كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين15%

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 376

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين
  • البداية
  • السابق
  • 376 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 127208 / تحميل: 8233
الحجم الحجم الحجم
كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

عن مظاهر معاوية الزائفة، ليبرز حينئذٍ هو وسائر أبطال (الأمويّة) كما هُم جاهليّين، لم تخفق صدورهم بروح الإسلام لحظة، ثأريّين لم تُنسِهم مواهب الإسلام ومراحمه شيئاً من أحقادِ بدرٍ وأُحد والأحزاب.

وبالجملة فإنّ هذه الخطّة ثورةٌ عاصفة في سلمٍ لم يكن منه بُد، أملاه ظرفُ الحسن، إذ التبس فيه الحقّ بالباطل، وتسنّى للطغيان فيه سيطرةٌ مسلّحةٌ ضارية.

وما كان الحسن ببادئ هذه الخطّة ولا بخاتمها، بل أخذها فيما أخذه من إرثه، وتركها مع ما تركه من ميراثه، فهو كغيره من أئمّة هذا البيت، يسترشد الرسالة في إقدامه وفي إحجامه، امتُحن بهذهِ الخطّة فرضَخ لها صابراً محتسباً وخرجَ منها ظافراً طاهراً، لم تُنجّسه الجاهليّة بأنجاسها، ولم تُلبسه من مُدلهمّات ثيابها.

أخذ هذه الخطّة من صلح (الحديبيّة) فيما أثَر من سياسة جدّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وله فيه أسوةٌ حسنة، إذ أنكر عليه بعضُ الخاصّة مِن أصحابه كما أنكر على الحسن صُلح (ساباط) بعض الخاصّة من أوليائه، فلم يهن بذلك عزمه، ولا ضاق به ذرعه.

تهيّأ للحسن بهذا الصلح أنْ يَغرس في طريق معاوية كميناً من نفسه، يثور عليه من حيث لا يشعر فيُرديه، وتسنّى له به أْن يلغم نصر الأمويّة ببارود الأمويّة نفسها، فيجعل نصرها جفاء، وريحا هباء.

لم يطل الوقت حتّى انفجرت أُولى القنابل المغروسة في شروط الصلح، انفجرت من نفس معاوية يوم نشوته بنصره، إذ انضم جيش العراق إلى لوائه في النخيلة، فقال - وقد قام خطيباً فيهم -:( يا أهل العراق، إنّي والله لم أُقاتلكم لتصلّوا ولا لتصوموا، ولا لتزكّوا، ولا لتحجّوا، وإنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وانتم كارهون.

ألا وأنّ كلّ شيء أعطيته للحسن بن عليّ جعلته تحتَ قدمَيَّ هاتين!) .

فلمّا تمّت له البيعة خطب فذكر عليّاً فنال منه، ونال من الحسن، فقام الحسين

١٦١

ليردّ عليه، فقال له الحسن:(على رسلك يا أخي) .

ثمّ قال (عليه السلام) فقال:(أيها الذاكر عليّاً! أنا الحسنُ وأبي عليّ، وأنتَ معاوية وأبوك صخر، وأُمّي فاطمة وأُمّك هند، وجدّي رسولُ الله وجدّك عتبة، وجدّتي خديجة وجدّتك فتيلة، فلعنَ الله أخملنا ذكراً وألأَمَنا حسباً، وشرّنا قديماً، وأقدمنا كفراً ونفاقاً!).

فقالت طوائف من أهل المسجد: (آمين).

ثمً تتابعت سياسة معاوية، تتفجّر بكلّ ما يُخالف الكتاب والسنة مِن كلّ منكرٍ في الإسلام، قتلاً للأبرار، وهتكاً للأعراض، وسلباً للأموال، وسجناً للأحرار، وتشريداً للمصلحين، وتأييداً للمفسدين الذين جعلهم وزراء دولته، كابن العاص، وابن شعبة، وابن سعيد، وابن ارطاة، وابن جندب، وابن السمط، وابن الحكَم، وابن مرجانة، وابن عقبة، وابن سميّة الذي نفاه عن أبيه الشرعي عبيد، وألحقه بالمسافح أبيه أبي سفيان ليجعله بذلك أخاه، يسلّطه على الشيعة في العراق، يسومهم سوء العذاب، يذبّح أبناءهم، ويستَحيي نساءهم، ويفرّقهم عباديد، تحت كلّ كوكب، ويحرق بيوتهم، ويصطفي أموالهم، لا يألو جهداً في ظلمهم بكلّ طريق.

ختم معاوية منكراته هذه بحمل خليعه المهتوك على رقاب المسلمين، يعيث في دينهم ودنياهم، فكان من خليعه ما كان يوم الطف، ويوم الحرّة، ويوم مكّة إذ نصب عليها العرادات والمجانيق!.

هذه خاتمة أعمال معاوية، وإنّها لتلائم كلّ الملاءمة فاتحة أعماله القاتمة.

ومهما يكن من أمر، فالمهم أنّ الحوادث جاءت تفسيرَ خطّة الحسن وتجلوها، وكان أهمّ ما يرمي إليه سلام الله عليه، أنْ يرفع اللثام عن هؤلاء الطغاة، ليحوّل بينهم وبين ما يبيتون لرسالة جدّه من الكيد.

وقد تمّ له كلّ ما أراد، حتّى برح الخفاء، وآذن أمر الأمويّة بالجلاء.

١٦٢

وبهذا استتب لصنوه سيّد الشهداء أنْ يثور ثورته التي أوضح الله بها الكتاب، وجعله فيها عبرة لأولي الألباب.

وقد كانا (عليهما السلام) وجهين لرسالة واحدة، كلّ وجه منهما في موضعه منها، وفي زمانه من مراحلها، يكافئ الآخر في النهوض بأعبائها ويوازنه بالتضحية في سبيلها.

فالحسن لم يبخل بنفسه، ولم يكن الحسين أسخى منه بها في سبيل الله، وإنّما صان نفسه، ويجنّدها في جهادٍ صامت، فلمّا حان الوقت كانت شهادة كربلاء شهادة حسنيّة، قبل أنْ تكون حسينيّة.

وكانا (عليهما السلام) كأنّهما متّفقان على تصميم الخطّة: أنْ يكون للحسن منها دورَ الصابر الحكيم، وللحسين دور الثائر الكريم، لتتألّف من الدورين خطّة كاملة ذاتَ غرضٍ واحد.

وقد وقف الناس - بعد حادثتَي ساباط والطف - يمعنون في الأحداث فيَرَون في هؤلاء الأمويّين عصبةً جاهليّةً منكرة، بحيث لو مثّلت العصبيّات الجلفة النذلة الظلُوم لم تكن غيرهم، بل تكون دونهم في الخطر على الإسلام وأهله.

نعم أدرك الرأي العام بفضل الحسن والحسين وحكمة تدبيرهما، كلّ خافيةٍ من أمر (الأمويّة) وأُمور مسدّدي سهمها على نحوٍ واضح.

أدرك - فيما يتّصل بالأمويّين - أنّ العلاقة بينهم وبين الإسلام إنّما هي علاقة عِداءٍ مُستحكَم، ضرورة أنّه إذا كان المُلك هو ما تَهدِف إليه الأمويّة، فقد بلغه معاوية، وأتاحه له الحسن، فما بالها تلاحقه بالسمّ وأنواع الظلم والهضم، وتتقصّى الأحرار الأبرار من أوليائه لتستأصل شأفتهم وتقتلع بذرتهم؟!..

وإذا كان المُلك وحده هو ما تهدف إليه الأمويّة، فقد أُزيح الحسين من الطريق، وتمّ ليزيد ما يُريد، فما بالها لا تكفّ ولا ترعوي، وإنّما تُسرف أقسى ما

١٦٣

يكون الإسراف والإجحاف في حركةٍ من حركات الإفناء على نمطٍ من الاستهتار، لا يُعهد في تاريخ الجزّارين والبرابرة!!..)(١) .

ثانياً: ردّ سيرة الرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومعطياتها إلى أُصول نصرانيّة أو يهوديّة: فقد كتب المُستشرق(درمنغهام) في ذلك قائلاً: (إنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في إحدى الرحلات إلى الشام، التقى بالراهب بُحيرى في جوار مدينة بُصرى، وإنّ الراهب رأى فيه علامات النبوّة على ما تدلّه عليه أنباء الكُتب الدينيّة. وفي الشام عرفَ محمّد أخبار الروم ونصرانيّتهم وكتابهم، ومناوأة الفرس من عبّاد النار لهم وانتظار الوقيعة بهم).

ويستطرد درمنغهام في محاولته لإثبات تأثير النصرانيّة على سيرة الرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيقول: (... لم تكن المضاربات الجدليّة لتصرفه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن التأثر بغير الحوادث ودروسها، وحوادثٌ أليمةٌ - كَوفاة أبنائه - جديرةٌ بأنْ تستوقف تفكيرهُ، وأنْ تصرفه كلّ واحدةٍ منها إلى ما كانت خديجة تتقرّب به إلى أصنام الكعبة، وتنحر لهُبَل واللات والعزّى ومناة الثالثة الأُخرى، تريد أنْ تفتدي نفسها من ألم الثكل، فلا يفيد القربان ولا تجدي النحور...

لا ريب إنْ كانت عبادة الأصنام قد بدأت تتزعزع في النفوس، تحت ضغط النصرانيّة الآتية من الشام مُنحدرةً إليها من الروم، ومن اليمن، متخطّية إليها من خليج العرب (البحر الاحمر من بلاد الحبشة). ويستمرّ درمنغهام في نظريّته لتنصير سيرة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في قومه فيقول: (... فلمّا كانت سنة ٦١٠م أو نحوها كانت الحالة النفسيّة التي يُعانيها محمّد على أشدّها، فقد أبهظت عاتقهُ العقيدة بأنّ أمراً جوهريّاً ينقصهُ وينقص قومه، وأنّ الناس نَسوا هذا الأمر الجوهري، وتشبّث كلٌ بصنم قومهِ وقبيلته، وخشيَ الناس الجنّ

____________________

(١) لمزيد من التفصيل في أسرار صلح الإمام الحسن (عليه السلام) راجع: آل ياسين، الإمام الشيخ راضي - صلح الحسن (عليه السلام).

١٦٤

والأشباح والبوارح، وأهملوا الحقيقة العليا، ولعلّهم لم ينكروها، ولكنّهم نسوها نسياناً هو موت الروح... ولقد عرف أنّ المسيحيّين في الشام ومكّة لهم دين أُوحيَ به (!) وأنّ أقواماً غيرهم نزلت عليهم كلمة الله، وأنّهم عرفوا الحقّ ووَعَوه أنْ جاءهم علم من أنبيّاء أُوحي إليهم به، وكلّما ضلّ الناس بعثت السماء إليهم نبيّاً يهديهم إلى الصراط المستقيم، ويذكرهم بالحقيقة الخالدة.

وهذا الدين الذي جاء بهِ الأنبياء في كلّ الأزمان دين واحد، فكلّما أفسده الناس جاءهم رسول من السماء يقوّم عوجهم، وقد كان الشعب العربي يومئذٍ في أشدّ تيهاء الضلال، أما آن لرحمة الله أنْ تظهر فيهم مرّة أُخرى وأنْ تهديهم إلى الحق؟)(١) .

ويتحدّث عن هذا التزوير للحقائق التاريخيّة الأُستاذ جواد عليّ قائلاً:( إنّ معظم المستشرقين النصارى هُم مِن طبقة رجال الدين، أو ممّن تخرّج من كليّات اللاهوت، وهُم عندما يتطرّقون إلى الموضوعات الحسّاسة من الإسلام يُحاولون جهد إمكانهم ردّها إلى أصل نصراني. وطائفة المستشرقين من اليهود يُجهدون أنفسهم لردّ كل ما هو إسلامي وعربي لأصلٍ يهودي، وكلتا الطائفتين في هذا الباب تبع لسلطان العواطف والأهواء)(٢) .

وفي كتابٍ آخر عمل مستشرق وهو قسّيس انجليكاني على عقد عدّة مقارنات ليظهر إن الإسلام كان حقّاً صورة غير محكمة أو مشوهة للنصرانيّة(٣) .

ثالثاً: اعتماد منهج كيفي مناقض للمنهج العلمي في تناول السيرة الشريفة للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته (عليهم السلام): وإلى ذلك أشار الدكتور جواد عليّ من أنْ (كيناني)

____________________

(١) درمنغهام، أميل - (حياة محمّد) عن رشيد رضا، محمّد (الوحي المحمّدي) ص١٠٠ - ص١٠٨.

(٢) علي، جواد - (تاريخ العرب في الإسلام) - الجزء الأوّل (السيرة النبويّة) ص٩ - ١١.

(٣) د. خليل، عماد الدين - (المستشرقون والسيرة النبويّة) - مجلّة منار الإسلام العدد ٧.

١٦٥

وهو من كِبار المستشرقين الأوائل الذين كتبوا عن حياة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، كان يعتمد منهجاً معكوساً في البحث يذكّرنا بكثير من المختصّين الجُدد في حقل التاريخ الإسلامي، والذين يعملون وفْق منهج خاطئ من أساسه، إذ أنّهم يتبنّون فكرة مُسبقة ثمّ يجيئون إلى وقائع التاريخ لكي يستلّوا منها ما يؤيّد فكرتهم ويستبعدوا ما دون ذلك، فلقد كان (كيناني) ذا رأيٍ وفكرة، وضع رأيه وكونه في السيرة قبل الشروع في تدوينها.

فلمّا شرع فيها استعان بكلّ خبر من الأخبار ظفر به، ضعيفها وقويّها، وتمسّك بها كلّها ولا سيما ما يُلائم رأيه. لم يُبال بالخبر الضعيف، بل قوّاه وسنده وعدّه حجّة وبنى حكمه عليه، ومَن يدري فلعلّه كان يعلم بسلاسل الكذِب المشهورة والمعروفة عند العلماء، ولكنّه عفا عنها وغضَّ نظره عن أقوال أولئك العلماء فيها؛ لأنّه صاحب فكرة يريد إثباتها بأيّة طريقةٍ كانت، وكيف يتمكّن من إثباتها وإظهارها وتدوينها، إذا ترك تلك الروايات وعالجها معالجةَ نقدٍ وجرحٍ وتعديل على أساليب البحث الحديث؟)(١) .

وأشار أيضاً(ايتين القيم) إلى بعض الآراء حول هذا المنهج قائلاً: (لقد أصاب الدكتور سنوك هرمزونية بقوله:

(إنّ سيرة محمّد الحديثة تدلّ على أنّ البحوث التاريخيّة مقضيٌّ عليها بالعقم، إذا سُخّرت لأيّه نظريّةٍ أو رأيٍ سابق). هذه حقيقة يَجمل بمستشرقيّ العصر جميعاً أنْ يضعوها نصب أعينِهم، فإنّها تشفيهم من داء الأحكام السابقة، التي تكلّفهم من الجهود ما يُجاوز حدّ الطاقة فيصلون إلى نتائج لا شكّ خاطئة، فقد يحتاجون في تأييد رأيٍ من الآراء إلى هدم بعض الأخبار وليس هذا بالأمر الهيّن، ثمّ إلى بناء أخبار تقوم مقام ما هدموا، وهذا أمرٌ لا ريب مستحيل.

إنّ العالم في القرن العشرين يحتاج إلى معرفة كثير من العوامل

____________________

(١) علي، جواد - (تاريخ العرب في الإسلام) - الجزء الأوّل (السيرة النبويّة) ص٩٥.

١٦٦

الجوهريّة، كالزمن والبيئة والإقليم والعادات والحاجات والمطامع والميول إلى آخره، لا سيّما إدراك تلك القُوى الباطنة، التي لا تقع تحت مقاييس المعقول والتي يعمل بتأثيرها الأفراد والجماعات)(١) .

وهناك المئات من مفردات المنهج الكيفي والتفسير على ضوء المسبقات والخلفيّات الخاصّة للنصوص التاريخيّة، في العديد من مؤلّفات وكتابات المستشرقين خصوصاً الأوائل منهم، فمثلاً (بروكلمان)(٢) ، لا يشير إلى دور اليهود في تأليب الأحزاب على المدينة ولا إلى نقض بني قريظة عهدها مع الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، في أشدّ ساعات محنته، لكنّه يقول: (ثمّ هاجم المسلمون بني قريظة الذين كان سلوكهم غامضاً على كلّ حال)(٣) ... أمّا (إسرائيل ولفنسون) فيتغاضى عن حادثة نعيم بن مسعود في معركة الخندق، كسببٍ في انعدام الثقة بين المشركين واليهود.

رابعاً: تصوير مواقف الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من اليهود وقبائل العرب الجاهليّة، على أنّها ظلمٌ وتعسّف. ومن أمثلة ذلك ما أشار إليه المستشرق (اسرائيل ولفنسون) بصدد مهاجمة يهود بني النضير، حيث إنّه لا يقرّ بما قاله مؤرّخو الإسلام، من أنّ سبب إعلان الحرب على يهود بني النضير هو محاولتهم اغتيال الرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فيقول: (... لكنّ المستشرقين ينكرون صحّة هذه الرواية ويستدلّون على كذِبها بعدم وجود ذكر لها في سورة الحشر التي نزلت بعد إجلاء بني النضير. والذي يظهر

____________________

(١) القيم، ايتين - (الشرق كما يراه الغرب) - المقدّمة ص٤٣ - ٤٤.

(٢) بروكلمان، كارل ( pockelmann ١٨٦٨ - ١٩٥٦م): مستشرق ألماني يُعتبر أحد أبرز المستشرقين في العصر الحديث. أشهر آثاره: (تاريخ الأدب العربي) في خمسة مجلّدات (١٨٩٨ - ١٩٤٢م)، و(تاريخ الشعوب والدول الإسلاميّة)(عام ١٩٣٩م)، وقد نقلهُ إلى العربيّة نبيّه أمين فارس ومنير البعلبكّي / عن البعلبكّي، منير - موسوعة المورد - المجلّد الثاني ص١٢٠.

(٣) بروكلمان، كارل - (تاريخ الشعوب الإسلامية) ص٥٣ - ٥٤.

١٦٧

لكلّ ذي عينين أنّ بني النضير لم يكونوا ينوون الغدر بالنبيّ واغتياله على مثل هذه الصورة؛ لأنّهم كانوا يخشون عاقبة فعلهم من أنصاره، ولو أنّهم كانوا ينوون اغتياله غدراً لما كانت هناك ضرورة لإلقاء الصخرة عليه من فوق الحائط، كان في استطاعتهم أنْ يفاجئوه وهو يُحادثهم إذ لم يكن معه غير قليلٍ من أصحابه)(١) .

أمّا المستشرق(فلهاوزن) فيقول:( لم يبقَ الإسلام على تسامحه بعد بدر، بل شرَع في الأخذ بسياسة الإرهاب في داخل المدينة، وكانت إثارة مشكلة المنافقين علامة على ذلك التحوّل... أمّا اليهود فقد حاول أنْ يُظهرهم بمظهر المعتدين الناكثين للعهد، وفي غضون سنوات قليلة أخرج كلّ الجماعات اليهوديّة أو قضى عليها في الواحات المحيطة بالمدينة، حيث كانوا يكوّنون جماعات متماسكة كالقبائل العربيّة، وقد التمس لذلك أسباباً واهية...) (٢) .

ويتعاطف المستشرق(مرجليوث) مع اليهود، ويرى أنّ اقتحام خيبر محضَ ظلمٍ نزل باليهود لا مبرّر له على الإطلاق(٣) .. ويُؤاخذ المستشرق(نولدكه) القبائل العربيّة، على عدم تحالفهم الدقيق في مواجهة الرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ويتمنّى (لو أنّ القبائل العربيّة استطاعت أنْ تعقد بينها محالفات عربيّة دقيقة ضدّ محمّد؛ للدفاع عن طقوسهم وشعائرهم الدينيّة، والذود عن استقلالهم، إذن لأصبح جهادَ محمّد جندهَم غير مجدٍ، إلاّ أنّ عجم العربي عن أنْ يجمع شتات القبائل المتفرّقة قد سمح له أنْ يخضعهم لدينه، القبيلة تلو الأُخرى، وأنْ ينتصر عليهم بكلّ وسيلة، فتارةً بالقوّة وتارةً بالمحالفات الوديّة والوسائل السلميّة)(٤) .

____________________

(١) ولفنسون، إسرائيل - (تاريخ اليهود في بلاد العرب) - ص١٣٠ - ١٣٧.

(٢) فلهاوزن، يوليوس - (الدولة العربيّة وسقوطها) - ص١٥ - ١٦.

(٣) الدكتور خليل، عماد الدين - (المستشرقون والسيرة النبويّة) مجلّة منار الإسلام - العدد ٧.

(٤) نولدكه، ثيودور - (تاريخ العالم للمؤرّخين) الجزء ٨ - ص١١.

١٦٨

خامساً: تصوير سيرة النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على أنّها نتاج بيئته: يقول المستشرق(جب):

( إنّ محمّداً ككلّ شخصيّة مُبدعة، قد تأثّرت بضرورات الظروف الخارجيّة عنه المحيطة به، من جهة أُخرى قد شقّ طريقاً جديداً بين الأفكار والعقائد السائدة في زمانه، والدائرة في المكان الذي نشأ فيه... وقليل ما هو معروف - على سبيل التأكيد - عن حياته وظروفه المبكّرة... ولكن الشيء الذي يصحّ أنْ يُبحث ماضيه الاجتماعي....

لقد كان أحد سكان (مدينة) غير رئيسيّة، وليس هناك ما يصحّ أنْ يصوّره بأكثر من أنّه (بدوي)، شارك في الفكرة والنظرة في الحياة التي كانت للبدو الرُحّل من الناس، و(مكّة) في ذات الوقت لم تكن خلاءً بعيداً عن صخب العالم، وعن حركته في التعامل، بل كانت مدينة ذات ثروة اقتصاديّة، ولها حركة دائبة كمركز للتوزيع التجاري بين المحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسّط.

و(سكّانها) مع احتفاظهم بطابع البساطة العربيّة الأوليّة في سلوكهم ومنشآتهم، اكتسبوا معارفَ واسعةً بالإنسان والمدن، عن طريق تبادلهم الاقتصادي والسياسي مع العرب الرحل، ومع الرسميّين من رجال الإمبراطوريّة الرومانيّة، وهذه التجارب قد كوّنت في زعماء مكّة ملَكات عقليّة، وضروباً من الفطنة وضبط النفس لم تكن موجودةً عند كثير من العرب.

ثمّ إنّ (السيادة الروحيّة) التي اكتسبها المكّيون من قديم الزمان على العرب الرحّل، زادت قوّةً ونموّاً بفضل الإشراف على عدد من (المقدّسات الدينيّة) التي وجِدت داخل مكّة وبالقرب منها، وانطباع هذا الماضي الممتاز لـ (مكّة)، يمكن أنْ نقف على أثره واضحاً في كلّ ادوار حياة محمّد...

وبتعبيرٍ إنساني: إنّ محمّداً نجح لأنّه كان واحداً من المكّيّين!... ولكن بجانب هذا الازدهار في(مكة)، كانت هناك ناحية أُخرى مظلمة خلّفتها تلك الشرور المعروفة لجماعة اقتصاديّة ثريّة، فيها فجوات واسعة من الغنى والفقر! هذه الناحية، هي ناحية الإجرام الإنساني الذي تمثّل في الأرقّاء

١٦٩

والخدَم وفي الحواجز الاجتماعيّة... وواضح من دعوة محمّد الصارخة إلى مكافحة الظلم الاجتماعي، أنّ هذه الناحية كانت سبباً من الأسباب العميقة لثورته الداخليّة (النفسيّة)) !(١)

ويستطرد (جب) في محاولته لإثبات أنّ الاتّجاه الديني للرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وسعْيه لإنشاء حكومة دينيّة وجماعة دينيّة، إنّما كان بتأثير الطابع القدسي الديني لمكّة وزعامتها الدينيّة لباقبي المدن العربيّة الأُخرى، وارتباط وضعها الاقتصادي بهذه الزعامة الدينيّة، الذي أدّى إلى وقوع الصراع بينهم وبين الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من أجل ذلك، فيقول (جب): (ولكن نواة هذه الثورة النفسيّة لم تظهر في صورة (إصلاح اجتماعي)، بل بدلاً من ذلك دفعته إلى (اتجاه ديني) أعلنه في اعتقادٍ ثابت لا يتأرجح: بأنّه رسولٌ من الله، لينذر أتباعه بإنذار الرسُل الساميّين القديم: توبوا، فجزاء الله حق!!. وكل ما وُجِد بعد ذلك كان نتيجةً منتظرة للتصادم بين هذا الاعتقاد (بأنّه رسول) وبين الكفر به، ومعارضته من فريقٍ بعد فريق....

وهناك حقيقة واحدة مؤكّدة (في تاريخه) وهي: أنّ الدافع له كان (دينيّاً) على الإطلاق، فمن بدء حياته كداعٍ كانت نظرته إلى الأشخاص والأحداث وحكمه عليها نظرة تأثر فيها، بما عنده من صورة عن الحكومة الدينيّة وأغراضها في عالم الإنسان!!.. ومحمّد في البداية، لم يكن نفسه على علمٍ بأنّه صاحب دعوةٍ إلى دين جديد! بل كانت معارضة المكّيّين له، وخصومتهم له من مرحلةٍ إلى أُخرى، هي التي قادته أخيراً وهو بالمدينة - بعد أنّ هاجر إليها - إلى إعلان الإسلام كجماعة دينيّة جديدة، بإيمانها الخاص، وبمنشآتها الخاصّة.

ويبدو أنّ معارضة المكّيّين له لم تكن محافظتهم وتمسّكهم بالقديم، أو

____________________

(١) جب، (المذهب المحمّدي) ص٤٧.

١٧٠

بسبب عدم رغبتهم في الإيمان، بل ترجع أكثر ما ترجع إلى أسباب سياسيّة واقتصاديّة، لقد تملّكهم الخوف من آثار دعوته، التي تؤثّر على ازدهارهم الاقتصادي وبالأخص تلك الآثار التي يجوز أنْ تلحق ضرراً بالقيمة الاقتصاديّة لمقدّساتهم... وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ المكيّين قد تصوّروا - أسرع ممّا تصوّر محمّدٌ نفسه - أنّ قبولهم لتعاليمه ربّما يُمهّد لنوعٍ معقّد من السلطة السياسيّة داخل جماعتهم، التي كانت تحكمها فئة قليلة حتّى ذلك الوقت)(١) .

سادساًَ: يقول الدكتور(رشدي فكار): إنّ محاولة المستشرقين تحقيق مخطّطاتهم بالنفاذ من باب السيرة النبويّة، والتعامل معها كتراث بشري دنيوي، لا كمعتبِر لوحي السماء. وقد قام المستشرق (جولد صيهر) بدور رئيس في التشكيك بصدق السنة النبويّة، حيث ادّعى هو وغيره أنّها جُمِعت بعد وفاة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بوقتٍ طويل، وهذا يفقدها الكثير من مصداقيّتها، بل راح إلى أبعد من ذلك، فادّعى أنّ الحديث النبوي هو نتيجة لتطوّر المسلمين.

أمّا المستشرق(الفريد غيوم) في كتابه (الحديث في الإسلام) والمستشرق(تريثون) في كتابه (الإسلام عقيدة وعمل)، فقد حاول كل منهما الطعن في طرق جمع السنة المطهرة، زاعمين أنّ السنة النبويّة الصحيحة لم يُكتب لها البقاء؛ لأنّها لم تدوّن، بل كانت تُتناقل شفاهةً بين الأفراد لمدّة قرنين من الزمان(٢) .

ويشير المستشرق(درمنغهام) إلى هذه الادّعاءات، ويذكر لنا نمطاً آخر منها فيقول: (من المؤسف حقّاً أنْ غالى بعض هؤلاء المتخصّصين - من أمثال (موبر) و(مرجليوث) و(نولدكه) و(سبرنجر) و(دوزي) و(كيتاني) و(مارسين) و(غريم) و(جولد صيهر) و(غود فروا) وغيرهم - في النقد أحيانا، فلم تزل كتبهم عاملَ هدمٍ على الخصوص، ومن المُحزن

____________________

(١) جب، (المذهب المحمّدي) - ص٢٧ - ٢٩.

(٢) الجندي، أنور - (أبرز أهداف المستشرقين) - مجلّة منار الإسلام - العدد ٨ السنة ١٤.

١٧١

ألاّ تزال النتائج التي انتهى إليها المستشرقون سلبيّةً ناقصة...

ومن دواعي الأسف أنْ كان الأب(لامانس)، الذي هو من أشهر المستشرقين المعاصرين من أشدّهم تعصّباً، وأنّه شوّه كتبه الرائعة الدقيقة وأفسدها بكرهه للإسلام ونبيّ الإسلام، فعند هذا العالِم اليسوعي أنّ الحديث إذا وافق القرآن كان منقولاً عن القرآن، فلا أدري كيف يُمكن تأليف التاريخ، إذا اقتضى تطابق الدليلين تهادمهما بحكم الضرورة، بدلاً من أنْ يؤيّد أحدهما الأخر؟)(١) .

والأكثر غرابة هو موقف بعض المستشرقين من القرآن كمصدر أساسي من مصادر السيرة النبويّة، فهم ينفون الكثير من وقائع السيرة إذا لم تكن واردة في القرآن الكريم، وهم بعبارةٍ أُخرى، يريدون أنْ يُوهموا بهذه الحجّة أنّ عمليّة انتقائهم المغرضة لبعض وقائع السيرة، وترك البعض الأخر - بهدف هدم هذه السيرة ونفيها - لم يكن جزافاً، بل كان على أساس الاتّكاء على المصدر الفيصل لدى المسلمين، في بيان حقائق دينهم ونبيّهم.

ومن الأمثلة على ذلك ما يدّعيه المستشرق(شبنغلر) (٢) من أنّ اسم النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ورد في أربع سوِر من القرآن هي آل عمران والأحزاب ومحمّد والفتح، وكلّها سوِر مدنيّة، ومِن ثمّ فإنّ لفظة(محمّد) لم تكن اسم علَم للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قبل الهجرة، وإنّما اتّخذه بتأثير قراءته للإنجيل واتّصاله بالنصارى(٣) ، ومن الأمثلة أيضاً ما أشار إليه المستشرق(إسرائيل

____________________

(١) درمنغهام، إميل - (حياة محمّد) - المقدّمة ص٨، ١٠ - ١١.

(٢) شبنغلر، (أوزوولد Spengler Oswald ١٨٨٠ - ١٩٣٦م): فيلسوف ألماني قال بأنّ الحضارات تولد وتنضج ثمّ تموت كالكائنات الحيّة سَواء بسواء، وأنّ الحضارة الغربيّة المعاصرة هي في طريقها إلى الموت، وبأنّ حضارة أُخرى جديدة من آسيا سوف تحلّ محلّها، أهمّ آثاره: (انحطاط الغرب) وهو يقع في مجلّدين.

عن البعلبكّي، منير - موسوعة المورد م٩ ص١٠١.

(٣) علي، جواد. (تاريخ العرب في الإسلام) الجزء الأول ص٧٨ وهوامشها، ويمكننا أنْ ننقض على (شبنغلر) هذا فنسأله: إذا كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد التقط اسم محمّد من خلال قراءته لنبوءات الإنجيل، = فأين إذن (محمّد) الحقيقي الذي بُشر به في كتب النصارى؟

١٧٢

ولفنسون) - الذي مرّ ذكره - بصدد مهاجمة يهود بني النضير، من أنّ مؤرّخي المسلمين يذكرون سبباً آخر لإعلان الحرب على هذه الطائفة اليهوديّة، ذلك هو محاولتهم اغتيال الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

ويدّعي(ولفنسون) أنّ المستشرقين يقولون بغير ذلك فيقول: (لكنّ المستشرقين ينكرون صحّة هذه الرواية ويستدلّون على كذبها بعدم وجودِ ذكرٍ لها في سورة الحشر، التي نزلت بعد إجلاء بني النضير)(١) .

ويُعتبر ما ذكره(مونتغمري وات) - بصدد تثبيت الشبهات وتكريس الشكوك حول معطيات السيرة النبويّة، ومصداقيّتها القدسيّة، على أساس الدليل والحجّة القاطعة - قناعاً يقنع به ذلك المنهج الاعتباطي المُغرض؛ لأنّه هو نفسه لم يلتزم بما قاله، وكشف من خلال كتاباته زيف ادّعائه وحقيقة منهجه الكيفي، ممّا يجعلنا نتحفّظ من قوله: (إذا أردنا أنْ نصحّح الأغلاط المكتسبة من الماضي بصدد (محمّد)، فيجب علينا في كلّ حالة من الحالات لا يقوم الدليل القاطع على ضدّها أنْ نتمسّك بصلابة بصدقه، ويجب أنْ لا ننسى أيضاً أنّ الدليل القاطع يتطلّب لقبوله أكثر من كونه ممكناً، وأنّه في مثل هذا الموضوع يصعب الحصول عليه)(٢) .

سابعاً: الانطلاق من المنطق الوضعي العلماني، وطريقة التفكير الأوربيّة في تناول السيرة الشريفة للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته (عليهم السلام): حاول المستشرقون أنْ يخترقوا السيرة النبويّة، ويُخضعوا حياة نبيّ الإسلام (محمّد) (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته (عليهم السلام) لعلوم الغربيّين في التربية والسيكولوجيا(٣) .

إنّ المنطق الوضعي العلماني والرؤية الأوربيّة في منهج البحث التاريخي أدّى

____________________

(١) ولفنسون، إسرائيل - (تاريخ اليهود في بلاد العرب) - ص١٣٥ - ١٣٧.

(٢) وات، مونتغمري - (محمّد في مكّة) - ص٩٤.

(٣) الجندي، أنور - (أبرز أهداف المستشرقين) - مجلّة منار الإسلام العدد ٨ - السنة ١٤.

١٧٣

إلى أنْ تقع مجموعة من المستشرقين في تزوير وتحريف الحقائق التاريخيّة، منها قولهم: (إنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يكن يخطو خطوةً واحدة، وهو يعلم مسبقاً ما الذي يليها...)، أي إنّه كان يتحرّك وفق ما تمليه عليه الظروف الراهنة من متطلّبات ولوازم، دونما أيّ تخطيط شمولي وأُفقٍ عالمي، كما هو وارد في القرآن الكريم ومتواتر فيما نُقل من السيرة النبويّة.

ومن أبرز من تبنّى هذه المقولة هو المستشرق(فلهاوزن) ومجموعته الاستشراقيّة، إذ قالوا بإقليميّة دعوة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) للإسلام في عصرها المكّي، وإنّه لم ينتقل إلى المرحلة العالميّة - في العصر المدني - إلاّ بعد أنْ أتاحت له الظروف ذلك، ولم يكن ليفكّر بذلك من قبل.

وقد أشار المستشرق(سير توماس أرنولد) إلى هذه الرؤية الخاطئة لدى زملائهِ بقوله: (من الغريب أنْ ينكر بعض المؤرّخين أنّ الإسلام قد قُصد به مؤسّسه في بادئ الأمر، أنْ يكون ديناً عالميّاً برغم هذه الآيات البيّنات)(١) .

وقد سبقَت الإشارة إلى أنّ المستشرق الفرنسي(دينيه)، الذي أعلن إسلامه قال في هذا الصدد أيضاً: (إنّه من المتعذّر إنْ لم يكن من المستحيل، أنْ يتجرّد المُستشرقون عن عواطفهم وبيئتهم نزعاتهم المختلفة، وإنّهم لذلك قد بلغ تحريفهم لسيرة النبيّ والصحابة مَبلغاً يُخشى على صورتها الحقيقيّة من شدّة التحريف فيها، ورغم ما يزعمون من أتباعهم لأساليب النقد البريئة ولقوانين البحث العلمي الجاد، فإنّا نلمس من خلال كتاباتهم محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يتحدّث بلهجةٍ ألمانيّة إذا كان المؤلّف ألمانيّاً، وبلهجةٍ إيطاليّة إذا كان الكاتب إيطاليّاً.

وهكذا تتغيّر صورة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بتغيّر جنسيّة الكاتب، وإذا بحثنا في هذهِ السيرة عن الصورة الصحيحة فأنا لا نكاد نجد لها من أثر.

إنّ المستشرقين يقدّمون لنا صوراً خياليّة

____________________

(١) أرنولد، سير توماس - (الدعوة إلى الإسلام) - ص٤٨.

١٧٤

هي أبعد ما تكون عن الحقيقة، إنّها أبعد عن الحقيقة من أشخاص القصص التأريخيّة التي يؤلّفها أمثال (وولتر سكوت) و(الكسندر دوماس).

وذلك أنّ هؤلاء يصوّرون أشخاصا من أبناء قومهم، فليس عليهم إلاّ أنْ يحسبوا حساب اختلاف الأزمنة، أمّا المُستشرقون فلم يمكنهم أنْ يلبسوا الصورة الحقيقيّة لأشخاص السيرة فصوّروهم حسب منطقهم الغربي وخيالهم العصري...).

ولتقريب الفكرة يضرب(دينيه) مثلاً عكسيّاً: (ما رأي الأوربيّين في عالم مِن أقصى الصين يتناول المتناقضات، التي تكثر عن مؤرّخي الفرنسيّين ويمحصّها بمنطقه الشرقي البعيد، ثمّ يهدم قصّة(الكاردينال ريشيليو) (١) كما نعرفها ليعيد إلينا ريشيليو آخر له عقليّة كاهن من كهنة بكّين وسماته وطباعه؟

إنّ مستشرقي العصر الحاضر قد انتهوا إلى مثل هذه النتيجة، فيما يتعلّق برسمهم الحديث لسيرة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ويُخيّل الينا أنّنا نسمع محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يتحدّث في مؤلّفاتهم إمّا باللهجة الألمانيّة أو الانجليزيّة أو الفرنسيّة، ولا نتمثّلهُ قط بهذه العقليّة والطباع التي ألصقت به، يحدّثُ عُرباً باللغة العربيّة)، ويختم هذا المستشرق المسلم كلامه بالقول: (إنّ صورة نبيّنا الجليلة التي خلّفها المنقولٍ الإسلامي، تبدو أجمل وأسمى إذا قيست بهذه الصورة المصطنعة الضئيلة، التي صيغت في ظلال المكاتب بجهدٍ جهيد)(٢) ، وأخيرا فإنّ هذا النمط من أنماط النماذج المختارة في العقليّات

____________________

(١) (ريشيليو)، آرمان جان دوبليسي (١٥٨٥ - ١٦٤٢م) كاردينال وسياسي فرنسي، كبير وزراء لويس الثالث عشر والحاكم الفعلي لفرنسا (١٦٢٨ - ١٦٤٢م) قضى على نفوذ نبلاء الإقطاع ونفوذ البروتستانت السياسي. سعى إلى إذلال آل هابسبورغ في حرب الأعوام الثلاثين. أجرى إصلاحات ماليّة وعسكريّة وتشريعيّة، وشجّع التجارة، ورعى الفنون، وأنشأ الأكاديميّة الفرنسيّة. عن البعلبكّي، منير - (المورد) - الجزء الثامن - ص١٥٠.

(٢) دينيه، إيتين - (محمّد رسول الله) - ترجمة عبد الحليم محمود - المقدّمة ص٢٧ - ٢٨، ٤٣ - ٤٤.

١٧٥

الاستشراقيّة والمصبّات الموضوعيّة، التي وقع الجهد الاستشراقي عليها، يكشف لنا بوضوح مدى التعصّب والمنهجيّة المغرضة، والدوافع التبشيريّة والاستعماريّة في وقائع الحركة الاستشراقيّة وأعمال المستشرقين، فكانت النتائج التي تمخضّت والمعطيات التي أُفرِزت ذات ثلاثة أبعاد أساسيّة:

الأوّل: كان بمثابة مسح ميداني للشرق الإسلامي فكريّاً وحضاريّاً.

الثاني: التشويه الموضوعي للفكر الإسلامي والحضارة القائمة عليه، بهدف منع تأثّر المجتمع الأوربّي به، إضافةً إلى تكوين ارتكاز ذهني عن تخلّف المسلمين وجهلهم المركّب ليكون مبرّراً لاستعمارهم.

الثالث: النيل من العقائد الإسلاميّة (في القرآن وفي الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)... إلخ)، وتشويه حقائقها بهدف نفي قدسيّتها من نفوس المسلمين، وبذلك يمكن فكّ الارتباط بينهم وبين معتقداتهم، ليتم الجانب السلبي من عمليّة التغيير للمجتمعات الإسلاميّة.

وبهذه الأبعاد أو قل المقدّمات الثلاث تتهيّأ الأرضية المناسبة لقيام أوربّا بالغزو التبشيري والاستعماري للشرق الإسلامي فكريّاً وسياسيّاً وعسكريّاً، فيبرز الجانب الايجابي من عمليّة التغيير للمجتمعات الإسلامية إلى الواقع.

١٧٦

الفصل الخامس

نماذج من كبار المستشرقين في منهج

تناولهم للشّرق الإسلامي

* ارندجان فنسنك Arandjan Wensink

* صموئيل زويمر Samual Zwemer

* لويس ماسنيون Louis Massignon

١٧٧

١٧٨

طيلة قرون وحتّى فترة متأخّرة من القرن العشرين، لم تتعرّف الشعوب الغربيّة على الشرق الإسلامي، من خلال مصادره الخاصّة وتراثه المباشر، وإنّما عرفوه من خلال رجال متخصّصين، وعلى رأسهم المستشرقون الذين جالوا بلدان الشرق الإسلامي، وسجّلوا مشاهداتهم الحسيّة من الواقع، ونقلوا إلى جامعاتهم ومعاهدهم الآلاف من الكتب والمصادر والوثائق، وأخضعوها للدرس والتحليل.

وعلى أساس من خلفيّاتهم الغربيّة ومنطقهم العلماني وشعورهم الاستعدائي لكلّ ما ينتمي للإسلام فكراً ومجتمعاً، واستهدافهم المتناغم مع التطلّعات الاستعماريّة لدول الغرب، صوّروا الإسلام ومجتمعه للغربيّين، بل طرحوه لأُمم العالم وشعوبه بثوبٍ جديد نسجته عقولُهم على ضوء نظريّتهم وخلفيّاتهم تلك، فخرج مشوّهاً في حقيقته، مزيّناً بأثوابِ التحديث وبريق التقدّم الزائف، حتّى أصبحت كتبهم ومؤلّفاتهم عن الشرق الإسلامي هي المصادر الأساسيّة، ومراجع التعريف والدراسة الوحيدة تقريباً للشرق الإسلامي في جميع معاهد وجامعات الغرب، بل وأغلب الجامعات التي أُنشئت على المنهج الغربي في أنحاء العالم.

وفي سبيل تسليط الضوء على هذه الحقيقة، رأينا أنْ ندرس منهج تفكير وطريقة تناول نماذج من رجال الغرب، تُعتبر من أكبر مَن تصدّى لدراسة الشرق الإسلامي وتعريفه، والعمل على أرضه وفي وسط مجتمعاته، ولا يمكننا أنْ نخرج عن دائرة المستشرقين في هذه النماذج؛ لأنّهم هُم وحدهم الذين تتوفّر فيهم خصائص الشموليّة والتخصّص في مثل هذه الدراسات، خصوصاً وأنّ كبارهم هم أصحاب

١٧٩

مدارس متميّزة ورائدة في مجال دراسة الشرق الإسلامي إيديولوجيّاً واجتماعيّاً.

إنّ انتقاءنا لنماذج من كبار رجال الاستشراق، سيكون منسجماً مع هدفنا في تشخيص وتقويم منهج دراسة الغربيّين للشرق الإسلامي وتعريفه، كما أنّ الأساس الذي اعتمدناه في هذا الانتقاء هو الدور الخطير فكريّاً وميدانيّاً لهؤلاء الرجال، والذي سيكشف لنا عن الأثر السلبي الكبير الذي تركوه على الذهنيّة الغربيّة في فهم الإسلام ومجتمعاته من جهة، وعن التخريب الفكري والاجتماعي الذي أحدثوه في المجتمعات الإسلاميّة، عن طريق صياغة إيديولوجيّات وبرامج تغيير لحرف توجّهات هذه المجتمعات عن مسارها الإسلامي، ومحق هويّتها الدينيّة من جهة أُخرى.

وبذلك استغنى الاستعمار الغربي عن الأُسلوب العسكري المباشر في السيطرة على الشرق الإسلامي، واكتفى بالاستعمار الفكري والمنهجي، المتمثّل بجملة من المبادئ والأُطروحات الحديثة التي أُلبست ثوب القوميّة أو الوطنيّة تارة، وثوب التمدّن والتحديث تارةً أُخرى، وثوب الدفاع عن حقّ الشعوب وحريّتها الفكريّة تارةً ثالثة.

وفيما يلي ثلاثة نماذج رائدة في هذا المجال نتناولها تِباعاً:

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

الطعام والشراب، فيجوز أنْ يكون مأخوذاً عن الاستعمال اللغوي اليهودي...) إلى آخره، يرد عليه ما أوردناه على قول(ر. پاريه) تحت مادّة(أُمّة). وما أوردناه على قول(هيك) تحت مادّة(سحر).

أمّا قوله تحت نفس المادّة: (... لكنّ محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يكن على كلّ حال عارفاً بالتفصيلات؛ لأنّه لم يأمر بصوم يوم عاشوراء، إلاّ بعد الهجرة، لمّا رأى اليهود يصومونه) ففيه:

أ - إنّ عاشوراء على وزن فاعولاء، مختومة بالألف الممدودة، وتصحّ بالألف المقصورة بلا همزة: عاشورا(١) ، فهي صفةٌ مؤنّثة لليلة العاشر من الشهر القمري العربي، وغلب إطلاقها على الليلة العاشرة من أوّل تلك الشهور وهو محرّم الحرام، ولا يُوصف بها اليوم، فلا يُقال: اليوم العاشوراء.

وقد اشتهر استعمال هذه الكلمة في ليلة العاشر من محرّم الحرام، ذكرى شهادة الإمام الثالث من أئمّة أهل بيت النبوّة الطاهرة (عليهم السلام) الحسين بن عليّ (عليهما السلام). مع العلم أن اللغويين قد نصّوا على أنّ هذه الكلمة(اسم إسلامي) (٢) (لم يُعرف في الجاهليّة)(٣) . وعلى هذا فمن أين جاءت دعوى وجود يوم باسم يوم عاشوراء لدى اليهود وأنّهم كانوا يصومونه؟

ب - لعلّ دعوى(بيرك) بوجود مثل هذا اليوم لدى اليهود، وأنّهم كانوا يصومونه، قد استندت على بعض الروايات الضعيفة سنداً، والمتناقضة دلالةً والتي وردت في بعض كتب الحديث، وأدناه نستعرض مجموعتين منها مع الإشارة الكلّيّة إلى ظروف وملابَسات اختلاف هذه الأحاديث ونسبتها كذِباً إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم):

____________________

(١) مجمع البحرين، مادّة (عشر).

(٢) النهاية في غريب الحديث والأثر ٣: ٢٤٠.

(٣) الجمهرة في لغة العرب ٤: ٢١٢.

٢٨١

المجموعة الأولى:

١ - عن عائشة قالت: كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهليّة، وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يصومه في الجاهليّة، فلمّا قدِم المدينة صامه وأمر بصيامه، فلمّا فُرِض رمضان ترك يوم عاشوراء فمَن شاء صامه ومَن شاء تركه(١) .

٢ - عنها قالت: كان يوم عاشوراء فكان مَن شاء صامه ومَن شاء لم يَصمه(٢) .

٣ - عنها قالت: كانوا يصومون عاشوراء قبل أنْ يُفرَض رمضان، وكان يوماً تسترّ فيه الكعبة، فلمّا فرض الله رمضان قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم):(مَن شاء أنْ يَصومه فليَصُمه، ومَن شاء أنْ يَتركه فليتركه) (٣) .

فكيف التوفيق بين هذا وبين ما مرّ من نصوص اللغويّين، على أنّ اسم عاشوراء اسم إسلامي لم يُعرف في الجاهليّة؟ وإذا كانوا يصومونه؛ لأنّه كان يوماً تُسترّ فيه الكعبة، فلماذا أُضيف إلى وصف الليلة (عاشوراء) كما مرّ؟ ولم تكن الكعبة تُسترّ في الليل طبعاً قطعاً. وهل وصفوا اليوم المُذكّر بصفة التأنيث؟ فالعجب من العرب كيف غاب عنهم هذا؟!

وهنا نتساءل:

بما أنّ الجاهليّة هي عهد ما قبل الإسلام، فإذا كان النبيّ يصوم يوم عاشوراء في الجاهليّة فلماذا تركه بعد الإسلام؟ فلو كان تركه لمخالفة المشركينّ

____________________

(١) صحيح البخاري، كتاب الصوم.

(٢) صحيح البخاري كتاب تفسير القرآن، سورة البقرة.

(٣) صحيح البخاري، كتاب الحج، الباب ٤٧.

٢٨٢

فلماذا رجع إليه بعد الهجرة؟

المجموعة الثانية:

١ - عن ابن عبّاس قال: قدِم النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال:(ما هذا؟) قالوا: هذا يوم صالح، يوم نجّى الله بني إسرائيل من عدوّهم فصامه موسى. قال:(أنا أحقُّ بموسى منكم) فصامه وأمر بصيامه(١) .

٢ - عنه قال: إنّ النبيّ لما قدِم المدينة وجدهم يصومون يوماً (يعني يوم عاشوراء) فقالوا: هذا يومٌ عظيم، وهو يوم نجّى الله فيه موسى وأغرق آل فرعون، فصام موسى شاكراً لله. فقال:(أنا أولى بِموسى مِنهُم). فصامه وأمر بصيامه.(٢)

٣ - عنه قال: لمّا قدم النبيّ المدينة وجد اليهود يصومون عاشوراء فسُئلوا عن ذلك فقالوا: هذا هو اليوم الذي أظهر الله فيه موسى وبني إسرائيل على فرعون، ونحن نصومه تعظيماً له. فقال رسول الله: ونحن أولى بموسى منكم. فأمر بصومه(٣) .

٤ - عنه قال: قدِم النبيّ المدينة واليهود تصوم عاشوراء فقالوا: هذا يوم ظهر فيه موسى على فرعون. فقال النبيّ لأصحابه:(أنتم أحقّ بموسى منهم، فصوموا) (٤) .

٥ - عنه قال: لمّا قدِم رسول الله المدينة واليهود تصوم عاشوراء، فسألهم، فقالوا: هذا اليوم الذي ظهر فيه موسى على فرعون. فقال النبيّ:(نحن أولى بموسى

____________________

(١) صحيح البخاري، كتاب الصوم: ٣٠.

(٢) صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء: ٦٠.

(٣) صحيح البخاري، كتاب مناقب الأنصار، الباب ٥٢.

(٤) صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن، سورة يونس.

٢٨٣

منهم) (١) .

٦ - عن أبي موسى الأشعري قال: دخل النبيّ المدينة وإذا أُناسٌ من اليهود يعظّمون عاشوراء ويصومونه فقال النبيّ:(نحن أحقّ بصومه)، فأمر بصومه(٢) .

٧ - عنه قال: كان يوم عاشوراء تعدّه اليهود عيداً، فقال النبيّ: فصوموه أنتم(٣) .

وهذه المرويّات عن ابن عبّاس وأبي موسى الأشعري لا نجد فيها أن اليهود كانوا يسمونه عاشوراء، أمّا ما هي حقيقته عند اليهود؟ فهذا ما تبينه لنا دائرة المعارف البريطانيّة بالانجليزيّة والفرنسيّة والألمانيّة حيثُ جاء فيها:

إنّ احتفال اليهود بنجاة موسى وبني إسرائيل يمتدّ سبعة أيّام لا يوماً واحداً فقط.

أمّا صوم اليهود فهو في اليوم العاشر، ولكنّه ليس العاشر من المحرّم، بل من شهرهم الأوّل: تشري، ويسمّونه يوم(كيپور) ، أي يوم(الكفّارة) ، وهو اليوم الذي تلقّى فيه الإسرائيليّون اللوح الثاني مِن ألواح الشريعة العشرة، ولم يكن ذلك يوم نجاتهم من فرعون، بل بعد نجاتهم من فرعون، وميقات موسى (عليه السلام) وابتلائهم بعبادة العجل إلهاً لهم، ورجوع موسى من الميقات إليهم، وإعلان اشتراط قبول توبتهم بقتل بعضهم لبعض، وبحصولهم على العفو من رفقائهم، ولذلك فقد خُصّص اليوم قبل(كيپور) بتبادل العفو فيما بينهم، وخُصّص يوم(كيپور) للصيام والصلاة والتأمّل كأقدس أيّام اليهود.

والتقويم اليهودي المستعمل اليوم عندهم شهوره قمريّة، ولذلك فعدد أيّام

____________________

(١) صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن، سورة يونس.

(٢) صحيح البخاري، كتاب مناقب الأنصار، الباب ٥٢.

(٣) صحيح البخاري، كتاب الصوم: ٣٠.

٢٨٤

السنة في السنوات العاديّة ٣٥٥ أو ٣٥٤ أو ٣٥٣، ولكنّهم جعلوا سنواتهم شمسيّة بشهور قمريّة، ولذلك فلهم سنوات كبيسة، ففي كلّ سنةٍ كبيسة يُضاف شهر بعد آذار الشهر السادس باسم آذار الثاني فيكون الشهر السابع، ويكون نيسان الشهر الثامن، وعليه تكون أيّام السنة الكبيسة ٣٨٥ أو ٣٨٤ أو ٣٨٣.

مناقشة ما ورد في روايات المجموعتين:

أ - يلاحظ بخصوص خبرَي أبي موسى الأشعري:

أنّه في الأوّل يقول: (وإذا أُناس من اليهود يعظّمون عاشوراء ويصومونه، فقال النبيّ:(نحن أحقّ بصومه) . فأمر بصومه) بلا ذكر لوجه تعظيمهم ليوم عاشوراء وصومه، ولا ذكر لوجه أحقيّة المسلمين بصومه.

وفي الثاني يقول: (كان يوم عاشوراء تعدّه اليهود عيداً. قال النبيّ:فصوموه أنتم) بلا ذكر لوجه كون يوم عاشوراء عيداً عندهم، ولا ذكر لوجه أمره (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بصومه، وكأنّه يُقابل بين الأمرين: بين صوم المسلمين فيه وعدّه اليهود عيداً، دون الأولويّة.

ب - يلاحظ في الخبَرَين أيضاً:

أنّه قال في الأوّل: (وإذا أُناسٌ من اليهود يعظّمون عاشوراء) وقال في الثاني: (كان يوم عاشوراء تعدّه عيداً) فعلّق وصف العيد وتعظيم اليهود على يوم عاشوراء، ولا وجه لذلك. وقد مرّ نص اللغويّين على أنّه اسم إسلامي لم يُعرف في الجاهليّة أي قبل الإسلام، وعليه فكيف عرف اليهود عاشوراء قبل الإسلام؟!

وقال في الثاني: (قال النبيّ:فصوموه أنتم ) وقال في الأوّل: (فقال النبيّ:نحن أحقّ بصومه . فأمر بصومه) وجوباً أم استحباباً؟ وظاهر الأمر الوجوب كما

٢٨٥

قالوا، وعليه فيخلو الخبر عن ذكر مدى هذا الأمر إلى متى كان أو يكون؟ وكذلك تخلو منه أخبار ابن عبّاس.

ج - وذكرت المدى أخبار عائشة: (فلمّا فرض الله رمضان قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم):(من شاء أنْ يصومه فليصمه، ومن شاء أنْ يتركه فليتركه) .

وقد ذكروا بلا خلاف أنّ فرْض الله صيام شهر رمضان كان بنزول القرآن به لمنتصف السنة الثانية للهجرة، أي أنّه لم يكن بين هجرته وبين نزول القرآن بفرض رمضان غير عاشوراء واحد، وإذا كان قد أمر بصيامه مواساة لموسى (عليه السلام) شكراً لنجاته على قول يهود المدينة له بعد هجرته جواباً عن سؤاله عن صومهم يوم عاشوراء، إذن فعاشوراء الأُولى قد مضت ولم تأتِ الثانية ليصوموا يومها، حتّى نزل القرآن بفرض رمضان فما معنى: (كانوا يصومون عاشوراء قبل أنْ يُفرض رمضان؟ وكذلك ما عن عائشة أيضاً قالت: كان عاشوراء يُصام قبل رمضان، فلمّا نزل رمضان مَن شاء صام ومَن شاء أفطر(١) .

٨ - وعنها قالت: كان رسول الله أمر بصيام عاشوراء، فلما فرض رمضان كان من شاء صام ومن شاء أفطر(٢) . وكأنّه أمر بالصيام فقط ولم يصوموه.

د - وهناك خبر آخر عن حميد بن عبد الرحمان ، أنّه سمِع معاوية بن أبي سفيان على منبر يوم عاشوراء عام حجّ يقول: يا أهل المدينة، أين علماؤكم؟ سمِعت رسول الله يقول:(هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب الله عليكم صيامه، وأنا صائم، فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر) (٣) .

فهذا يتضمّن تنكّراً لصيام قريش في الجاهليّة، ولصيام اليهود كذلك،

____________________

(١) صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن، سورة البقرة.

(٢) صحيح البخاري، كتاب الصوم: ٣٠.

(٣) المصدر السابق.

٢٨٦

وينصّ من أوّل يوم على الندب والاستحباب دون الوجوب. ولكن يُلاحظ عليه أمران:

الأول: إنّه يتضمّن اعترافاً بعدم علم علماء أهل المدينة بالحديث عن رسول الله.

الثاني: أفكان هذا قبل الهجرة؟ أم بعدها؟ أم بعد فتح مكّة؟ فمتى سمعه معاوية؟ وإذا كان لليهود تقويم عِبري يخصّهم يختلف تمام الاختلاف عن التاريخ العربي القمَري، وإذا لم يكن يوم عاشوراء يوم نجاة موسى (عليه السلام) وبني إسرائيل من فرعون، فلا يصحّ ما جاء في بعض كتب الحديث ممّا نُسِب إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من أخبار في عاشوراء تتضمّن أنّه يوم نجاة موسى وبني إسرائيل من الفراعنة فهو يوم عيد الخلاص.

وإلى جانبه ذكريات أُخرى منها: أنّه يوم خلْق الأرض والجنّة وآدم (عليه السلام) فهو عيد الخلق، وهو يوم نجاة نوح من الغرق، ونجاة إبراهيم من الحرْق(١) .

أمّا علّة وضع هذه الأحاديث فقد روى الشيخ الفقيه أبو جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمّي، مسنداً عن جبلة المكّيّة قالت: سمعت ميثم التّمار يقول: (والله لتقتلنّ هذه الأُمّة ابن نبيّها في المحرّم لعشرٍ مضين منه، وليتخذنّ أعداء الله ذلك اليوم يوم بركة، وأنّ ذلك لكائن قد سبق في علم الله تعالى ذكره، أعلم بذلك بعهدٍ عهِده إليّ مولاي أمير المؤمنين (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

قالت جبلة: فقلت: يا ميثم، وكيف يتّخذ الناس ذلك اليوم الذي يُقتل فيه الحسين بن عليّ (عليهما السلام) يوم بركة؟!

فبكى ميثم، ثمّ قال: سيزعمون - بحديث يضعونه - أنّه اليوم الذي تاب الله

____________________

(١) تفصيل الرد تجده في مجلّة رسالة الثقلين العدد الثاني - يوم عاشوراء في اللغة والتاريخ والحديث.

٢٨٧

فيه على آدم (عليه السلام) وإنّما تاب الله على آدم في ذي الحجّة. ويزعمون أنّه اليوم الذي استوت فيه سفينة نوحٍ على الجودي، وإنما استوت على الجودي يوم الثامن عشر من ذي الحجّة.

ويزعمون أنّه اليوم الذي فلق الله فيه البحر لبني إسرائيل. وإنّما كان ذلك في شهر ربيع الأوّل(١) .

ويزعمون أنّه اليوم الذي قَبل الله فيه توبة داود، وإنّما قبل الله توبته في ذي الحجّة. ويزعمون أنّه اليوم الذي أخرج الله فيه يونس من بطن الحوت، وإنّما أخرجه الله من بطن الحوت في ذي القعدة.

ثمّ قال ميثم: يا جبلة، إذا نظرت إلى الشمس حمراء كأنّها دمٌ عبيط، فاعلمي أنّ سيّدك الحسين (عليه السلام) قد قُتِل)(٢) .

أمّا قول(بيرك) تحت نفس المادّة وكذلك قول(سبرنجر) وقول(نولدكه وشفالي) فهي مجرّد فرضيّات وادّعاءات احتماليّة لم يسوقوا أيّ دليلٍ أو قرينةٍ عليها، ويرد عليها ما أوردناه على قول(هيك) تحت مادّة (سحر) فراجع. على أنّ قول(بيرك): - (وفيما يتعلّق بمسألة السبب الذي من أجله اختار محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) شهر رمضان بالذات... قيلت آراءٌ عديدة) - لا مورد له؛ لأنّ الله سبحانه قد أظهر سرّ عظمة هذا الشهر في قوله تعالى:

( شَهْرُ رَمَضَانَ الّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنّاسِ وَبَيّنَاتٍ مِنَ الْهُدى‏ وَالْفُرْقَانِ ) (٣) فجعل أداء هذه الفريضة العظيمة في

____________________

(١) وهذا يتّفق مع ظاهر أخبار ابن عبّاس وأبي موسى الأشعري في أنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لمّا قدم المدينة - وقدِمها في ربيع الأوّل بلا خلاف - رأى اليهود يصومون اليوم ويقولون أنّه يوم نجاة موسى وبني إسرائيل من فرعون والغرق، لا يوم عاشوراء.

(٢) أمالي الشيخ الصدوق: ١١٠ط. بيروت.

(٣) البقرة: ١٨٥.

٢٨٨

الشهر العظيم فقال سبحانه:( فَمَن شَهِدَ مِنْكُمُ الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) (١) .

٩ - قول(فير) تحت مادّة(الجاهليّة) وقول(فنسنك) تحت مادّة (أصل الحجّ في الإسلام)، وقوله أيضاً تحت مادّة(إحرام) ، وما نقله عن(سنوك هجروينيه) تحت نفس المادّة، وقول(بول) تحت مادّة(الجمرة) ، وقول(شاخت) تحت مادّة(زكاة) وقوله أيضاً تحت مادّة(زنى) ، وقول(هفننج) تحت مادّة(التجارة)، يرد عليها جميعاً ما أوردناه سابقاً على قول(هيك) تحت مادّة(سحر).

يُضاف إلى ذلك أن هذه الأقوال فيها روح الإنكار للوحي الإلهي للرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وخصوصاً ما هو تحت مادّة( الجاهليّة) ومادّة (أصل الحجّ في الإسلام) ومادّة (إحرام)، إذ يكفيها جواباً أنّ القرآن الكريم يُصرّح في أكثر من آيةٍ كريمة، أنّ بيت الله الحرام هو واحد، وقد أقام قواعده نبيّ الله إبراهيم (عليه السلام) وولده نبي الله إسماعيل (عليه السلام) وذلك في قوله تعالى:

( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبّنَا تَقَبّلْ مِنّا إِنّكَ أَنْتَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ ) (٢) ، ثمّ أمر الله سبحانه نبيّه إبراهيم (عليه السلام) أنْ يُطهّر هذا البيت لأداء عبادة الحجّ الإلهي، حيثُ جاء في القرآن الكريم عن ذلك:

( وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذّن فِي النّاسِ بِالْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى‏ كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَمِيقٍ ) (٣) ، وقوله تعالى أيضاً:

( وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنّاسِ وَأَمْناً وَاتّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى وَعَهِدْنَا إِلَى‏ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهّرَا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرّكّعِ السّجُودِ ) (٤) . واستمرّ الحال زمناً طويلاً

____________________

(١) البقرة: ١٨٥.

(٢) البقرة: ١٢٧.

(٣) الحج: ٢٦، ٢٧.

(٤) البقرة: ١٢٥.

٢٨٩

حتّى أفسد أهل الجاهليّة هذا الحجّ الإبراهيمي، وحرّفوه عن شرعته الإلهيّة باتّخاذهم الأصنام في بيت الله وشعائر الحجّ الأخرى شركاء لله سبحانه يتقربون إليها دونه تعالى، ومحقوا صورته الأولى التي شرّعها الله لنبيّه إبراهيم (عليه السلام)، واستبدلوها بالدجل والهراء، حتّى وصفهم القرآن الكريم بقوله:

( وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً ) (١) ، فأمر الله تعالى نبيّه الكريم محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، بإعادة عبادة الحجّ الإلهي إلى صورته الأُولى، إمضاءً لشريعة إبراهيم (عليه السلام) فيها، حيثُ قال في قرآنه المجيد:( إِنّ أَوّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلّذِي بِبَكّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَللّهِ‏ِ عَلَى النّاسِ حِجّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنّ اللّهَ غَنِيّ عَنِ الْعَالَمِينَ ) (٢) .

كما أنّ قول(بول) تحت مادّة(الجمرة): جهلٌ منه أو تجاهل، فإنّ كثيراً من مفردات الشريعة الإسلاميّة جاءت كليّات في القرآن الكريم، ثمّ فصّلها الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حديثه وسيرته الشريفة، بوحيٍ وإلهامٍ من الله سبحانه وتعالى.

١٠ - قول(هـ. هـ. بروى) تحت مادّة(أُميّة بن أبي الصلت) صارخ في إنكار الوحي الإلهي للرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهو يردّد بذلك دعوى أسلافه من اليهود والنصارى من الذين ابتدعوا هذه الأشعار، ونسبوها إلى أميّة كيداً للإسلام ونبيّه الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

وقد ذكرت لنا كتب التاريخ أنّ أُميّة بن الصلت هذا كان من أعدى أعداء الإسلام ونبيّه الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من ذلك ما جاء في تاريخ الأدب العربي في ترجمة أُميّة بن الصلت ما نصّه: (كان أُميّة تاجراً من أهل الطائف ينتقل بتجارته بين الشام واليمن. ومال أُميّة من أول أمره إلى التحنّف، هجر عبادة الأوثان وترك شرب

____________________

(١) الأنفال: ٣٥.

(٢) آل عمران: ٩٦ - ٩٧.

٢٩٠

الخمر واعتقد بوجود الله من غير أنْ يكون له فروض معينة في العبادة. وكاد أُميّة أنْ يسلِم لمّا جاء الإسلام، ولكن موقف قومه ثقيفٍ من الإسلام أملى عليه العداء للرسول وللمسلمين، فكان يُحرّض على قتال الرسول، ولمّا انتصر المسلمون على مشركي مكّة في غزوة بدرٍ، في رمضان من سنة ٢ للهجرة، رثى أُميّة الذين قُتلوا من المشركين في تلك الغزوة...ضاع القسم الأوفر من شعر أُميّة، ولم يثبت له على القطع سوى قصيدته في رثاء قتلى بدر من المشركين.

وكان أُميّة يحكي في شعره قصص الأنبياء على ما جاء في التوراة ويذكر الله والحشر، ويأتي بالألفاظ والتعابير على غير مألوف العرب، ولذلك كان اللغويّون لا يحتجون بشعره. وشعره كثير التكلّف ضعيف البناء قليل الرونق قلق الألفاظ. أمّا أغراضه في شعره الباقي بين أيدينا - صحيحاً ومنحولاً - فهي المدح والهجاء والرثاء وشيء من الحكمة وكثير من الزهد والتزهيد، ومن الكلام في الله والآخرة)(١) .

ومن ذلك نستنتج ما يلي:

١ - إنّه كان عدوّاً للإسلام ولرسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتّى نُقل أنّه: لمّا ظهَر النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قيل له: هذا الذي كنت تستريب وتقول فيه. فحسده عدوّ الله وقال: إنّما كنت أرجو أنْ أكونَه، فأنزل الله تعالى فيه:( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا ) [الأعراف: ١٧٥].

وكان يحرّض قريشاً بعد وقعة بدر)(٢) ، وهذه قرينة على وجود تنافر بينه وبين رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ممّا يبعد مقولة وجود صلة واستقاء منه خصوصاً بعد البعثة النبويّة.

٢ - إنّه كان يحكي في شعره بعض ما جاء في التوراة من قصص الأنبياء

____________________

(١) تاريخ الأدب العربي للدكتور عمر فروخ ١: ٢١٦ - ٢١٧.

(٢) كتاب الوافي بالوفيّات لصلاح الدين خليل أيبك الصفدي ٩: ٣٩٥ - ٣٩٦، والأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ٤: ١٢٧.

٢٩١

وذكر الله والحشر ويأتي بالألفاظ والتعابير على غير مألوف العرب. وعليه فلو أراد الرسول أنْ يستقي هذه الأمور لاستقاها من التوراة مباشرة دون الحاجة إلى أشعار أُميّة خصوصاً وإنّ شعره متكلّف ضعيف البناء قليل الرونق قلق الألفاظ لا يؤدّي إلى المراد بالدقّة المطلوبة، ويؤيّد ذلك ما ذكره المؤرخون بقولهم: (ولذلك كان اللغويّون لا يحتجّون بشعره).

٣ - إنّ البيان والبلاغة الإعجازيّة لآيات القرآن الكريم تأبى وتتنافى ودعوى الأخذ من أشعار أُميّة المتكلّفة الضعيفة القلقة القليلة الرونق.

وقد أشار القرآن إلى هذه الافتراءات وما فيها من مفارقات صارخة، وأفحمهم بالبرهان الساطع الذي يثبت به - بما لا يقبل الشكّ والترديد - البَون المُطلق بين ما يُدّعى مصدراً لضعفه وهبوط بيانه، وبين البيان الإعجازي للقرآن الكريم وهو قوله تعالى:

( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنّهُمْ يَقُولُونَ إِنّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ لّسَانُ الّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيّ وَهذَا لِسَانٌ عَرَبِيّ مُبِينٌ ) (١) ، ثُمّ أشار إلى حقيقة أُخرى تدفع هذه الدعوى أيضاً إذ قال:

( تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هذَا فَاصْبِرْ إِنّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتّقِينَ ) (٢) ، وبذلك أثبت أنّ المشركين آنذاك لا يعلمون ممّا جاء في القرآن شيئاً، ولو كانت أشعار أُميّة مطابقة أو مشابهة لِما ورد في القرآن الكريم، إذن لكانت خير دليلٍ عندهم على دحض نبوّة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وإنكار الوحي والتنزيل الإلهي له (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

ونضيف إلى ذلك ردّنا السابق على قول(هيك) تحت مادّة(سحر) ، في أنّنا لا نعدم وجود مشتركات وتشابه بين بعض المفردات في الإسلام والقرآن الكريم، ومفردات في اليهوديّة والنصرانيّة وكتابيهما التوراة والإنجيل، في الموارد التي لم

____________________

(١) النحل: ١٠٣.

(٢) هود: ٤٩.

٢٩٢

يطِلْها التحريف خصوصاً في كلّيّات الاعتقادات وقصص الأنبياء لِعَدم شمول النسخ لها كما ذكرنا سابقاً، فراجع.

شعائر الإسلام وليدة إبداعات وتأثيرات متنوّعة

وفيها يُحاول بعض كتّاب هذه الدائرة اختلاق ودعم شبهة أنّ شعائر الإسلام جاءت من خلال إبداعات خاصّة أو تأثيرات متنوّعة: (كالصحابة، الجاهليّة، اليهوديّة، النصرانيّة، الفارسيّة، و...).

ومن نماذج الدسّ والتشويه في صيغة هذه الشبهة ما جاء تحت مادّة(أذان) التي يقول فيها(جوينبل Th.Juynboll ) : (وتقول الرواية الإسلاميّة: إنّ النبيّ تشاوَر مع أصحابه بعد دخوله المدينة مباشرةً، في العام الأوّل أو الثاني للهجرة، في خير الطرق لتنبيه المؤمنين إلى وقت الصلاة، فاقترح بعضهم أنْ يُوقدوا لذلك ناراً أو ينفخوا في بوق أو يدقّوا ناقوساً، (مثل قطعة طويلة من الخشب تضرب بقطعة أُخرى وكان يستعمله المسيحيّون في الشرق للتنبيه إلى الصلاة)، ولكنّ واحداً من المسلمين هو عبد الله بن زيد أخبر أنّه رأى في المنام رجلاً يدعو المسلمين إلى الصلاة من سقف المسجد، وامتدح عُمر هذه الطريقة في الدعوة إلى الصلاة، ولمّا اتّفق رأي الجماعة على هذا الأذان أمر النبيّ باتّباعه، ومن ذلك الوقت أخذ بلال يُنادي المؤمنين إلى الصلاة بهذا الأذان، الذي يستعمله العالم الإسلامي إلى وقتنا هذا)(١) .

وتحت باب(بلال) يقول( Fr. Buhl ): (وأدخل النبيّ الأذان بعد أنْ أبدى

____________________

(١) دائرة المعارف الإسلاميّة ١: ٥٦٠.

٢٩٣

شيئاً من التردّد (انظر مادّة أذان) وجعل بلالاً مؤذّناً له)(١) .

ويسفّ(كاستر M. Gaster ) أكثر فيقول عن(القبلة) تحت باب(السامرة): (وقد ورد في الإنصرة أيضاً كلمة القبلة، أي التوجّه في الصلاة إلى الجبل المقدّس. والحق في أنّ الاتّجاه إلى المعبد معروف أيضاً عند اليهود... ويجوز أنّ محمّداً أخذ هذه الشعيرة من السامرة، وقد صبغها مثلهم بصبغة دينيّة خاصّة، أقوى وأشدّ ممّا يفعل اليهود، وكذلك غيّر محمّدٌ وجهة الصلاة عندما اختلف مع اليهود، وبذلك أفصح عن الأهميّة التي كان ينسبها إلى القبلة)(٢) .

أمّا(فنسنك A. J. Wensink ) فينقل هذه الشبهة إلى أهمّ شعائر الإسلام على الإطلاق، وهي الصلاة فيقول تحت مادّتها: (ويبدو أنّ كلمة صلاة لم تظهر في الآثار الأدبيّة السابقة على القرآن، وقد اتّخذها محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كما اتّخذ الشعيرة من اليهود والمسيحيّين في بلاد العرب)(٣) .

ويستمرّ(فنسنك) في إبرام شبهته هذه فيقول تحت المادّة نفسها:( واشتقاق كلمة(صلوطا) الآراميّة واضح كلّ الوضوح، فالأصل(صلأ) ، في الآراميّة يعني الانحناء والانثناء والقيام... وتُستعمل في كثير من اللهجات الآراميّة للدلالة على الصلاة الشرعيّة... وقد نقل محمّد كلمة الصلاة بهذا المعنى من جيرانه.

ويكشف نظام الصلاة عند المسلمين عن تشابه كبير بصلاة اليهود والمسيحيّين... ومن البيّن أنّ محمّداً لم تكن بين يديه أوّل الأمر المادّة الوافية لهذه الشعيرة؛ ولقد كانت تعوزه النصوص التي يتلوها ويرتّلها اليهود والمسيحيّون في

____________________

(١) دائرة المعارف الإسلاميّة ٤: ٧٣.

(٢) المصدر السابق ١١: ٩٢.

(٣) المصدر السابق ١٤: ٢٧٧.

٢٩٤

صلاتهم) (١) .

ويستمر(فنسنك) تحت المادّة نفسها قائلاً: (ومن ثمّ فنحن نجد فجأةً الصلاة الوسطى تظهر في السورة المدنيّة وهي البقرة، الآية ٢٣٧. ولا بد إذن أنْ تكون هذه الصلاة قد أُضيفت في المدينة إلى الصلاتين المعتادتين، ويرجّح أنْ يكون ذلك قد تمّ محاكاةً لليهود الذين كانوا يُقيمون أيضاً صلاتهم(ثقلاه) ثلاث مرّات كلّ يوم)(٢) .

ويقول أيضاً: إنّ(جولد صيهر Gold Ziher ) وفي معرض ردّه على(هوتسما) في كيفيّة تقرير الصلوات الخمس، يرى عكس ما يراه الأخير ويذهب إلى القول بوجود أثر فارسي في تقرير الصلوات الخمس(٣) .

وعن عدد الركعات في الصلوات الخمس يقول(فنسنك) تحت مادّة(الصلاة):

(... إنّ الحديث [النبويّ] يقول أيضاً: إنّ الصلاة كانت في الأصل من ركعتين وإنّ هذا العدد نفسه عمل به في صلاة السفر... ويفترض(متفوخ) وجود التأثير اليهودي في الاختيار الأصلي للركعتين)(٤) .

وردّنا على مفردات هذه الصياغة من الدسّ، والتشويه، واختلاف الشبهات كالآتي:

أ - قول(جوينبل) تحت مادّة(أذان) وقول(بول) تحت مادّة(بلال) يرد عليه: إن مثل هذه الرواية التي ادّعاها (جوينبل) ولم يذكر لنا مصدرها، لا شكّ إنّها من المختلقات الإسرائيليّة التي اشتهر أمرها وحذّر العلماء وأهل الحديث

____________________

(١) المصدر السابق ١٤: ٢٧٨.

(٢) المصدر السابق ١٤: ٢٨١.

(٣) المصدر السابق ١٤: ٢٨٢.

(٤) المصدر السابق ١٤: ٢٨٦.

٢٩٥

والرواية منها، أمّا الروايات الصحيحة التي وردت عن أئمّة أهل بيت النبوّة والعصمة (عليهم السلام) فهي على خلاف ذلك، حيث تنصّ على أنّ الأذان كان من الله بواسطة الوحي(جبرئيل)، بل إنّ بعضاً منها تضمّن استنكاراً وزجراً ولعناً لِمَن زعموا أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أخذ الأذان عن عبد الله بن زيد.

ومن هذه الروايات ما عن محمّد بن يعقوب عن أبيه عن ابن أبي عُمير عن حمّاد عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:(لمّا هبط جبرئيل (عليه السلام) بالأذان على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، كان رأسه في حِجْر عليّ (عليه السلام)، فأذّن جبرئيل وأقام، فلمّا انتبه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: يا علي، سمِعت؟ قال: نعم، قال: حفظت؟ قال: نعم، قال: ادع بلالاً فعلّمه، فدعا عليّ (عليه السلام) بلالاً فعلّمه).

ورواه الصدوق بإسناده عن منصور بن حازم، وروى الشيخ بإسناده عن عليّ بن إبراهيم مثله.

وعن محمّد بن مكّي الشهيد في الذكرى: عن ابن أبي عقيل عن الصادق (عليه السلام) أنّه (لعن قوماً زعموا أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أخذ الأذان من عبد الله بن زيد، فقال:(ينزل الوحي على نبيّكم فتزعمون أنّه أخذ الأذان من عبد الله بن زيد؟!) (١) .

ب - قول(كاستر) فيما يتعلّق بالقبلة تحت باب(السامرة) فيه: ما أوردناه على قول(هيك) تحت مادّة(سحر) وقول(ر. پاريه) تحت مادّة(أمّة) فراجع.

على أنّ قضيّة القبلة لم تكن بالشكل الذي عرضه(كاستر) ، هذا من أنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) غيّر القبلة عندما اختلف مع اليهود، بل كان أمراً إلهيّاً للردّ على دعوى اليهود التي ردّدها(كاستر) في قوله السالف من تبعيّة الإسلام ورسوله الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لهم، بدليل اتّخاذه (بيت المقدّس) التي هي قبلة اليهود قبلةً للمسلمين،

____________________

(١) وسائل الشيعة ٤: ٦١٢ - ٦١٣، ح٣.

٢٩٦

وبهذا الأمر الإلهي تميّز المسلمون عن اليهود بجعل الكعبة المشرّفة قبلتهم دون سواهم.

وفي بيان هذه الحقيقة روى عليّ بن إبراهيم بإسناده عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (تحوّلت القبلة إلى الكعبة بعدما صلّى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بمكّة، ثلاث عشرة سنة إلى بيت المقدِس، وبعد مهاجرته إلى المدينة صلّى إلى بيت المقدِس سبعه أشهر، قال: ثمّ وجّهه الله إلى الكعبة، وذلك أنّ اليهود كانوا يعيّرون رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ويقولون له:

أنت تابع لنا، تصلّي إلى قبلتنا، فاغتمَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من ذلك غمَّاً شديداً، وخرج في جوف الليل ينظر إلى آفاق السماء، ينتظر مِن الله تعالى في ذلك أمراً، فلمّا أصبح وحضر وقت صلاة الظهر، كان في مسجد بني سالم قد صلّى من الظهر ركعتين، فنزل جبرئيل (عليه السلام) فأخذ بعَضُديه وحوّله إلى الكعبة، وأنزل عليه:

( قَدْ نَرَى‏ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِي السّماءِ فَلَنُوَلّيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.... ) ، وكان صلّى ركعتين إلى بيت المقدِس وركعتين إلى الكعبة، فقالت اليهود والسفهاء:

( ...مَا وَلاّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الّتِي كَانُوا عَلَيْهَا... ) (١) .

ج - أقوال(فنسنك) المتعدّدة تحت مادّة(الصلاة) يرد عليها جميعاً ما أوردناه على(هيك) تحت مادّة(سحر) فراجع. ونضيف إليه:

١ - قوله: (ويبدو أنّ كلمة صلاة لم تظهر في الآثار الأدبيّة السابقة على القرآن...)، فيرد عليه ما أوردناه على(ر. پاريه) تحت مادّة(أُمّة)، مع تأكيدنا على بطلان ما ادّعاه، فإنّ كلمة صلاة وردت في الشعر العربي الجاهلي قَبل نزول القرآن الكريم، كما في قول أعشى قيس:

يُراوِح في صَلواتِهِ لِمَلِيك * طَورَاً سُجودَاً وطَورَاً جوار

____________________

(١) مجمع البيان ١: ٢٢٣.

٢٩٧

ومعنى الصلاة لغة الدعاء والاستغفار؛ فقد قال الأعشى أيضاً:

لها حارسٌ لا يَبرَح الدهر بَيتَها * فإنْ ذبحت صلّى عليها وزمزما

أي دعا لها، وقال أيضاً:

وقابلها الريح في دنّها * وصلّى على دنّها وارتسم

أي دعا لها أنْ لا تحمض ولا تفسدَ. والصلاة من الله تعالى: الرحمة، قال عدِي بن الرقاع:

صلّى الإله على امرئ ودّعتُه * وأتمّ نعمته عليه وزادها

وقال:

صلّى على عزّة الرحمان وابنتها * ليلى، وصلّى على جاراتها الأُخر(١)

وأصل الاشتقاق في الصلاة من اللزوم من قوله:( تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً ) ، والمصدر(الصلا) ، ومنه اصطلى بالنار إذا لزمها، والمصلِّي الذي يجيء في أثر السابق للزوم أثره، ويُقال للعظم الذي في العجز صلاً، وهما صلوان.

أمّا في اصطلاح الشريعة الإسلاميّة، فهي عبارة عن العبادة الخاصّة التي شرعها الإسلام والمشتملة على الركوع والسجود على وجهٍ مخصوص وأركانٍ وأذكارٍ مخصوصة.

وقيل إنّها سُمّيت صلاة لأنّ المصلّي متعرّض لاستنجاح طلبته، من ثوابِ الله ونِعَمه مع ما يسأل ربّه فيها مِن حاجاته(٢) .

٢ - قوله: إنّ نظام الصلاة عند المسلمين يُشابه بدرجةٍ كبيرة صلاة اليهود والمسيحيّين... وإنّ الصلاة الوسطى ظهرت فجأة في سورة البقرة المدنية، وإنّها أُضيفت إلى الصلاتين المعتادتين فأصبحت ثلاثة، ثمّ يفرّع عليها رجحان أنّ ذلك

____________________

(١) لسان العرب: ماّدة (صلاة).

(٢) الطوسي، البيان ١: ٥٦ - ٥٧.

٢٩٨

قد تمَّ محاكاةً لصلاة اليهود(ثقلاه) (١) التي تقام ثلاث مرّات كلّ يوم.

يرد عليها أنّ التشابه يكون مرّة بعدد الصلوات، وأُخرى بشكليّة الصلاة مِن قيامٍ وركوعٍ وسجودٍ وأمثالها، وثالثة بمضامين الصلاة من قراءات وأذكار، أمّا الجانب الأوّل فإنّ الصلاة التي شرّعها الإسلام، هي خمس صلوات وليس ثلاث صلوات، كما لدى اليهود حسب قول(فنسنك) نفسه، وليست سبعاً كما لدى المسيحيّين وهي: (صلاة البكور وصلاة الساعة الثالثة، والسادسة والتاسعة، والحادية عشرة والثانية عشرة ثمّ صلاة منتصف الليل)(٢) .

والصلوات الإسلاميّة الخمسة هذه محدّدة أوقاتها بموجب آيتين قرآنيّتين نزلتا على الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في مكّة المكّرمة وليس في المدينة المنوّرة، وهما في سورة الإسراء في قوله تعالى:

( أَقِمِ الصّلاَةَ لِدُلُوكِ الشّمْسِ إِلَى‏ غَسَقِ اللّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً ) (٣) ، وفي سورة هود في قوله تعالى:( وَأَقِمِ الصّلاَةَ طَرَفَيِ النّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللّيْلِ... ) (٤) .

وفي بيان دلالة هاتين الآيتين، روي عن زرارة مسنداً قال: (سألت أبا جعفر (عليه السلام) عمّا فرض الله عزّ وجل من الصلاة، فقال:(خمسَ صلواتٍ في الليلِ والنهار)، فقلت: هل سمّاهنّ الله وبيّنهن في كتابه؟ قال:(نعم، قال الله تعالى لنبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ( أَقِمِ الصّلاَةَ لِدُلُوكِ الشّمْسِ إِلَى‏ غَسَقِ اللّيْلِ ) ودلوكها زوالها، وفيما بين دلوك الشمس إلى غسق الليل أربع صلوات، سمّاهنّ الله وبيّنهنّ ووقّتهنّ، وغسق الليل هو انتصافه، ثم قال تبارك وتعالى: ( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنّ قُرْآنَ الْفَجْرِ

٢٩٩

كَانَ مَشْهُوداً ) ، فهذه الخامسة، وقال تبارك وتعالى في ذلك:( أَقِمِ الصّلاَةَ طَرَفَيِ النّهَارِ ) وطَرَفاه: المغرب والغداة( وَزُلَفاً مِنَ اللّيْلِ ) وهي صلاة العشاء الآخرة...)(١) .

وفي تفسير الآية الأولى قال ابن عبّاس والحسن ومجاهد وقتادة: (دلوكها زوالها، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام)... وقال الجبائي: غسَق الليل ظُلمته، وهو وقت العشاء... وقال الحسن:(لدلوك الشمس) لزوالها: صلاة الظهر، وصلاة العصر إلى(غسق الليل) صلاة المغرب والعشاء الآخرة، كأنّه يقول من ذلك الوقت إلى هذا الوقت على ما يُبيّن لك مِن حال الصلوات الأربع، ثمّ صلاة الفجر، فأُفرِدت بالذكر)(٢) .

أمّا الصلاة الوسطى الواردة في سورة البقرة:( حافِظُوا عَلَى الصّلَوَاتِ وَالصّلاَةِ الْوُسْطَى ‏ ) (٣) فقد جاء في معنى الآية: الحثّ على مراعاة الصلوات، ومواقيتهنّ، وألاّ يقع فيها تضييع وتفريط(٤) .

وجاء في روايات متعدّدة أنّ الصلاة الوسطى هي صلاة الظهر، منها ما رُوي مسنداً عن أبي جعفر (عليه السلام) (في حديث) قال:(وقال تعالى: ( حافِظُوا عَلَى الصّلَوَاتِ وَالصّلاَةِ الْوُسْطَى ‏ ) وهي صلاة الظهر) (٥) .

وعليه فلا يضُرّ أنْ تكون هذه الآية مدنيّة؛ لأنّها لم تكن بصدد أصل تشريع الصلوات الخمس، بل جاءت للحثّ على مراعاة الصلوات ومواقيتهن، وخصوصاً الصلاة الوسطى منهنّ والتي سبَق تشريعها في الآيات المكيّة السالفة الذكر، وبهذا

____________________

(١) وسائل الشيعة ٣: ٥، ح١.

(٢) الطوسي، التبيان ٦: ٥٠٩ - ٥١٠.

(٣) البقرة: ٢٣٨.

(٤) الطوسي، التبيان ٢: ٢٧٥.

(٥) وسائل الشيعة ٣: ١٤، ح١.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376