كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين0%

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 376

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين

مؤلف: الشيخ فؤاد كاظم المقدادي
تصنيف:

الصفحات: 376
المشاهدات: 123268
تحميل: 7759

توضيحات:

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 376 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 123268 / تحميل: 7759
الحجم الحجم الحجم
كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين

مؤلف:
العربية

إنّ تأسيس ثقافة الشرق وتنظير الرؤى العلميّة عنها في مختلف مجالات المعرفة الإنسانيّة، على أُسس منهجيّة تخدم أهداف الغرب وحركته الاستعماريّة في الشرق الإسلامي، من أبرز ما اهتمّ به المستشرقون، خصوصاً في إنتاجهم الموسوعي، وقد تفنّنوا في ذلك بأساليبٍ مختلفة، فهم في الوقت الذي أضفوا على ظاهر دراساتهم الموسوعيّة تلك الصبغة العلميّة والمنهجيّة التحقيقيّة، انتهجوا سبيل الدسّ الخفيّ والتركيز على المنقولات الشاذّة والمقولات الغريبة، وتجميع ما من شأنه تشويه الحقائق وتحريف الواقع في موارد أساسيّة وحسّاسة، من شأنها أنْ تشكّك في أُصول الدين الإسلامي وتاريخ المسلمين وسيرة نبيّهم الكريم.

هذا إضافةً إلى أنّ المنطق العلماني وخلفيّتهم العدائيّة للإسلام، وكلّ ما ينتمي له من مجتمعات وتاريخ وتراث حضاري، سوف تتحكّم في كتاباتهم وتنظيراتهم تلك، وهم بذلك يرمون إلى تحقيق هدفين رئيسيين:

الأوّل: تأسيس ثقافة الشرق الإسلامي على ضوء النظرة الغربيّة، الهادفة إلى تركيز الاتّجاه العلماني ومنطقه في تناول المعارف والعلوم الإنسانيّة، وبالتعبير الاصطلاحي تغريب ثقافة الشرق الإسلامي، وهُم بذلك يجرّدون المعارف الإسلاميّة وثقافة المسلمين وتراثهم الحضاري من خصوصيّاته الذاتيّة، وصبغته الخاصّة المعبّرة عن انتمائه للوحي والرسالة الإلهيّة.

الثاني: خلق الأرضيّة وتشييد أُسُس وعوامل علمنة الشرق الإسلامي ثقافيّاً ومنهجيّاً، واستعماره سياسيّاً وحضاريّاً، من خلال اعتماد الثقافة والمناج المغرّبة في الجامعات والمعاهد المؤسّسة بهدف تربية جيل المثقّفين وساسة الشرق

٢٠١

المرتقبين لقيادة وإدارة الحكم في بلدانهم، على أساس المنهج الغربي وطريقته في احتواء الشعوب والمجتمعات وبالتالي تحقيق أعلى رتب الاستعمار الحضاري للشرق الإسلامي.

وللسير الحثيث نحو هذين الهدفين وتحقيقهما على أرض الواقع، بشكلٍ جذريٍّ ومؤثّر، عمدوا إلى التعظيم العلمي والمبالغة الإعلاميّة بقيمة إنتاجاتهم الموسوعيّة، وطرحوها على أنّها المصادر الوحيدة في التناول الشّمولي والمَنْجَة العلميّة للمعارف الإسلاميّة، على أُسُس الاستقصاء الموثّق والتحقيق المُمنهج، وبذلك صرفوا أنظار طلاّب المعرفة والثقافة المعاصرين عن الأُصول التقليديّة، والمصادر الأوليّة التي زخرت بها مكتبات الشرق الإسلامي، واحتوتها خِزانات التراث العلمي للمسلمين، حتّى أصبحت هذه الأُصول والمصادر - في نظر هؤلاء الطلاّب - جزءاً من أحجار المتاحف وآثار التاريخ التي لا تعدو أنْ تكون تعبيراً عن الماضي الذي طوي وطويت معه قيمته المقترنة به... وقد أدّى هذا الإعلام والتعظيم إلى اعتماد هذه الموسوعات مراجعَ علميّةً وثقافيّةً للدراسات الجامعيّة الحديثة ولمناهج دروسها المقرّرة.

ومن أبرز نماذج موسوعات المستشرقين التي استُهدفت فيها حقائق الإسلام بالدسّ والتشويه وتاريخ المسلمين وسيرة النبي الكريم محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالتحريف هي:

دوائر المعارف (البريطانيّة، الأميركيّة، لاروس الفرنسية)

وهي من دوائر المعارف الغربيّة المترجمة إلى اللغة العربيّة، والتي تعتبر من أخطر أعمال التغريب والغزو الثقافي، التي قامت على أساس معطيات الجهد الاستشراقي والتبشيري، اللذين سارا معاً في خدمة هدفٍ واحدٍ وهو القضاء على الإسلام، عن طريق تشويه معالمه وحرفِ مفاهيمه بالشكل الذي يُناسب أهدافهم الخبيثة، والدسّ فيه بما يُخالف الواقع والحقائق من روايات كاذبة وشخصيّات مزيّفة لا وجود لها، والتهجّم والافتراء على الشخصيّات المقدّسة والرموز العظيمة من رجالات الإسلام.

ومن الأمثلة على ذلك، هو عندما تقدّم هذهِ الدوائر للقارئ مادّة (إسلام) ومادّة (محمّد) ومادّة (قرآن)، حسب التصنيف لهذه المفردات الّتي تتّبعها هذه الدوائر، تقدّمه على النحو الذي قدّمته دوائر الاستشراق والتبشير في القرن التاسع عشر، ولم تتحوّل عنه رغم التغييرات الإيجابيّة، التي طرأت على الفكر الغربي في نظرتهِ إلى الإسلام ومفاهيمه الحقيقية، ورغم العديد من الدراسات والكتابات، التي صحّحت بعض الشيء أفكار ومقولات المستشرقين والمبشّرين، القائمة على التعصّب الديني، والحقد ضدّ الإسلام والمسلمين، والتي كانت سائدة لديهم ومعتمدة عندهم طيلة القرون المنصرمة، ككتابات برناردشو، وداربر، وغوستاف لوبون... وغيرهم.

أمّا نماذج نصوص تلك المواد فمنها ما أوردتهُ دائرة المعارف البريطانيّة عن مادّة (إسلام) حيث تدّعي فيها أنّ الإسلام مأخوذ من المسيحيّة واليهوديّة، وأنّ

٢٠٢

الرسول لم يُهاجر ولكنّهُ هرب من مكّة...

وأمثال هذهِ الافتراءات الّتي يحاولون من خلال طرحها، إفراغ فكرة النبوّة والرّسالة الّتي يؤمن بها المسلمون، من مفهوم ارتباطها بالغيب والوحي الإلهي، أو الانتقاص من مقام الرسول وقدسيّته على الأقل، وهم بذلك يوهمون مَن يقرأ ويراجع هذهِ الدوائر، بأنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إنّما يتصرّف بوحي ذاته، وليس هناك ارتباط بينهُ وبين السماء عن طريق الوحي، وأنّه شخصٌ عادي لا يتميّز في خصاله وملكاته عن غيره.

وللأسف فقد تسلّلت هذهِ المفاهيم المحرّفة إلى دراسات المسلمين أنفسهم وكتاباتهم، فأخذ بعضهم يردّد عند بحثه للتاريخ الإسلامي، وبالخصوص مقاطع حياة الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نفس ما يردّدهُ المستشرقون والمبشّرون، من روايات كاذبة ومقولات مدسوسة، رغم أنْ هذهِ الافتراءات والدسائس تتناقض بشكلٍ صارخ، والثوابت التأريخيّة الّتي أقرّتها الدراسات الأوربيّة وأقلام مفكّريها، دفعت بعضهم مؤخّراً إلى الاعتراف بالإسلام كدين سماوي.

ومن الملاحظ على المصادر التي اعتمدتها هذهِ الدوائر في معارفها، أنّها مصادر متأخّرة زمنيّاً عن زمن الوقائع التأريخيّة، وأنّها ضعيفة ومهملة بلحاظ القيمة العلميّة لها، إضافةً إلى مجهوليّة نصوصها وانقطاع سندها، وهي بذلك لا تعبّر إلاّ عن الرأي الاستشراقي الأوربّي بالنسبة لهذهِ المواد، خصوصاً المفردات المتعلّقة بالإسلام (عقيدةً وحضارة)، فإنّ للاستشراق موقفاً من ذلك يتمثّل (بمحاكمة الإسلام إلى مفهوم الدين في الفكر الأوربي) ( Belgon ).

ذلك المفهوم المفرَغ مِن أهمّ المعاني والمبادئ الأساسيّة للدين، وهو المفهوم العلماني للدين في أوربّا، والذي يعني - عندهم - الطقوس والعبادة الكهنوتيّة، فالدين في المفهوم العلماني الأوربّي علاقةٌ بين الله وذات الإنسان فقط، وحتّى هذهِ العلاقة لم تسلم من التحريف، ولم تؤخذ مأخذاً حقيقيّاً ينعكس على أخلاقهم وسلوكهم وطريقة تعاملهم، وليس كذلك مفهوم الدين في الإسلام الجامع للعلاقتين بين الله والإنسان، والإنسان

٢٠٣

والإنسان، في السلوك الفردي والاجتماعي وعلى صعيد الحكم والدولة. وهذا مغمزٌ أساسي آخر من مغامز هذا البحث، يحول دون استيعاب جوانب الإسلام المختلفة على حقيقتها.

وقد عُرف عن أغلب المستشرقين، خصوصاً الكتّاب في دوائر المعارف الغربيّة والعاملين فيها، تعصّبهم لوجهة نظر مزودجة:

الأُولى: وجهة نظرهم إلى الدين النصراني الذي يدّعون الإيمان به، وعليه فهم لا يُقرّون بوجود دينٍ غيره أو بعده، رغم أنّ بعض دراساتهم تضمّنت إقراراً بذلك، كما صرّحَ بهِ بعضهم من خلال اعترافِه بالإسلام وتدوينه ديناً سماويّاً خاتماً للأديان في بعض الكتب الغربيّة، مثل ترجمة معاني القرآن لـ(مونتيه)، والتي تتميّز بأنّها قريبةً إلى الصحّة، وإنْ كانت لا تخلو من الشوائب وبعض الأخطاء.

الثانية: النزعة الاستعلائيّة (الاستكباريّة) من زاوية المفهوم الاجتماعي والسياسي الذي يحكم فلسفة الحضارة الأوربيّة كلّها، والنفوذ الاستعماري الأوربّي في بلاد الإسلام، وكلّها عوامل تمنع من الإقرار والاعتراف بالإسلام بعيداً عن التعصّب الديني والعداء السياسي، لذا، ومن خلال هذا التعصّب والعداء والفهم الناقص والنظرة العمياء، نرى أنّ مادّة (الإسلام) في دائرة المعارف البريطانيّة لعام (١٩٨٠م) قد جاءت مليئةً بالافتراءات والأخطاء عن سوء الفهم المقصود أو عن الجهل المركّب.

ونفس الملاحظة نجدها في عرْضهم لسيرة النبيّ الكريم محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، حيث أنّهم يردّدون ما ردّدهُ الاستشراق والتبشير، خصوصاً ذلك الذي ثَبَتت صلتهُ الواضحة بمصدريّه الخطَيرَين، الكنيسة ووزارة المستعمرات في الدول المستعمِرة للعالم الإسلامي (بريطانيا، فرنسا، هولندا)، وكذلك ما ردّدهُ الاستشراق الصهيوني والماركسي، كما في كتابات (اللورد

٢٠٤

كرومر) والوزير الفرنسي (هانوتو)(١) .

هذهِ الكتابات والمؤلّفات مليئة بالأخطاء، وهادفة إلى تصوير الدين الإسلامي والحضارة الإسلاميّة، على أنّها غير قادرة على إثبات وجودها واستعادة مكانتها الحقّة، لهذا نجد أنّ دوائر المعارف هذهِ لا تفرّق بين مفهوم التوحيد والنبوّة كما هو في الإسلام والأديان الأُخرى، ولا تفرّق بين الإلوهيّة والنبوّة وبين الرسل والصحابة، كما نجدهم عاجزين عن فهم المعجزات وفلسفتها وفهم فكرة وحدة الأديان وتدرّجها الهادف نحو الكمال.

ونجدهم يُخضعون النظريّة الشموليّة للإسلام، التي تجمع بين المادّة والروح في نظرتها للحياة والإنسان، لمنهج تفسيرهم المادّي المحض للحياة والإنسان، فهم بذلك يبدأون عند تناولهم للإسلام من فكرةٍ مسبقة، ينظرون من خلالها في أبحاثهم ودراساتهم، ويحاولون اقتناص النصوص والروايات الّتي تؤيّد فكرتهم تلك، وإنْ كانت غير مُسندة وساقطة عن الاعتبار، أو ضعيفة معروضٌ عنها، أو شاذّةٌ مهملة، ويُعرضون عن تلك التي تُخالفها وإنْ كانت متواترة أو موثوقة الإسناد ومعتبرة.

____________________

(١) الجندي، أنور- مجلّة منار الإسلام، العدد ٦ السنة ١١.

٢٠٥

الموسوعة العربيّة الميسّرة

وهي الترجمة الحرفيّة لدائرة معارف جامعة كولومبيا، التي وضعت تحت إشراف علماء صهاينة وترجمها شفيق غربال وكوكبة من الباحثين(١) ، وأضافوا إليها المواد الإسلاميّة العربيّة، وقد ترجمت وأُعدّت دون تقدير للتاريخ الإسلامي وحقائقه. ولو تتبّعنا محتويات هذه الموسوعة بنظرة علميّة فاحصة لوجدنا بوضوح سلبيّات أساسيّة في منهجها وموادّها، ويمكننا إجمالها في جانبين:

الجانب الأوّل: بُعدها عن ثوابت التاريخ الإسلامي، وعدم أمانتها في نقل الكثير من حقائقه ومقولاته المعتبرة، حيث نجدها كثيرة الخلط فيما تورده من معلومات مغرضة في اعتمادها على الشاذّ الساقط من الروايات والمصادر.

الجانب الثاني: عدم انطلاقها في تناول الموضوعات وتنظيم المعلومات من حاجة الكتّاب والباحثين الإسلاميّين، لعدم اعتنائها بوجهة النظر الإسلاميّة.

ومن الأمثلة الواضحة على وجود هذين الجانبين السلبيّين في منهجها ومادّتها ما يلي:

١ - تنكّرها وإسقاطها للسنة الهجريّة والتاريخ الهجري، في كلّ ما تتناوله من موادّ ومفردات، خصوصاً ما يتعلّق منها بعصر النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وما بعده من العصور.

____________________

(١) الجندي، أنور - مؤلّفات في الميزان - مجلّة منار الإسلام - العدد ٦ السنة ١١.

٢٠٦

٢ - طريقة ومستوى عرضها للموادّ والمفردات الإسلاميّة جاء ضعيفاً للغاية، حيث نجده بسيطاً عاديّاً إلى أبعد الحدود، فاقداً للدقّة والسعة والعمق المطلوب في تلك المواد والمفردات، ممّا يسلبها الحيويّة الموضوعيّة والقيمة العلميّة، ففي عرضهم للموادّ الخاصّة بالإسلام نجدهم يصوّرونها بشكلٍ مدرسيٍّ بدائيّ، وبمستوى سطحي ساذج وغير دقيق لا يخرج القارئ منه بنتيجة ذات قيمة علميّة وإحاطة واقعيّة، كما في مادّة (صلاة) ومادّة (صوم) ومادّة (شريعة)، حيث اقتصر في الأخيرة - مثلاً - على ثلاثة أسطر مقتضبة جاء فيها: (أطلقت قديماً على كلّ ما يشتمل عليه الإسلام من عقائد وأحكام عمليّة، وخصّصت الآن بمجموعة الأحكام الشرعيّة العمليّة المستنبطة من الكتاب والسنّة، أو الرأي والإجماع).

وفي مادّة (الإسلام) نجده يخلط كثيراً ويتجاوز الواقع والحقائق، فمثلاً يقرّر فيها أنّ المذاهب الإسلاميّة لم يبقَ منها اليوم إلاّ أربعة، ويعزو سبب ذلك إلى القصور العلمي للمسلمين، فقد جاء في أحد مقاطع المادّة ما نصّه:

(... وما هو إلاّ قليل حتّى ظهرت المذاهب، التي تُعدّ بالعشرات في الفقه الإسلامي وأُصوله، وإذا كان قد بقي منها أربعة، فما ذلك إلاّ لكثرة أتباعها وانتشار زعمائها في أرجاء الأرض، وكذلك لتقصير المسلمين في النظر، وقصورهم عن اللحاق بشأو الأقدمين في العلم).

وفي مواطن أُخرى من نفس المادّة يُحاول بشكلٍ أو آخر، أنْ يعطي للبعد القومي الدور الأساسي في الفتوحات الإسلاميّة، وما انتشار الإسلام إلاّ أثرٌ عرَضي لها، كما في المقاطع التالية:

( .. وفي موجة تالية زحفت الجيوش العربيّة إلى جنوب فرنسا (غاليا)، ولكن توقّفت الفتوح عند مدينةتور - پواتيه .. صاحَب هذا التوسّع العربي السريع ظاهرة انتشار الإسلام في الأقطار المفتوحة، وانتقال اللغة العربيّة إليها، وفي الوقت الذي كان فيه العرب ينسحبون من الأندلس، استولى العثمانيّون (بعد تأسيس دولتهم القويّة بآسيا الصغرى) على ملك البيزنطيّين في أوربّا... وفي أثناء الحكم العثماني للبلدان الأوربيّة التي سقطت

٢٠٧

بأيديهم، اعتنق كثير من السكّان الدين الإسلامي...) .

هذا في حين نجده في موادّ ومفردات عامّة أُخرى يتوسّع ويتعمّق بشكلٍ متميّز ومتكلّف أحياناً. فلو قارنّا بين مادّة (مسجد) ذات الخصوصيّة الإسلاميّة ومادّة (مسرح) كمادّة عامّة، نجد أنّ مادّة (مسجد) قد كتب عنها خمسة عشر سطراً فقط، أمّا مادّة (مسرح) فقد كتب عنها مِئة وسبعين سطراً.

أمّا لو كانت الموادّ والمفردات ممّا تخدم أغراضهم وأهدافهم الخاصّة، فيبذلون عناية فائقة في إبراز وجهات نظرهم بها، وإنْ خالفت حقائق ثابتة يقول بها غيرهم، كما في الموادّ التي تتعلّق بفلسطين وتاريخ الأديان، حيث جاءت تفصيلاتها مفعمة بوجهة النظر اليهوديّة والتبشيريّة(١) .

٣ - تعرض الموسوعة، وبكلّ صراحة، وجهة نظر اليهود في مختلف المسائل والموادّ خصوصاً في تلك التي تتميّز بالطبيعة الدينيّة الحسّاسة، بل نجدها تحمّل القارئ فيها وجهات نظرهم تلك، دون أنْ تعرض إلى جانبها وجهات النظر الأُخرى، كما في المسائل والموادّ التي تتعلّق بفلسطين، فهي تفرض فيها مفاهيم خطيرة لا تتّفق والحقائق التاريخيّة، فمثلاً تُصوّر أنّ عصور ازدهار فلسطين وتوحي بأنّ حريّة الحجّ المسيحي لها إنّما كان في ظلّ سيطرة الصليبيين، فيقول في مقطع من مادّة فلسطين:

(... ولمّا أعتلى قسطنطين الأوّل العرش صارت فلسطين كعبة يحجّ إليها المسيحيّون، وازدهرت البلاد في عهد يوستنيان).

وفي مواضع أُخرى من نفس المادّة تضع العرب والأتراك كأقوام وليس كمسلمين قبال المسيحيّين واليهود، وتُنسب المواقف والأحداث إليهم بعنوانهم القومي لا الإسلامي، ومن نافلة القول بيان الهدف السياسي من وراء ذلك، ومن أمثلة ذلك ما جاء في المقاطع التالية: (.. وفي القرن السابع دخلت في حكم العرب، وفي القرن

____________________

(١) انظر مادّة (فلسطين) ومادّة (دين) من الموسوعة.

٢٠٨

التاسع امتلكها الفاطميّون... خلّص العرب الأماكن المقدّسة من أيدي الصليبيّين، وحكموا فلسطين حتّى ١٥١٦م، حينما وقعت في قبضة سليم الأوّل سلطان تركيا... وفي ١٩٢٠م استولى البريطانيّون - الّذين كانت فلسطين قد وقعت في قبضتهم في الحرب العالميّة الأُولى - على البلاد، وأعلنوا عزمهم على تخصيصها لإقامة وطن قومي لليهود، فجرت اشتباكات بين العرب واليهود في الفترة (١٩٢٠ - ١٩٣٩م) من جرّاء مقاومة الوطنيّين العرب لسيطرة اليهود على بلادهم، وشرائهم أراضيهم) وهكذا في مقاطع أُخرى.

والشيء نفسه نجده في مادّة (يهود) و(يهوديّة)، حيث تعتمد هذه الموسوعة في بيان هذه المادّة وعرضها على الإسرائيليّات، والروايات الّتي توردها المصادر غير المعتمدة والكتب غير العلميّة.

٤ - ومن عجائب هذه الموسوعة، هو أنّ باب الأديان والعقائد المليء بالخلط والتزوير، تمّ تحريره تحت إشراف أسماء كتّاب وباحثين عرب، كالدكتور إبراهيم مدكور، والدكتور أحمد فؤاد الأهواني وغيرهما، إمعاناً في التشويش على القارئ، في حين نجد كتّاباً مسلمين وعرباً حرّروا فصولاً أُخرى من الموسوعة، لم تُذكر أسماؤهم في المقدّمة.

وفي ختام هذا الاستعراض الإجمالي السريع للأخطاء والتشويش الذي احتوته هذه الموسوعة، نشير إلى أنّ الأُستاذ علي جواد الطاهر قد أحصى على موادّها (٣٧٠) خطأً تاريخيّاً، يَجده مفصّلاً من أراد التوسعة في بحثٍ شامل نشره في مجلّة المجمع العلمي بدمشق عام ١٩٦٩م.

٢٠٩

قاموس المنجد

اشتمل هذا القاموس - أوّل صدوره - على قسمين أو قلْ قاموسين:

الأوّل هو قاموس للألفاظ اللغويّة، وهذا عليه مآخذ كثيرة، أهمّها عدم اعتماده على الشواهد والدّلالات اللغويّة الواردة في القرآن الكريم إلاّ نادراً، باعتباره أبرز مصدر يُعتمد لُغويّو العرب عليه، لكونه جاء بأبلغ وأفصح لغتهم في ظرفٍ بلغوا القمّة في ذلك.

والثاني هو قاموس أُطلق عليه (معجم الآداب) إعداد(فردينال نوكل) وهو القاموس الحافل بالأخطاء والشبهات والذي عرضَ له العديد من الباحثين وكشفوا عن أخطائه، حتّى إن أحدهم(١) أحصى فيه أربعمِئة خطأ شائع - تاريخي وعلمي - وأحصى آخر(٢) مِئة خطأ - تاريخي وجغرافي - من الأخطاء الصارخة، وعند استقصاء المصادر التي اعتمد عليها مؤلّف القاموس المنجد، نجدها عبارة عن دائرة المعارف الإسلاميّة التي سنشير إليها عند دراستنا للنموذج الخامس.

ومن المصادر التي اعتمد عليها أيضاً كتاب التمدّن الإسلامي لـ(جرجي زيدان) وكتاب تاريخ الشعوب الإسلاميّة لـ(بروكلمان) الذي مُلئ بالافتراءات والتشويه للحقائق الإسلاميّة، وكمثال على ذلك ما ورد في فقرة (معركة أُحد) من إظهارٍ للرسول بمظهر المُعتدي على اليهود وأنّ القرآن الكريم قد أشاد بالخمر عطيّة

____________________

(١) وهو عبد الله كنون - بحث الموضوع في مجلّة دعوة الحقّ المغربيّة، ضمن أكثر من عشرة فصول.

(٢) وهو عبد الستّار فرّاج - في بحثٍ له في مجلّة العربي الكويتيّة.

٢١٠

من عطايا الله الكُبرى إضافةً إلى اختلاق عِللٍ لتشريع حرمة الخمر ما أنزل الله بها من سلطان، وغيرها من الافتراءات. ونقتطع النصّ التالي من الفقرة المذكورة نموذجاً لذلك:

( .. ولكنّها [معركة أُحد] أثّرت في مركزه [النبيّ] ومكانته عند البدو المحلّيّين. وإنّما يظهر ذلك، مثلاً، في مقتل أربعين من رُسله في ربوع قبيلة هوازن، وكان على محمّد أنْ يعوّض هذه الخسارة التي أصابت مجده العسكري من طريقٍ آخر، ففكّر في القضاء على اليهود، فهاجم بني النضير لسببٍ واهٍ وحاصرهم في حيّهم. وإذ لم يجرؤ إخوانهم في الدّين، من بني قريظة، على أنْ يسعفوهم فقد اضطرّوا إلى الاستسلام بعد حصارٍ دام بضعة أسابيع، ثمّ إنّهم هاجروا إلى واحة خيبر، التي تقع على مسافة عشرين ميلاً شمالي المدينة، والتي كانت تنزل فيها جالية كبيرة من اليهود، ووزّع النبيّ أراضي بني النضير على المهاجرين.

وعقب ذلك بقليل، حُرّمت على المسلمين الخمر، وكانت بعض الآيات (سورة ١٦: ٦٩) قد أشادت بها كعطيّة من عطايا الله الكبرى، وحُرّم الميسر، أو القمار على لحم الإبل، وكان سبباً في إفقار كثير من البدو، والواقع أنّ تحريم الخمر (سورة ٢: ٢١٦ وسورة ٥: ٩٢) كان يهدف إلى تقييد الشعراء الذين كانوا كثيراً ما يتغنّون بمجالسهم الخمريّة المعربدة، هذه المجالس الّتي كانت خليقةً بأنْ تُفسد روح النظام العسكري الصارم الّذي أراده محمّد لأتباعه، ولكن بعض المسلمين لم يلبث أن خرج على القانون، فعاقر الخمرة).

ومن نماذج الافتراءات والتزوير في قاموس المنجد - التي تكشف عباراتها وشروحها عن تعصّب وحقد وفساد في المنهج وبعدٍ كبيرٍ عن العلميّة والإنصاف - ما جاء تحت مادّة (محمّد) (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالنص التالي:

( محمّد نبيّ المسلمين من بني هاشم، تزوّجَ مِن خديجة ورُزق منها فاطمة، دعا الأعراب إلى الإسلام وانتصر على المكّيين في بدر، ولكنّهم غلبوه في أُحد، فحاربهم في حنين ودخل مكّة ظافراً)، وهذا كلامٌ ناقصٌ مشوب بتجاوز الحقائق، حاقدٌ لا يمثّل الحقائق التاريخيّة الثابتة.

٢١١

ولا نشكّ في أنّ قاموس المنجد من أخطر القواميس، التي انتشرت في دائرة واسعة وتناولته الأيدي في كلّ مكان، وذلك لما يحملهُ من أخطاء وافتراءات وتزوير حاقد، خصوصاً فيما حقّقهُ من إدخال كثير من المصطلحات الكنسيّة والطائفيّة واللاهوتيّة إلى الألفاظ العربيّة، علماً بأنّ هذه المصطلحات ليست عربيّة أصلاً، فضلاً عن تفسيرها من قبلهم تفسيراً لا يتّفق مع مفاهيم الإسلام، ونحن عندما نراجع الجانب اللّغوي والتاريخي لهذا القاموس نجده يُقحم تعابير واصطلاحات خاصّة بالكهّان النصارى كمصطلح: كهنوتي، وقدس، وقدّاس.. وغير ذلك، في المفردات اللغويّة ومعانيها.. وهكذا في الحقائق والمعارف التاريخيّة.

وتتجلّى النظرة الواقعيّة لهذا القاموس لو طالعنا المصادر التي أشرنا إليها، والّتي اعتمد عليها المؤلّف، وهي جميعها مصادر غير أصيلة؛ لأنّها تتراوح بين مصادر أجنبيّة متّهمة في دوافع مؤلّفيها، ومصادر حديثة كدائرة المعارف الإسلاميّة ومجاني الأدب للأب(شيخو اليسوعي) ومؤلّفات جرجي زيدان وبروكلمان(١) .

وقد ملأت المطاعن في نزاهة وموضوعيّة هذه المراجع وقيمتها العلميّة الآفاق، وأصبح عدم الوثوق بها أمراً قطعيّاً. كما أنّنا لا نجد بين هذهِ المصادر أيّ مرجع أصلي من الكتب العربيّة المعتمدة في كثير من المواد التي يشتمل عليها هذا القاموس، إضافة إلى أنّ الترجمة من المصادر الأجنبيّة، كثيراً ما يُغيّر فيها لفظ الشيء المترجم، خصوصاً إذا كان المترجَم له ليس عَلَماً، بل اسم محلّ أو شخص غريب، فلا ينفع في هذهِ الحالة إلاّ الرجوع للمصادر الأصلية التي تورده على وجههِ.

وقد أشار بعض الباحثين إلى أنّ من أكبر الأخطاء المتعمّدة والدسّ والتلبيس في هذا القاموس، هو سكوته عن بعض الحقائق الثابتة تاريخيّاً عند المسلمين، كموقفه من مسيلمة الكذّاب الذي ادّعى النبوّة، حيث يقول عنهُ:

____________________

(١) كنون، عبد الله - مجلّة دعوة الحق المغربيّة.

٢١٢

(مسيلمة من بني حنيفة من اليمامة عاصرَ محمّداً وعرض عليه أنْ يشاركهُ النبوّة، فقُتِل في موقعة عقرباء)، ولم يذكر شيئاً آخر وسكت، وهنا يُلاحظ القارئ مدى تمويههم للحقائق عن طريق التلاعب بالعبارات، إضافةً إلى أنّ عدم ذكر أكذوبة نبوّة مسيلمة ستجعل القارئ يتخيّل، أو يحتمل أنّ مسألة النبوّة كانت أمراً يُتنافس عليه أو - على الأقلّ - تصوّر إمكان صدق دعوى مسيلمة بالنبوّة في مقابل دعوى محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

٢١٣

الموسوعة الإسلاميّة الميسرة

هذه الموسوعة هي خلاصة دائرة المعارف الإسلاميّة، أُعدّت تحت إشراف اثنين من كبار المستشرقين وهما: الانجليزي(جب) (١) والهولندي(كريمرز) (٢) ، وقد كُتبت باللغة الإنجليزية، وتقع في مجلّدٍ واحد، وتُرجمت إلى اللّغة العربيّة تحت إشراف الدكتور راشد البرّاوي، وطبعتها مكتبة(الانجلو) في القاهرة وصدرت في مجلّدين بتعداد ١٢٥٦ صفحة من القطع الكبير(٣) .

وفي معرض بيان اتّجاه وطبيعة هذه الموسوعة يقول الدكتور سالم اليافعي: (إنّ الموسوعة الإسلاميّة الميسّرة هي خلاصة الفكر الغربي خلال القرون الأربعة الأخيرة، وإنّ الذين اشتركوا في إعدادها تصل قائمة أسمائهم إلى أربعمِئة اسم)، وفي مهرجان طبّي كبير في تركيا قام الدكتور اليافعي بحرق غلاف الموسوعة الإسلاميّة الميسّرة، إعلاناً منه بأنّ الأُمّة الإسلاميّة قد وصلت على حدّ تعبيره إلى مرحلة(انفصام) العقل العربي الإسلامي عن(لبان) الحضارة النصرانيّة

____________________

(١) جب، هاملتون ألكسندر روسكين Gibb, Hamilton Alexander Rosskeen ( ١٨٩٥م) مستشرق انجليزي عُني بدراسة التراث الإسلامي وتعريف الغربيين به. من أشهر آثاره: دراسات في حضارة الإسلام (عام ١٩٦٢م)، وقد نقله إلى اللغة العربيّة الدكاترة إحسان عبّاس ومحمّد يوسف نجم ومحمود زيد. (عن موسوعة المورد ج٤).

(٢) ج - هـ - كريمرز H. Kramers J .: مستشرق هولندي كثير الطعن في الإسلام، وصاحب ميول تبشيريّة سافرة.

(٣) الجندي، أنور - مؤلّفات في الميزان - مجلّة المنار: العدد ٧ السنة ١١.

٢١٤

اليهوديّة والعقل الاستشراقي الغربي، وهي في نفس الوقت دعوة للعودة إلى المنابع الإسلاميّة، ممثّلة في القرآن الكريم وعلومه الإنسانيّة الكبرى، وتراثنا الحضاري الشامخ من علمٍ وطبٍّ وتاريخ وفقه وسياسة واقتصاد.

ويمكننا القول: إنّ هذه الموسوعة تمثّل عصارة الجهد الاستشراقي في النيل من الإسلام، والغضّ من شأنه من خلال ما يقارب ألف كتاب اعتمدت عليها مصادر لها، كانت قد أُلّفت خلال أكثر من أربعمِئة عام.

والمثير في الأمر أنّ الانطلاقة التي بدأها المستشرقون في توجّههم هذا كان له سابقة في أوربّا، وهي ما قام به الطبيب(باراسلوس) عام ١٥٢٧م في مدينة بازل بسويسرا حيثُ أحرق كتب الطبيب المسلم ابن سينا في الميدان العام بمدينة بازل، مسجّلاً بذلك نهاية تبعيّة أوربّا للحضارة الإسلاميّة، وبداية الهيمنة الثقافيّة والحضاريّة لأوربّا على الشرق الإسلامي.

أمّا مفردات الدسّ والتشويه التي حوتها هذه الموسوعة فلا تنحصر بزاوية واحدة، بل إنّها ضمن مناقشتها للقضايا الأساسيّة تشمل الجوانب المتّصلة بالعقيدة، كالرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والقرآن الكريم والسنّة الشريفة، وكذلك ما هو متّصل بأركان وفروع التشريع الإسلامي، كالصلاة والحجّ وغيرها، هذا إضافة إلى تناولها لجوانب من التاريخ الإسلامي وسيرة كبار رجال الإسلام وقادته. وبملاحظة نقديّة أوليّة نستجلي ما دُفن فيها من تحريف وتشويه، وتزكم أنوفنا رائحة السموم التي دُسّت في موادّها بأيدي مستشرقين يهود ونصارى بهدف تشويه معالم الفكر الإسلامي الأصيل وإثارة الشبهات حول تاريخه الناصع وشخصياته القياديّة.. ويمكننا سوق نماذج عن ذلك كالآتي:

١ - في جانب السيرة النبويّة وتحت مادّة (محمّد) (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ومادّة (قرآن) نجدهما مليئتين بالدسّ اليهودي والتحريف النصراني، والشبهات المفتعلة حول أحداث السيرة الشريفة وحقيقة القرآن الكريم، كما نجدهما قد كُتبتا بطريقةٍ نكراء

٢١٥

تُثير الاستغراب وتفتقر إلى المنهج العلمي السليم والأمانة التاريخيّة المطلوبة، ويزول منّا هذا الاستغراب إذا عرفنا أنّ كاتبهما هو المستشرق الشهير(بوهل) ، الذي امتلأت مؤلّفاته بإثارة الشبهات والدسّ والتشويه، والذي يُعدّ من أكثر المستشرقين حِقداً على الإسلام وعلى نبيّه الكريم محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

ففي مادّة (سيرة) مثلاً عند بيان أصل السيرة وطبيعتها يدرك القارئ لها مدى الغمز - وفي مواضع متعدّدة - بأخلاق الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وما عُرِف عنه مِن أمانةٍ وصدق، سواءٌ في سلوكه الخاص أم في دعوته لرسالته، كما في المقاطع التالية من هذه المادّة:

( إنّ فكرة جمع قصّة حياة النبيّ من مولده إلى وفاته في رواية متتابعة محكمة، ليست فكرة قديمة في الجماعة الإسلاميّة، ولا هي بالفكرة التي جاءت عفو الخاطر... هذا الاهتمام أبعد ما يكون عن طبيعة التاريخ بالمعنى الذي نفهمه من هذه الكلمة، وإنّما انصرف إلى تخليد ذكر المغازي على غرار ما كان يفعل العرب في الجاهليّة، تلك المغازي التي اشترك فيها المسلمون، تحت راية قائدهم الذي كان جلّ أتباعه ينظرون إليه نظرتهم إلى أمير...

وإنْ كان [النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)] لا يختلف في خُلِقه اختلافاً مشهوداً عن أُمراء الجاهليّة، وقد كان الحافز الأوّل إلى هذا الاهتمام هو الذي دفع القوم، كما نعلم، إلى إقامة السُنّة في تلك الصورة المأثورة من الحديث المروي...

فليست هذه المغازي إلاّ استمراراً أو تطوّراً لأيّام العرب... هذه السيرة يرجع أصلها إلى التحوّل الذي طرأ على شخصيّة محمّد في ضمير المسلمين الديني، وإلى شيءٍ آخر فوق هذا كلّه، وهو أنّ احتكاك المسلمين باليهوديّة والمسيحيّة، ورغبتهم في أنْ يضعوا مُنشئ الإسلام في كفّة مُنشئي هذين الدّينين، قد شجّعاهم على وضع تلك القصص التي أحاطوا بها شخص النبيّ، والتي أحدثت هذا التحوّل الشامل في طبيعة شخصيّته من مولده (بل قبل مولده) إلى وفاته).

٢ - في جانب التاريخ الإسلامي وسيرة الشخصيّات البارزة فيه قُلِبت الكثير من الحقائق، ودُسّت الكثير من السموم والشبهات، حتّى لكأنّك تقرأ

٢١٦

تاريخاً وسيرةً أُخرى لا تمتّ للإسلام والمسلمين بصلة.

ومن الشخصيّات التي طالتها الشبهات ودُسّت في سيرتها السموم، بعض صحابة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كحمزة بن عبد المطّلب، والعبّاس بن عبد المطّلب، وبلال الحبشي، ومُصعب بن عُمير، وكذلك بعض أُمّهات المؤمنين، بل طالت أيضاً بعض الأنبياء السابقين، الّذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم: كنبيّ الله صالح (عليه السلام)، ونبيّ الله شعيب (عليه السلام).

فمثلاً من صور التشويه لسيرة حمزة بن عبد المطّلب عمّ النبيّ، والحطّ من شخصيّته ومصداقيّة انتمائه المبدئي للإسلام ما يقوله المستشرق(لامنس) في مادّة (حمزة) من أنّه:

( عمّ النبيّ، وتزيد الروايات أنّه أخوه في الرضاعة سعياً منها إلى تمجيد هذا البطل من أبطال الإسلام في عهده الأوّل، ولا نعرف عن حمزة فيما عدا ذلك إلاّ القليل، ويزعم الجهّال من مادحيه أيضاً أنّه اشترك في حرب الفجار...

وفي أوّل الأمر وقف حمزة من الدّين الجديد موقف العِداء، شأنه في ذلك شأن سائر بني هاشم، على أنّ لجاج أبي جهل في خصومة النبيّ استثاره، ومِن ثمّ يُقال إنّه دخل في الإسلام بعد نزول الوحي على محمّد بسنتين، أو بستّ في روايات أُخرى.

ثمّ هاجر معه إلى المدينة وعاش فيها أوّل الأمر عيشة المغمور البائس، حتّى لقد بلغ من أمره أنْ خرج عن وعيه في يوم من الأيّام، تحت تأثير الإفراط من الشراب وحمل بسيفه على جِمالٍ لعليّ) .

٣ - في جانب آخر من التاريخ الإسلامي، أبرزت الموسوعة اهتماماً كبيراً بأصنام العرب قبل الإسلام، وما أسمته بطقوس الحجّ، التي حاولت أنْ تخلط فيها بين طقوس الحجّ قبل الإسلام وما شرّعه الإسلام من فرائض عبادة الحجّ.

هذه إلمامة إجماليّة سريعة عن مفردات الدسّ والتشويه الذي تضمّنته هذه الموسوعة، ومن المؤسف أنْ نجد أنّ الأهداف الخبيثة التي استهدفتها هذه الموسوعة وأمثالها، قد أثمرت من خلال انخداع الكثير من أبناء الإسلام بها، خصوصاً أبناء الجيل الحديث مِن مثقّفي وخرّيجي المدارس والجامعات العربيّة، حيث جعلوه

٢١٧

مصدر إلهامهم الرئيسي لمعرفة دينهم وحضارتهم وتاريخهم الإسلامي.

ونتيجة للخطر الذي استشعره بعض الكتّاب والمتتبّعين لخطط المستشرقين، في تشويه معالم الدين الإسلامي وتاريخه وحضارته، من خلال هذه الموسوعات عمدوا إلى تقديم البديل عنها، وتوجيه أبناء الإسلام لاستقاء معارف دينهم وتاريخهم وحضارتهم منها، ومن هؤلاء الكتّاب الأستاذ أحمد عطيّة الله الذي قام بتأليف(القاموس الإسلامي) بديلاً عن الموسوعة الإسلاميّة الميسّرة، الذي حرص فيه على تصحيح جميع ما فيها من أخطاء، إلاّ أنّه توفّي قبل أنْ يتمّه.

كما قامت جامعة البنجاب في الهند بمحاولةٍ أُخرى في مجال تقديم البديل، فعمدت إلى رفع جميع الموادّ المحرّفة والمشبوهة، التي وردت في دائرة المعارف الإسلاميّة وخلاصتها، المتمثّلة بالموسوعة الإسلاميّة الميسّرة، وقدّمت البديل الإسلامي عنها بأقلام علماء مسلمين، ثمّ ترجمت هذه الدائرة بشكلها المصحّح إلى لغة الأُردو.

وقامت مؤسّسة مكتب التربية العربي لدول الخليج بإصدار كتاب في مجلّدين، ضمّ أكثر من ٣٠ بحثاً بالردّ على بعض الكتب الاستشراقيّة المشهورة، الطافحة بالتشويه والمليئة بالدسّ والسموم.

ولعلّ معالم الصحوة والوعي الإسلامي، الذي برز في أُفق الأمّة الإسلاميّة، والمدد الإلهي الذي يشعّ من مراكزها العلميّة الرائدة، هيّأت أرضيّةً خصبةً، وخلقت توجّهاً كبيراً لمحاكمة كلّ ما كتبه الغرب عن الإسلام والمسلمين، سواءٌ كان بأقلام المستشرقين والمبشّرين أنفسهم أم بأقلام خرّيجي مدارسهم من أبناء الشرق، وبدأت هذه المحاكمة على شكل أبحاث شاملة ودراسات موسوعيّة، بأُسلوبٍِ علميٍّ ومنهجٍ هادف على شكل كتب أخذت مكانتها في المكتبة الإسلاميّة، أو على صفحات المجلاّت المتداولة، ممّا يجعلنا نطمئنّ إلى أنّ ما حاكه الاستكبار الغربي على يد مَن يُسمّيهم بالمستشرقين، قد بدأ عدّه التنازلي وأُفوله في عالم العلم والمعرفة.

٢١٨

دائرة المعارف الإسلاميّة

لقد كُتبت دائرة المعارف الإسلاميّة - وهي أوسع إنتاج موسوعي استشراقي - من قبل مجموعة كبيرة من المستشرقين من جنسيّات أوربيّة مختلفة، وكان المشرف على معظم موادّها هو المستشرق(فنسنك) أو (ونسنك)(١) المعروف بأنّهُ مِن أكبر المتعصّبين ضدّ الإسلام، والذي يدّعي أنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ألّف القرآن من خلاصة الكتب الدينيّة والفلسفيّة التي سبقته(٢) ، وقد نشرت هذه الدائرة باللغة العربيّة مرّتين، الأولى عام ١٩٣م إلى حدّ الحرف (عليه السلام)، والمرّة الثانية في السبعينات دون أيّ تغيير في موادّها.

ولغرض الإحاطة العلميّة بأهمّ جوانب التشويه والدسّ الذي اشتملت عليه هذه الدائرة، والأغراض والأهداف الكامنة خلف ذلك، لا بدّ لنا أنْ نتناولها من جانبين رئيسيّين:

الجانب الأوّل: وهو التعرّف على هويّة وخلفيّة أبرز العقول والأقلام التي تصدّت لكتابتها، والهدف من ذلك هو تسليط الضوء على منهج تفكير محرّري هذه الدائرة، ومدى قربهم وبعدهم عن الموضوعيّة والأمانة العلميّة في النقل والتدوين والاستنتاج، واكتشاف الأغراض والأهداف غير العلميّة - إنْ

____________________

(١) راجع الترجمة الخاصّة بـ (فنسنك) في الفصل الخامس: (نماذج من كبار المستشرقين في منهج تناولهم للشرق الإسلامي).

(٢) د. الهواري، حسين (المستشرقون والإسلام) ص٧١٠ وما بعدها.

٢١٩

وُجِدت - التي تكمن وراء ما يقع بين أيدينا من صُور ومفردات التشويه والدسّ، التي تظهر لنا أثناء التتبّع والملاحظة العلميّة النقديّة لموادّ وفصول هذه الدائرة.

الجانب الثاني: وهو مادّة الدائرة ومطالبها العلميّة، ويتمّ ذلك من خلال التتبّع التفصيلي بروح علميّة منطقيّة لموادّ وفصول هذه الدائرة، واكتشاف موارد الدسّ والتشويه فيها بعيداً عن التحميل والاختلاق، وتسليط الضوء على طبيعتها ودرجة أهمّيّتها، لتكون عاملاً مساعداً في نجاح محاولتنا لاكتشاف أهداف وأغراض هذا التشويه والدسّ.

هويّة وخلفيّة أبرز كتّابها

وفي هذا الجانب نُورد ترجمة مختصرة لنماذج من المستشرقين الذين شاركوا(فنسنك) في تحرير دائرة المعارف هذهِ وهُم:

١ - لويس ماسينيون ( Louis Massignon ١٢٩٩ - ١٣٨٢هـ، ١٨٨٣ - ١٩٦٢م)(١) :

أكبر مستشرقي فرنسا المتأخرين، وصفهُ الدكتور محمّد البهي في كتابه(الفكر الإسلامي الحديث وصلتُه بالاستعمار الغربي) بأنّه من المستشرقين الخطرين. عمَل موظّفاً في وزارة المستعمرات الفرنسيّة في شبابه، ثمّ مستشاراً لها بقيّة حياته، الراعي الروحي للجمعيّات التبشيريّة الفرنسيّة في مصر. زار العالم الإسلامي أكثر من مرّة، وخدم بالجيش الفرنسي خمس سنوات في الحرب العالميّة الأولى. كانَ عضواً بالمجمع اللغوي المصري والمجمع العربي العلمي في دمشق. متخصّص في الفلسفة والتصوّف الإسلامي(٢) .

____________________

(١) لمزيد من التفصيل لغرض الإحاطة بهويّة وتوجّهات هذا المستشرق، راجع ترجمته الخاصّة في الفصل الخامس: (نماذج من كبار المستشرقين في منهج تناولهم للشرق الإسلامي).

(٢) الزركلي، خير الدين - الأعلام (قاموس تراجم) م٥ وكذلك الدكتور البهي، محمّد - الفكر الإسلامي = الحديث وصلته بالاستعمار الغربي ص٥٥٦.

٢٢٠