كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين21%

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 376

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين
  • البداية
  • السابق
  • 376 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 127204 / تحميل: 8231
الحجم الحجم الحجم
كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

٦١

بعد معرفة أنّ الأصل الأوّلي ومقتضى القاعدة الأوّليّة، هو أنّ الشارع إذا أوردً عنواناً معيّناً في دليلٍ من الأدلّة فإنّه يجب أن يبقى على معناه اللغوي.

أي أنّ كلّ دليل وردَ من الشارع يبقى على معناه اللغوي ما لم ينقله الشارع إلى الحقيقة الشرعيّة، هذا من جهة.

ومن جهةٍ أخرى، هناك أمر آخر يضيفه الأصوليّون، وهو تحقّق هذا العنوان وحصوله في الخارج.

فنحن تارة نتكلّم في مرحلة التأطير والتنظير، وفي أفق الذهن، أو في أفق اللوح باعتباره القانون، فحينئذٍ يبقى المعنى على حاله.

وتارةً نتكلّم عن مرحلة أخرى هي غير التنظير القانوني، بل هي مرحلة التطبيق في الخارج والوجود في الخارج، في هذه المرحلة أيضاً، فما لم يعبّدنا الشارع ويتصرّف في الوجود الخارجيّ لأيّ عنوان، فالأصل الأوّلي هو أن يكون وجوده ومجاله أيضاً عرفيّاً، سواء كان له وجودٌ تكويني، أو كان له وجود اعتباري لدى العرف، إلاّ أن يجعل الشارع له وجوداً خاصّاً بأن ينصب دليلاً على ذلك.

٦٢

أمثلةٌ على تحديد الوجود الخارجي للموضوع من الشارع المقدّس

مثال 1: في تحقّق الطلاق، لو قال الزوج: طلّقتُ امرأتي، أو أطلّقُكِ، أو سأُطلّقك، فكلّ هذه الصيغ لا يمضيها الشارع ولا يقرّها، وهي غير محقّقة، ولا موجّدة للطلاق، وإن كانت في العرف موجدةً له، لكن عند الشارع لا أثر لها، إلاّ أن يقول: أنتِ طالق، بلفظ اسم الفاعل المراد منه اسم المفعول.

هنا الشارع وإن لم يتصرّف في ماهيّة الطلاق ولم يتصرّف في عنوانه، بل أبقاه على معناه اللغوي، لكنّه تصرّف في كيفيّة وجوده وحصوله في الخارج.

مثال 2: الحلف لا يكون حلفاً شرعيّاً بالله، والنذر لا يكون نذراً لله إلاّ أن تأتي به بالصيغة الخاصّة، فهذا تصرّف في كيفيّة الوجود، فإن دلّ الدليل على كيفيّة تصرّف خاصّة من الشارع وفي كيفيّة الوجود، فلا يتحقّق ذلك الأمر إلاّ بها.

أمّا إذا لم يقم الدليل من الشارع على ذلك، فمقتضى القاعدة الأوّليّة أنّ وجوده يكون وجوداً عرفيّاً - تكوينيّاً كان أو اعتباريّاً - ما لم يرد دليل من الشارع لتحديد وجوده وحصوله في الخارج.

نرجع إلى محلّ البحث، لو لم يكن دليل إلاّ عموم آية( لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ) .

وعموم آية:( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) ، وقلنا: إنّ المعنى يبقى على حاله، حيث إنّ الشارع لم يتصرّف في معناه

٦٣

اللغوي الذي هو ما يقال عنه مرحلة تقنين القانون، ولم يتصرّف أيضاً في مرحلة التطبيق الخارجي من جهة خارجيّة، فما يتّفق عليه العرف بحيث يصبح تبياناً وإضاءةً لمعنى من المعاني الدينيّة، يصبح شعيرةً وشعاراً.

ويجدر التنبيه هنا على أنّ وجودات الأشياء على قسمين:

الوجودُ التكويني والوجود الاعتباري للأشياء

القسم الأوّل: هو الوجود التكويني مثل: وجود الماء، الحجر، الشجر، الإنسان، الحيوان.

القسم الثاني: وجود غير تكويني، بل هو اعتباري - أي فرضي، ولو من العرف - مثل: البيع، فالبائع والمشتري يتّفقان على البيع بخصوصيّاته، فيتقيّدان بألفاظ الإيجاب والقبول فيها، فحينئذٍ: هذا البيع، أو الإجارة، أو الوصيّة، أو المعاملة ليس لها وجود حسّي خارجيّ؛ وإنّما وجودها بكيفيّات اعتباريّة فرضيّة في عالَم فرضي يُمثّل القانون، سواء قانون الوضع البشري، أو حتّى قانون الوضع الشرعي عند الفقهاء، إذ يحملون هذا على الاعتبار الفرضي، فهو عالَم اعتبار لمَا يتّخذه العقلاء من فرضيّات.

العقلاء يفترضون عالَماً فرضيّاً معيّناً، لوحة خاصّة بالعقلاء، لوحة القانون العقلائي.

فوجودات الأشياء على أنحاء: تارةً نَسق الوجود التكويني، وتارة نَسق الوجود الاعتباري، وإن كانت اعتبارات الشارع، وتقنينات الشارع، وفرضيّات الشارع وقوانينه، يُطلق عليها أيضاً اعتبار شرعي، ولكن من الشارع.

٦٤

خلاصةُ القول

إنّ كلّ عنوان أُخذ في دليلٍ - كالبيع، أو الهبة، أو الوصيّة، أو الشعائر، أو الطلاق، أو الزوجيّة - إذا أُبقيَ على معناه اللغوي، وأيضاً أُبقي على ما هو عليه من الوجود عند العرف فبها، غاية الأمر أنّ الوجود عند العرف ليس وجوداً تكوينيّاً، بل وجودٌ طارئ اعتباري في لوحة تقنيناتهم وفي لوحة اعتبارهم، مثلاً: حينما يقول الشارع في الآية الكريمة:( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) (1) ليس معناه: أنّ البيع الذي هو بيع عند الشارع قد أحلّه الله ؛ لأنّ ذلك يكون تحصيل الحاصل، لأنّ البيع الذي عند الشارع هو حلال من أساسه، بل المقصود من:( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) ، وكذلك:( أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ) (2) المراد أنّ البيع والعقود التي تكون متداولة في أُفق اعتباركم أنتم أيها العقلاء قد أوجبتُ - أنا الشارع - الوفاء بها، وقد أحللتُها لكم، فإذاً قد أبقاها الشارع على ما هي عليه من وجود ومعنىً لغوي عند العقلاء والعرف.

وقد يتصرّف الشارع في بعض الموارد - كما بينّا في الطلاق - حيث يقيّدها بوجود خاص.

فحينئذٍ، يتبيّن أنّ الأشياء قد يبقيها الشارع على معناها اللغوي، ويبقي وجودها في المقام الآخر على ما هي عليه من وجود إمّا تكويني أو

____________________

(1) البقرة: 275.

(2) المائدة: 1.

٦٥

اعتباري.

ومن جهةٍ أخرى، فإنّ العلامة أو (الدال) إمّا عقليّة أو طبعيّة، أو وضعية..

فهل الشعائر أو الشعيرة هي علامة تكوينيّة، أم عقليّة، أم طبعيّة، أم هي وضعيّة؟

الشعيرةُ علامة وضعيّة

نرى أنّ الشعيرة والشعار هي علامة وضعيّة وليست عقليّة ولا طبعيّة، وهنا مفترق خطير في تحليل الماهيّة؛ للتصدّي للكثير من الإشكالات أو النظريّات التي تُقال في قاعدة الشعائر.

نقول: إنّ الشعيرة هي علامة وضعيّة، بمعنى أنّ لها نوعاً من الاقتران والربط والعلقة الاعتباريّة، فالوضع هو اعتباري وفرضي بين الشيئين.

والأمر كذلك في الأمور الدينيّة أيضاً، مثلاً كان شعار المسلمين في بدر: (يا منصور أمِت)(1) ، حيث يستحب في باب الجهاد أن يضع قائد جيش المسلمين علامة وشعاراً معيّناً للجيش.

الشعائر أو الشعارة: هي ربط اعتباري ووضع جعلي فطبيعتها عند العرف هو الاعتبار، حتّى شعار الدولة، وشعار المؤسّسات، وشعار الأندية، والوزارات..

والشركات التجارية، والفِرق الرياضيّة، لكنّ كلّ ذلك أمر اعتباري..

____________________

(1) المنصور من أسماء الله سبحانه، أمِت: يعني أمِت الكافرين.

٦٦

فهو علامة حسّيّة دالّة على معنى معيّن، لكنّ الوضع والعلقة فيه اعتباريّة.

فلابدّ من الالتفات إلى تحليلٍ أعمق لماهيّة الشعائر والشعيرة، فماهيّة الشعار والشعيرة علامة حسّيّة لمعنى من المعاني الدينيّة، ولكنّ هذه العلامة ليست تكوينيّة، ولا عقليّة، ولا طبعيّة، وإنّما هي علامة وضعيّة.

فالشعائر هي التي تفيد الإعلام، وكلّ ما يُعلِم على معنى من المعاني الدينيّة، أو يدلّ على شيء له نسبة إلى الله عزّ وجل، فإنّ هذا الإعلام والربط بين الـمَعلم والـمُعلم به، وهذا الربط هو في الماهيّة وضعي اعتباري.

فالموضوع يتحقّق بالعُلقة، والوضع الاعتباري.

وإذا كان تحقّق ماهيّة الشعائر والشعيرة بالعُلقة الوضعيّة الاعتباريّة، وافتراضنا أنّ الشارع لم يتصرّف في كيفيّة الوجود، بمعنى أنّ المتشرّعة إذا اختاروا واتّخذوا سلوكاً ما علامة لمعنى ديني معيّن، فبالتالي يكون ذلك السلوك من مصاديق الشعائر.

وكما قلنا: إنّ ماهيّة الشعائر تتجسّد في كلّ ما يوجب الإعلام والدلالة فيها وضعيّة، والواضع ليس هو الشارع ؛ لأنّه لم يتصرّف بالموضوع، فبذلك يكون الوضع قد أُجيز للعرف والعقلاء.

كما ذكرنا في البيع أنّ له ماهيّة معيّنة، وكيفيّة خاصّة حسب ما يقرِّره العقلاء، وكيفيّة وجوده اعتباريّة، وذَكرنا أنّ الشارع إن لم يتصرّف في الماهيّة والمعنى في الدليل الشرعي، ولم يتصرّف في كيفيّة الوجود، فالماهيّة تبقى على حالها عند العقلاء، بخلاف الطلاق الذي تصرّف الشارع في كيفيّة وجوده في الخارج.

٦٧

الشعائرُ ومناسك الحج

وممّا تقدّم: تبيّن خطأ عدّ مناسك الحجّ - بما هي مناسك - شعائر.

حيث إنّ الشعائر صفة عارضة لها، وليست الشعائر هي عين مناسك الحجّ كما فسّرها بعض اللغويّين.

بيان ذلك: حينما نقول مثلاً: (الإنسانُ أبيض)، هل يعني أنّ الماهيّة النوعيّة للإنسان هي البياض، كلاّ، أو حين نقول: (الإنسان قائم)، فهل يعني أنّ الماهيّة النوعيّة للإنسان هي القيام، كلاّ، إذ القيام والبياض أو السمرة أو السواد ليست ماهيّةً للإنسان، وإنّما هذه عوارض قد تعرض على الماهيّة وقد تزول عنها.

إنّ كُنه الإنسان وماهيّته بشيء آخر، لا بهذه العوارض، وكذلك مناسك الحجّ، إذ ليست ماهيّة المنسك هي الشعار، بل الشِعار هو ما يكمُن وينطوي فيه جنبة الإعلام والعلانيّة لشيء من الأشياء.

مثال آخر: لفظة (زيد) كنهها ليس أنّها سِمة لهذا الإنسان، كُنهها: هو صوت متموّج يتركّب من حروف معيّنة، نعم، من عوارضها الطارئة عليها أنّها سِمة واسم وعلامة لهذا الإنسان، وهذا من عوارضها الاعتباريّة لا الحقيقيّة، حيث إنّها علامة على ذلك الجسم.

إذاً جنبة العلاميّة لون عارض على أعمال الحج، أو على العبادات، أو على الموارد الأخرى، لا أنّها عين كنه أعمال الحج، وليس كون الشعائر هي نفس العباديّة، ولا كون العباديّة هي الشعائر.

أمّا كيف يسمح الشارع في أن يتصرّف العرف بوضع الشعائر أو غير ذلك، فهذا ما سنقف عليه لاحقاً إن شاء الله تعالى.

٦٨

الترخيصُ في جَعل الشعائر بيد العُرف

إنّ الشارع حينما لا يتصرّف في معنى معيّن، ولا في وجوده في الخارج، فهل يعني هذا تسويغاً من الشارع في أن يتّخذ العرف والعقلاء ما شاءوا من علامة لمعاني الدين وبشكلٍ مطلق؟ أم هناك حدود وقيود، وما الدليل على ذلك؟

هل اتّخاذ المسلمين لهذه المعالِم الحسّيّة مَعلماً وشعاراً، سواء كانت مَعالم جغرافيّة: كموقع بدر، وغدير خمّ، أو مَعلماً زمنيّاً: كمولد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وهجرته، وتواريخ الوقائع المهمّة، أو مَعلماً آخر غير زماني ولا مكاني، كأن يكون ممارسةً فعليّة، هل هذا فيه ترخيص من الشارع أم لا؟

للإجابة على هذا السؤال المهمّ لابدّ من تحرير النقاط التالية:

النقطة الأولى: وهذه هي جهة الموضوع في قاعدة الشعائر الدينيّة، وهي: أنّ العناوين التي ترد في لسان الشارع إذا لم يرد دليل آخر يدلّ على نقلها من الوضع اللغوي إلى الوضع الجديد والمعنى الجديد، فهي تبقى على حالها، وعلى معانيها الأوّليّة اللغويّة.

النقطة الثانية: أنّ تحقّق تلك الموضوعات وكيفيّة وجودها في الخارج، إن كان الشارع صرّح وتصرّف بها فنأخذ بذلك، وإلاّ فإنّها ينبغي أن تبقى على كيفيّة وجودها العرفي أو التكويني.

النقطة الثالثة: أنّ وجودات الأشياء على نسقَين:

( أ ) بعض الوجودات وجودات تكوينيّة.

٦٩

(ب) وبعض الوجودات وجودات اعتباريّة.

وقد أشرنا سابقاً لذلك، ولكن لزيادة التوضيح نقول: إنّ عناوين أغلب المعاملات وجودها اعتباري: كالبيع، والإجارة، والهبة، والوصيّة، والطلاق، والنكاح وما شابه ذلك، كلّ هذه العناوين كانت وجودات لدى العرف والعقلاء( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ... ) ،( أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ... ) وغيرها من العناوين.

فآية:( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ... ) لسانٌ شرعي وقضيّة شرعيّة تتضمّن حكماً شرعيّاً وهو الحلّيّة، بمعنى حلّيّة البيع وصحّته وجوازه، ولم يتصرّف الشارع بماهيّة البيع، ولا بكيفيّة وجوده، إلاّ ما استُثني(1) ، فكيفيّة وجوده عند العرف والعقلاء تكون معتبرة، فما يصدق عليه وما يسمّى وما يطلق عليه (بيع) في عرف العقلاء جُعل موضوعاً لقضيّة شرعيّة، وهي حلّيّة ذلك البيع، وإلاّ فإنّ هذا الدليل( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ... ) ليس المقصود منه البيع الشرعي، إذ البيع الشرعيّ أحلّه الله، ولو كان البيع المراد في هذا اللسان هو البيع الشرعي، لمَا كان هناك معنىً لحلّيّته؛ لأنّه سوف يكون تحصيلاً للحاصل، البيع الشرعي إذا كان شرعيّاً فهو حلال بذاته، فكيف يُرتّب عليه الشارع حكماً زائداً وهو الحلّيّة.

فلسان الأدلّة الشرعيّة - والتي وردت فيها عناوين معيّنة - إذا لم يتصرّف الشارع بها ولم يتعبّد بدلالة زائدة، تبقى على ما هي عليه من المعاني

____________________

(1) مثل: حُرمة وفساد بيع المكيل والموزون بجنسه مع التفاضل؛ لأنّه ربا، ومثل: بطلان بيع الكالئ بالكالئ وغيرها.

٧٠

الأوّليّة، وتبقى على ما هي عليه عند عُرف العقلاء.

حينئذٍ يأتي البيان المزبور في لفظة (الشعائر) الواردة في عموم الآيات:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ) (1) أو:( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ.. ) (2) وقد مرّ بنا أنّ ماهيّة الشعيرة، أو الشعائر التي هي بمعنى العلامة إذا أُضيفت إلى الله عزّ وجل، أو أُضيفت إلى الدين الإسلامي، أو أُضيفت إلى باب من أبواب الشريعة، فإنّها تعني علامة ذلك الباب، أو علامة أمر الله، أو علامة أحكام الله وما شابه ذلك.

والعلامة - كما ذكرنا - ليست عين المنسك، وليست عين العبادة، وليست عين الأحكام الأخرى في الأبواب المختلفة؛ وإنّما العلامة أو الإعلام شيء طارئ زائد على هذه الأمور، كاللون الذي يكون عارضاً وطارئاً على الأشياء، فيكون طارئاً على العبادة، أو المنسك، أو الحُكم المعيّن.

فجنبة الإعلام والنشر في ذلك الحُكم، أو في تلك العبادة، أو ذلك المنسك، تتمثّل بالشعيرة والشعائر، وبهذا النحو أيضاً تُستعمل في شعائر الدولة أو شعائر المؤسّسة والوزارة - مثلاً - فهي ليست جزءاً من أجزاء الوزارة أو المؤسّسة مثلاً، وإنّما هي علامةٌ عليها.

فالنتيجة: أنّ الشعيرة والشعائر والشِعار تبقى على حالها دون تغيير في كلا الصعيدين: صعيد المعنى اللغوي، وصعيد كيفيّة الوجود في الخارج.

____________________

(1) المائدة: 2.

(2) الحجّ: 32.

(1) الحجّ: 36.

٧١

فإطلاق الشعائر على مناسك الحجّ ليس من جهة وجودها التكويني أو الطبعي، بل من جهة الجعل والاتّخاذ من الله عزّ وجل:( وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ) (1) يعني: باتّخاذ وضعي واعتباري أصبحت علامة ونبراساً للدين.

هذه الشعائر في مناسك الحج، جُعلت - بالوضع والاعتبار - علامةً للدين، ولعلوّ الدين، ولرقيّه وانتشاره وعزّته ونشر أحكامه.

بعد هذا البسط يتّضح من ماهيّة الشعيرة ومن وجود الشعيرة، أنّ وجودها ليس تكوينيّاً، والمقصود ليس نفي تكوينيّة وجود ذات الشعيرة، بل إنّ تَعَنون الشيء بأنّه شعيرة وجعله علامة على شيء آخر تَعنونه هذا، وجعله كذلك ليس تكوينيّاً بل اعتباريّاً، وإلاّ فالبُدن هي من الإبل، ووجودها تكويني.

ولكن كونها شعيرة وعلامة على حُكم من أحكام الدين، أو على عزّة الإسلام شيء اعتباري، نظير بقيّة الدلالات التي تدلّ على مدلولات أخرى بالاعتبار والجعل.

فالشعائر وإن كانت وجودات في أنفسها تكوينيّة، ولكن عُلقتها ودلالتها على المعاني اتّخاذيّة واعتباريّة، بواسطة عُلقة وضعيّة ربطيّة اعتباريّة، هذا من جهة وجودها.

ومن جهةٍ أخرى، فقد دلّلنا على أنّ الشعائر والشعيرة تكون بحسب ما تُضاف إليه، كما قد يتّخذ المسلمون الشعائر في الحرب مثلاً، كما وردَ

____________________

(1) الحجّ: 36.

٧٢

دليل خاص في باب الجهاد على استحباب اتّخاذ المسلمين شعاراً لهم، مثل ما اتّخذه المسلمون في غزوة بدر، وهو شعار: (يا منصور أمِت).

فالمقصود إذا لم يرد لدينا دليل خاصّ على التصرّف في معنى الشعائر أو الشعيرة - التي هي بمعنى العلامة كما ذكرنا - فإنّه يبقى على معناه اللغوي الأوّلي.

الوجودُ الاعتباري للشعيرة

وكذلك في الوجود الخارجي، إذ المفروض أنّ المتشرّعة إذا اتّخذوا شيئاً ما كشعيرة، يعني علامة على معنى ديني سامي، معنىً من المعاني الدينيّة السامية، أو حكماً من الأحكام العالية، وجعلوا له علامة، شعيرة وشِعار وشعائر. فالمفروض جَعل ذلك بما هي شعيرة لا بما هي هي، أي: بوجودها النفسي، لكن بما هي شعيرة، (كاللفظ بما هو دال على المعنى، لا يكون دالاً على المعنى إلاّ بالوضع..) فالشعيرة بما هي شعيرة، أي بما هي علامة دالّة على معنى سامي من المعاني الدينيّة، وتشير بما هي علامة على حُكم من الأحكام الدينيّة الركنيّة مثلاً، أو الأصليّة وهي دلالة اعتباريّة اتّخاذيّة وضعيّة.

وهذا يعني أنّها مجعولة في ذهن الجاعل، وبالتبادل وبالاتفاق تصبح شيئاً فشيئاً شعيرة وشِعار، مثل ما يجري في العرف بأن يضعوا للمنطقة الفلانيّة اسماً معيّناً مثلاً، وبكثرة الاستعمال شيئاً فشيئاً ينتشر بينهم ذلك الاسم فيتواضعون عليه، ويتعارف بينهم أنّ هذه المنطقة تُعرف باسم كذا، ويحصل الاستئناس في استعمال اللفظ في ذلك المعنى، فينتشر ويتداول، فحينئذٍ يكون اللفظ المخصوص له دلالة على المعنى المعيّن دلالةً وضعيّةً.

٧٣

خلاصةُ القول

إلى هنا عرفنا أنّ في آية:( لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ) (1) ، وآية:( وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) (2) ثلاثة مَحاور:

محور الحُكم، ومحور المتعلّق، ومحور الموضوع.

فنقول: لو كنّا نحن ومقتضى القاعدة، لو كنّا نحن وهاتين الآيتين الشريفتين فقط وفقط فحينئذٍ، نقول: إنّ المعنى لشعائر الله - كالزوال، وكدِلوك الشمس - بقيَ على ما هو عليه في المعنى، ووجوده أيضاً على ما هو عليه من وجود، وقد بيّنّا في كيفيّة وجوده أنّها ليست تكوينيّة، بل هي وضعيّة واعتباريّة واتخاذيّة، كما في آية( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ... ) نبقيه على ما هو عليه من معنى، ونُبقيه على ما هو عليه من وجود، ووجوده هو وجود اعتباري لدى العقلاء.

وكذلك الأمر في شعائر الله، حيث هناك موارد قد تصرَّف فيها الشارع بنفسه وجعلَ شيئاً ما علامة، وغاية هذا التصرّف هو جعل أحد مصاديق الشعائر، كالمناسك في الحجّ.

وهناك موارد لم يتصرّف الشارع بها ولم يتّخذ بخصوصها علامات معيّنة.

وإنّما اتّخذ المتشرِّعة والمكلّفون شيئاً فشيئاً فعلاً من الأفعال - مثلاً -

____________________

(1) المائدة: 2.

(2) سورة الحج: 32.

٧٤

علامة وشعاراً على معنى من المعاني الإسلاميّة، فتلك الموارد يشملها عموم الآية:( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) (1) ، وكذلك يشملها عموم:( لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ) (2) .

فلو كنّا نحن وهاتين الآيتين فقط، يتقرّر أنّ معنى الشعائر ووجودها هو اتّخاذي بحسب اتّخاذ العرف.

لكن قبل أن يتّخذها العرف شعيرة ومشاعر، وقبل أن يتواضع عليها العرف، والمتشرِّعة والعقلاء والمكلّفون لا تكون شعيرة، وإنّما تتحقّق شعيريّتها بعد أن تتفشّى وتنتشر ويتداول استعمالها، فتصبح رسماً شعيرة وشعائر، ويشملها عموم( لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ) ، و( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ... ) .

فالمفروض أنّ المعنى اللغوي لشعائر الله، هو معنىً عام طُبّق في آية سورة المائدة، أو في آية سورة الحجّ على مناسك الحجّ.

ولكن لم تُحصر الشعائر بمناسك الحجّ، بل الآية الكريمة دالّة على عدمه:( وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ) (3) ، و (من) دالّة على التبعيض والتعميم.

فإذن، اللفظ حسب معناه اللغوي عام، ونفس السياق - الذي هو سياق تطبيقي - ليس من أدوات الحصر، كما ذكرَ علماء البلاغة ؛ فإنّهم لم يجعلوا

____________________

(1) الحجّ: 32.

(2) المائدة: 2.

(3) الحج: 36.

٧٥

تطبيق العام على المصداق من أدوات الحصر.

بل عُلّل تعظيم مناسك الحج لكونها من الشعائر، فيكون من باب تطبيق العام على أفراده، وذَكرنا أنّ أغلب علماء الإماميّة - من مفسّريهم، وفقهائهم، ومحدّثيهم - ذَهبوا في فتاواهم وتفاسيرهم إلى عموم الآية لا إلى خصوصها، ومنهم: الشيخ الطوسي في التبيان، حيث ذَكر أقوالاً كثيرة نقلاً عن علماء العامّة، ثُمّ بعد ذلك ذهب إلى أقوائيّة عموم الآية، وإنّه لا دليل على تخصيصها.

كما أنّ هناك دليلاً على ذلك من الآية الشريفة( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ) (1) ، حيث إنّ من الواضح أنّ حُرمات الله أعمّ من حُرمات الحجّ، هنا الموضوع للحُكم هو مُطلق حُرمات الله، وكذلك الأمر بالنسبة لشعائر الله في الآية الأخرى.

فإذن لو كنّا نحن ومقتضى هاتين الآيتين، فهاتان الآيتان - بحسب معناهما اللغوي، وبحسب وجودهما بين العقلاء وعُرف المكلّفين - وجودهما اعتباري اتّخاذي، ولو من قِبَل المتشرِّعة.

هذا الكلام بحسب اللسان الأوّلي في أدلّة الشعائر وقاعدة الشعائر، أمّا بحسب اللسان الإلزامي، فالأمر أوضح بكثير كما سنتعرّض إليه.

الاعتراضُ بتوقيفيّة الشعائر

في مقابل ذلك، أدُّعي وجود أدلّة تُثبت اختصاص جعل الشعائر بيد

____________________

(1) الحج: 30.

٧٦

الشارع المقدّس من حيث تطبيق وجودها، كما أنّ الشارع حينما جعل البيع، صار له وجود وكيفيّة خاصّة، وهو ذلك الوجود الذي رتّب عليه الحلّيّة، وأخذَ فيه قيوداً معيّنة.

ويقرِّر ذلك بعينه في بحث الشعائر، كما هو الحال في الطلاق، حيث إنّ الشارع جعلَ له كيفيّة وجود خاصّة.

فالشعائر لابد أن تُتّخذ وتُجعل من قِبَل الشارع، ومن ثُمّ يَحرم انتهاكها، أمّا مجرّد اتّخاذها - والتعارف عليها والتراضي بها من قِبَل العرف والعقلاء - لا يجعلها شعيرة ولا يترتّب عليها الحُكم، أي: وجوب التعظيم وحرمة الهتك.

أدلّةُ المُعترض:

الأوّل: باعتبار أنّ الشعائر تعني أوامر الله، ونواهي الله، وأحكام الله، فلابدّ أن تكون الشعائر من الله، فكيف يوكَّل تشريعها غير الله سبحانه( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ ) (1) .

الثاني: ما في الآية من سورة الحجّ( وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ) (2) من كونها شعائر الله، إنّما هو بجعل الشارع لا بجعل المتشرِّعة.

وآية( لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ) (3) ، وآية:( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ

____________________

(1) الأنعام: 57.

(2) الحج: 36.

(3) المائدة: 2.

٧٧

فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ) (1) ترتبط كلّ منها بموارد مناسك الحجّ، ومناسك الحجّ مجعولة بجعل الشارع.

فالحاصل أنّ ألفاظ الآيات ظاهرة في أنّ جعل الشعائر إنّما هو جعل من الله، وليس هو جعل وإنشاءٌ واتخاذٌ حسب قريحة واختيار المتشرِّعة.

الثالث: لو كانت الشعائر بيد العرف لاتّسع هذا الباب وترامى، ولمَا حُدّ بحدّ، بحيث يُعطى الزمام للعرف وللمتشرِّعة بأن يجعلوا لأنفسهم شعائر كيف ما اختاروا واقترحوا، وبالتالي سوف تطرأ على الدين تشريعات جديدة وأحكام مستحدَثة ورسوم وطقوس متعدّدة، حسب ما يراه العرف والمتشرِّعة، فتُجعل شعائر دينيّة.

فإيكال الشعائر إلى العرف والمتشرّعة وإلى عامّة الناس المتديّنين، سوف يستلزم إنشاء تشريع دين جديد وفقَ ما تُمليه عليهم رغباتهم وخلفيّاتهم الذهنيّة والاجتماعيّة.

الرابع: يلزم من ذلك تحليل الحرام، وتحريم الحلال، حيث سيتّخذون بعض ما هو محرّم شعائر فيجعلونها عَلَماً وعلامة على أمر ديني، وهذا تحليل للحرام، أو قد يجعلون لأشياء محلّلة حرمة معيّنة مثلاً ؛ لأنّها إذا اتُّخذت شعيرة وعُظِّمت فسوف يُجعل لها حرمة، مع أنّ حكمها في الأصل كان جواز الإحلال والابتذال.

أمّا بعد اتّخاذها شعيرة فقد أصبح ابتذالها حراماً وتعظيمها واجباً، فيلزم من ذلك تحريم الحلال.

____________________

(1) الحج: 30.

٧٨

جوابُ الاعتراض:

والجواب تارةً إجمالاً وأخرى تفصيلاً.. أمّا الجواب الإجمالي: فهو وجود طائفة الأدلّة من النوع الثاني والثالث، حيث مرّ أنّ لقاعدة الشعائر الدينيّة ثلاثة أنواع من الأدلّة:(1)

النوع الأول: لسان الآيات التي وردت فيها نفس لفظة الشعيرة والشعائر.

النوع الثاني: لسان آخر، وهو ظاهر الآيات التي وردت في وجوب نشر الدين، وإعلاء كلمة الله سبحانه، وبثّ الشريعة السمحاء.

وقد قلنا: إنّ قاعدة الشعائر الدينيّة تتقوّم برُكنين:

ركن الإعلام والنشر والبثّ، والانتشار لتلك العلامة الدينيّة ولِذيها.

وركن علوّ الدين واعتزازه، وهذا اللسان نلاحظه في جميع الألسن لبيان القاعدة، سواء كان في اللسان الأوّل الذي وردت فيه بلفظ الشعائر، أو في اللسان الثاني الذي لم يرد فيه لفظ الشعائر.

النوع الثالث : أو اللسان الثالث من الأدلّة: الذي ذكرنا بأنّه العناوين الخاصّة في الألفاظ الخاصّة.

فلو بنينا على نظريّة هذا المعترض؛ فإننّا لن ننتهي إلى النتيجة التي يتوخّاها بأنّ الشعائر حقيقة شرعيّة، أو وجودها حقيقة شرعيّة، لأنّ النتيجة

____________________

(1) راجع ص: 31 - 38 من هذا الكتاب.

٧٩

التي يريد أن يتوصّل إليها هي الحكم ببدعيّة كثير من الرسوم والطقوس التي تمارَس باسم الشعائر الدينيّة المستجدّة والمستحدَثة، وهذه النتيجة سوف لا يصل إليها حتّى لو سلّمنا بأنّ الشعائر الدينيّة هي بوضع الشارع وبتدخّله؛ لعدم انسجام ذلك مع النَمَطين الأخيرين من لسان أدلّ الشعائر، والوجه في ذلك يتّضح بتقرير الجواب التفصيلي على إشكالات المعترِض.

الجوابُ التفصيلي الأوّل

يتمّ بيانه عبر ثلاث نقاط:

النقطة الأولى: تعلّق الأوامر بطبيعة الكلّي

ما ذكرهُ علماء الأصول: من أنّ الشارع إذا أمرَ بفعل كلّي، مثل: الأمر بالصلاة( أَقِيمُواْ الصَّلاَةَ ) (1) ، أو الأمر بعتق رقبة، أو الاعتكاف، ولم يُخصِّص ذلك الفعل بزمن معيّن، أو بمكان معيّن، أو بعوامل معيّنة؛ وإنّما أمرَ بهذه الطبيعة على حدودها الكلّيّة، كأن يأمر الشارع مثلاً بصلاة الظهرين بين الحدّين، أي: بين الزوال والغروب، فالمكلّف يختار الصلاة في أيّ فردٍ زمني من هذه الأفراد، وإن كان بعض الأفراد له فضيلة، إلاّ أنّ المكلّف مُفوّض في إيجاد طبيعة الصلاة، وماهيّة الصلاة، وفعل الصلاة في أيّ فرد شاء، وفي أيّ آنٍ من الآنات بين الزوال والغروب، سواء في أوّل الوقت، أو وسط الوقت، أو آخر الوقت، كما أنّه مفوّض ومخيّر في إيقاع الصلاة في هذا المسجد، أو في ذلك المسجد، أو في منزل، جماعة أو فرادى، وبعبارة

____________________

(1) البقرة: 43، 83، 110.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

الطعام والشراب، فيجوز أنْ يكون مأخوذاً عن الاستعمال اللغوي اليهودي...) إلى آخره، يرد عليه ما أوردناه على قول(ر. پاريه) تحت مادّة(أُمّة). وما أوردناه على قول(هيك) تحت مادّة(سحر).

أمّا قوله تحت نفس المادّة: (... لكنّ محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يكن على كلّ حال عارفاً بالتفصيلات؛ لأنّه لم يأمر بصوم يوم عاشوراء، إلاّ بعد الهجرة، لمّا رأى اليهود يصومونه) ففيه:

أ - إنّ عاشوراء على وزن فاعولاء، مختومة بالألف الممدودة، وتصحّ بالألف المقصورة بلا همزة: عاشورا(١) ، فهي صفةٌ مؤنّثة لليلة العاشر من الشهر القمري العربي، وغلب إطلاقها على الليلة العاشرة من أوّل تلك الشهور وهو محرّم الحرام، ولا يُوصف بها اليوم، فلا يُقال: اليوم العاشوراء.

وقد اشتهر استعمال هذه الكلمة في ليلة العاشر من محرّم الحرام، ذكرى شهادة الإمام الثالث من أئمّة أهل بيت النبوّة الطاهرة (عليهم السلام) الحسين بن عليّ (عليهما السلام). مع العلم أن اللغويين قد نصّوا على أنّ هذه الكلمة(اسم إسلامي) (٢) (لم يُعرف في الجاهليّة)(٣) . وعلى هذا فمن أين جاءت دعوى وجود يوم باسم يوم عاشوراء لدى اليهود وأنّهم كانوا يصومونه؟

ب - لعلّ دعوى(بيرك) بوجود مثل هذا اليوم لدى اليهود، وأنّهم كانوا يصومونه، قد استندت على بعض الروايات الضعيفة سنداً، والمتناقضة دلالةً والتي وردت في بعض كتب الحديث، وأدناه نستعرض مجموعتين منها مع الإشارة الكلّيّة إلى ظروف وملابَسات اختلاف هذه الأحاديث ونسبتها كذِباً إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم):

____________________

(١) مجمع البحرين، مادّة (عشر).

(٢) النهاية في غريب الحديث والأثر ٣: ٢٤٠.

(٣) الجمهرة في لغة العرب ٤: ٢١٢.

٢٨١

المجموعة الأولى:

١ - عن عائشة قالت: كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهليّة، وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يصومه في الجاهليّة، فلمّا قدِم المدينة صامه وأمر بصيامه، فلمّا فُرِض رمضان ترك يوم عاشوراء فمَن شاء صامه ومَن شاء تركه(١) .

٢ - عنها قالت: كان يوم عاشوراء فكان مَن شاء صامه ومَن شاء لم يَصمه(٢) .

٣ - عنها قالت: كانوا يصومون عاشوراء قبل أنْ يُفرَض رمضان، وكان يوماً تسترّ فيه الكعبة، فلمّا فرض الله رمضان قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم):(مَن شاء أنْ يَصومه فليَصُمه، ومَن شاء أنْ يَتركه فليتركه) (٣) .

فكيف التوفيق بين هذا وبين ما مرّ من نصوص اللغويّين، على أنّ اسم عاشوراء اسم إسلامي لم يُعرف في الجاهليّة؟ وإذا كانوا يصومونه؛ لأنّه كان يوماً تُسترّ فيه الكعبة، فلماذا أُضيف إلى وصف الليلة (عاشوراء) كما مرّ؟ ولم تكن الكعبة تُسترّ في الليل طبعاً قطعاً. وهل وصفوا اليوم المُذكّر بصفة التأنيث؟ فالعجب من العرب كيف غاب عنهم هذا؟!

وهنا نتساءل:

بما أنّ الجاهليّة هي عهد ما قبل الإسلام، فإذا كان النبيّ يصوم يوم عاشوراء في الجاهليّة فلماذا تركه بعد الإسلام؟ فلو كان تركه لمخالفة المشركينّ

____________________

(١) صحيح البخاري، كتاب الصوم.

(٢) صحيح البخاري كتاب تفسير القرآن، سورة البقرة.

(٣) صحيح البخاري، كتاب الحج، الباب ٤٧.

٢٨٢

فلماذا رجع إليه بعد الهجرة؟

المجموعة الثانية:

١ - عن ابن عبّاس قال: قدِم النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال:(ما هذا؟) قالوا: هذا يوم صالح، يوم نجّى الله بني إسرائيل من عدوّهم فصامه موسى. قال:(أنا أحقُّ بموسى منكم) فصامه وأمر بصيامه(١) .

٢ - عنه قال: إنّ النبيّ لما قدِم المدينة وجدهم يصومون يوماً (يعني يوم عاشوراء) فقالوا: هذا يومٌ عظيم، وهو يوم نجّى الله فيه موسى وأغرق آل فرعون، فصام موسى شاكراً لله. فقال:(أنا أولى بِموسى مِنهُم). فصامه وأمر بصيامه.(٢)

٣ - عنه قال: لمّا قدم النبيّ المدينة وجد اليهود يصومون عاشوراء فسُئلوا عن ذلك فقالوا: هذا هو اليوم الذي أظهر الله فيه موسى وبني إسرائيل على فرعون، ونحن نصومه تعظيماً له. فقال رسول الله: ونحن أولى بموسى منكم. فأمر بصومه(٣) .

٤ - عنه قال: قدِم النبيّ المدينة واليهود تصوم عاشوراء فقالوا: هذا يوم ظهر فيه موسى على فرعون. فقال النبيّ لأصحابه:(أنتم أحقّ بموسى منهم، فصوموا) (٤) .

٥ - عنه قال: لمّا قدِم رسول الله المدينة واليهود تصوم عاشوراء، فسألهم، فقالوا: هذا اليوم الذي ظهر فيه موسى على فرعون. فقال النبيّ:(نحن أولى بموسى

____________________

(١) صحيح البخاري، كتاب الصوم: ٣٠.

(٢) صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء: ٦٠.

(٣) صحيح البخاري، كتاب مناقب الأنصار، الباب ٥٢.

(٤) صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن، سورة يونس.

٢٨٣

منهم) (١) .

٦ - عن أبي موسى الأشعري قال: دخل النبيّ المدينة وإذا أُناسٌ من اليهود يعظّمون عاشوراء ويصومونه فقال النبيّ:(نحن أحقّ بصومه)، فأمر بصومه(٢) .

٧ - عنه قال: كان يوم عاشوراء تعدّه اليهود عيداً، فقال النبيّ: فصوموه أنتم(٣) .

وهذه المرويّات عن ابن عبّاس وأبي موسى الأشعري لا نجد فيها أن اليهود كانوا يسمونه عاشوراء، أمّا ما هي حقيقته عند اليهود؟ فهذا ما تبينه لنا دائرة المعارف البريطانيّة بالانجليزيّة والفرنسيّة والألمانيّة حيثُ جاء فيها:

إنّ احتفال اليهود بنجاة موسى وبني إسرائيل يمتدّ سبعة أيّام لا يوماً واحداً فقط.

أمّا صوم اليهود فهو في اليوم العاشر، ولكنّه ليس العاشر من المحرّم، بل من شهرهم الأوّل: تشري، ويسمّونه يوم(كيپور) ، أي يوم(الكفّارة) ، وهو اليوم الذي تلقّى فيه الإسرائيليّون اللوح الثاني مِن ألواح الشريعة العشرة، ولم يكن ذلك يوم نجاتهم من فرعون، بل بعد نجاتهم من فرعون، وميقات موسى (عليه السلام) وابتلائهم بعبادة العجل إلهاً لهم، ورجوع موسى من الميقات إليهم، وإعلان اشتراط قبول توبتهم بقتل بعضهم لبعض، وبحصولهم على العفو من رفقائهم، ولذلك فقد خُصّص اليوم قبل(كيپور) بتبادل العفو فيما بينهم، وخُصّص يوم(كيپور) للصيام والصلاة والتأمّل كأقدس أيّام اليهود.

والتقويم اليهودي المستعمل اليوم عندهم شهوره قمريّة، ولذلك فعدد أيّام

____________________

(١) صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن، سورة يونس.

(٢) صحيح البخاري، كتاب مناقب الأنصار، الباب ٥٢.

(٣) صحيح البخاري، كتاب الصوم: ٣٠.

٢٨٤

السنة في السنوات العاديّة ٣٥٥ أو ٣٥٤ أو ٣٥٣، ولكنّهم جعلوا سنواتهم شمسيّة بشهور قمريّة، ولذلك فلهم سنوات كبيسة، ففي كلّ سنةٍ كبيسة يُضاف شهر بعد آذار الشهر السادس باسم آذار الثاني فيكون الشهر السابع، ويكون نيسان الشهر الثامن، وعليه تكون أيّام السنة الكبيسة ٣٨٥ أو ٣٨٤ أو ٣٨٣.

مناقشة ما ورد في روايات المجموعتين:

أ - يلاحظ بخصوص خبرَي أبي موسى الأشعري:

أنّه في الأوّل يقول: (وإذا أُناس من اليهود يعظّمون عاشوراء ويصومونه، فقال النبيّ:(نحن أحقّ بصومه) . فأمر بصومه) بلا ذكر لوجه تعظيمهم ليوم عاشوراء وصومه، ولا ذكر لوجه أحقيّة المسلمين بصومه.

وفي الثاني يقول: (كان يوم عاشوراء تعدّه اليهود عيداً. قال النبيّ:فصوموه أنتم) بلا ذكر لوجه كون يوم عاشوراء عيداً عندهم، ولا ذكر لوجه أمره (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بصومه، وكأنّه يُقابل بين الأمرين: بين صوم المسلمين فيه وعدّه اليهود عيداً، دون الأولويّة.

ب - يلاحظ في الخبَرَين أيضاً:

أنّه قال في الأوّل: (وإذا أُناسٌ من اليهود يعظّمون عاشوراء) وقال في الثاني: (كان يوم عاشوراء تعدّه عيداً) فعلّق وصف العيد وتعظيم اليهود على يوم عاشوراء، ولا وجه لذلك. وقد مرّ نص اللغويّين على أنّه اسم إسلامي لم يُعرف في الجاهليّة أي قبل الإسلام، وعليه فكيف عرف اليهود عاشوراء قبل الإسلام؟!

وقال في الثاني: (قال النبيّ:فصوموه أنتم ) وقال في الأوّل: (فقال النبيّ:نحن أحقّ بصومه . فأمر بصومه) وجوباً أم استحباباً؟ وظاهر الأمر الوجوب كما

٢٨٥

قالوا، وعليه فيخلو الخبر عن ذكر مدى هذا الأمر إلى متى كان أو يكون؟ وكذلك تخلو منه أخبار ابن عبّاس.

ج - وذكرت المدى أخبار عائشة: (فلمّا فرض الله رمضان قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم):(من شاء أنْ يصومه فليصمه، ومن شاء أنْ يتركه فليتركه) .

وقد ذكروا بلا خلاف أنّ فرْض الله صيام شهر رمضان كان بنزول القرآن به لمنتصف السنة الثانية للهجرة، أي أنّه لم يكن بين هجرته وبين نزول القرآن بفرض رمضان غير عاشوراء واحد، وإذا كان قد أمر بصيامه مواساة لموسى (عليه السلام) شكراً لنجاته على قول يهود المدينة له بعد هجرته جواباً عن سؤاله عن صومهم يوم عاشوراء، إذن فعاشوراء الأُولى قد مضت ولم تأتِ الثانية ليصوموا يومها، حتّى نزل القرآن بفرض رمضان فما معنى: (كانوا يصومون عاشوراء قبل أنْ يُفرض رمضان؟ وكذلك ما عن عائشة أيضاً قالت: كان عاشوراء يُصام قبل رمضان، فلمّا نزل رمضان مَن شاء صام ومَن شاء أفطر(١) .

٨ - وعنها قالت: كان رسول الله أمر بصيام عاشوراء، فلما فرض رمضان كان من شاء صام ومن شاء أفطر(٢) . وكأنّه أمر بالصيام فقط ولم يصوموه.

د - وهناك خبر آخر عن حميد بن عبد الرحمان ، أنّه سمِع معاوية بن أبي سفيان على منبر يوم عاشوراء عام حجّ يقول: يا أهل المدينة، أين علماؤكم؟ سمِعت رسول الله يقول:(هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب الله عليكم صيامه، وأنا صائم، فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر) (٣) .

فهذا يتضمّن تنكّراً لصيام قريش في الجاهليّة، ولصيام اليهود كذلك،

____________________

(١) صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن، سورة البقرة.

(٢) صحيح البخاري، كتاب الصوم: ٣٠.

(٣) المصدر السابق.

٢٨٦

وينصّ من أوّل يوم على الندب والاستحباب دون الوجوب. ولكن يُلاحظ عليه أمران:

الأول: إنّه يتضمّن اعترافاً بعدم علم علماء أهل المدينة بالحديث عن رسول الله.

الثاني: أفكان هذا قبل الهجرة؟ أم بعدها؟ أم بعد فتح مكّة؟ فمتى سمعه معاوية؟ وإذا كان لليهود تقويم عِبري يخصّهم يختلف تمام الاختلاف عن التاريخ العربي القمَري، وإذا لم يكن يوم عاشوراء يوم نجاة موسى (عليه السلام) وبني إسرائيل من فرعون، فلا يصحّ ما جاء في بعض كتب الحديث ممّا نُسِب إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من أخبار في عاشوراء تتضمّن أنّه يوم نجاة موسى وبني إسرائيل من الفراعنة فهو يوم عيد الخلاص.

وإلى جانبه ذكريات أُخرى منها: أنّه يوم خلْق الأرض والجنّة وآدم (عليه السلام) فهو عيد الخلق، وهو يوم نجاة نوح من الغرق، ونجاة إبراهيم من الحرْق(١) .

أمّا علّة وضع هذه الأحاديث فقد روى الشيخ الفقيه أبو جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمّي، مسنداً عن جبلة المكّيّة قالت: سمعت ميثم التّمار يقول: (والله لتقتلنّ هذه الأُمّة ابن نبيّها في المحرّم لعشرٍ مضين منه، وليتخذنّ أعداء الله ذلك اليوم يوم بركة، وأنّ ذلك لكائن قد سبق في علم الله تعالى ذكره، أعلم بذلك بعهدٍ عهِده إليّ مولاي أمير المؤمنين (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

قالت جبلة: فقلت: يا ميثم، وكيف يتّخذ الناس ذلك اليوم الذي يُقتل فيه الحسين بن عليّ (عليهما السلام) يوم بركة؟!

فبكى ميثم، ثمّ قال: سيزعمون - بحديث يضعونه - أنّه اليوم الذي تاب الله

____________________

(١) تفصيل الرد تجده في مجلّة رسالة الثقلين العدد الثاني - يوم عاشوراء في اللغة والتاريخ والحديث.

٢٨٧

فيه على آدم (عليه السلام) وإنّما تاب الله على آدم في ذي الحجّة. ويزعمون أنّه اليوم الذي استوت فيه سفينة نوحٍ على الجودي، وإنما استوت على الجودي يوم الثامن عشر من ذي الحجّة.

ويزعمون أنّه اليوم الذي فلق الله فيه البحر لبني إسرائيل. وإنّما كان ذلك في شهر ربيع الأوّل(١) .

ويزعمون أنّه اليوم الذي قَبل الله فيه توبة داود، وإنّما قبل الله توبته في ذي الحجّة. ويزعمون أنّه اليوم الذي أخرج الله فيه يونس من بطن الحوت، وإنّما أخرجه الله من بطن الحوت في ذي القعدة.

ثمّ قال ميثم: يا جبلة، إذا نظرت إلى الشمس حمراء كأنّها دمٌ عبيط، فاعلمي أنّ سيّدك الحسين (عليه السلام) قد قُتِل)(٢) .

أمّا قول(بيرك) تحت نفس المادّة وكذلك قول(سبرنجر) وقول(نولدكه وشفالي) فهي مجرّد فرضيّات وادّعاءات احتماليّة لم يسوقوا أيّ دليلٍ أو قرينةٍ عليها، ويرد عليها ما أوردناه على قول(هيك) تحت مادّة (سحر) فراجع. على أنّ قول(بيرك): - (وفيما يتعلّق بمسألة السبب الذي من أجله اختار محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) شهر رمضان بالذات... قيلت آراءٌ عديدة) - لا مورد له؛ لأنّ الله سبحانه قد أظهر سرّ عظمة هذا الشهر في قوله تعالى:

( شَهْرُ رَمَضَانَ الّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنّاسِ وَبَيّنَاتٍ مِنَ الْهُدى‏ وَالْفُرْقَانِ ) (٣) فجعل أداء هذه الفريضة العظيمة في

____________________

(١) وهذا يتّفق مع ظاهر أخبار ابن عبّاس وأبي موسى الأشعري في أنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لمّا قدم المدينة - وقدِمها في ربيع الأوّل بلا خلاف - رأى اليهود يصومون اليوم ويقولون أنّه يوم نجاة موسى وبني إسرائيل من فرعون والغرق، لا يوم عاشوراء.

(٢) أمالي الشيخ الصدوق: ١١٠ط. بيروت.

(٣) البقرة: ١٨٥.

٢٨٨

الشهر العظيم فقال سبحانه:( فَمَن شَهِدَ مِنْكُمُ الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) (١) .

٩ - قول(فير) تحت مادّة(الجاهليّة) وقول(فنسنك) تحت مادّة (أصل الحجّ في الإسلام)، وقوله أيضاً تحت مادّة(إحرام) ، وما نقله عن(سنوك هجروينيه) تحت نفس المادّة، وقول(بول) تحت مادّة(الجمرة) ، وقول(شاخت) تحت مادّة(زكاة) وقوله أيضاً تحت مادّة(زنى) ، وقول(هفننج) تحت مادّة(التجارة)، يرد عليها جميعاً ما أوردناه سابقاً على قول(هيك) تحت مادّة(سحر).

يُضاف إلى ذلك أن هذه الأقوال فيها روح الإنكار للوحي الإلهي للرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وخصوصاً ما هو تحت مادّة( الجاهليّة) ومادّة (أصل الحجّ في الإسلام) ومادّة (إحرام)، إذ يكفيها جواباً أنّ القرآن الكريم يُصرّح في أكثر من آيةٍ كريمة، أنّ بيت الله الحرام هو واحد، وقد أقام قواعده نبيّ الله إبراهيم (عليه السلام) وولده نبي الله إسماعيل (عليه السلام) وذلك في قوله تعالى:

( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبّنَا تَقَبّلْ مِنّا إِنّكَ أَنْتَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ ) (٢) ، ثمّ أمر الله سبحانه نبيّه إبراهيم (عليه السلام) أنْ يُطهّر هذا البيت لأداء عبادة الحجّ الإلهي، حيثُ جاء في القرآن الكريم عن ذلك:

( وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذّن فِي النّاسِ بِالْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى‏ كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَمِيقٍ ) (٣) ، وقوله تعالى أيضاً:

( وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنّاسِ وَأَمْناً وَاتّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى وَعَهِدْنَا إِلَى‏ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهّرَا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرّكّعِ السّجُودِ ) (٤) . واستمرّ الحال زمناً طويلاً

____________________

(١) البقرة: ١٨٥.

(٢) البقرة: ١٢٧.

(٣) الحج: ٢٦، ٢٧.

(٤) البقرة: ١٢٥.

٢٨٩

حتّى أفسد أهل الجاهليّة هذا الحجّ الإبراهيمي، وحرّفوه عن شرعته الإلهيّة باتّخاذهم الأصنام في بيت الله وشعائر الحجّ الأخرى شركاء لله سبحانه يتقربون إليها دونه تعالى، ومحقوا صورته الأولى التي شرّعها الله لنبيّه إبراهيم (عليه السلام)، واستبدلوها بالدجل والهراء، حتّى وصفهم القرآن الكريم بقوله:

( وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً ) (١) ، فأمر الله تعالى نبيّه الكريم محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، بإعادة عبادة الحجّ الإلهي إلى صورته الأُولى، إمضاءً لشريعة إبراهيم (عليه السلام) فيها، حيثُ قال في قرآنه المجيد:( إِنّ أَوّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلّذِي بِبَكّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَللّهِ‏ِ عَلَى النّاسِ حِجّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنّ اللّهَ غَنِيّ عَنِ الْعَالَمِينَ ) (٢) .

كما أنّ قول(بول) تحت مادّة(الجمرة): جهلٌ منه أو تجاهل، فإنّ كثيراً من مفردات الشريعة الإسلاميّة جاءت كليّات في القرآن الكريم، ثمّ فصّلها الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حديثه وسيرته الشريفة، بوحيٍ وإلهامٍ من الله سبحانه وتعالى.

١٠ - قول(هـ. هـ. بروى) تحت مادّة(أُميّة بن أبي الصلت) صارخ في إنكار الوحي الإلهي للرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهو يردّد بذلك دعوى أسلافه من اليهود والنصارى من الذين ابتدعوا هذه الأشعار، ونسبوها إلى أميّة كيداً للإسلام ونبيّه الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

وقد ذكرت لنا كتب التاريخ أنّ أُميّة بن الصلت هذا كان من أعدى أعداء الإسلام ونبيّه الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من ذلك ما جاء في تاريخ الأدب العربي في ترجمة أُميّة بن الصلت ما نصّه: (كان أُميّة تاجراً من أهل الطائف ينتقل بتجارته بين الشام واليمن. ومال أُميّة من أول أمره إلى التحنّف، هجر عبادة الأوثان وترك شرب

____________________

(١) الأنفال: ٣٥.

(٢) آل عمران: ٩٦ - ٩٧.

٢٩٠

الخمر واعتقد بوجود الله من غير أنْ يكون له فروض معينة في العبادة. وكاد أُميّة أنْ يسلِم لمّا جاء الإسلام، ولكن موقف قومه ثقيفٍ من الإسلام أملى عليه العداء للرسول وللمسلمين، فكان يُحرّض على قتال الرسول، ولمّا انتصر المسلمون على مشركي مكّة في غزوة بدرٍ، في رمضان من سنة ٢ للهجرة، رثى أُميّة الذين قُتلوا من المشركين في تلك الغزوة...ضاع القسم الأوفر من شعر أُميّة، ولم يثبت له على القطع سوى قصيدته في رثاء قتلى بدر من المشركين.

وكان أُميّة يحكي في شعره قصص الأنبياء على ما جاء في التوراة ويذكر الله والحشر، ويأتي بالألفاظ والتعابير على غير مألوف العرب، ولذلك كان اللغويّون لا يحتجون بشعره. وشعره كثير التكلّف ضعيف البناء قليل الرونق قلق الألفاظ. أمّا أغراضه في شعره الباقي بين أيدينا - صحيحاً ومنحولاً - فهي المدح والهجاء والرثاء وشيء من الحكمة وكثير من الزهد والتزهيد، ومن الكلام في الله والآخرة)(١) .

ومن ذلك نستنتج ما يلي:

١ - إنّه كان عدوّاً للإسلام ولرسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتّى نُقل أنّه: لمّا ظهَر النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قيل له: هذا الذي كنت تستريب وتقول فيه. فحسده عدوّ الله وقال: إنّما كنت أرجو أنْ أكونَه، فأنزل الله تعالى فيه:( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا ) [الأعراف: ١٧٥].

وكان يحرّض قريشاً بعد وقعة بدر)(٢) ، وهذه قرينة على وجود تنافر بينه وبين رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ممّا يبعد مقولة وجود صلة واستقاء منه خصوصاً بعد البعثة النبويّة.

٢ - إنّه كان يحكي في شعره بعض ما جاء في التوراة من قصص الأنبياء

____________________

(١) تاريخ الأدب العربي للدكتور عمر فروخ ١: ٢١٦ - ٢١٧.

(٢) كتاب الوافي بالوفيّات لصلاح الدين خليل أيبك الصفدي ٩: ٣٩٥ - ٣٩٦، والأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ٤: ١٢٧.

٢٩١

وذكر الله والحشر ويأتي بالألفاظ والتعابير على غير مألوف العرب. وعليه فلو أراد الرسول أنْ يستقي هذه الأمور لاستقاها من التوراة مباشرة دون الحاجة إلى أشعار أُميّة خصوصاً وإنّ شعره متكلّف ضعيف البناء قليل الرونق قلق الألفاظ لا يؤدّي إلى المراد بالدقّة المطلوبة، ويؤيّد ذلك ما ذكره المؤرخون بقولهم: (ولذلك كان اللغويّون لا يحتجّون بشعره).

٣ - إنّ البيان والبلاغة الإعجازيّة لآيات القرآن الكريم تأبى وتتنافى ودعوى الأخذ من أشعار أُميّة المتكلّفة الضعيفة القلقة القليلة الرونق.

وقد أشار القرآن إلى هذه الافتراءات وما فيها من مفارقات صارخة، وأفحمهم بالبرهان الساطع الذي يثبت به - بما لا يقبل الشكّ والترديد - البَون المُطلق بين ما يُدّعى مصدراً لضعفه وهبوط بيانه، وبين البيان الإعجازي للقرآن الكريم وهو قوله تعالى:

( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنّهُمْ يَقُولُونَ إِنّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ لّسَانُ الّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيّ وَهذَا لِسَانٌ عَرَبِيّ مُبِينٌ ) (١) ، ثُمّ أشار إلى حقيقة أُخرى تدفع هذه الدعوى أيضاً إذ قال:

( تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هذَا فَاصْبِرْ إِنّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتّقِينَ ) (٢) ، وبذلك أثبت أنّ المشركين آنذاك لا يعلمون ممّا جاء في القرآن شيئاً، ولو كانت أشعار أُميّة مطابقة أو مشابهة لِما ورد في القرآن الكريم، إذن لكانت خير دليلٍ عندهم على دحض نبوّة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وإنكار الوحي والتنزيل الإلهي له (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

ونضيف إلى ذلك ردّنا السابق على قول(هيك) تحت مادّة(سحر) ، في أنّنا لا نعدم وجود مشتركات وتشابه بين بعض المفردات في الإسلام والقرآن الكريم، ومفردات في اليهوديّة والنصرانيّة وكتابيهما التوراة والإنجيل، في الموارد التي لم

____________________

(١) النحل: ١٠٣.

(٢) هود: ٤٩.

٢٩٢

يطِلْها التحريف خصوصاً في كلّيّات الاعتقادات وقصص الأنبياء لِعَدم شمول النسخ لها كما ذكرنا سابقاً، فراجع.

شعائر الإسلام وليدة إبداعات وتأثيرات متنوّعة

وفيها يُحاول بعض كتّاب هذه الدائرة اختلاق ودعم شبهة أنّ شعائر الإسلام جاءت من خلال إبداعات خاصّة أو تأثيرات متنوّعة: (كالصحابة، الجاهليّة، اليهوديّة، النصرانيّة، الفارسيّة، و...).

ومن نماذج الدسّ والتشويه في صيغة هذه الشبهة ما جاء تحت مادّة(أذان) التي يقول فيها(جوينبل Th.Juynboll ) : (وتقول الرواية الإسلاميّة: إنّ النبيّ تشاوَر مع أصحابه بعد دخوله المدينة مباشرةً، في العام الأوّل أو الثاني للهجرة، في خير الطرق لتنبيه المؤمنين إلى وقت الصلاة، فاقترح بعضهم أنْ يُوقدوا لذلك ناراً أو ينفخوا في بوق أو يدقّوا ناقوساً، (مثل قطعة طويلة من الخشب تضرب بقطعة أُخرى وكان يستعمله المسيحيّون في الشرق للتنبيه إلى الصلاة)، ولكنّ واحداً من المسلمين هو عبد الله بن زيد أخبر أنّه رأى في المنام رجلاً يدعو المسلمين إلى الصلاة من سقف المسجد، وامتدح عُمر هذه الطريقة في الدعوة إلى الصلاة، ولمّا اتّفق رأي الجماعة على هذا الأذان أمر النبيّ باتّباعه، ومن ذلك الوقت أخذ بلال يُنادي المؤمنين إلى الصلاة بهذا الأذان، الذي يستعمله العالم الإسلامي إلى وقتنا هذا)(١) .

وتحت باب(بلال) يقول( Fr. Buhl ): (وأدخل النبيّ الأذان بعد أنْ أبدى

____________________

(١) دائرة المعارف الإسلاميّة ١: ٥٦٠.

٢٩٣

شيئاً من التردّد (انظر مادّة أذان) وجعل بلالاً مؤذّناً له)(١) .

ويسفّ(كاستر M. Gaster ) أكثر فيقول عن(القبلة) تحت باب(السامرة): (وقد ورد في الإنصرة أيضاً كلمة القبلة، أي التوجّه في الصلاة إلى الجبل المقدّس. والحق في أنّ الاتّجاه إلى المعبد معروف أيضاً عند اليهود... ويجوز أنّ محمّداً أخذ هذه الشعيرة من السامرة، وقد صبغها مثلهم بصبغة دينيّة خاصّة، أقوى وأشدّ ممّا يفعل اليهود، وكذلك غيّر محمّدٌ وجهة الصلاة عندما اختلف مع اليهود، وبذلك أفصح عن الأهميّة التي كان ينسبها إلى القبلة)(٢) .

أمّا(فنسنك A. J. Wensink ) فينقل هذه الشبهة إلى أهمّ شعائر الإسلام على الإطلاق، وهي الصلاة فيقول تحت مادّتها: (ويبدو أنّ كلمة صلاة لم تظهر في الآثار الأدبيّة السابقة على القرآن، وقد اتّخذها محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كما اتّخذ الشعيرة من اليهود والمسيحيّين في بلاد العرب)(٣) .

ويستمرّ(فنسنك) في إبرام شبهته هذه فيقول تحت المادّة نفسها:( واشتقاق كلمة(صلوطا) الآراميّة واضح كلّ الوضوح، فالأصل(صلأ) ، في الآراميّة يعني الانحناء والانثناء والقيام... وتُستعمل في كثير من اللهجات الآراميّة للدلالة على الصلاة الشرعيّة... وقد نقل محمّد كلمة الصلاة بهذا المعنى من جيرانه.

ويكشف نظام الصلاة عند المسلمين عن تشابه كبير بصلاة اليهود والمسيحيّين... ومن البيّن أنّ محمّداً لم تكن بين يديه أوّل الأمر المادّة الوافية لهذه الشعيرة؛ ولقد كانت تعوزه النصوص التي يتلوها ويرتّلها اليهود والمسيحيّون في

____________________

(١) دائرة المعارف الإسلاميّة ٤: ٧٣.

(٢) المصدر السابق ١١: ٩٢.

(٣) المصدر السابق ١٤: ٢٧٧.

٢٩٤

صلاتهم) (١) .

ويستمر(فنسنك) تحت المادّة نفسها قائلاً: (ومن ثمّ فنحن نجد فجأةً الصلاة الوسطى تظهر في السورة المدنيّة وهي البقرة، الآية ٢٣٧. ولا بد إذن أنْ تكون هذه الصلاة قد أُضيفت في المدينة إلى الصلاتين المعتادتين، ويرجّح أنْ يكون ذلك قد تمّ محاكاةً لليهود الذين كانوا يُقيمون أيضاً صلاتهم(ثقلاه) ثلاث مرّات كلّ يوم)(٢) .

ويقول أيضاً: إنّ(جولد صيهر Gold Ziher ) وفي معرض ردّه على(هوتسما) في كيفيّة تقرير الصلوات الخمس، يرى عكس ما يراه الأخير ويذهب إلى القول بوجود أثر فارسي في تقرير الصلوات الخمس(٣) .

وعن عدد الركعات في الصلوات الخمس يقول(فنسنك) تحت مادّة(الصلاة):

(... إنّ الحديث [النبويّ] يقول أيضاً: إنّ الصلاة كانت في الأصل من ركعتين وإنّ هذا العدد نفسه عمل به في صلاة السفر... ويفترض(متفوخ) وجود التأثير اليهودي في الاختيار الأصلي للركعتين)(٤) .

وردّنا على مفردات هذه الصياغة من الدسّ، والتشويه، واختلاف الشبهات كالآتي:

أ - قول(جوينبل) تحت مادّة(أذان) وقول(بول) تحت مادّة(بلال) يرد عليه: إن مثل هذه الرواية التي ادّعاها (جوينبل) ولم يذكر لنا مصدرها، لا شكّ إنّها من المختلقات الإسرائيليّة التي اشتهر أمرها وحذّر العلماء وأهل الحديث

____________________

(١) المصدر السابق ١٤: ٢٧٨.

(٢) المصدر السابق ١٤: ٢٨١.

(٣) المصدر السابق ١٤: ٢٨٢.

(٤) المصدر السابق ١٤: ٢٨٦.

٢٩٥

والرواية منها، أمّا الروايات الصحيحة التي وردت عن أئمّة أهل بيت النبوّة والعصمة (عليهم السلام) فهي على خلاف ذلك، حيث تنصّ على أنّ الأذان كان من الله بواسطة الوحي(جبرئيل)، بل إنّ بعضاً منها تضمّن استنكاراً وزجراً ولعناً لِمَن زعموا أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أخذ الأذان عن عبد الله بن زيد.

ومن هذه الروايات ما عن محمّد بن يعقوب عن أبيه عن ابن أبي عُمير عن حمّاد عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:(لمّا هبط جبرئيل (عليه السلام) بالأذان على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، كان رأسه في حِجْر عليّ (عليه السلام)، فأذّن جبرئيل وأقام، فلمّا انتبه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: يا علي، سمِعت؟ قال: نعم، قال: حفظت؟ قال: نعم، قال: ادع بلالاً فعلّمه، فدعا عليّ (عليه السلام) بلالاً فعلّمه).

ورواه الصدوق بإسناده عن منصور بن حازم، وروى الشيخ بإسناده عن عليّ بن إبراهيم مثله.

وعن محمّد بن مكّي الشهيد في الذكرى: عن ابن أبي عقيل عن الصادق (عليه السلام) أنّه (لعن قوماً زعموا أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أخذ الأذان من عبد الله بن زيد، فقال:(ينزل الوحي على نبيّكم فتزعمون أنّه أخذ الأذان من عبد الله بن زيد؟!) (١) .

ب - قول(كاستر) فيما يتعلّق بالقبلة تحت باب(السامرة) فيه: ما أوردناه على قول(هيك) تحت مادّة(سحر) وقول(ر. پاريه) تحت مادّة(أمّة) فراجع.

على أنّ قضيّة القبلة لم تكن بالشكل الذي عرضه(كاستر) ، هذا من أنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) غيّر القبلة عندما اختلف مع اليهود، بل كان أمراً إلهيّاً للردّ على دعوى اليهود التي ردّدها(كاستر) في قوله السالف من تبعيّة الإسلام ورسوله الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لهم، بدليل اتّخاذه (بيت المقدّس) التي هي قبلة اليهود قبلةً للمسلمين،

____________________

(١) وسائل الشيعة ٤: ٦١٢ - ٦١٣، ح٣.

٢٩٦

وبهذا الأمر الإلهي تميّز المسلمون عن اليهود بجعل الكعبة المشرّفة قبلتهم دون سواهم.

وفي بيان هذه الحقيقة روى عليّ بن إبراهيم بإسناده عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (تحوّلت القبلة إلى الكعبة بعدما صلّى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بمكّة، ثلاث عشرة سنة إلى بيت المقدِس، وبعد مهاجرته إلى المدينة صلّى إلى بيت المقدِس سبعه أشهر، قال: ثمّ وجّهه الله إلى الكعبة، وذلك أنّ اليهود كانوا يعيّرون رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ويقولون له:

أنت تابع لنا، تصلّي إلى قبلتنا، فاغتمَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من ذلك غمَّاً شديداً، وخرج في جوف الليل ينظر إلى آفاق السماء، ينتظر مِن الله تعالى في ذلك أمراً، فلمّا أصبح وحضر وقت صلاة الظهر، كان في مسجد بني سالم قد صلّى من الظهر ركعتين، فنزل جبرئيل (عليه السلام) فأخذ بعَضُديه وحوّله إلى الكعبة، وأنزل عليه:

( قَدْ نَرَى‏ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِي السّماءِ فَلَنُوَلّيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.... ) ، وكان صلّى ركعتين إلى بيت المقدِس وركعتين إلى الكعبة، فقالت اليهود والسفهاء:

( ...مَا وَلاّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الّتِي كَانُوا عَلَيْهَا... ) (١) .

ج - أقوال(فنسنك) المتعدّدة تحت مادّة(الصلاة) يرد عليها جميعاً ما أوردناه على(هيك) تحت مادّة(سحر) فراجع. ونضيف إليه:

١ - قوله: (ويبدو أنّ كلمة صلاة لم تظهر في الآثار الأدبيّة السابقة على القرآن...)، فيرد عليه ما أوردناه على(ر. پاريه) تحت مادّة(أُمّة)، مع تأكيدنا على بطلان ما ادّعاه، فإنّ كلمة صلاة وردت في الشعر العربي الجاهلي قَبل نزول القرآن الكريم، كما في قول أعشى قيس:

يُراوِح في صَلواتِهِ لِمَلِيك * طَورَاً سُجودَاً وطَورَاً جوار

____________________

(١) مجمع البيان ١: ٢٢٣.

٢٩٧

ومعنى الصلاة لغة الدعاء والاستغفار؛ فقد قال الأعشى أيضاً:

لها حارسٌ لا يَبرَح الدهر بَيتَها * فإنْ ذبحت صلّى عليها وزمزما

أي دعا لها، وقال أيضاً:

وقابلها الريح في دنّها * وصلّى على دنّها وارتسم

أي دعا لها أنْ لا تحمض ولا تفسدَ. والصلاة من الله تعالى: الرحمة، قال عدِي بن الرقاع:

صلّى الإله على امرئ ودّعتُه * وأتمّ نعمته عليه وزادها

وقال:

صلّى على عزّة الرحمان وابنتها * ليلى، وصلّى على جاراتها الأُخر(١)

وأصل الاشتقاق في الصلاة من اللزوم من قوله:( تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً ) ، والمصدر(الصلا) ، ومنه اصطلى بالنار إذا لزمها، والمصلِّي الذي يجيء في أثر السابق للزوم أثره، ويُقال للعظم الذي في العجز صلاً، وهما صلوان.

أمّا في اصطلاح الشريعة الإسلاميّة، فهي عبارة عن العبادة الخاصّة التي شرعها الإسلام والمشتملة على الركوع والسجود على وجهٍ مخصوص وأركانٍ وأذكارٍ مخصوصة.

وقيل إنّها سُمّيت صلاة لأنّ المصلّي متعرّض لاستنجاح طلبته، من ثوابِ الله ونِعَمه مع ما يسأل ربّه فيها مِن حاجاته(٢) .

٢ - قوله: إنّ نظام الصلاة عند المسلمين يُشابه بدرجةٍ كبيرة صلاة اليهود والمسيحيّين... وإنّ الصلاة الوسطى ظهرت فجأة في سورة البقرة المدنية، وإنّها أُضيفت إلى الصلاتين المعتادتين فأصبحت ثلاثة، ثمّ يفرّع عليها رجحان أنّ ذلك

____________________

(١) لسان العرب: ماّدة (صلاة).

(٢) الطوسي، البيان ١: ٥٦ - ٥٧.

٢٩٨

قد تمَّ محاكاةً لصلاة اليهود(ثقلاه) (١) التي تقام ثلاث مرّات كلّ يوم.

يرد عليها أنّ التشابه يكون مرّة بعدد الصلوات، وأُخرى بشكليّة الصلاة مِن قيامٍ وركوعٍ وسجودٍ وأمثالها، وثالثة بمضامين الصلاة من قراءات وأذكار، أمّا الجانب الأوّل فإنّ الصلاة التي شرّعها الإسلام، هي خمس صلوات وليس ثلاث صلوات، كما لدى اليهود حسب قول(فنسنك) نفسه، وليست سبعاً كما لدى المسيحيّين وهي: (صلاة البكور وصلاة الساعة الثالثة، والسادسة والتاسعة، والحادية عشرة والثانية عشرة ثمّ صلاة منتصف الليل)(٢) .

والصلوات الإسلاميّة الخمسة هذه محدّدة أوقاتها بموجب آيتين قرآنيّتين نزلتا على الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في مكّة المكّرمة وليس في المدينة المنوّرة، وهما في سورة الإسراء في قوله تعالى:

( أَقِمِ الصّلاَةَ لِدُلُوكِ الشّمْسِ إِلَى‏ غَسَقِ اللّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً ) (٣) ، وفي سورة هود في قوله تعالى:( وَأَقِمِ الصّلاَةَ طَرَفَيِ النّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللّيْلِ... ) (٤) .

وفي بيان دلالة هاتين الآيتين، روي عن زرارة مسنداً قال: (سألت أبا جعفر (عليه السلام) عمّا فرض الله عزّ وجل من الصلاة، فقال:(خمسَ صلواتٍ في الليلِ والنهار)، فقلت: هل سمّاهنّ الله وبيّنهن في كتابه؟ قال:(نعم، قال الله تعالى لنبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ( أَقِمِ الصّلاَةَ لِدُلُوكِ الشّمْسِ إِلَى‏ غَسَقِ اللّيْلِ ) ودلوكها زوالها، وفيما بين دلوك الشمس إلى غسق الليل أربع صلوات، سمّاهنّ الله وبيّنهنّ ووقّتهنّ، وغسق الليل هو انتصافه، ثم قال تبارك وتعالى: ( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنّ قُرْآنَ الْفَجْرِ

٢٩٩

كَانَ مَشْهُوداً ) ، فهذه الخامسة، وقال تبارك وتعالى في ذلك:( أَقِمِ الصّلاَةَ طَرَفَيِ النّهَارِ ) وطَرَفاه: المغرب والغداة( وَزُلَفاً مِنَ اللّيْلِ ) وهي صلاة العشاء الآخرة...)(١) .

وفي تفسير الآية الأولى قال ابن عبّاس والحسن ومجاهد وقتادة: (دلوكها زوالها، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام)... وقال الجبائي: غسَق الليل ظُلمته، وهو وقت العشاء... وقال الحسن:(لدلوك الشمس) لزوالها: صلاة الظهر، وصلاة العصر إلى(غسق الليل) صلاة المغرب والعشاء الآخرة، كأنّه يقول من ذلك الوقت إلى هذا الوقت على ما يُبيّن لك مِن حال الصلوات الأربع، ثمّ صلاة الفجر، فأُفرِدت بالذكر)(٢) .

أمّا الصلاة الوسطى الواردة في سورة البقرة:( حافِظُوا عَلَى الصّلَوَاتِ وَالصّلاَةِ الْوُسْطَى ‏ ) (٣) فقد جاء في معنى الآية: الحثّ على مراعاة الصلوات، ومواقيتهنّ، وألاّ يقع فيها تضييع وتفريط(٤) .

وجاء في روايات متعدّدة أنّ الصلاة الوسطى هي صلاة الظهر، منها ما رُوي مسنداً عن أبي جعفر (عليه السلام) (في حديث) قال:(وقال تعالى: ( حافِظُوا عَلَى الصّلَوَاتِ وَالصّلاَةِ الْوُسْطَى ‏ ) وهي صلاة الظهر) (٥) .

وعليه فلا يضُرّ أنْ تكون هذه الآية مدنيّة؛ لأنّها لم تكن بصدد أصل تشريع الصلوات الخمس، بل جاءت للحثّ على مراعاة الصلوات ومواقيتهن، وخصوصاً الصلاة الوسطى منهنّ والتي سبَق تشريعها في الآيات المكيّة السالفة الذكر، وبهذا

____________________

(١) وسائل الشيعة ٣: ٥، ح١.

(٢) الطوسي، التبيان ٦: ٥٠٩ - ٥١٠.

(٣) البقرة: ٢٣٨.

(٤) الطوسي، التبيان ٢: ٢٧٥.

(٥) وسائل الشيعة ٣: ١٤، ح١.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376