداف الحقيقيّة التي تصبو لها هذه الحركة.

____________________

(١) مجلّة العالم - العدد ٢٤٨ - (الاستشراق والإسلام): ٣٤.

(٢) الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي: ٥٣٢.

(٣) سعيد، أدوارد (الاستشراق): ٦٦.

٣٩

نشأة الاستشراق والاقتران بالتبشير

نبدأ مسيرنا في البحث عن جذور الاستشراق مِن أوّل ظاهرةٍ تبشيريّة (بالمعنى المصطلح)، والتي قرنت فيما بعد بالاستشراق، متماشين مع مدعى بعض الكتّاب المعاصرين الذين كتبوا عنه، معتمدين على الأدلّة التاريخيّة التي تثبت أنّ نشأته كانت في القرن التاسع الميلادي كما أسلفنا سابقاً، وأنّ وطنه الأُم هو الأندلُس بعد الفتح الإسلامي لها واستقرار المسلمين فيها عام ٧١١م.

ولقد تزامنت هذه النشأة مع بداية تأجّج الصراع بين النصارى الأوربّيّين والمسلمين الأندلسيّين، والذي بَرَز على شكل ظواهر كان أوّلها نشوء حركة الاستشهاد عام ٨٥٠ م بقيادة بعض المسيحيّين المُتطرّفين ورجال الدين آنذاك، من أمثال القدّيس (أولوخيو) أو (أولوجيوس) و(البروقرطبي)، في عهد حكم الخليفة الأموي (عبد الرحمان الأوسط) الملقّب بالثاني، الذي حكم بلاد الأندلس في الفترة ما بين (٨٢٢ - ٨٥٢م)، بعد وفاة والدهالحكم الأول ابن هشام الأوّل ابن(عبد الرحمان الداخل) مؤسّس الدولة الأمويّة في الأندلس، والذي حكمها في الفترة ما بين (٧٥٦ - ٧٨٨م)(١) .

لقد كانت هذه الحركة تحكي في حقيقتها حالة التعصّب المُستعِر في صدور

____________________

(١) د. إبراهيم، حسن (تأريخ الإسلام) ٢: ٢٢٧.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376