كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين15%

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 376

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين
  • البداية
  • السابق
  • 376 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 127199 / تحميل: 8230
الحجم الحجم الحجم
كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً *وَحَدَائِقَ غُلْبًا *وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ) ( عبس: ٢٧ ـ ٣١ )، ثمّ قال: ( هذا كله عرفناه فما الأبّ ؟ ) ثمّ رفع عصا كانت في يده فقال: ( هذا لعمر الله هو التكلّف فما عليك أن تدري ما الأبّ، اتبعوا ما بيّن لكم هداه من الكتاب فاعملوا به، وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربّه )(١) .

(ز): خمسةُ أشخاصٍ أُخذوا في الزنا

أحضر عمر بن الخطاب خمسة نفر أخذوا في زنا فأمر أن يقام على كلّ واحد منهم الحدّ وكان أمير المؤمنين حاضراً فقال: « يا عمر، ليس هذا حكمهم »، قال عمر: أقم أنت عليهم الحكم، فقدّم واحداً منهم فضرب عنقه، وقدم الثاني فرجمه حتّى مات وقدّم الثالث فضربه الحدّ، وقدّم الرابع فضربه نصف الحدّ، وقدّم الخامس فعزّره، فتحير الناس وتعّجب عمر فقال: يا أبا الحسن خمسة نفر في قصّة واحدة، أقمت عليهم خمس حكومات ( أي أحكام ) ليس فيها حكم يشبه الآخر ؟ قال :

« نعم أما الأوّل: فكان ذميّاً وخرج عن ذمّته فكان الحكم فيه السيف.

وأمّا الثاني: فرجل محصن قد زنا فرجمناه.

وأمّا الثالث: فغير محصن زنا فضربناه الحدّ.

وأمّا الرابع: فرجل عبد زنا فضربناه نصف الحدّ.

وأمّا الخامس: فمجنون مغلوب على عقله عزّرناه ».

فقال عمر: ( لا عشت في أمّة لست فيها يا أبا الحسن )(٢) .

هذه نماذج قليلة من الموارد التي لم يرد فيها نص صريح، وقد واجهت كبار الصحابة بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وعجزوا عن حلّ معضلاتها ممّا يدلّ بوضوح، على أنّه لو كان

__________________

(١) المستدرك للحاكم ٢: ٥١٤، تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ١١: ٢٦٨، الكشّاف ٣: ٣١٤.

(٢) الكافي ٧: ٢٦٥.

١٢١

الصحابة مستوعبين لكلّ أحكام الشريعة وأبعادها، لأجابوا عليها دون تحيّر أو تردد. ولأصابوا فيما أجابوا. وهذا يدل بصراحة لا إبهام فيها، على أنّ الاُمّة كانت بحاجة شديدة إلى إمام عارف بأحكام الإسلام معرفةً كافيةً كاملةً وحامل لنفس الكفاءات والمؤهلات النفسيّة والفكريّة التي كان يتحلّى بها الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ( فيما عدا مقام الوحي والنبوة )، إذ بهذه الصورة فحسب، كان من الممكن أن يلي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ويخلفه في قيادة الاُمّة ويسد مسدّه، من حل معضلاتها، ومعالجة مشاكلها التشريعية والفكريّة المستجدّة، دون أن يحدث له ما حدث للصحابة من العجز والارتباك، ومن التحيّر والمفاجأة ـ كما عرفت ـ.

وإليك بقية الأوجه التي تدلّ على هذا الادّعاء المدعم بالدليل :

* * *

٢. الفراغ في مجال تفسير القرآن وشرح مقاصده

لم يكن القرآن الكريم حديثاً عاديّاً، وعلى نسق واحد، بل فيه: المحكم والمتشابه والعامّ، والخاصّ، والمطلق والمقيّد، والمنسوخ والناسخ، مما يجب على المسلمين أن يعرفوها جيداً ليتسنّى لهم أن يدركوا مقاصد الكتاب العزيز ومفاداته(١) .

ثمّ لـمّا كان هذا الكتاب الإلهيّ، جارياً في حديثه مجرى كلام العرب وسائراً على نهجهم في البلاغة وطرقها فإنّ الوقوف على معانيه ورموزه ولطائفه كان يتوقف على معرفة كاملة بكلامهم وبلاغتهم.

أضف إلى كل ذلك، أنّ القرآن إذ كان كتاباً إلهياً حاوياً لأدقّ المعارف وأرفعها

__________________

(١) ولقد أشار الإمام عليّعليه‌السلام إلى هذه الاُمور بقوله :

« خلّف ( أي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ) فيكم كتاب ربّكم، مبيّناً حلاله وحرامه وفرائضه وفضائله، وناسخه ومنسوخه ورخصه وعزائمه وخاصّه وعامّه وعبره وأمثاله، ومرسله ومحدوده ومحكمه ومتشابهه، مفسّراً مجمله ومبيّناً غوامضه » نهج البلاغة: الخطبة رقم (١).

١٢٢

درجةً، ومنطوياً على علوم لم تكن مألوفةً في ذلك العصر، وعلى أبعاد عديدة(١) تخفى على العاديين من الناس، فإنّ الإطلاع على هذه الأبعاد والأوجه والحقائق كان يقتضي أن يتصدى لشرحها وتفسيرها وبيان مفاهيمها العالية جليلها ودقيقها: النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أو من يليه في العلم والكفاءة والمؤهلات الفكريّة صيانةً من الوقوع في الاتجاهات المتباينة، والتفاسير المتعارضة التي تؤول إلى المذاهب المتناقضة والمسالك المتناحرة ـ كما حدث ذلك في الاُمّة الإسلاميّة ـ مع الأسف.

ولو سأل سائل :

إنّ القرآن الكريم يصف نفسه بأنه كتاب مبين إذ يقول:( قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ) ( المائدة: ١٥ ).

كما يصف نفسه بأنّه نزل بلسان عربي مبين فيقول:( وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ) ( النحل: ١٠٣ ).

ويقول في آية اخرى بأن الله سبحانه وتعالى يسّره للذكر حيث يقول مكرّراً:( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ) ( القمر: ١٧، ٢٢، ٣٢، ٤٠ ).

ويصرّح في موضع آخر بأنّه سبحانه يسره بلسان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله :( فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) ( الدخان: ٥٨ ).

ومع ذلك كيف يحتاج إلى التفسير والتوضيح، وما التفسير إلّا رفع الستر وكشف القناع عنه ؟.

كيف يحتاج إلى مبيّن ومفسّر قد قال الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله فيه: « إنّ القرآن يفسر بعضه بعضاً ».

وقال الإمام عليّعليه‌السلام في شأنه: « كتاب الله تبصرون به وتنطقون به

__________________

(١) ولقد أشار النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى هذا بقوله :

« له ظهر وبطن وظاهره حكم وباطنه علم، ظاهره انيق وباطنه عميق له نجوم وعلى نجومه نجوم لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه » الكافي ( كتاب القرآن ) ٢: ٥٩٨ ـ ٥٩٩.

١٢٣

وتسمعون به وينطق بعضه ببعض »(١) .

لأجبنا: صحيح أنّ القرآن الكريم يصف نفسه بما ذكر، ولكنّه يصف نفسه أيضاً بأنّه نزل حتى يبيّنه الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله للناس إذ يقول تعالى:( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) ( النحل: ٤٤ ).( وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إلّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ) ( النحل: ٦٤ ).

فقد وصف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في هاتين الآيتين، بأنّه مبيّن لما في الكتاب لا قارئ فقط.

فكم من فرق بين القراءة والتبيين ؟.

بل يذكر القرآن الكريم بأنّ بيان القرآن عليه سبحانه، فهو يبيّن للرسول والرسول يبيّن للناس، كما يقول سبحانه:( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ *إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ *فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثمّ إنّعَلَيْنَا بَيَانَهُ ) ( القيامة: ١٦ ـ ١٩ ).

إنّ وجود هاتين الطائفتين من الآيات في القرآن، يكشف لنا عن أنّ القرآن رغم وضوحه من حيث اللفظ والمعنى والظواهر، ورغم أنّه منزّه عن الشباهة بكتب الألغاز والأحاجي إذ أنّه كتاب تربية وتزكية وهداية عامّة، فإنّه يحتاج إلى ( مبيّن ) ومفسّر لعدّة أسباب :

أوّلاً: وجود المجملات في أحكام العبادات والمعاملات الواردة في آياته.

ثانياً: كون آياته ذات أبعاد وبطون متعددة.

ثالثاً : ، غياب القرائن الحاليّة التي كانت آياته محفوفة بها حين النزول، وكانت معلومةً للمخاطبين بها في ذلك الوقت.

كلّ هذه الاُمور توجب أن يراجع من يريد فهم الكتاب مصادر تشرح هذه الأمور، وإليك مفصل هذا القول فيما يأتي :

أوّلاً: إنّ القرآن كما ذكرنا ليس كتاباً عادياً، بل هو كتاب إلهيّ اُنزل للتربية

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة ١٢٩ ( طبعة عبده ).

١٢٤

والتعليم ولهداية البشريّة وتهذيبها، وذلك يقتضي أن ينزل القرآن بألوان مختلفة من الخطاب تناسب ما تقتضيه طبيعة التربية والتعليم، ومن هنا نشأ في أسلوب القرآن: المطلق والمقيّد، والعام والخاصّ، والمنسوخ والناسخ، والمحكم والمتشابه، والمجمل والمبيّن كمفاهيم الصلاة والزكاة والحج والجهاد وغيرها فهي رغم كونها واضحة في أول نظرة ولكنّها مجملة من حيث الشروط والأجزاء والموانع والمبطلات والتفاصيل.

فكان لابدّ أن يتولّى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بيان مجمله ومطلقه ومقيده وما شابه ذلك، وقد فعل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك بقدر ما تطلّبه ظرفه واقتضته حاجة المسلمين بيد أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكشف القناع عن جميع تفاصيل هذه الاُمور وجزئياتها قاطبة، لعدم الحاجة إلى ذلك، وتحيّناً للظروف المناسبة، وانتظاراً للحاجات والحالات المستجدّة. وإن كان قد أخبر عن اُصولها واُمهاتها أو معظمها، فتعيّن أن يخلّف النبيّ ـ من يماثله بالعلم والدراية بالوحي الإلهيّ المدوّن في الكتاب العزيز، ليسدّ مسدّه في بيان ما يتعلق بالكتاب من اُمور مستجدّة، ويكشف النقاب عن بقية الجزئيات والتفاصيل لتلك المجملات حسب الظروف والحاجات الجديدة والضرورات الطارئة، ممّا أودع النبيّ عنده من معارف الكتاب وعلومه، ويخرج إلى الاُمّة من تلكم المعارف شيئاً فشيئاً.

نعم، قال شيخ الطائفة الطوسيّرحمه‌الله في تفسير قوله سبحانه:( حم *وَالْكِتَابِ المُبِينِ ) ( الزخرف: ١ ـ ٢ والدخان: ١ ـ ٢ ).

( إنّما وصف بأنّه مبين، وهو بيان مبالغة في وصفه بأنّه بمنزلة الناطق بالحكم الذي فيه، من غير أن يحتاج إلى استخراج الحكم من مبيّن آخر، لأنّه يكون من البيان ما لا يقوم بنفسه دون مبيّن حتّى يظهر المعنى فيه )(١) .

ولكن الصحيح أنّ توصيف القرآن بكونه كتاباً مبيّناً، هو وضوح انتسابه إلى الله، بحيث لا يشك أحد في كونه كلام الله والآية نظير قوله سبحانه( ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ

__________________

(١) التبيان ٩: ٢٢٤ ( طبعة النجف الأشرف ).

١٢٥

فِيهِ ) ( البقرة: ٢ )، أي لا ريب أنّه منّزل من جانب الله سبحانه.

أضف إلى ذلك أنّ الجمع بين هذه الآية وقوله سبحانه:( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) ( النحل: ٤٤ ) وقوله سبحانه:( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ *إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ *فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثمّ إنّعَلَيْنَا بَيَانَهُ ) ( القيامة: ١٦ ـ ١٩، ، يقضي، بأنّ المراد هو وضوح مفاهيمه الكليّة لا خصوصياته وجزئياته كما أوضحناه.

ثانياً: لـمّا كان القرآن كتاباً خالداً انزل ليكون دستور البشريّة مدى الدهور، ومعجزة الرسالة الإسلامية الخالدة، تطلّب ذلك أن يكون ذا أبعاد وبطون يكتشف منه كل جيل، ما يناسب عقله وفكره وتقدّمه وترقّيه في مدارج الكمال والصعود، وقد أشار الإمام عليّ بن موسى الرضاعليه‌السلام إلى هذا الأمر حيث قال عن القرآن وعلّة خلوده وغضاضته الدائمة: « إنّ الله تعالى لم يجعله لزمان دون زمان ولا لناس دون ناس، فهو في كلّ زمان جديد، وعند كلّ قوم غضّ إلى يوم القيامة »(١) .

فكأنّ القرآن الكريم ـ في انطوائه على الحقائق العلميّة الزاخرة، وعدم إمكان التوصل إلى أعماقه ـ هو النسخة الثانية لعالم الطبيعة الواسع الأطراف، الذي لا يزيد البحث فيه والكشف عن حقائقه وأسراره، إلّا معرفة أنّ الإنسان لا يزال في الخطوات الاولى من التوصّل إلى مكامنه الخفيّة وأغواره، فإنّ كتاب الله تعالى كذلك لا يتوصّل إلى جميع ما فيه من الحقائق والأسرار، لأنّه منزّل من عند الله الذي لا يضمّه أين ولا تحدّده نهاية، ولا تحصى أبعاد قدرته، ولا تعرف غاية عظمته.

إذن، فكون القرآن أمراً مبيّناً لا ينافي أن تكون له أبعاد متعدّدة، وأفاق كثيرة، يكون البعد الواحد منه واضحاً مبيّناً دون الأبعاد الاُخرى.

ولهذا، فإنّ الوقوف على البطون المتعددة بحاجة إلى ما روي من روايات وأخبارحول الآيات، وما ورد في السّنّة من النصوص المبيّنة والأحاديث الموضّحة ،

__________________

(١) البرهان في تفسير القرآن ١: ٢٨.

١٢٦

حتّي تكشف بعض البطون والأبعاد الخفيّة كما هو الحال في بعض أحاديث النبيّ وأهل بيته: وإن كان بعض هذه البطون تنكشف لنا بمرور الزمن وتكامل العقول ونضج العلوم.

وبتعبير آخر: إنّ فهم بعد واحد من أبعاد معاني الآية القرآنيّة، وإن كان ممكناً للجميع، غير أنّ وضوح بعد واحد ومعلوميّته لا تغني عن الإحاطة بالأبعاد والأوجه الاخرى لها.

إنّ فهم بعد واحد من أبعاد الآيات التالية :

( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلّا اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) ( الأنبياء: ٢٢ ).

( وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَٰهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ) ( المؤمنون: ٩١ ).

( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ ) ( النمل: ٨٢ ).

وكذا الآيات الواقعة في سورة الحديد، وما بدأ من السور بالتسبيحات.

أقول: إنّ فهم بعد واحد من أبعاد هذه الآيات وإن كان أمراً ميسّراً للجميع، ولكن لا يمكن لمن له أدنى إلمام بمفاهيم القرآن وأسلوب خطاباته أن يدّعي، أنّ جميع أبعاد هذه الآيات مفهومة للجميع بمجّرد الوقوف على اللغة العربيّة والاطّلاع على قواعدها.

كلاّ، فإنّ الوقوف على مغزى هذه الآيات وأبعادها وبطونها وآفاقها، يحتاج إلى جهود علميّة واطّلاع شامل ودقيق على السنّة المطهّرة، وما جاء فيها حول الآيات من توضيحات وبيانات.

وقد تمكّن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يرفع النقاب عن جملة من هذه الأبعاد في حدود ما سمحت له الظروف، واستعدّت له النفوس المعاصرة، فكان لابدّ من وجود من يخلّفه

١٢٧

للقيام بهذه المهمة الخطيرة، فيما يأتي من الزمان، ولمن يأتي من الأفراد والجماعات.

ثالثاً: لقد نزل القرآن الكريم بالتدريج في مناسبات مختلفة كانت تستدعي نزول آيات من الوحي الإلهيّ المقدسّ ولذلك، فقد كان القرآن ـ في عصر تنزّله ـ محفوفاً بالقرائن التي كانت تبيّن مقاصده، وتعيّن على فهم أهدافه وغاياته.

ولهذا فإنّ القرآن وإن كان مبيّناً في حين نزوله بيد أنّ مرور الزمن، وبعد الناس عن عهد نزوله، وانفصال القرائن الحالية عن الآيات صيّر القرآن ذا وجوه وجعل آياته ذات احتمالات عديدة، لغياب علل النزول وأسبابه التي كانت قرائن حاليّة من شأنها أن توضّح مقاصد الكتاب وتفسر عن غاياته.

وهذا أمر يعرفه كلّ من له إلمام بالقرآن الكريم، وتاريخه، وعلومه.

ولأجل ذلك، يطلب الإمام عليّعليه‌السلام من ابن عباس عندما بعثه للمحاجّة مع الخوارج أن لا يحاججهم بالقرآن، لأنّه أصبح ذا وجوه إذ يقولعليه‌السلام : « لا تخاصمهم بالقرآن، فإنّ القرآن حمّال ذو وجوه تقول ويقولون. ولكن حاججهم بالسنّة فإنهم لم يجدوا عنها محيصاً »(١) .

وإليك نماذج من الاختلاف الموجود في هذه الآيات بين الاُمّة، ولا يمكن رفع هذا الاختلاف إلّا بإمام معصوم تعتمد عليه الاُمّة، وتعتبر قوله قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

١. قال سبحانه في آية الوضوء:( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) ( المائدة: ٦ ).

وقد تضاربت الآراء في فهم هذه الآية، وصارت الاُمّة إلى قولين :

فمن عاطف لفظ( أَرْجُلَكُمْ ) على الرؤوس فيحكم على الأرجل بالمسح.

ومن عاطف له على الأيدي فيحكم على الأرجل بالغسل.

ومن المعلوم، أنّ إعراب القرآن الكريم إنّما حدث بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

__________________

(١) نهج البلاغة: الرسالة (٧٧).

١٢٨

فأيّ الرأيين هو الصحيح ؟(١) .

٢. لقد حكم الله تعالى على السارق والسارقة بقطع الأيدي حيث قال:( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ) ( المائدة: ٣٨ ).

وقد اختلفت الاُمّة في مقدار القطع وموضع اليد :

فمن قائل: إنّ القطع من اُصول الأصابع دون الكفّ وترك الإبهام، كما عليه الإماميّة وجماعة من السلف.

ومن قائل: إنّ القطع من الكوع، وهو المفصل بين الكفّ والذراع، كما عليه أبو حنيفة ومالك والشافعيّ.

ومن قائل: إنّ القطع من المنكب كما عليه الخوارج(٢) .

٣. أمر الله سبحانه الورثة بإعطاء السدس للكلالة في قوله سبحانه:( وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ ) ( النساء: ١٢ ).

وفي الوقت نفسه يحكم سبحانه بأعطاء الكلالة النصف أو الثلثين كما قال:( إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ ) ( النساء: ١٧٦ ).

فما هو الحل وكيف الجمع بين هاتين الآيتين ؟

لا شكّ أنّه لم يكن ثمة إبهام في مورد هاتين الآيتين بل حدث الإبهام في ذلك فيما بعد.

ألا يدلّ هذا على ضرورة وجود الإمام، الذي يرفع الستار عن الوجه الحقّ بما

__________________

(١) وممّن أقرّ بالحقيقة وأنّ مدلولها يوافق مذهب الإماميّة، ابن حزم الظاهريّ في كتابه المحلّى، والفخر الرازيّ في تفسيره والحلبيّ في كتاب منية المتملّي في شرح غنية المصلّي فلاحظ المحلّى ٣: ٥٤، لاحظ المسألة (٢٠٠) فإنّه أدّى حقّ المقال فيها، ومفاتيح الغيب ١١: ١٦١ ( طبع دار الكتب العلمية ).

(٢) راجع الخلاف للطوسيّ ( كتاب السرقة ): ١٨٤.

١٢٩

عنده من علوم مستودعة.

ولهذا أيضاً عمد علماء الإسلام إلى تأليف كتاب حول شأن نزول الآيات، كالواحديّ وغيره، جمعوا فيها ما عثروا عليه من وقائع وأحاديث في هذا السبيل.

على أنّ بعض الآيات ما لم يضّم إليها، ما ورد حولها من شأن النزول لكانت غير واضحة المقصود، وإليك نماذج من ذلك :

١. قوله سبحانه:( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَىٰ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) ( البقرة: ١٨٩ ).

فيقال، أي مناسبة بين السؤال عن الأهلّة والإجابة عنها بأنّها مواقيت للناس وبين قوله:( وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا ) وعلى فرض وضوح المناسبة، ماذا يقصد القرآن من هذا الدستور( وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ) ؟ أليس هذا توضيحاً للواضح ؟ ولكن بالمراجعة إلى ما ورد حوله يظهر الجواب عن كلا السؤالين.

٢. قوله سبحانه:( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ ) ( النمل: ٨٢ ).

فما هذه الدابة التي تخرج من الأرض، وكيف تكلمهم ومع من تتكلم ؟.

٣. وقوله سبحانه:( وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إلّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) ( التوبة: ١١٨ ).

إلى غير ذلك من هذه الآيات التي تتضح الحقيقة فيها بالمراجعة إلى ما حولها من الأحاديث الصحيحة.

هذا هو مجمل القول في علّة احتياج القرآن إلى مبيّن، وللوقوف على تفصيله لابدّ من بسط الكلام والتوسع في الحديث، وقد ألفّنا في ذلك رسالةً خاصّة.

١٣٠

إنّ إيقاف الاُمّة على مقاصد الكلام الإلهيّ، من دون زيادة أو نقصان، ومن دون تحريف أو تزييف، ومن دون جهل أو شطط يحتاج إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أو من يتحلى بمثل ما يتحلى به النبيّ من كفاءات علمية ومؤهلات فكريّة ويكون مضافاً إلى ذلك عيبةً لعلمه، وأميناً على سره، ومؤدّباً بتأديبه، وناشئاً على ضوء تربيته، حفاطاً على خطّ الرسالة من الشذوذ، وصيانةً للفكر الإسلاميّ من الانحراف، وصوناً للاُمّة من الوقوع في متاهات الحيرة والضلال والأخذ بالأهواء والأضاليل.

لقد كان من المتعيّن على الله بحكم الضرورة والعقل، وانطلاقاً من الاعتبارات المذكورة، أن يقرن كتابه بهاد يوضح خصوصياته، ويبيّن أبعاده، ويكشف عن معالمه، ليؤوب إليه المسلمون عند الحاجة، وترجع إليه الاُمّة عند الضرورة ويكون المرجع الصادق الأمين لمعرفة القرآن حتّى يتحقّق بذلك غرض الرسالة الإلهيّة، وهو الإرشاد والهداية، ودفع الاختلاف والغواية الناشئة من التفسيرات الشخصيّة العفويّة للقرآن الكريم.

إنّ ترك أمر الاُمّة وعدم نصب من يقدر ـ فيما يقدر ـ على هذه المهمّة القرآنيّة الخطيرة على ضوء ما استودع عنده النبيّ من معارف وعلوم إلهيّة قرآنيّة يؤدّي إلى اختلاف الاُمّة في الرأي والتفسير، وهو بدوره يؤدّي لا محالة إلى ظهور الفرق والمذاهب المختلفة الشاذّة كما يشهد بذلك تأريخ الاُمّة الإسلاميّة.

يقول منصور بن حازم، قلت لأبي عبد الله ( جعفر بن محمّد الصادق )عليه‌السلام :

إنّ الله أجلّ وأكرم من أن يعرف بخلقه بل الخلق يعرفون بالله.

قال: « صدقت ».

قلت: إنّ من عرف أنّ له ربّاً فينبغي له أن يعرف أنّ لذلك الربّ رضىً وسخطاً، وأنّه لا يعرف رضاه وسخطه إلّا بوحي أو رسول، فمن لم يأته الوحي فقد ينبغي له أن يطلب الرسل فإذا لقيهم عرف أنّهم الحجّة، وأنّ لهم الطاعة المفترضة، وقلت للناس: تعلمون أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان هو الحجّة من الله على خلقه ؟ قالوا: بلى، قلت: فحين

١٣١

مضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من كان الحجّة على خلقه ؟ فقالوا: القرآن، فنظرت في القرآن فإذا هو يخاصم به المرجّيء والقدريّ والزنديق الذي لا يؤمن به حتّى يغلب الرجال بخصومته، فعرفت أنّ القرآن لا يكون حجّةً إلّا بقيّم، فما قال فيه من شيء كان حقاً، فقلت لهم: من قيّم القرآن ؟(١) فقالوا: ابن مسعود قد كان يعلم، وعمر يعلم، وحذيفة يعلم، قلت: كلّه ؟ قالوا: لا، فلم أجد أحداً يقال أنّه يعرف ذلك كلّه إلّا عليّاًعليه‌السلام وإذا كان الشيء بين القوم فقال هذا: لا أدري، وقال هذا: لا أدري، وقال هذا: لا أدري، وقال هذا: أنا أدري، فأشهد أنّ عليّاًعليه‌السلام كان قيّم القرآن، وكانت طاعته مفترضةً، وكان الحجّة على الناس بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّ ما قال في القرآن فهو حقّ.

فقال ( الإمام الصادق ): « رحمك الله »(٢) .

كما ورد شاميّ على الإمام جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام فقال له: « كلّم هذا الغلام »، يعني هشام بن الحكم، فقال: نعم، ثمّ دار بينهم حديث فقال الغلام للشاميّ: أقام ربّك للناس حجّةً ودليلاً كيلا يتشتتوا أو يختلفوا، يتألّفهم ويقيم أودهم ويخبرهم بفرض ربّهم.

قال: فمن هو ؟

قال: رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

قال هشام: فبعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

قال: الكتاب والسنّة.

قال هشام: فهل نفعنا اليوم الكتاب والسنّة في رفع الاختلاف عنّا ؟

قال الشاميّ: نعم.

قال: فلم اختلفنا أنا وأنت وصرت إلينا من الشام في مخالفتنا إياّك ؟

__________________

(١) أي من يقوم بأمر القرآن ويعرف ظاهره وباطنه ومجمله ومأوّله ومحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه بوحي إلهيّ أو بإلهام رباني، أو بتعلم نبويّ ( راجع مرآة العقول ).

(٢) الكافي ١: ١٦٨ ـ ١٦٩.

١٣٢

قال: فسكت الشاميّ.

فقال أبو عبد الله للشاميّ: « مالك لا تتكلم ؟ ».

قال الشاميّ: إن قلت: لم نختلف كذبت، وإن قلت: إنّ الكتاب والسنّة يرفعان عنّا الاختلاف أبطلت، لأنهّما يحتملان الوجوه، وإن قلت: قد اختلفنا وكلّ واحد منّا يدّعي الحقّ، فلم ينفعنا إذن الكتاب والسنّة إلّا أنّ لي عليه هذه الحجّة(١) .

أجل، لابدّ من قائم بأمر القرآن وهاد للاُمّة إلى مقاصده وحقائقه، لكي لا تضلّ الاُمّة ولا تشذّ عن صراطه المستقيم.

وهذا الهادي الذي يجب أن يقرن الله به كتابه هو من عناه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله الذي تواتر نقله بين السنّة والشيعة.

فقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « يوشك أن يأتيني رسول ربّي فأجيب إني تارك فيكم خليفتين كتاب الله وأهل بيتي وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض »(٢) .

وروي هكذا أيضاً: « إنّي قد تركت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي: الثّقلين، أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي، إلّا وأنهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض »(٣) .

فقد صرح النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بعدم افتراق الكتاب والعترة، وهذا دليل على علمهم بالكتاب علماً وافياً وعدم مخالفتهم له قولاً وعملاً.

كما أنّه جعلهما خليفتين بعده، وذلك يقتضي، وجوب التمسك بهم كالقرآن

__________________

(١) الكافي ١: ١٧٢.

(٢ و ٣) رواه أحمد بن حنبل في مسنده ٥: ١٨٢ و ١٨٩، والحاكم في مستدركه ٣: ١٠٩، ومسلم في صحيحه ٧: ١٢٢، والترمذيّ في سننه ٢: ٣٠٧، والدارميّ في سننه ٢: ٤٣٢، والنسائيّ في خصائصه: ٣٠، وابن سعد في طبقاته ٤: ٨، والجزريّ في اسد الغابة ٢: ١٢، وغيرها من كتب المسانيد والتفاسير والسير والتواريخ واللغة من الفريقين.

وقد أفرد دار التقريب رسالةً ذكر فيها مسانيد الحديث ومتونه ونشره عام ١٣٧٥ ه‍.

١٣٣

ولزوم اتّباعهم على الإطلاق لعلمهم بالكتاب وأسراره وبمصالح الاُمّة واحتياجاتها المتعلقة بالقرآن.

وهو من حيث المجموع، يدلّ على حاكميّة العترة النبويّة وسلطتهم وولايتهم على الناس بعد الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

* * *

٣. الفراغ في مجال تكميل الاُمّة روحياً

إنّ نظرةً دقيقةً إلى الكون، تهدينا إلى أنّ الله خلق كلّ شيء لهدف معيّن هو غاية كماله، وعلّته الغائيّة، وقد زوده بكلّ ما يبلّغه إلى ذلك الكمال، ويوصله إلى تلك الغاية المنشودة.

ولم يكن « الإنسان » بمستثنى من هذه القاعدة الكلية الكونيّة، فقد زوده الله تعالى ـ بعد أن أفاض عليه الوجود ـ بكل ما يوصله إلى كماله الماديّ

ولم يكن معقولاً أن يهمل الله تكامل الإنسان في الجانب المعنويّ، وهو الذي أراد له الكمال المادّيّ وهيّأ له أسبابه، وقيّض وسائله.

ولمّا كان تكامل الإنسان في الجانبين: المادّيّ والمعنويّ لا يمكن إلّا في ظلّ الهداية الإلهيّة خاصّةً، وكانت الهداية فرع الإحاطة بما في الشيء من إمكانات وخصوصيّات وأجهزة وحاجات، وليس أحد أعرف بالإنسان من خالقه فهو القادر على هدايته، وتوجيهه، نحو التكامل والصعود إلى كماله المطلوب.

من هنّا تطلّب الأمر إرسال الرسل إلى البشر ليضيئوا للبشريّة طريق الرقيّ والتقدّم، بالتزكية والتعليم والتربية، ويساعدوها على تجاوز العقبات والعراقيل، ليبلغوا بها إلى الكمال الذي أراده الله لها.

وقد قام انبياء الله ورسله الكرام ـ بكلّ ما في مقدورهم ووسعهم ـ بهداية البشريّة على مدار الزمن، وحقّقوا من النجاحات والنتائج العظيمة ما غيّر وجه التاريخ البشريّ ،

١٣٤

وكان منشأ الحضارات الإنسانيّة العظمى، ومنطلقاً للمدنيّات الخالدة.

لقد كان دور الأنبياء والرسل في تكميل البشريّة معنويّاً وروحيّاً، دوراً أساسيّاً وعظيماً، بحيث لولاه لبقيت البشريّة في ظلام دامس من التخلّفات الفكريّة والجاهليّات المقيتة.

ولقد كان هذا الدور منطقيّاً وطبيعيّاً، فالبشريّة بحكم ما تتنازعها من أهواء ومطامع، ويكتنفها من جهل بالحقّ والعدل، لا يمكنها بنفسها أن تشقّ طريقها نحو التكامل المنشود فكم من مرّة ابتعدت البشريّة عن العناية الربانيّة والهدايّة الإلهيّة، فسقطت في الحضيض، ونزلت إلى مستوى الطبيعة البهيميّة وعادت كالأنعام بل أضلّ.

ولقد أشار الإمام السجّاد زين العابدين عليّ بن الحسينعليه‌السلام إلى حاجة البشريّة إلى الهدايّة الإلهيّة، وأثر هذه الهداية في تكامل البشريّة سلباً وإيجاباً، إذ قال في دعائه الأوّل في الصحيفة السجاديّة: « الحمد لله الذي لو حبس عن عباده معرفة حمده على ما أبلاهم من مننه المتتابعة وأسبغ عليهم من نعمه المتظاهرة لتصرّفوا في مننه فلم يحمدوه وتوسّعوا في رزقه فلم يشكروه، ولو كانوا كذلك لخرجوا من حدود الإنسانيّة إلى حدّ البهيميّة، فكانوا كما وصف في محكم كتابه( إِنْ هُمْ إلّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ) »(١) .

ولقد كان إيصال هذه الهداية الإلهيّة التكميليّة الضروريّة إلى البشر غير ميسور إلّا عن طريق إرسال الرسل وبعث الأنبياء الأصفياء الهداة.

إنّ دراسةً سريعةً خاطفةً لحالة العالم الإنسانيّ، وخاصّة حالة المجتمع العربيّ الساكن في الجزيرة العربية قبيل الإسلام، وما كان يعاني منه الإنسان من تخلف وتأخّر وسقوط، وما تحقق له من تقدّم ورقيّ واعتلاء في جميع الأبعاد الأخلاقيّة والفكريّة والإنسانيّة بفضل الدعوة المحمديّة، والجهود التي بذلها صاحب هذه الدعوة المباركة ،

__________________

(١) الصحيفة السجادية: الدعاء الأوّل.

١٣٥

وبفضل ما قام به من عناية ورعاية وإراءة الطريق الصحيح، يكشف عن مدّعى تأثير الهداية الإلهيّة في تكامل المجتمع الإنسانيّ.

إنّ توقف تكامل البشريّة الروحيّ والمعنويّ على إرسال الرسل، وهداية الأنبياء ورعايتهم، هو نفسه يستدعي، وجود الخلف المعصوم العارف بالدين، للنبيّ، ليواصل دفع المجتمع الإسلاميّ في طريق الكمال، ويحفظه من الانقلاب على الأعقاب، والتقهقر إلى الوراء، كيف لا، ووجود الإمام المعصوم العارف بأسرار الشريعة ومعارف الدين، ضمان لتكامل المجتمع، وخطوة كبيرة في سبيل إرتقائه الروحيّ والمعنويّ.

فهل يسوغ لله سبحانه أن يهمل هذا العامل البنّاء الهادي للبشريّة إلى ذروة الكمال ؟.

إنّ الله سبحانه جهّز الإنسان بأجهزة ضروريّة وغير ضروريّة، ليوصله إلى الكمال المطلوب حتّى أنّه تعالى قد زودّه بإنبات الشعر على أشفار عينيه وحاجبيه وتقعير الأخمص من القدمين، لكي تكون حياته لذيذة غير متعبة، فهل تكون حاجته إلى هذه الاُمور أشد من حاجته إلى الإمام المعصوم الذي يضمن كماله المعنوي ؟(١) .

وما أجمل ما قاله أئمة أهل البيت: في فلسفة وجود الإمام المعصوم المنصوب من جانب الله سبحانه، ومدى تأثيره في تكامل الاُمّة :

أ ـ يقول الإمام جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام : « إنّ الأرض لا تخلو إلّا وفيها إمام كي ما إذا زاد المؤمنون شيئاً ردهم وإذا نقصوا شيئاً أتمّه لهم »(٢) .

ب ـ روى أبو بصير عن الإمام الصادق [ جعفر بن محمّد ] والإمام الباقر [ محمّد بن عليّ ]عليهما‌السلام : « إنّ الله لم يدع الأرض بغير عالم ولولا ذلك لم يعرف الحقّ من الباطل »(٣) .

__________________

(١) هذا الاستدلال مأخوذ من كلام الشيخ الرئيس ابن سينا في إلهيّات الشفا وكتاب النجاة ( له أيضاً ): ٣٠٤.

(٢ و ٣) الكافي ١: ١٧٨.

١٣٦

ج ـ قال الإمام أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام في نهج البلاغة: « أللّهم بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجّة، إمّا ظاهراً مشهوراً وإمّا خائفاً مغموراً، لئلاّ تبطل حجج الله وبيّناته »(١) .

وفي حوار طويل جرى بين هشام بن الحكم وهو شاب وبين عمرو بن عبيد العالم المعتزليّ البصريّ، أشار إلى الفائدة المعنويّة الكبرى لوجود الإمام المعصوم فقال هشام: أيّها العالم إنّي رجل غريب أتأذن لي في مسألة ؟

فقال: نعم.

فقال: ألك عين ؟

قال: نعم.

قال: فما تصنع بها ؟

فقال: أرى بها الألوان والأشخاص.

قال: فلك أنف ؟

فقال: نعم.

قال: فما تصنع به ؟

فقال: أشمّ به الرائحة.

قال: ألك فم ؟

فقال: نعم.

قال: فما تصنع به ؟

فقال: أذوق به الطعام.

قال: فلك اُذن ؟

فقال: نعم.

قال: فما تصنع به ؟

__________________

(١) نهج البلاغة: قصار الكلمات.

١٣٧

فقال: أسمع به.

قال: ألك قلب ؟

فقال: نعم.

قال: فما تصنع به ؟

فقال: اميّز به كلّما ورد على هذه الجوارح والحواس.

قال: أو ليس في هذه الجوارح غنىً عن القلب ؟

فقال: لا.

قال: وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة ؟

فقال: يا بنيّ إنّ الجوارح إذا شكّت في شيء شمّته أو رأته، أو ذاقته، أو سمعته، ردته إلى القلب فيستيقن اليقين ويبطل الشكّ.

قال هشام: فإنّما أقام الله القلب لشكّ الجوارح [ أي لضبطها ] ؟

قال: نعم.

قال: لا بدّ من القلب وإلاّ لم تستيقن الجوارح ؟

قال: نعم.

قال: يا أبا مروان، فالله تبارك وتعالى لم يترك جوارحك حتّى جعل لها ( إماماً ) يصحّح لها الصحيح ويتيّقن به ما شكّ فيه، ويترك هذا الخلق كلهم في حيرتهم وشكّهم واختلافهم لايقيم لهم ( إماماً )يردون إليه شكّهم وحيرتهم ويقيم لك ( إماماً ) لجوارحك تردّ إليه حيرتك وشكّك ؟!

قال هشام: فسكت ولم يقل لي شيئاً(١) .

وغير خفي على القارئ النابه، أنّ لزوم الحاجة إلى الإمام المعصوم ليس بمعنى تعطيل أثر الكتاب والسنّة وإنكار قدرتهما على حلّ الكثير من المشكلات والاختلافات، بالنسبة إلى من يرجع إليهما بنيّة صادقة، وتجرّد عن الآراء المسبقة.

__________________

(١) الكافي ١: ١٧٠.

١٣٨

غير أنّ هناك مسائل واُموراً عويصةً ـ خصوصاً فيما يرجع إلى المبدأ والمعاد وإلى فهم كتاب الله وسنّة رسوله ـ فلا مناص للاُمّة من وجود إمام عارف معصوم يخلِّف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ويقوم مقامه في تكميل المجتمع الإسلاميّ في جميع شؤونه.

وصفوة القول: أنّ تكامل البشريّة الروحيّ والمعنويّ كما أنّه منوط ببعثة الأنبياء ووجود الرسل، فهو كذلك منوط بوجود الإمام المعصوم الذي يتسنى له بما اوتي من علم وعصمة وملكات عالية وكفاءات قياديّة أن يوصل هداية المجتمع الإسلاميّ إلى ذرى الكمال الروحيّ والارتقاء المعنويّ بلا تعثّر ولا إبطاء، ولا تقهقر ولا تراجع.

ومن المعلوم، أنّ الاُمّة لا تقدر على معرفة ذاك الإمام، إلّا بتنصيب من الله سبحانه وتعيينه.

٤. الفراغ في مجال الرد على الأسئلة والشبهات

لقد تعرض الإسلام منذ بزوغه لأعنف الحملات التشكيكية، وكان هدفاً لسهام الشبهات والتساؤلات العويصة والمريبة، التي كان يثيرها اعداء الإسلام والنبيّ والمسلمين من اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين.

وقد قام الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله في حياته بردّ هذه الشبهات وتبديد تلك الشكوك وصدّ الحملات التشكيكيّة بحزم فريد، وتفوّق عليها بنجاح كبير مستعيناً بالوحي الإلهيّ.

وقد كانت هذه الشبهات تتراوح بين التشكيك في أصل وجود الله أو توحيده أو صدق الرسالة الإسلاميّة أو المعاد والحشر، وغيرها من الاُمور الاعتقاديّة وبعض الاُمور العمليّة.

ولا شكّ، أنّ هذه الحملات كانت تجد اذناً صاغيةً بين بعض المسلمين، وتوجب بعض التزعزع في مواقفهم إلّا أنّها كانت تتبدّد وينعدم أثرها بما كان يقوم به الرسول الأكرم المعلم من ردّ ودفع قاطع وحاسم.

١٣٩

نماذج من الأسئلة العويصة

عندما راجعت قريش يهود يثرب لمعرفة صدق ما يدّعيه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لهم اليهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهنّ، فإن لم يخبر بها فالرجل متقوِّل فروا فيه رأيكم :

١. سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، ما كان أمرهم ؟ فإنّه قد كان لهم حديث عجب.

٢. وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه ؟

٣. وسلوه عن الروح ما هي ؟

فأقبلوا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وطرحوا عليه الأسئلة المذكورة، فأخبرهم عن أجوبتها، وأخبرهم بأنّ الأوّل، هم أصحاب الكهف الذين ذكرهم القرآن في سورة الكهف، والثاني، هو ذو القرنين الذي ذكره الله في سورة الكهف أيضاً، وأمّا الثالث فقد أوكل علمه إلى الله بأمره حيث قال:( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إلّا قَلِيلاً ) ( الإسراء: ٨٥ )، وقد أخبر بكل ذلك بما أوحى الله تعالى إليه(١) .

كما قدم جماعة من كبار النصارى وعلمائهم إلى المدينة لمحاججة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فاستدلوا لاعتقادهم في المسيحعليه‌السلام بكونه ولداً لله، بأنّه لم يكن له أب يعلم وقد تكلّم في المهد، وهذا لم يصنعه أحد من ولد آدم قبله، فأجابهم بما أوحى إليه الله سبحانه بأنّ أمر عيسى ليس أغرب من أمر آدم الذي لم يكن له لا أب ولا أمّ. فهو أعجب من عيسى الذي ولد من أمّ حيث قال الله في هذا الصدد:( إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) ( آل عمران: ٥٩ )(٢) .

وعن أمير المؤمنين عليٍّعليه‌السلام أنّه اجتمع يوماً عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أهل خمسة أديان: اليهود والنصارى والثنويّة والدهريّة ومشركو العرب.

ثمّ وجّه كلّ طائفة من هذه الطوائف أسئلة عويصة ومشكلة إلى النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) سيرة ابن هشام ١: ٣٠٠ و ٥٧٥.

(٢) سيرة ابن هشام ١: ٣٠٠ و ٥٧٥.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

خياله المتوقّد أنْ يصف الله بصفات واضحة معيّنة،...) إلى آخر القول، ففيه ما في قول سابقه(فنسنك) من أنّه يوحي بأنّ الرسول محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يكن قد أُوحي له من الله تعالى، إنّما هو الذكاء أو الخيال المتوقّد، رغم أنّ لفظهم لم يكن صريحاً في ذلك وسنؤجّل ردّه - كما اشرنا سلفاً - إلى بحثٍ مستقلٍ لاحق يستوعب الإثارات التي سيأتي ذكرها تباعاً في هذه الشبهة.

والظريف أنّ( ماكدونالد هذا قد اعترف بوضوح الصفات وجلاء معانيها رغم تناقضه في مقاطع أُخرى من أقواله في ذلك، يذكرها تحت نفس مادّة (الله) وسنأتي على بيانها تباعاً إنْ شاء الله).

تناقض القرآن والتردّد في بعض آياته

وقد تضمّنت هذه المقولة على دسّ وتشويه يهدف إلى إثارة شبهة أنَّ في القرآن تناقضاً وفي بعض آياته تردّداً، منها ما جاء تحت مادّة (إبراهيم)، يقول (فنسنك):( كان سبرنجر - Leben: Sprenger und Lehredes Mohammad ، ج٣، ص٢٧٦ وما بعدها - أوّل من لاحظ أنّ شخصيّة إبراهيم كما في القرآن مرّت بأطوار قبل أنْ تصبح في نهاية الأمر مؤسِّسَةً للكعبة، وجاء سنوك هجروينيه (٢٠ وما بعدها) بعد ذلك بزمن فتوسّع في بسط هذه الدعوى، فقال:

إنّ إبراهيم في أَقدم ما نزل من الوحي (الذاريات - آية ٢٤ وما بعدها، الحجَر - آية ٥ وما بعدها، الصافّات - آية ٨١ وما بعدها، الأنبياء - آية ٥٢ وما بعدها، العنكبوت - آية ١٥ وما بعدها) وهو رسولٌ من الله أنذر قومه كما تُنذر الرسُل، ولم تُذكر لإسماعيل صِلةٌ به، وإلى جانب هذا يُشار إلى أنّ الله لم يرسل من قبل إلى العرب نذيراً (السجدة - آية ٢، سبأ - آية ٤٣، يس - آية ٥)، ولم يُذكر قط أنّ إبراهيم هو

٢٤١

واضع البيت، ولا أنّه أوّل المسلمين، أمّا السوَر المدنية فالأمر فيها على غير ذلك، فإبراهيم يُدعى حنيفاً مسلماً، وهو واضع ملّة إبراهيم، رفع مع إسماعيل قواعد بيتها المحرّم - الكعبة - (البقرة - آية ١١٨ وما بعدها، آل عمران - آية ٦٠، ٨٤... الخ) ولمّا أخذت مكّة تشغل جلّ تفكير الرسول، أصبح إبراهيم أيضاً المشيّد لبيت هذهِ المدينة المقدّس) (١) .

وفي مورد آخر وتحت مادّة (إسرائيل) يدّعي (سنوك) تناقضاً آخر في نسبة يعقوب لإبراهيم، فيقول:( ويظهر أنّ محمّداً كان أوّل الأمر يعتبر يعقوب ابناً لإبراهيم فعندما زُفَّت البشرى لسارة يقول:

( ...فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ) الآية - ٧١ من سورة هود. سنوك هجروينيه، ص٣٢)(٢) .

وتحت مادّة (صالح) يقول (بول Fr. Buhl ): (وممّا يستلفت النظر بالإضافة إلى ذلك أنّ قصّتَي صالح وهود (انظر هذه المادّة) تناقضان الدعوة المألوفة، التي أتى بها محمّد في سوَر العهد المكّي، من حيث إنّه قال إنّه لم يُرسل من قبله نبيٌّ إلى العرب (سورة القصص، الآية ٤٦؛ سورة السجدة، الآية ٢؛ سورة سبأ، الآية ٤٣؛ سورة يس، الآية ٥)(٣) .

وحول الناسخ والمنسوخ كانت عباراتهم صريحةً ومباشرة في ادّعاء التناقض في آيات القرآن، حيث يقول (نولدكه Noldeke Sc. Hwally ) تحت مادّة (أُصول): (وكان هَمّ المفسّرين المتأخّرين التخلّص من المتناقضات العديدة الواردة في القرآن، والتي تُصوّر لنا تدرّج محمّد في نبوّته، إمّا بما عمدوا إليه من التوفيق فيما بينها، وأمّا بالاعتراف بأنّ الآيات المتأخّرة تنسخ ما قبلها، وذلك في

____________________

(١) دائرة المعارف الإسلاميّة ١: ٢٧.

(٢) المصدر السابق ٢: ١١١ - ١١٢.

(٣) المصدر السابق ١٤: ١٠٧.

٢٤٢

الآيات التي يشتدُّ فيها التناقض بين تلك الآيات)(١) .

وجاء في موضع آخر تحت مادّة (عقيدة محمّد في الله): (وقد عرّف محمّد الله بأنّه الملك، المنتقم الغيور، وأنّه سيُحاسب الناس مِن غير شك ويُعاقبهم في اليوم الآخر، وبذا تحوّلت تلك الفكرة الغامضة عن الله إلى ذات لها خطر عظيم، وينبغي لنا الآن أن نتبسّط في الكلام على هذه الذات كما تصوّرها محمّد، ومن حسن التوفيق أنّ لوازم السجع حملته على وصف الله بعدّة صفات يتردّد ذكرها كثيراً في القرآن (سورة الأعراف - الآية ١٧٩، سورة بني إسرائيل - الآية ١١٠، سورة طه - الآية ٧، سورة الحشر - الآية ٢٤) وتبيّن شغف محمّد بهذه الصفات وشدّة تمسّكه بها.

وكانت الفطرة السليمة هي التي دفعت المسلمين بعد محمّد إلى جمع هذه الصفات وتقديسها، وهذه الصفات تعبّر عن حقيقة إله محمّد أحسن ممّا تعبّر عنها الصفات التي ذكرها علماء الكلام في القرون الوسطى، وهي تعيننا كثيراً في فهم وتحديد عبارات محمّد، المُبعثرة المتناقضة(٢) .

وفي موضع آخر يسوق (كارادي فو B. Carrade Vaux ) دعوى تناقض القرآن بصياغة وجود تردّد فيه كما في المقطع التالي تحت مادّة (جهنّم): (الظاهر إنّ القرآن قد تردّد بعض التردّد في مسألة خلود العذاب في جهنّم، فالآيات التي تشير إلى ذلك لا تتّفق تمام الاتّفاق، ولعلّ هذا التردّد إنّما يرجع إلى أنّ النبيّ محمّداً لم يكن من الفلاسفة المتفكّرين، فلم يستطع أنْ يعرض بوضوح المشكلة كمشكلةِ الخلود يدخل فيها مثل هذا التصوّر المجرّد)(٣) .

كما تأتي دعوى التردّد على سبيل الملازمة بين القرآن والتغييرات التي

____________________

(١) المصدر السابق ٢: ٢٧٣.

(٢) المصدر السابق ٢: ٥٦١.

(٣) المصدر السابق ٧: ١٩٨.

٢٤٣

تحصّل في توجّهات النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، حيثُ يقول(فنسنك) تحت مادّة(الخمر) :

(ولم يكن تحريم الخمر في برنامج النبيّ مُنذ البداية، بل نحن نجد في الآية ٦٧ من سورة النحل مدحاً في الخمر، بوصفها آيةً من آيات الله للناس وهذا نصّها:( وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا... ) .

بيد أنّه قيل: إنّ عواقب السكر قد ظهرت على الصورة التي بيّنا، فدفع ذلك النبيّ إلى أنْ يغيّر من اتّجاهه، وأّول ما نزل من الوحي مبيّناً هذا الاتّجاه هو الآية ٢١٦(١) من سورة البقرة ونصّها:

( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا... ) على إنّ هذه الآية لم تعد تحريماً، ولم يغيّر الناس مِن عاداتهم وحدث أنْ اضطرب نظام الصلاة فنزلت آيةً أُخرى هي الآية ٤٦(٢) من سورة النساء:

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ... ) ومع ذلك فإنّ هذه الآية أيضاً لم تعد تحريماً مطلقاً للخمر حتّى نزلت الآية ٩٢(٣) من سورة المائدة فوضعت حدّاً للخمر:( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِنّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (٤) .

إنّ الدسّ والتشويه الذي يوحي بشبهةٍ أنّ في القرآن تناقضاً وفي بعض آياته تردّداً فيه مغالطةً فاضحة من جهةٍ وجهلٍ أو تجاهل بطبيعة القرآن الكريم من جهةٍ أُخرى، وتوضيح ذلك بما يأتي:

١ - إن التطوّر المدّعى أو بتعبيرٍ أدق التدرّج الذي نجده في القرآن الكريم،

____________________

(١) في المصحف المتداول بين المسلمين الرقم الصحيح للآية المباركة ٢١٩.

(٢) في المصحف المتداول بين المسلمين الرقم الصحيح للآية المباركة ٤٣.

(٣) في المصحف المتداول بين المسلمين الرقم الصحيح للآية المباركة ٩٠.

(٤) دائرة المعارف الإسلاميّة ٨: ٤٥١.

٢٤٤

سواء في آيات الإرشاد العقلي للجانب العقائدي أم آيات الأحكام الخاصّة بالتشريع الإسلامي، أم آيات الأخلاق والتربية لإعداد الفرد المؤمن والأُمّة المؤمنة، إنّما هو أمرٌ طبيعي اقتضته طبيعة الحكمة في الطرح الرسالي الهادف إلى توفير وإعداد عوامل الدعوة والبناء للإنسان والمجتمع، وليس كتاباً أكاديميّاً مدرسيّاً يصنّف موضوعاته بفصولٍ وأبواب تستوعب موضوعاتها مرّة واحدة، وحتّى الكتب المدرسيّة تخضع لمنهج التدرّج في طرح الحقائق والمعلومات، فتبدأ بالأوليّات والإجماليّات وتترقّى إلى الرتب الأعلى في العمق والتفصيل العلمي، فهذه الشبهة المدّعاة مغالطةٌ فاضحة مردودة على أصحابها من رجال الاستشراق، ومَنْ سار على نهجهم ورأيهم المتهافت.

٢ - إنّ القرآن الكريم نزل نجوماً فهو إضافة لكونه كتاب تربية وإعداد للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأمّة المؤمنة كما ذكرنا أعلاه، هو أيضاً كتاب حركة وإرشاد وإحكام لقيادة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لدعوة الناس للإسلام، فجاءت آياته بشكلٍ يرتبط بالزمان والمكان طبقاً للظروف والأحوال والمستجدّات، التي تفرزها طبيعة حركة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في دعوته سَواء في الموضوع أم المنهج أم الأسلوب.

لهذا نجد أنّ لكلّ آية من آيات القرآن الكريم شأناً وسبباً للنزول له مدخليّة أساسيّة في تحديد ما تتضمّنه الآية، من طبيعةٍ للموضوع ومنهجيّةٍ لعرضه وأُسلوبٍ لبيانه، كما أنّ له دوراً أساسيّا في تأويل معاني الآيات ومداليلها، فأصحاب الشبهة من المستشرقين وأربّائهم يتجاهلون هذه الحقيقة أو يجهلونها على أقلّ تقدير لو أحسنّا الظن بهم.

وهكذا نميّز بين المركوز لديهم عن الكتاب الأكاديمي المدرسي، وبين القرآن الكريم باعتباره كتاب تربية ودعوة وحركة ارتبط بالزمان والمكان، لدعوة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وحركته في المجتمع آنذاك.

٣ - وعلى ضوء الحقيقتين الآنفتين، فمن الطبيعي أنْ تجد قصص الأنبياء (عليهم السلام)

٢٤٥

والأُمم السالفة خاضعة لتلكما الحقيقتين، فالأطوار التي أشار لها المستشرق(سبرنجر) وأمثاله في عرض ما يتعلّق بالنبيّ إبراهيم (عليه السلام) والنبيّ إسماعيل (عليه السلام) ومكّة المكرّمة مرتبط بتلكما الحقيقتين، حيث يجمل تارة ويفصّل أُخرى، ويعرض الحقائق مِن زاوية معينة مرّةً وبتفاصيلٍ جديدة مرّةً أُخرى، وهكذا حسب مناسبات الموضوع وارتباطه بدعوة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وحركته التغييريّة في الأُمّة آنذاك.

فلا غرابة ولا تردّد ولا تناقض في آيات القرآن الكريم، بل الغرابة كلّها فيما يخرصون.

٤ - أمّا قول المستشرق (سنوك) تحت مادّة (إسرائيل): (ويظهر أنّ محمّداً كان أوّل الأمر يعتبر يعقوب ابناً لإبراهيم، فعندما زُفّت البشرى لسارة يقول:( ...فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ) (١) ، فمردّه إلى قصور هؤلاء المستشرقين عن فهم لغة القرآن العربيّة، فعلى كلّ الأحوال اللغويّة في هذه الآية يكون التقدير هو:(فبشرناها بإسحاق ويعقوب من وراء إسحاق) .

وقد فهِم المفسّرون مِن مجيء هذه الجملة في هذا الموضع أنّها كانت لبيان أنّ إبراهيم سيبقى عقبه فهو سيولد له ويولد لولده أيضاً، بدليل قوله تعالى:( وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً... ) (٢) .

وهكذا نجد أنّ هذه الآية توافق جميع الآيات التي تنقل لنا هذه الحقيقة، كما يرِد على قولهم أنّ محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان أوّل الأمر يعتبر يعقوب ابناً لإبراهيم في الآيات المكيّة، في حين أنّ الآيات المكيّة التي ذكرت هذا الأمر بما فيها الآية أعلاه - التي أوضحنا مدلولها - على خلاف ذلك المدّعى، فالآية(٦) من سورة يوسف المكيّة جاء في

____________________

(١) المصدر ٢: ١١١ - ١١٢.

(٢) النحل: ٧٢.

٢٤٦

آخرها:( ...وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ، وهي بيان أنّ يعقوب ابن إسحاق وحفيد إبراهيم، وأيضا في الآية(٣٩) من سورة إبراهيم المكيّة ورد:

( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ) ولم يقل إسماعيل وإسحاق ويعقوب، وفي مسألة البشرى لسارة ورد في الآية(٢٨) من سورة الذاريات المكّيّة ذكر لولد واحد فقط:

( فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ) . فأين التردّد وأين التناقض في آيات القرآن الكريم، فما لكم كيف تحكمون؟.

٥ - وقول (بول Fr. Buhl ): (إنّ قصّتي صالح وهود تناقضان الدعوة المألوفة التي أتى بها محمّد في سور العهد المكّي من حيث إنّه قال إنّه لم يرسل من قبله نبيّ إلى العرب...) إلى آخره، فهي كسابقاتها تمحّل غريب، وذلك لما يأتي:

أ - إن الآيات(١) التي استدلّ بها بول هذا، هي: الآية(٤٦) من سورة القصص التي جاء فيها:

( ..لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ... ) ، والآية(٢) من سورة السجدة التي جاء فيها:

( ..لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ... ) ، والآية(٤٣) من سورة سبأ والتي جاء فيها:

( وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ ) ، والآية(٥) من سورة يس التي جاء فيها:

( لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ) ، حيثُ إنّ الكاتب قد استدلّ بها على عدم إرسال الرسُل وبعث الأنبياء قبل الرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى العرب، وبهذا ادّعى اكتشاف تناقض بين هذه الآيات، والآيات التي أوردَت

____________________

(١) بعض أرقام الآيات التي جاءت في دائرة المعارف الإسلامية فيها اختلاف بمقدار رقم واحد - ناقص - عمّا هو في ترقيم الآيات المعروف في القرآن الكريم، وما كان خلاف ذلك نشير إليه، فالمفروض ملاحظة ذلك؛ لأنّنا ننقل النص كما هو في الأصل.

٢٤٧

قصّتَي صالح وهود، وأنّهما نبيّان أُرسلا إلى عاد وثمود وهما من العرب.

وجواب ذلك واضح لمن يتأمّل في الآيات الأُولى، حيث إنّها لم تقصد بالقوم (العرب) عمومهم مُنذ البدء والى عصر دعوة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وإنّما كانت تقصد ذلك الجيل الذي يستوعب قوم العرب المعاصرين لنبوّة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وآباءهم القريبين، وهذا هو الواقع حقّاً، حيثُ انقطع الوحي الإلهي فترة من الزمن، ولم يُرسل رسول لهم او يظهر نبيّ بينهم، فلا تناقض بين الآيات الأولى والثانية.

ب - قول (بول Fr. Buhl ) في دعواه هذه من أنّ عدم إرسال الرسل وبعث الأنبياء للعرب مألوف في سور العهد المكّي، والواقع خلاف ذلك فهناك آياتٌ مكّيّة تصرّح ببعث الأنبياء وإرسال الرسل إلى العرب وكلّ الأقوام والأُمم، منها قوله تعالى:( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ ) (١) ، ومنها الآيات المكّيّة التي تتحدّث عن قصّتَي النبيَّين صالح وهود (عليهما السلام)، منها قوله تعالى:

( وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ... ) (٢) .

وقوله تعالى:( وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ) (٣) ، وقوله تعالى:( وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ ) (٤) ، وقوله تعالى:( كَذّبَتْ ثَمُودُ

____________________

(١) فاطر: ٢٤.

(٢) الأعراف: ٧٣ وما بعدها.

(٣) هود: ٦١ وما بعدها.

(٤) هود: ٥٠ وما بعدها.

٢٤٨

الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ) (١) ، وقوله تعالى:( كَذّبَتْ ثَمُودُ بِالنّذُرِ... ) (٢) ، وقوله تعالى:( كَذّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ... ) (٣) والمثير للاستغراب أنّ(بول) نفسه قال: (وقد وردت قصّتا هذَين النبيَّين في أقدم السوَر المكّيّة، مثل سورة النجم الآية(٥١) وما بعدها، وسورة البروج الآية(١٧) وما بعدها، وسورة الفجر الآية(٨)، وسورة الشمس الآية(١١) وما بعدها، كما ترد كثيراً في السور التي تليها)(٤) .

ثُمّ أليست هذه الآيات قيوداً صريحة تشير إلى إرسال الرسُل وبعث الأنبياء للعرب لتنفي بذلك العموم المدّعى وتخصّصه بما قلناه أوّلاً من أنّه ينحصر بالمعاصرين والآباء القريبين؟ فمن الذي وقع في التناقض؟ هل هو القرآن الكريم؟ وقد أثبتنا بوضوح عدمه، أم هو(بول) وأضرابه من المستشرقين من الذين تكلفوا العلم وتمحّلوا دعوى المعرفة وما هم إلاّ يجهلون؟

٦ - قول (نولدكه N Ideke Sc. Hwally ) تحت مادّة(أُصول): (وكان هُمّ المفسّرين التخلّص من المتناقضات العديدة الواردة في القرآن). وقوله أيضاً: (والتي تُصوّر لنا تدرّج محمّد في نبوّته) إلى آخر مقولته في دعوى تناقض آيات القرآن الكريم، وفيه:

أ - إنّ (نولدكه) هذا ونظائره نتيجة قصورهم عن فهم كثير من مسائل علوم القرآن، ومنها مسألة الناسخ والمنسوخ هي التي دفعتهم لادّعاء وجود تناقض في آيات القرآن الكريم، دون تأمّلٍ ورجوعٍ إلى المتخصّصين في علم

____________________

(١) الشعراء: ١٤١ - ١٤٤ وما بعدها.

(٢) القمر: ٢٣ وما بعدها.

(٣) الحاقّة: ٤ وما بعدها.

(٤) دائرة المعارف الإسلاميّة ١٤: ١٠٧.

٢٤٩

تفسير القرآن الكريم، بل ذهبوا كثيراً في الافتراء والتهمة عند صياغتهم لهذا الادّعاء باتّهامهم المفسّرين المتأخّرين بأنّ همّهم كان التخلّص من المتناقضات العديدة الواردة في القرآن، وكأن هذه التناقضات حقيقة واقعة واقعة لا مفرّ منها. وعليه فلابدّ لنا من إيضاح مختصر لحقيقة النسخ في القرآن الكريم.

النسخ في القرآن الكريم:

النسخ لغةً: النقل والإزالة والإبطال، وأنسب المعاني اللغويّة التي تنسجم مع فكرة النسخ، هي الإزالة لقول أهل اللغة: نسخ الشيب الشباب إذا أزاله وحلّ محلّه(١) ، ويدعم ذلك قوله تعالى:( مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا... ) (٢) ، وقوله تعالى:( يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (٣) ، وقوله تعالى:( وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (٤) .

والذي ينسجم مع المحوِ والتبديل الوارد في هذه الآيات الكريمة هو معنى الإزالة، أمّا اصطلاحاً فقد عرّفهالسيّد الخوئي (قُدس سرّه) بأنّه: (رفع أمر ثابت في الشريعة المقدّسة بارتفاع أمده وزمانه، سَواء أكان ذلك الأمر المرتفع من الأحكام التكليفيّة - كالوجوب والحرمة - أم من الأحكام الوضعيّة كالصحّة والبطلان، وسَواء أكان من المناصب الإلهيّة أم من غيرها من الأُمور التي ترجع إلى الله تعالى بما أنّه شارع)(٥) ، وهذا التعريف يُخرِج من النسخ كلّ صور المخالفة في الظهور

____________________

(١) لسان العرب ٤: ٢٨ط بولاق.

(٢) البقرة: ١٠٦.

(٣) الرعد: ٣٩.

(٤) النحل: ١٠١.

(٥) البيان: ٢٧٧ - ٢٧٨.

٢٥٠

اللفظي بين الآيات سُواء أكانت على نحو العموم والخصوص من وجه أم العموم المطلق، أم كانت إحداها مطلقة والأُخرى مقيّدة، التي تقوم بدور تفسير بعضها البعض الآخر، وقد كان المفسّرون المتقدّمون يدخلونها تحت عنوان النسخ مجازاً.

وبيان جواز النسخ عقلاً ووقوعه شرعاً، هو أنّ العقلاء من المسلمين وغيرهم أثبتوا جواز النسخ عقلاً ووقوعه شرعاً، وخالفهم في ذلك بعض اليهود والنصارى محاولةً منهم للطعن بإلهيّة الدين الإسلامي، وتمسّكاً بدوام الديانتين اليهوديّة والمسيحيّة، والشبهة التي يدّعيها المستشرق(نولدكه) وأمثاله، تتأسّس على نفس الرؤية والشبهة التي طرحها ذلك البعض من اليهود والنصارى، وجامع صياغتهم للشبهة هو قولهم: إنّ التناقض في القرآن ثابت لعدم جواز النسخ عقلاً، وعدم وقوعه شرعاً، فعدم جوازه عقلاً قائم على أساس استلزامه أحد أمرين باطلين:

الأوّل البَداء المستلزم للجهل والنقص،والثاني العبَث؛ لأنّ النسخ إمّا أنْ يكون بسبب حكمةٍ ظهرت للناسخ بعد أنْ كانت خفيّة لديه، أو أنْ يكون لغير مصلحةٍ وحكمة، وكلا هذين الأمرين باطل بالنسبة إلى الله سبحانه، ذلك أنّ تشريع الحكم من الحكيم فتقتضي تشريعه، حيث إنّ تشريع الحكم بشكل جزافي يتنافى وحكمة الشارع.

وحينئذٍ فرفع هذا الحكم الثابت لموضوعه بسبب المصلحة، إمّا أنْ يكون مع بقاء حاله على ما هو عليه من وجه المصلحة وعلم ناسخه بها، وهذا ينافي حكمة الجاعل وهو العبَث نفسه، وإمّا أنْ يكون من جهة جهله بواقع المصلحة والحكمة، وانكشاف الخلاف لديه على ما هو الغالب في الأحكام والقوانين الوضعيّة، وعلى كلا الفرضين يكون وقوع النسخ في الشريعة محالاً؛ لأنّه يستلزم المحال، إمّا الجهل أو العبَث وهما محالان على الله سبحانه لأنّهما نقصٌ ولا يتّصف بهما.

٢٥١

وفي الجواب عن هذه الشبهة لابد لنا من بيان مقدّمة وهي أنّ الحكم المجعول من قِبل الشارع ينقسم إلى قسمين:

الأول - الحكم المجعول الذي لا يكون وراءه بعث وزجر حقيقيّان، كالأوامر والنواهي التي تُجعل ويُقصد بها الامتحان ودرجة الاستجابة. وهذا ما نسمّيه بالحكم الامتحاني.

الثاني - الحكم المجعول الذي يكون بداعٍ حقيقي من البعث والزجر حيثُ يُقصد منه تحقيق متعلّقه بحسب الخارج، وهذا ما نسمّيه بالحكم الحقيقي. ونجد من السهل الالتزام بالنسخ في القسم الأوّل من الحكم، إذ لا مانع من رفع هذا الحكم بعد إثباته، بعد أنْ كانت الحكمة في نفس إتيانه ورفعه؛ لأنّ دوره ينتهي بالامتحان نفسه، فيرتفع حين ينتهي الامتحان ولحصول فائدته وغرضه.

والنسخ في هذا النوع من الحكم لا يلزم منه العبَث ولا ينشأ منه الجهل والنقص الذي يستحيل في حقّه تعالى.

وأمّا القسم الثاني من الحكم فإنّنا يُمكن أنْ نلتزم بالنسخ فيه، دون أنْ يستلزم ذلك شيئاً من الجهل أو العبث، حيث يُمكن أنْ نضيف فرضاً ثالثاً إلى الفرضين اللذين ذكرتهما الشبهة، وهذا الفرض هو أنْ يكون النسخ لحكمةٍ كانت معلومة لله سبحانه من أوّل الأمر ولم تكن خافيةً عليه، وإنْ كانت مجهولةً عند الناس غير معلومةٍ لديهم، فلا يكون هناك بَداء بالمعنى الذي يستلزم الجهل والنقص؛ لأنّه ليس في النسخ من جديد على الله لعلمه سبحانه بالحكمة مسبقاً.

كما أنّه لا يكون عبّثاً لوجود الحكمة في متعلّق الحكم الناسخ، وزوالها في متعلّق الحكم المنسوخ، وليس هناك ما يشكّل عقبةً في طريق تعقّل النسخ هذا، إلاّ الوهم الذي يأبى تصوّر ارتباط مصلحة الحكم بزمانٍ معيّن بحيث تنتهي عنده، وإلاّ الوهم الذي يرى في كتمان هذا الزمان المعيّن عن الناس جهلاً من الله بذلك الزمان. وهذا

٢٥٢

الوهم يزول حين نلاحظ بعض النظائر الاجتماعيّة التي نرى فيها شيئاً اعتياديّاً ليس فيه من المحال أثر ولا من العبث والجهل.

فالطبيب حين يُعالج مريضاً ويرى أنّ مرحلة من مراحل المرض التي يجتازها المريض يصلح لها دواء معيّن، فيصف له هذا الدواء لمدّة معيّنة، ثمّ يستبدله بدواءٍ آخر يصلح لمرحلةٍ أُخرى لا يُوصف عمله بالعبث والجهل، مع أنّه قام بوضع أحكام معيّنة لهذا المريض في زمانٍ محدود، ثمّ رفعها عنه بعد مدّة من الزمن.

وحين وضع الحكم كانت هناك مصلحةٌ تقتضيه، كما أنّه حين رفع الحكم كانت هناك مصلحةٌ تقتضي هذا الرفع، وهو في كلّ من الحالين كان يعلم المدّة التي يستمرّ بها الحكم والحكمة التي تقتضي رفعه، ونظير هذا يُمكن أنْ نتصوّره في النسخ، فإنّ الله سبحانه حين وضع الحكم المنسوخ وضعه من أجل مصلحةٍ تقتضيه، وهو سبحانه يعلم الزمان الذي سوف ينتهي فيه الحكم، وتتحقّق المصلحة التي من أجلها شُرِّع، كما أنّه حين يستبدل الحكم المنسوخ بالحكم الناسخ يستبدله من أجل مصلحةٍ معيّنةٍ تقتضيه.

فكلٌّ مِن وضْع الحكم ورفْعه كان من أجل حكمةٍ هي معلومةٌ عند جعل الحكم المنسوخ، فليس هناك جهلٌ، كما أنّه ليس هناك عبَث لتوفّر عنصر العلم والحكمة في الجعل والرفع.

نعم هناك جهل الناس بواقع جعل الحكم المنسوخ، حيثُ كان يبدو استمرار الكم نتيجةً للإطلاق في البيان الذي وضع الحكم فيه، ولكن النسخ إنّما يكون كشفاً عن هذا الواقع الذي كان معلوماً لله سبحانه من أوّل الأمر، أمّا وقوع النسخ شرعاً فإنّه يتحقّق في موارد عديدة سَواء في الشريعة الموسويّة أو الشريعة المسيحيّة أو الشريعة الإسلاميّة، فقد جاءت نصوص في التوراة والإنجيل وفي الشريعة الإسلاميّة تتضمّن النسخ، ورفع ما هو ثابت في نفس الشريعة أو في غيرها من الشرائع السابقة، منها:

٢٥٣

١ - تحريم اليهود العمل الدنيوي يوم السبت، مع الاعتراف بأنّ هذا الحكم لم يكن ثابتاً في الشرائع السابقة، وإنّما كان يجوز العمل في يوم السبت كغيره من أيّام الأُسبوع(١) .

٢ - أمر الله سبحانه بني إسرائيل قتل أنفسم بعد عبادتهم العجل، ثمّ رفعه لهذا الحكم عنهم بعد ذلك(٢) .

٣ - الأمر ببدء الخدمة في خيمة الاجتماع في سنّ الثلاثين، ثمّ رفع هذا الحكم وإبداله بسنّ خمسٍ وعشرين سنة، ثمّ رفعه بعد ذلك وإبداله بسنِّ العشرين(٣) .

٤ - النهي عن الحلف بالله في الشريعة المسيحيّة مع ثبوته في الشريعة الموسويّة، والإلزام بما التزم به في النذر أو اليمين(٤) .

٥ - الأمر بالقصاص في الشريعة الموسويّة(٥) ، ثمّ نسخ هذا الحكم في الشريعة المسيحيّة ونهي عن القصاص(٦) .

٦ - تحليل الطلاق في الشريعة الموسوية(٧) ، ونسخ هذا الحكم في الشريعة المسيحيّة(٨) .

أما النسخ في الشريعة الإسلاميّة فهو أمر ثابت لا يكاد يشكّ فيه أحد من علماء المسلمين، سَواء في ذلك ما كان نسخاً لأحكام الشرائع السابقة أم ما كان

____________________

(١) انظر سِفر الخروج ١٦/ ٢٥ - ٢٦ و٢٠/ ٨ - ١٢ و٢٣/ ١٢ و١٣/ ١٦ - ١٧ و٣٥/ ١ - ٣ وسِفر اللاويين ٢٣/ ١ - ٣ وسِفر التثنية ٥/ ١٢ - ١٥.

(٢) سِفر الخروج ٣٢/ ٢١ - ٢٩.

(٣) سفر العدد ٤/ ٢ - ٣ و٨/ ٢٣ - ٢٤. وسِفر أخبار الأيّام الأوّل ٢٣/ ٢٤ و٣٢.

(٤) سِفر العدد ٣٠/٢. إنجيل متّى ٥/ ٣٣ - ٣٤.

(٥) سِفر الخروج ٢١/ ٢٣ - ٢٥.

(٦) إنجيل متّى ٥/ ١٣٨.

(٧) سِفر التثنية ١٤/ ١ - ٣.

(٨) إنجيل متّى ٥/ ٣١ - ٣٢، وإنجيل مرقس ١٠/ ١١ - ١٢.

٢٥٤

نسخاً لبعض أحكام الشريعة الإسلاميّة نفسها.

ومن هذا النسخ ما صرّح به القرآن الكريم كنسخه حكم التوجّه في الصلاة إلى القبلة الأولى (المسجد الأقصى)، القبلة الثانية في الشريعة الموسويّة، وأمره بالتوجّه شطر المسجد الحرام(١) .

ب - إنّ قول(نولدكه)، في تفسير المتناقضات التي يدّعي ورودها في القرآن، من أنّها تصوّر لنا تدرّج محمّد في نبوّته، تشويه فاضح يفتقر إلى المنطق السليم والموضوعيّة العلميّة ويكشف عن روح التحامل، إذ إنّه لا يستفرغ الوسع في البحث العلمي عن الحقائق، إنماّ يطويه سريعاً لينتقل إلى ما يحكيه إليه ميلهُ من تفسير وتعليل، فيغمز في نبوّة محمّد ابتداءً ويصوّرها على أنّها كانت متدرّجة، بدليل أنّ الآيات القرآنيّة بدأت متناقضة؛ لأنّ نبوّة محمّد بدواً لم تتحقّق.

وهكذا يترك قارئه في دوّامة الشك والتردّد. وقد أوضحنا في الفقرة السابقة ما هو ثابتٌ من حقيقة النسخ في القرآن الكريم، كما هو في الشرائع السماويّة السابقة، وما هي المصلحة فيه، فلا متناقضات في القرآن، وبالتالي تبطل شبهة(نولدكه) واحتمالاته في تدرّج نبوّة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

٧ - قولهم تحت مادّة (عقيدة محمّد في الله)، بعد كلامٍ لهم في تعريف محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لصفات الله سبحانه: (... وهي تعيننا [الصفات] كثيراً في فهم وتحديد عبارات محمّد المُبعثرة المتناقضة)، هي صورةٌ جديدة من صور دعوى التناقض في القرآن الكريم، غير تلك التي تناولْنا الجواب عنها في مسألة النسخ في القرآن، وفي الردّ عليهم نقول:

أ - إنّكم لم تبيّنوا لنا موارد التناقض في صفات الله الواردة في القرآن

____________________

(١) لمزيد من التفصيل: راجع علوم القرآن للسيّد محمّد باقر الحكيم، والتمهيد في علوم القرآن للشيخ محمّد هادي معرفة.

٢٥٥

الكريم، فدعواكم هذه مجملةٌ وغامضة لا وضوح فيها.

ب - إذا كان قصدكم من التناقض هو ما بين الصفات الكماليّة المتقابلة معنىً لله سبحانه، كالغفور الرحيم والمنتقم شديد العقاب، فجوابه، إنكمأولاً: يجب أنْ تحيطوا بحقيقة عقيدة التوحيد والعدل الإلهي، التي أرشد إليها القرآن الكريم في آيات الإرشاد العقائدي، والتي تعتبر صفات الله الكماليّة عين ذاته لا شيئاً خارجاً عنها، موصوفاً سبحانه وتعالى بها( سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى‏ عَمّا يَصِفُونَ ) (١) ، فيها تتجلّى معرفة الكمال المطلق الذي يسعى الإنسان للتكامل في طريقه المستقيم.

وثانياً: إنّ هذه الصفات المتقابلة ليست متناقضة؛ لأنّها تختلف باختلاف متعلّقها، فالله سبحانه وتعالى غفورٌ رحيمٌ لمن اقتضى لطفه وحكمته رحمته والمغفرة له، وهو منتقمٌ شديدُ العقاب لمن اقتضى عدله وحكمته الانتقام منه وتشديد العقاب عليه، وهكذا شأن الصفات الكماليّة الأُخرى، فلا تناقض فيها ولا غموض( سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ *وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (٢) .

٨ - قول (كارادي فو B. Carrad Vaux ) تحت مادّة (جهنّم):( الظاهر أنّ القرآن قد تردّد بعض التردّد في مسألة خلود العذاب في جهنّم، فالآيات التي تشير إلى ذلك لا تتّفق تمام الاتّفاق، ولعلّ هذا التردّد إنّما يرجع إلى أنّ النبيّ محمّداً لم يكن من الفلاسفة المتفكّرين... الخ) فيه ما يلي:

أ - إنّ المقطع الأوّل الذي يشير إلى دعوى تردّد بعض آيات القرآن الكريم، في مسألة خلود العذاب في جهنّم جاء ناقصاً لا يتضمّن دليلاً أو مثالاً على التردّد المدّعى، فهو جزافي لا قيمة علميّة له.

____________________

(١) الأنعام: ١٠٠.

(٢) الصافّات: ١٨٠ - ١٨٢.

٢٥٦

ب - إنّ العذاب الإلهي في الآخرة له درجات تتناسب ومستوى الجريمة التي ارتكبها الإنسان في الدنيا، فهي تتدرّج من المعاصي والمفاسد على اختلاف خطرها وعظمها، إلى الشرك والكفر والطغيان جحوداً بالله وإنكاراً لإلوهيّته والاستكبار والعلو في الأرض دونه سبحانه وتعالى.

ولهذا جاءت آيات القرآن الكريم لتؤكّد الخلود والشدّة في العذاب، لدرجات القسم الثاني ودون ذلك في القسم الأوّل، وهنا يأتي دور تفسير بعض الآيات للبعض الآخر تحصيصاً لعمومها وتقييداً لإطلاقها، إنْ كان هناك مخصّص أو مقيِّد لموردها، فيمتاز بعضها بالقول بالخلود في العذاب، وبعضها الآخر بما دون ذلك، فلا تردّد ولا تناقض عند أُولي الألباب.

ج - إنّ تعليل(كارادي فو) دعواه بتردّد القرآن في مسألة خلود العذاب في جهنّم، بأنّه يرجع إلى أنّ النبيّ محمّداً لم يكن من الفلاسفة المتفكّرين، فيه: أوّلاً: غمزٌ بنبوّة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهذا ما أجلنا الحديث فيه إلى فصل مستقل إنْ شاء الله.

وثانياً: لما قلنا سابقاً من أنّ القرآن الكريم ليس كتاباً مدرسيّاً، ولا مؤلّفاً أكاديميّاً يعرض المسائل بطريقة تحليليّة متسلسلة، وبلغةٍ مدرسيّة ومنهجٍ أكاديمي مقرّر، إنّما هو كتاب دعوة وتربية للإنسان والأُمّة، وإرشاد وقيادة لحركة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الميدانيّة عند بعثته وطيلة حياته الرساليّة، وفهم القرآن واستنباط الحقائق والأحكام والتعليمات منه، يحتاج إلى الإحاطة بجملة مقدّمات وقواعد تسمّى بعلم تفسير القرآن الكريم، الذي يتناول علوماً فرعيّةً متعدّدة تحقّق القدرة على التفسير والتأويل للقرآن، منها علوم اللغة وعلوم القرآن، وعلم الحديث، وأمثال ذلك.

وإنّما اضطررنا لهذه العلوم لابتعادنا عن زمن التنزيل، حيث إنّ وجود الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته الطاهرين (عليهم السلام)، كان يُغني المسلمين آنذاك عن الإحاطة التفصيليّة بهذه العلوم؛ فقد كان الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته (عليهم السلام) تراجمة القرآن وعلماء

٢٥٧

حقائقه ودقائقه، ثمّ إنّ بلاغة القرآن وبيانه كانت واضحةً لدى المسلمين في عصر الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، لتذوّقهم الفطري لها، كما أنّ معاصرتهم للحوادث والوقائع التي تشكّل شأن وأسباب النزول، كانت تغنيهم عن البحث والاستقصاء عنها لمعرفة مدلول الآيات النازلة بشأنها، وهذا أمرٌ يدركه العقلاء ويلتزمون بلوازمه، فيبطل التعليل كما تبطل الدعوى.

٩ - قول(فنسنك) تحت مادّة(الخمر) : (ولم يكن تحريم الخمر في برنامج النبيّ منذ البداية، بل نحن نجد في الآية(٦٧) من سورة النحل مدحاً في الخمر بوصفها آيةً مِن آيات الله للناس...، بيد أنّ عواقب السكْر قد ظهرت على الصورة التي بيّنا، فدفع ذلك النبيّ إلى أنْ يغيّر من اتجاهه)، فيه ما يلي:

أ - غمزٌ بنبوّة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبصدق الوحي الإلهي له(١) ، وإلاّ فليس القرآن الكريم كلام النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليبرمجه حسب رأيه، إنّما هو كلامٌ الله أنزله نجوماً على رسوله محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، بواسطة الوحي حسب مقتضيات الحكمة الإلهيّة ومناسبات حركة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ودعوته للإسلام.

فبرنامج التحريم للخمر - حسب قول(فنسنك) - ليس إلاّ تدرّجاً في طريقة ومستوى البيان للحكم الشرعي، مِن تقبيح وتحريم له مرّةً، وبيان لاشتماله على الإثم - وهو محرّم - أُخرى، والزجر عن تناوله لحرمته ثالثة...، ولا تعارض بين الآيات التي تناولت الخمر، فكلّها تحرّمه بصيَغٍ بيانيّةٍ متنوّعة اقتضتها تلك الحكمة الإلهيّة والمناسبات الواقعيّة، شأنها في ذلك شأن كثير من الظواهر الاجتماعيّة الفاسدة، التي تستلزم تدرّجاً زمنيّاً في طريقة ومستوى بيان الموقف الشرعي الكامل منها، وبالشكل الذي يتناسب وقابليّة التلقّي الذهني والنفسي لمجتمع الدعوة والرسالة لهذا التشريع أو ذاك،

____________________

(١) وجواب هذه الشبهة سيأتي لاحقاً.

٢٥٨

ليتحقّق الهدف الإلهي في إدراك الناس له وتحصيل الاستعداد للتسليم به، وهذه سنّة الله في رسالاته وشرائعه للأمم السالفة (كاليهوديّة والنصرانيّة) والتي ألمحنا لأمثلتها في بحث النسخ في القرآن الكريم في الفقرات السابقة من هذا البحث(١) .

ب - أمّا قوله: (إنّ في الآية ٦٧ من سورة النحل مدحاً في الخمر بوصفها آيةً من آيات الله للناس...) فليس كذلك، ولعلّ السبب في سوء الفهم هذا، هو روح التحامل على الإسلام من جهة - خصوصاً عند(فنسنك) المعروف بذلك - وعدم الإحاطة باللغة العربيّة من جهة أُخرى، فالآية الكريمة مكيّة وهي تخاطب المشركين وتجيبهم في سياق الظواهر الطبيعيّة التي يعايشونها في حياتهم الاعتياديّة، عن سؤالهم المقدّر وهو:

ما هي ثمرات إنزال الماء من السماء؟ فكون اتّخاذ المشركين السُكْر من ثمرات النخيل والأعناب لا يعني تحسينه لهم، خصوصاً وأنّ الآية الكريمة تنسب السُكْر إليهم وأنّه من صنعهم، وليس هو إلاّ إشارة إلى ثمرةٍ طبيعيّةٍ مألوفة لديهم، بل هناك قرينة واضحة في الآية تدلّ على نوع من تقبيح السُكْر من جهة مقابلته بالرزق الحسن، فلو كان السُكْر حسناً لما ميّزَته الآية الكريمة عن الرزق الحسن.

____________________

(١) هناك مَنْ يرى أنّ في الآيات التي تناولت الخمر ناسخاً ومنسوخاً، وعلى هذا الرأي يأتي كلامنا السابق في النسخ في القرآن الكريم وتنتفي بذلك دعوى فنسنك. راجع الطباطبائي - تفسير الميزان ١٢: ٣٠٩ - ٣١٠، ٢: ٢٠١ - ٢٠٥.

٢٥٩

تأثّر محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) باليهوديّة والنصرانيّة والجاهليّة واستقاؤه منها في صياغة قرآنه ودينه الجديد

ولإبراز هذه الشبهة، دسّ العديد من محرّري دائرة المعارف الإسلاميّة ادعاءات ومقولات متنوّعة:

منها: ما جاء تحت مادّة (جبريل) حيثُ يقول (كارادي فو Carrade Vaux ): (وقد اصطنع النبيّ القصّة التي تقول بأَنّ هذا الرسول السماوي يتحدّث إلى الأنبياء واعتقد أنّه تلقّى رسالته ووحيه منه...

والظاهر أنّ النبيّ عرف جبريل من خبر البشارة الوارد في الإنجيل ولكنّه لم يكن في مقدوره أنْ يعرف الإنجيل من غير وساطة، ولعلّه سمع ذلك الخبر من أفواه بعض الفلاسفة أو الباحثين في الأديان، أو من أحد الحنفيّة وقد وصلهم الخبر مشوّهاً. وفي رأي النبيّ أنّ الله بعث بروحه إلى مريم فتمثّل لها بشراً سويّاً (سورة مريم الآية ١٩)(١) .

وتحت مادّة (سحر) يقول (هيك T. W. Haig ): (... إنّ أصول الإسلام نفسها قد تأثرت تأثراً عميقاً بمعتقدات أناس غرباء عن الإسلام كليّة)(٢) .

وتحت مادّة(أُمّة) يقول (ر. پاريه R. Paret ): (هي الكلمة التي وردت في القرآن للدلالة على شعب أو جماعة، وهي ليست مشتقة من الكلمة العربيّة(أمّ) ، بل هي كلمة دخيلة مأخوذة من العبريّة(أُمَّا) أو من الآرامية(أُمِّثا)، .. وقد تكون الكلمة الأجنبيّة دخلت لغة العرب في زمن متقدّم بعض الشيء. ومهما يكن من شيء فإنّ محمّداً أخذ هذه الكلمة واستعملها وصارت منذ ذلك الحين لفظاً

____________________

(١) راجع: دائرة المعارف الإسلاميّة ٦: ٢٧٦ - ٢٧٨.

(٢) المصدر ١١: ٣٠٥.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376