كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين15%

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 376

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين
  • البداية
  • السابق
  • 376 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 127159 / تحميل: 8224
الحجم الحجم الحجم
كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

ثالثها: الخضوع للمخلوق والتذلل له بأمر من اللّه و إرشاده، كما في الخضوع للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لاَوصيائه الطاهرين عليهم السَّلام بل الخضوع لكلّموَمن ، أو كلّما له إضافة إلى اللّه توجب له المنزلة و الحرمة، كالمسجد الحرام، و القرآن والحجر الاَسود وما سواها من الشعائر الاِلهية. و هذا القسم من الخضوع محبوب للّه فقد قال تعالى:( فَسَوفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَومٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُوَْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرينَ ) (المائدة|٥٤).

بل هو لدى الحقيقة خضوع للّه، و إظهار للعبودية له فمن اعتقد بالوحدانية الخالصة للّه، و اعتقد أنّ الاِحياء والاِماتة والخلق والرزق والقبض والبسط والمغفرة و العقوبة كلّها بيده، ثمّاعتقد بأنّالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أوصياءه الكرام عليهم السَّلام( عِبادٌ مُكْرَمُونَ* لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَولِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) (الاَنبياء|٢٦ـ٢٧) فعظّمهم و خضع لهم ، تجليلاً لشأنهم و تعظيماً لمقامهم، لم يخرج بذلك عن حدّالاِيمان، ولم يعبد غير اللّه.

ولقد علم كلّمسلم أنّرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقبّل الحجر الاَسود، و يستلمه بيده إجلالاً لشأنه و تعظيماًلاَمره.(١)

السوَال الرابع : دواعي العبادة للّه سبحانه

العبادة فعل اختياري للاِنسان لابدّ لصدوره من الاِنسان من داعٍ وباعثٍ فما هو الداعي الصحيح لها؟

الجواب: العبادة فعل اختياري للاِنسان لابدّ من وجود داع إليه و يمكن أن يكون الباعث أحد الاَُمور الثلاثة التالية:

١و٢ـ الطمع في إنعامه و الخوف من عقابه

وهذا هو الداعي العام في غالب الناس وقد أُشير إليهما في مجموعة منالآيات:

قال سبحانه:( تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبُّهُمْ خَوفاً وَطَمعاً ) (السجدة|١٦) وقال عزّمن قائل:( وَادْعُوهُ خَوفاً وَطَمعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنينَ ) (الاَعراف|٥٦).

____________

(١) السيد الخوئي: البيان: ٤٦٨ـ ٤٦٩.

٦١

وقال عزّ من قائل:( أُولئِك الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلة أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً ) (الاِسراء|٥٧).

ومع هذه النصوص الرائعة الصريحة في تجويز عبادة اللّه بهذين الداعيين، نرى أنّ بعض المتكلّمين يرفضون هذا النوع من الداعي، و يُصرّون على لزوم خلوص العبادة من أيّ داع نفساني من غير فرق بين الطمع في رحمته، أو الخوف من ناره و يبطلون العبادة إذا كانت ناشئة عن هذين المبدئين.

لا شكّ أنّ العبادة لاَجل كمال المعبود وجماله من أفضل العبادات، و لكنّها غاية لا يصل إليها إلاّ من ارتاض في ميدان العبادة حتى ينسى نفسه ولا يرى إلاّمعبوده، و أين تلك الاَُمنية من متناول أغلبية الناس الذين تهمهم أنفسهم لاغير، و إن أطاعوه فلاَجل الخوف.

وإليك حديثين رائعين عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام :

قال أمير الموَمنينعليه‌السلام : إنّقوماً عبدوا اللّه رغبة فتلك عبادة التجار، و إنّ قوماً عبدوا اللّه رهبة فتلك عبادة العبيد، و إنّ قوماً عبدوا اللّه شكراً فتلك عبادة الاَحرار.(١)

وقال الاِمام الصادقعليه‌السلام : العبادة ثلاثة، قوم عبدوا اللّه عزّو جلّ خوفاً فتلك عبادة العبيد، وقوم عبدوا اللّه تبارك و تعالى طلب الثواب فتلك عبادة الاَُجراء، و قوم عبدوا اللّه عزّ وجلّ حبّاً له فتلك عبادة الاَحرار، وهي أفضل العبادة.(٢)

٣ـ كونه سبحانه أهلاً للعبادة

أن يعبد اللّه بما أنّه أهل لاَن يُعبد، لكونه جامعاً لصفات الكمال و الجمال، و هذا النوع من الداعي يختص بالمخلصين من عباده الّذين لا يرون لاَنفسهم إنّية، و لا لذواتهم أمام خالقهم شخصية، إندكت أنفسهم في ذات اللّه فلا ينظرون إلى شيء إلاّ و يرون اللّه قبله و معه و بعده، فهم المخلَصون الّذين لا يطمع الشيطان في إغوائهم قال سبحانه حاكياً عن إبليس:( وَ لاَُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعينَ* إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) (الحجر|١٩ـ٤٠) قال سيد الموحدين عليعليه‌السلام :«ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك و لكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتُك.(٣)

____________

(١) نهج البلاغة، قسم الحكم برقم ٢٣٧.

(٢) الحر العاملي: وسائل الشيعة ج١|٤٤، ب ٨ من أبواب المقدمة ، الحديث ٨.

(٣) المجلسي: مرآة العقول ، ج٨، ص٨٩: باب النيّة.

٦٢

خاتمة المطاف

الفوضى في التطبيق بين الاِمام و المأموم

لقد ترك الاِهمال في تفسير العبادة تفسيراً منطقياً، فوضى كبيرة في مقام التطبيق بين الاِمام و المأموم فنرى أنّإمام الحنابلة أحمد بن حنبل (١٦٤ـ ٢٤١هـ) صدر عن فطرة سليمة في تفسير العبادة ، وأفتى بجواز مسِّ منبر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتبرّك به و بقبره و تقبيلهما عند ما سأله ولده عبد اللّه بن أحمد، و قال: سألته عن الرجل يمسُّ منبرَ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و يتبرّك بمسِّه، و يُقَبّله، ويفعل بالقبر مثل ذلك، يريد بذلك التقرّب إلى اللّه عزّ وجلّ؟ فقال: «لا بأس بذلك».(١)

هذه هي فتوى الاِمام ـ الذي يفتخر بمنهجه أحمد بن تيمية، وبعده محمّد بن عبد الوهاب ـ و لم ير بأساً بذلك، لما عرفت من أنّ العبادة ليست مجرّد الخضوع، فلا يكون مجرّد التوجّه إلى الاَجسام و الجمادات عبادة، بل هي عبارة عن الخضوع نحو الشيء، باعتبار أنّه إله أو ربّ، أو بيده مصير الخاضع في عاجله و آجله، وأمّا مسّ المنبر أو القبر و تقبيلهما لغاية التكريم و التعظيم لنبيّ التوحيد، فلايوصف بالعبادة و لايتجاوز التبرّك به في المقام عن تبرّك يعقوب بقميص ابنه يوسف، و لم يخطر بخلد أحد من المسلمين إلى اليوم الذي جاء فيه ابن تيمية بالبدع الجديدة، أنّها عبادة لصاحب القميص و المنبر و القبر أو لنفس تلك الاَشياء.

و لمّا كانت فتوى الاِمام ثقيلة على محقّق الكتاب، أو من علق عليه لاَنّها تتناقض مع ما عليه الوهابية و تبطل أحلام ابن تيمية، و من لفَّ لفَّه، حاول ذلك الكاتب أن يوفّق بين جواب الاِمام و ما عليه الوهابية في العصر الحاضر، فقال: «أمّا مسّمنبر النبيّ فقد أثبت الاِمام ابن تيمية في الجواب الباهر (ص ٤١) فعله عن ابن عمر دون غيره من الصحابة، روى أبوبكر بن أبي شيبة في المصنف (٤|١٢١) عن زيد بن الحباب قال: حدّثني أبو مودود قال: حدّثني يزيد بن عبد الملك بن قسيط قال: رأيت نفراً من أصحاب النبيّإذا خلا لهم المسجد قاموا إلى زمانة المنبر القرعاء فمسحوها، ودعوا قال: و رأيت يزيد يفعل ذلك.

____________

(١) أحمد بن حنبل، العلل و معرفة الرجال ٢: ٤٩٢، برقم :٣٢٤٣، تحقيق الدكتور وصي اللّه عباس، ط بيروت ١٤٠٨.

٦٣

وهذا لما كان منبره الذي لامس جسمه الشريف، أمّا الآن بعد ما تغيّر لايقال بمشروعية مسحه تبركاً به».

ويلاحظ على هذا الكلام: بعد وجود التناقض بين ما نقل عن ابن تيمية من تخصيص المسّ بمنبر النبيّبابن عمر، و ما نقله عن المصنف لابن أبي شيبة من مسح نفر من أصحاب النبيّ زمانة المنبر:

أوّلاً: لو كان جواز المسّ مختصّاً بالمنبر الذي لامسه جسم النبي الشريف دون ما لم يلامسه كان على الاِمام المفتي أن يذكر القيدَ، ولا يُطلق كلامَه، حتى ولو افترضنا أنّالمنبر الموجود في المسجد النبوي في عصره كان نفسَ المنبر الذي لامسَه جسمُ النبيّ الاَكرم، و هذا لا يغيب عن ذهن المفتي، إذ لو كان تقبيل أحد المنبرين نفس التوحيد، و تقبيل المنبر الآخر عينَ الشرك، لما جاز للمفتي أن يُغفل التقسيم و التصنيف.

وثانياً: أنّ ما يفسده هذا التحليل أكثر ممّا يصلحه، وذلك لاَنّ معناه أنّلجسمه الشريف تأثيراً على المنبر و من تبرّك به، و هذا يناقض التوحيد الربوبي من أنّه لا موَثّر في الكون إلاّاللّه سبحانه، فكيف يعترف الوهابي بأنّ لجمسه الشريف في الجسم الجامد تأثيراً و أنّه يجوز للمسلمين أن يتبرّكوا به عبر القرون.

ثمّ إنّ المعلّق استثنى مسح قبر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتبرك به، ومنعهما و قال في وجهه:

«وأمّا جواز مسّ قبر النبيّ و التبرّك به فهذا القول غريب جدّاً لم أر أحداً نقله عن الاِمام، وقال ابن تيمية في الجواب الباهر لزوار المقابر (ص ٣١): اتّفق الاَئمّة على أنّه لا يمسّ قبر النبيّ و لا يقبله، وهذا كلّه محافظة على التوحيد، فإنّ من أُصول الشرك باللّه اتّخاذ القبور مساجد».(١)

لكن يلاحظ عليه: كيف يقول: لم أجد أحداً نقله عن الاِمام، أو ليس ولده أبو عبد اللّه راويةَ أبيه و وعاء علمه و هو يروي هذه الفتوى و ثقة عند الحنابلة.

____________

(١) تعليقة المحقّق، نفس الصفحة.

٦٤

وأمّا التفريق بين مسّ المنبر والقبر بجعل الاَوّل نفس التوحيد، و الثاني أساس الشرك، فمن غرائب الاَُمور، لاَنّ الاَمرين يشتركان في التوجّه إلى غير اللّه سبحانه، فلو كان هذا محور الشرك، فالموضوعان سيّان، و إن فرّق بينهما بأنّ الماسّ، ينتفع بالاَوّل دون الثاني لعدم مسّ جسده بالثاني فلازمه كون الاَوّل نافعاً والثاني أمراً باطلاً دون أن يكون شركاً على أنّ تجويز الاَوّل يرجع إلى القول بأنّ لبدنه تأثيراً فيما يقصد لاَجله التبرّك و هو عين الشرك عند القوم فما هذا التناقض في المنهج يا ترى. و لو رجع المحقّق إلى الصحاح و المسانيد وكتب السيرة والتاريخ، لوقف على أنّ التبرّك بالقبر و مسّه، كان أمراً رائجاً بين المسلمين في عصر الصحابة و التابعين، و لاَجل إيقاف القارىَ على صحّة ما نقول نذكر نموذجين من ذلك:

١ـ إنّ فاطمة الزهراءعليها‌السلام سيدة نساء العالمين بنت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حضرت عند قبر أبيها و أخذت قبضة من تراب القبر تشمّه و تبكي و تقول:

ما ذا على من شـمّتربة أحمد

ألاّيشـمّ مدى الزمان غوالـياً

صُبَّتْ عليَّ مصـائب لو أنّها

صُبَّتْ على الاَيّام صِرنَ ليالياً (١)

إنّ هذا التصرّف من السيدة الزهراء المعصومةعليها‌السلام يدل على جواز التبرّك بقبر رسول اللّه و تربته الطاهرة.

٢ـ إنّ بلالاً ـ موَّذّن رسول اللّه ـ أقام في الشام في عهد عمر بن الخطاب فرأى في منامه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو يقول: «ما هذه الجفوة يا بلال؟ أما آنَ لك أن تزورني يا بلال؟».

فانتبه حزيناً وَجِلاً خائفاً، فركب راحلته و قصد المدينة فأتى قبر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجعل يبكي عنده و يمرغ وجهه عليه، فأقبل الحسن و الحسينعليهما‌السلام فجعل يضمّهما و يقبّلهما... إلى آخر الخبر.(٢)

____________

(١) لقد ذكر هذه القضية جمع كثير من الموَرخين، منهم السمهودي في وفاء الوفا ٢:٤٤٤ ـ و الخالدي في صلح الاخوان: ٥٧، و غيرهما.

(٢) ابن ا لاَثير : أُسد الغابة١: ٢٨، و غيره من المصادر.

٦٥

والحقّ انّ الاِختلاف بين السلف الصالح، و الخلف!! غير مختص بهذا المورد بل هناك موارد كان السلف يراها نفس التوحيد، و يراها الوهابيون عين الشرك و إن كنت في شكّ فلاحظ ما يلي:

١ـ قال ابن حبّان : «في شأن الاِمام عليّ بن موسى الرضا عليمها السَّلام : «قد زرته مراراً ، و ماحلّت بي شدّة في وقت مقامي بطوس فزرت قبر علي بن موسى الرضا صلوات اللّه على جدّه و عليه، و دعوت اللّه ازالتها عني إلاّ استجيب و زالت عني تلك الشدة، و هذا شيء جرّبته مراراً فوجدته كذلك.(١)

٢ـ نقل ابن حجر العسقلاني عن الحاكم النيسابوري أنّه قال: «سمعت أبا بكر محمد بن الموَمل بن الحسن بن عيسى يقول: خرجنا مع إمام أهل الحديث أبي بكر بن خزيمة، وعديله أبي علي الثقفي مع جماعة من مشايخنا وهم إذ ذاكمتوافرون إلى زيارة قبر علي بن موسى الرضا عليهما‌السلام بطوس قال: فرأيت من تعظيمه يعني ابن خزيمة لتلك البقعة تواضعه لها و تضرعه عندها ما تحيرنا». (٢)

٣ـ وقال أحمد بن يحيى ألونشريسى المتوفى بفاس عام٩١٤ في كتابه القيم: «المعيار المعرب» سئل سيدي قاسم العقباني عمّن جرت عادته بزيارة قبر الصالحين فيدعو هناك و يتوسل بالنبيّعليه‌السلام وبغيره من الاَنبياء صلوات اللّه على جميعهم، و يتوسل بالاَولياء والصالحين و يتوسل بفضل ذلك الولي الّذي يكون عند قبره على التعيين، فهل يسوغ له هذا و يتوسل إلى اللّه في حوائجه بالولي على التعيين؟ وهل يجوز التوسل بعمّ نبيّنا أم لا؟

____________

(١) ابن حبان: كتاب الثقات، ج٨، ص ٤٥٧.

(٢) ابن حجر: تهذيب التهذيب، ج٧| ٣٨٨.

٦٦

فأجاب يجوز التوسل إلى مولانا العظيم الكريم بأحبائه من النبيين و الصديقين والشهداء والصالحين. وقد توسل عمر بالعباس رضي اللّه عنهما، و كان ذلك بمشهد عظيم من الصحابة والتابعين، و قَبِلَ مولانا وسيلتهم و قضى حاجتهم و سقاهم. ومازال هذا يتكرر في الّذين يُقتدى بهم فلا ينكرونه، وما زالت تظهر العجائب في هذه التوسلات بهوَلاء السادات نفعنا اللّه بهم و أفاض علينا من بركاتهم. و ورد في بعض الاَخبار انّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علّم بعض الناس الدعاء فقال في أوّله قل: اللّهمّ انّي أُقسم عليك بنبيّك محمّد نبيّ الرحمة. فقال الاِمام الاَوحد عزّ الدين بن عبد السّلام: هذا الخبر إن صحّ يحتمل أن يكون مقصوراً على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لانّه سيّد ولد آدم، ولا يُقسم على اللّه تعالى بغيره من الاَنبياء والملائكة والاَولياء، لانّهم ليسوا في درجته ، وأن يكون هذا إنّما خصّ به نبيّنا على علوّ درجته و مرتبته انتهى.(١)

ترى انّ السلف الصالح يتلقى هذه الاَُمور، بفطرتهم السليمة أُموراً مشروعة، غيرمخالفة للتوحيد، بينما الوهابيين يدّعون انّهذه الاَُمور، تنافي التوحيد و تقارن الشرك، من دون أن يقيموا دليلاً على مخالفتها للتوحيد، إلاّ الاعتماد على أقوال ابن تيمية و آرائه مكان الاعتماد على الكتاب والسنّة و سيرة السلف الصالح، فهم مقلده أقوال الرجال، و قدسيطرت على عقولهم، مكان استنطاق الذكر الحكيم والسنة النبوية.

غيري جنى وأنا المعاقب فيكم

أنّ موقف الكاتب أبي الاَعلى المودودي من الوهابية موقف الدعم والتأييد و قد صب نزعاته في كتابه «المصطلحات الاَربعة» فقد ألف ذلك الكتاب لغاية دعم المبادىَ الوهابية تحت غطاء تفسير المصطلحات الاَربعة و مع ذلك كلّه فقد صدرت منه عن «لاوعى» كلمة حق لو كان سائراً على ضوئها لاصاب الحقيقة قال: «و صفوة القول أنّ التصور الذي لاَجله يدعو الاِنسان الاِله و يستغيثه و يتضرع إليه هو لا جرم تصور كونه مالكاً للسلطة المهيمنة على قوانين الطبيعية و للقوى الخارجة عن دائرة نفوذ قوانين الطبيعة».

____________

(١) المعيار المعرب عن فتاوى علماء افريقية والاَندلس والمغرب، ج١|٣١٧ـ ٣٢٢.

٦٧

هذا كلامه و هو تعبير عن عقائد الوثنيين الذين لايصدرون في توسلاتهم و استغاثاتهم إلاّ عن هذا المبدء و أين ذلك من توسل المسلمين الذي يتوسلون بالنبي و آله ، لاَجل أنّهم عباد صالحون« لا يعصون اللّه في ما أمرهم و هم بأمره يعملون» فالحافز على التوسل والاستغاثة ليس إلاّذلك لا انّهم أصحاب السلطة على قوانين الطبيعة مع الاعتراف بانّهم عباد لا يملكون لاَنفسهم موتاً ولا حياة ولا نشوراً.

تصور خاطىَ:

انّ الكاتب مع أنّه نطق بالحقّ و الحقّ ينطق به المنصف والعنود، أراد اضفاء الشرك على التوسلات الدارجة بين المسلمين فذكر انّ السبب لها ليس إلاّاعتقاد المتوسل أنّللنبي مثلاً نوعاً من أنواع السلطة على نظام هذا العالم.

وكذلك من يخاف أحداً يرى انّ سخطه يجرّ عليه الضرر و مرضاته تجلب له المنفعة فلا يكون مصدر اعتقاده ذلك و عمله إلاّما يكون في ذهنه من تصوّر أنّ له نوعاً من السلطة على هذا الكون فلا يبعثه عليه إلاّاعتقاده فيه انّ له شركاً في ناحية من نواحي السلطة الاَُلوهية.(١)

أنّ ما ذكره من مبدأ التوسل و انّه الاعتقاد بأنّ للمتوسل به نوعاً من السلطة على هذا الكون، إنّما ينطبق على توسل المشركين بأصنامهم و أوثانهم فقد كانو معتقدين بمالكيتها لبعض الشوَون الاِلهية و لا أقلّسلطنتها على الغفران والشفاعة النافذة و أين ذلك من توسل المسلمين بأحباء اللّه بما انّهم عباده الصالحون لو دَعوا لاجيبوا بتفضل منه سبحانه لا الزاماً و ايجابا ـ والدليل على ذلك انّه سبحانه دعى في غير واحدة من الآيات إلى التوسل بالنّبي فقال سبحانه:( وَ لَو اَنّهم إذْ ظَلَموا أنفُسَهم جاوَُكَ فَاسْتغفَروا اللّهَ وَ اسْتَغفَرَ لَهُمُ الرَّسُول لَوَجَدوا اللّهَ تَواباً رَحِيماً ) (النساء|٦٤) حتى انّه سبحانه ذمّ المنافقين لاَجل اعراضهم عن النبي و عدم طلبهم استغفاره قال سبحانه:( وإذا قِيل لَهُمْ تَعالَوا يَسْتَغفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللّه لَووا رُوَسهم وَ رأيتَهُمْ يَسُدّونَ و هُم مُسْتكبِرون ) (المنافقون|٥).

____________

(١) المودودي: المصطلحات الاَربعة|١٨ـ١٩.

٦٨

و من يتوسل من المسلمين بعد رحيل نبيهم الاَكرم فإنّما يتوسل بنفس ذلك الملاك الموجود في زمن حياته لا بملاك انّه مسيطر على العالم، و اختصاص الآية ـ على زعمهم ـ بحياة النبيّ لا يضر بالاستدلال، لانّالهدف هو انّالداعي للتوسل في كلتا الفترتين أمر و احد سواء اختصت الآية بفترة الحياة أم لا.

انّ الكاتب المودودي أخذ البرىء بجرم المعتدى فنسب عقيدة الوثنيّين إلى المسلمين و جعل الدعوتين من باب واحد و صادرتين من منشأ فارد و ليس هذا إلاّ قضاءً بالباطل و لا تزر وازرة وزر أُخرى.

الفصل الرابع : في حصر الاستعانة في اللّه

إنّ التوسل بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و إن كان استعانة به لكنّه لاينافي حصر الاِستعانة باللّه تبارك وتعالى وذلك أنّ المسلمين في أقطار العالم يَحصرون الاستعانة في اللّه سبحانه و مع ذلك يستعينون بالاَسباب العادية، جرياً على القاعدة السائدة بين العقلاء، ولا يرونه مخالفاً للحصر، كما أنّ المتوسّلين بأرواح الاَنبياء يستعينون بهم في مشاهدهم و مزاراتهم ولايرونه معارضاً لحصر الاستعانة باللّه سبحانه، و ذلك لاَنّ الاستعانة بغير اللّه يمكن أن تتحقق بصورتين:

١ـ أن نستعين بعامل ـ سواء أكان طبيعياً أم غير طبيعي ـ مع الاعتقاد بأنّ عمله مستند إلى اللّه، بمعنى أنه قادر على أن يعين العباد و يزيل مشاكلهم بقدرته المكتسبة من اللّه و إذنه.

وهذا النوع من الاستعانة ـ في الحقيقة ـ لا ينفك في الواقع عن الاستعانة باللّه ذاته، لاَنّه ينطوي على الاعتراف بأنّه هو الذي منح تلك العوامل، ذلك الاَثر، وأذن لها، و إن شاء سلبها وجرّدها منه.

فإذا استعان الزارع بعوامل طبيعية كالشمس و الماء وحرث الاَرض، فقد استعان باللّه ـ في الحقيقة ـ لاَنّه تعالى هو الّذي منح هذه العوامل: القدرة على إنماء ما أودع في بطن الاَرض من بذر و من ثمّ إنباته و الوصول به إلى حدّ الكمال.

٢ـ أن يستعين بإنسان حىّ او ميّت أو عامل طبيعي مع الاعتقاد بأنّه مستقلّفي وجوده، أو في فعله عن اللّه، فلا شكّ أنّ ذلك الاعتقاد شرك و الاستعانة به عبادة.

٦٩

فإذا استعان زارع بالعوامل المذكورة و هو يعتقد بأنّها مستقلّة في تأثيرها أو أنّها مستقلّة في وجودها ومادتها كما في فعلها وقدرتها، فالاعتقاد شرك والطلب عبادة للمستعان به.

وبذلك يظهر أنّ الاستعانة المنحصرة في اللّه المنصوص عليها في قوله تعالى:"و إيّاكَ نَسْتَعينُ" هي الاستعانة بالمعونة المستقلّة النابعة من ذات المستعان به، غير المتوقّفة على شيء، فهذا هو المنحصر في اللّه تعالى، وأمّا الاستعانة بالاِنسان الذي لا يقوم بشيء إلاّ بحول اللّه و قوّته و إذنه و مشيئته، فهي غير منحصرة باللّه سبحانه، بل إنّ الحياة قائمة على هذا الاَساس ، فإنّالحياة البشرية مليئة بالاستعانة بالاَسباب التي توَثّر و تعمل بإذن اللّه تعالى.

وعلى ذلك لا مانع من حصر الاستعانة في اللّه سبحانه بمعنى، و تجويز الاِستعانة بغيره بمعنى آخر و كم له نظير في الكتاب العزيز.

و لاِيقاف القارىَ على هذه الحقيقة نلفت نظره إلى آيات تحصر جملة من الاَفعال الكونية في اللّه تارة، مع أنّها تنسب نفس الاَفعال في آيات أُخرى إلى غير اللّه أيضاً، و ما هذا إلاّ لعدم التنافي بين النسبتين لاختلاف نوعيّتهما فهي محصورة في اللّه سبحانه مع قيد الاستقلال، و تنسب إلى غير اللّه مع قيد التبعية و العرضية.

الآيات التي تنسب الظواهر الكونية إلى اللّه و إلى غيره:

١ـ يقول سبحانه:( و إذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ) (الشعراء|٨٠). بينما يقول سبحانه فيه (أي في العسل):( شِفاءٌ لِلنّاسِ ) (النحل|٦٩).

٢ـ يقول سبحانه:( إِنَّ اللّهَ هُوَ الرَّزّاقُ ) (الذاريات|٥٨) بينما يقول تعالى:( وَارْزُقُ وهُمْ فِيها ) (النساء|٥).

٣ـ يقول سبحانه:( ءَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ ) (الواقعة|٦٤). بينما يقول سبحانه:( يُعْجِبُ الزُّرّاعَ لِيَغيظَ بِهِمُ الكُفّارَ ) (الفتح|٢٩).

٤ـ يقول تعالى:( وَ اللّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ ) (النساء|٨١). بينما يقول سبحانه:( بَلى وَ رُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) (الزخرف|٨٠).

٥ـ يقول تعالى:( ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الاََمْرَ ) (يونس|٣). بينما يقول سبحانه:( فَالمُدَبِّراتِ أَمْراً ) (النازعات|٥).

٧٠

٦ـ يقول سبحانه:( اللّهُ يَتَوفَّى الاََنْفُسَ حِينَ مَوْتِها ) (الزمر|٤٢). بينما يقول تعالى:( الَّذِينَ تَتَوفّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبينَ ) (النحل|٣٢).

إلى غير ذلك من الآيات التي تنسب الظواهر الكونية تارة إلى اللّه تعالى، و أخرى إلى غيره.

والحل أن يقال: إنّالمحصور باللّه تعالى هو انتساب هذه الاَُمور على نحو الاستقلال، وأمّا المنسوب إلى غيره فهو على نحو التبعية، و بإذنه تعالى، ولا تعارض بين النسبتين ولا بين الاعتقاد بكليهما.

فمن اعتقد بأنّ هذه الظواهر الكونية مستندة إلى غير اللّه على وجه التبعية لا الاستقلال لم يكن مخطئاً ولا مشركاً، و كذا من استعان بالنبيّ أو الاِمام على هذا الوجه.

هذا مضافاً إلى أنّه تعالى الّذي يعلّمنا أن نستعين به فنقول:( إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعينُ ) و يحثُّنا في آية أُخرى على الاستعانة بالصبر والصلاة فيقول:( وَاسْتَعِينُوا بالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ) (البقرة|٤٥) و ليس الصبر والصلاة إلاّ فعل الاِنسان نفسه.

حصيلة البحث:

إنّ الآيات الواردة حول الاستعانة على صنفين:

الصنف الاَوّل: يحصر الاستعانة في اللّه فقط و يعتبره الناصر والمعين الوحيد دون سواه.

والصنف الثاني: يدعونا إلى سلسلة من الاَُمور المعيّنة (غير اللّه) و يعتبرها ناصرة و معينة، إلى جانب اللّه.

أقول: اتّضح من البيان السابق وجه الجمع بين هذين النوعين من الآيات، و تبيّن أنّه لا تعارض بين الصنفين مطلقاً، إلاّ أنّفريقاًنجدهم يتمسّكون بالصنف الاَوّل من الآيات فيخطِّئون أيّ نوع من الاستعانة بغير اللّه، ثم يضطرّون إلى إخراج (الاستعانة بالقدرة الاِنسانية و الاَسباب المادية) من عموم تلك الآيات الحاصرة للاستعانة باللّه بنحو التخصيص ، بمعنى أنّهم يقولون:

إنّ الاستعانة لا تجوز إلاّباللّه في الموارد التي أذن اللّه بها، وأجاز أن يستعان فيها بغيره، فتكون الاستعانة بالقدرة الاِنسانية والعوامل الطبيعية ـ مع أنّها استعانة بغير اللّه ـ جائزة و مشروعة على وجه التخصيص. و لكن هذا ممّا لايرتضيه الموحّد.

في حين أنّ هدف الآيات هو غير هذا تماماً، فإنّ مجموع الآيات يدعو إلى أمر واحد و هو : عدم جواز الاستعانة بغير اللّه مطلقاً، وأنّ الاستعانة بالعوامل الاَُخرى يجب أن تكون بنحو لا يتنافى مع حصر الاستعانة في اللّه بل تكون بحيث تعدّ استعانة باللّه لا استعانة بغيره.

٧١

وبتعبير آخر: إنّالآيات تريد أن تقول بأنّالمعين و الناصر الوحيد والذي يستمدّ منه كلّمعين و ناصر، قدرته و تأثيره، ليس إلاّاللّه سبحانه، و لكنّه ـ مع ذلك ـ أقام هذا الكون على سلسلة من الاَسباب و العلل التي تعمل بقدرته و أمر باستمداد الفرع من الاَصل، و لذلك تكون الاستعانة به كالاستعانة باللّه، ذلك لاَنّ الاستعانة بالفرع استعانة بالاَصل.

و إليك فيما يلي إشارة إلى بعض الآيات من الصنفين:

( وَ مَا النَّصْرُ إِلاّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ الْعَزيزِ الْحَكيمِ ) (آل عمران|١٢٦).

( إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعينُ ) (الحمد|٥).

( وَ مَا النَّصْرُ إِلاّمِنْ عِنْدِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكيمٌ ) (الاَنفال|١٠).

هذه الآيات نماذج من الصنف الاَوّل و إليك فيما يأتي نماذج من النصف الآخر الذي يدعونا إلى الاستعانة بغير اللّه من العوامل والاَسباب.

( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ) (البقرة|٤٥).

( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى ) (المائدة|٢).

( ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعينُونِي بِقُوَّةٍ ) (الكهف|٩٥).

( وَ إِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ ) (الاَنفال|٧٢).

و مفتاح حلّالتعارض بين هذين الصنفين من الآيات هو ما ذكرناه وملخّصه:

إنّ في الكون موَثراً تاماً، و مستقلاً واحداً، غير معتمد على غيره لا في وجوده و لا في فعله و هو اللّه سبحانه:

وأمّا العوامل الاَُخر فجميعها مفتقرة ـ في وجودها وفعلها ـ إليه و هي توَدي ما توَدي بإذنه و مشيئته و قدرته، ولو لم يعط سبحانه تلك العوامل ما أعطاها من القدرة و لم تجر مشيئته على الاستعانة بها لما، كانت لها أيّة قدرة على شيء.

٧٢

فالمعين الحقيقي في كلّالمراحل ـ على هذا النحو تماماً ـ هو اللّه فلا يمكن الاستعانة بأحد باعتباره معيناً مستقلاً. و لهذه الجهة حصر هنا الاستعانة في اللّه وحده، و لكن هذا لا يمنع بتاتاً من الاستعانة بغير اللّه باعتباره غير مستقلّ (أي باعتباره معيناً بالاعتماد على القدرة الاِلهية) و معلوم أنّ استعانة ـ كهذه ـ لا تنافي حصر الاستعانة في اللّه سبحانه لسببين:

أوّلاً: لاَنّ الاستعانة المخصوصة باللّه هي غير الاستعانة بالعوامل الاَُخرى، فالاستعانة المخصوصة باللّه هي: (ما تكون باعتقاد أنّه قادر على إعانتنا بالذات، و بدون الاعتماد على غيره، في حين أنّ الاستعانة بغير اللّه سبحانه على نحو آخر، أي مع الاعتقاد بأنّالمستعان قادر على الاِعانة مستنداً على القدرة الاِلهية، لا بالذات، و بنحو الاستقلال، فإذا كانت الاستعانة ـ على النحو الاَوّل ـ خاصّة باللّه تعالى فإنّ ذلك لا يدل على أنّالاستعانة بصورتها الثانية مخصوصة به أيضاً.

ثانياً: إنّاستعانة ـ كهذه ـ غير منفكّة عن الاستعانة باللّه بل هي عين الاستعانة به تعالى ، و ليس في نظر الموحّد (الذي يرى أنّ الكون كلّه مستند إليه و الكلّ قائم به) مناص من هذا.

وأخيراً نذكّر القارىَ الكريم بأنّموَلّف المنار حيث إنّه لم يتصوّر للاستعانة بالاَرواح إلاّصورة واحدة لذلك اعتبرها ملازمة للشرك فقال:

«ومن هنا تعلمون: إنّالذين يستعينون بأصحاب الاَضرحة و القبور على قضاء حوائجهم و تيسير أُمورهم و شفاء أمراضهم ونماء حرثهم و زرعهم، وهلاك أعدائهم وغير ذلك من المصالح هم عن صراط التوحيد ناكبون، و عن ذكر اللّه معرضون».(١)

يلاحظ عليه: بأنّ الاستعانة بغير اللّه (كالاستعانة بالعوامل الطبيعية) على صورتين:

إحداهما عين التوحيد، و الاَُخرى موجبة للشرك، إحداهما مذكّرة باللّه، و الاَُخرى مبعدة عن اللّه.

إنّ حدّ التوحيد والشرك ليس هو كون الاَسباب ظاهرية أو غير ظاهرية و إنّما هو استقلال المعين وعدم استقلاله، و بعبارة أُخرى المقياس، هو الغنى والفقر، و الاَصالة وعدم الاَصالة.

____________

(١) المنار ١:٥٩.

٧٣

إنّ الاستعانة بالعوامل غير المستقلّة المستندة إلى اللّه، التي لا تعمل و لاتوَثر إلاّبإذنه تعالى غير موجبة للغفلة عن اللّه، بل هي خير موجّه إلى اللّه، ومذكّربه، إذ معناها : انقطاع كلّالاَسباب وانتهاء كلّالعلل إليه.

و مع هذا كيف يقول صاحب المنار: «أُولئك عن ذكر اللّه معرضون» و لو كان هذا النوع من الاستعانة موجباً لنسيان اللّه والغفلة عنه للزم أن تكون الاستعانة بالاَسباب المادية الطبيعية هي أيضاً موجبة للغفلة عنه.

على أنّالاَعجب من ذلك رأي شيخ الاَزهر الشيخ محمود شلتوت الذي نقل ـ في هذا المجال ـ نصّكلمات عبده دون زيادة و نقصان، و ختم المسألة بذلك، وأخذ بالحصر في "إِيّاكَ نَسْتَعين " غافلاً عن حقيقة الآية و عن الآيات الاَُخرى المتعرّضة لمسألة الاستعانة.(١)

إجابة على سوَال

إذا كانت الاستعانة بالغير على النحو الذي بيّناه جائزة فهي تستلزم نداء أولياء اللّه و الاستغاثة بهم في الشدائد و المكاره، وهي غير جائزة و ذلك لاَنّ نداء غير اللّه في المصائب و الحوائج تشريك الغير مع اللّه، يقول سبحانه:( وَ أَنَّ الْمَساجِدَ للّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً ) (الجن|١٨) و يقول تعالى:( وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَ لا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ) (الاَعراف|١٩٧) و يقول عزّمن قائل :( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ) (فاطر|١٣). إلى غير ذلك من الآيات التي تخص الدعاء باللّه و لاتسيغ دعوة غيره.

____________

(١) راجع تفسير شلتوت: ٣٦ـ٣٩.

٧٤

و قد طرح هذا السوَال الشيخ الصنعاني حيث قال: وقد سمّى اللّه الدعاء عبادة بقوله:( أُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتي ) (غافر|٦٠)فمن هتف باسم نبيّ أو صالح بشيء فقد دعا النبي و الصالح، و الدعاء عبادة بل مخّها فقد عبد غير اللّه و صار مشركاً.(١)

الجواب:

إنّ النقطة الحاسمة في الموضوع تكمن في تفسير الدعاء وهل أنّ كلّ دعاء عبادة و النسبة بينهما هي التساوي؟ حتى يصح لنا أن نقول كلّ دعاء عبادة، وكلّ عبادة دعاء، أو أنّ الدعاء أعمّ من العبادة و أنّقسماً من الدعاء عبادة و قسماًمنه ليس كذلك؟ و الكتاب العزيز يوافق الثاني لا الاَوّل، وإليك التوضيح:

لقد استعمل القرآن لفظ الدعاء في مواضع عديدة ولا يصحّ وضع لفظ العبادة مكانه، يقول سبحانه حاكياً عن نوح:( رَبِّ إِنِّي دَعَوتُ قَوْمِي لَيْلاً وَ نَهاراً ) (نوح|٥) وقال سبحانه حاكياً عن لسان إبليس في خطابه للمذنبين يوم القيامة:( وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاّأَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ) (إبراهيم|٢٢) إلى غيرهما من الآيات التي ورد فيها لفظ الدعاء، أفيصح القول بأنّنوحاً دعا قومه أي عبدهم، أو أنّ الشيطان دعا المذنبين أي عبدهم؟ كلّذلك يحفزنا إلى أن نقف في تفسير الدعاء وقفة تمعّن حتى نميّز الدعاء الذي هو عبادة عمّا ليس كذلك.

والاِمعان فيما تقدّم في تفسير العبادة يميِّز بين القسمين فلو كان الداعي و المستعين بالغير معتقداً بأُلوهية المستعان ولو أُلوهية صغيرة كان دعاوَه عبادة و لاَجل ذلك كان دعاء عبدة الاَصنام عبادة لاعتقادهم بأُلوهيتها، قال سبحانه:( فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الّتي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ شَيْءٍ ) (هود|١٠١).

____________

(١) الصنعاني، تنزيه الاعتقاد كما في كشف الارتياب:٢٨٤.

٧٥

و ما ورد من الآيات في السوَال كلّها من هذا القبيل فانّها وردت في حقّ المشركين القائلين بأُلوهية أصنامهم و أوثانهم باعتقاد استقلالهم في التصرف والشفاعة و تفويض الاَُمور إليهم و لو في بعض الشوَون. ففي هذا المجال يعود كلّدعاء عبادة، و يفسر الدعاء في الآيات الماضية والتالية بالعبادة، قال تعالى:

( إِنَّ الّذينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ ) (الاَعراف|١٩٤).( قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْويلاً * أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ) (الاِسراء|٥٦ـ ٥٧).( وَ لا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لايَنْفَعُكَ وَ لا يَضُرُّكَ ) (يونس|١٠٦). "إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ ) (فاطر|١٤). و ما ورد في الاَثر من أنّ الدعاء مُخّ العبادة، أُريد منه دعاء اللّه أو دعاء الآلهة لا مطلق الدعاء و إن كان المدعوّ غير إله لا حقيقة أو اعتقاداً.

وفي روايات أئمّة أهل البيت إلماع إلى ذلك، يقول الاِمام زين العابدين في ضمن دعائه:«...فسمّيت دعاءك عبادة و تركه استكباراً و توعّدت على تركه دخول جهنّم داخرين» (١) و هو يشير في كلامه هذا إلى قوله سبحانه:( وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الّذينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرينَ ) (غافر٦٠)

هذا هو الدعاء المساوي للعبادة و هناك قسم آخر منه لا صلة بينه و بين العبادة و هو فيما إذا دعا شخصاًبما أنّه إنسان وعبد من عباد اللّه غير أنّه قادر على إنجاز طلبه بإقدار منه تعالى و إذن منه، فليس مثل هذه الدعوة عبادة بل سنّة من السنن الاِلهية في الكون، هذا هو ذو القرنين يواجه قوماً مضطهدين يطلبون منه أن يجعل بينهم و بين يأجوج و مأجوج سداً فعند ذلك يخاطبهم ذو القرنين بقوله:( ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعينُوني بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ رَدْماً ) (الكهف|٩٥) وها هو الذي كان من شيعة موسى يستغيث به ، يقول سبحانه:( فَاسْتَغاثَهُ الّذي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ ) (القصص|١٥)

____________

(١) الصحيفة السجادية، دعاوَه برقم ٤٥.

٧٦

و هذا هو النبيّ الاَكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدعو قومه للذبّ عن الاِسلام في غزوة أُحد و قد تولّوا عنه، قال سبحانه:( إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخراكُمْ ) (آل عمران|١٥٣) فهذا النوع من الدعاء قامت عليه الحياة البشرية، فليس هو عبادة و إنّما هو توسل بالاَسباب، فإن كان السبب قادراًعلى إنجاز المطلوب كان الدعاء أمراً عقلائياًو إلاّ يكون لغواً وعبثاً.

ثمّ إنّ القائلين بأنّ دعاء الصالحين عبادة، عند مواجهتهم لهذا القسم من الآيات و ما تقتضيه الحياة الاجتماعية، يتشبثون بكلّطحلب حتى ينجيهم من الغرق و يقولون إنّ هذه الآيات تعود إلى الاَحياء و لا صلة لها بدعاء الاَموات، فكون القسم الاَوّل جائزاً و أنّه غير عبادة؛ لا يلازم جواز القسم الثاني و كونه غير عبادة.

ولكن عزب عن هوَلاء إنّ الحياة و الموت ليسا حدين للتوحيد و الشرك و لا ملاكين لهما، بل هما حدّان لكون الدعاء مفيداًأو لا، و بتعبير آخر ملاكان للجدوائية و عدمها.

فلو كان الصالح المدعو غير قادر لاَجل موته مثلاً تكون الدعوة أمراً غير مفيد لا عبادة له، و من الغريب أن يكون طلب شيء من الحيّ نفس التوحيد و من الميت نفس الشرك.

كلّ ذلك يوقفنا على أنّ القوم لم يدرسوا ملاكات التوحيد و الشرك بل لم يدرسوا الآيات الواردة في النهي عن دعاء غيره، فأخذوا بحرفية الآيات من دون تدبّر مع أنّه سبحانه يقول:( كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الاََلْباب ) (ص ٢٩).

ثمّ إنّ الكلام في أنّدعاء الصالحين بعد انتقالهم إلى رحمة اللّه مفيد أو لا، يتطلب مجالاً آخراً و سوف نستوفي الكلام عنه في رسالة خاصة حول وجود الصلة بين الحياتين : المادّية و البرزخيّة بإذن منه سبحانه.

جعفر السبحاني

تحريراً في ٢٧ صفر المظفر ١٤١٦هـ

٧٧

الفهرست

الفصل الاَوّل : الاِله في اللغة و القرآن الكريم. ٤

الاِله في اللغة ٤

مفهوم الاِله في القرآن. ٨

الفصل الثاني : الربّ في اللغة و الذكر الحكيم. ١١

خاتمة المطاف.. ٢٠

الاَُولى: التوحيد في الذات.. ٢٠

الثانية: التوحيد في الخالقية ٢١

الثالثة: التوحيد في الربوبية و التدبير. ٢٢

الرابعة: التوحيد في التشريع و التقنين. ٢٢

الخامسة: التوحيد في الطاعة ٢٤

السادسة: التوحيد في الحاكمية ٢٤

السابعة: التوحيد في العبادة ٢٥

الفصل الثالث : في تحديد مفهوم العبادة ٢٦

العبادة في المعاجم و التفاسير. ٢٧

توجيه غير سديد. ٣٢

١ـ نظرية صاحب المنار في تفسير العبادة ٣٢

٢ـ نظرية الشيخ شلتوت، زعيم الاَزهر ٣٣

٣ـ تعريف ابن تيمية ٣٣

عبادة ٣٤

عقيدة المشركين في آلهتهم. ٣٦

حكم التاريخ في عقيدة المشركين. ٣٦

يقول الآلوسي عند البحث عن عبادة الشمس: ٣٨

قضاء الكتاب في عقيدة المشركين. ٣٩

٧٨

التعريف المنطقي لمفهوم العبادة ٤٢

الاَوّل: التمعن في عبادة الموحّدين و المشركين. ٤٣

الثانية: الاِمعان في الآيات الداعية إلى عبادة اللّه، الناهية عن عبادة الغير. ٤٤

التعاريف الثلاثة للعبادة ٤٧

ثمرات البحث.. ٤٧

١ـ التوسل بالاَنبياء والاَولياء في قضاء الحوائج. ٤٨

٢ـ طلب الشفاعة من الصالحين. ٤٨

٣ـ التعظيم لاَولياء اللّه و قبورهم و تخليد ذكرياتهم. ٤٩

٤ـ الاستعانة بالاَولياء: ٤٩

أسئلة و أجوبة ٥٠

السوَال الاَوّل : هل هناك من يفسّر العبادة على غرار ما مضى؟ ٥٠

السوَال الثاني : ما هوالمراد من العبادة في هذه الآيات؟ ٥٧

السوَال الثالث : ما هو حكم إطاعة غير اللّه و الخضوع له ؟ ٥٩

السوَال الرابع : دواعي العبادة للّه سبحانه ٦١

١و٢ـ الطمع في إنعامه و الخوف من عقابه ٦١

٣ـ كونه سبحانه أهلاً للعبادة ٦٢

الفوضى في التطبيق بين الاِمام و المأموم ٦٣

غيري جنى وأنا المعاقب فيكم. ٦٧

الفصل الرابع : في حصر الاستعانة في اللّه ٦٩

الآيات التي تنسب الظواهر الكونية إلى اللّه و إلى غيره: ٧٠

إنّ الآيات الواردة حول الاستعانة على صنفين: ٧١

إجابة على سوَال. ٧٤

٧٩

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

تبطل دعوى فنسنك: بأنّها أُضيفت في المدينة إلى الصلاتين المعتادتين، ويبطل أيضا قوله: بأنّها ثلاث صلوات أو ثلاث مرّات، والتي يفرع عليها دعوى محاكاتها لصلاة اليهود(ثقلاه) ، كما يبطل مشابهتها لصلوات المسيحيّين من هذه الناحية لثبوت أنّ الصلوات المشرعة هي خمس وليست ثلاثاً كما عند اليهود، وليست سبعاً كما لدى المسيحيّين كما أسلفنا.

أمّا الجانبان الثاني والثالث من التشابه المدّعى ففيه: أنّه ورد (أنّ الأصل في جميع صلوات المسيحيّين إنّما هو الصلاة الربانيّة التي علّمها السيّد المسيح، والأصل في تلاوتها أنْ يتلوها المصلّي ساجداً، وقد تكون الصلاة لفظيّة، بأنْ تُتلى بألفاظٍ منقولة أو مرتجلة، وتكون عقليّة بأنْ تنوى الألفاظ ويكون الابتهال قلبيّاً محضاً)(١) .

ثمّ يحكي لنا مصدر آخر كيفيّة تطوّر صلواتهم قائلا: (نشَر [الرهبان] الفرنسسكان عادة(طريق الصليب) أو(مواضعه) ، وهي التي تقضي بأنْ يتلو المتعبّد صلوات أمام صورة أو لوحة من لوحات أو صور أربع عشرة، تمثّل كل منها مرحلة من مراحل آلام المسيح؛ فكان القساوسة والرهبان والراهبات وبعض العلمانيّين ينشدون أو يتلون أدعية الساعات القانونيّة وهي: أدعية، وقراءات، ومزامير، وترانيم صاغهاالبندكتيون وغيرهم، وجمعها(ألكوين Alcuin ) و(جريجوري السابع) في كتاب موجز.

وكانت هذه الأدعية تَطرق أبواب السماء... كلّ يوم وليلة في فترات، بين كلّ واحدة والتي تليها ثلاث ساعات)(٢) .

وعن مضامينها يقول المصدر نفسه: (وأقدم الصلوات المسيحيّة هما:

____________________

(١) المعلّم البستاني، بطرس، دائرة المعارف ١٠: ١٠. مادّة (الصلاة).

(٢) ديورانت، ول، قصّة الحضارة ١٦: ٢١ - ٢٢. فصل الصلاة.

٣٠١

الصلاة التي مطلعها(أبانا الذي في السماوات) ، والتي مطلعها(نؤمن بإلهٍ واحد) ، وقبل أنْ ينتهي القرن الثاني عشر بدأت الصلاة التي مطلعها:(السلام لك يا مريم) تتّخذ صيغتها المعروفة، وكانت هناك غير الصلوات أوراد شعريّة من الثناء والتضرّع،... وكثيراً ما كانت الصلوات الرسميّة التي تُتلى في الكنائس توجَّه إلى الله الأب، وكان عدد قليل منها يوجّه إلى الروح القدس؛ ولكن صلوات الشعب كانت توجّه في الأغلب إلى عيسى ومريم، والقديسين)(١) .

أمّا صلاة اليهود فقد ورد عنها القول: (أمّا اليهود فليس في التوراة ما يدلّ دلالةً صريحةً على كيفيّة إقامة الصلاة عندهم، والظاهر أنّهم إنّما كانوا يتلونها وقوفاً إلاّ في الاحتفالات الكبرى، حيثُ كانوا يسجدون، وكان لها ثلاثة أوقات قانونيّة: الصبح والظهر والمساء)(٢) .

أمّا الصلوات في الإسلام فقد ذكر الفقهاء كيفيّتها، استناداً على الأدلّة الشرعيّة من القرآن الكريم والسنّة الشريفة فقالوا: (... فهي تتكوّن من ركعات، والحدّ الأقصى من الركَعَات في الصلاة أربعة، كصلاة العشاء مثلاً، والحدّ الأدنى من الركَعَات في الصلوات الواجبة ركعتان كصلاة الصبح، وفي الصلوات المندوبة ركعة واحدة وهي ركعة الوتر.

وعلى العموم فالرَكَعَات هي: الوحدات والأجزاء الأساسيّة التي تتكوّن منها الصلاة، ويُستثنى من ذلك الصلاة على الأموات، فإنّها مكوّنة من تكبيرات لا من رَكَعَات، وليست هي صلاة إلاّ بالاسم فقط)(٣) .

____________________

(١) المصدر السابق.

(٢) المعلّم البستاني، بطرس، دائرة المعارف ١٠: ١٠ مادّة (الصلاة).

(٣) لمزيد من التفصيل في أجزاء وكيفيّة الصلوات اليوميّة في الإسلام يراجع: السيّد الصدر، محمّد باقر، الفتاوى الواضحة: ٢٥٨ - ٢٦٠.

٣٠٢

وهناك شروط يجب توافرها في كلّ صلاة وهي على قسمين: أحدهما شروط للمصلّي، والآخر شروط لنفس الصلاة، وأهمّها أن يكون المصلّي على وضوءٍ وطهارة، وأنْ يكون بدَنَهُ طاهراً وكذلك ثيابه، وأنْ يستقبل القبلة (وهي الكعبة المشرّفة) وأنْ يقصد بالصلاة القُربة إلى الله تعالى(١) .

وقد وردت روايات كثيرة عن الكيفيّة وعن مضامينها وأجزائها، وشروط ذكرتها كتب الحديث في باب الصلاة(٢) .

بعد هذا الاستعراض نرى بالمقارنة بين الصلوات لدى اليهود ولدى المسيحيّين، وبين الصلوات في الإسلام وجود اختلافٍ أساسيٍّ بينها، في العدد وفي الأوقات وفي شكليّاتها ومضامينها. فمِن أين استنتج(فنسنك) التشابه الكبير بينها ومحاكاة بعضها لبعض، وأمثال ذلك في المقولات والدَعَوات الجزافيّة التي لا دليل ولا شاهد عليها؟

هذا مع العلم أنّنا نلحظ من خلال سَوقنا لِما نُقل عن صلاة اليهود وصلوات المسيحيّين، أنّ يد التغيير البشريّة قد طالت الأصل، وأحدثت فيه الشيء الكثير، إذ نجد أنّ مفرداتها - وخصوصاً صلوات المسيحيّين - غدَت مشبّعة بمبدأ التثليث الذي هو من مقولات الشرك بالله سبحانه وتعالى، بخلاف مبدأ التوحيد والإخلاص لله وحده لا شريك له في العبادات الإسلاميّة، الذي تعبّر عنه جميع مفرداتها، وخصوصاً الصلاة منها التي يشترط فيها كما أسلفنا نيّة التقرّب لله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وهذا ما يؤكّد حقيقة التحريف في الديانتين اليهوديّة والمسيحيّة وفي كتابَيهما التوراة والانجيل، والتي لا نعدم وجود تشابه في أُصولِهما قبل التحريف بين الأحكام

____________________

(١) المصدر: ٢٦١.

(٢) منها: وسائل الشيعة للحرّ العاملي - أبواب أفعال الصلاة - وبحار الأنوار للمجلسي - كتاب الصلاة. وغيرها من كتب الحديث.

٣٠٣

الواردة فيهما والتي لم تنسخ، وبين نظائرها من الأحكام الواردة في القرآن الكريم والسنة الشريفة، لأنّها من سراجٍ واحدٍ كما أسلفنا.

غموض العديد من مقولات النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) القرآنيّة

وتهدف هذه الشبهة إلى تكوين دليل على نفي الوحي بالقرآن، وأنّه إمّا من مخترعات النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أو أنّه اقتبسه من الغير.

وتتركّز هذه الصياغة للشبهة على مجموعة من الصفات الإلهيّة والأسماء والمصطلحات الخاصّة، الواردة في القرآن الكريم، منها ما ادّعاه(ماكدونالد D. B. Macdonald ) تحت مادّة(الله) (ج - الله في ذاته ولذاته) قائلاً: (وصَفة القدّوس وحدها من أسماء الله الحسنى، ولكنّها لا ترد إلاّ مع كلمة ملك، ولسنا نعرف على وجه التحقيق المعنى الذي يريده محمّد من كلمة قدّوس...)(١) .

ويقول أيضاً في المادّة نفسها: (ومن أسمائه أيضاً السلام (سورة الحشر، الآية ٢٣). وهذه الصفة لم ترد إلاّ في الآية ٢٣ من سورة الحشر، ومعناها شديد الغموض، ونكاد نقطع بأنّها لا تعني(السلم) . ويرى المفسّرون أنّ معناها(السلامة) أي البراءة من النقائص والعُيوب، وهو تفسيرٌ محتمل، وقد تكون هذه الصفة كلمةٌ بقيت في ذاكرة محمّد من العبارات التي تُتلى في صلوات النصارى)(٢) .

ويقول أيضاً: (... أمّا صفاته المعنويّة فقد وردت في قلّة يشوبها الغموض، فإنّه يصعب علينا معرفة ما يَقصده محمّد من صفات(القدّوس) و(السلام)

____________________

(١) دائرة المعارف الإسلاميّة ٢: ٥٦٢.

(٢) المصدر السابق ٢: ٥٦٣.

٣٠٤

و(النور). وهناك مجال للشكّ فيما إذا كان محمّد قد رأى من المناسب أنْ يطلق على الله صفة(العدل) (١) .

أمّا تحت مادّة(الله) (د - صلة الخالق بخلقه) فيقول: (ومن الواضح أنّ صفة البارئ قد أخذها محمّد من العبريّة واستُعملت دون أنْ يُقصد منها معنىً خاص)(٢) .

وتحت مادّة(بسم الله) يقول(كارادي فو B Carrde Vaux ): (وتساءل بعض المستشرقين عمّا إذا كانت صيغتا الرحمن والرحيم من أسماء آلهة الجاهليّة، التي بقيَت إلى جانب اسم الله، ثمّ أصبحتا مجرّد صفات)(٣) .

وتحت مادّة(الأنصار) يقول(ركندوف Reckendorf ): (ويظهر أنّ محمّداً استغلّ التشابه الموجود بين لفظ أنصار ونصارى فجعل عيسى يطلق على الحواريّين(أنصار الله) (سورة آل عمران، آية ٥٢، سورة الصف، آية ١٤)(٤) .

وتحت مادّة(بَعْل) يقول(ماكدونالد D. B Macdonald ): (ولا يزال بين كلمة(بَعْل) التي تدلّ على إله وبين(بَعِلَ) معناها دهِش أو فَرِق ومشتقّاتها صلةٌ ضئيلة، وليس لهذين الاشتقاقين الآن وجود... ودخلت [بَعل] إلى العربيّة تفسيراً لآيةٍ في القرآن، وقد أشار القرآن (سورة الصافّات، الآيات ١٢٣ - ١٣٢) إلى قصّة إلياس، وقال على لسانه:( أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ) ، ومن المرجّح أنّ محمّداً قصَدَ بـ (بَعْل)(بَعَل) كما سمعها في قصّة من قصص التوراة (سِفر الملوك الأوّل، الإصحاح ١٨)(٥) .

____________________

(١) المصدر السابق.

(٢) المصدر السابق: ٥٦٤.

(٣) المصدر السابق ٣: ٦٤.

(٤) المصدر السابق ٣: ٥٣.

(٥) المصدر السابق ٣: ٦٩٤.

٣٠٥

أمّا(بول F. Buhl ) فيقول تحت مادّة(سورة): (أمّا مِن أين أتى النبيّ بهذه الكلمة؟، فأمرٌ لا يزال غيرُ ثابت على الرغم من المحاولات التي بُذلت لتتبّع أصلها. ويذهب(نولدكه) إلى أنّ(سورة) هي الكلمة العبريّة الحديثة(شورا) ومعناها الترتيب أو السلسلة، ولو قد أمكن تفسيرها بأنّها(السطر) لِما قادنا ذلك إلى المعنى الأصلي للكلمة...)(١) .

إنَّ جميع مفردات هذه الشُبهة تعود في الحقيقة إلى جَهل المستشرقين، أو تجاهلهم لمعاني ألفاظٍ عربيّة وردَت في القرآن الكريم، فافترضوا، بعد تشكيل مقدّمةٍ باطلة من معانٍ وهميّة ادّعوها لتلك الألفاظ، أنّها استُعيرت من صلوات النصارى مرّة، أو أُخِذَت من العبريّة مرةً أُخرى، أو أنّها من الأسماء الجاهليّة ثالثة، أو استقيت من قصص التوراة رابعة، أو أنّها ألفاظ شديدة الغموض، أو لا معنى لها خامسة، وهكذا... ويبقى الهدف الحقيقي وراء هذه التمحّلات هو إنكار الوحي الإلهي للرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، الذي سنُعالج أمره في الشبهة اللاحقة إنْ شاء الله، كما يرد عليها ما أوردناه على(ر. پاريه) تحت مادّة(أمّة).

أمّا أهمّ الألفاظ التي أنكروا الأصالة العربيّة لبعضها، وجهلوا أو تجاهلوا استعمالها في معانيها العربيّة الأصيلة في آيات القرآن الكريم، فهي كالآتي حسب تسلسل ورودها في الشبهة السالفة الذكر:

١ - قُدّوس: على وزن فُعُّول من القُدْس. وفي التهذيب: القُدْسُ تنزيه الله تعالى، والقدّوس: من أسماء الله تعالى، قال الأزهري: القدّوس هو الطاهر المُنزّه عن العيوب والنقائص، وقال ابن الكلبي: القدّوس، وحكى ابن الأعرابي: والمقدّس المبارك.

____________________

(١) المصدر السابق ١٢: ٣٥٨.

٣٠٦

ويُقال أرضٌ مقدّسة أي مباركة، وهو قول العجاج:

قد عَلِمَ القَدُّوس مولى القُدْس * أَنَّ أبا العبّاس أولى نفسِ

بِمَعْدن المُلْك القديم الكرْسي

يعني بالقدّوس هنا الله سبحانه وتعالى وبالقُدْس الأرض المباركة(١) .

وقد طابق قول المفسّرين المعنى اللغوي في تفسير كلمة(قُدّوس) ، فذكر الطباطبائي في تفسير الميزان أنّ القدوس مبالغة في القُدس وهو النزاهة والطهارة(٢) .

وقال الطوسي في تفسير التبيان:(القُدّوس) معناه المُطهَّر فتطهر صفاته عن أنْ يدخل فيها صفةُ نقص(٣) .

فكيف يدّعي(ماكدونالد) عدم معرفة المعنى المراد من هذه الكلمة في القرآن الكريم؟!

٢ - السَّلام: ورد في معنى السَّلام والسلامة: البراءة. وتسلّمَ منه: تبَرّأ. وقال ابن الأعرابي: السلامة العافية. والتسليم: مشتقٌّ من السلام اسم الله تعالى، لسلامته من العيب والنقص. والسَّلامُ: البراءة من العيوب في قول أُميّة:

سَلامك رَبَّنا في كلّ فجرٍ***بريئاً ما تعنّتكَ الذُّمُومُ

والذُّموم: العيوب، أي ما تَلزقُ بك ولا تُنسب اليك(٤) .

وهنا أيضاً جاء قول المفسّرين مطابقاً للمعنى اللغوي، مِن أنّ السلام هو الذي يسْلَم عباده من ظلمه(٥) ، وأنّ السلام من يلاقيك بالسلامة والعافية من غير

____________________

(١) لسان العرب: مادّة (قدس). والقاموس المحيط مادّة (قدس).

(٢) السيّد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن ١٩: ٢٥٦.

(٣) الطوسي، التبيان ٩: ٥٧٣.

(٤) لسان العرب: مادّة (سلم). والقاموس المحيط: مادّة (سلم).

(٥) الطوسي، التبيان ٩: ٥٧٣.

٣٠٧

شرٍّ وضرّ(١) .

فأين شدّة الغموض الذي يدّعيه(ماكدونالد) في المعنى الواضح لهذه الكلمة القرآنيّة؟!

٣ - النُّور: جاء في قواميس اللغة أنّ مِن أسماء الله تعالى النور؛ قال ابن الأثير: هو الذي يُبصِر بنوره ذو العَماية، ويَرْشدُ بهُداه ذو الغَوايَةِ، وقيل: هو الظاهر الذي به كلّ ظُهور، والظاهر في نفسه المُظْهِر لغيره يُسمّى نوراً.

قال أبو منصور: والنور من صِفات الله عزّ وجل، قال عزّ وجلّ:( اللّهُ نُورُ السّماوَاتِ وَالأَرْضِ ) (٢) .

وقد ورد في تفسير هذه الآية الكريمة: إنّ النور معروف وهو ظاهرٌ مكشوف لنا بنفس ذاته، فهو الظاهر بذاته المُظهِر لغيره من المحسوسات للبصر، هذا أوّل ما وضع عليه لفظ النور، ثمّ عُمّم لكلّ ما ينكشف به شيء من المحسوسات على نحو الاستعارة أو الحقيقة الثانية، فعُدَّ كل من الحواسّ نوراً أو ذا نور يُظهِر به محسوساته كالسمع والشم والذوق واللمس، ثمّ عُمِّم لغير المحسوس فعدّ العقل نوراً يظهر به المعقولات.

كلّ ذلك بتحليل معنى النور المُبصِر إلى الظاهر بذاته المُظهِر لغيره... فقد تحصّل أنّ المراد بالنور في الآية الكريمة، الذي يستنير به كلُّ شيء وهو مساوٍ لوجود كلّ شيء وظهوره في نفسه ولغيره وهي الرحمة العامّة(٣) .

بعد هذا البيان كيف يدّعي(ماكدونالد) صعوبة معرفة المقصود من وصف الله تعالى بالنور؟!

٤ - العدل: ما قام في النفوس أنّه مستقيم، وهو ضدّ الجور. وفي أسماء الله سبحانه: العَدْل، هو الذي لا يَميلُ به الهوى فيجور في الحكم، وهو في الأصل صدر

____________________

(١) السيّد الطباطبائي في تفسير القرآن ١٩: ٢٥٦.

(٢) لسان العرب: مادّة (نور).

(٣) السيّد الطباطبائي، الميزان ١٥: ١٢٢.

٣٠٨

سُمِّي به فوُضِعَ موضع العادل، وهو أبلغ منه لأنّه جُعِلَ المُسَمّى نفسه عَدلاً(١) .

وكلمة العدل وإنْ لم ترد كصفة أو اسم من أسماء الله سبحانه في القرآن الكريم، إلاّ أنّها جاءت كذلك في حديث الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)(٢) .

٥ - البارئ: من برأ، وهي من أسماء الله عز وجلّ، والله البارئ: الذي خَلَقَ لا عن مثال(٣) . وبهذا المعنى جاءت في الآية الكريمة:( هُوَ اللّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوّرُ ) أي المُحدِث المُنشئ للأشياء ممتازاً بعضها عن بعض(٤) .

فكلمة البارئ لفظٌ عربيٌّ أصيل استعمل في المعنى الخاص الذي أشرنا إليه، خلافاً لما ادّعاه(ماكدونالد) من أنّها استقيت من العبريّة ولم يقصد من استعمالها معنىً خاصّاً.

٦ - بَعْل: يُقال للرجل، هو بَعْلُ المرأة، ويُقال للمرأة، هي بَعْلُه وبَعْلتُه. وباعَلت المرأةُ: اتّخذت بعلاً، وباعل القوم قوماً آخرين مُباعَلة وبِعالاً: تزوّج بعضهم إلى بعض، والأنثى بَعْل وبَعْلة مثل زوج وزوجة؛ قال الراجز:

شَرُّ قرينٍ للكبير بَعلتُه * تُولغ كلباً سُؤرَه أو تكْفِتُه

وبَعَل يَبْعَل بُعولة وهو بَعْل: صار بَعْلاً وقال: يا رُبَّ بَعْل ساء ما كان بَعَل.

وبَعْلُ الشيء: رَبُّه ومالكهُ. وفي حديث الإيمان: وإنْ تَلِدَ الأمة بَعْلَها؛ المراد بالبعل ههنا المالك يعني كثرة السبي والتسرّي، فإذا استولد المسلم جاريةً كان ولدها بمنزلة ربّها.

وبَعْلٌ والبَعْل جميعاً: صَنَم، سُمّي بذلك لعبادتهم إيّاه كأنّه ربّهم. وقوله

____________________

(١) لسان العرب: مادّة (عدل). والقاموس المحيط: مادّة (عدل).

(٢) راجع: بحار الأنوار ٢: ٢٣٨ - ٢٣٩.

(٣) لسان العرب: مادّة (برأ). والقاموس المحيط: مادّة (برأ).

(٤) السيّد الطباطبائي، الميزان ١٩: ٢٥٧. والطوسي، التبيان ٩: ٥٧٤.

٣٠٩

عز وجلّ:( أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ) يُقال: أنا بَعْلُ هذا الشيء أي رَبُّه ومالكه، كأنّه يقول: أتدعون ربّاً سِوى الله؟

ورُوي عن ابن عبّاس: إنّ ضالَّةً أُنشدَت فجاء صاحبها فقال: أنا بعلُها، يُريدُ ربّها، فقال ابن عبّاس: هو من قوله أتدعون بعلاً أي رَبّاً. وورد أنّ ابن عبّاس مرَّ برجُلين يختصمان في ناقة وأحدهما يقول: أنا والله بعلُها، أي مالِكُها وربّها. وقولهم: مَنْ بَعلُ هذه الناقة؟ أي مَنْ رَبُّها وصاحبها(١) .

وجاء في كتب التفسير ما يُطابق المعاني اللغويّة التي ذكرناها، منها في تفسير الآية( أَتَدْعُونَ بَعْلاً... ) ، قال الحسن والضحّاك وابن زيد: المراد بالبعل - ههنا - صنم كانوا يعبدونه، والبعل في لغةِ أهل اليمن هو الربّ، يقولون: مَنْ بَعْل هذا الثوب أي مَنْ ربّه - وهو قول عِكرمة ومجاهد وقتادة والسدّي - ويقولون: هو بَعل هذه الدابّة أي ربّها(٢) .

وعليه فكيف يدّعي(ما كدونالد) أنّ هذه الكلمة دخلت إلى العربيّة تفسيراً لآيةٍ في القرآن الكريم؟

٧ - سورة. السورة: المَنْزِلَة، والجمع سُوَرٌ، والسُّوَرةُ من البناء: ما حَسُنَ وطال. قال الجوهري: والسُّوْرُ جمع سُورَة مثل بُسْرَة وبُسْرٍ، وهي كل منزلة من البناء؛ ومنه سُورَة القرآن لأنّها منزلةٌ بعد منزلة مقطوعة عن الأخرى، والجمع سُوَرٌ بفتح الواو؛ قال الراعي:

هُنَّ الحرائرُ لا رَبّاتُ أَخْمِرَةٍ * سُودُ المَحاجِرِ لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ

وقال ابن سيّده: سُمّيت السُّورَةُ من القرآن سُورَةً لأنّها درجة إلى غيرها، وروى الأزهري بسنده عن أبي الهيثم قال: أمّا سورة القرآن فإنّ الله جلَّ ثناؤه

____________________

(١) لسان العرب مادّة (بعل). والقاموس المحيط: مادّة (بعل).

(٢) الطوسي، التبيان ٨: ٥٢٤ - ٥٢٥.

٣١٠

جعلها سُوَراً مثل غُرْفَةٍ وغُرَفٍ ورُتْبَةٍ ورُتَبٍ وزُلْفَةٍ وزُلَفٍ(١) .

بعد هذا البيان للمعنى اللغوي الأصل لكلمة (سورة) في اللغة العربيّة واستعمالها بهذا المعنى في القرآن الكريم، كيف يوجّه(بول) استفهامه عن مصدر هذه الكلمة وأصالتها؟ وكيف يدّعي(نولدكه) أنّها عبارة عن الكلمة العبريّة الحديثة(شورا)؟

ادّعاء النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وابتكاره واصطناعه وتأثره بمَن حوله

وهذه الشبهة تعني بعبارة أُخرى، أنّه ليس وراء محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وحيٌ إلهي ولا تنزيل سماوي. فمثلاً تصوّر بعث النبيّ لجيش أُسامة على أنّها لأجل الثأر لأبيه زيد، وليس لها بُعد رسالي كما أُعطيَت إليه فيما بعد، وتجد ذلك تحت مادّة(أسامة) حيث يقول( V. Vacca ) : (بعث النبيّ أسامة على رأس جيش ليثأر لأبيه زيد الذي قُتِل في غزوة مؤتة. وبالرغم من الطعن بحداثة سنّه...)(٢) .

وتصوّر التشريعات الإسلاميّة على أنّها بدوافع ماديّة كان النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يخضع لها، منها ما جاء تحت مادّة(أُصول) والتي يقول فيها(يوسف شاخت Joseph Schacht ) : (.. ولم يكن قصد محمّد خلق نظام يضبط به حياة أتباعه، أو وضع أُصول هذا النظام على الأقل، بل ظل القانون العرفي العربي القديم الذي تضمّن كثيراً من العناصر الدخيلة من روميّة إقليمية وبابلية ويمنيّة، يسير في الإسلام سيره الطبيعي، ودخلت عليه بعض التغييرات لتلائم بينه وبين الظروف الإقليميّة للبدو وأهل مكّة وهي مدينة تجاريّة، وأهل المدينة وهي مركز زراعي، وكان همُّ محمّد في

____________________

(١) لسان العرب: مادّة (سور). والقاموس المحيط: مادّة (سور).

(٢) دائرة المعارف الإسلاميّة ٢: ٧٧.

٣١١

التشريع قاصراً على تصحيح بعض المسائل مدفوعاً إلى ذلك باعتبارات دينيّة؛ وذلك لأنّ الأحكام التي تمسّ الحياة الاجتماعيّة تقوم أيضاً على أساس ديني. وفي مثل هذه المسائل كانت الحوادث الخارجيّة هي الدافع إلى معالجة أكثرها)(١) .

وأنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يبتكر ويقع تأثير عوامل مختلفة، منّها ما قاله(ماكدونالد D. B. Macdonald ) تحت مادّة(الله) (هـ - صلة الله بالإنسان): (... وكان محمّد في وقت ما يستعمل صفة (الرحمن) كاسم علم مرادف للكلمة(الله). واعتبر أهل مكّة ذلك من مبتكراته (انظر خبر صلح الحديبيّة وما جاء فيه من أنّ أهل مكّة رفضوا الصيغة التي تضمّنت الرحمن الرحيم، وتمسّكوا بالصيغة المكيّة القديمة(باسمك اللهم) ... ويظهر أنّ محمّداً قد أخذ هذه الصيغة عن جنوبي بلاد العرب)(٢) .

وتحت مادّة(أهل الكتاب) يقول(جولد صيهر Gold Ziher ) : (يسمّي محمّد اليهود والنصارى بهذا الاسم تمييزاً لهم عن عبَدة الأوثان... على أنّه رغم نزعة التعصّب التي كان يعبّر عنها بعبارات شديدة...)(٣) .

وتحت مادّة(جبرائيل) يقول(جولد سيهر Gold Ziher ) : (يسمّي محمّد اليهود والنصارى بهذا الاسم تمييزاً لهم عن عَبَدة الأوثان... على أنّه رغم نزعة التعصّب التي كان يعبّر عنها بعبارات شديدة...)(٣) .

وتحت مادّة(جبرائيل) يقول(كارادي فو Carrade Vaux ) : (ولجبرائيل شأنٌ هام في القرآن. وقد اصطنع النبيّ القصّة التي تقول بأنّ هذا الرسول السماوي يتحدّث إلى الأنبياء، واعتقد أنّه تلقّى رسالته ووحيه منه)(٤) .

ويقول أيضاً تحت مادّة(الجنّة) : (وقد ذُكرت مرّة واحدة في القرآن بالاسم الفارسي(فردوس) ... وقد عرف أنّ فكرة محمّد عن الجنّة مادّة حسيّة، وقد

____________________

(١) دائرة المعارف الإسلاميّة ٢: ٢٧٤ - ٢٧٥.

(٢) المصدر السابق ٢: ٥٦٥ - ٥٦٦.

(٣) المصدر السابق ٣: ١٠٦ - ١٠٧.

(٤) المصدر السابق ٦: ٢٧٦.

٣١٢

صُوّرت هذه الفكرة في سور كثيرة تتّصل بالفترة الأولى من دعوته، مثال ذلك (سورة محمّد، الآيات ١٦، ١٧)(١) .

ويُحاول الطعن في بلاغة القرآن جهلاً منه بأُصولها فيقول تحت نفس المادّة: (وفي سورة الرحمن، الآية ٥٥، وهي السورة التي صيغت في قالب أُنشودة لها لازمة، يتحدّث محمّد عن الجنّتين... وهو يذكر في السورة نفسها (الآيات ١٦ - ١٩) المشرقين والمغربين والبحرين. وليس تفسير هذه الإثنينيّة يسيراً إلاّ إذا كانت من أجل البحرين، وقد يُقال إنّ النبيّ قد التزم في هذا المقام صيغة المثنى لأنّها أوقع في السمع)(٢) .

وتحت مادّة(جهنّم) يقول(كارادي فو B Carrade Vaux ): (ولم يكن لدى النبيّ محمّد إلاّ فكرة أوليّة عن بناء جهنّم، فهو يتحدّث عن أبوابها ويحدّد عددها بسبعة (سورة لقمان، الآية ٧١، سورة الحجر، الآيتان ٤٣، ٤٤)(٣) .

وتحت مادّة(الحديبيّة) يقول(لامنس H Lammen ) : (ولم يستطع النبيّ أنْ يعدَّ نفسه قابضاً على ناصية الحال، إلاّ في الشهور الأخيرة من العام السادس للهجرة، بعد أنْ قضى على العشائر اليهوديّة وأذلّ المنافقين في المدينة، ومن ثمّ رأى أنّ الوقت قد حان للتظاهر ضدّ مكّة ردّاً على حصار الخندق، وهو الحصار الذي حاولته قريش، وقد اتّخذ النبيّ كلّ الأهبة لهذا التظاهر بفضل السياسة التي التزمها، ولم يحد عنها، فقد دأب على تركيز اهتمام قومه بمكّة أم البلاد، فكان تغييره للقبلة واصطناعه لأُسطورة إبراهيم، وتصويره بأنّه باني الكعبة، وفرضه الحجّ وإيجابه في ذلك الوقت على كافّة المسلمين، يخدم هذا الغرض دون سواه. ويبدو أنّ

____________________

(١) المصدر السابق ٧: ١٤٠ - ١٤١.

(٢) المصدر السابق ٧: ١٤٢ - ١٤٣.

(٣) المصدر السابق ٧: ١٩٧.

٣١٣

النبيّ فكّر أوّل الأمر في القيام بمظاهرة عسكريّة، فقد كان المفروض أنْ يسير في عدد يتفاوت بين ١٤٠٠ و١٦٠٠ من الرجال المسلمين، ولكنّه عدّل خطته وأعلن أنّه انتوى العمرة، وما كان الهدي الذي أخذه معه إلاّ استكمالاً للخدعة)(١) .

وتحت مادّة(سارق) يقول(هيفيننك Heffening ) : (السرقة وجزاؤها قطع اليد بنص القرآن (سورة المائدة، الآية ٣٨)، وكان هذا الجزاء من ابتكار الرسول، إلاّ أنّه ورد في أدب الأوائل أنّ وليد بن المغيرة ابتدعه أيّام الجاهلية، وقد يكون هذا النوع من العقوبة من أصل فارسي)(٢) .

وتحت مادّة(السفينة) يقول(كندرمان H Kindermann ) : (والشيء الذي أثار هذه المسألة في بادئ الأمر، هي الأوصاف التي ذكرها القرآن عن البحر. فقد تساءل(بار تولد W. Barthold ) بحقٍّ، كيف تأتّت للنبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هذه الصوَر الواضحة عن البحر وعواصفه ومن أين استقاها)(٣) .

ويستمر تحت نفس المادّة قائلاً: (على أنّلامنس يعترف بأنّ الإشارات الكثيرة في القرآن والسيرة إلى الملاحة تُوحي بأنّ العرب كانوا على دراية وثيقةٍ بالبحر...)(٤) .

وتحت مادّة(شيطان) يقول(ترتون A. S Tritton ): (وكلمة شيطان شائعة في القرآن، ولكنّها لا ترد في سور العهد المكّي إلاّ مرّة منكّرة بصيغة المفرد فحسب، ولم ترد في صيغتها المحدّدة إلاّ في العهد الثاني، موحيةً أنّ النبيّ قد وجد أو تذكّر فكرة أُخرى عن الشيطان)(٥) .

____________________

(١) المصدر السابق ٧: ٣٠٨.

(٢) المصدر السابق ١١: ٤١.

(٣) المصدر السابق ١١: ٤٥٧.

(٤) المصدر السابق ١١: ٤٥٨.

(٥) المصدر السابق ١٤: ٤٧.

٣١٤

وتحت مادّة(صالح) يقول(بول Fr. Buhl ): (... ولكنّنا لا نستطيع أنْ نتحقّق من المصدر الذي استقى منه محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) اسم صالح وقصّة الناقة)(١) .

وعن دعوى وقوع النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تحت تأثير عوامل ماديّة مختلفة عند تشريعه للأحكام أو اتّخاذه للقرارات يقول(شاخت J. Schaht ): ( أمّا فيما يتعلّق بالمصادر الماديّة للشريعة الإسلاميّة، فإنّ عناصر كثيرة مختلفة جدّاً في أصلها (من آراءٍ عربيّةٍ قديمة وبدويّة: قانون التعامل بمدينة مكّة التي كانت مدينة تجاريّة، وقانون الملكيّة في واحة المدينة، والقانون العرفي الذي كان في البلاد المفتوحة، وهو قانون روماني إقليمي إلى حدٍّ ما، وقانون هندي) قد احتفظ بها الاسلام وأخذ بها من غير تحرّج، لكنها بعد ذلك أُخضعت لذلك التقييم الديني الذي شمل كل شيء وأنتج من جانبه أيضاً عدداً كبيراً من المبتكرات الفقهية) (٢) .

وتحت مادّة (زيد بن حارثة) يقول(فكا V. Vacca ): (وكان زيد يصغر محمّداً بنحو عشر سنوات، وهو من السابقين إلى الإسلام، إنْ لم يكن أوّلهم جميعاً، وزيد ينحدر من قبيلةٍ كانت تضرب قرب دومة الجندل، وكان عدد المُعتنقين النصرانيّة هناك كثيراً، كما كان أثر اليهوديّة واضحاً، وربما كان أثر زيد في تطوّر تفكير النبيّ كبيراً)(٣) .

ويضيف(فنسنك) إلى تأثير العوامل الماديّة المختلفة على النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في تشريعه للأحكام واتّخاذه للقرارات أنّه كان يقع تحت طائلة الخدعة، فيقول تحت مادّة(الحج) : (وقد ثار اهتمام النبيّ بالحجّ أوّل مرّة في المدينة، ويرجع اهتمامه إلى عدّة أسباب بيّنها Mekkandns في كتابه Shouck Hargrnonye Chefeest ،

____________________

(١) المصدر السابق ١٤: ١٠٧.

(٢) المصدر السابق ١٤: ٢٤٦.

(٣) المصدر الساق ١١: ١٠.

٣١٥

فقد دعاه نجاحه الباهر في غزوة بدر إلى التفكير في فتح مكّة، وطبيعي أنّ التجهّز لهذا الفتح يكون أكثر توفيقاً إذا أثار النبيّ اهتمام صحابته بالأمور الدينيّة والدنيويّة جميعاً، فقد خدع النبيّ فيما كان يعقده من آمال على جماعة اليهود بالمدينة، وأدّت خلافاته معهم إلى قيام شِقاق ديني بينه وبينهم لم يكن عنه محيص، والى هذا العهد يرد أصل نظريّة دين إبراهيم)(١) .

وعن دعوى أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يقع في أخطاءٍ في مواقفه، وإبهامٍ في آرائه يقول(بول Fr. Buhl ) تحت مادّة(تحريف): (... والذي حدا بالمسلمين إلى الاشتغال بهذه الفكرة [التحريف] هو ما جاء بالقرآن من آيات، اتّهم فيها محمّد اليهود بتغيير ما أُنزل إليهم من كتب وبخاصّة(التوراة) مستعملاً التعبير(حرّفوا) (انظر مادّة القرآن).

وكان هذا الاتّهام في الواقع الطريقة الوحيدة لإخراج محمّد من مأزقٍ خطير، حين احتكّ في المدينة باليهود. فقد سعى مُنذ بدء رسالته إلى الحصول على تأييد أهل الكتاب يهوداً ونصارى؛ لاقتناعه بأنّ ما جاء في العَهدَين القديم والجديد يتّفق وما دعا إليه ممّا أُنزل عليه. ولكن عرضه للوقائع والشرائع التي جاءت في التوراة انطوى على إدراكٍ خاطئ، أثار عليه النقد والسخرية من جانب اليهود، فكان في نظرهم مبُطلاً. ولو أنّ ما استعرضه مِن الآراء كان مناقضاً لما أُنزل في الكتب المقدّسة القديمة لانتفت دعواه فيما يؤكّد مِن أنّه صاحب رسالة إلهيّة.

ولماّ كان اعتقاده أنّه رسول مُوحى إليه قويّاً لا يتزعزع لم يبقَ له غير مَخرجٍ واحد، ذلك أنّ اليهود عمدوا آثمين إلى تحريف الكتاب، وأنّه هو الذي أتى بالنص الصحيح؛ وهي دعوى جريئة يسّرها عليه أنّ هذه الكتب كانت مجهولة تماماً من أتباعه المؤمنين بصدق كلماته)(٢) .

____________________

(١) المصدر السابق ٧: ٣٠٢ - ٣٠٣.

(٢) المصدر السابق ٤: ٦٠٣.

٣١٦

ويضيف(بول) أيضاً تحت نفس المادّة: (وكان من نتيجة الطريقة المبهمة التي تحدّث بها محمّد في القرآن، عن تحريف الذين أُوتوا الكتاب، للتوراة والإنجيل أنْ ذهب علماء المسلمين مذاهب شتّى في تقديرهم للحقائق التي يقوم عليها هذا الاتّهام)(١) .

إنّ هذه الصياغة لمقولات الطعن بإلهيّة القرآن الكريم، ورسالة النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالإسلام تبرز لنا شبهة الإنكار الإلهي من خلال نماذج مفرداتها، التي سُقناها بصراحةٍ ووضوحٍ اشدّ من الصياغات السابقة. هذه الشبهة التي طالما بذل الكثير من المستشرقين وأمثالهم الجهد الكبير لتركيزها، وإطلاق الادعاءات وسَوق الأدلّة المتكلّفة لإثباتها. وعليه لابدّ لنا من أنْ نعقد بحثاً يَستوعب أبلغ ما يُمكن استلاله من جُملة مفردات أدلّتهم ودعواتهم المختلفة، التي ذكرت في المقام ليكون جواباً شاملاً وشافياً لجميع ما استقصيناه في هذه الصياغة والصياغات الأُخرى، أو لم نستقصِه من مفردات هذه الشبهة.

على أنّنا نجد أنّ منهج تناولهم لهذه الشبهة سلَك طريقين: الطريق الأوّل شبهات حول إعجاز القرآن، والطريق الثاني شبهات حول الوحي الإلهي للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم). وللترابط الموضوعي الوثيق بين إعجاز القرآن والوحي الإلهي، سنتناول كلا هذين الطريقين بالبيان والرد كالآتي:

الطريق الأوّل: شبهات حول إعجاز القرآن الكريم: وتقوم هذه الشبهات على تأكيد بشريّة القرآن الكريم، ولكون الأُسلوب البلاغي للقرآن الكريم هو أحد الأسرار الأساسيّة لإثبات إعجازه وكونه وحياً إلهيّاً تحدّى البشر بأنْ يأتوا بمثله أو بعشرِ سوَر مثله بل بسورةٍ من مثله، وأنْ يدعوا مَن استطاعوا لذلك من

____________________

(١) المصدر السابق ٤: ٦٠٧.

٣١٧

دون الله إنْ كانوا صادقين، كان مطعنهم الأوّل موجّه لها لنفيها كأساس لذلك الإعجاز، وبتتبّعٍ تفصيليٍّ لمفردات هذه الشبهات يمكننا أنْ نقسّمها إلى قسمين: قسمُ يُحاول أنْ يبرز نقصاً أو خطأً في الأُسلوب البلاغي والمحتوى البياني للقرآن الكريم، ويُمكننا ملاحظة النماذج التي سُقناها سابقاً في هذا السياق، ولا نجد حاجةً لتتبّع المزيد من تفصيلات ذلك مفردةً بعد أُخرى والردّ عليها على ضوء القواعد العربيّة؛ لاستلزامه الإطالة من جهة، ولوجود من كفانا مؤنتها من جهة أُخرى(١) .

وقسمٌ آخر يُحاول أنْ يقيم الدليل على كون القرآن الكريم ليس بمعجزة في جانبه البلاغي لقدرة البشر على أنْ يأتوا بمثله وهذا القسم يشتمل على ما يلي:

الشبهة الأُولى: لمّا كانت الفصاحة والبلاغة القرآنيّة هي الأساس الأوّل في الإعجاز القرآني، ولمّا كان للعرب قواعد وأُسُس لتلك الفصاحة والبلاغة، تشكّل المقياس الرئيسي لديهم في تمييز ما هو بليغ وفصيح عن غيره، نجد أنّ بعض آيات القرآن الكريم تأتي خلافاً لتلك القواعد، أو لا تنطبق عليها تمام الانطباق، وعليه فإنّ القرآن الكريم يفتقد لنهج الفصاحة والبلاغة على الأُصول والقواعد العربيّة، فهو إذن ليس معجزاً ببلاغته.

وهنا سوف نكتفي بمناقشة أصل الفكرة والأساس الذي تقوم عليه هذه الشبهة، ونفي إمكان الاعتماد على هذا الأساس في الطعن بإعجاز القرآن فنقول:

١ - من خلال مراجعة تاريخ تأسيس قواعد اللغة العربيّة نجد أنّها ظهرت في زمن لاحق لنزول القرآن الكريم، وذلك عندما بدرت الحاجة إلى هذه القواعد خوفاً على اللغة العربيّة والنص القرآني الذي نزل على نسَقِها، من الاختلاط والضياع نتيجة اتّساع نطاق الدعوة الإسلاميّة، وامتداد رقعة دولتها، وتداخل

____________________

(١) راجع: الشيخ البلاغي، جواد، الهدى إلى دين المصطفى ١: ٣٣٠ فما فوق.

٣١٨

العرب بغيرهم من الشعوب الأعجميّة. ولم يُثبِت لنا التاريخ مبادرةً قبل مبادرةِ أبي الأسود الدؤلي تحت إشراف وإرشاد الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) أيّام خلافته.

على أنّ عمليّة وضع قواعد اللغة العربيّة كانت عبارة عن اكتشاف قام به بعض المهتمّين بشؤون اللغة العربيّة، على أساس ما كان يتّبعه العرب من أساليبٍ في البيان والنطق خلال كلامهم، وليس اختراعاً أوّليّاً من قِبل واضعي اللغة العربيّة. إذاً فكلام العربي الأصيل هو المصدر الأساسي في بناء القاعدة اللغويّة وصياغة تفصيلاتها، والقرآن الكريم كان في مقدّمة تلك المصادر المعبّرة عن الكلام العربي الأصيل، بل أوثقه وأبلغه على الإطلاق. لذا نجد أنّ جميع ما وصلنا من صياغات لقواعد اللغة العربيّة كانت تجعل القرآن الكريم مقياساً يحكم عليها بالصحّة أو الخطأ. وهذا هو الذي يجب أنْ ننحوه في لحاظ قواعد اللغة العربيّة وليس العكس.

٢ - يُضاف إلى ذلك أنّنا لم نجد ما بين نزول القرآن الكريم وحتّى اكتشاف وتدوين قواعد اللغة العربيّة أنّ التاريخ قد نقل لنا نقداً أو مطعناً في بلاغة القرآن وبيانه صدر من العرب المعاصرين لنزوله، وهم أهل البلاغة والفصاحة وذوو الخبرة والمعرفة المحيطة باللغة العربيّة، رغم شدّة عداء العديد منهم للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وتكذيبهم لنزول الوحي الإلهي عليه بالقرآن الكريم.

بل نجدهم على العكس من ذلك، فقد أذعنوا لعظمة بلاغة القرآن الكريم واستسلموا لجمال بيانه الساحر، حتّى وصفه بعضهم لشدّة تأثّره به بأنّه سِحر، كنايةً عن مدى إيمانه بدقّة انسيابه البياني وانسياقه التعبيري، بشكلٍ يفوق مطلقاً ما هو مألوف لديهم من صيَغ البلاغة والبيان والتعبير.

الشبهة الثانية: إنّ المتميّزين والعارفين من أهل اللغة العربيّة قادرون على الإتيان بمثل الكلمات القرآنيّة أو بعضها. وهذا يعني أنّهم قادرون على الإتيان

٣١٩

بكلمات قرآنيّة؛ لأنّ حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد، وهكذا يصبح من المعقول - بل المجزوم به - أنّ هذه القدرة يمكنها أنْ تمتد للإتيان بسورة أو بعدّة سور أو قل بمثل القرآن كلّه.

وفي معرض ردّ هذه الشبهة نقول: إنّ الإعجاز القرآني لا يكمن في كلمات متناثرة ومستقلّة بعضها عن البعض الآخر، إنّما هو في التركيب البياني بين الكلمات والأُسلوب الصياغي لها، وفي المحتوى والمضمون للمعاني والأفكار التي يُعبّر عنها ذلك التركيب والأسلوب في سياقات متعانقة الصلة منسجمة الحلقات.

فشتّان بين افتراض القدرة على الإتيان بكلمات متناثرة مهما كان عددها، وبين القدرة على نظمها على نَسَقِ الصياغات البلاغيّة في تركيب جمالي معبّر، ولا يحتاج هذا التمييز بين القدرتين إلى برهان، فهو أمرٌ وجداني يحسّه كلُّ عاقل ملتفت، حيثُ نجد أنّ الكثيرين قد يملكون قابليّة النطق بكلمات عربيّة عديدة ولكنهم لا يستطيعون أنْ ينظموا منها شعراً أو مقطوعة أدبيّة بليغة، أو يصوغوا منها خطاباً فصيحاً شأنَهم في ذلك شأن مَن يقوم بتوفير المواد الإنشائيّة وإنجاز أعمال محدودة وبسيطة منها، إلاّ أنّهم لا يستطيعون أنْ يشيّدوا أبنيةً ومشاريعَ هندسيّة دقيقة وضخمة رغم اشتمالها على تلك الأعمال المحدودة والبسيطة.

ونفس الكلام يأتي في المحتوى والمضمون، فمن نتصّور فيه القدرة على تقديم فكرة أو فكرتين، لا نتصوّر فيه القدرة على تقديم هذا الكم الكبير والمتناسق من الأفكار المتنوعة والمفاهيم المترابطة، خصوصاً إذا أخذنا بنظر الاعتبار نفس الظروف الموضوعيّة والذاتيّة التي نزل فيها القرآن الكريم والتحدّي الذي كان فيها.

الشبهة الثالثة: إنّ تحدّي القرآن للعرب عدّة مرّات قد اكتنفته عوامل وظروف منعت العرب آنذاك من معارضة القرآن وإظهار قدرتهم على الإتيان بمثله، فهم لم يعارضوه لأنّه معجز بل بسبب تلك العوامل والظروف المانعة. ويمكن

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376