كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين15%

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 376

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين
  • البداية
  • السابق
  • 376 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 127185 / تحميل: 8226
الحجم الحجم الحجم
كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

المُستعربين(١) من الذين أثارهم مدى نفوذ الإسلام، وقوّة تأثير الثقافة الإسلاميّة واللغة العربيّة في واقع الشعب الأسباني، فتحرّكوا لمواجهة هذا النفوذ والعمل على تفريغ محتواه من نفوس الأسبان، عن طريق إذكاء حالة العداء الديني وتغذيتها بأشكال الإثارة الحادّة ليتسنّى لهم دقّ إسفين الخلاف، ومِن ثمّ صبّ ذلك في محور تحريضي مباشر تجاه الخلافة الإسلاميّة.

حتّى إنّ بعض المُغالين من الرهبان كان يصرّ على التعرّض للإسلام، والطعن في النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، والنيل من المقدّسات الإسلاميّة للفوز بعقوبة الموت، مُعتقدين بأنّهم يكسبون بذلك شرف الشهادة الذي حُرِموه نتيجةً للتسامح الذي كان سِمةً من سِمات حكّامهم المسلمين في دار الخلافة بالأندلس.

وبالرغم من أنّ عدد هؤلاء المتعصّبين لم يكن كبيراً، إلاّ أنّ الحكومة قد خشيت آنذاك (سوء عاقبة هذه الحوادث وأوجست خيفة من أنّ احتقارهم سلطانهم، وعدم اكتراثهم بالقوانين التي سنّوها ضدّ مَن يطعن في دينهم (الإعدام)، قد يؤدّي إلى استفحال روح الكراهيّة، وذيوع حركة العصيان بين الأهلين كافّة)(٢) .

فعمدت إلى القضاء على حركة الاستشهاد، مستفيدةً من اعتدال الكثير من المُستعربين، وعدم تفاعلهم معها.

ولمّا كانت هذه الحركة عبارة عن إرهاص متشنّج يحكي حالة الرفض المتعصّب بطريقةٍ انفعاليّة هيمنت على أفكار المُتديّنين والقساوسة الأسبان - كما عبّر عنها(ريتشارد سوذرن) ووصفها: (بأنّها حركة ضدّ رضا العامّة بالحضارة العربيّة)(٣) - فقد خلقت أرضيّة لعمل فكري يهدف إلى معرفة وفهم

____________________

(١) استعرب: صار دخيلاً بين العرب. (القاموس المنجد، باب: عرب).

(٢) أرنولد، توماس - الدعوة إلى الإسلام - الترجمة العربيّة: ١٦٥ - ١٦٦.

(٣) سوذرن، ريتشارد - صورة الإسلام في أوربّا في العصور الوسطى: ٥٨.

٤١

العدوّ الإسلامي، ودراسة سرّ قوّته وتميّزه، ورفع الإبهام عن لغز تفوّقه وقدرته. أي بعبارةٍ أُخرى خلقت أرضيّة الاستشراق بروحه التبشيريّة.

أمّا لماذا لم يتم هذا العمل الفكري في الفترة التي كانت حركة الاستشهاد في أوجّها؟ فيقول (سوذرن): (إنّ كلاً من (أولوجيوس) و (ألبرو قرطبي) قائدَيّ الحركة كانا يعتقدان أنّ السيطرة الإسلاميّة هي بداية المقدّمة الضروريّة لظهور المسيح الدجّال، المذكور في كتبهم المقدّسة، وانسجم ذلك مع تأويلات خاطئة باقتراب يوم القيامة، وعلائمه التي كانت سائدة بين أوساط المجتمع الأوربّي المسيحي آنذاك.

إضافةً إلى أنّهما لم يكونا مؤهّلين للجهد الفكري المطلوب في معرفة وفهم العدوّ الإسلامي، كما وإنّهما - القائدَين - وأتباعهما لم يكونوا يريدون أنْ يعرفوا شيئاً)(١) لتَشبُّع قلوبهم بالبغض والكراهيّة والغضب على كلّ ما هو مُخالف لأفكارهم ومعتقداتهم الخرافيّة السائدة، وتأويلاتهم المنحرفة التي ما أنزل الله بها من سلطان.

ولم تكن الكنيسة الكاثوليكيّة بأحسن حالاً من هؤلاء، حيث لم تخرج عن دائرة هذا الجوّ العدائي.

فقد كانت أحد العوامل الرئيسيّة لتأجيج الصراع وتغذية الشعور المعادي للمسلمين، وإذكاء نار الحقد في صدور رعاياهم ضدهم بكلّ ما تهيّأ لها من وسائل وأُوتيت من قوّة، لما أدركته من تأثير الإسلام وسرعة نفوذه وكثرة المُقبلين عليه.

حيث يصف أحدُ المؤرّخين هذه الظاهرة فيقول: (بأنّ تأثّرهم بالإسلام كان بمحض إرادتهم في أغلب الأحيان)(٢) . وأخذت الكنيسة الكاثوليكيّة تدرك تدريجياً ومن موقع دفاعي ضرورة إعطاء النصارى أسباباً

____________________

(١) سوذرن، ريتشارد - صورة الإسلام في أوربّا في العصور الوسطى: ٥٩.

(٢) بروفنسال، ليفي (حضارة العرب في الأندلس) الترجمة العربيّة: ١٦ - ١٧.

٤٢

وجيهةً ليحافظوا على إيمانهم التقليدي الخاص، ويتحصّنوا داخله.

إلاّ أنّ هذه المساعي لم تنجح، فسرعان ما تأجّجت العصبيّات واستفحل العداء الشديد.

وعلى هذا نرى أنّ بدايات الاستشراق لم تكن منفصلة عن منظومة التنصير والتبشير، ولا عن الدوافع الدينيّة المتطرّفة التي كانت الأساس في نشأة الفهم الاستشراقي(١) ، فلا عجب إذن إذا رأينا الكثير من المُستشرقين يجهدون في تصوير العالم الإسلامي في كتاباتهم على أنّه بشعٌ في عاداته، قبيحٌ في أخلاقه، مليء بالبِدَع والانحرافات عن الدين السماوي الحقّ الذي جاء به المسيح النبيّ، ولا يتحرّزون عن اختلاق ما يدعم دعواهم تلك، وكلّ ما مِن شأنه زرع روح التشكيك في الإسلام وزعزعة اليقين بين أوساط المسلمين.

____________________

(١) راجع د. سلمان، سمير (الجذور التكوينيّة للاستشراق في الأندلس) مجلّة التوحيد - العدد ٣٢: ١١٦.

٤٣

نشأة الاستشراق بين النهج العلمي والاستعداء التبشيري

إنّ البدايات التي سجّلها الباحثون لنشأة الاستشراق لم تكن خارجة عن نطاق الصراع الذي تربّع أبطاله على صدر الأندلس، وتركوا آثار حقدهم وتعصّبهم شاخصةً على مرّ العصور، مُنزِلةً الضربة تلو الأُخرى بالوجود الإسلامي في الأندلس.

فالحرب التي شنّتها المسيحيّة على الإسلام حينذاك قد نحَت مَنحَيَيَن باتّجاهين مُتوازيين يعضد أحدهما الآخر، ويؤدّيان إلى هدفٍ واحد، ألا وهو القضاء على الخصم الذي غزاهم وهُم غارقون في سُباتٍ عميق.

الأوّل: كان يُريد تحقيق هذا الهدف بحدِّ السيف وإعلان الحرب المباشرة، لاجتثاث جذور الوجود الإسلامي بشكل سريع ونهائي.

والثاني: كان يرى أنّ دراسة العدو، واستثمار معارفه وعلومه، والاطلاع على مبادئه وأفكاره يشكّل الطريق السليم لمواجهة هذا العدوّ من خلال امتلاك سرّ قوّته، ومعرفة سُبل اجتثاثه من داخله.

إنّ الاختلاف الظاهري لهذين الاتّجاهين المعاديين للإسلام والذي أُريد له أنْ يبرز بشكلٍ مقصود، كان يُعبّئ الآخرين ويبرز ردود فعلٍ موسومةً بالتصلّب والتعدّي تارة، وبالمرونة وطَرقِ السُبل السلمية بغطاءِ العلم والمعرفة تارةً أُخرى.

إنّ ما قام به أسقف طُلَيطَلة مِن إخضاع النصارى الأسبان له، إثر تعرّض

٤٤

العلاقات والروابط بين الكرسي البابوي من جهة، والكنيسة من جهةٍ أُخرى للضعف والتردّي، أدّى إلى انفصال الأخيرة عن البابويّة، ممّا حدا بأسقف طُلَيطلة إلى إخراج ترجمات مبكّرة لبعض الكتب العلميّة العربيّة(١) .

وكما ذكر غابريلي في(تراث الإسلام) : (لقد استعربت المسيحيّة بسرعة لغويّاً وثقافيّاً)(٢) .

في الوقت الذي استمرّت الكنيسة على تصلّبها وأبرزت تعصّباً بالغ التزمّت تجاه أيّ تقاربٍ ومهادنة أو موقفِ صداقةٍ تفرضه الطبيعة العلميّة، أو ظروف التقارب الثقافي الذي قد يتّخذه بعض طلاب الثقافة والمعرفة الأوربيّين من الإسلام والثقافة الإسلاميّة.

ومِن أمثلة ردود الفعل المتعصّبة التي أفرزتها طبيعة الخلافات هذه، هو ما أعلنه البابا(غريغور التاسع) من أنّ فريدريك الثاني حاكم صِقلْيّة الذي أصبح إمبراطوراً لألمانيا في عام ١٢٢٠م قد خرج على الكنيسة، حيثُ كان(فريدريك) هذا مُستعرباً لغةً وثقافةً وعلوماً وعادات.

وقد أهدى كتباً فلسفيّة تُرجمت عن العربيّة إلى جامعات بولونيا وباريس، وعندما أصبح إمبراطوراً أسّس جامعة في نابولي سنة ١٢٢٤م، وجعل منها أكاديميّة لنقل المعارف الإسلاميّة إلى العالم الغربي(٣) .

وعليه فإنّ نشأة التبشير في الأندلس بدأت بهدف القضاء على الإسلام، والتبشير للمسيحيّة بين صفوف المسلمين الكَفَرَة - كما كانوا يسمّونهم - الذين قدموا من بلاد العرب وفتحوا الأندلس، أو الذين دخلوا الإسلام حديثاً والذين يطلق عليهم (المولدين)(٤) ، بعد أنْ ثبت لدى أغلب رجال الفكر

____________________

(١) زقزوق، محمود حمدي (الاستشراق والخلفيّة الفكريّة للصراع الحضاري): ٢٤.

(٢) غابريلي، فرانشسكو (تراث الإسلام) - القسم الأوّل - الترجمة العربيّة: ١٣٤.

(٣) رودنسون، مكسيم (جاذبيّة الإسلام) الترجمة العربيّة: ٣٢ و٣٣.

(٤) أُطلقت هذه التسمية على أبناء الأندلس القُدماء الذين انحدروا مِن آباء أسبان، وهؤلاء كانوا يمثّلون طبقة اجتماعيّة واسعة من المجتمع الأندلسي، دخلوا الإسلام أثناء الفتح، وحَسُن إسلام الكثير منهم. وكان منهم من أصحاب التآليف والتصانيف والمكانة العلميّة المرموقة. عن مجلّة نور الإسلام: ٢٧ - ٢٨/ (العصبيّات وآثارها في سقوط الأندلس).

٤٥

النصارى وعلمائهم أنّ الإسلام لا يُمكن القضاء عليه بالعمل العسكري، فدون ذلك خرط القتاد، وأنّ أيّ مواجهة سوف لنْ تثمر شيئاً ومحكومٌ عليها بالفشل والخُسران.

لذا فإنّ منظومة التبشير والتنصير قد تولّدت في أُتون الصراع المُستعِر بين الإسلام والكنيسة على الأرض الأندلسيّة، والتي شكّلت مُنذ القرن التاسع عشر الميلادي الخليّة الأولى في مشروع الاختراق الثقافي الأوربّي للوجود الإسلامي، تمهيداً للامتداد والسيطرة الاستعماريّة وبنشاطٍ منظّم.

فالتبشير مصطلحاً ونظريّة، يقوم على نشر المسيحيّة في جميع بقاع الأرض التي تخلو منها، وهو بمعنى آخر هجوم المسيحيّة على الديانات الأُخرى بهدف اقتلاعها مِن عقول ونفوس معتنقيها، والحلول محلّها بكلّ وسيلة (سلميّة) ممكنة، وتطرق في ذلك أبواباً شتّى للوصول إلى أهدافها، منها: معرفة لغة الناس المقصودين بالتبشير، ودراسة عاداتهم وقِيمهم ومعتقداتهم عن كثب، والتدخل (للمساعدة) في حلّ مشاكلهم الشخصيّة والاجتماعيّة والصحيّة(١) .

مستفيدين من حالة الجهل والأُميّة السائدة في أوساطهم، للتشكيك في عقائدهم كمقدّمة لزقّهم بالتعاليم النصرانيّة عن طريق مؤسّسات التربية والتعليم، كالمدارس والمعاهد والجامعات وأمثالها.

وهكذا بدأ التبشير حركتهُ الشاملة للقضاء على الوجود الإسلامي، متّخذاً صوراً وأشكالاً مختلفة، وكان الاستشراق أبرز صوره الفكريّة. وهكذا كان العلم والبحث العلمي الذي يفترض فيه سموّ الإنسان بتحصيله المتواصل للكمالات قد

____________________

(١) الطهطاوي، محمّد عزت إسماعيل (التبشير والاستشراق): ١ - ٣.

٤٦

استُخدِم أداةً مِن أدوات التخريب الحضاري لبلاد المسلمين، والاعتداء على تراثهم، والطعن بالباطل في دينهم. وكانت المآرب السياسيّة والتعصّب للدين من السمات الأساسيّة للحركة الاستشراقيّة، ومن العناوين الخفيّة للوحدة والانسجام بين الاستشراق والتبشير.

٤٧

مبدأ الاستشراق اختراق ثقافي لدحر المسلمين في أوربّا

لقد كان الصراع التدميري الذي خاضته الكنيسة ومن ورائها المستعربون المتعصبون من النصارى ضد المسلمين في الأندلس والذي برّز الاستشراق صورةً من صوره الفكريّة فيما بعد قد اتّخذ مسارين: الأوّل ديني، والثاني فكري وسياسي.

أوّلاً: المسار الديني:

يُمكن تلخيص الكاشف عن المسار الأوّل بما يلي:

أ - سعي الكنيسة الدائب لاسترداد أسبانيا مِن المسلمين وإعادتها إلى سلطتها، وأنّ تلكّؤ مساعيها في النجاح لا يعني هزيمتها، فحروب الأسبان (القدماء) كانت خاضعة للكرّ والفرّ، واستمرّت بأشكالٍ مختلفة، مِن حربِ عصاباتٍ إلى مناوشاتٍ مشحونةٍ بالعداء الديني، إلى تأجيج العصبيّات بصيغتها الدينيّة بين مختلف الطوائف والقبائل، حتّى استنزفت قُوى الدولة الأندلسيّة التي ما لبث التفكّك والتشرذم أنْ طال كيانها الناشئ، في الوقت الذي لم تحسم فيه المواجهة بين الطرفين المُتصارعين، واستمرّت تتناوب بين انكفاءٍ وتقدّم.

٤٨

وبدءاً بعام ٧٥٦م راحت الهَجَمَات الأسبانيّة تتوالى حتّى (أخذت شكلاً تكتّليّاً وحرباً مقدّسة صليبيّة بآخر المعاقل الإسلاميّة)(١) .

وهكذا استمرّ الحال حتّى سقوط غرناطة بأيدي الأسبان، ووصول الوجود الإسلامي في الأندلس إلى نهايته عام ١٤٩٢م بعد أنْ تواصل ثمانية قرون تقريباً.

ب - إنّ من جملة أسباب تفوّق الأسبان الأُوربّيّين في هذه الحرب هو أنّهم (استعاروا أُسلوب المسلمين في الجهاد المقدّس)(٢) فأفادت المسيحيّة الأسبانيّة من عقيدة خصمها، وخاضت غمار المواجهة بأحد أمضى أسلحة الخصم الإسلامي، وأنشأت (طوائف الفرسان الدينيّة في سانتياغو وكلاترافا وألكنترا، وفي الطوائف التي ذاع صيتها في السجلاّت التأريخيّة لحروب الاسترداد)(٣) . علماً (بأنّ الأُسلوب نفسه قد اعتمدته الحملات الصليبيّة أيضاً)(٤) .

ج - لقد ترك الصراع الذي خاضته الكنيسة ضدّ المسلمين في الأندلس آثاره على مسير الكاثوليكيّة الأسبانيّة، وجنَت منه فوائداً كبيرةً، منها تحوّل هذا الصراع إلى عامل أساسي في بناء أسبانيا، وتطوير تركيبتها الداخليّة الخاصّة وموقعها العام، خصوصاً على مستوى الحسّ الديني المُرهف الذي برز عند الأسبان أفراداً ومجتمعاً، مِن خلال ما تركته العلوم والآداب الإسلاميّة مِن آثار في أعماق وأُسُس الحضارة الأسبانيّة مُنذ العصور الوسطى وإلى يومنا هذا.

____________________

(١) زقزوق، محمود حمدي - (الاستشراق والخلفيّة الفكريّة للصراع الحضاري) مؤسّسة الرسالة، بيروت، ط٢، ١٩٨٥م.

(٢) لومبير، إيلي - (تطور العمارة الإسلاميّة في أسبانيا والبرتغال وشمال إفريقيا) الترجمة العربيّة: ١٤٤.

(٣) بروفنسال، ليفي - (حضارة العرب في الأندلس) الترجمة العربيّة: ١٦ و١٧.

(٤) قنواتي، جورج شحاته - (تراث الإسلام) القسم الثاني، الترجمة العربيّة: ٢٦٠.

٤٩

ثانياً: المسار الفكري والسياسي:

إنّ أبرز العوامل التي بلورت هذا المسار هي:

أ - إنّ النصارى مِن غلاة رجال الكنيسة والمُستعربين الأُوربّيّين الخاضعين للحكم الإسلامي، كانوا ينظرون إلى المسلمين على أنّهم محتلّون برابرة كَفَرة، ويحرّضهم على ذلك الشعور تعصّبهم الديني وجشعهم السياسي، وشهوة مُلوكهم التائقين إلى استرداد ما فقدوه بالقوّة عند الفتح الإسلامي.

ب - إنّ بعض الأُمراء الأمويّين لم يعملوا على إخضاع جميع المواقع المسيحيّة لحكمهم في شبه جزيرة أيبيريا، ممّا أعطى للأسبان فرصةً سانحةً في أنْ ينطلقوا لإثارة الحروب والفتن.

ج - السياسة غير الحكيمة التي مارسها أحياناً بعض الأُمراء الأمويّين ضدّ المُستعربين، وضدّ غيرهم مِن طوائف المجتمع الأندلسي كالصقالبة(١) ، والبربر(٢) ،

____________________

(١) الصقالبة: هم عند مؤرّخي العرب الشعوب السلافيّة القاطنة بين جبال الأورال والبحر الأدرياتيكي، وهُم من أُصول أوربيّة مختلفة، وينقسمون إلى قسمين: الأوّل منهم صقالبة الشمال (الروس والروس البيض والبولونيون)، وصقالبة الجنوب أو اليوغسلافيون (الصرب والكرواتيون والسلوفاكيون والبلغاريون).

وقد جيء بهم إلى الأندلس أطفالاً صغاراً ذكوراً وإناثاً، فنشأوا نشأةً عربيّة إسلاميّة في بلاط الملوك والحكّام. كان منهم العبيد المجنّدون في الخدمة العسكريّة، ومنهم القادة والكتّاب والأُدباء.

القاموس (المنجد في الأعلام) وكذلك مجلّة نور الإسلام، العددان ٢٧: ٢ و٢٨: ٣٤ من (العصبيّات وآثارها في سقوط الأندلس).

(٢) البَربَر: اسم يطلق على سكّان إفريقيا الشماليّة من برقة إلى المحيط، كانوا يتكلّمون لهجات أعجميّة قبل استعرابهم، ولا يزالون. ويرجع أصلهم إلى فِئات عرقيّة مختلفة استقرّت في البلاد قبل الميلاد، وعرفت بعض الازدهار مثل:(مملكة نوميديا ومملكة موريتانيا) .

لم يكونوا مرتاحين تماماً إلى حكم روما ولا إلى أسبانيا بقيادة أحدهم وهو طارق بن زياد، تبعوا الخوارج وأعلنوا العصيان على العباسيّين. توزعوا ممالك وسلالات، فكان منهم الأغالبة والرستميّون والمرابطون والموحّدون، ثمّ زالت دولتهم في أواخر القرن الثالث عشر الميلادي، وقد تحمّلوا القسم الأعظم مِن أعباء الفتح فقتل منهم في هذا السبيل الآلاف، وقد تأثّروا كثيراً بالدين الإسلامي، وأبدوا تحمّساً لنشره والدفاع عنه.

عن القاموس (المنجد في الأعلام) وكذلك مجلّة نور الإسلام، العددان ٢٥: ١ و٢٦: ٨ في = (العصبيّات وآثارها في سقوط الأندلس).

٥٠

والمولدين، ممّا أدّى إلى تنامي الشعور القومي والحساسيّة العرقيّة لدى المواطنين من قدامى الأسبان، وكذلك الذين استعربوا، فكانت مناطقهم مركزاً للمقاومة من قدامى الأسبان، وكذلك الذين استعربوا.

فكانت مناطقهم مركزاً للمقاومة العسكريّة النصرانية، ممّا سهّل لهم لعب دورٍ كبيرٍ لخوض حرب إيديولوجيّة سياسيّة.

د - بروز أجواء متوتّرة ساعدت على اعتماد القمع العنصري والقبلي، من قِبل الحكّام كَرَدّة فعل على الاضطرابات والأجواء المشحونة بالقلاقل، والتي كانت مدعومةً أحياناً من النصارى والمُستعربين والمُتعصّبين.

هـ - بروز صراعات سياسيّة وقبليّة بين المسلمين العرب أنفسهم، منها العصبيّة التي ثارت بين القيسيّين واليمنيّين، وأخذت العرقيّة القبليّة تنبض في نفوس أصحابها، فتطاحنوا (وتذابحوا وذهبت ريحهم)(١) . فانتهز المتربّصون بالحكم الإسلامي، والذين يصطادون في الماء العكر من نصارى الأسبان الفرصة للعصيان وإشعال فتيل الفتن والاضطرابات والتهيّؤ للمستقبل، الذي يأملون فيه القضاء على الحكم الإسلامي في الأندلس. فتدافعوا وجمعوا قواهم، واستعدّوا.

و - الدعم المباشر الذي قدّمه بهذا الاتّجاه النصارى الأوربّيون من الفرنسيّين وغيرهم بقيادة شارلمان (٧٤٢ - ٨١٤م) المعروف بتصدّيه التاريخي للانتشار الإسلامي في أوربّا، تمّ بمباركة البابا (أُوربانس الثاني) - الذي تسبّب فيما بعد بتأجيج الحروب الصليبيّة - عبر النداء الشهير الذي أطلقه في ٢٧ تشرين الثاني عام ١٠٩٥م، ودعا فيه نصارى أوربّا إلى الجهاد ضدّ الكَفَرَة المسلمين، وحمل السلاح لغزو الشرق، وهو نفسه الذي أعدّ حملةً مؤلّفةً في معظمها من (فرسان جنوب فرنسا) عام ١٠٨٩م لمساعدة نصارى الأسبان في مقاتلة

____________________

(١) بالنتيا، أ. جـ (تأريخ الفكر الأندلسي) الترجمة العربيّة: ١٧.

٥١

المسلمين في الأندلس(١) .

ز - الدور الذكيّ والمُخادع الذي لَعِبهألفونس الثالث (٨٦٦ - ٩١٠م) ملك أشتوريش وليون الاسباني في العمل الجاهد لاختراق المسلمين في الداخل ونشر الفرقة بينهم، حتّى نجح في استمالة المُستعربين الذين أسلموا حديثاً، مستنفراً فيهم كوامن المذهبيّة والطائفيّة، ممّا حداهم إلى رفض الإسلام والتمرّد على السلطة المركزيّة في قرطبة (ووعدهم بمنحهم الاستقلال إذا انقلبوا في اللحظة الحاسمة، ووقفوا إلى جانبه في موعد الهجوم على ضواحي قرطبة ومناطقها الشماليّة، وذلك مِن أجل أنْ يعيشوا أحراراً في أرضهم التي انتزعها المسلمون منهم بالعنف.

وإنّ وعدهم نصرتهم الملك، تعني استمرارهم كوسائل اقتصاديّة فقط، وكمصدر لإغناء خزينة الخلافة الإسلاميّة)(٢) .

وهكذا كانت عمليّة اختراق الوجود الإسلامي مِن قبل المُستعربين في الأندلس قد تمّت من زاويتين رئيسيّتين:

الأولى: بشريّة تشكل قوّة عسكريّة كبيرة العدد مدعومةً بالقوّة الأوربّية قادرة على ترجيح الكفّة من الناحية الإستراتيجيّة للمسيحيّة.

الثانية: إيديولوجيّة حضاريّة، وهي مدار بحثنا هذا، وهي الأهم والتي يُمكن أنْ يلعب مِن خلالها المُستعربون دوراً كبيراً في تقويم أوربّا الرازحة تحت وطأة التخلّف الحضاري، والخواء الثقافي، ورفدها بالمعارف والعلوم الحيويّة لنهضتها المخطّط لها. ثمّ إنّ دورهم هذا هو دينٌ عليهم وردٌ للجميل الذي قدّمته أوربّا لهم بمساعدتها لضرب الحكم الإسلامي.

وقد بذلت الكنيسة ومؤسّساتها كامل الجهد لاستيعاب كل هذه الأهداف

____________________

(١) لومبير، ايلي - (تطور العمارة الإسلاميّة في إسبانيا...) الترجمة العربيّة: ١٤٤.

(٢) بروفنسال، ليفي - (حضارة العرب في الأندلس) الترجمة العربيّة: ٧٩.

٥٢

في تخطيطٍ شاملٍ، وبرعاية السلطة السياسيّة وتشكيلاتها.

وهكذا كان، فقد ابتكرت الكنيسة حرباً جديدة ومواجهة غير مرتقبة، سلاحُها العلم والفكر واغتنام المفردات الحضاريّة للمسلمين، وتكييفها بالشكل الذي يسدُّ نقصهم وثغراتهم الأيديولوجيّة، ويمنحهم القدرة للتفوّق في هذا الجانب الأساسي على العدوّ الإسلامي. فبعد أنْ كان النصارى الأسبان يتخبّطون في ظُلمات جهلهم إبّان الفتح الإسلامي، ضُعفاء لا يملكون أسباب القوّة للردّ والمواجهة، أدركوا الآن قانوناً أساسيّاً من قوانين مقارعة الخصم والذي يتمثّل في معرفة الخصم وفهم حقيقته، وذلك عن طريق اكتشاف عوامل كماله ونقصه، وأسباب قوّته وضعفه، ومواطن ذلك في وجوده، ومن الذي يكمن وراء تفوّقه وهيمنته. وخلال دورة زمنيّة لم تطل كثيراً استطاعوا بإتقان أنْ يصلوا إلى أهدافهم، ويستحوذوا على كافّة مستلزمات المواجهة الشاملة لدحر المسلمين.

وفي طليعة انجازاتهم هذه:

أ - ما قام به الرُهبان مع بداية القرن التاسع من تعلّم اللغة العربيّة الفصحى، ومن ثمّ الإقبال على الترجمة عنها، وذلك (بناءً على تعليمات أساقفتهم)(١) . كما

____________________

(١) إنّ أوّل ترجمة (مزعومة) للقرآن يرجع تأريخها إلى عام ١١٤٣م، عندما أنهى إنجليزي وهو(روبرت الكتوني) بين ١٦ أيار و٣١ كانون الأوّل، من العام المذكور ترجمة لبعض معاني القرآن من العربيّة إلى اللاتينيّة، واستناداً إلى فهمه الشخصي. وكان هذا الرجل قد تنقّل في بعض البلدان الآسيويّة قبل انتقاله إلى برشلونة عام ١١٣٦م. وقد كانت ترجمته هذه بالإضافة إلى ترجمة كتب أُخرى من العربيّة إلى اللاتينية قد نمت تحت إشراف ورعاية أحد الأساقفة، وهو(بطرس الموقر) رئيس دير(كلوني) الفرنسي، وهو الدير الذي تخرّج منه البابا (أُوربانس الثاني) مؤجّج الحروب الصليبيّة. وكان الموقر هذا يرى في الإسلام خطراً فكريّاً شديداً على المسيحيّة لابد من التعرّف عليه لتمكن مكافحته بغير الوسائل العسكريّة.

راجع ما يلي:

خدابخش، صلاح الدين - (حضارة الإسلام) الترجمة العربيّة: ٤١ - ٤٢. وكذلك سوذرن، ريتشارد. (صورة الإسلام في أوربّا في العصور الوسطى): ٨٠ - ٨٢.

٥٣

جاء على لسان المُستشرق(فرانز روزنتال) بقوله: (وبتعلّم اللغة العربيّة باعتبارها لغة العلوم والفلسفة والفكر آنذاك، وبالاطلاع على القرآن وترجمته إلى اللاتينيّة، بهدفٍ وحيد وهو الوصول إلى فهمٍ عميق للتفكير الديني الكلامي عند المسلمين، أملاً في أنْ يُصبح الرهبان أقدر على التعرّف على هذا التفكير، واستغلال ما كانوا يتصوّرون أنّه مواطن الضعف فيه)(١) .

ب - قيام القساوسة والرهبان الأوربّيون، وكذلك الأسبان بحملةٍ ضخمةٍ لترجمة الفكر والثقافة الإسلاميّة وعطاءاتها الحضاريّة الإنسانيّة، وبذلك تمكّنوا مِن تأسيس أوّل شبكة إيديولوجيّة للاستشراق الغربي، مستهدفين بذلك مقاومة الإسلام ومحاصرته سياسيّاً وفكرياً وعقائديّاً بعيداً عن أيّ هدفٍ علمي منزّه(٢) ، واضعين نصب أعينهم إعادة المجد التليد، والبريق القديم الذي فقدته النصرانيّة هدفاً لهم، مخطّطين لحملاتٍ ضخمةٍ للتنصير، عبر منهجَين متضادَين ومتوازيَين ظاهريّاً: أحدهما علمي يستند إلى البحث والدراسة بقصد المعرفة والكشف، والآخر سياسي تطويقي يهدف إلى تدمير وتصفية الخصم بأيّ وسيلةٍ ممكنة. وبذلك تتوظّف كلّ الجهود العلميّة والسياسيّة لتحقيق الهدف التنصيري.

ويشهد على ذلك قول(رودي بارت) : (كان موقف الغرب المسيحي في العصر الوسيط من الإسلام هو موقف الدفع والمشاحنة فحسب. صحيح أنْ العلماء ورجال اللاهوت في العصر الوسيط كانوا يتّصلون بالمصادر الأُولى في تعرّفهم على الإسلام، وكانوا يتّصلون بها على نطاق كبير، ولكن كلّ محاولةٍ لتقويم هذه

____________________

(١) فوك، يوهان - (المُستشرقون الألمان): ١٥.

(٢) سمايلو فيتش، أحمد - (فلسفة الاستشراق وأثرها في الأدب العربي المعاصر): ٤٩. وكذلك مقدّمة مصطفى محمود لكتاب سمايلو فيتش: ٣. وكذلك خدابخش، صلاح الدين في (حضارة الإسلام) الترجمة العربيّة: ٣٥.

٥٤

المصادر على نحوٍ موضوعي نوعاً ما كانت تصطدم بحكمٍ سابقٍ يتمثّل في أنّ الدين المعادي للمسيحيّة لا يُمكن أنْ يكون فيه خير)(١) .

ج - ودعماً لهذا المخطّط فقد رافقت تلك الفترة استخدام أبشع وسائل الاضطهاد، وممارسة شتّى أنواع التنكيل بالمسلمين، وارتكاب أفضع جرائم القهر الديني والسياسي بحقّهم، ومحاربتهم نفسيّاً واقتصاديّاً، وصُودرت نتاجاتهم العلميّة والثقافيّة ونُسِبت إلى غيرهم من أعدائهم، وعملت الكنيسة على تأسيس محاكم التفتيش(٢) التي نكّلت بمَن تبقّى من المسلمين الأندلسيّين بعد سقوط الأندلس وغرناطة في أواخر القرن الخامس عشر، وأُعطيت صلاحيّات استثنائيّة واسعة أيّامفرديناند (٣) ،وإيزابيلا (٤) ،وفيليب الثاني (٥) ، وشمِل التقتيل والإحراق

____________________

(١) كراتشقوفسكي، إغناطيوس. (دراسات في تأريخ الأدب العربي) الترجمة العربيّة: ٧٥.

(٢) يُعزى تأسيس محاكم التفتيش إلى البابا(غريغور السابع) عام ١٣٣٣م، عندما أمر بتشكيل لجنة من كلّ قريةٍ أو بلدةٍ يرأسها قسّ، وبعضوية شخصيّتين بارزتين وذلك للتفتيش عن الهراطقة ومحاكمتهم (وقد أطلقت تسمية الهراطقة عند النصارى على أهل البدعة في الدين. والمقصود بهم هنا الذين ينتمون إلى الدين الإسلامي في بلاد النصارى). ثمّ ما لبث أنْ تسلّم المحاكم هذه جماعة الدومنيكان وغيرهم من الرهبان. وجماعة الدومنيكان أو ما يُطلق عليهم: الأُخوة الواعظون: هُم أعضاء الرهبانيّة التي أسّسها القدّيسعبد الأحد لدحض البِدَع عام ١٣٠٦م، وكانوا أرباب التعليم الفلسفي واللاهوتي في القرون الوسطى. دخلوا البلاد الشرقيّة في القرن السابع عشر، أسّسوا كليريكيّة الموصل عام ١٨٨٢م (وهي البيع التي يخدم فيها الشمامسة والقساوسة والأساقفة)، وكانت لهم فيها مطبعة عربيّة شهيرة، ولهم في القدس مدرسة الكتاب المقدّس.

راجع، براندتراند، جون في (تراث الإسلام) الترجمة العربيّة: ٧٠، وكذلك (القاموس (المنجد في الإعلام)).

(٣) فرديناند: ملك أراغون وهو المعروف بالكاثوليكي، ملك قشتالة (١٤٧٤ - ١٥٠٤م) بعد زواجه وإرثه عرش قشتالة من إيزابيل، أخذ غرناطة من العرب (المسلمين) عام ١٤٩٢م ووحد إسبانيا تحت سلطته ونظم إداراتها. وفي عهده اكتشف كريستوفر كولومبس أميركا. عن (القاموس (المنجد في الإعلام)).

(٤) إيزابيلا: (١٤٥١ - ١٥٠٤م) ملّقبة بالكاثوليكيّة وهي ملكة قشتالة التي تزوّجها فرديناند، فتوحّدت بهذا الزواج الدولة الأسبانيّة، وأدّى ذلك إلى سقوط غرناطة عام ١٤٩٢م. عن (القاموس (المنجد في الأعلام)).

(٥) فيليب الثاني: (١٥٢٧ - ١٥٩٨م) ابن كارل الخامس ملك أسبانيا وهولندا (١٥٥٦م). ثمّ ملك = البرتغال عام ١٥٨٠م، ويعتبر عهده أوج السيطرة الأسبانية في أوربّا. عن (القاموس (المنجد في الأعلام)).

٥٥

والذبح جماعةً من المسلمين الذين تنصّروا ظاهراً، وأقاموا على عقيدتهم (الإسلاميّة) وظلّوا يمارسونها في الخفاء. وامتدّت صلاحيّات هذه المؤسّسة التنكيليّة لتنال من مصادر الفكر الإسلامي، وإحراق الكتب، وإتلاف كلّ ما يُؤدّي في نظر الأساقفة إلى إلحاق الضرر بالكنيسة.

وبالرغم من ذلك فقد (بقي المسلمون الذين ظلّوا في أسبانيا بعد استردادها (سقوط الأندلس) يحتفظون بكتبهم، باذلين غاية جهدهم لإخفائها عن أعيُن مكاتب التفتيش. ولمّا اضطرّوا إلى مغادرة وطنهم خبأوا كتبهم في فجوات الجدران، أو دفنوها تحت الأرض في بيوتهم المتروكة. وقد عثر في القرن الأخير مصادفة على عدّة مكتبات منها...)(١) . واستمرّت محاكم التفتيش قائمة في أسبانيا حتّى حلّها نابليون بونابرت عام ١٧٩٢م.

____________________

(١) كراتشقوفسكي، إغناطيوس (دراسات في تأريخ الأدب العربي) الترجمة العربيّة: ٧١ - ٧٢. ويذكر شكيب أرسلان في كتابه (الحلل السندسيّة في الأخبار والآثار الأندلسيّة) المجلد الأوّل: ٢٨٠ - ٣٨٣ الكثير من الأخبار عن صنوف الاضطهاد التي مُورست في حقّ مَن كانت محاكم التفتيش تشكّ بأنّه لا يزال على إسلامه من أهالي طليطلة، ومنها الإحراق بالنار ومصادرة الأملاك والتعزير.. إلخ. وذلك بتهم مثل عدم أكل لحم الخنزير، والامتناع عن شرب الخمرة وغيرها...

٥٦

الاستعراب(١) أولاً ثمّ الاستشراق

نشأت ظاهرة الاستعراب نتيجة للاحتكاك المباشر الذي حصل بين بعض الطوائف المسيحيّة التي كانت تقطن إسبانيا وبين المسلمين العرب فاتحي الأندلس، والذي أدّى بدوره إلى تعميق عُرى التمازج العرقي والتعايش الاجتماعي والاتّصال الثقافي فيما بينهم. وقد أفرزت هذه الحالة ظهور طبقة اجتماعيّة واسعة من المجتمع الأندلسي اندمجت مع أوساط المسلمين، وتشبّهت بهم في سيرتهم وسلوكهم اليومي، وقلّدتهم في إقامة مناسباتهم وشعائرهم الدينيّة، وحتّى في دقائق وجزئيّات أُمورهم الحيويّة فأقدم الكثير منهم على الاختتان وفق مراسم المسلمين، وامتنعوا عن معاقرة الخمر وأكل لحم الخنزير، وغيرها من الممارسات التي كانت مألوفة في المجتمع النصراني. وقد أُطلق على هؤلاء (المُستعربين) الذين كان جُلّهم من أبناء الأندلس القُدماء الذين انحدروا من آباء إسبان، ومن خلال البحث والاستقصاء عن أحوالهم أمكن تصنيفهم إلى صنفين:

الأوّل: ويضم الذين دخلوا الإسلام أثناء الفتح (فتح الأندلس) وحسُن إسلام الكثير منهم، فأقبلوا على دراسة الفكر الإسلامي، وتدرجوا في شتّى العلوم. فكانوا أصحاب التآليف والتصانيف، وصارت لهم مكانة علميّة مرموقة تميّزوا بها

____________________

(١) مصطلح يطلق على الذين صاروا دُخلاء بين العرب، ثمّ سرى استعماله لأُولئك الذين دخلوا الإسلام بعد أنْ تعلموا اللغة العربيّة وتشبّهوا بالمسلمين العرب خاصّة في عاداتهم وتقاليدهم.

٥٧

عمّن سواهم، وظهر فيهم العلماء والأُدباء والقادة العسكريّون، فحازوا إعجاب الحكام المسلمين وأصبح قسمٌ منهم ذوي نفوذ واسع في الحكم (ولكنّهم ظلّوا مع ذلك لا يجدون أنفسهم إلاّ مواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة)(١) .

الثاني: كان يضم أُولئك الذين تشبّهوا بالمسلمين ظاهريّاً، ولم يدخل الإيمان في قلوبهم، وكان تأثّرهم سطحيّاً على قاعدة التمثّل بالفاتحين والتشبه بهم. كما يرى ابن خلدون ذلك (المغلوب يتشبّه أبداً بالغالب). وبالرغم من إقبالهم على تعلّم اللغة العربيّة ودراسة آثار المسلمين وأفكارهم، وكذلك إعجابهم بالمنجزات الحضاريّة لهم، وانبهارهم بالطرح الثقافي الإسلامي الجديد. إلاّ أنّ هذا لم يكن ليصرفهم عن عدائهم الشديد للرسالة الدينيّة والإيديولوجيّة الإسلاميّة، ولا ليثنيهم عن رفضهم القومي للسلطة السياسيّة التي يخضعون لها.

ولا سيّما أنّ بعض الحكّام آنذاك كانوا لأغراض سياسيّة يستخدمون أساليب مِن شأنها أنْ تثير روح العصبيّة بين طَبَقات المجتمع الأندلسي، كأنْ يُقرّبوا طائفة على حساب طائفة أُخرى، ممّا يُؤدّي إلى نشوء العداء مع السلطة، وبالتالي محاولة الانتقام أو التقليل من شأن الرسالة والفكر الذي ينتمي إليه هؤلاء الحكّام.

فمثلاً عند اشتداد الروح العصبيّة بين القبائل العربيّة المتنافسة في عهد عبد الرحمان الداخل ويأسه من القضاء عليها وإزالتها، واتّخاذها أُسلوب المواجهة والمنافسة مع الحكم، لجأ إلى تكوين طبقة الأعوان والقادة، وربّاهم بنفسه واستعان بهم على إدارة دفّة الحكم، ونفوذهم ينمو نتيجةً لقربهم من الطبقة الحاكمة حتّى صاروا شركاء للخليفة في الحكم، ثمّ صاروا يدبّرون المؤامرات لإدارة الحكم بأنفسهم(٢) .

____________________

(١) د. إحسان، عبّاس (تأريخ الأدب الأندلسي): ٨٩.

(٢) مجلّة نور الإسلام. العددان ٢٧ - ٢٨ (العصبيّات وآثارها في سقوط الأندلس): ٣٤.

٥٨

وعلى أثر ذلك تولّد الصراع بين العرب والمُستعربين، ولم يكن هذا الصراع سياسيّاً أو عسكريّاً فحسب، بل كان صراعاً يلتمس مبرّراته مِن أُطُر دينيّة، وينعكس على طبيعة التفكير الديني، الأمر الذي نشأ عنه نَمَطَان من التفكير: نمط يتَطرّف في تمجيد العرب دينيّاً، وآخر يتَطرّف في الاتّجاه المضاد.

وليس إلى الشكّ سبيل في أنّ ابتعاد الحكم العربي في الأندلس عن الإسلام، كان له الأثر الكبير في إعطاء الفرصة للمُستعربين كي ينتفضوا ويترجموا رفضهم بشكل حرب اتّخذت أبعاداً مختلفة، حتّى أنّ بعضاً منهم كان له الدور الكبير في إضرام فتنة طليطلة ضدّ قرطبة في بداية عهد الأمير محمّد بن عبد الرحمان التي تمخّضت عن المعارك التي خاضها ابن حفصون ضدّ الحكم العربي الإسلامي سنوات طوالاً بدأت من عام ٢٦٨هـ وانتهت بوفاته عام ٣٠٦هـ.

وصلت قوّة العداء بين الطرفين إلى الحدّ الذي دفع عمر بن حفصون، إلى الارتداد عن الإسلام والعودة إلى النصرانيّة، لكي يستميل النصارى إليه ويعينوه في قتاله ضدّ الحكم العربي، وذلك من خلال عمليّة أراد بها أنْ تكون انتقاماً من هذا الحكم.

وفي هذا الخضمّ المتلاطم مِن الفتن والصراعات والاضطرابات انتعشت الكنيسة، وبرزت الحوافز، وازدهرت الحركات الداعية إلى تقويض أركان الإمارة الأمويّة، واستُُنفرت القُوى المضادّة للإسلام، وارتفعت أصوات الغُلاة من النصارى برُدودِ فعلٍ متباينة، كان منها اندلاع حركة الاستشهاد كما أسلَفنا، وكذلك بُروز دعاوى مواجهة الوجود الإسلامي بأساليبٍ تتعدّى حدود المصادمات العسكريّة والمواجهات الدمويّة، تهدف إلى مقارعة المسلمين عن طريق الفهم العميق لإيديولوجيّتهم، ومعرفة أسباب قوّتهم ومنازلتهم بمناهجهم الفكريّة وقواعدهم الحضاريّة.

٥٩

وكان للمُستعربين الدور الفعلي في الاختراق البشري والثقافي والسياسي للمجتمع الأندلسي، فوظّف فعلهم هذا بقصد أو بدون قصد، في بعض الأحيان، في خضمّ المشروع المعادي للوجود الإسلامي.

وإذا كان الاستشراق علماً يختصّ بلغات الشرق، وبالانجازات الحضاريّة المعبّر عنها بتلك اللغة، وبأديانهم وقيمهم وثقافتهم. وإذا كان قد فتح أمام الغرب والأوربّيين بصورةٍ عامّة أبواب الفكر الإسلامي، وآفاق نظامه الدقيق بهدف فهم الأُطروحة الإسلاميّة، التي غزت العالم وغيّرت الكثير من الثقافات السائدة والنظُم المنحرفة عن الفطرة الإنسانيّة، وتداعت أمامها أغلب النظريّات المتهرّئة، كان لابدّ من استطلاع دواعي هذه الأطروحة بل والمعايشة المباشرة والشاملة للوضع الجديد الذي طرأ على العالم، إزاء التحوّلات الخطيرة التي حصلت بفعل الإسلام والمسلمين.

وعليه فلابدّ للباحث المتتبّع للوقائع التاريخيّة من الاعتقاد بأنّ بِدء تكوّن الاستشراق، قد حدث بعد انتهاء عمليّات الفتح الإسلامي لشبه الجزيرة الأيبيريّة، أي بعد سنة ٧١٥م وبِدء استيطان العرب للمناطق المفتوحة، وأنّ ظاهرة الاستعراب الثقافي والاجتماعي والتشبّه بالفاتحين في عاداتهم وممارساتهم، لا يمكن فصلها عن تطوّر حركة الاستشراق وشروطها، والأوليّات الاجتماعيّة لتكوّنها.

بالإضافة إلى هذا فقد برز طرحٌ آخر كان له الدور الكبير في بلْوَرة الاستشراق، كان أبطاله وأدوات تنفيذه اليهود الذين وجدوا في المسلمين الفاتحين طريقاً للخلاص من الاضطهاد القوطي(١) ، وظلم الكاثوليكيّة. فتعاونوا معهم

____________________

(١) القوط: مجموعة شعوب منهم الشرقيّون ومنهم الغربيّون. والقوط الشرقيّون: استقرّوا أوّلاً في وادي الدانوب الشرقي، ثُمّ غزوا إيطاليا وأسّسوا فيها مملكة في أواخر القرن الخامس الميلادي. قضى عليها بوستينياس عام ٥٥٢م. والقوط الغربيّون: أقاموا غربي الدانوب في القرن الرابع الميلادي واعتنقوا = المسيحيّة الآريوسيّة (وهي بِدعة لدى النصارى، تنسب آريوس إلى الكاهن الاسكندري). احتلّوا روما عام ٤١٠م ثُمّ جلوا عنها ليستقرّوا في جنوب غربي فرنسا. ثمّ إسبانيا حيث أسّسوا مملكة ظلّت قائمة حتّى الفتح الإسلامي عام ٧١١م (القاموس (المنجد في الإعلام)).

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

أرندجان فنسنك Arendjan Wensink

(١٢٩٩ - ١٣٥٨هـ، ١٨٨٢ - ١٩٣٩م)

هو مستشرق هولندي كان أُستاذ اللغة العربيّة في جامعة ليدن من سنة ١٩٢٧م إلى مماته، وقام برحلات إلى مصر وسورية وغيرها من بلاد العرب.

اهتمّ بالحديث النبويّ، وتولّى الإشراف على تحرير معظم موضوعات (دائرة المعارف الإسلاميّة) سنة ١٩٢٥م بلغاتها الثلاث، فأتمّ منها أربعة مجلّدات وخمس ملازم، وكتب مقالات كثيرة في مجالات مختلفة، وله كتب بالإنجليزيّة عن الإسلام والمسلمين(١) .

رُشّحفنسنك لعضويّة مجمع اللغة العربيّة في مصر، ولشدّة تعصّبه ضدّ الإسلام تعرّض لهجوم من قِبل الدكتورحسين الهواري مؤلّف كتاب(المستشرقون والإسلام) ، الذي صدر سنة ١٩٣٦م ممّا أحدث أزمةً معه كانت نتيجتها أنْ أُخرجفنسنك من عضويّة المجمع، وكان السبب في هذا الهجوم قيامه بنشر رأيه في القرآن والرسول، مدّعياً أنّ الرسول ألّف القرآن من خلاصة الكتب الدينيّة والفلسفيّة التي سبقته(٢) .

ولهذا عُرف بأنّه عدوٌّ لدود للإسلام ونبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ومتعصّب بكتاباته كما في

____________________

(١) الزركلي، خير الدين - الأعلام (قاموس تراجم) ١: ٢٨٩.

(٢) د. الهواري، حسين - المستشرقون والإسلام: ٧١٠ وما بعدها.

١٨١

كتابه(عقيدة الإسلام) الذي صدر في سنة ١٩٣٢م(١) .

ولمّا كانت مدينة(ليدن) وجامعتها في هولندا قد اشتهرت بغزارة إنتاجها الاستشراقي، فقد ترأّسفنسنك ، الذي كان يدرّس فيها، مجموعة من زملائه للقيام بعملَين كبيرين:

أوّلهما: دائرة المعارف الإسلاميّة، وصدر الجزء الأوّل منها عام ١٩١٣م، التي ضمّنها أخطر آرائه، منها ما ورد في كلمة (إبراهيم) وفي كلمة (كعبة).

فقد أشار تحت لفظ (إبراهيم) إلى أنّ الآيات الكميّة ليس فيها ذكر لنسب إسماعيل لإبراهيم، ويقول: إنّه لا يعرف شيئاً عن شعور محمّد نحو الكعبة في شبابه، وإنّ ما لديه مِن تاريخ حياته لا يصحّ أنْ يُؤخذ أساساً تاريخيّاً. وينسب فنسنك إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّه لم يشذّ عن الجماعة في العبادة المكيّة، أي بعبارةٍ أكثر وضوحاً أنّه كان وثنيّاً قبل البعثة، ويفتري فنسنك حين يصرّح أنّ كلمة إبراهيم اخترعت اختراعاً، ويزعم أنّ محمداً أراد بهذا الاختراع أنْ يتّصل بإبراهيم(٢) .

ويطرح رأيه هذا ليؤكّد نفس المقولة التي ردّدها أسلافه اليهود والنصارى، عندما بُعث النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالإسلام، والتي ردّدها القرآن الكريم بقوله تعالى:( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً.... ) (٣) .

ويستمرّ فنسنك في افتراءاته فيُشارك كلّ من المستشرقين(سبرنجر) و(سنوك) ، في ترجمة النبيّ إبراهيم (عليه السلام) ضمن دائرة المعارف الإسلاميّة قائلاً: إنّ القرآن لم يحفل بإبراهيم، ولم يذكر أُبوّته لإسماعيل، ولا أُبوّته للإسلام، إلاّ في السور المدنيّة، وسرّ هذا الاختلاف أنّ محمّداً اعتمد على اليهود في مكّة، فلمّا اتّخذوا حياله

____________________

(١) د. البهي، محمّد - الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي: ٥٥٥.

(٢) الجندي، أنور - الموسوعات الغربيّة من أخطر أعمال التغريب والغزو الثقافي - مجلّة منار الإسلام، العدد ٦، السنة ١١.

(٣) آل عمران: ٦٧.

١٨٢

العداء لم يجد بُدّاً من أنْ يلتمس غيرهم ناصراً، هناك هداه ذكاءٌ شديد إلى شأنٍ جديد لأبي العرب إبراهيم، وبذلك استطاع أنْ يتخلّص من يهوديّة عصره ليصل حبله بيهوديّة إبراهيم، تلك اليهوديّة التي كانت ممّهدة للإسلام(١) .

ثانيهما: في مجال فهرست السنّة أصدر كتابين: أحدهما: معجم بالإنجليزية، للألفاظ الواردة في أربعة عشر كتاباً من كتب السنن والسيرة. نقله إلى العربيّة الأُستاذ محمّد فؤاد عبد الباقي، وسمّاه(مفتاح كنوز السنّة) .

والآخر: المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبويّ الذي نشره بالعربيّة وتوفّي قبل إتمامه(٢) .

وقد حقّق فنسنك بهذا المشروع الضخم هدفين أساسيّين، كان يسعى إليهما أغلب المستشرقين في أعمالهم الاستشراقيّة في هذا الباب العلمي. الهدف الأوّل: هو تيسير العمل أمام المستشرقين، لتناول السيرة النبويّة بشكلٍ تفصيلي دقيق يمكّنهم من استقصاء ما يُمكن أنْ يكون - بعد العلاج - مورداً للنقض والتشكيك والنيل من الإسلام ونبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

والهدف الثاني: تحويل توجّه الكتّاب والباحثين عن السنّة النبويّة إلى المراجع الاستشراقيّة، خصوصاًَ إذا لوحظ امتيازها الفنّي والموسوعي، ممّا يجعلها في الصدارة والمجال الأوّل بين مراجع المسلمين، فيعتمدون عليها ويكتفون بها رغم ما فيها من خلطٍ وتحريفٍ وافتراء، وينسون مع تقدّم الزمان مراجعهم الأصليّة.

وفي هذا المجال يقول الشيخ محمّد حسام الدين: وكان أخطر عملهم في مادّة (حديث) ومادّة (سنّة)، لنجد فيها ما يجرح الإسلام وما يُفسد الحقيقة، وأنّهم يقدّمون الشبهات في أساليب يعجز عنها الشيطان، وذلك ما رمى إليه (فنسنك)، وهو الطعن على وجهٍ أشدّ في المصدر الثاني بعد كتاب الله وهو السنّة النبويّة، بل بوصفها البيان لكتاب الله تعالى، فإذا جرى الاعتماد على

____________________

(١) دائرة المعارف الإسلاميّة - مادّة إبراهيم.

(٢) الزركلي، خير الدين - الأعلام (قاموس تراجم) ١: ٢٨٩.

١٨٣

مراجعهم كان هذا شديد الخطر على الإسلام والأجيال القادمة(١) .

وقد أدخل فنسنك بكتابيه(كنوز السنّة) و(المعجم المفهرس لألفاظ الحديث) أخبار وتقارير شاذّة وواهية مردودة نثرها في الكتابين، ودسّها في سياق الصحيح لتسوغ معه وتشتبه به، وليستقرّ في ذهن القارئ أنّها من الثوابت الواردة عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وبعضه يصل إلى درجة الشناعة وتبرأ منه السنّة الشريفة.

وإنّ اعتماد المنهج العقلي والعلمي يقتضي التنويه - ولو إجمالاً - إلى أنّ الأخبار والروايات المنسوبة إلى السنّة الشريفة فيها الصحيح الموثّق، وفيها الضعيف والمرسل والمتروك، ويُطلب من القارئ - على الأقلّ - مراجعة المصادر الخاصّة ببيان قواعدها وطُرق التثبّت منها.

____________________

(١) الجندي، أنور - أبرز أهداف المستشرقين، مجلّة منار الإسلام، العدد: ٨، السنة: ١٤.

١٨٤

صموئيل زويمر Samual Zwemer (١٨٦٧ - ١٩٥٢م)

من أبرز المستشرقين الأميركيّين الذين خاضوا عملهم ميدانيّاً في منطقة الشرق الأوسط، خصوصاً جنوب العراق ودول الخليج العربيّة، وهو المحرّر للمجلّة الإنجليزيّة الاستشراقيّة الشهيرة(عالم الإسلام) ، وقد اشتهر بدوره التبشيري وعِدائه الشديد للإسلام.

له مؤلّفات عديدة عن الإسلام في العالم، وعن العلاقات بين المسيحيّة والإسلام، منها: كتاب(يسوع في إحياء الغزالي) ، وكتاب(الإسلام تحدٍ لعقيدة) صدر سنة ١٩٠٨م، وكتاب(الإسلام) وهو مجموعة مقالات قدّمت للمؤتمر التبشيري الثاني سنة ١٩١١م بمدينة(لكناو) في الهند.

ويعتبر(زويمر) من أكثر المستشرقين توجّهاً نحو التنصير، وتقديراً لجهوده التبشيرية أنشأ الأميركيّون وقفاً باسمه على دراسة اللاهوت وإعداد المبشّرين(١) .

وكانت أُولى أعماله الميدانيّة اختياره عضواً في الإرساليّة الأميركيّة العربيّة عام ١٨٨٩م(٢) ، وهي إرساليّة أميركيّة بروتستانتيّة ذات أهداف تبشيريّة في

____________________

(١) د. البهي، محمّد - الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي: ٥٥٣ - ٥٥٤.

(٢) قام الدكتور(لا نسننج) وهو أُستاذ اللغة العربيّة في معهد اللاهوت فينيوبرونسوك في ولاية نيوجرسي الأميركيّة بتدريب المبشّرين التابعين لكنيسة الإصلاح في الولايات المتّحدة الأميركيّة، وثلاثة من مساعديه وهُم: جيمس كانيتن، وصموئيل زويمر، وفيليب فيلبس بتشكيل هذه الإرساليّة، وكان اسمها الأصلي (العَجَلَة The Weel ) وقد أطلق الدكتور لانسننج ومساعدوه هذا الاسم عليها، ولكنّه اضطرّ لتغييره إلى الإرساليّة العربيّة عام ١٨٨٩م، تلبيةً لطلبٍ رسميٍّ مقدّم إلى هيئة الإرساليّات الأجنبيّة = التابعة لكنيسة الإصلاح في أميركا؛ للسماح بالقيام بعمل تبشيري في البلاد الناطقة بالعربيّة.

عن د. التميمي - عبد الملك خلف، كتاب (التبشير في منطقة الخليج العربي): ٤٥ - ٤٦.

١٨٥

منطقة الخليج العربيّة وشبه الجزيرة العربيّة (الحجاز)، وقد كانت المهمّة الرئيسيّة للإرساليّة هي التبشير والتعليم الديني، وتقديم الخدمات الطبيّة والصحيّة من خلال الواجهة التبشيريّة، وكانت عمليّاتهم اليوميّة تُدار من قِبل لِجان مُشكّلة لهذا الغرض محليّاً، وذلك وفق خطّة عمل الإرساليّة تحويل أهالي الجزيرة العربيّة إلى الديانة المسيحيّة، حيث تقول(آن هاريسون) : لقد أُرسلنا لتحويل الناس إلى المسيحيّة والدعوة إلى قدرة الله(١) .

وهكذا فإنّ هدف صموئيل زويمر - الذي كان من أبرز رفاقه في الإرساليّة نشاطاً واندفاعاً(الدكتور لانسننج) - دفع جميع بني الإنسانيّة ليصبحوا أتباعاً للسيّد المسيح (عليه السلام)، وكانت خطّة الإرساليّة تجسيداً لهذه الأفكار، وقد عمل (زويمر) وصحبه كلّ ما بوسعهم لإرساء دعائم هذه الإرساليّة.

ولمعرفة طريقة ومنهج تفكير وعمل (زويمر) يُطرح السؤال التالي: لماذا اختاروا اسم (الإرساليّة العربيّة) لهذه المنظمة التبشيريّة؟ وجوابه نجده في متن الخطّة(٢) التي وضعها زويمر ورفاقه وهي:

١ - إنّ الهدف الأساسي لهذه المنظمة كان العمل التبشيري في البلاد العربيّة، وبشكلٍ أساسي شبه الجزيرة العربيّة، التي هي موطن العرب والدين الإسلامي.

٢ - إنّهم أرادوا أنْ تكون هذه الإرساليّة مختلفةً ومميّزة عن غيرها من الإرساليّات المسيحيّة؛ لكي تستطيع أنْ تلفت الانتباه لهذا الميدان الجديد الذي

____________________

(١) HARRISON - Ann – Atol in his hand, N Y. ١٩٥٨ p. ١٢٦.

عن د. التميمي - عبد الملك خلف، كتاب (التبشير في منطقة الخليج العربي).

(٢) د. التميمي، عبد الملك خلف، التبشير في منطقة الخليج العربي، الملحق الأوّل، خطّة الإرساليّة الأميركيّة العربيّة: ٣١٧ - ٣١٨.

١٨٦

كانوا يعتقدون أنّه مهيّأ لاستقبال أمثال هذه الدعوة.

٣ - إنّ اختيار الاسم يهدف إلى التغلّب على الشكوك التي يحملها العرب نحو أنشطة الأجانب، وهذه الشكوك كانت طبيعيّة جدّاً، خصوصاً في ذلك الوقت عندما كان الصراع الأجنبي على أشدّه في منطقة الخليج العربيّة بشكلٍ خاص. وقد وضعت الأُصول العامّة لنشاط الإرساليّة في المرحلة المُقبلة واختيرت الجزيرة العربيّة هدفاً لها.

وعن الأسباب التي دعت لاختيار الجزيرة العربيّة هدفاً للإرساليّة يقول(صموئيل زويمر) : إنّ من بين الدوافع للعمل في (الجزيرة العربيّة)....

أولاً: الأسباب التاريخيّة. إنّ للمسيح حقّاً في استرجاع الجزيرة العربيّة، وقد أكّدت الدلائل التي تجمّعت لدينا في الخمسين سنة الأخيرة، على أنّ المسيحيّة كانت منتشرة في هذه البلاد في بداية عهدها، وهناك دلائل أثريّة واضحة على وجود الكنيسة المسيحيّة هناك، ولهذا فإنّ من واجبنا أنْ نعيد هذه المنطقة إلى أحضان المسيحيّة(١) .

والسبب الثاني هو أنّ النجاح المسيحي في الجزيرة العربيّة سيكون نقطة تحوّلٍ في العمل التبشيري المسيحي، وهذه الفكرة كانت تفترض أنّ نجاحهم سيكون منطلقاً لفتح أبواب المنطقة بأكملها أمام التبشير المسيحي.

إنّ أهمّ ما قامت به الإرساليّة أنّها قدّمت للمبشّرين الأميركيّين مساعدات قيمة، وأهمّ هذه المساعدات ما يتعلّق بتقديم المعلومات عن أحوال المنطقة وخصوصاً الجغرافيّة والاجتماعيّة والدينيّة، بالإضافة إلى هذا، فإنّ الإرساليّة العربيّة حصلت على تعاون المنظّمات المشابهة في العراق كالإرساليّة المتّحدة في العراق، والمجلس المسيحي للشرق الأوسط، وجمعيّة الكنيسة التبشيريّة، وكانت أُولى محطّات العمل

____________________

(١) Zwemer. S. M. and Cantine, J, OP Cit, pp. ١٤١ – ٢.

عن د. التميمي، عبد الملك خلف: كتاب التبشير في منطقة الخليج العربي.

١٨٧

الميداني لهذه الإرساليّة هي البصرة، التي أصبحت فيما بعد مركزاً وقاعدةً لعمليّاتهم في منطقة الخليج العربيّة، وهي من بين المناطق الهامّة التي كانوا يخطّطون لاحتلالها(١) .

وكان الرائد الأوّل للعمل في هذه المحطّة هو المستشرق (صموئيل زويمر)، الذي كان يحظى بحماية القنصليّة الأميركيّة في البصرة من ردود فعل المواطنين وقياداتهم الدينيّة التي كان بواجههما بالإضافة إلى سلطات الدولة العثمانيّة.

ومن البصرة بدأ عمل الإرساليّة بقيادة (زويمر) لتغطية معظم أراضي الخليج، وبعض أجزاء شبه الجزيرة العربيّة، ممهّدين لذلك برحلات استكشافيّة لدراسة الأوضاع الجغرافيّة والسياسيّة بشكلٍ مباشر، ثمّ على ضوئها يتمّ التخطيط للامتداد في المناطق المناسبة، ويبدأ العمل تدريجيّاً حتّى تثبت أقدامهم في تلك المناطق.

وقد استطاعوا أنْ يستقرّوا في البحرين ثمّ في مسقط، وهكذا في الكويت وقطر، ثمّ تلتها المحطّات الفرعيّة كالعمارة والناصريّة في العراق، وميناء مطرح في مسقط.

وقد اشتهر (زويمر) هذا بأنّه كان يلقّب نفسه بـ (ضيف الله) عند تردّده بين البصرة والبحرين والإحساء، وكان عمليّاً جداً، بحيث إنّ أوّل أعماله ضمن الإرساليّة الأميركيّة العربيّة فتحه حانوتاً في السوق لبيع الكتب المختلفة، ثمّ

____________________

(١) إنّ كلمة (احتلال المنطقة) استخدمها المستشرقون المبشّرون في أدبيّاتهم، وهي أقرب إلى اللغة العسكريّة منها إلى التبشير السلمي الذي يدعون لأجله.

The Arabian Mission Correspondence ١٨٩٠ – ١٨٩٨ Archives No. ٧٥٣ – Box VI. Letter From Rev. – J. Contian to the Board dated May ٢٦ – ١٨٩٢ , the theological seminary, new panswick, N. J. U. S. A

عن د - التميمي، عبد الملك خلف - كتاب التبشير في منطقة الخليج العربي.

١٨٨

تَخصّص بالتدريج في بيع الكتب التي تفرّق بين الأديان، ثمّ باشر بنفسه تأسيس مدرسة ومستشفى صغير للتنصير، ثمّ استقدم عدداً من المراسلين والدعاة للتنصير من النساء والرجال الأميركيّين إلى دول الخليج، وخصوصاً البحرين، وقد عرف بجرأته حتّى أنّه استطاع أنْ يقتحم الأزهر ويوزّع منشوره المعروف تحت عنوان(ارجع إلى القبلة القديمة) ولعلّ هذا أحد قرائن ولائه الصهيوني الذي عُرف عنه مؤخّراً.

لقد رأس زويمر عدداً من مؤتمرات التنصير العالميّة التي عُقدت في القاهرة والهند والقدس، وأدلى فيها بتقاريرٍ إضافيّةٍ عن الخطوات التي حقّقتها محاولته في (تنصير المسلمين)، وقد كشف هذا المستشرق في أخطر مؤتمراته، عن فشل مغامرة التنصير خلال ربع قرن، وتراجَع عن دعوته فقال:

إنّه لا يدعو لإدخال المسلم في النصرانيّة، وإنّما يدعو إلى إخراجه من الإسلام، ويقول: لقد صرفنا من الوقت شيئاً كثيراً، وأنفقنا من الذهب قناطير مقنطرة، وألّفنا ما استطعنا أنْ نؤلّف، وخطبنا، ومع ذلك كلّه فإنّنا لم ننقل من الإسلام إلاّ عاشقاً بنى دينه الجديد على أساس الهوى، فالذي نحاوله من نقل المسلمين من دينهم هو باللعب أشبه منه بالجد...وعندي أنّنا يجب أنْ نعمل حتّى يصبح المسلمون غير مسلمين.

إنّ عمليّة الهدم أسهل من البناء في كلّ شيء إلاّ في موضوعنا هذا؛ لأنّ الهدم للإسلام في نفس المسلم معناه هدم الدين على العموم(١) . وقد دعا زويمر إلى توسيع نطاق التعليم التنصيري تحت أسماء أُخرى لخداع المسلمين، ودعا إلى توحيد هيئات التنصير.

لقد كان زويمر متطرّفاً شديد التعصّب ضدّ الإسلام والمسلمين، وقد بلغ به الأمر إلى أنّ يحذّر من أيّ تقارب وتوافق مع المسلمين (فقد هاله أنْ يرى نفراً من

____________________

(١) الجندي، أنور - مجلّة منار الإسلام، العدد ٦، السنة ١١، حرب الكلمة ومخطّطات كرومر، ودنلوب، وزويمر ضدّ الإسلام.

pp. ١٤١ ff

١٨٩

النصارى يدعون إلى مصادقة المسلمين في الصين؛ لأنّ هذه الصداقة في نظره تخلق في نفس النصارى جبناً عن التبشير)(١) .

ونلاحظ من خلال ما تقدّم عن هذا المستشرق المبشّر، أنّ جوهر عمله هو تحقيق غاية الدول الغربيّة الطامحة إلى السيطرة والاستعمار، ولم يكن يخفي في نفسه ذلك، بل إنّه يعتبر أنّ دوره ودور نظرائه لا ينتهي عند حدّ استعمار الشرق، بل لابدّ أنْ يستمرّ لاستدامة هذا الاستعمار وتركيز أرضيّته، فيقول في المؤتمر التبشيري الذي عقد في عام ١٩١١م في(لكناو) بالهند: إنّ خمسة وتسعين مليوناً على أقلّ تقدير من أتباع نبيّ مكّة يتمتّعون اليوم بنعمة الحكم البريطاني(٢) .

وكذلك يؤكّد ما قلناه عنه من رأيه الصريح الذي يفصح عنه بقوله: إنّ الأبواب المفتوحة التي تؤدّي فعلاً إلى الإسلام، إنّما هي المستعمرات التي يعيش فيها المسلمون تحت حكمٍ مسيحي، أو حكمٍ وثني أيضاً (في إفريقيا والهند مثلاً)(٣) ، ويقصد بذلك أنّ عملهم يجب أنْ يبدأ بمرحلته الثانية عندما يستعمرون هذه البلاد، ولا يتركون للإسلام فرصة حياةٍ ووجوداً في واقع المسلمين.

وعندما أخذ المؤتمرون في مؤتمر(لكناو) بالهند يَتَدارسون الأحوال السياسيّة في العالم الإسلامي، خطب زويمر وقال: إنّ الانقسام السياسي الحاضر في العالم الإسلامي دليلٌ بالغٌ على عمل يد الله في التاريخ، واستثارة للديانة المسيحيّة (لكي تقوم بعمل)، إذ إنّ ذلك يشير إلى كثرة الأبواب التي أصبحت مفتّحة في العالم الإسلامي على مصاريعها.

إنّ ثلاثة أرباع العالم الإسلامي يجب أنْ

____________________

(١) عن د. خالدي، مصطفى. ود. فروخ، عمر.

MW. Adr. ٢٨ , pp. ١٠٩ ff

من كتاب (التبشير والاستعمار في البلاد العربيّة): ٣٨.

(٢) عن د. خالدي، مصطفى. ود. فروخ، عمر Islam and Missions في كتاب التبشير والاستعمار في البلاد العربيّة: ١٤٦.

(٣) المصدر السابق: ١٤٦ Islam and Missions

١٩٠

تُعتبر الآن سهلة الاقتحام على الإرساليّات التبشيريّة.

إنّ في الإمبراطوريّة العثمانيّة اليوم وفي غربي جزيرة العرب، وفي إيران والتركستان والأفغان وطرابلس الغرب ومراكش سدوداً في وجه التبشير، ولكن هناك مِئة وأربعون مليوناً من المسلمين في الهند وجاوة والصين ومصر وتونس والجزائر، يمكن أنْ يصل إليهم التبشير المسيحي بشيء من السهولة(١) .

وهكذا نجد زويمر يقوم بدوره الميداني ممهّداً ومنظّراً لحركة الاستعمار في الشرق، حتّى وصل به الأمر أنْ ينصح بريطانيا العظمى أنْ تبدّل سياستها المهادنة في مصر تبديلاً أساسيّاً، وأنْ تشعر المصريّين بقوّة بريطانيا وبنعمها عليهم(٢) . وهذا بكلمةٍ أُخرى ترسيخ الاستعمار بالقوّة والقهر.

ولم يهمل زويمر أُسلوب الإغراء مستفيداً ممّا يُعتبر أحد الأساليب الناجعة، التي مارسها المسلمون لكسب الناس إلى الدين الإسلامي، فقد كتب في المجلّة الاستشراقيّة التي يُحرّرها (العالم الإسلامي) مقالاً عنوانه: (استخدام الصدقات لاكتساب الصابئين)، الذي يبحث فيه كيف أنّ الإسلام على عهد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أجاز إعطاء الزكاة للمؤلّفة قلوبهم، أي أُولئك الذين دخلوا في الإسلام وكانوا ذوي حاجة وذوي اتّجاه مادّي(٣) ، ويقصد بذلك أنّ استخدام الإحسان المادّي من الأساليب المؤثّرة في طريق التبشير المسيحي، وتحويل الناس نحو النصرانيّة.

وهكذا وفي خاتمة الحديث عن هذا المستشرق الفعّال يمكننا القول: إنّ ما وضعه من خطط وبرامج تبشيريّة واستعماريّة ما يزال العمل بها سارياً حتّى اليوم، خصوصاً من خلال مناهج التعليم والتربية والثقافة في أغلب البلاد الإسلاميّة.

____________________

(١) عن د. خالدي، مصطفى، ود. فروخ، عمر - التبشير والاستعمار في البلاد العربيّة: ١٦٩ - ١٧٠.

Islam and Missions ٢٢.

(٢) المصدر السابق: ١٧٤ ibid ٢٥ f

(٣) عن د. خالدي، مصطفى. ود. فروخ، عمر - التبشير والاستعمار في البلاد العربيّة: ١٩٥.

١٩١

لويس ماسينيون Louis Massignon ( ١٨٨٣ - ١٩٦٣م)

من أكبر مستشرقي فرنسا، تسنّم مناصب حسّاسة كان لها الدور الكبير في توجّهاته الاستشراقيّة، فقد شغل منصب مستشار وزارة المستعمرات الفرنسيّة في شؤون شمال إفريقيّا، وكذلك الراعي الروحي للجمعيّات للتبشيريّة الفرنسيّة في مصر، ولعلّ العمل الذي شغله(ماسينيون) قد تناسب مع دور فرنسا في تشويه الفكر الإسلامي، مقدمةً وطريقاً لإزالة العقبات عن حركتها الاستعماريّة للشرق الإسلامي، ولهذا اشتهرت بأنّها من أبرز دول أوربّا الغربيّة في مجال إعداد جيش من المبشّرين والمستشرقين، مدرّبين على أحدث وسائل التنصير والتبشير، انتشروا في إفريقيا ودول الشرق الأوسط(١) .

وهذا هو الذي دفع رئيس المجمع العلمي العربي بدمشق (محمّد كرد علي) للقول: إنّنا نرى من واجبنا أنْ يشكّ كلّ عربي وكلّ مسلم، في أكثر ما يصدر من الأحكام من الفرنسيّين على الإسلام والمسلمين؛ وذلك لأنّه ثبت أنّ من الفرنسيّين مَن لا ينظرون إلى كلّ أمر إلاّ بمنظار الاستعمار(٢) . ويؤكّد الكاتب الإسلامي(مالك بن نبي) هذه الحقيقة في دور ماسينيون قائلاً: إنّ ماسينيون قد تفرّغ آخر حياته للتبشير، وقد مدّ وزارة الخارجيّة الفرنسيّة بالمعلومات والتوصيات حول

____________________

(١) المركز الإسلامي للأبحاث السياسيّة في قم، عن كتاب (السياسة الفرنسيّة في الشرق الأوسط): ٥٦.

(٢) د. خالدي، مصطفى، ود. فروخ، عمر - التبشير والاستعمار في البلاد العربيّة: ٢٢١.

١٩٢

البلاد الإسلاميّة، وتهيئة العملاء والكتّاب(١) . ويُساعد على ما ذكرناه الوضع الميداني لماسينيون، فقد زار العالم الإسلامي أكثر من مرّة، وخدم بالجيش الفرنسي خمس سنوات في الحرب العالميّة الأولى، وكان عضواً بالمجمع اللغوي المصري، خمس سنوات في الحرب العالميّة الأولى، وكان عضواً بالمجمع اللغوي المصري، وكذلك عضواً في المجمع العلمي العربي في دمشق، و(تعاون مع النظام الاستعماري الفرنسي في المغرب، وعبّر عن مواقفه الاستعمارية علانية)(٢) .

أمّا التوجّهات العلميّة لماسينيون في العلوم الاستشراقيّة، فقد تعلم اللغات: العربيّة والفارسيّة والتركيّة والألمانيّة والانجليزية، وعني بالآثار القديمة، وأدّت مشاركته في التنقيب عنها بالعراق (١٩٠٧ - ١٩٠٨م) إلى اكتشاف قصر الاخيضر.

درّس تاريخ الاصطلاحات الفلسفيّة بالعربيّة في الجامعة المصريّة القديمة (١٩١٣م) واستهواه التصوّف الإسلامي فكتب عن (مصطلحات الصوفيّة)، و(أخبار الحلاّج) ونشر (ديوان الحلاّج) مع ترجمته إلى الفرنسيّة، وكذلك نشر(الطواسين) للحلاّج، وكتب عن (ابن سبعين) الصوفي الأندلسي، وعن (سلمان الفارسي) وتظاهر بالدعوة إلى فكرة توحيد الديانات الكتابيّة الثلاث.

نشر (منتخبات من نصوصٍ عربيّة خاصّة بتاريخ الصوفيّة في الإسلام) وتولّى تحرير (مجلّة العالم الإسلامي) الفرنسيّة التي سمّيت فيما بعد بـ (مجلّة الدراسات الإسلاميّة) وأصدر بالفرنسيّة أيضاً (حوليات العالم الإسلامي) من سنة ١٩٢٣م الى سنة ١٩٥٤م، وكتب كثيراً في (دائرة المعارف الإسلاميّة) عن القرامطة والنصيريّة والكندي وفلسفة ابن سينا وأمثال ذلك. وكتب كذلك (تاريخ

____________________

(١) ابن نبيّ، مالك - شاهد القرن الطالب.

(٢) د. ابن عبود، محمّد - مجلّة العالم، العدد ٢٩٤، المساهمة الإيجابيّة لحركة الاستشراق لا تنفي تعصّب بعض المستشرقين ضدّ الإسلام.

١٩٣

العلم عند العرب) في (دائرة المعارف الممتازة)، التي صدرت بباريس (المجلّد الأوّل سنة ١٩٥٧م)(١) .

وممّن تأثّر به ماسينيون تأثّراً كبيراً هو المستشرق اليهودي النمساوي (أغناس غولد صيهر)، الذي حاول أنْ يثبت أنّ الحديث النبوي كلّه موضوع في عهود لاحقة لعهد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وذلك في كتابه (دراسات إسلاميّة)، كما اعتبر الدين الإسلامي نسخة مشوّهة للديانة اليهوديّة والمسيحيّة، حيث عبّر عن ذلك بوضوح في قوله: لا يهمّنا من وجهة نظر التاريخ الثقافي أنْ لا تكون تعاليم محمّد ناتجة عن إبداع عبقريّته التي جعلته نبيّاً لدى شعبه، وإنّما المهم أنّه أخذ جميع تعاليمه من اليهوديّة والمسيحيّة(٢) .

وبالتالي فإنّ ماسينيون أخذ كثيراً من تعاليم هذا المستشرق اليهودي، وبدت واضحة على كتاباته وشروحه التي نشرها في أكثر من كتاب، فمثلاً كان ماسينيون يُركّز على المعارف الفلسفيّة والصوفيّة الشاذّة والسيّئة، كالتي كتبها في دائرة المعارف الإسلاميّة تحت مادّة (الشطح) كقول البسطامي: (سبحاني، سبحاني، إنّ لوائي أعظم من لواء محمّد، طاعتك لي يا رب أعظم من طاعتي لك)(٣) .

إنّ ماسينيون قد وضع ووظّف جُلّ معارفه الاستشراقيّة في خدمة الأهداف الاستعماريّة، وفي مقدّمتها التبشير للنصرانيّة، ويتّضح هذا في أكثر من دليل، منها زعمه أنّ المسلمين يعتقدون في شأن عيسى بن مريم على ما جاء في القرآن، ومن أجل ذلك يرجو أنْ توجّه الجهود إلى جعلهم يعتقدون بعيسى بن

____________________

(١) الزركلي، خير الدين - الأعلام (قاموس تراجم) ٥: ٢٤٧.

(٢) د. ابن عبّود، محمّد - المساهمة الإيجابيّة لحركة الاستشراق لا تنفي تعصّب بعض المستشرقين ضدّ الإسلام. مجلّة العالم، العدد ٢٩٤.

(٣) الجندي، أنور - أخطاء دوائر المعارف والموسوعات العالميّة، مجلّة (منار الإسلام)، العدد ٦، السنة ١١.

١٩٤

مريم نفسه، ولكن باسمه المسيحي(١) .

ولا شكّ في أنّ ماسينيون يدرك جيداً أنّ نظر المسلمين ونظر النصارى إلى عيسى بن مريم مختلفان، إلاّ أنّه كان يُريد أنْ يُغري المبشّرين لاستثمار أيّ تشابه يُمكن أنْ يكون مدخلاً للتأثير على المسلمين وتحويلهم إلى النصرانيّة، أو على الأقل القبول ببرامجها التثقيفيّة ومناهجها التعليميّة التي تكون طريقاً لربط المسلمين بالإيديولوجيّة الاستعماريّة لأوربا النصرانيّة.

وممّا تميّز به ماسينيون هو عدم اكتفائه بطبقة المتعلّمين في التبشير، بل راح يُنظّر لطريقة التبشير في وسط الأُمّيين، ومارس ذلك بنفسه رغم أنّه أُستاذ جامعة في باريس ومستشار وزارة المستعمرات الفرنسيّة، وخلاصة طريقته كانت الاتّصال المباشر بالأمّيين وطرح الأفكار والمفاهيم المسيحيّة من خلال الإشارات الكليّة الواردة في القرآن الكريم، أو من خلال مفاهيم الإسلام المرتكزة في الوسط العام للاميّين. فمثلاً كان يدعو في إحدى مقالاته أنْ يعود الاعتقاد الإسلامي في رجوع عيسى بن مريم فيتّفق مع الحادث الثاني للمسيح النصراني الذي يعمل المهدي العربي على انتصاره(٢) .

ويقصد بذلك أنّه مادام لدى المسلمين أخبار برجوع المسيح عيسى بن مريم، فلماذا لا يكون هذا المسيح الراجع هو المسيح الذي يعتقد به النصارى اليوم؟ وبعبارة أُخرى أنْ يعود المسلمون عن قولهم عيسى بن مريم، إلى القول عيسى ابن الله، إذن فليؤمن به المسلمكون ويتحوّلوا إلى عقيدة النصارى. وكانت هذه الطريقة أحد أساليبه التي اعتقد بأنّها ستكون فعّالة لتحويل المسلمين عن دينهم، وبالتالي

____________________

(١) عن د. خالدي، مصطفى. ود. فروخ، عمر - كتاب التبشير والاستعمار في البلاد العربيّة: ٤٤.

L, Islam et I, occident ١٦٤.

(٢) عن د. خالدي، مصطفى. ود. فروخ، عمر - كتاب التبشير والاستعمار في البلاد العربيّة: ٨٣.

L,Islam. Et L, occident (les cahiers du sud ١٩٤٧ ) p. ١٦٤.

١٩٥

يسهل استعمارهم على دول أوربّا.

ومن أساليب(ماسينيون) التي دبّج لها المقالات الطوال، هي ضرورة تشجيع الشرقيّين للدراسة في أوربّا وأميركا، وذلك للتأثير عليهم عن طريق ضخّهم في أجواء وأساليب الحياة الأوربيّة، في التفكير والعلم والسلوك، ليكون ذلك أرضيّةً مناسبةً لتطويعهم للفكر الاستعماري الأوربّي، وبالتالي توظيفهم في خدمة أهدافهم في تطويع بلدانهم الشرقيّة لأوربّا المستعمِرة، وفي هذا يقول ماسينيون لنظرائه الأوربيّين: إنّ الطلاب الشرقيّين الذين يأتون إلى فرنسا يجب أنْ يلوَّنوا بالمدنيّة المسيحيّة(١) .

ولعلّ من أبرز مصاديق هذا التوجّه لدى ماسينيون هو عنايته الفائقة ببعض هؤلاء الطلبة، مثل (ميشيل عفلق) مؤسّس حزب البعث العربي الاشتراكي ومنظّره الفكري، الذي قال عنه ماسينيون: إنّه أنبغ وأعزّ تلميذ في حياتي(٢) . وقد أظهرت عناية ماسينيون بميشيل عفلق بوضوح آراء التلميذ الفلسفيّة ومواقفه الخاصّة ومدى انتمائه للفكر الأوربّي الصليبي، وترجمته الحرفيّة لتعاليم الدين الكنيسي ومضامينه الفلسفيّة، ولعلّ أبرز وأخطر ما طرحه (عفلق) وأسّس عليه فكر حزب البعث العربي الاشتراكي هو مقولته المعروفة(٣) :(الإيمان قبل المعرفة) (٤) .

وهي مقولة نصرانيّة محضة أفرزتها المدرسة الكنيسيّة، وتوصّل إليها عقلها اللاهوتي بناءً على قواعد وأُسس القدّيس أوغسطين، التي جاءت لسدّ الثغرة الفكريّة القائمة بين فكرهم اللاهوتي والعقل، المتمثّلة بمسألة التعقيد والنقص

____________________

(١) عن د. خالدي، مصطفى، ود. فروخ، عمر - التبشير والاستعمار في البلاد العربيّة: ٨٩.

Evue (Dieu Vivant) No. ٤ , pp. ٧ ss

(٢) بلوط، عليّ - إعدام البعث - مجلّة الدستور اللبنانيّة.

(٣) كاظم، فؤاد - آراء وأرقام حول نظام البعث في العراق: ٨٥.

(٤) عفلق، ميشيل - في سبيل البعث: ٤٥.

١٩٦

في إدراك الثالوث المقدّس(١) .

وينظّر عفلق مقولة: (الإيمان قبل المعرفة) التي استقاها من أُستاذه ماسينيون مكوّناً منها الفكر القومي، الذي بنى عليه إيديولوجيّة حزب البعث العربي الاشتراكي، فيقول: (... إنّنا نُريد أنْ نعرف مَن قَبِل بنا، ويؤثّر على غيرنا من مجرّد سماع نبرات صوتنا، ومشاهدة حركتنا العاديّة وسلوكنا اليومي، نُريد أنْ نعرف الذين يدركوننا بالغريزة، أيّ هواء صافٍ نستنشق، أيّ جوٍّ نزيهٍ نحيا، دون أنْ نحتاج للبراهين والعلم والإثبات والأرقام...)(٢) .

وممّا عُرف عن ماسينيون أنّه كان زعيم الحركة الرامية إلى الكتابة بالعاميّة وبالحرف اللاتيني، التي تبنّاها الفرنسيّون في الشرق الإسلامي، وركّز بدعوته هذه على المغرب ومصر وسورية ولبنان، وممّن استجاب لدعوته في هذا المجال الأب(رافائيل نخلة) حيثُ ألّف كتاباً تحت عنوان (قواعد اللهجة اللبنانيّة السوريّة)، وهو موضوع باللغة الفرنسيّة، والنصوص العربيّة منسوخة بالحرف اللاتيني.

واستجاب أيضاً لهذه الدعوة (شكري الخوري) الذي ألّف كتاب (التحفة العاميّة في قصّة فنيانوس) التي نشرها الأب لاي اليسوعي، واستجاب كذلك (الخوري مارون غصن) أحد المدرّسين في مدرسة (عين طور) في لبنان، وقد ألّف كتاباً ذا عنوانين ومضمون عامي تحت اسم (في متلو هلكتاب)(٣) .

أي (هل يوجد مثل هذا الكتاب) وأمثال هؤلاء كثيرون، والهدف من هذه الدعوة واضح، حيث إنّ ضياع اللغة الفصحى، وحصر دائرة تداولها سوف يُساهم في الحجر على مفاهيم القرآن اللغوية وبياناته البلاغيّة، وكذا الحديث الشريف وكتب المعارف الإسلاميّة

____________________

(١) كاظم، فؤاد - آراء وأرقام حول نظام البعث في العراق: ٨٥.

(٢) عفلق، ميشيل - في سبيل البعث: ١.

(٣) د. خالدي، مصطفى، ود. فروخ، عمر - التبشير والاستعمار في البلاد العربيّة: ٢٢٤.

١٩٧

وتراثنا العلمي الثري، وبدون اللغة العربيّة الفصحى تُفقد لغة العلم والمعرفة الإسلاميّة لتحلّ محلّها تدريجيّاً اللغة اللاتينيّة، التي تكون مدخلاً للمعارف الأوربيّة نصرانيّةً كانت أم علمانيّة، وهكذا نجد ومن خلال هذه الإلمامة المختصرة عن المستشرق ماسينيون، أنّه بذل جهوداً كبيرة على الصعيدين الفكري والميداني لربط الشرق الإسلامي بالعَجَلَة الأوربيّة، وأساليب متنوّعة كان أبرزها تربية نماذج متميّزة من تلامذته في الجامعات الفرنسيّة، بهدف إعدادهم رجال فكر في الشرق على الطريقة الأوربيّة.

وقد أشرنا إلى واحد من تلك النماذج، وهو ميشيل عفلق الذي برَز أحد روّاد فكرة البعث القومي العربي في الشرق.

هذه إلمامة سريعة بنماذج منتقاة من كبار رجال الغرب المستشرقين كانوا روّاد تنظير ومَنْهَجَة، ومراكز إدارة، وإعداد لعمل أكثر من اهتمّوا بالشرق الإسلامي، تطرّفاً وحركةً باتّجاه الأهداف التبشيريّة والاستعماريّة لأوربّا.

وقد سِيقت هذه النماذج مثالاً بارزاً يكشف عن دوافع عملهم الحقيقيّة، وطريقتهم المتعصّبة في التفكير، وأساليبهم الخبيثة في تشويه الإسلام ومجتمعاته، ومدى ارتباط ذلك بحركة الاستعمار الغربي للسيطرة على الشرق الإسلامي.

١٩٨

الفصل السّادس

نماذج من الدّسّ والتّشويه في الإنتاج الموسوعى للمستشرقين

* دوائر المعارف (البريطانيّة، الأميركيّة، لاروس الفرنسيّة).

* الموسوعة العربيّة الميسّرة.

* قاموس المنجد.

* الموسوعة الإسلاميّة الميسّرة.

* دائرة المعارف الإسلاميّة.

* هويّة وخلفيّة أبرز كتّابها.

* الدّسّ والتّشويه في موادّها (شُبهات وردود).

* ذكاء محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وخياله عماد دعوته.

* تناقض القرآن والتّردّد في بعض آياته.

* تأثّر محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) باليهوديّة والنصرانيّة والجاهليّة، واستقاؤه منها في صياغة قرآنه ودينه الجديد.

* شعائر الإسلام وليدة إبداعات وتأثيرات متنوّعة.

* غموض العديد من مقولات النّبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) القرآنيّة.

* ادّعاء النّبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وابتكاره واصطناعه وتأثّره بمن حوله.

١٩٩

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376