كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين15%

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 376

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين
  • البداية
  • السابق
  • 376 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 127206 / تحميل: 8232
الحجم الحجم الحجم
كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

وحالفوهم وتغلغلوا في قنواتهم الثقافيّة والاقتصاديّة، ولم يكن موقف اليهود هذا حبّاً للإسلام وحرصاً على المسلمين، وإنّما كان استراتيجيّة جديدة تؤهّلهم لتغيير مسار الأحداث لصالحهم، وهذا هو ديدنهم أينما وُجدوا، فبالرغم من القضاء المبكّر عليهم أيّام الدولة الإسلاميّة الأُولى على عهد الرسول (صلّى الله عليه وآله)، فإنّهم استطاعوا الظهور ثانيةً في أدوار مختلفة استهدفت هدْم الإسلام من داخله، حتّى أنّ بعضهم اعتنق الإسلام نفاقاً من أجل ذلك.

وعندما رأى اليهود أنّ موازين القُوى في الأندلس اختلّت لمصلحة المُستعربين ونصارى الشمال وحلفائهم الأوربّيّين، ومع بداية أُفول نجم الدولة الإسلاميّة ظهروا بصورتهم الحقيقيّة وكشروا عن أنيابهم، وبدت نواياهم السيّئة، فنقلوا ولاءهم إلى إسبانيا المسيحيّة، ونزحوا إلى المناطق الإسبانيّة المستردّة من سيطرة الدولة الإسلاميّة.

ملتحقين بمن سبقهم من إخوانهم الذين كانوا قد باشروا - بإغراء وتشجيع من أعيان الكنيسة - العمل في ترجمة التراث الثقافي الإسلامي، على نطاقٍ واسع خدمةً للمشروع الكاثوليكي الأوربّي، الذي نجح في مناغمة الهويّة العنصريّة الإسبانيّة بالمشاعر الدينيّة المتطرّفة لمقاومة أعداء المسيحيّة.

فكان اليهود أكفأ المُساهمين وأنشطهم لما ملكوا من (مشاركة في التراث العربي الإسلامي، استلهاماً واقتباساً ومحاكاةً ومنافسةً)(١) . إضافةً إلى إتقانهم للغاتٍ عدّة بحكم كثرة تنقّلهم، وتبدّل مواطنهم، وتوزّعهم الديمغرافي، ممّا أهّلهم للقيام بدورٍ أساسي، في حركة الترجمة والنقل عن العربيّة إلى العبريّة، وعنهما إلى اللاتينيّة.

____________________

(١) أسد، محمّد - (الإسلام على مفترق الطرق). الترجمة العربيّة: ١٥٦.

٦١

ولعلّه من غير المبالغة القول: إنّ اليهود هُم (المستشرقون) و(المُستعربون) التاريخيّون أينما حلّوا.

ومِن هذا يُمكن أنْ نفسّر تغلغل الإسرائيليّات ودخولها ضمن تراثنا الفكري الإسلامي، وأثرها في تفسير القرآن، وما خلّفته من موروثات ثقافيّة دينيّة محرّفة، ساهمت في إبعاد المسلمين عن الفهم الصحيح للقرآن والسنّة النبويّة، وبهذا كان لهم الدور المؤثّر في انحراف المجتمع الإسلامي في الأندلس عن مساره، وذلك من خلال ما ابتدعوه من فِرَقٍ هدّامة تنتهي بجذورها إلى لونٍ مِن ألوان العمل الثقافي اليهودي.

إنّ الانتماءات القوميّة المختلفة التي كانت قد شكّلت الهيكل العام للمجتمع الإسلامي في الأندلس، لم تكن سدّاً أمام حصول التداخل الاجتماعي والالتقاط الثقافي بين تلك القوميّات، وهذا التداخل والالتقاط أفرز حالةً جديدةً مِن أبرز سِماتها تبلور أفكار وعقائد وإيديولوجيّات مختلفة.

وعلى هذا فقد أصبحت الأندلس ولأوّل مرّة في التأريخ حالةً حضاريّةً فريدةً من نوعها بين الشرق والغرب، حيث إنّ التناقضات الدينيّة والفكريّة والسياسيّة جعلتها أرضاً خصبةً، لولادة ثقافة أوربيّة حديثة كانت نواتها الطرح الإسلامي الجديد الوافد من الشرق، لكنّها رفضته ديناً وعقيدة لها من خلال رفضها لمظهره المتمثّل بالمسلمين، إلاّ أنّها عملت على تمثّل ثقافتهم وعلومهم للالتفات عليهم، والسعي إلى إحباط الجهود الحضاريّة والفكريّة والعلميّة لهم.

في هذا المناخ المركّب الذي تحالفت فيه قُوى وإمكانات الكنيسة الكاثوليكية والإسبان المهاجرين من الأندلس الإسلاميّة والمُستعربين، بتسهيل من الجهود الثقافيّة لليهود لاحقاً، وعلى أساس مشروع استرداد إسبانيا للنصرانيّة الأوربيّة نمت (قابليّة الوجود) الاستشراقي بِدءاً بالأندلس، ثمّ تطوّرت بلبوس متنوّع، إلاّ أنّ هذه القابليّة اقتصرت في أوّليّاتها على الاتّصال والتعرّف

٦٢

والاطلاع والتعايش الفاعل مع الفاتحين. وبشكل إقبالٍ مشوبٍ بالحذر على تعلّم اللغة العربيّة وعلومها.

وعليه فمن المُستبعد تصديق زعم البعض من أنّ (الاستشراق قد نشأ حقّاً في منتصف القرن الثامن الميلادي في الأندلس)(١) ، إذ إنّ المسلمين الذي لم يكن قد مضى على دخولهم (أيبيريا) أكثر من أربعين سنة، وهُم في غالبيّتهم من العسكر البربري، لم يكونوا بعد متهيّئين لعرض أفكارهم وثقافتهم المدوّنة على أهل البلاد المفتوحة؛ لأنّ دَورهم قد اتّخذ منحىً عسكريّاً في المرحلة الأُولى من استقرارهم في الأندلس.

أمّا دورهم كروّاد ثقافة وحَمَلة فكر، فأغلب الظن أنّه تأخّر عن منتصف القرن الثامن نصف قرن على الأقل؛ لأنّ المرحلة تستدعي بالضرورة مدىً زمنيّاً كافياً ليتسنّى لهم إتمام عمليّة الاستيطان والاستقرار في عالمهم الجديد، قبل طرح أنفسهم على أنّهم دعاةُ ثقافةٍ وفكرٍ وحضارة.

وعليه فلا يُمكننا الحديث عن حالةٍ ثقافيّةٍ مزدهرة وحقيقيّة في الأندلس إلاّ مع (بداية (الإسلاميّة) في المشرق والمعاصرة للعباسيّين)(٢) في عهد الحكم الأوّل (٧٩٦ - ٨٢٢م)، حفيد عبد الرحمان الداخل، وعهد عبد الرحمان الداخل، وعهد عبد الرحمان الأوسط (٨٢٢ - ٨٥٢م) ابن الحكم الأوّل، فليس من المُمكن - منطقيّاً - أنْ تنتقل إلى المُستعربين وغيرهم من العناصر المكوّنة للمجتمع الأندلسي حالةٌ ثقافيّةٌ لم تكن متيّسرة أصلاً للعرب والمسلمين الأندلسيّين الآخرين أنفسهم. وهُم لا يزالون منهمكين في تأسيس دولتهم وتحصينها والتأقلم مع خصوصيّات الوطن الجديد.

ففي تلك الفترة التي أشرنا إليها بدأ البحث التأريخي يكتشف وجود

____________________

(١) سمايلوفتش، أحمد - (فلسفة الاستشراق وأثرها في الأدب العربي المعاصر): ٦٧.

(٢) فيرينيه، جوان - (تراث الإسلام) القسم الثالث، الترجمة العربيّة: ١٦٩.

٦٣

مُدَوّنات إسبانيّة محمّلة بتأثيرات عربيّة واضحة في مضمونها، ممّا يثبت أنّ مؤلّفيها قد أخذوا مادّتهم التاريخيّة من مصادر عربيّة. ومن تلك المدوّنات( مخطوطات مختلفة وُجِدت في (أُوبيط) وهي محفوظة في مكتبة الاسكوريال، وقد احتفظ بها القدّيس (أولوجيوس) القرطبي (توفّي سنة ٨٥٩م) ونُقِلت إلى (أوبيط) عام ٨٨٤م)(١) .

إنّ حركة الترجمة من العربيّة إلى اللاتينيّة وغيرها مِن الأنشطة الثقافيّة والعلميّة، كالاقتباس والنقل والاستنباط والاستيحاء من قِبل المُستعربين والأوربّيّين، وإنْ كانت لأغراض عقائديّة كما أشرنا، إلاّ أنّها لم تتحوّل إلى حالة ثقافيّة شاملة إلاّ في القرن التاسع الميلادي، بعد أنْ خَبَر النصارى الإسبان عُمق الثقافة الإسلاميّة وتعرّفوا عليها، أي بعد مرور مِئة سنة ونيف على انتهاء عمليّات الفتح الإسلامي للأندلس.

وبعد اكتمال شروط التفاعل والتمازج بين شرائح المجتمع الأندلسي المختلفة، وبالتالي بروز مشروعَين متقابلين كانا يمثّلان طرفَي الصراع: أحدهما يؤكّد على استعادة مجد المسيحيّة بكلّ توجّهاته، الإيديولوجيّة والسياسيّة والثقافيّة والعسكريّة، والانتقام من المسلمين، والعمل على عودة إسبانيا إلى الحضيرة الأوربيّة المسيحيّة.

والآخر كان يؤكّد على إشاعة روح التغيير في البلاد، والتشبّث لتعميق الروح الإسلاميّة مستفيداً من عظيم تراثه، ومتانة فكره وثقافته، وأصالة حضارته القائمة على العدل والتوازن.

هكذا نشأ الاستشراق وانتقل مروراً بالاستعراب من طور القابليّة، إلى طور التحقّق الفعلي كحالة ثقافيّة ليبدأ بالتكرّس والتحوّل إلى مؤسّسة وصرحٍ وفق خططٍ وأهدافٍ إستراتيجيّة. وابتدأ من القرن العاشر الميلادي يوم غدت

____________________

(١) المصدر السابق: ١٦٩.

٦٤

الأندلس مركزاً لانتقال الازدهار الحضاري الإسلامي والإنساني على قلب أوربّا، فكانت إسبانيا والإسبانيّون الأكثر انفعالاً وتأثّراً بالحضارة الإسلاميّة؛ لأنّ الإسلام عاش بين ظهرانيهم ثمانية قرون، وانتشر منهم إلى بقيّة المناطق الأوربيّة شمال أيبيريا. وبالرغم من أنّ أغلب النظريّات الاستشراقيّة العامّة وتطوّراتها التاريخيّة قد وقعت خارج إسبانيا، إلاّ أنّ أغلب أُطروحات الأوربّيين ومعلوماتهم وأخبارهم عن الإسلام والمسلمين، كانت محاكاةً للظروف والتناقضات السياسيّة والاجتماعيّة والعقائديّة، التي عاشها المسلمون في الأندلس، وموسومة بالصبغة الأندلسيّة من حيث النشأة والتوجّه والحركة.

٦٥

بروز نظريّات الاستشراق الاستعماري

إنّ تجربة الأندلس وما تمخّضت عنه من أحداث وتغيّرات تركت آثارها على المجتمع الأوربّي، قد أفرزت إحساساً لدى الأوربيّين بالخطر الداهم الذي ينتظرهم، ومِن ورائه الضعف والخواء الذي يكتنف ثقافتهم وأُصولهم الفكريّة، وبالتالي انهيار بنائهم الحضاري المُتهافت، ممّا دعاهم - بردودِ فعلٍ شديدة - للتصدّي بمختلف الوسائل وبشكلٍ مدروس ومنظم للحيلولة دون اتّساع دائرة التأثر بإشعاعات المدّ الإسلامي الذي غمر إسبانيا. وقد شجّعهم على ذلك دافع ذو بعدٍ ديني وهو أنّهم (مسيحيّون ياهدون ضدّ أعداء المسيحيّة)(١) .

وعلى هذا كان الاستشراق أحد ردود الفعل، ولعلّه الأبرز في معادلة الصراع الحضاري بأشكاله الدينيّة والسياسيّة والفكريّة، ولا سيّما أنّ الغرب والأوربيّين بشكلٍ خاص ينظرون آنذاك، إلى كون المشرق الإسلامي (ملكاً للإمبراطوريّة الرومانيّة)(٢) يجب استرداده من أيدي المسلمين، وإرجاعه إلى حضيرة الإمبراطوريّة الرومانيّة المتهرّئة.

فانعكس هذا التفكير على متبنّياتهم الإستراتيجيّة للمواجهة كإحدى الثوابت التي يؤمنون بها، ويعملون لتحقيقها. وقد وظّف الاستشراق في هذا السبيل لخدمة نوايا استرداد العالم الإسلامي الذي

____________________

(١) وات، مونتغمري - (فضل الإسلام على الحضارة الأوربيّة) الترجمة العربيّة: ٦٨.

(٢) الجندي، أنور - (الإسلام وحركة التأريخ): ٣٨٠.

٦٦

سيتّخذ فيما بعد أُطُراً وأشكالاً حديثة تنسجم وطبيعة مراحل الصراع، وليس من المستبعد أنْ تكون حركة الكشوف الجغرافيّة حول شواطئ العالم الإسلامي، قد جاءت بهدف السيطرة على المنطقة خدمةً للمصالح الأوربيّة الاستعماريّة، ووفق هذه الرؤية يُمكن تفسير أعمال (هنري الملاح) أو (ماركوبولو) أو (كريستوفر كولومبس)، على أنّها حلقة من حَلَقَات المؤامرة التي حُبِكت لاستعمار المشرق الإسلامي.

وممّا يؤكّد ظهور هذا التوجّه بشكلٍ واضح، ما حصل (في أواسط القرن الثامن عشر عندما أخذت أوربّا تتحفّز لاستعمار الشرق، وأخذ علماؤها يبحثون في تأليف جمعيّات لهذهِ الغاية فأُنشئت منذ ذلك العهد في أوربّا وأميركا عدّة جمعيّات للمستشرقين، وأقدمها عهداً الجمعيّة الآسيويّة في باريس التي أُسّست سنة ١٨٢٢م بمعرفة شيخ المُستشرقين من الفرنسيّين (سلفستر دي ساس)، ثمّ أُنشئت معاهد للّغات الشرقيّة في جميع الدول، تابعة لوزارة المستعمرات أو لوزارة الخارجيّة المشرفة على الشؤون السياسيّة)(١) .

إلاّ أنّ الكثير مِن المحاولات لم تحقّق غاياتها الأساسيّة (فقد أوقفتها القوّة الإسلامية العثمانيّة النامية، واستطاعت أنْ تقضي عليها)(٢) ، ولكنّ هذا القضاء كان مؤقّتا، حيثُ استأنفت من جديد مع مطلع القرن التاسع عشر الخطط الاستعماريّة الخبيثة لتحقيق ما عجزت عن تحقيقه قبل قرون، أي منذ استرداد إسبانيا من أيدي المسلمين، وقد نجحت نجاحاً كبيراً في إقامة صرح الاستشراق، وتطوير حركته بما يخدم سعيها نحو بسط سلطتها على عموم الشرق والشرق الإسلامي منه خاصّة.

____________________

(١) عبد الوهاب حمودة، من زلاّت المستشرقين، مجلّة رسالة الإسلام: ٣٣، السنة التاسعة.

(٢) الجندي، أنور - (الإسلام وحركة التأريخ): ٣٨١.

٦٧

٦٨

الفصل الثّاني

المراحل والأدوار التي مرّت بها الحركة الاستشراقيَّةُ

* المرحلة الأولى: مرحلة الانفتاح لاحتواء الحضارة الإسلاميّة.

* المرحلة الثّانية: مرحلة الفرز لاستلاب الحضارة الإسلاميّة.

* المرحلة الثّالثة: مرحلة تغريب إفرازات الحضارة الإسلاميّة المستلبة.

* المرحلة الرّابعة: مرحلة استعمار الشّرق وتطبيعه على الحضارة المغرّبة.

٦٩

٧٠

رغم أنّ مسيرة الاستشراق كحركة قد تشعبت وتطورت في مناهجها وأساليبها إلاّ أنّ دوافع التعصّب الديني والشعور بالتفوّق العرقي ظلّ هو الخيط الأحمر الذي حيكت به أبعاده الأساسيّة.

وحتّى يُمكننا الإحاطة الشاملة بخارطة هذه الأبعاد، وطبيعة الآثار والنتائج التي حقّقتها لابدّ لنا من تقسيم حركة الاستشراق إلى عدّة مراحل وادوار رئيسيّة هي:

المرحلة الأُولى

مرحلة الانفتاح لاحتواء الحضارة الإسلاميّة

ويؤرّخ لهذهِ المرحلة منذ بدايات الفتح الإسلامي لإسبانيا وتأسيس دولة الأندلس، وبحكم التعايش الذي حصل بين القوميّات المختلفة، التي كانت تحمل بصمات أفكارها، برّز الفكر الإسلامي والحضارة الإسلاميّة قوّةً مؤثّرةً وجديدةً في حياة الأندلسيّين، خصوصاً وأنّ الإسلام قد دخل عليهم بشكل مفاجئ.

من هنا بدأت مقدّمات الاستشراق وذلك بانفتاح الإسبانيّين والمُستعربين على المسلمين والفكر الإسلامي، وبشكل مُدبّر ومدروس وذو أهدافٍ ومرامٍ بعيدة المدى، وهذا

٧١

ما استقرأناه من كتب التاريخ التي تؤرّخ لتلك المرحلة(١) ، حيثُ تمّ في ذلك الوقت ترجمة أمّهات الكتب الإسلاميّة من العربيّة إلى الإسبانيّة والعبريّة واللاتينيّة، وانصبّ الجهد على هذه المترجمات لدراستها واستيعابها. وبحكم وجود اليهود وصراعهم المستمر مع المسلمين منذ العهد المدني لرسول الله (صلّى الله عليه وآله)، كان لهم القسط الأوفر في هذا الاتّجاه في سبيل خدمة مصالحهم وطمس هويّة العلوم الإسلاميّة، عن طريق نسبتها لهم وأنّها ليست من الحضارة الإسلاميّة والفكر الإسلامي في شيء، ومن هنا وضعت المخطّطات لترجمة القرآن الكريم ترجمةً اتّخذت من الإسرائيليّات والأساطير الملفّقة إطاراً مرجعيّاً لها، وامتدّت هذهِ المخطّطات لتشمل ترجمة كتب الحديث والتفسير، وكذلك دراسة اللغة العربيّة ووضع المعاجم لها.

وبهذا فقد أخذت أوربّا الظمأى تعبُّ من منهل الشرق الإسلامي، ولا ترتوي على مدى عشرة قرونٍ متعاقبة، ابتدأت من عام ٧١١م تاريخ فتح الأندلس إلى نهاية القرن السابع عشر، وما العصر الذي سمّته أوربّا عصر النهضة أو (عصر الإيديولوجيّة العقلانيّة العلمانيّة)(٢) ، إلاّ عصر امتلاء وتضخّم بطن أوربّا بعطاءات الإسلام الحضاريّة، التي تحوّلت فيما بعد إلى (نقطة حراسة أماميّة للغرب)(٣) .

ويمكن القول: إنّ بعض الباحثين قد أخطأوا في تحديد هذه المرحلة، حينما اعتقدوا بأنّ أوّل اتّصالٍ جادٍ وفاعل بين الثقافة الإسلاميّة والتلقّي الأوربّي قد حدث نتيجة للحروب الصليبيّة، التي (عيّنت (في رأيهم) في المقام الأوّل والمقام

____________________

(١) أشرنا إلى ذلك في فصل (الجذور التاريخيّة لحركة الاستشراق).

(٢) الدكتور سلمان، سمير (الجذور التكوينيّة للاستشراق في الأندلس) عن مجلّة التوحيد العدد ٣١، ص١١٣.

(٣) غابريلي، فرانشكو في (تراث الإسلام) القسم الأوّل تصنيف شاخت وبوزورت الترجمة العربيّة ص١١٠.

٧٢

الأهم موقف أوربّا من الإسلام لبضعة قرون تتلو)(١) ، واتّفقت مع بزوغ فجر المدنيّة الأوربيّة(٢) ، وقيام (عصر النهضة ذي الروح الجديدة والوعي الجديد بالعالم)(٣) .

في مقابل هذا كان المسلمون الأندلسيّون، باعتبارهم حَمَلة رسالة تدعو إلى التسامح والتقارب والتثاقف، والانفتاح الفكري والعلمي وحريّة الفكر، قد فتحوا خزائن معارفهم وعلومهم لكلّ طالبِ ثقافةٍ وعلم مهما يكن معتقده الديني وانتماؤه العرقي(٤) ، فغصّت الجامعات الإسلامية في طليطلة وقرطبة، مدينة الثلاثة آلاف والثمانمِئة والثلاثة والسبعين مسجداً(٥) ، بما يعنيه المسجد باعتباره مؤسّسة متعدّدة الاهتمامات والخدمات، وبطلاّب العلم الأوربيّين (فتلقّوا العلم مجّاناً مع تقديم الطعام والمسكن أحياناً، وهذا مثال يحمل في طيّاته أعظم مبادئ الرقيّ والتسامح والتمدّن. كما أنّ الجامعات الأوربيّة إنّما نشأت تقليداً للجامعات العربيّة في إسبانيا)(٦) .

____________________

(١) أسد، محمّد (الإسلام على مفترق طُرق) الترجمة العربيّة ص٥٥.

(٢) المصدر نفسه - ص٥٤.

(٣) إتنغهاور، ريتشارد في (تراث الإسلام) تصنيف شاخت وبوزورث - الترجمة العربيّة - ص١٣١.

(٤) بلغ شغف المُستعربين بالثقافة العربيّة الإسلاميّة حدّاً جعلهم ينسون لغتهم الأُم. فاضطرّ العرب إلى أنْ يُترجموا الإنجيل إلى اللغة العربيّة، ليتسنّى لنصارى الأندلس المُستعربين قراءته باللغة التي استهوتهم. راجع كراتشقوفسكي، اغناطيوس (دراسات في تاريخ الأدب العربي) الترجمة العربيّة. ص٥٩.

(٥) جرجي زيدان، (تاريخ التمدّن الإسلامي) م٢ ص٦٢١.

(٦) مظهر، جلال (أثر العرب في الحضارة الأوربيّة) ص١٥٨. راجع أيضاً الطويل، توفيق (في تراثنا العربي والإسلامي) ص٢١٢ - ٢١٣.

٧٣

المرحلة الثانية

مرحلة الفرز لاستلاب الحضارة الإسلاميّة

وبها يتمّ الانتقاء المدروس للعلوم والنظريّات الفكريّة، لغرض تمثّل ما يخدم النهضة الأوربيّة، وبناء ركائزها وتمهيداً لاستعمار الشرق فيما بعد. ويؤرّخ لهذهِ المرحلة بالنصف الأخير من القرن الثالث عشر الميلادي وذلك عندما استطاع، بعد عدّة إخفاقات، إقناع المجمع الكنسي العام في فيينّا عام ١٣١١م بإصدار القانون العام رقم (١١)، والذي يقضي بتدريس اللغات الشرقيّة في خمس جامعات أوربيّة، وقد صدر هذا القانون مع تحديد مدرّسين كاثوليكيّين لكلّ جامعة، ليقوما بتدريس هذه اللغات وعلى رأسها اللغة العربيّة(١) .

وفي هذهِ المرحلة بذل كبار رجال الاستشراق جهدهم من أجل استثمار الحضارة الإسلاميّة والفكر الإنساني الإسلامي، في بناء الفكر والحضارة الأوربيّة والغربيّة، وقد استخدموا الكثير من الأساليب لخدمة هذا الغرض، منها ردّ الفكر الإنساني عموماً إلى الفكر اليوناني، دون الرجوع إلى الفكر الإسلامي.

ولعلّ جذور هذهِ المرحلة يعود إلى إدراك الأوربيّين لضرورة فهم الحضارة الإسلاميّة، ودراستها للوقوف في وجهها وصدّها عن الامتداد، ولا سيّما أنّهم أحسّوا بخطر تأثير المبادئ والأفكار الحضاريّة التي أتى بها الدين الإسلامي، وأثرها على المجتمع الأوربّي آنذاك، وقد تجلّى ذلك في أقوال بعض المُستشرقين منهم(فرانز

____________________

(١) عن مجلّة رسالة الجهاد - العدد ٧٢ - السنة السابعة - ١٩٨٨م ص٢٦، عن ندوة الدين والتدافع الحضاري في محور البحث الثالث (الاستشراق كأداة مواجهة للإسلام).

٧٤

دوزنتال) حين يقول: (إنّ الهدف هو الوصول إلى فهم عميق للتفكير الديني الكلامي عند المسلمين، أملاً أنْ يصبح الأوربيّون أقدر على التعرّف على هذا التفكير، واستغلال ما كانوا يتصوّرون أنّه مَواطن الضعف فيه)(١) .

ولعلّ الإيديولوجيّة الاستعماريّة تمتد بجذورها إلى تلك المرحلة، حيثُ مُورست أبشع وسائل المصادرة والاستغنام العلميّين عن طريق فرز النظريّات الإنسانية والعلميّة التي جاء بها المسلمون، وانتحال ما يرَونه مناسباً منها، ومحاولة إبرازها على أنّها من أُمّهات الفكر الأوربّي ومن نتاجاتهم العلميّة، وكما يقول الباحث الكاتب(د. ياسين عريبي) : (إنّ بهذه المرحلة دخلت أوربّا عصر النهضة، وخرجت من العصر الوسيط المتخلّف حيث تمّ فيما بعد تعميم الدراسات الشرقيّة والإسلاميّة والتحكّم في علومها بتوظيفها في بناء الحضارة الأوربيّة)(٢) .

المرحلة الثالثة

مرحلة تغريب إفرازات الحضارة الإسلاميّة المُستلبة

في هذهِ المرحلة - التي يُمكننا أنْ نسمّيها بعصر النهضة الحقيقيّة لأوربّا - ازدهرت تجربة الاستشراق وتطوّرت وانتقلت إلى محاولة تغريب الثقافة الإسلاميّة والعربيّة، والثقافات الإنسانيّة المقرّبة والمؤسلمة، لاستثمارها من قِبَل الغرب ليُعمِّر بها أُسُس نهضته ويُشيّد مَدنيّته التي يصبو إليها، وفيها سُرِق النموذج

____________________

(١) فوك، يوهان في (المستشرقون الألمان) ص١٥.

(٢) عن مجلّة رسالة الجهاد - العدد ٧٢ - السنة السابعة ١٩٨٨ ص٢٦ عن ندوة الدين والتدافع الحضاري في محور البحث الثالث (الاستشراق كأداة مواجهة للإسلام).

٧٥

الثقافي والحضاري الإسلامي في الحريّة الفكريّة، والأخلاقيّة العلميّة والبحث النزيه والتسامح الديني، استناداً إلى منهج توحيدي إنساني، ومقارنةً بسيطةً بين الحالة الثقافيّة والحضاريّة المتخلّفة لأوربّا قبل هذهِ المرحلة، وحالتها اللاحقة تكشف عن مدى التغيير الهائل كمّيّاً وكيفيّاً في هذا الاتّجاه.

ولعلّ الإرهاصات الأوليّة لهذا التغريب بدأت في العصور الوسطى على يد البابا(سلفستر الثاني) والقدّيس(أنسلم) وغيرهما.

ومن أبرز نماذج هذا التغريب ما امتدّ إلى الفكر الفلسفي، وإلى النظريّات الكلاميّة ما ظهر على يد (ديكارت)(١) حيث حاول استيعابالنظريّة السينوية في شموليّتها، محاولاً التعتيم عليها من خلال التركيب مع المذاهب الكلاميّة دون أنْ يذكر مفكّراً إسلاميّاً على الإطلاق، ومنها قياملايبنيتز (٢) من بعده بعمليّة تركيبٍ أوسَع وأشمل ليكمل ما أهمله (ديكارت)، وهكذا من بعده أمثال: مالبرانش، وفولف، وكروزيوس...

وقد اعترف (لايبنيتز) باغترافه من معين المعرفة في الفكر الإسلامي، خاصّة علم الكلام، فإنّه أي (لايبنيتز) يصف هذا العلم بأنّه وجده كذَهبٍ مكنوز

____________________

(١) ديكارت، رينيه (١٥٩٦ - ١٦٥٠م): فيلسوف وفيزيائي ورياضي فرنسي. يُعتبر في رأي كثير من الباحثين أبا الفلسفة الحديثة ومؤسّسها، اشتهر بكتابه (مقالة في المنهج) عام ١٦٣٧م، وفيه أطرح كلّ المعتقدات السابقة ليُعاود البحث عن الحقيقة، شاكّاً في كلّ شيء إلاّ حقيقة واحدة وهي أنّه يشك، ومن هنا كلمته المشهورة: (أنا أشك فإذن أنا أفكّر. وأنا أُفكّر فإذن أنا موجود). عن موسوعة المورد المجلّد ٣، ص١٨٠.

(٢) لايبنيتز غوتفريد فيلهلم (١٦٤٦ - ١٧١٦م): رياضيّ وفيلسوف ومخترع ألماني. ولد في (لايبسيك) حاول معبوسيه دمج الكنيستين الكاثوليكيّة والبروتستانتيّة. اكتشف أُسس (التحليل الحسابي)، من أتباع الفلسفة المثاليّة وقال: إنّه لا تعارض بين الإيمان والعقل. ابتكر عام ١٦٧١م أوّل آلة حاسبة تقوم بعمليّات الجمع والضرب.

عن المنجد - في الإعلام - ص٦١٠ وكذلك موسوعة المَورِد المجلّد ٦ ص١٠٤.

٧٦

في التراب المتبربر،(١) بل إنّه لا يكتفي بوصف المسلمين بالمتوحّشين، بل يخطّط في كتب ثلاثة لاستعمار مصر ويحرّض على ذلك، وبرغم اعترافه بأنّ النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله) قد بشّر بالدين الطبيعي، فإنّه حاول النيل من الإسلام في الكثير من كتاباته.

ولا يفوتنا أنْ نسجل تحفّظنا العلمي من محاولة التغريب هذه، حيث إنّنا نرفض أنْ يكون مضمون هذا التغريب بصورته الفعليّة، هو في أصله منسوب على الحضارة والفكر الإسلامي، وذلك لِما أُحدِث فيه من تركيبٍ وخلطٍ و تغيير أفقده الكثير من حقيقته وصورته الأصليّة، ولأنّ الهدف الحقيقي مِن وراء هذا التغريب ليس هو فرز ونقل النموذج الحضاري وعلوم المسلمين إلى أوربّا فحسب، بل هو في شقّه الثاني مَحْقٌ لهويّة وعوامل القوّة والأصالة في الفكر الإسلامي ومنهجه في الحياة، ويمكننا استثناء ما يتعلّق منها بالعلوم الطبيعية (كالطب والفيزياء والكيمياء والفلك وأمثالها)، فهي غالباً ما تكون في أصولها لدى المسلمين سُرقت ونُسِبت إلى أوربّا واستثمرت مدنيّا.

المرحلة الرابعة

مرحلة استعمار الشرق وتطبيعه على الحضارة المغرّبة

في هذهِ المرحلة التي غالباً ما كانت متداخلة ومصاحبة لمراحل الاستشراق وتطوّره، عمل الاستشراق على التعاون والامتزاج مع الحركة الاستعماريّة للبلدان الإسلاميّة، وبالذات في النصف الأخير من القرن التاسع عشر والنصف

____________________

(١) نسبة إلى البرابرة، وهو اسم أطلقه اليونان ثمّ الرومان على الأجانب من الأُمم من غير اليونانيّين والرومانيّين.

٧٧

الأوّل من القرن العشرين، حيثُ تمكّن الاستعمار من تطبيع الثقافة المغرّبة وضخِّها إلى البلدان التي يُريد استعمارها، وتعميمها في كافّة مرافق الحياة بحيث تكون هذه الثقافة المغرّبة متزامنة مع نموّ المدّ الاستعماري لهذهِ البلدان، كذلك عند استقرائنا للتاريخ الحديث الذي يؤرّخ للاستعمار العسكري للبلدان الإسلاميّة، نرى أنّ كثيراً من المستشرقين كان لهم الدور الكبير في مساعدة الدول الأوربيّة المستعمرة، حتّى إنّ قسماً منهم قد عمِل في نفس وزارة المستعمرات لتلك البلدان كما أسلفنا سابقاً، وعندما كان الشرقيّون وخاصّة المسلمين منهم في تلك الفترة يشكون العزلة الفكريّة والحصار الحضاري، والافتقار إلى أبسط وسائل التعليم والانتشار الثقافي التي فرضتها حالة السلطات المتحكّمة فيهم، بعد أنْ كانوا متربّعين كأساتذة وأساطين على عرش العلم والحضارة الإنسانيّة في أنحاء المعمورة.

أخذ الأوربّي المستعمر يجهز جيشه المسلح من جهة وعلماءه ومثقفيّه من جهة أُخرى لكي يغزو العالم الإسلامي عسكريّاً وفكريّاً، وحتّى عندما انتهى عهد الاستعمار العسكري - شكلياً - بقي أثره واضحاً في استمرار الحركة الاستعماريّة الفكريّة والمنهجيّة التي غزت العالم الإسلامي متمثّلة بالنظريّات الماديّة والاتجاهات القوميّة التي صِيغت بأشكالٍ برّاقة وجذّابة اتخذت طابعاً تحرّرياً وسياسيّاً يُناغي العواطف الساذجة للمسلمين. بهذا نرى أنّ تطبيع بلاد المسلمين على التغريب كان لهُ دورٌ كبير في تأكيد التسلّط الاستعماري على الشرق، ولعلّ آثاره ونتائجه ومصاديقه واضحة وجليّة إلى يومنا هذا.

٧٨

الفصل الثّالث

المدارسُ الاستشراقيّة

* خلفيّات المستشرقين

* المدارس الاستشراقيّة.

* النّموذج: المدرسة الاستشراقيّة الفرنسيّة.

* المميّزات الأساسيّة للمدرسة الاستشراقيّة الفرنسيّة.

* نشأة المدرسة الاستشراقيّة الفرنسيّة وعوامل نموّها وتطوّرها.

* مناطق نفوذ المدرسة الاستشراقيّة الفرنسيّة.

* صِيَغ وأساليب المدرسة الاستشراقيّة الفرنسيّة وتشكيلاتها.

* أثر المدرسة الاستشراقيّة الفرنسيّة على الفكر الاستشراقي العام.

٧٩

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

وما ورد من الآيات الناهية عن الحكم بغير ما أنزل الله ووصف الحاكم بغير ما أنزل الله بالكفر والفسق والظلم(١) ومن المعلوم لزوم مكافحة الكفر والفسق والظلم وهو غير خفيّ على من له أدنى إلمام بالكتاب والسنّة.

كما أنّها مدفوعة بما صح عن النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله من الروايات الناهية عن التعاون مع الظالم وإعانته ومساعدته، منها ما ورد عن كعب بن عجرة عن النبيّ أنّه قال: « اسمعُوا سيكُونُ بعدي اُمراءُ فمن دخل عليهم فصدّقهُم بكذبهم وأعانهُم على ظُلمهم فليس منّي ولستُ منهُ وليس بوارد عليّ [ الحوض ] »(٢) .

وعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « ألا ومن علّق سوطاً بين يدي سُلطان جعل الله ذلك السّوط يوم القيامة ثُعباناً من النّار طولُهُ سبعون ذراعاً يُسلّطهُ الله عليه في نار جهنّم وبئس المصير »(٣) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً أنّه قال: « إذا كان يوم القيامة نادى مناد أين أعوانُ الظلمة ومن لاق لهُم دواة، أو ربط لهُم كيساً، أو مدّ لهُم مدّة قلم، فاحشُرُوهُم معهُم »(٤) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « من خفّ لسُلطان جائر في حاجة كان قرينهُ في النّار »(٥) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما اقترب عبد من سُلطان جائر إلّا تباعد من الله »(٦) .

وعن الإمام جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام أنّه قال: « من أحبّ بقاء الظالمين فقد أحبّ أن يُعصي الله »(٧) .

__________________

(١) المائدة: ٤٤ و ٤٥ و ٤٧.

(٢) جامع الأصول ٤: ٧٥، نقلاً عن الترمذيّ والنسائيّ.

(٣) وسائل الشيعة ١٢: ١٣٠، الباب ٤٢ من أبواب ما يكتسب به حديث ١٠.

(٤) وسائل الشيعة ١٢: ١٣٠، الباب ٤٢ من أبواب ما يكتسب به، حديث ١١.

(٥) وسائل الشيعة ١٢: ١٣٠، الباب ٤٢ من أبواب ما يكتسب به، حديث ١٤.

(٦) وسائل الشيعة ١٢: ١٣٠ حديث ١٢.

(٧) وسائل الشيعة ١٢: ١٣٤، حديث ٥.

٣٢١

وعنهعليه‌السلام أنّه قال: « من سُوّد اسمهُ في ديوان الجبّارين حشرهُ الله يوم القيامة حيراناً »(١) .

وعنهعليه‌السلام أنّه قال: « من مشى إلى ظالم ليُعينهُ وهو يعلمُ أنّهُ ظالم فقد خرج عن الإسلام »(٢) .

وعن الإمام الصادق جعفر بن محمّدعليه‌السلام أنّه قال: « ما أحبُّ أنّي عقدت لهم عقدةً أو وكيت لهم وكاء وأنّ لي ما بين لابتيها لا ولا مدّة بقلم، إنّ أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتّى يفرغ الله من الحساب »(٣) .

وغيرها من عشرات الأحاديث والروايات الواردة من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته المعصومين ممّا وردت في كتب الحديث، الناهية عن السكوت على الحاكم الجائر، والحاثّة على زجره ودفعه، والإنكار عليه بكل الوسائل الممكنة المتاحة ممّا يدلّ على أنّ الأحاديث التي تحثّ على السكوت عن الحاكم الظالم، والانصياع لحكمه والتسليم لظلمه والرضا بجوره ممّا أوعزت السلطات الحاكمة به في تلك العصور المظلمة، فلفّق البعض هذه الروايات والأحاديث ونسبوها إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو منها براء لمعارضتها الصريحة لمبادئ الكتاب والسّنة.

ولو لم يكن في المقام إلّا قول الإمام عليّعليه‌السلام في خطبته: « وما أخذ الله على العُلماء أن لا يُقارُّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم الخ »(٤) .

لكفى في وهن تلك الروايات المفتعلة على لسان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وبما أنّ هذا البحث واضح لكلّ مسلم يحمل بين جنبيه الحريّة ويفكّر في العدل الإسلاميّ طوينا البحث عن بعض ما ورد في هذا المجال.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٢: ١٣٤ حديث ٦.

(٢) وسائل الشيعة ١٢: ١٣١ حديث ١٥.

(٣) وسائل الشيعة ١٢: ١٢٩ حديث ٦.

(٤) نهج البلاغة: الخطبة ٣.

٣٢٢

٣

السلطة القضائيّة

دور القضاء والسلطة القضائيّة :

يحتلّ القضاء، وفصل الخصومات بين الناس دوراً عظيماً، ومكانة حسّاسة في أي مجتمع بشريّ، لأنّ عليه وعلى كيفيّته تتوقّف سلامة المجتمع، واستتباب الأمن، واستقرار العدل، وصيانة الحقوق والحريّات، والحرمات وبالتالي يقوم التوازن الاجتماعيّ.

إنّ القضاء مرتبط بالعدالة، فإن صلح شاعت العدالة وانتعشت، وأمن الناس على أرواحهم وأموالهم وأعراضهم، وصلح أمر الدولة، والناس جميعاً. وإن فسد القضاء اختفت العدالة وباختفائها تعم الفوضى وينتشر الفساد، ولا يأمن الناس على أنفسهم، فتضيع هيبة الدولة، ويتقلّص سلطانها، إنذاراً لها بالنزوال والاندحار.

إنّ القضاء يلعب دوراً كبيراً في تبديل الاختلاف إلى الوئام، وفي تحويل التنازع والتصارع إلى التوافق والتقارب الذي يحتاج إليه كلّ مجتمع إنسانيّ ينشد السعادة والطمأنينة والأمن.

٣٢٣

عوامل التنازع وأسبابه :

لم يزل المجتمع البشريّ ـ منذ تكوّنه وانضمام فرد إلى فرد آخر ـ تلازم حياته التشاجر والاختلاف والتنازع بين أفراده، وقد شهد بذلك التاريخ، وبرهنت عليه الوقائع المحسوسة، ثمّ إنّ هذا الاختلاف لا ينشأ ـ غالباً ـ إلّا من أمرين :

١. الحرص الشديد على جلب الأموال والمنافع والحقوق، الذي يلازم البعد عن المعنويّات والمثل الإنسانيّة، فإنّ حرص كلّ واحد من أفراد النوع الإنسانيّ على أن يجلب المنافع العاجلة العابرة لنفسه ينسيه الجوانب المعنويّة والمثل النبيلة وذلك بدوره يجرّ إلى التعدّي على مصالح الآخرين وحقوقهم ومنافعهم حيث لا إيمان يردع عن ذلك، ولا مكارم أخلاق تحدّ من تلك النزعة الجامحة.

٢. الاختلاف في تشخيص الحقّ، فربّما يتنازع فردان لا للحرص الشديد بل للاختلاف في تشخيص ( الحقّ ) فكلّ واحد منهما يعتقد ـ اعتقاداً جازماً ـ بأنّ الحقّ هو ما يراه دون غيره.

وربّما يبلغ الطرفان المختلفان المتنازعان ـ مع ذلك ـ أقصى درجات التقوى وحسن النية والفضيلة، ولكن جهلهما بالحقّ دفعهما إلى ذلك الاختلاف والتنازع، ولا ريب أنّ بقاء الاختلاف في المجتمع يشكّل خطراً كبيراً على أمنه واستقراره وسلامته ؛ إذ قد يؤدي إلى العدوان، وتأجّج نيران البغضاء والضغينة بين المتخاصمين المختلفين، وربما اُريقت ـ في هذا السبيل ـ دماء كثيرة. واُهدرت أموال طائلة، وضاعت أغراض شريفة ليس إلّا لاُمور حقيرة لا تستأهل كل تلك التبعات والعواقب. ومن أجل ذلك حثّ القرآن الكريم على سدّ باب الاختلاف وقطع دابره من الجذور وحثّ المسلمين على الإصلاح بين المتنازعين إذ قال:( وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ) ( الأنفال: ١ ).

وقال الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام نقلاً عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه كان يقول :

٣٢٤

« صلاحُ ذات البين أفضلُ من عامّة الصّلاة والصّيام »(١) .

بيد أنّ حلّ الاختلاف يتصوّر بوجوه هي :

إمّا بإخضاع القضيّة لسلاح القوّة، ومنطق الغلبة الذي عبّر عنه المثل السائر بقوله: ( الحقُ لمن غلب ) فيكون الغالب هو المحقّ ولكن هذا ممّا لا يقبله ذو وجدان سليم ولا يرضاه عقل ولا دين.

أو بإخضاع القضيّة لعامل الدعاية والتبليغ الكاذب، وإرغام الطرف الآخر على القبول بما يخالفه انخداعاً وتضليلاً، وهو كذلك أمر يرفضه الدين.

أو يترك الأمر لعامل الزمن ليتجلّى الحقّ بمرور الأيام وتوالي الشهور ومضي السنين والأعوام وهو أمر لا تحتمله الحياة الاجتماعيّة التي تتطلّب الحلول العاجلة لمشكلاتها والمعالجة السريعة لآلامها

أو يترك الأمر حتّى يتعب المتنازعان فيكفّا عن المطالبة، أو يخلّي أحدهما الآخر، ليبطل الحقّ، ويعود باطلاً، ويعود الباطل حقّاً. وهو أمر يرفضه الإسلام كذلك إذ يقول الإمام عليّعليه‌السلام : « الحقُّ القديم لا يبطله شيء ».

ولقد اتّخذ الإسلام طريقاً خامساً، وهو الذي ندبت إليه الشرائع السماويّة السابقة وتقتضيه سنّة الحياة وضرورات المجتمع ألا وهو حثّ المتنازعين على الرجوع إلى أهل الصلاح والتحاكم إليهم، والخضوع لقضائهم وحكمهم ليرتفع التنازع ويعود المتخاصمون اخوة متحابّين، ويتخلّص المجتمع من أخطار الاختلاف والتنازع. ولأجل مثل هذا الدور كانت السلطة القضائيّة الركن الثالث والأساسيّ من أركان الحكومات قديماً وحديثاً، وكان لها من الأهميّة والمكانة ما ليس لغيرها من أركان الحكومة.

ولأجل ذلك أيضاً كان للقضاء والسلطة القضائية مكانة مرموقة في النظام

__________________

(١) نهج البلاغة: ـ قسم الكتب ـ ٤٧.

٣٢٥

الإسلاميّ لم يسبق لها مثيل في العهود والأنظمة السابقة واللاحقة ؛ حيث سنّ له ولها اُصولاً وقواعد واُسساً وبرامج فريدة في نوعها، وعظيمة في محتوياتها.

فلقد وضع القرآن الكريما اُسس القضاء وشيّد الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله إركانه وبنيانه وبين خلفاؤه المعصومون تفاصيله، وجزئياته، وحدوده وأحكامه.

القضاء والحكومة لله خاصّة

ولمّا كان القضاء ملازماً للتصرّف في أموال الناس وأنفسهم وأعراضهم احتاج إلى ولاية حقيقيّة وحيث لم تكن الولاية الحقيقيّة إلّا لله تعالى خاصّة ؛ كان القضاء أحد الحقوق المختصة به سبحانه دون سواه، فلا ولاية لأحد على أحد في هذه الشؤون، ولهذا قال سبحانه:( إِنِ الحُكْمُ إلّا للهِ يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ) ( الأنعام: ٥٧ ).

وقال:( إِنِ الحُكْمُ إلّا للهِ ) ( يوسف: ٤٠ )(١) .

إلى غير ذلك من الآيات التي تحصر حقّ الحكومة ( الشاملة للقضاء وغيره ) بالله سبحانه وحده لانحصار الولاية الحقيقيّة فيه دون سواه.

وقد عهد الله سبحانه بممارسة هذا الحق إلى أنبيائه وأوصيائهم سواء أكانوا أوصياء بالاسم والشخص، أم بالرسم والوصف.

فالقضاة المنصوبون من ناحية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أو أوصيائهم قضاة منصوبون بالاسم والشخص وأمّا الذين يتعاهدون القضاء ـ زمن عدم التمكّن من الأوصياء والأئمّة ـ قضاة منصوبون بالرسم والوصف. كما نرى ذلك من رواية مقبولة لعمر بن حنظلة حيث قال الصادق الإمام جعفر بن محمّدعليه‌السلام له: « من تحاكم إليهم(٢) في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطّاغُوت، وما يحكُمُ لهُ فإنّما يأخُذُ سُحتاً وإن كان حقّاً ثابتاً لهُ ،

__________________

(١) ولم نذكر الآية المشابهة (٦٧) في تلك السورة لأنّها ناظرة إلى معنى تكوينيّ.

(٢) المراد قضاة الجور.

٣٢٦

لأنّهُ أخذهُ بحُكم الطّاغُوت وما أمر الله أن يُكفر به. قال الله تعالى:( يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ ) ( النساء: ٦٠ ) ».

ولـمـّا قال: فكيف يصنعان ؟ قالعليه‌السلام : « ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثناً ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخفّ بحكم الله، وعلينا ردّ، والرادّ علينا كالرّادّ على الله وهو على حدّ الشّرك بالله الحديث »(١) .

وما ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام نفسه برواية أبي خديجة سالم بن مكرم الجمّال أنّه قال: « إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم، فإنّي قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه »(٢) .

هذا وقد كان طبيعياً أن يحكم هؤلاء القضاة العدول ويقضوا ويفصلوا في الخصومات وفق منهج الله تعالى وتعاليمه وأحكامه في مجال القضاء، لا بما تهواه أنفسهم أو ما يشاؤه المتخاصمون المتحاكمون.

ولذلك أنزل الله الشرائع والكتب والرسالات على الأنبياء وأمرهم أن يحكموا بين الناس بما فيها من الحقّ والقسط فقال تعالى:( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) ( الحديد: ٢٥ ).

وقال سبحانه:( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا ) ( المائدة: ٤٤ ).

وقال تعالى ـ وهو يوصي داود نبيّه ـ أن يحكم بالحق:( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ (٣) بِالحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨: باب ١١ من أبواب صفات القاضي / الحديث (١).

(٢) وسائل الشيعة ١٨: باب ١ من أبواب صفات القاضي / الحديث (٥) ويقرب منه ما نقل عنه في الباب ١١ / الحديث (٦).

(٣) المراد من الحكومة أعمّ من الولاية والقضاء.

٣٢٧

يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الحِسَابِ ) ( ص: ٢٦ ).

كما أمر الله تعالى المقتفين أثر المسيح أن يحكموا بما في الانجيل إذ قال:( وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) ( المائدة: ٤٧ ).

وبيّن سبحانه أثر الحكم بما في التوراة والانجيل وثمرته بقوله:( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ) ( المائدة: ٦٦ ).

وقد أمر الله سبحانه نبيّه الأكرم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله بالقضاء بالقسط والعدل إذ قال:( وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) ( المائدة: ٤٢ ).

وقال سبحانه:( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) ( المائدة: ٤٨ ).

ولم يكتف سبحانه بذلك بل أمر الاُمّة الإسلاميّة ودعاها إلى أن تقضي بالحق والعدل والقسط إذ قال:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ) ( النساء: ٥٨ ).

وأمرها بأن لا يحملها شنآن قوم على التخلّي عن العدل، والتقاعس عن إجرائه إذ قال:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ إلّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ( المائدة: ٨ ).

بل وأمر المسلمين باتّخاذ جانب العدل ليس في مجالات القضاء وحدها بل في كلّ مجالات الحياة، حتّى في النطق والكلام إذ قال:( وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ) ( الانعام: ١٥٢ ).

وصفوة الكلام أنّ الآيات التي مرّت عليك تثبت ـ بجلاء ودون إبهام ـ أنّ

٣٢٨

القضاء حقّ خاصّ بالله سبحانه، وقد عهد به إلى الأنبياء، وأوصيائهم، ومن أقاموه لذلك المنصب، وجعل كتبه ورسالاته مناهج لهم، ليحكموا بما فيها، ويقضوا بين المتنازعين والمتخاصمين على ضوء تعاليمها وأحكامها.

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يمارس القضاء

ولقد عهد الله بالقضاء إلى النبيّ محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله فيما عهد إليه، كما عرفت ذلك من خلال الآيات التي مرّت عليك آنفاً، وقد تولّىصلى‌الله‌عليه‌وآله بنفسه حلّ الخصومات والحكم بين الناس على ضوء ما أُنزل إليه من القرآن وأحكامه، بل وعيّن ـ في زمنه ـ رجالاً صالحين للقضاء وفصل الخصومات، قال الإمام عليّعليه‌السلام : « بعثني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى اليمن قاضياً، فقُلتُ يا رسول الله: تُرسلُني وأنا حديثُ السّنّ ولا علم لي بالقضاء ؟

فقال: إنّ الله سيهدي قلبك ويُثبتُ لسانك، فإذا جلس بين يديك الخصمان، فلاتقضي حتّى تسمع من الآخر كما سمعت من الأوّل فإنّه أحرى أن يتبيّن لك القضاء.

قال: فما زلت قاضياً. ( أو ) ما شككت في قضاء بعد »(١) .

كما قد بعثصلى‌الله‌عليه‌وآله معاذاً إلى اليمن وقال له: « كيف تقضي إذا عرض لك قضاء ؟ »، قال: أقضي بكتاب الله الى آخر الحديث(٢) .

وبذلك نعلم أنّ ما كتبه بعض المتأخّرين من أنّه لم يعرف القضاء في العهد النبويّ ولا في عهد الخلفاء، بل هو شيء جديد أسّسه الأمويون في الشام، أمّا قبل ذلك فإنّ العرب كانت في خلافاتها ترجع إلى طريقة التحكيم(٣) ، فهو إمّا جهل بتاريخ الإسلام، أو افتراء واضح البطلان يقف عليه كلّ من له أقلّ إلمام بالكتاب والسنّة، وما

__________________

(١) جامع الاُصول ١: ٥٤٩، أخرجه أبو داود والترمذيّ.

(٢) جامع الاُصول ١٠: ٥٥١

(٣) النظام السياسيّ: ١٢٩، نقلاً عن كتاب عبقريّة الإسلام في اُصول الحكم.

٣٢٩

ورد فيهما من الآيات والأحاديث في مختلف أبواب القضاء بحيث يصعب لنا نقل فهرستها، فضلاً عن ذكر نصوصها(١) .

ثمّ إنّ نظرة واحدة إلى القرآن الكريم تفنّد هذا الزعم الباطل فلاحظ الآيات ٤٠ إلى ٦٠ من سورة المائدة فهي في معرض ذكر الأحكام المتعلّقة بالقضاء والفصل في الخصومات وأحكام القصص والحدود.

كيف يحقّق القضاء أهدافه ؟

إنّ أهمّ أمر في القضاء والسلطة القضائيّة هو أن تحقّق هذه السلطة غرضها وهدفها الأساسيّ في إشاعة العدل وإقامة القسط في المجتمع، بحيث يحسّ كلّ فرد من أفراد المجتمع بالأمن على نفسه وماله وعرضه في ظلّ ما توفّره السلطة القضائيّة له من عدالة شاملة لا يشوبها ظلم ولا عدوان ولا يتخلّلها حيف ولا تجاوز.

إنّ وصول السلطة القضائيّة إلى هذا الهدف الأساسيّ يتحقّق بأربعة اُمور :

١. صلاحيّة القاضي وأهليّته للقضاء.

٢. استقلاله الماليّ والسياسيّ.

٣. رعايته لآداب القضاء.

٤. أن تكون لديه برامج حقوقيّة وجزائيّة عادلة للقضاء وفقها، وهي بأجمعها متوفّرة في النظام الإسلاميّ وإليك تفصيل ذلك :

١. صلاحيّة القاضي وأهليّته للقضاء

إنّ أهمّ عامل يمكّن السلطة القضائيّة من أداء دورها الخطير في المجتمع هو

__________________

(١) وقد جمع أحمد بن حنبل في مسنده قضايا النبيّ ٥: ٣٢٦، ونقل جملة منها الجزريّ في كتابه جامع الاُصول ١٠: ٥٦٥.

٣٣٠

صلاحيّة القاضي، وتوفّر الشروط المؤهّلة للقضاء فيه.

ولقد اشترط الإسلام في القاضي شروطاً وأوصافاً لم يسبق لها مثيل في تاريخ القضاء وهذه الصفات هي :

١. البلوغ.

٢. العقل.

٣. الإيمان.

٤. العدالة.

٥. طهارة المولد.

٦. العلم بالقانون.

٧. الذكورة.

٨. أن يكون ظابطاً سليم الذاكرة فلو غلب عليه النسيان لم يجز نصبه للقضاء(١) .

ولقد شدّد الإسلام على خطورة منصب القضاء، وجسامة مسؤوليّة القاضي ومقامه فقد ورد عن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « القضاة ثلاثة: واحد في الجنّة واثنان في النّار

فأمّا الذّي في الجنّة فرجل عرف الحقّ وقضى به.

ورجل عرف الحقّ فجار في الحكم فهو في النّار.

ورجل قضى للنّاس على جهله فهو في النّار »(٢) .

ورفع إلى أبي عبد الله الإمام الصادقعليه‌السلام قوله: « القضاة أربعة، ثلاثة في النّار وواحد في الجنّة :

رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النّار.

__________________

(١) راجع شرائع الإسلام للمحقّق الحليّ كتاب القضاء في الصفات.

(٢) جامع الاُصول ١٠: ٥٤٥ نقلاً عن أبي داود.

٣٣١

ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النّار.

ورجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم فهو في النّار.

ورجل قضى بالحقّ وهو يعلم فهو في الجنّة »(١) .

وقال الإمام عليّعليه‌السلام عن من يتصدّى لمقام القضاء وليس له أهل: « ورجل قمش جهلاً، موضع في جهال الاُمّة، غار في أغباش الفتنة، عمّ بما في عقد الهدنة، قد سمّاه أشباه النّاس عالماً وليس به، بكر فاستكثر من جمع ما قلّ منه خير ممّا كثر جلس بين النّاس قاضياً ضامناً لتخليص ما التبس على غيره فإن نزلت به إحدى المبهمات هيّأ لها حشواً رثّاً من رأيه ثمّ قطع به فهو من لبس الشُّبهات في مثل نسج العنكبوت لا يدري أصاب أم أخطأ »(٢) .

وقال الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام مشيراً إلى حراجة موقف القاضي، وصعوبة إجراء الحق والعدل الذي هو هدف القضاء الإساسيّ: « الحقُّ أوسع الأشياء في التّواصف وأضيقها في التناصف »(٣) .

إنّ القضاء ليس شيئاً بسيطاً عادياً بل هو أمر مهمّ حتّى في أبسط الأشياء فقد روي أنّ صبيّين تحاكما إلى الإمام الحسن بن عليّعليه‌السلام في خطّ كتباه وحكّماه في ذلك ليحكم أي الخطّين أجود فبصر به عليّعليه‌السلام فقال: « يا بنيّ انظر كيف تحكم فإنّ هذا حكم، والله سائلك عنه يوم القيامة »(٤) .

وقد وقع نظير هذه القضية للإمام عليّعليه‌السلام نفسه فقد روى الإمام أبو عبد الله الصادقعليه‌السلام أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام ألقى صبيان الكتاب ألواحهم بين يديه ليخيّر بينهم فقال: « أما إنّها حكومة والجور فيها كالجور في الحكم، أبلغوا معلّمكم إن ضربكم فوق ثلاث ضربات في الأدب اقتصّ منه »(٥) .

__________________

(١ و ٥) وسائل الشيعة ١٨: ١١ و ٥٨٢.

(٢ و ٣) نهج البلاغة: الخطبة ١٧، ٢١٦.

(٤) مجمع البيان٣: ٦٤ في تفسير قوله:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ ) .

٣٣٢

ولذلك قال النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « لسانُ القاضي بين جمرتين من نار حتّى يقضي بين الناس فإمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النّار »(١) .

كما لذلك أيضاً اشترط الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام على القاضي شُريح أن لا ينفذ قضاء حتّى يعرضه عليه قال الإمام الصادقعليه‌السلام : « لـمّا ولّى أمير المؤمنينعليه‌السلام شريحاً القضاء اشترط عليه أن لا يُنفذ القضاء حتّى يعرضهُ عليه »(٢) .

ومن هنا أكد الإمام عليّعليه‌السلام على الأشتر واليه على مصر، في عهده المعروف، أن يختار من يريدهم لمنصب القضاء، اختياراً دقيقاً بقوله: « ثمّ اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك في نفسك ممّن لا تضيق به الاُمور، ولا تمحكه الخصوم ولا يتمادى في الزّلّة ولا يحصر من الفيء إلى الحقّ إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، وأوقفهم في الشّبهات، وآخذهم بالحجج وأقلّهم تبرُّماً بمراجعة الخصم وأصبرهم على تكشّف الاُمور، وأصرمهم عند اتّضاح الحكم، ممّن لا يزدهيه إطراء، ولا يستميله إغراء، واُولئك قليل، ثمّ أكثر تعاهد قضائه »(٣) .

ولخطورة مقام القضاء لا يجوز إلّا للنبيّ أو وصيّه، كما قال الإمام عليّعليه‌السلام لشريح: « يا شريح قد جلست مجلساً لا يجلسه ( ما جلسه ) إلّا نبيّ أو وصيّ نبيّ، أو شقيّ »(٤) .

وورد عن الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام قوله: « اتّقوا الحُكومة ( أي القضاء ) إنّما هي للإمام العادل العالم بالقضاء العادل في المسلمين لنبيٍّ ( كنبيّ ) أو وصيّ(٥) نبيّ »(٦) .

* * *

٢. إستقلال القاضي الماليّ والسياسيّ

إنّ القاضي بما أنّه يتحمّل مسؤوليّة كبيرة وخطيرة لا مشابه لها بين أقرانها من

__________________

(١ و ٢ و ٤) وسائل الشيعة ١٨: ١١، ٦، ٧.

(٣) نهج البلاغة: قسم الكتب ٥٣.

(٥) المراد بالوصيّ هو الأعم من الوصيّ المنصوص عليه بالاسم فيشمل المنصوص عليه بالوصف، أي الذي جمع صفات القاضي المعتبرة في الإسلام.

(٦) وسائل الشيعة ١٨: ٧.

٣٣٣

المسؤوليّات والمناصب الاُخرى، يجب أن يكون مستقلاًّ في عمله غاية الاستقلال، لكي لا يخضع لما يميل به عن العمل بمسؤوليّته ويقتضي ذلك أن يكون مستقلاًّ في اقتصاده عن الآخرين كيلا يقع فريسة الأطماع، ولقد أدرك الإسلام هذه الناحية الحسّاسة فأمر الحكومة الإسلاميّة بالإغداق على القاضي إغداقاً يقطع طمعه عمّا في أيدي الآخرين، يقول الإمام عليّعليه‌السلام في عهده للأشتر النخعيّ في هذا الصدد: « وافسح لهُ ( أي للقاضي ) في البذل ما يزيل علّته، وتقلُّ معه حاجته إلى الناس »(١) .

ولكنّ هذا الاستقلال لا يكفي إذا لم ينضمّ إليه استقلال القاضي من أي تأثير خارجيّ سياسيّ عليه، ومن أيّة تدخّلات صادرة عن السلطات الاُخرى في عمله القضائي فإنّ القاضي يجب أن يُترك وشأنه حتّى يستجلّي الحقّ بنفسه دون مؤثرات خارجيّة ولا تدخلات في عمله ولذلك قال الإمام عليّعليه‌السلام في عهده للأشتر النخعيّ، في هذا الصدد: « واعطه من المنزلة لديك ملا يطمعُ فيه غيرهُ من خاصّتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال لهُ عندك فانظر في ذلك نظراً بليغاً »(٢) .

والمقصود هو أن يكون للقاضي موضعاً غير متأثّر بأحد ليقضي بالحقّ، ويفصل في الخصومات، ويصدر الأحكام غير متهيّب ولا متأثّر وهذا هو ما يصطلح عليه السياسيّون اليوم باستقلال السلطة القضائيّة، وتفكيكها عن بقية السلطات.

ولقد نبّه إلى هذا فقهاؤنا العظام استلهاماً ممّا لديهم من تعاليم الشريعة المقدّسة في هذا المجال، قال المحقّق النائينيّ ( المتوفّى عام ١٣٥٥ ه‍ ) :

( إنّ ولاية الحاكم ترجع إلى قسمين: الأوّل الاُمور السياسيّة، التي ترجع إلى نظم البلاد وانتظام اُمور العباد، والثاني الإفتاء والقضاء، وكان هذان المنصبان في عصر النبيّ والأميرعليه‌السلام بل في عصر الخلفاء الثلاثة لطائفتين وفي كل بلد أو صقع كان الوالي غير القاضي فصنف كان منصوباً لخصوص القضاء والإفتاء وصنف كان منصوباً لإجراء الحدود ونظم البلاد والنظر في مصالح المسلمين، نعم اتّفق إعطاء كلتا الوظيفتين

__________________

(١) نهج البلاغة: قسم الكتب الرقم ٥٣.

(٢) نهج البلاغة: قسم الكتب الرقم ٥٣.

٣٣٤

لشخص واحد لأهليّته لهما إلّا أنّ الغالب اختلاف الوالي والقاضي )(١) .

ولقد أعطى الإمام عليّعليه‌السلام وهو إمام المسلمين على الإطلاق، والحاكم الأعلى للاُمّة الإسلاميّة مثلاً عمليّاً على هذا الاستقلال القضائيّ السياسيّ حيث مكّن القاضيّ ـ بفضل هذا السلوك الإسلاميّ ـ من محاكمة حاكم المسلمين وأحد رعاياه في محكمة واحدة وذلك في قضيّة اليهودي مع الإمام عليّعليه‌السلام :

فقد نقل المؤرّخون أنّهعليه‌السلام لـمّا وجد درعه عند يهودي من عامّة الناس فأقبل به إلى أحد القضاة وهو شريح ليخاصمه ويقاضيه، ولـمّا كان الرجلان أمام القاضي قال عليّ: « إنّها درعي ولم أبع ولم أهب ». فسأل القاضي الرجل اليهوديّ ما تقول ؟ فقال اليهوديّ: ما الدرع إلّا درعي، وما أمير المؤمنين عندي بكاذب وهنا التفت القاضي شريح إلى عليّ يسأله: هل من بيّنة تشهد أنّ هذه الدرع لك ؟ فضحك عليّ وقال « مالي بيّنة » فقضى شريح بالدرع لليهوديّ، فأخذها ومشى وأمير المؤمنين ينظر إليه ! إلّا أنّ الرجل لم يخط خطوات قلائل حتّى عاد يقول :

إمّا أنا فأشهد أنّ هذا أحكام أنبياء، أمير المؤمنين يدينني إلى قاض يقضي عليه ثمّ قال: الدرع والله درعك يا أمير المؤمنين وقد كنت كاذباً فيما ادّعيت(٢) .

* * *

٣. رعاية آداب القضاء وكيفيّته

إنّ الإسلام لم يكتف بالتشديد على أهميّة القضاء، واعتبار صفات معيّنة في القاضي، بل سنّ للعمل القضائيّ آداباً وسنناً أكّد على القاضي الأخذ بها في قضائه ليسلم من شوائب الظلم والحيف، ويكون أقرب إلى الإنصاف والحقّ والعدل، وقد لخّص فقهاؤنا هذه الآداب التي ذكرتها الأحاديث المتواترة، في كتبهم الفقهيّة نشير إليها.

__________________

(١) راجع منية الطالب ١: ٣٢٥.

(٢) بحار الأنوار ٤١: ٥٦، عليّ وحقوق الإنسان: ٨٧، ٨٨ لجورج جرداق مع اختلاف يسير.

٣٣٥

قال المحقّق في شرائع الإسلام كتاب القضاء :

في الآداب [ أي آداب القضاء ] وهي قسمان مستحبّة ومكروهة، فالمستحبّة :

١. أن يطلب من أهل ولايته من يسأله عمّا يحتاج إليه في اُمور بلده.

٢. أن يسكن عند وصوله في وسط البلد لترد الخصوم عليّه وروداً متساوياً.

٣. أن يجلس للقضاء في موضع بارز مثل رحبة أو فضاء ليسهل الوصول إليه.

٤. أن يحضر من أهل العلم من يشهد حكمه فإن أخطأ نهوه لأنّ المصيب عندنا واحد ويخاوضهم [ أي يطرح عليهم القضايا ويتبادل معهم الرأي ] فيما يستبهم من المسائل النظريّة لتقع الفتوى مقرّرة، ولو أخطأ فأتلف لم يضمن وكان على بيت المال.

٥. وإذا تعدّى أحد الغريمين سنن الشرع عرّفه خطأه بالرفق.

والآداب المكروهة :

١. أن يتخذ حاجباً وقت القضاء.

٢. أن يقضي وهو غضبان.

٣. وكذا يكره مع كلّ وصف يساوي الغضب في شغل النفس كالجوع والعطش والغمّ والفرح والوجع، ومدافعة الأخبثين، وغلبة النعاس

٤. أن يستعمل الانقباض [ والتقطيب في الوجه ] المانع من الإعلان عن الحجّة، وكذا يكره إظهار اللين الذي لا يؤمن معه من جرأة الخصوم.

ثمّ ذكر مسائل من شأنها حصول الدقة في العمل القضائيّ كقوله :

إذا أفتقر الحاكم إلى مترجم لم يقبل إلّا شاهدان عدلان ولا يقتنع بالواحد عملاً بالمتّفق عليه.

وإذا اتخذ القاضي كاتباً وجب أن يكون بالغاً عاقلاً مسلماً عدلاً بصيراً ليؤمن انخداعه، وإن كان فقيهاً كان حسناً.

٣٣٦

ويكره للحاكم أن يعنّت الشهود إذا كانوا من ذوي البصائر والأديان القويمة ؛ مثل أن يفرق بينهم لأنّ في ذلك غضّاً منهم، ويستحب ذلك في وضع الريبة.

ولا يجوز للحاكم أن يتعتع الشاهد وهو أن يداخله في التلفّظ بالشهادة أو يتعقّبه بل يكفّ عنه حتّى ينهي ما عنده.

ويكره أن يضيف القاضي أحد الخصمين دون صاحبه، لأنّ ذلك يكسب الخصم الضيف شيئاً من القوة.

ثمّ قال عن الرشوة: الرشوة حرام على آخذها، ويأثم الدافع إن توصّل بها إلى الحكم له بالباطل، ولو كان إلى حقّ لم يأثم ويجب على المرتشي إعادة الرشوة إلى صاحبها ولو تلفت قبل وصولها إليه ضمنها له.

ثمّ ذكر المحقّق الحليّ اُموراً في وظائف القاضي فقال: في وظائف القاضي وهي سبع :

الاُولى: التسوية بين الخصمين في السلام والجلوس والنظر والكلام والإنصات والعدل في الحكم.

الثانية: لا يجوز أن يلقّن أحد الخصمين ما فيه ضرر على خصمه.

الثالثة: يكره أن يواجه بالخطاب أحدهما لما يتضمّن من إيحاش الآخر.

الرابعة: إذا ترافع الخصمان وكان الحكم واضحاً لزمه القضاء، ويستحبّ ترغيبهما في الصلح، فإن أبيا حكم بينهما وإن أشكل أخّر الحكم حتّى يتّضح ولا حدّ للتأخير إلّا الوضوح.

الخامسة: إذا ورد الخصوم [ في المحكمة ] مترتّبين بدأ بالأوّل فالأوّل فإن وردوا جميعاً قيل يقرع بينهم.

السادسة: إذا قطع المدّعى عليه دعوى المدّعي بدعوى، لم تسمع حتّى يجيب عن الدعوى وينهي الحكومة ثمّ يستأنف هو.

٣٣٧

السابعة: إذا بدر أحد الخصمين بالدعوى فهو أولى.

وهناك اُمور ذكرها على صعيد عمل القاضي جديرة بالمطالعة نترك ذكرها رعاية للإختصار.

وما ذكره هذا المحقّق وغيره من الفقهاء في آداب القضاء ووظائف القاضي ؛ خلاصة نصوص صريحة وردت في هذه المجالات عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته وقد اكتفينا بنقل ما ذكره الفقهاء في كتبهم تاركين نقل النصوص رعاية للإيجاز لكنّنا تيمّناً نذكر بعض هذه الأحاديث :

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « من ابتُلي بالقضاء فلا يقضي وهو غضبان »(١) .

وقال أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام لشريح: « لا تُشاور [ أو لا تسار ] أحداً في مجلسك، وإن غضبت فقم ولا تقضينّ وأنت غضبان »(٢) .

وقالعليه‌السلام : « من ابتلي بالقضاء فليواس بينهم في الإشارة وفي النّظر وفي المجلس »(٣) .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأوّل حتّى تسمع من الآخر فإنّك إذا فعلت ذلك تبيّن لك القضاء »(٤) .

وعن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال: « الرشا في الحكم هو الكفر بالله »(٥) .

إلى غير ذلك من الأحاديث المتواترة على هذا الصعيد.

* * *

٤. وجود البرامج الحقوقيّة والجزائيّة الصالحة

إنّ الأمر الرابع الذي يمكّن السلطة القضائيّة من أداء دورها الحسّاس والخطير في المجتمع هو وجود البرامج الحقوقيّة والجزائيّة الصالحة للقضاء لكي يقضي القاضي

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨: ١٥٦ ومثله في جامع الاُصول ١٠: ٥٤٩.

(٢ و ٣ و ٤ و ٥) الوسائل ١٨: أبواب آداب القضاء.

٣٣٨

وفقها.

وقد وفّر الإسلام هذه البرامج والقوانين العادلة الصالحة للقاضي وذلك بالتعاليم التي زخر بها الكتاب والسنّة وسيرة الأئمّة الطاهرين، ودوّنها الفقهاء في كتبهم الفقهيّة المفصّلة بدقّة وعناية وتفصيل. فإنّ القاضي يجد في هذه المصادر والبرامج أدقّ الحقوق والحدود وأعدلها، ولو أخذ العالم في مجال القضاء بهذه البرامج والحقوق والحدود لعمّت العدالة كلّ أرجاء الأرض، ولساد السلام والأمن ولاختفى الظلم والجور والشر.

ولقد أكّد الإسلام على القضاة أن يقضوا على ضوء الكتاب والسنّة، وحرّم عليهم القضاء وفق أهوائهم وآرائهم الخاصّة.

هذا كلّه بالنسبة إلى البرامج الكليّة في صعيد العمل القضائيّ.

وأمّا تمييز الحق عن الباطل والمحق عن المبطل والمظلوم عن الظالم ومن له الحقّ ومن عليه، فقد اعتمد الإسلام في تشخيصه وتمييزه على أوثق السبل وأكثر الوسائل اطمئناناً، وهو الاستشهاد بالبيّنات والأيمان فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّما أقضي بينكُم بالبّينات والأيمان »(١) .

نعم إنّ الاعتماد على هذا الأصل في إثبات الحقّ لا يمنع عن الاعتماد على غيرهما ممّا يفيد للقاضي علماً عاديّاً، ولأجل ذلمك قال الفقهاء: ويجوز للقاضي العمل بعلمه.

قال صاحب شرائع الإسلام: « الإمامعليه‌السلام يقضي بعلمه مطلقاً، وغيره من القضاة يقضي بعلمه في حقوق الناس وفي حقوق الله سبحانه على قولين أصحّهما القضاء »(٢) .

الشهادة والشهود

ولقد اشترط الإسلام في الشهود شروطاً من شأنها أن تمنعهم من شهادة الزور

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨: أبواب كيفيّة الحكم، الإيمان جمع اليمين أي الحلف والقسم.

(٢) شرائع الإسلام في آداب القضاء.

٣٣٩

والإدلاء بما هو باطل وهذه هي الشروط :

١. البلوغ.

٢. كمال العقل.

٣. الإيمان.

٤. العدالة.

٥. إرتفاع التهمة فلا تقبل شهادة من يجرّ بشهادته نفعاً لنفسه.

وإليك نبذة عن الأحاديث في أهميّة وخطورة الشهادة وشروط الشاهد، فقد روي حول أهميّة الشهادة وخطورتها وعظيم مسؤوليّتها أحاديث تفوق الحصر وكلّها تشدّد على أمر الشهادة بالإجماع، ومن ذلك ما عن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ قال :

« من كتم شهادةً، أو شهد بها ليهدر بها دم امرئ مسلم أو ليزوي بها مال امرئ مسلم أتى يوم القيامة ولوجهه ظلمة مدّ البصر، وفي وجهه كدوح تعرفه الخلائق باسمه ونسبه.

ومن شهد شهادةً حقّ ليحيي بها حقّ امرئ مسلم أتى يوم القيامة ولوجهه نور مدّ البصر تعرفه الخلائق باسمه ونسبه »(١) .

ثمّ قال أبو جعفر الباقرعليه‌السلام : « ألا ترى أنّ الله عزّ وجلّ يقولُ:( وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ للهِ ) »(٢) .

وما روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام : « شاهد الزور لا تزولُ قدماهُ حتّى تجبُ لهُ النّارُ »(٣) .

وما روي عن النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « من شهد شهادة زُور على أحد من النّاس عُلّق بلسانه مع المنافقين في الدّرك الأسفل من النّار، ومن حبس عن أخيه المسلم شيئاً من

__________________

(١ و ٢ و ٣) وسائل الشيعة ١٨: أبواب الشهادات.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376