كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين0%

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 376

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين

مؤلف: الشيخ فؤاد كاظم المقدادي
تصنيف:

الصفحات: 376
المشاهدات: 123304
تحميل: 7759

توضيحات:

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 376 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 123304 / تحميل: 7759
الحجم الحجم الحجم
كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين

مؤلف:
العربية

وحالفوهم وتغلغلوا في قنواتهم الثقافيّة والاقتصاديّة، ولم يكن موقف اليهود هذا حبّاً للإسلام وحرصاً على المسلمين، وإنّما كان استراتيجيّة جديدة تؤهّلهم لتغيير مسار الأحداث لصالحهم، وهذا هو ديدنهم أينما وُجدوا، فبالرغم من القضاء المبكّر عليهم أيّام الدولة الإسلاميّة الأُولى على عهد الرسول (صلّى الله عليه وآله)، فإنّهم استطاعوا الظهور ثانيةً في أدوار مختلفة استهدفت هدْم الإسلام من داخله، حتّى أنّ بعضهم اعتنق الإسلام نفاقاً من أجل ذلك.

وعندما رأى اليهود أنّ موازين القُوى في الأندلس اختلّت لمصلحة المُستعربين ونصارى الشمال وحلفائهم الأوربّيّين، ومع بداية أُفول نجم الدولة الإسلاميّة ظهروا بصورتهم الحقيقيّة وكشروا عن أنيابهم، وبدت نواياهم السيّئة، فنقلوا ولاءهم إلى إسبانيا المسيحيّة، ونزحوا إلى المناطق الإسبانيّة المستردّة من سيطرة الدولة الإسلاميّة.

ملتحقين بمن سبقهم من إخوانهم الذين كانوا قد باشروا - بإغراء وتشجيع من أعيان الكنيسة - العمل في ترجمة التراث الثقافي الإسلامي، على نطاقٍ واسع خدمةً للمشروع الكاثوليكي الأوربّي، الذي نجح في مناغمة الهويّة العنصريّة الإسبانيّة بالمشاعر الدينيّة المتطرّفة لمقاومة أعداء المسيحيّة.

فكان اليهود أكفأ المُساهمين وأنشطهم لما ملكوا من (مشاركة في التراث العربي الإسلامي، استلهاماً واقتباساً ومحاكاةً ومنافسةً)(١) . إضافةً إلى إتقانهم للغاتٍ عدّة بحكم كثرة تنقّلهم، وتبدّل مواطنهم، وتوزّعهم الديمغرافي، ممّا أهّلهم للقيام بدورٍ أساسي، في حركة الترجمة والنقل عن العربيّة إلى العبريّة، وعنهما إلى اللاتينيّة.

____________________

(١) أسد، محمّد - (الإسلام على مفترق الطرق). الترجمة العربيّة: ١٥٦.

٦١

ولعلّه من غير المبالغة القول: إنّ اليهود هُم (المستشرقون) و(المُستعربون) التاريخيّون أينما حلّوا.

ومِن هذا يُمكن أنْ نفسّر تغلغل الإسرائيليّات ودخولها ضمن تراثنا الفكري الإسلامي، وأثرها في تفسير القرآن، وما خلّفته من موروثات ثقافيّة دينيّة محرّفة، ساهمت في إبعاد المسلمين عن الفهم الصحيح للقرآن والسنّة النبويّة، وبهذا كان لهم الدور المؤثّر في انحراف المجتمع الإسلامي في الأندلس عن مساره، وذلك من خلال ما ابتدعوه من فِرَقٍ هدّامة تنتهي بجذورها إلى لونٍ مِن ألوان العمل الثقافي اليهودي.

إنّ الانتماءات القوميّة المختلفة التي كانت قد شكّلت الهيكل العام للمجتمع الإسلامي في الأندلس، لم تكن سدّاً أمام حصول التداخل الاجتماعي والالتقاط الثقافي بين تلك القوميّات، وهذا التداخل والالتقاط أفرز حالةً جديدةً مِن أبرز سِماتها تبلور أفكار وعقائد وإيديولوجيّات مختلفة.

وعلى هذا فقد أصبحت الأندلس ولأوّل مرّة في التأريخ حالةً حضاريّةً فريدةً من نوعها بين الشرق والغرب، حيث إنّ التناقضات الدينيّة والفكريّة والسياسيّة جعلتها أرضاً خصبةً، لولادة ثقافة أوربيّة حديثة كانت نواتها الطرح الإسلامي الجديد الوافد من الشرق، لكنّها رفضته ديناً وعقيدة لها من خلال رفضها لمظهره المتمثّل بالمسلمين، إلاّ أنّها عملت على تمثّل ثقافتهم وعلومهم للالتفات عليهم، والسعي إلى إحباط الجهود الحضاريّة والفكريّة والعلميّة لهم.

في هذا المناخ المركّب الذي تحالفت فيه قُوى وإمكانات الكنيسة الكاثوليكية والإسبان المهاجرين من الأندلس الإسلاميّة والمُستعربين، بتسهيل من الجهود الثقافيّة لليهود لاحقاً، وعلى أساس مشروع استرداد إسبانيا للنصرانيّة الأوربيّة نمت (قابليّة الوجود) الاستشراقي بِدءاً بالأندلس، ثمّ تطوّرت بلبوس متنوّع، إلاّ أنّ هذه القابليّة اقتصرت في أوّليّاتها على الاتّصال والتعرّف

٦٢

والاطلاع والتعايش الفاعل مع الفاتحين. وبشكل إقبالٍ مشوبٍ بالحذر على تعلّم اللغة العربيّة وعلومها.

وعليه فمن المُستبعد تصديق زعم البعض من أنّ (الاستشراق قد نشأ حقّاً في منتصف القرن الثامن الميلادي في الأندلس)(١) ، إذ إنّ المسلمين الذي لم يكن قد مضى على دخولهم (أيبيريا) أكثر من أربعين سنة، وهُم في غالبيّتهم من العسكر البربري، لم يكونوا بعد متهيّئين لعرض أفكارهم وثقافتهم المدوّنة على أهل البلاد المفتوحة؛ لأنّ دَورهم قد اتّخذ منحىً عسكريّاً في المرحلة الأُولى من استقرارهم في الأندلس.

أمّا دورهم كروّاد ثقافة وحَمَلة فكر، فأغلب الظن أنّه تأخّر عن منتصف القرن الثامن نصف قرن على الأقل؛ لأنّ المرحلة تستدعي بالضرورة مدىً زمنيّاً كافياً ليتسنّى لهم إتمام عمليّة الاستيطان والاستقرار في عالمهم الجديد، قبل طرح أنفسهم على أنّهم دعاةُ ثقافةٍ وفكرٍ وحضارة.

وعليه فلا يُمكننا الحديث عن حالةٍ ثقافيّةٍ مزدهرة وحقيقيّة في الأندلس إلاّ مع (بداية (الإسلاميّة) في المشرق والمعاصرة للعباسيّين)(٢) في عهد الحكم الأوّل (٧٩٦ - ٨٢٢م)، حفيد عبد الرحمان الداخل، وعهد عبد الرحمان الداخل، وعهد عبد الرحمان الأوسط (٨٢٢ - ٨٥٢م) ابن الحكم الأوّل، فليس من المُمكن - منطقيّاً - أنْ تنتقل إلى المُستعربين وغيرهم من العناصر المكوّنة للمجتمع الأندلسي حالةٌ ثقافيّةٌ لم تكن متيّسرة أصلاً للعرب والمسلمين الأندلسيّين الآخرين أنفسهم. وهُم لا يزالون منهمكين في تأسيس دولتهم وتحصينها والتأقلم مع خصوصيّات الوطن الجديد.

ففي تلك الفترة التي أشرنا إليها بدأ البحث التأريخي يكتشف وجود

____________________

(١) سمايلوفتش، أحمد - (فلسفة الاستشراق وأثرها في الأدب العربي المعاصر): ٦٧.

(٢) فيرينيه، جوان - (تراث الإسلام) القسم الثالث، الترجمة العربيّة: ١٦٩.

٦٣

مُدَوّنات إسبانيّة محمّلة بتأثيرات عربيّة واضحة في مضمونها، ممّا يثبت أنّ مؤلّفيها قد أخذوا مادّتهم التاريخيّة من مصادر عربيّة. ومن تلك المدوّنات( مخطوطات مختلفة وُجِدت في (أُوبيط) وهي محفوظة في مكتبة الاسكوريال، وقد احتفظ بها القدّيس (أولوجيوس) القرطبي (توفّي سنة ٨٥٩م) ونُقِلت إلى (أوبيط) عام ٨٨٤م)(١) .

إنّ حركة الترجمة من العربيّة إلى اللاتينيّة وغيرها مِن الأنشطة الثقافيّة والعلميّة، كالاقتباس والنقل والاستنباط والاستيحاء من قِبل المُستعربين والأوربّيّين، وإنْ كانت لأغراض عقائديّة كما أشرنا، إلاّ أنّها لم تتحوّل إلى حالة ثقافيّة شاملة إلاّ في القرن التاسع الميلادي، بعد أنْ خَبَر النصارى الإسبان عُمق الثقافة الإسلاميّة وتعرّفوا عليها، أي بعد مرور مِئة سنة ونيف على انتهاء عمليّات الفتح الإسلامي للأندلس.

وبعد اكتمال شروط التفاعل والتمازج بين شرائح المجتمع الأندلسي المختلفة، وبالتالي بروز مشروعَين متقابلين كانا يمثّلان طرفَي الصراع: أحدهما يؤكّد على استعادة مجد المسيحيّة بكلّ توجّهاته، الإيديولوجيّة والسياسيّة والثقافيّة والعسكريّة، والانتقام من المسلمين، والعمل على عودة إسبانيا إلى الحضيرة الأوربيّة المسيحيّة.

والآخر كان يؤكّد على إشاعة روح التغيير في البلاد، والتشبّث لتعميق الروح الإسلاميّة مستفيداً من عظيم تراثه، ومتانة فكره وثقافته، وأصالة حضارته القائمة على العدل والتوازن.

هكذا نشأ الاستشراق وانتقل مروراً بالاستعراب من طور القابليّة، إلى طور التحقّق الفعلي كحالة ثقافيّة ليبدأ بالتكرّس والتحوّل إلى مؤسّسة وصرحٍ وفق خططٍ وأهدافٍ إستراتيجيّة. وابتدأ من القرن العاشر الميلادي يوم غدت

____________________

(١) المصدر السابق: ١٦٩.

٦٤

الأندلس مركزاً لانتقال الازدهار الحضاري الإسلامي والإنساني على قلب أوربّا، فكانت إسبانيا والإسبانيّون الأكثر انفعالاً وتأثّراً بالحضارة الإسلاميّة؛ لأنّ الإسلام عاش بين ظهرانيهم ثمانية قرون، وانتشر منهم إلى بقيّة المناطق الأوربيّة شمال أيبيريا. وبالرغم من أنّ أغلب النظريّات الاستشراقيّة العامّة وتطوّراتها التاريخيّة قد وقعت خارج إسبانيا، إلاّ أنّ أغلب أُطروحات الأوربّيين ومعلوماتهم وأخبارهم عن الإسلام والمسلمين، كانت محاكاةً للظروف والتناقضات السياسيّة والاجتماعيّة والعقائديّة، التي عاشها المسلمون في الأندلس، وموسومة بالصبغة الأندلسيّة من حيث النشأة والتوجّه والحركة.

٦٥

بروز نظريّات الاستشراق الاستعماري

إنّ تجربة الأندلس وما تمخّضت عنه من أحداث وتغيّرات تركت آثارها على المجتمع الأوربّي، قد أفرزت إحساساً لدى الأوربيّين بالخطر الداهم الذي ينتظرهم، ومِن ورائه الضعف والخواء الذي يكتنف ثقافتهم وأُصولهم الفكريّة، وبالتالي انهيار بنائهم الحضاري المُتهافت، ممّا دعاهم - بردودِ فعلٍ شديدة - للتصدّي بمختلف الوسائل وبشكلٍ مدروس ومنظم للحيلولة دون اتّساع دائرة التأثر بإشعاعات المدّ الإسلامي الذي غمر إسبانيا. وقد شجّعهم على ذلك دافع ذو بعدٍ ديني وهو أنّهم (مسيحيّون ياهدون ضدّ أعداء المسيحيّة)(١) .

وعلى هذا كان الاستشراق أحد ردود الفعل، ولعلّه الأبرز في معادلة الصراع الحضاري بأشكاله الدينيّة والسياسيّة والفكريّة، ولا سيّما أنّ الغرب والأوربيّين بشكلٍ خاص ينظرون آنذاك، إلى كون المشرق الإسلامي (ملكاً للإمبراطوريّة الرومانيّة)(٢) يجب استرداده من أيدي المسلمين، وإرجاعه إلى حضيرة الإمبراطوريّة الرومانيّة المتهرّئة.

فانعكس هذا التفكير على متبنّياتهم الإستراتيجيّة للمواجهة كإحدى الثوابت التي يؤمنون بها، ويعملون لتحقيقها. وقد وظّف الاستشراق في هذا السبيل لخدمة نوايا استرداد العالم الإسلامي الذي

____________________

(١) وات، مونتغمري - (فضل الإسلام على الحضارة الأوربيّة) الترجمة العربيّة: ٦٨.

(٢) الجندي، أنور - (الإسلام وحركة التأريخ): ٣٨٠.

٦٦

سيتّخذ فيما بعد أُطُراً وأشكالاً حديثة تنسجم وطبيعة مراحل الصراع، وليس من المستبعد أنْ تكون حركة الكشوف الجغرافيّة حول شواطئ العالم الإسلامي، قد جاءت بهدف السيطرة على المنطقة خدمةً للمصالح الأوربيّة الاستعماريّة، ووفق هذه الرؤية يُمكن تفسير أعمال (هنري الملاح) أو (ماركوبولو) أو (كريستوفر كولومبس)، على أنّها حلقة من حَلَقَات المؤامرة التي حُبِكت لاستعمار المشرق الإسلامي.

وممّا يؤكّد ظهور هذا التوجّه بشكلٍ واضح، ما حصل (في أواسط القرن الثامن عشر عندما أخذت أوربّا تتحفّز لاستعمار الشرق، وأخذ علماؤها يبحثون في تأليف جمعيّات لهذهِ الغاية فأُنشئت منذ ذلك العهد في أوربّا وأميركا عدّة جمعيّات للمستشرقين، وأقدمها عهداً الجمعيّة الآسيويّة في باريس التي أُسّست سنة ١٨٢٢م بمعرفة شيخ المُستشرقين من الفرنسيّين (سلفستر دي ساس)، ثمّ أُنشئت معاهد للّغات الشرقيّة في جميع الدول، تابعة لوزارة المستعمرات أو لوزارة الخارجيّة المشرفة على الشؤون السياسيّة)(١) .

إلاّ أنّ الكثير مِن المحاولات لم تحقّق غاياتها الأساسيّة (فقد أوقفتها القوّة الإسلامية العثمانيّة النامية، واستطاعت أنْ تقضي عليها)(٢) ، ولكنّ هذا القضاء كان مؤقّتا، حيثُ استأنفت من جديد مع مطلع القرن التاسع عشر الخطط الاستعماريّة الخبيثة لتحقيق ما عجزت عن تحقيقه قبل قرون، أي منذ استرداد إسبانيا من أيدي المسلمين، وقد نجحت نجاحاً كبيراً في إقامة صرح الاستشراق، وتطوير حركته بما يخدم سعيها نحو بسط سلطتها على عموم الشرق والشرق الإسلامي منه خاصّة.

____________________

(١) عبد الوهاب حمودة، من زلاّت المستشرقين، مجلّة رسالة الإسلام: ٣٣، السنة التاسعة.

(٢) الجندي، أنور - (الإسلام وحركة التأريخ): ٣٨١.

٦٧

٦٨

الفصل الثّاني

المراحل والأدوار التي مرّت بها الحركة الاستشراقيَّةُ

* المرحلة الأولى: مرحلة الانفتاح لاحتواء الحضارة الإسلاميّة.

* المرحلة الثّانية: مرحلة الفرز لاستلاب الحضارة الإسلاميّة.

* المرحلة الثّالثة: مرحلة تغريب إفرازات الحضارة الإسلاميّة المستلبة.

* المرحلة الرّابعة: مرحلة استعمار الشّرق وتطبيعه على الحضارة المغرّبة.

٦٩

٧٠

رغم أنّ مسيرة الاستشراق كحركة قد تشعبت وتطورت في مناهجها وأساليبها إلاّ أنّ دوافع التعصّب الديني والشعور بالتفوّق العرقي ظلّ هو الخيط الأحمر الذي حيكت به أبعاده الأساسيّة.

وحتّى يُمكننا الإحاطة الشاملة بخارطة هذه الأبعاد، وطبيعة الآثار والنتائج التي حقّقتها لابدّ لنا من تقسيم حركة الاستشراق إلى عدّة مراحل وادوار رئيسيّة هي:

المرحلة الأُولى

مرحلة الانفتاح لاحتواء الحضارة الإسلاميّة

ويؤرّخ لهذهِ المرحلة منذ بدايات الفتح الإسلامي لإسبانيا وتأسيس دولة الأندلس، وبحكم التعايش الذي حصل بين القوميّات المختلفة، التي كانت تحمل بصمات أفكارها، برّز الفكر الإسلامي والحضارة الإسلاميّة قوّةً مؤثّرةً وجديدةً في حياة الأندلسيّين، خصوصاً وأنّ الإسلام قد دخل عليهم بشكل مفاجئ.

من هنا بدأت مقدّمات الاستشراق وذلك بانفتاح الإسبانيّين والمُستعربين على المسلمين والفكر الإسلامي، وبشكل مُدبّر ومدروس وذو أهدافٍ ومرامٍ بعيدة المدى، وهذا

٧١

ما استقرأناه من كتب التاريخ التي تؤرّخ لتلك المرحلة(١) ، حيثُ تمّ في ذلك الوقت ترجمة أمّهات الكتب الإسلاميّة من العربيّة إلى الإسبانيّة والعبريّة واللاتينيّة، وانصبّ الجهد على هذه المترجمات لدراستها واستيعابها. وبحكم وجود اليهود وصراعهم المستمر مع المسلمين منذ العهد المدني لرسول الله (صلّى الله عليه وآله)، كان لهم القسط الأوفر في هذا الاتّجاه في سبيل خدمة مصالحهم وطمس هويّة العلوم الإسلاميّة، عن طريق نسبتها لهم وأنّها ليست من الحضارة الإسلاميّة والفكر الإسلامي في شيء، ومن هنا وضعت المخطّطات لترجمة القرآن الكريم ترجمةً اتّخذت من الإسرائيليّات والأساطير الملفّقة إطاراً مرجعيّاً لها، وامتدّت هذهِ المخطّطات لتشمل ترجمة كتب الحديث والتفسير، وكذلك دراسة اللغة العربيّة ووضع المعاجم لها.

وبهذا فقد أخذت أوربّا الظمأى تعبُّ من منهل الشرق الإسلامي، ولا ترتوي على مدى عشرة قرونٍ متعاقبة، ابتدأت من عام ٧١١م تاريخ فتح الأندلس إلى نهاية القرن السابع عشر، وما العصر الذي سمّته أوربّا عصر النهضة أو (عصر الإيديولوجيّة العقلانيّة العلمانيّة)(٢) ، إلاّ عصر امتلاء وتضخّم بطن أوربّا بعطاءات الإسلام الحضاريّة، التي تحوّلت فيما بعد إلى (نقطة حراسة أماميّة للغرب)(٣) .

ويمكن القول: إنّ بعض الباحثين قد أخطأوا في تحديد هذه المرحلة، حينما اعتقدوا بأنّ أوّل اتّصالٍ جادٍ وفاعل بين الثقافة الإسلاميّة والتلقّي الأوربّي قد حدث نتيجة للحروب الصليبيّة، التي (عيّنت (في رأيهم) في المقام الأوّل والمقام

____________________

(١) أشرنا إلى ذلك في فصل (الجذور التاريخيّة لحركة الاستشراق).

(٢) الدكتور سلمان، سمير (الجذور التكوينيّة للاستشراق في الأندلس) عن مجلّة التوحيد العدد ٣١، ص١١٣.

(٣) غابريلي، فرانشكو في (تراث الإسلام) القسم الأوّل تصنيف شاخت وبوزورت الترجمة العربيّة ص١١٠.

٧٢

الأهم موقف أوربّا من الإسلام لبضعة قرون تتلو)(١) ، واتّفقت مع بزوغ فجر المدنيّة الأوربيّة(٢) ، وقيام (عصر النهضة ذي الروح الجديدة والوعي الجديد بالعالم)(٣) .

في مقابل هذا كان المسلمون الأندلسيّون، باعتبارهم حَمَلة رسالة تدعو إلى التسامح والتقارب والتثاقف، والانفتاح الفكري والعلمي وحريّة الفكر، قد فتحوا خزائن معارفهم وعلومهم لكلّ طالبِ ثقافةٍ وعلم مهما يكن معتقده الديني وانتماؤه العرقي(٤) ، فغصّت الجامعات الإسلامية في طليطلة وقرطبة، مدينة الثلاثة آلاف والثمانمِئة والثلاثة والسبعين مسجداً(٥) ، بما يعنيه المسجد باعتباره مؤسّسة متعدّدة الاهتمامات والخدمات، وبطلاّب العلم الأوربيّين (فتلقّوا العلم مجّاناً مع تقديم الطعام والمسكن أحياناً، وهذا مثال يحمل في طيّاته أعظم مبادئ الرقيّ والتسامح والتمدّن. كما أنّ الجامعات الأوربيّة إنّما نشأت تقليداً للجامعات العربيّة في إسبانيا)(٦) .

____________________

(١) أسد، محمّد (الإسلام على مفترق طُرق) الترجمة العربيّة ص٥٥.

(٢) المصدر نفسه - ص٥٤.

(٣) إتنغهاور، ريتشارد في (تراث الإسلام) تصنيف شاخت وبوزورث - الترجمة العربيّة - ص١٣١.

(٤) بلغ شغف المُستعربين بالثقافة العربيّة الإسلاميّة حدّاً جعلهم ينسون لغتهم الأُم. فاضطرّ العرب إلى أنْ يُترجموا الإنجيل إلى اللغة العربيّة، ليتسنّى لنصارى الأندلس المُستعربين قراءته باللغة التي استهوتهم. راجع كراتشقوفسكي، اغناطيوس (دراسات في تاريخ الأدب العربي) الترجمة العربيّة. ص٥٩.

(٥) جرجي زيدان، (تاريخ التمدّن الإسلامي) م٢ ص٦٢١.

(٦) مظهر، جلال (أثر العرب في الحضارة الأوربيّة) ص١٥٨. راجع أيضاً الطويل، توفيق (في تراثنا العربي والإسلامي) ص٢١٢ - ٢١٣.

٧٣

المرحلة الثانية

مرحلة الفرز لاستلاب الحضارة الإسلاميّة

وبها يتمّ الانتقاء المدروس للعلوم والنظريّات الفكريّة، لغرض تمثّل ما يخدم النهضة الأوربيّة، وبناء ركائزها وتمهيداً لاستعمار الشرق فيما بعد. ويؤرّخ لهذهِ المرحلة بالنصف الأخير من القرن الثالث عشر الميلادي وذلك عندما استطاع، بعد عدّة إخفاقات، إقناع المجمع الكنسي العام في فيينّا عام ١٣١١م بإصدار القانون العام رقم (١١)، والذي يقضي بتدريس اللغات الشرقيّة في خمس جامعات أوربيّة، وقد صدر هذا القانون مع تحديد مدرّسين كاثوليكيّين لكلّ جامعة، ليقوما بتدريس هذه اللغات وعلى رأسها اللغة العربيّة(١) .

وفي هذهِ المرحلة بذل كبار رجال الاستشراق جهدهم من أجل استثمار الحضارة الإسلاميّة والفكر الإنساني الإسلامي، في بناء الفكر والحضارة الأوربيّة والغربيّة، وقد استخدموا الكثير من الأساليب لخدمة هذا الغرض، منها ردّ الفكر الإنساني عموماً إلى الفكر اليوناني، دون الرجوع إلى الفكر الإسلامي.

ولعلّ جذور هذهِ المرحلة يعود إلى إدراك الأوربيّين لضرورة فهم الحضارة الإسلاميّة، ودراستها للوقوف في وجهها وصدّها عن الامتداد، ولا سيّما أنّهم أحسّوا بخطر تأثير المبادئ والأفكار الحضاريّة التي أتى بها الدين الإسلامي، وأثرها على المجتمع الأوربّي آنذاك، وقد تجلّى ذلك في أقوال بعض المُستشرقين منهم(فرانز

____________________

(١) عن مجلّة رسالة الجهاد - العدد ٧٢ - السنة السابعة - ١٩٨٨م ص٢٦، عن ندوة الدين والتدافع الحضاري في محور البحث الثالث (الاستشراق كأداة مواجهة للإسلام).

٧٤

دوزنتال) حين يقول: (إنّ الهدف هو الوصول إلى فهم عميق للتفكير الديني الكلامي عند المسلمين، أملاً أنْ يصبح الأوربيّون أقدر على التعرّف على هذا التفكير، واستغلال ما كانوا يتصوّرون أنّه مَواطن الضعف فيه)(١) .

ولعلّ الإيديولوجيّة الاستعماريّة تمتد بجذورها إلى تلك المرحلة، حيثُ مُورست أبشع وسائل المصادرة والاستغنام العلميّين عن طريق فرز النظريّات الإنسانية والعلميّة التي جاء بها المسلمون، وانتحال ما يرَونه مناسباً منها، ومحاولة إبرازها على أنّها من أُمّهات الفكر الأوربّي ومن نتاجاتهم العلميّة، وكما يقول الباحث الكاتب(د. ياسين عريبي) : (إنّ بهذه المرحلة دخلت أوربّا عصر النهضة، وخرجت من العصر الوسيط المتخلّف حيث تمّ فيما بعد تعميم الدراسات الشرقيّة والإسلاميّة والتحكّم في علومها بتوظيفها في بناء الحضارة الأوربيّة)(٢) .

المرحلة الثالثة

مرحلة تغريب إفرازات الحضارة الإسلاميّة المُستلبة

في هذهِ المرحلة - التي يُمكننا أنْ نسمّيها بعصر النهضة الحقيقيّة لأوربّا - ازدهرت تجربة الاستشراق وتطوّرت وانتقلت إلى محاولة تغريب الثقافة الإسلاميّة والعربيّة، والثقافات الإنسانيّة المقرّبة والمؤسلمة، لاستثمارها من قِبَل الغرب ليُعمِّر بها أُسُس نهضته ويُشيّد مَدنيّته التي يصبو إليها، وفيها سُرِق النموذج

____________________

(١) فوك، يوهان في (المستشرقون الألمان) ص١٥.

(٢) عن مجلّة رسالة الجهاد - العدد ٧٢ - السنة السابعة ١٩٨٨ ص٢٦ عن ندوة الدين والتدافع الحضاري في محور البحث الثالث (الاستشراق كأداة مواجهة للإسلام).

٧٥

الثقافي والحضاري الإسلامي في الحريّة الفكريّة، والأخلاقيّة العلميّة والبحث النزيه والتسامح الديني، استناداً إلى منهج توحيدي إنساني، ومقارنةً بسيطةً بين الحالة الثقافيّة والحضاريّة المتخلّفة لأوربّا قبل هذهِ المرحلة، وحالتها اللاحقة تكشف عن مدى التغيير الهائل كمّيّاً وكيفيّاً في هذا الاتّجاه.

ولعلّ الإرهاصات الأوليّة لهذا التغريب بدأت في العصور الوسطى على يد البابا(سلفستر الثاني) والقدّيس(أنسلم) وغيرهما.

ومن أبرز نماذج هذا التغريب ما امتدّ إلى الفكر الفلسفي، وإلى النظريّات الكلاميّة ما ظهر على يد (ديكارت)(١) حيث حاول استيعابالنظريّة السينوية في شموليّتها، محاولاً التعتيم عليها من خلال التركيب مع المذاهب الكلاميّة دون أنْ يذكر مفكّراً إسلاميّاً على الإطلاق، ومنها قياملايبنيتز (٢) من بعده بعمليّة تركيبٍ أوسَع وأشمل ليكمل ما أهمله (ديكارت)، وهكذا من بعده أمثال: مالبرانش، وفولف، وكروزيوس...

وقد اعترف (لايبنيتز) باغترافه من معين المعرفة في الفكر الإسلامي، خاصّة علم الكلام، فإنّه أي (لايبنيتز) يصف هذا العلم بأنّه وجده كذَهبٍ مكنوز

____________________

(١) ديكارت، رينيه (١٥٩٦ - ١٦٥٠م): فيلسوف وفيزيائي ورياضي فرنسي. يُعتبر في رأي كثير من الباحثين أبا الفلسفة الحديثة ومؤسّسها، اشتهر بكتابه (مقالة في المنهج) عام ١٦٣٧م، وفيه أطرح كلّ المعتقدات السابقة ليُعاود البحث عن الحقيقة، شاكّاً في كلّ شيء إلاّ حقيقة واحدة وهي أنّه يشك، ومن هنا كلمته المشهورة: (أنا أشك فإذن أنا أفكّر. وأنا أُفكّر فإذن أنا موجود). عن موسوعة المورد المجلّد ٣، ص١٨٠.

(٢) لايبنيتز غوتفريد فيلهلم (١٦٤٦ - ١٧١٦م): رياضيّ وفيلسوف ومخترع ألماني. ولد في (لايبسيك) حاول معبوسيه دمج الكنيستين الكاثوليكيّة والبروتستانتيّة. اكتشف أُسس (التحليل الحسابي)، من أتباع الفلسفة المثاليّة وقال: إنّه لا تعارض بين الإيمان والعقل. ابتكر عام ١٦٧١م أوّل آلة حاسبة تقوم بعمليّات الجمع والضرب.

عن المنجد - في الإعلام - ص٦١٠ وكذلك موسوعة المَورِد المجلّد ٦ ص١٠٤.

٧٦

في التراب المتبربر،(١) بل إنّه لا يكتفي بوصف المسلمين بالمتوحّشين، بل يخطّط في كتب ثلاثة لاستعمار مصر ويحرّض على ذلك، وبرغم اعترافه بأنّ النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله) قد بشّر بالدين الطبيعي، فإنّه حاول النيل من الإسلام في الكثير من كتاباته.

ولا يفوتنا أنْ نسجل تحفّظنا العلمي من محاولة التغريب هذه، حيث إنّنا نرفض أنْ يكون مضمون هذا التغريب بصورته الفعليّة، هو في أصله منسوب على الحضارة والفكر الإسلامي، وذلك لِما أُحدِث فيه من تركيبٍ وخلطٍ و تغيير أفقده الكثير من حقيقته وصورته الأصليّة، ولأنّ الهدف الحقيقي مِن وراء هذا التغريب ليس هو فرز ونقل النموذج الحضاري وعلوم المسلمين إلى أوربّا فحسب، بل هو في شقّه الثاني مَحْقٌ لهويّة وعوامل القوّة والأصالة في الفكر الإسلامي ومنهجه في الحياة، ويمكننا استثناء ما يتعلّق منها بالعلوم الطبيعية (كالطب والفيزياء والكيمياء والفلك وأمثالها)، فهي غالباً ما تكون في أصولها لدى المسلمين سُرقت ونُسِبت إلى أوربّا واستثمرت مدنيّا.

المرحلة الرابعة

مرحلة استعمار الشرق وتطبيعه على الحضارة المغرّبة

في هذهِ المرحلة التي غالباً ما كانت متداخلة ومصاحبة لمراحل الاستشراق وتطوّره، عمل الاستشراق على التعاون والامتزاج مع الحركة الاستعماريّة للبلدان الإسلاميّة، وبالذات في النصف الأخير من القرن التاسع عشر والنصف

____________________

(١) نسبة إلى البرابرة، وهو اسم أطلقه اليونان ثمّ الرومان على الأجانب من الأُمم من غير اليونانيّين والرومانيّين.

٧٧

الأوّل من القرن العشرين، حيثُ تمكّن الاستعمار من تطبيع الثقافة المغرّبة وضخِّها إلى البلدان التي يُريد استعمارها، وتعميمها في كافّة مرافق الحياة بحيث تكون هذه الثقافة المغرّبة متزامنة مع نموّ المدّ الاستعماري لهذهِ البلدان، كذلك عند استقرائنا للتاريخ الحديث الذي يؤرّخ للاستعمار العسكري للبلدان الإسلاميّة، نرى أنّ كثيراً من المستشرقين كان لهم الدور الكبير في مساعدة الدول الأوربيّة المستعمرة، حتّى إنّ قسماً منهم قد عمِل في نفس وزارة المستعمرات لتلك البلدان كما أسلفنا سابقاً، وعندما كان الشرقيّون وخاصّة المسلمين منهم في تلك الفترة يشكون العزلة الفكريّة والحصار الحضاري، والافتقار إلى أبسط وسائل التعليم والانتشار الثقافي التي فرضتها حالة السلطات المتحكّمة فيهم، بعد أنْ كانوا متربّعين كأساتذة وأساطين على عرش العلم والحضارة الإنسانيّة في أنحاء المعمورة.

أخذ الأوربّي المستعمر يجهز جيشه المسلح من جهة وعلماءه ومثقفيّه من جهة أُخرى لكي يغزو العالم الإسلامي عسكريّاً وفكريّاً، وحتّى عندما انتهى عهد الاستعمار العسكري - شكلياً - بقي أثره واضحاً في استمرار الحركة الاستعماريّة الفكريّة والمنهجيّة التي غزت العالم الإسلامي متمثّلة بالنظريّات الماديّة والاتجاهات القوميّة التي صِيغت بأشكالٍ برّاقة وجذّابة اتخذت طابعاً تحرّرياً وسياسيّاً يُناغي العواطف الساذجة للمسلمين. بهذا نرى أنّ تطبيع بلاد المسلمين على التغريب كان لهُ دورٌ كبير في تأكيد التسلّط الاستعماري على الشرق، ولعلّ آثاره ونتائجه ومصاديقه واضحة وجليّة إلى يومنا هذا.

٧٨

الفصل الثّالث

المدارسُ الاستشراقيّة

* خلفيّات المستشرقين

* المدارس الاستشراقيّة.

* النّموذج: المدرسة الاستشراقيّة الفرنسيّة.

* المميّزات الأساسيّة للمدرسة الاستشراقيّة الفرنسيّة.

* نشأة المدرسة الاستشراقيّة الفرنسيّة وعوامل نموّها وتطوّرها.

* مناطق نفوذ المدرسة الاستشراقيّة الفرنسيّة.

* صِيَغ وأساليب المدرسة الاستشراقيّة الفرنسيّة وتشكيلاتها.

* أثر المدرسة الاستشراقيّة الفرنسيّة على الفكر الاستشراقي العام.

٧٩

٨٠