كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين15%

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 376

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين
  • البداية
  • السابق
  • 376 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 127202 / تحميل: 8230
الحجم الحجم الحجم
كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

الفصل الثالث : الإمام الصادق في ظل جدّه وأبيهعليهم‌السلام

ملامح عصر الإمام زين العابدين ومواقفه

لقد واجه الإمام زين العابدينعليه‌السلام بعد استشهاد أبيه الحسينعليه‌السلام ما يلي :

١ ـ التعاطف مع أهل البيتعليهم‌السلام تعاطفاً كان يفتقد الوعي ويقتصر على الشعور الإيجابي بالولاء مع خلوّه عن الموقف العملي الجادّ .

٢ ـ ثورات انتقاميّة كانت تتحرّك نحو هدف محدود ، وثورات نفعية مصلحيّة ، ونشوء حركات منافقة ، وظهور وعّاظ السلاطين لإسباغ الشرعية على السلطة القائمة .

٣ ـ بروز ظاهرة الشعور بالإثم عند الأمة بسبب ما ارتكبته من خذلان لأبيه الحسين السبطعليه‌السلام لكن هذا الشعور كما هو معروف كان بلا ترشيد واضح ، والعقليات المدبّرة للثورة على الوضع القائم كانت تفكر بالثأر فحسب وهنا خطط الإمام زين العابدينعليه‌السلام لعمله على مرحلتين أو خطوتين :

الخطوة الأولى : تناول الإمامعليه‌السلام ظاهرة الشعور بالإثم وعمل على ترشيدها بعد أن عمّقها بشكل متواصل عبر تذكيره الأمة بمأساة كربلاء والمظالم التي لحقت بآل البيتعليهم‌السلام وقد استغرق هذا التذكير زمناً طويلاً ،

٤١

حيث حاول إعطاء ظاهرة الشعور بالإثم بُعداً فكرياً صحيحاً ليجعل منه أداة دفع وتأثير في عملية البناء والتغيير .

وبعد أن تراكم هذا الشعور شكّل في نهاية الأمر خزيناً داخلياً كانت لا تقوى الأمة أن تصبر عليه طويلاً ، وأصبح الإلحاح على مخرج تعبّر به الأمّة عن ألمها أمراً جدّياً ، حتَّى حدثت الثورة الكبرى وطبيعي أنّ هذا الجو المشحون الذي كان ينبئ بالثورة والإطاحة بالأمويين جعلهم يشددّون الرقابة على الإمام زين العابدينعليه‌السلام باعتباره الرأس المدبّر لهذه المطالبة ولكونه الوريث الشرعي للخلافة بعد أبيه الحسينعليه‌السلام ومن هنا كانت الحكومة الأموية تفسّر أيّ حركة تصدر من الإمامعليه‌السلام على أنّها تمهيد للثورة .

الخطوة الثانية : توزّع نشاط الإمامعليه‌السلام في هذه الخطوة على عدّة اتّجاهات .

الاتجاه الأوّل : قام الإمامعليه‌السلام ببلورة العواطف الهائجة وحاول أن يدفعها باتّجاه الفكر الصحيح ويضع لها الأسس العقائديّة ويجعل منها مقدمة لعملية التغيير التي ينشدها الإمامعليه‌السلام ، وقد تمثّلت في إيجاد الفكر الإسلامي الصحيح الذي طالما تعرّض للتشويه والتحريف ثم إعداد الطليعة الواعية التي تشعر بالمسؤولية وتكون أهلاً لحمل الأمانة الإلهيّة .

الاتّجاه الثاني : تحرّك الإمام زين العابدينعليه‌السلام انطلاقاً من مسؤوليته في حماية الإسلام وبقائه كشريعة دون تحريف وتشويه لمحتواه ضمن عدة نشاطات :

١ ـ النشاط الأول : واجه الإمامعليه‌السلام الحركات الانحرافية والفرق الضالّة والمغالية التي كانت تستهدف الفكر الإسلامي وتعتمد الإسرائيليات والنظريات الهندية واليونانية حول الكون والحياة في فهم القرآن والحديث

٤٢

الشريف ، وقام بنشر مختلف العلوم والفنون وتبيان الصيغة الصحيحة للعلاقات الاجتماعية والسياسية والأخلاقية التي كان قد أصابها الفساد ، كما يتّضح ذلك بجلاء في رسالته المعروفة برسالة الحقوق ، كما ساهم في حل المشاكل التي كانت تهدّد كرامة الدولة الإسلامية كما يلاحظ ذلك جليّاً فيما حدث في جوابه على رسالة ملك الروم حين هدّد الخليفة بالحصار الاقتصادي(١) .

النشاط الثاني : إنّ الأمويين كانوا قد ضيّقوا على حركة الإمامعليه‌السلام ونشاطه مع الأمة إلاَّ أنّ الإمامعليه‌السلام استخدم الدعاء سلاحاً للارتباط الفكري والمعنوي بها ، وحيث إنّ هذا السلاح لم يستهدف الأمويين مباشرة ، توفّر للإمامعليه‌السلام مجالٌ أوسع لمعالجة الظواهر المرضية والانحرافات الأخلاقية .

الاتّجاه الثالث : التأكيد على أهمية العمل الثوري ومكافحة الظلم والانحراف ، وإيقاد روح الجهاد التي كانت خمدت في الأمة عبر سنوات الانحراف ، كما يتجلّى ذلك في دعائه للمختار الذي طالب بثأر الحسين وكان على اتصال دائم بالإمامعليه‌السلام أثناء ثورته من خلال عمّه محمد ابن الحنفيّة .

الاتّجاه الرابع : لم يكن موقف الإمامعليه‌السلام من الحكّام موقف المواجهة والتحدّي المباشر ; إذ لو كان قد فعل الإمام زين العابدينعليه‌السلام ؛ ذلك لما كان يستطيع أن يحقق ما حققه من مكاسب في الأمة في مجال التربية ، ولما توفّرت أجواء سليمة وفرص واسعة لنشاط الإمام الباقرعليه‌السلام من بعده وللجماعة الصالحة التي ربّاها .

لكن هذا لا يعني أن الإمامعليه‌السلام لم يوضح رأيه في الحكومة فلم يترك

ـــــــــــــــــ

(١) البداية والنهاية : ٩/١٢٢ .

٤٣

الأمر ملتبساً على شيعته ، بل كانت للإمام زين العابدينعليه‌السلام مواقف مع الحكّام سوف نشير إلى بعض منها ، وكان هدفه منها إعطاء خطّ في التربية والتغيير حفاظاً على الشيعة من الضياع ; إذ لم تكن الجماعة الصالحة على سبيل المواجهة ولكنها كانت كافية في التحصين في تلك المرحلة على مستوى التربية والإعداد وتأسيساً لمستقبل سياسي أفضل .

ونستطيع أن نلاحظ موقف الإمامعليه‌السلام مع السلطة من خلال رسالته الجوابية إلى عبد الملك حين لامَ عبد الملك الإمامعليه‌السلام على زواجه بأمته التي كان قد أعتقها .

إنّ ردّ الإمامعليه‌السلام على عبد الملك كان يتضمّن تحدّياً للخليفة الذي كان يفكرّ بعقلية جاهلية ; فإنّ الإمامعليه‌السلام وضّح فيها الموقف الإسلامي الذي يلغي كل الامتيازات التي وضعتها الجاهلية بقولهعليه‌السلام :( فلا لؤم على امرئ مسلم إنَّما اللؤمُ لؤم الجاهلية ) .

يظهر هذا التحدّي ممَّا جاء في مصادر التأريخ من أن الخليفة الأموي بعد أن قرأها هو وابنه سليمان ، قال الابن : يا أمير المؤمنين لَشدَّ ما فخر عليك علي بن الحسين !! فردّ الخليفة على ابنه قائلاً : ( يا بنيّ لا تَقل ذلك فإنّها ألسن بني هاشم التي تَفلق الصخر وتغرف من بحر ، إنّ عليّ بن الحسين يا بني يرتفع من حيث يتّضع الناس(١) .

وفي هذا الجواب إشارة إلى أنّ المواجهة مع الإمام من قبل الخليفة لا تخدم سلطان بني أمية .

ومن مواقف الإمام زين العابدينعليه‌السلام تجاه السلطة أيضاً موقفه من

ـــــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٤٦/١٦٥ ، والعقد الفريد : ٧/١٢١ .

٤٤

الزهري ذلك المحدث الذي كان مرتبطاً بالبلاط الأموي ـ فقَد أرسل إليه الإمامعليه‌السلام رسالة قَرعه فيها على شنيع فعله(١) ، وان كان قد علم الإمام بأنّه غارق إلى هامته في موائد السلطان ولهوه ، إلاَّ أنّها رسالة للأجيال .

ومن الأحاديث التي وضعها هذا الرجل دعماً لسياسة بني أمية حينما منعوا حج بيت الله الحرام لمّا كان ابن الزبير مسيطراً على الحرمين الشريفين ما رواه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : لا تشد الرحال إلاَّ إلى ثلاثة : مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى .

ملامح عصر الإمام محمد الباقرعليه‌السلام

استشهد الإمام زين العابدينعليه‌السلام سنة ( ٩٥ هـ ) في أيام حكم الوليد ابن عبد الملك وتوّلى الإمام محمد بن علي الباقرعليه‌السلام مسؤولية الإمامة بوصية من أبيه حيث أعلن عن إمامته أمام سائر أبنائه وعشيرته حين سلّمه صندوقاً فيه سلاح رسول اللهعليه‌السلام وقال له :( يا محمَّد هذا الصندوق فاذهب به إلى بيتك ، ثم قالعليه‌السلام :أما إنّه لم يكن فيه دينار ولا درهم ولكنه مملوءٌ علم ) (٢) .

إذن فهو صندوق يرمز لمسؤولية القيادة الفكرية والعلمية كما أنّ السلاح يرمز لمسؤولية القيادة الثورية .

وبالرغم من توالي الثورات التي تلت واقعة الطف والتي كان الإمام الباقرعليه‌السلام قد عاصرها جميعاً مع أبيهعليه‌السلام بقي موقف الأعمّ الأغلب من الناس الاستجابة لمنطق السيف الأموي إلى جانب القسم الآخر الذي آمن بأنّ الحكّام الأمويين يمثّلون الخلافة الإسلامية .

ـــــــــــــــــ

(١) تحف العقول : ٢٧٢ ـ ٢٧٧ .

(٢) بصائر الدرجات ٤/٤٤ و٤٨ ، وأصول الكافي ١/٣٠٥ وعنهما في بحار الأنوار : ٤٦/٢٢٩ .

٤٥

كما أنّه عاصر عمليات الهدم الفكري والتحريف والمسخ الثقافي الذي مارسه الأمويون بحق الرسالة والقيم الإسلامية .

وعند مجيء سليمان بن عبد الملك إلى الحكم بعد وفاة أخيه الوليد بن عبد الملك سنة ( ٩٦ هـ ) أصدر قرارات جديدة استراحت الأمة بسببها قليلاً حيث أمر بالتَنكيل ( بآل ) الحجاج بن يوسف الثقفي وطرد كلّ عمّاله وولاته(١) كما أطلق سراح المسجونين في سجون الحجّاج(٢) .

وفي سنة ( ٩٩ هـ ) تقلّد الحكم الأموي عمر بن عبد العزيز فازدادت الحريّات في مدّة خلافته القصيرة ، كما يراه بعض المؤرّخين ، كما أنّه عالج مشكلة الخراج التي قال عنها بأنّها سنّة خبيثة سنّها عمّال السوء(٣) .

وعامل العلويين معاملة خالف فيها أسلافه فقد جاء في كتابه لعامله على المدينة : ( فأقسم في ولد علي من فاطمة رضوان الله عليهم عشرة آلاف دينار فطالما تخطّتهم حقوقهم )(٤) ورَدَّ فدكاً ـ التي كان قد صادرها الخليفة الأوّل ـ على الإمام الباقرعليه‌السلام (٥) ورفع سبّ الإمام عليّعليه‌السلام الذي كان قد سنّه معاوية(٦) .

أمّا الناحية الفكرية : فتبعاً للتغيّرات السياسية نلمس تطوّراً في الجانب الفكري أيضاً ؛ فقد برزت في هذا الظرف تيارات فكريّة جديدة واتجّه الناس

ـــــــــــــــــ

(١) الكامل ، ابن الأثير : ٤/١٣٨ .

(٢) تاريخ ابن عساكر : ٤/٨٠ .

(٣) الكامل : ٥/٢٩ وتاريخ الطبري : ٨/١٣٩ .

(٤) مروج الذهب : ٣/١٩٤ .

(٥) الكامل : ٤/١٦٤ والمناقب : ٤/٢٠٧ وسفينة البحار : ٢/٣٧٢ .

(٦) انظر الفكر السامي ١/٢٧٦ عن صحيح مسلم ، وتاريخ اليعقوبي ٢/٢٢٣ و٢٣٠ و٢٣٥ و٣٠٥ ، وشرح النهج للمعتزلي ٥/٩٨ تاريخ الخميس : ٢/٣١٧ .

٤٦

للبحث والدرس وتلقّي المعرفة الإسلامية ورفع المنع الحكومي عن تدوين الحديث النبوي وبدأت تتميّز مدرسة أهل الحديث عن مدرسة أهل الرأي ومال الموالي من غير العرب إلى مدرسة أهل الرأي في الكوفة ، وتزعّم أبو حنيفة هذه المدرسة في حينها ضد مدرسة أهل الحديث في المدينة(١) .

وكنتيجة طبيعية للإخفاق الذي سجّلته الحركات الفكرية ، ظهرت فكرة الاعتزال التي نادى بها ( واصل بن عطاء ) في البصرة عندما اعتزل حلقة درس أستاذه ( الحسن البصري ) وهي تعتبر تعديلاً لفكرة الخوارج التي لم تلقَ رواجاً حينما قالت بكفر مرتكب الكبيرة(٢) ، والمرجئة التي قالت بأنّه لا تضر مع الإيمان معصية(٣) فقال واصل ( مؤسس اتّجاه الاعتزال والمتوفى في ١٣١هـ ) : إنّ صاحب الكبيرة ليس بمؤمن بإطلاق بل هو في منزلة بين منزلتين أي إنّ مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر لكنّه فاسق والفاسق يستحق النار بفسقه(٤) .

هذه صورة مجملة عن الواقع الذي عايشه الإمام الصادقعليه‌السلام خلال مرحلة قيادة أبيه الباقرعليه‌السلام .

متطلّبات عصر الإمام الباقرعليه‌السلام

ونلخّص دور الإمام الباقرعليه‌السلام في ثلاثة خطوط أساسية :

الخط السياسي ، وإكمال بناء الجماعة الصالحة ، وتأسيس جامعة أهل البيتعليه‌السلام العلمية .

ـــــــــــــــــ

(١) ضحى الإسلام لأحمد أمين : ٢/١٧٨ .

(٢) الملل والنحل : ١/١٥٨ .

(٣) تاج العروس ، مادة رجأ .

(٤) الأغاني : ٧ / ١٥ .

٤٧

١ ـ الخط السياسي للإمام الباقر عليه‌السلام

لقد كان الخيار السياسي للإمام الباقرعليه‌السلام في فترة تصدّيه للإمامة هو الابتعاد عن الصدام والمواجهة مع الأمويين وهذا واضح من خلال تصريحه الذي تضمّن بياناً للجوّ السائد وحالة الأمة ومستوى وعيها آنذاك :( إنْ دَعَوْناهم لم يستجيبوا لنا ) (١) .

كما نجده فيما بعد يستوعب سياسة الانفتاح والاعتدال التي أبداها عمر ابن عبد العزيز ، سواء كان هذا الاعتدال بدافع ذاتي لعلاقته بالإمامعليه‌السلام ، أم بدافع الضغوط الخارجيّة وخوفه من انهيار الدولة الأموية .

إنّ الإمام قد رسم خطّه السياسي في هذه المرحلة بأسلوبين :

الأسلوب الأول : تصريح الإمامعليه‌السلام برأيه حول عمر بن عبد العزيز وحكومته قبل تصدّي عمر للخلافة فعن أبي بصير ، قال : كنت مع أبي جعفر الباقرعليه‌السلام في المسجد ودخل عمر بن عبد العزيز وعليه ثوبان ممصّران متكئاً على مولى له فقالعليه‌السلام :( لَيَلِيَنَّ هذا الغلام [ أي سوف يتولّى السُلطة ]فيظهر العدل ) (٢) .

ولكن الإمامعليه‌السلام قدح في ولايته باعتبار وجود مَن هو أولى منه .

الأسلوب الثاني : أسلوب المراسلة واللقاء فقد روي أنّ عمر بن

ـــــــــــــــــ

(١) الإرشاد ، للشيخ المفيد : ٢٨٤ .

(٢) سفينة البحار : ٢/١٢٧ .

٤٨

عبد العزيز كرّم الإمام أبا جعفرعليه‌السلام وعظّمه وقد أرسل خلفه فنون ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود وكان من عُبّاد أهل الكوفة فاستجاب له الإمامعليه‌السلام وسافر إلى دمشق فاستقبله عمر استقبالاً رائعاً واحتفى به وجَرَت بينهما أحاديث وبقي الإمام أيّاماً في ضيافته(١) .

ومن المراسلات ما جاء أنّه : كتب عمر للإمامعليه‌السلام بقصد الاختبار فأجابه الإمام برسالة فيها موعظة ونصيحة له(٢) ، ولكن سياسة الابتعاد عن الصدام المباشر لم تمنع الإمام الباقرعليه‌السلام من أن يقف من الأمة بشكل عام ومن الأمويين وهشام بن عبد الملك بشكل خاص موقف التحدّي الفكري والعقائدي والعلمي لبيان الحق المغتصب وكشف ستار الباطل الذي كان قد أسدله الحكّام على الحق ورموزه .

وحين حجّ هشام بن عبد الملك بن مروان سنة من السنين وكان قد حجّ في تلك السنة محمّد بن علي الباقرعليه‌السلام وابنه جعفر ، قال جعفر بن محمدعليه‌السلام في بعض كلامه :( الحمد لله الذي بعث محمّداً نبيّاً وأكرمنا به ، فنحن صفوة الله على خلقه وخيرته من عباده فالسعيد مَن اتّبعنا والشقيّ مَن خالفَنَا ، ومن الناس مَن يقول : إنّه يتولاَّنا وهو يتولّى أعدائنا ومَن يليهم من جلسائهم وأصحابهم ، فهو لم يسمع كلام ربّنا ولم يعمل به ) (٣) .

فبيّنعليه‌السلام مفهوم القيادة الإلهية ومصداقها الحقيقي الذي يمثّلها آنئذ .

وهذا الطرح وان كان فيه نوع مجابهة صريحة للحاكم وما يدور في

ـــــــــــــــــ

(١) تاريخ دمشق : ٥١/٣٨ .

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢/٣٠٥ .

(٣) دلائل الإمامة : ١٠٤ ـ ١٠٩ ، بحار الأنوار : ٤٦/٣٠٦ .

٤٩

أذهان الناس لكنّه لم يكن مغامرة ; لأنّ الظرف كان بحاجة إلى مثل هذا الطرح والتوضيح ، بالرغم من أنّه قد أدّى إلى أن يستدعي هشام الإمامين الباقر والصادقعليهما‌السلام إلى الشام فيما بعد .

٢ ـ إكمال بناء الجماعة الصالحة

لم تكن عملية بناء الجماعة الصالحة وليدة عصر الإمام الباقرعليه‌السلام فقد باشرها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم لإمام عليعليه‌السلام ، حيث نجد لأشخاص أمثال مالك الأشتر وهاشم المرقال ، ومحمد بن أبي بكر ، وحجر بن عدي ، وميثم التمّار ، وكميل بن زياد ، وعبد الله بن العباس ، دوراً كبيراً في الصراع الذي خاضه الإمام عليعليه‌السلام مع مناوئيه .

واستمرت عملية البناء بشكل فاعل في عصر الإمامين الحسن والحسينعليهما‌السلام ، ثم تقلّص النشاط المباشر في بناء هذه القاعدة وتوسيعها ، ثم استمرّت عملية البناء في العقود الأخيرة من حياة الإمام زين العابدينعليه‌السلام وتكاملت في عصر الإمام الباقرعليه‌السلام حيث سنحت الفرصة له بأن يتحرك نحو تطوير الجماعة الصالحة بتوضيح أهدافها التي تمثّلت في الدفاع عن المجتمع الإسلامي وحفظ الشريعة الإسلامية من التحريف إلى جانب توسيع القاعدة كمّاً مع تطويرها كيفاً .

ونقتصر فيما يلي على بعض ما قام به الإمام الباقرعليه‌السلام من خطوات :

الخطوة الأولى : أخذ الإمامعليه‌السلام يعمّق ويوضّح صفات الجماعة الصالحة الموالية لأهل البيتعليهم‌السلام ودورها في المجتمع ، فقد جاء في وصفه لهذه الجماعة قولهعليه‌السلام :( إنّما شيعتنا ـ شيعة علي ـالمتباذلون في ولايتنا المتحابّون في

٥٠

مودّتنا ، المتزاورون لإحياء أمرنا ، الذين إذا غضبوا لم يظلموا ، وإذا رضوا لم يسرفوا ، بركة على مَنْ جاوروا ، سلم لمَن خالطوا ) (١) ، وقال أيضاً :( شيعتنا من أطاع الله ) (٢) .

وبهذا أراد الإمامعليه‌السلام أن يرسّخ الكمالات الإنسانية في جانبي الأخلاق والعبادة التي تعرّضت للضياع طيلة سنوات المحنة ، ويوضّح أن الانتماء لخطّ أهل البيتعليهم‌السلام هو بالعمل والتحلّي بهذه الصفات .

الخطوة الثانية : قام الإمامعليه‌السلام ـ بالإضافة إلى توضيح مستوى الروح الإيمانية التي ينبغي أن يتَمتّع بها أفراد الجماعة الصالحة ـ بشحذِ هممها وتربيتها على روح الصبر والمقاومة لكي تمتلك القدرة على مواصلة العمل في سبيل الله ومواجهة التحدّيات المستمرّة وعدم التنازل أمام الإغراءات أو الضغوط الظالمة ، فقد جاء في كلامهعليه‌السلام لرجل حين قال له : والله إنّي لأحبّكم أهل البيت فقالعليه‌السلام :( فاتّخذ للبلاء ، جلباباً ، فو الله إنّه لأسرع إلينا وإلى شيعتنا من السيل في الوادي ، وبنا يبدو البلاء ثم بكم ، وبنا يبدو الرخاء ثم بكم ) (٣) .

هكذا رسم الإمامعليه‌السلام معالم الطريق الشائك أمامه ، إنّه طريق مفروش بالدماء والدموع ، والإمام رائد المسيرة على هذا الطريق يصيبه البلاء أوّلاً قبل أن يصيب شيعتَه .

وقد كان الإمامعليه‌السلام يذكّرهم بمعاناة الشيعة قبل هذا الظرف بقولهعليه‌السلام :( قتلت شيعتنا بكلّ بلدة وقُطِعت الأيدي والأرجل على الظنة وكان مَن يذكر بحبّنا والانقطاع إلينا سُجن ونُهب مالُه وهُدِمَت داره ) (٤) .

ومن الأعمال التي قام بها الإمامعليه‌السلام في بناء الجماعة الصالحة هو إلزام

ـــــــــــــــــ

(١) تحف العقول : ٢٩٥و ٣٠٠ .

(٢) تحف العقول : ٢٩٥و ٣٠٠ .

(٣) بحار الأنوار : ٤٦/٣٦٠ ، وأمالي الشيخ الطوسي : ٩٥ .

(٤) حياة الإمام الحسنعليه‌السلام دراسة وتحليل : ٢/٢٥٧ .

٥١

أتباعه وخاصّته بمبدأ التقية ؛ حفاظاً عليهم من القمع والإرهاب والإبادة التي طالما تعرّضوا لها وقد اعتبر هذا المبدأ من الواجبات الشرعية ذات العلاقة بالإيمان ، فكان يوصيِهم بالتقية قائلاً :( التقيّة ديني ودين آبائي ، ومَن لا إيمان له لا تقيّة له ) (١) .

ومن المبادئ التي تتداخل مع التقيّة : كتمان السرّ ، فقد جاء عنهعليه‌السلام في وصيّته لجابر بن يزيد الجعفي في أوّل لقاء له بالإمامعليه‌السلام : أن لا يقول لأحد أنّه من أهالي الكوفة ، وليظهر بمظهر رجل من أهل المدينة وجابر الجعفي هذا قد أصبح فيما بعد صاحب سرّ الإمامعليه‌السلام ، ولشدّة فاعليّته وتأثيره في الأمة أمر هشام بن عبد الملك واليه في الكوفة بأن يأتيه برأس جابر ، لكنّ جابراً قد تظاهر بالجنون قبل أن يصدر الأمر بقتله حسب إرشادات الإمام الباقرعليه‌السلام التي كانت تصله سرّاً ، فقد جاء في كتاب هشام إلى واليه : أن أُنظر رجلاً يقال له جابر بن يزيد الجعفي فاضرب عنقه وابعث إليَّ برأسه .

فالتفت إلى جلسائه فقال لهم : مَن جابر بن يزيد الجعفي ؟ قالوا : أصلحك الله ، كان رجلاً له علم وفضل وحديث وحجّ فجنّ وهو ذا في الرحبة مع الصبيان على القصب يلعب معهم .

قال : فأشرف عليه فإذا هو مع الصبيان يلعب على القصب فقال : الحمد لله الذي عافاني من قتله(٢) .

وكان في هذه المرحلة رجال كتموا تشيّعهم وما رسوا نشاطات مؤثرة في حياة الأمة فكرية وعسكرية وفقهية مع الاحتفاظ بعلاقاتهم ، فمن فقهاء الشيعة : سعيد بن المسيّب ، والقاسم بن محمد ، فقد كانا بارزين بين علماء ذلك العصر

ـــــــــــــــــ

(١) أصول الكافي : ٢/١٧٤ .

(٢) بحار الأنوار : ٤٦/٢٨٢ ، والكافي : ١/٣٩٦ .

٥٢

في الفقه وغيره إلاَّ أنّه لم تكن لهم صبغة التشيّع الصريح ، فقد شاع عن سعيد بن المسيّب أنّه كان يجيب أحياناً برأي غيره من علماء عصره أو برأي مَن سبقه من الصحابة ؛ مخافة أن يصيبه ما أصاب سعيد بن جبير ويحيى بن أم الطويل وغيرهما ممّن تعرّضوا للقتل والتشريد بسبب تشيّعهم .

وهذا موسى بن نصير من رجالات الكوفة العسكريين وزهّادها المؤمنين ممّن عرف بولائه لأهل البيتعليهم‌السلام هو وأبوه نصير ، ولقد غضب عليه معاوية إذ لم يخرج معه لصفِّين ، وموسى هو الذي فتح الفتوحات العظيمة في بلاد المغرب وكان تحت إمرته مولاه طارق بن زياد وولده عبد العزيز وبسبب تشيّعه غضب عليه سليمان بن عبد الملك وقبل أن يقتله عرّضه لأنواع العذاب فقتل ولده أمامه وألزمه بدفع مبلغ كبير(١) .

وكان لجابر الجعفي وزرارة وأبان بن تغلب وغيرهم دور بالغ في نجاح حركة الإمام الفكريّة ، وأصبحوا ـ فيما بعد ـ النواة لجامعته ، وبقي هؤلاء بعد وفاة الإمام الباقرعليه‌السلام بصحبة ولده الصادقعليه‌السلام ليمارسوا مسؤولياتهم بحجم أكبر كما سيأتي توضيحه .

٣ ـ تأسيس جامعة أهل البيت عليهم‌السلام

جاءت فكرة زرع البذرة الفكرية وتشكيل النواة الأولى لجامعة علمية إسلامية في هذهِ المرحلة كضرورة حضارية لمواجهة التحدّي الحاضر ونسف البنى الفكرية لكل الأطروحات السابقة التي وجدت من ظروف المحنة مناخاً مناسباً لبثّ أفكارها .

كما تأتي ضرورة وجود تيّار فكري يبلور الأفكار الإسلامية الأصيلة

ـــــــــــــــــ

(١) تاريخ اليعقوبي : ٢/٢٩٤ .

٥٣

ويعبّئ بها ذهن الأمة ويفوّت الفرصة على الظالمين في حالة تبدّل الظروف .

ويمكن تلخيص الأسباب التي شكّلت عاملاً مهمّاً في التهيئة لنجاح هذه الجامعة فيما يلي :

١ ـ لقد عُزلت الأمة عن تبني أفكار الأئمة من أهل البيتعليهم‌السلام وفقههم أكثر من قرن وبقيت تتناقله الخواص في هذه الفترة عن طريق الكتابة والحفظ شفاهاً وبالطرق السرّية .

٢ ـ في هذه الفترة طرحت على العالم الإسلامي تساؤلات فكريّة ومستجدّات كثيرة لم تمتلك الأمة لها حلاًّ بسبب اتّساع البلاد الإسلامية وتبدّل الظروف وحاجات المسلمين .

٣ ـ شعر المسلمون في هذا الظرف بأهمية البحث عن مبدأ فكري يتكفّل حلّ مشكلاتهم ; لأنّ النصّ المحرّف واجتهادات الصحابة أصبح متخلّفاً عن المواكبة ، بل أصبح بنفسه مشكلة أمام المسلم لتعارضه مع العقل والحياة .

٤ ـ في هذا العصر ظهرت مدارس فكرية متطرّفة مثل مدرسة الرأي القائلة بالقياس والاستحسان ، زاعمة أنّ للنصوص التي نقلت عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قليلة(١) لا تفي بالغرض ، الأمر الذي تسرّب فيه العنصر الذاتي للمجتهد ودخل الإنسان بذوقه الخاص إلى التشريع(٢) ، كما ظهرت مدرسة الحديث قِبال

ـــــــــــــــــ

(١) هذا في غير مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام الذين حرصوا على نقل تراث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وواجهوا منع تدوين السنّة النبوية بالحث على التدوين والنقل والتعليم ؛ لئلاَّ تندرس معالم الدين .

(٢) فقد عرف حسن أبي حنيفة أنّه لم يصح عنده من أحاديث الرسول الفقهية سوى سبعة حشر حديثاً راجع مقدمة ابن خلدون : ٣٧٢ .

٥٤

مدرسة الرأي والتي عرفت بالجمود على ظاهر النص ولم تتفرّغ لتمييز صحيح النصوص من غيره .

٥ ـ غياب القدوة الحسنة والجماعة الصالحة التي تشكّل مناخاً لنمو الفضيلة وزرع الأمل في نفوس الأمة باتّجاه الأهداف الربّانيّة .

في هذا الظرف الذي ذهب فيه الخوف واستطاع المسلم أن يبحث عن المعرفة وعن حل لمشكلاته الفكرية ، قام الإمام الباقرعليه‌السلام بتشكيل حلقاته العلمية في مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ؛ فكان وجودهعليه‌السلام مركز جذب لقلوب طلاب الحقيقة فالتفّ حوله صحابة أبيه الإمام زين العابدينعليه‌السلام ، وبدأ منذ ذلك الحين بالتركيز على بناء الكادر العلمي آملاً أن يواجه به المشكلات الفكرية التي بدأت تغزو الأمة المسلمة وكان يشكّل هذا الكادر فيما بعد الأرضية اللازمة لمشروع الإمام الصادقعليه‌السلام المرتقب ، فتناول الإمامعليه‌السلام أهمّ المشكلات الفكرية التي كان لها ارتباط وثيق بحياة الناس العقائدية والأخلاقية والسياسية .

وزجّ الإمام بكادره العلمي وسط الأمة بعد أن عبّأه بكل المؤهّلات التي تمكّنهُ من خوض المعركة الفكرية حينما قال لأبان بن تغلب :( اجلس في مسجد المدينة وافت الناس فإنّي أحبّ أن أرى في شيعتي مثلك ) (١) .

وعندما يدرك الأصحاب مغزى هدف الإمام من هذا التوجيه وضرورة الحضور مع الناس ؛ يتصدّى هؤلاء بأنفسهم لمعالجة المشكلات الفكرية وإبطال الشبه عن طريق الحوار والمناظرة حسب الخط الذي رسمه لهم الإمامعليه‌السلام في وقت سابق .

ـــــــــــــــــ

(١) اختيار معرفة الرجال للكشي ٢/٦٢٢ ، ح ٦٠٣ .

٥٥

قال عبد الرحمن بن الحجاج : كنّا في مجلس أبان بن تغلب فجاء شاب فقال له : يا أبا سعيد أخبرني كم شهد مع علي بن أبي طالب من أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ وأدرك أبان مراده فانبرى قائلاً : كأنّك تريد أن تعرف عليّاً بمَن تبعه من أصحاب رسول الله ؟ فقال هو ذاك .

فأجابه أبان : والله ما عرفنا فضلهم ـ أي الصحابة ـ إلاَّ باتّباعهم إيّاه .

وتعميقاً لهذا التوجيه وبنفس السياق يبادر محبوب أهل البيت ولسانهم مؤمن الطاق ليواجه أفكار حركة الخوارج ويردّ على جرأتها في التشكيك بموقف الإمام عليعليه‌السلام من مسألة التحكيم(١) .

يدخل مؤمن الطاق على بعض زعماء الخوارج في الكوفة فيقول له : أنا على بصيرة من ديني وقد سمعتك تصف العدل فأحببت الدخول معك ، فيقول الخارجي لأصحابه إن دخل هذا معكم نفعكم.

فيقول له مؤمن الطاق : لِمَ تبرّأتم من عليّ بن أبي طالب واستحللتم قتله وقتاله ؟

يجيبه الخارجي : لأنّه حكّم الرجال في دين الله .

فيقول له : وكلَّ من حكّم في دين الله استحللتم قتله ؟

فيجيب الخارجي : نعم .

فيقول له : أخبرني عن الدين الذي جئت أُنظارك به لأدخل معك فيه ، إن غَلَبَتْ حجّتي حجّتك ، من يوقِفُ المخطئ منّا عن خطئه ويحكم للمصيب بصوابه ؟

فيشير الضحّاك إلى رجل من أصحابه ويقول : هذا هو الحكم بيننا .

ـــــــــــــــــ

(١) معجم رجال الحديث : ١/٢١ ـ ٢٢ وتنقيح المقال : ١/٤ .

٥٦

هنا يتوجّه مؤمن الطاق إلى مَن كان حاضراً من الخوارج ويقول : زعيمكم هذا قد حكّم في دين الله(١) وهكذا يفحمهم بحجّته البالغة ومنطقه القويم .

وقبل أن ننتهي من حياة الإمامعليه‌السلام نشير إلى ثلاث وقائع تاريخية لها صلة بالمرحلة التي سوف يتصدّى لها الإمام الصادقعليه‌السلام .

الواقعة الأولى : إنّ هشام بن عبد الملك هو واحد من الحكّام الأمويين الَّذين نصبوا العداوة لأهل البيت ، بل نراه قد زاد على غيره حتَّى أنّه على أثر الخطبة التي خطبها الإمام الصادقعليه‌السلام في مكة والتي أوضح فيها معنى القيادة ولمَن تكون القيادة ، يأمر هشام فور رجوعه إلى الشام بجلب الإمامين الباقر والصادقعليهما‌السلام إلى دمشق لغرض التنكيل بهما .

وبعد اللقاء بهشام تفوّق الإمام الباقرعليه‌السلام في البلاط الأموي في الحوار الذي أجراه مع هشام ثم حواره مع عالم النصارى في الشام ، يسمح لهما هشام بالرجوع إلى المدينة ولكنّه يأمر أمير ( مدين ) ـ وهي المدينة الواقعة في طريقهما ـ بإيذائهما فقد جاء في رسالته : إنّ ابن أبي تراب الساحر محمّد بن علي وابنه جعفر الكذابين فيما يظهران من الإسلام ، قد وردا عليّ فلمّا صرفتهما إلى يوم الدين مالا إلى القسسين والرهبان ، وتقربّا إليهم بالنصرانية فكرهت النكال لقربهما ، فإذا مرّا بانصرافهما عليكم فليناد في الناس : برئت الذمّة ممّن باعهما وشاراهما وصافحهما وسلّم عليهما ، ورأى أمير المؤمنين قتلهما ودوابّهما وغلمانهما لارتدادهما والسلام(٢) .

ولم يترك هشام الإمام الباقرعليه‌السلام حُرّاً يتحرّك في المدينة ، ولم يسترح

ـــــــــــــــــ

(١) الإمام الصادق والمذاهب الأربعة : ٢/ ٧٢ .

(٢) دلائل الإمامة : ١٠٤ ـ ١٠٩ وبحار الأنوار : ٤٦ ـ ٣٠٦ .

٥٧

من تواجده في الساحة الإسلامية حتَّى أقدم على قتله غيلةً بالسمّ سنة (١١٤هـ)(١) .

الواقعة الثانية : في هذهِ الفترة تحفّز زيد بن علي بن الحسينعليه‌السلام وصمّم على الثورة ضد هشام بن عبد الملك على أثر تصرّفات الأمويين ، ولا سيّما تصرّف هشام المهين بحق زيد ، والنيل من كرامته ، وما كان يفعله هشام بحق الشيعة بشكل خاص .

لقد دخل زيد على هشام فسلّم عليه بالإمرة فلم يردّ السلام إهانةً له ، بل أغلظ في الكلام ولم يفسح له في المجلس .

فقال زيد : السلام عليك يا أحول ، فإنّك ترى نفسك أهلاً لهذا الاسم فغضب هشام وجرت بينهما محاورة كان نصيب هشام فيها الفشل ، وخرج زيد وهو يقول : ما كره قومٌ حرّ السيوف إلاَّ ذلّوا .

وأمر هشام بردّه وقال له : اُذكر حوائجك ، فقال زيد : أما وأنت ناظر على أمور المسلمين فلا وخرج من عنده وقال : مَن أحبّ الحياة ذلّ(٢) .

ومضى زيد إلى الكوفة ثمّ خطّط للثورة واستشار بذلك الإمام الباقرعليه‌السلام .

قال الإمام الصادقعليه‌السلام :إنّ عمّي أتى أبي فقال إنّي أريد الخروج على هذا الطاغية .

ولمّا أزمع على الخروج أتاه جابر بن يزيد الجعفي فقال له : إنّي سمعت أخاك أبا جعفر يقول :إنّ أخي زيد بن علي خارج ومقتول وهو على الحق فالويل لمَن خذله ، والويل لمَن حاربه ، والويل لمَن يقتله فقال له زيد : يا جابر لم يسعني أن أسكت وقد خولف كتاب الله تعالى

ـــــــــــــــــ

(١) شذرات الذهب : ١/١٤٩ ، تاريخ بن الأثير : ٤/٢١٧ ، طبقات الفقهاء : ٣٦ .

(٢) تاريخ الطبري : حوادث سنة ( ١٢١ ) ، وتاريخ ابن عساكر : ٦ / ٢٢ ـ ٢٣ .

٥٨

وتحوكم بالجبت والطاغوت(١) .

الواقعة الثالثة : ولمّا قربت وفاة الإمام محمّد الباقرعليه‌السلام دعا بأبي عبد الله جعفر الصادقعليه‌السلام فقال له :إنّ هذه الليلة التي وُعدت فيها ثم سلّم إليه الاسم الأعظم ومواريث الأنبياء والسلاح وقال له :يا أبا عبد الله ، الله الله في الشيعة فقال أبو عبد الله :لا تركتهم يحتاجون إلى أحد ... (٢) .

بهذا العرض ننتهي من تصوير حياة الإمام الصادق مع أبيه لتبدأ مرحلة تصدّيه للإمامة ، وبها يبدأ عصر جديد من العمل والجهاد والإصلاح .

ـــــــــــــــــ

(١) راجع تيسير المطالب : ١٠٨ ـ ١٠٩ .

(٢) إثبات الهداة : ٥/٣٣٠ .

٥٩

الباب الثالث :

وفيه فصول :

الفصل الأوّل : ملامح عصر الإمام الصادقعليه‌السلام .

الفصل الثاني : دور الإمامعليه‌السلام في تثبيت معالم الرسالة .

الفصل الثالث : دور الإمامعليه‌السلام في بناء الجماعة الصالحة .

٦٠

وحالفوهم وتغلغلوا في قنواتهم الثقافيّة والاقتصاديّة، ولم يكن موقف اليهود هذا حبّاً للإسلام وحرصاً على المسلمين، وإنّما كان استراتيجيّة جديدة تؤهّلهم لتغيير مسار الأحداث لصالحهم، وهذا هو ديدنهم أينما وُجدوا، فبالرغم من القضاء المبكّر عليهم أيّام الدولة الإسلاميّة الأُولى على عهد الرسول (صلّى الله عليه وآله)، فإنّهم استطاعوا الظهور ثانيةً في أدوار مختلفة استهدفت هدْم الإسلام من داخله، حتّى أنّ بعضهم اعتنق الإسلام نفاقاً من أجل ذلك.

وعندما رأى اليهود أنّ موازين القُوى في الأندلس اختلّت لمصلحة المُستعربين ونصارى الشمال وحلفائهم الأوربّيّين، ومع بداية أُفول نجم الدولة الإسلاميّة ظهروا بصورتهم الحقيقيّة وكشروا عن أنيابهم، وبدت نواياهم السيّئة، فنقلوا ولاءهم إلى إسبانيا المسيحيّة، ونزحوا إلى المناطق الإسبانيّة المستردّة من سيطرة الدولة الإسلاميّة.

ملتحقين بمن سبقهم من إخوانهم الذين كانوا قد باشروا - بإغراء وتشجيع من أعيان الكنيسة - العمل في ترجمة التراث الثقافي الإسلامي، على نطاقٍ واسع خدمةً للمشروع الكاثوليكي الأوربّي، الذي نجح في مناغمة الهويّة العنصريّة الإسبانيّة بالمشاعر الدينيّة المتطرّفة لمقاومة أعداء المسيحيّة.

فكان اليهود أكفأ المُساهمين وأنشطهم لما ملكوا من (مشاركة في التراث العربي الإسلامي، استلهاماً واقتباساً ومحاكاةً ومنافسةً)(١) . إضافةً إلى إتقانهم للغاتٍ عدّة بحكم كثرة تنقّلهم، وتبدّل مواطنهم، وتوزّعهم الديمغرافي، ممّا أهّلهم للقيام بدورٍ أساسي، في حركة الترجمة والنقل عن العربيّة إلى العبريّة، وعنهما إلى اللاتينيّة.

____________________

(١) أسد، محمّد - (الإسلام على مفترق الطرق). الترجمة العربيّة: ١٥٦.

٦١

ولعلّه من غير المبالغة القول: إنّ اليهود هُم (المستشرقون) و(المُستعربون) التاريخيّون أينما حلّوا.

ومِن هذا يُمكن أنْ نفسّر تغلغل الإسرائيليّات ودخولها ضمن تراثنا الفكري الإسلامي، وأثرها في تفسير القرآن، وما خلّفته من موروثات ثقافيّة دينيّة محرّفة، ساهمت في إبعاد المسلمين عن الفهم الصحيح للقرآن والسنّة النبويّة، وبهذا كان لهم الدور المؤثّر في انحراف المجتمع الإسلامي في الأندلس عن مساره، وذلك من خلال ما ابتدعوه من فِرَقٍ هدّامة تنتهي بجذورها إلى لونٍ مِن ألوان العمل الثقافي اليهودي.

إنّ الانتماءات القوميّة المختلفة التي كانت قد شكّلت الهيكل العام للمجتمع الإسلامي في الأندلس، لم تكن سدّاً أمام حصول التداخل الاجتماعي والالتقاط الثقافي بين تلك القوميّات، وهذا التداخل والالتقاط أفرز حالةً جديدةً مِن أبرز سِماتها تبلور أفكار وعقائد وإيديولوجيّات مختلفة.

وعلى هذا فقد أصبحت الأندلس ولأوّل مرّة في التأريخ حالةً حضاريّةً فريدةً من نوعها بين الشرق والغرب، حيث إنّ التناقضات الدينيّة والفكريّة والسياسيّة جعلتها أرضاً خصبةً، لولادة ثقافة أوربيّة حديثة كانت نواتها الطرح الإسلامي الجديد الوافد من الشرق، لكنّها رفضته ديناً وعقيدة لها من خلال رفضها لمظهره المتمثّل بالمسلمين، إلاّ أنّها عملت على تمثّل ثقافتهم وعلومهم للالتفات عليهم، والسعي إلى إحباط الجهود الحضاريّة والفكريّة والعلميّة لهم.

في هذا المناخ المركّب الذي تحالفت فيه قُوى وإمكانات الكنيسة الكاثوليكية والإسبان المهاجرين من الأندلس الإسلاميّة والمُستعربين، بتسهيل من الجهود الثقافيّة لليهود لاحقاً، وعلى أساس مشروع استرداد إسبانيا للنصرانيّة الأوربيّة نمت (قابليّة الوجود) الاستشراقي بِدءاً بالأندلس، ثمّ تطوّرت بلبوس متنوّع، إلاّ أنّ هذه القابليّة اقتصرت في أوّليّاتها على الاتّصال والتعرّف

٦٢

والاطلاع والتعايش الفاعل مع الفاتحين. وبشكل إقبالٍ مشوبٍ بالحذر على تعلّم اللغة العربيّة وعلومها.

وعليه فمن المُستبعد تصديق زعم البعض من أنّ (الاستشراق قد نشأ حقّاً في منتصف القرن الثامن الميلادي في الأندلس)(١) ، إذ إنّ المسلمين الذي لم يكن قد مضى على دخولهم (أيبيريا) أكثر من أربعين سنة، وهُم في غالبيّتهم من العسكر البربري، لم يكونوا بعد متهيّئين لعرض أفكارهم وثقافتهم المدوّنة على أهل البلاد المفتوحة؛ لأنّ دَورهم قد اتّخذ منحىً عسكريّاً في المرحلة الأُولى من استقرارهم في الأندلس.

أمّا دورهم كروّاد ثقافة وحَمَلة فكر، فأغلب الظن أنّه تأخّر عن منتصف القرن الثامن نصف قرن على الأقل؛ لأنّ المرحلة تستدعي بالضرورة مدىً زمنيّاً كافياً ليتسنّى لهم إتمام عمليّة الاستيطان والاستقرار في عالمهم الجديد، قبل طرح أنفسهم على أنّهم دعاةُ ثقافةٍ وفكرٍ وحضارة.

وعليه فلا يُمكننا الحديث عن حالةٍ ثقافيّةٍ مزدهرة وحقيقيّة في الأندلس إلاّ مع (بداية (الإسلاميّة) في المشرق والمعاصرة للعباسيّين)(٢) في عهد الحكم الأوّل (٧٩٦ - ٨٢٢م)، حفيد عبد الرحمان الداخل، وعهد عبد الرحمان الداخل، وعهد عبد الرحمان الأوسط (٨٢٢ - ٨٥٢م) ابن الحكم الأوّل، فليس من المُمكن - منطقيّاً - أنْ تنتقل إلى المُستعربين وغيرهم من العناصر المكوّنة للمجتمع الأندلسي حالةٌ ثقافيّةٌ لم تكن متيّسرة أصلاً للعرب والمسلمين الأندلسيّين الآخرين أنفسهم. وهُم لا يزالون منهمكين في تأسيس دولتهم وتحصينها والتأقلم مع خصوصيّات الوطن الجديد.

ففي تلك الفترة التي أشرنا إليها بدأ البحث التأريخي يكتشف وجود

____________________

(١) سمايلوفتش، أحمد - (فلسفة الاستشراق وأثرها في الأدب العربي المعاصر): ٦٧.

(٢) فيرينيه، جوان - (تراث الإسلام) القسم الثالث، الترجمة العربيّة: ١٦٩.

٦٣

مُدَوّنات إسبانيّة محمّلة بتأثيرات عربيّة واضحة في مضمونها، ممّا يثبت أنّ مؤلّفيها قد أخذوا مادّتهم التاريخيّة من مصادر عربيّة. ومن تلك المدوّنات( مخطوطات مختلفة وُجِدت في (أُوبيط) وهي محفوظة في مكتبة الاسكوريال، وقد احتفظ بها القدّيس (أولوجيوس) القرطبي (توفّي سنة ٨٥٩م) ونُقِلت إلى (أوبيط) عام ٨٨٤م)(١) .

إنّ حركة الترجمة من العربيّة إلى اللاتينيّة وغيرها مِن الأنشطة الثقافيّة والعلميّة، كالاقتباس والنقل والاستنباط والاستيحاء من قِبل المُستعربين والأوربّيّين، وإنْ كانت لأغراض عقائديّة كما أشرنا، إلاّ أنّها لم تتحوّل إلى حالة ثقافيّة شاملة إلاّ في القرن التاسع الميلادي، بعد أنْ خَبَر النصارى الإسبان عُمق الثقافة الإسلاميّة وتعرّفوا عليها، أي بعد مرور مِئة سنة ونيف على انتهاء عمليّات الفتح الإسلامي للأندلس.

وبعد اكتمال شروط التفاعل والتمازج بين شرائح المجتمع الأندلسي المختلفة، وبالتالي بروز مشروعَين متقابلين كانا يمثّلان طرفَي الصراع: أحدهما يؤكّد على استعادة مجد المسيحيّة بكلّ توجّهاته، الإيديولوجيّة والسياسيّة والثقافيّة والعسكريّة، والانتقام من المسلمين، والعمل على عودة إسبانيا إلى الحضيرة الأوربيّة المسيحيّة.

والآخر كان يؤكّد على إشاعة روح التغيير في البلاد، والتشبّث لتعميق الروح الإسلاميّة مستفيداً من عظيم تراثه، ومتانة فكره وثقافته، وأصالة حضارته القائمة على العدل والتوازن.

هكذا نشأ الاستشراق وانتقل مروراً بالاستعراب من طور القابليّة، إلى طور التحقّق الفعلي كحالة ثقافيّة ليبدأ بالتكرّس والتحوّل إلى مؤسّسة وصرحٍ وفق خططٍ وأهدافٍ إستراتيجيّة. وابتدأ من القرن العاشر الميلادي يوم غدت

____________________

(١) المصدر السابق: ١٦٩.

٦٤

الأندلس مركزاً لانتقال الازدهار الحضاري الإسلامي والإنساني على قلب أوربّا، فكانت إسبانيا والإسبانيّون الأكثر انفعالاً وتأثّراً بالحضارة الإسلاميّة؛ لأنّ الإسلام عاش بين ظهرانيهم ثمانية قرون، وانتشر منهم إلى بقيّة المناطق الأوربيّة شمال أيبيريا. وبالرغم من أنّ أغلب النظريّات الاستشراقيّة العامّة وتطوّراتها التاريخيّة قد وقعت خارج إسبانيا، إلاّ أنّ أغلب أُطروحات الأوربّيين ومعلوماتهم وأخبارهم عن الإسلام والمسلمين، كانت محاكاةً للظروف والتناقضات السياسيّة والاجتماعيّة والعقائديّة، التي عاشها المسلمون في الأندلس، وموسومة بالصبغة الأندلسيّة من حيث النشأة والتوجّه والحركة.

٦٥

بروز نظريّات الاستشراق الاستعماري

إنّ تجربة الأندلس وما تمخّضت عنه من أحداث وتغيّرات تركت آثارها على المجتمع الأوربّي، قد أفرزت إحساساً لدى الأوربيّين بالخطر الداهم الذي ينتظرهم، ومِن ورائه الضعف والخواء الذي يكتنف ثقافتهم وأُصولهم الفكريّة، وبالتالي انهيار بنائهم الحضاري المُتهافت، ممّا دعاهم - بردودِ فعلٍ شديدة - للتصدّي بمختلف الوسائل وبشكلٍ مدروس ومنظم للحيلولة دون اتّساع دائرة التأثر بإشعاعات المدّ الإسلامي الذي غمر إسبانيا. وقد شجّعهم على ذلك دافع ذو بعدٍ ديني وهو أنّهم (مسيحيّون ياهدون ضدّ أعداء المسيحيّة)(١) .

وعلى هذا كان الاستشراق أحد ردود الفعل، ولعلّه الأبرز في معادلة الصراع الحضاري بأشكاله الدينيّة والسياسيّة والفكريّة، ولا سيّما أنّ الغرب والأوربيّين بشكلٍ خاص ينظرون آنذاك، إلى كون المشرق الإسلامي (ملكاً للإمبراطوريّة الرومانيّة)(٢) يجب استرداده من أيدي المسلمين، وإرجاعه إلى حضيرة الإمبراطوريّة الرومانيّة المتهرّئة.

فانعكس هذا التفكير على متبنّياتهم الإستراتيجيّة للمواجهة كإحدى الثوابت التي يؤمنون بها، ويعملون لتحقيقها. وقد وظّف الاستشراق في هذا السبيل لخدمة نوايا استرداد العالم الإسلامي الذي

____________________

(١) وات، مونتغمري - (فضل الإسلام على الحضارة الأوربيّة) الترجمة العربيّة: ٦٨.

(٢) الجندي، أنور - (الإسلام وحركة التأريخ): ٣٨٠.

٦٦

سيتّخذ فيما بعد أُطُراً وأشكالاً حديثة تنسجم وطبيعة مراحل الصراع، وليس من المستبعد أنْ تكون حركة الكشوف الجغرافيّة حول شواطئ العالم الإسلامي، قد جاءت بهدف السيطرة على المنطقة خدمةً للمصالح الأوربيّة الاستعماريّة، ووفق هذه الرؤية يُمكن تفسير أعمال (هنري الملاح) أو (ماركوبولو) أو (كريستوفر كولومبس)، على أنّها حلقة من حَلَقَات المؤامرة التي حُبِكت لاستعمار المشرق الإسلامي.

وممّا يؤكّد ظهور هذا التوجّه بشكلٍ واضح، ما حصل (في أواسط القرن الثامن عشر عندما أخذت أوربّا تتحفّز لاستعمار الشرق، وأخذ علماؤها يبحثون في تأليف جمعيّات لهذهِ الغاية فأُنشئت منذ ذلك العهد في أوربّا وأميركا عدّة جمعيّات للمستشرقين، وأقدمها عهداً الجمعيّة الآسيويّة في باريس التي أُسّست سنة ١٨٢٢م بمعرفة شيخ المُستشرقين من الفرنسيّين (سلفستر دي ساس)، ثمّ أُنشئت معاهد للّغات الشرقيّة في جميع الدول، تابعة لوزارة المستعمرات أو لوزارة الخارجيّة المشرفة على الشؤون السياسيّة)(١) .

إلاّ أنّ الكثير مِن المحاولات لم تحقّق غاياتها الأساسيّة (فقد أوقفتها القوّة الإسلامية العثمانيّة النامية، واستطاعت أنْ تقضي عليها)(٢) ، ولكنّ هذا القضاء كان مؤقّتا، حيثُ استأنفت من جديد مع مطلع القرن التاسع عشر الخطط الاستعماريّة الخبيثة لتحقيق ما عجزت عن تحقيقه قبل قرون، أي منذ استرداد إسبانيا من أيدي المسلمين، وقد نجحت نجاحاً كبيراً في إقامة صرح الاستشراق، وتطوير حركته بما يخدم سعيها نحو بسط سلطتها على عموم الشرق والشرق الإسلامي منه خاصّة.

____________________

(١) عبد الوهاب حمودة، من زلاّت المستشرقين، مجلّة رسالة الإسلام: ٣٣، السنة التاسعة.

(٢) الجندي، أنور - (الإسلام وحركة التأريخ): ٣٨١.

٦٧

٦٨

الفصل الثّاني

المراحل والأدوار التي مرّت بها الحركة الاستشراقيَّةُ

* المرحلة الأولى: مرحلة الانفتاح لاحتواء الحضارة الإسلاميّة.

* المرحلة الثّانية: مرحلة الفرز لاستلاب الحضارة الإسلاميّة.

* المرحلة الثّالثة: مرحلة تغريب إفرازات الحضارة الإسلاميّة المستلبة.

* المرحلة الرّابعة: مرحلة استعمار الشّرق وتطبيعه على الحضارة المغرّبة.

٦٩

٧٠

رغم أنّ مسيرة الاستشراق كحركة قد تشعبت وتطورت في مناهجها وأساليبها إلاّ أنّ دوافع التعصّب الديني والشعور بالتفوّق العرقي ظلّ هو الخيط الأحمر الذي حيكت به أبعاده الأساسيّة.

وحتّى يُمكننا الإحاطة الشاملة بخارطة هذه الأبعاد، وطبيعة الآثار والنتائج التي حقّقتها لابدّ لنا من تقسيم حركة الاستشراق إلى عدّة مراحل وادوار رئيسيّة هي:

المرحلة الأُولى

مرحلة الانفتاح لاحتواء الحضارة الإسلاميّة

ويؤرّخ لهذهِ المرحلة منذ بدايات الفتح الإسلامي لإسبانيا وتأسيس دولة الأندلس، وبحكم التعايش الذي حصل بين القوميّات المختلفة، التي كانت تحمل بصمات أفكارها، برّز الفكر الإسلامي والحضارة الإسلاميّة قوّةً مؤثّرةً وجديدةً في حياة الأندلسيّين، خصوصاً وأنّ الإسلام قد دخل عليهم بشكل مفاجئ.

من هنا بدأت مقدّمات الاستشراق وذلك بانفتاح الإسبانيّين والمُستعربين على المسلمين والفكر الإسلامي، وبشكل مُدبّر ومدروس وذو أهدافٍ ومرامٍ بعيدة المدى، وهذا

٧١

ما استقرأناه من كتب التاريخ التي تؤرّخ لتلك المرحلة(١) ، حيثُ تمّ في ذلك الوقت ترجمة أمّهات الكتب الإسلاميّة من العربيّة إلى الإسبانيّة والعبريّة واللاتينيّة، وانصبّ الجهد على هذه المترجمات لدراستها واستيعابها. وبحكم وجود اليهود وصراعهم المستمر مع المسلمين منذ العهد المدني لرسول الله (صلّى الله عليه وآله)، كان لهم القسط الأوفر في هذا الاتّجاه في سبيل خدمة مصالحهم وطمس هويّة العلوم الإسلاميّة، عن طريق نسبتها لهم وأنّها ليست من الحضارة الإسلاميّة والفكر الإسلامي في شيء، ومن هنا وضعت المخطّطات لترجمة القرآن الكريم ترجمةً اتّخذت من الإسرائيليّات والأساطير الملفّقة إطاراً مرجعيّاً لها، وامتدّت هذهِ المخطّطات لتشمل ترجمة كتب الحديث والتفسير، وكذلك دراسة اللغة العربيّة ووضع المعاجم لها.

وبهذا فقد أخذت أوربّا الظمأى تعبُّ من منهل الشرق الإسلامي، ولا ترتوي على مدى عشرة قرونٍ متعاقبة، ابتدأت من عام ٧١١م تاريخ فتح الأندلس إلى نهاية القرن السابع عشر، وما العصر الذي سمّته أوربّا عصر النهضة أو (عصر الإيديولوجيّة العقلانيّة العلمانيّة)(٢) ، إلاّ عصر امتلاء وتضخّم بطن أوربّا بعطاءات الإسلام الحضاريّة، التي تحوّلت فيما بعد إلى (نقطة حراسة أماميّة للغرب)(٣) .

ويمكن القول: إنّ بعض الباحثين قد أخطأوا في تحديد هذه المرحلة، حينما اعتقدوا بأنّ أوّل اتّصالٍ جادٍ وفاعل بين الثقافة الإسلاميّة والتلقّي الأوربّي قد حدث نتيجة للحروب الصليبيّة، التي (عيّنت (في رأيهم) في المقام الأوّل والمقام

____________________

(١) أشرنا إلى ذلك في فصل (الجذور التاريخيّة لحركة الاستشراق).

(٢) الدكتور سلمان، سمير (الجذور التكوينيّة للاستشراق في الأندلس) عن مجلّة التوحيد العدد ٣١، ص١١٣.

(٣) غابريلي، فرانشكو في (تراث الإسلام) القسم الأوّل تصنيف شاخت وبوزورت الترجمة العربيّة ص١١٠.

٧٢

الأهم موقف أوربّا من الإسلام لبضعة قرون تتلو)(١) ، واتّفقت مع بزوغ فجر المدنيّة الأوربيّة(٢) ، وقيام (عصر النهضة ذي الروح الجديدة والوعي الجديد بالعالم)(٣) .

في مقابل هذا كان المسلمون الأندلسيّون، باعتبارهم حَمَلة رسالة تدعو إلى التسامح والتقارب والتثاقف، والانفتاح الفكري والعلمي وحريّة الفكر، قد فتحوا خزائن معارفهم وعلومهم لكلّ طالبِ ثقافةٍ وعلم مهما يكن معتقده الديني وانتماؤه العرقي(٤) ، فغصّت الجامعات الإسلامية في طليطلة وقرطبة، مدينة الثلاثة آلاف والثمانمِئة والثلاثة والسبعين مسجداً(٥) ، بما يعنيه المسجد باعتباره مؤسّسة متعدّدة الاهتمامات والخدمات، وبطلاّب العلم الأوربيّين (فتلقّوا العلم مجّاناً مع تقديم الطعام والمسكن أحياناً، وهذا مثال يحمل في طيّاته أعظم مبادئ الرقيّ والتسامح والتمدّن. كما أنّ الجامعات الأوربيّة إنّما نشأت تقليداً للجامعات العربيّة في إسبانيا)(٦) .

____________________

(١) أسد، محمّد (الإسلام على مفترق طُرق) الترجمة العربيّة ص٥٥.

(٢) المصدر نفسه - ص٥٤.

(٣) إتنغهاور، ريتشارد في (تراث الإسلام) تصنيف شاخت وبوزورث - الترجمة العربيّة - ص١٣١.

(٤) بلغ شغف المُستعربين بالثقافة العربيّة الإسلاميّة حدّاً جعلهم ينسون لغتهم الأُم. فاضطرّ العرب إلى أنْ يُترجموا الإنجيل إلى اللغة العربيّة، ليتسنّى لنصارى الأندلس المُستعربين قراءته باللغة التي استهوتهم. راجع كراتشقوفسكي، اغناطيوس (دراسات في تاريخ الأدب العربي) الترجمة العربيّة. ص٥٩.

(٥) جرجي زيدان، (تاريخ التمدّن الإسلامي) م٢ ص٦٢١.

(٦) مظهر، جلال (أثر العرب في الحضارة الأوربيّة) ص١٥٨. راجع أيضاً الطويل، توفيق (في تراثنا العربي والإسلامي) ص٢١٢ - ٢١٣.

٧٣

المرحلة الثانية

مرحلة الفرز لاستلاب الحضارة الإسلاميّة

وبها يتمّ الانتقاء المدروس للعلوم والنظريّات الفكريّة، لغرض تمثّل ما يخدم النهضة الأوربيّة، وبناء ركائزها وتمهيداً لاستعمار الشرق فيما بعد. ويؤرّخ لهذهِ المرحلة بالنصف الأخير من القرن الثالث عشر الميلادي وذلك عندما استطاع، بعد عدّة إخفاقات، إقناع المجمع الكنسي العام في فيينّا عام ١٣١١م بإصدار القانون العام رقم (١١)، والذي يقضي بتدريس اللغات الشرقيّة في خمس جامعات أوربيّة، وقد صدر هذا القانون مع تحديد مدرّسين كاثوليكيّين لكلّ جامعة، ليقوما بتدريس هذه اللغات وعلى رأسها اللغة العربيّة(١) .

وفي هذهِ المرحلة بذل كبار رجال الاستشراق جهدهم من أجل استثمار الحضارة الإسلاميّة والفكر الإنساني الإسلامي، في بناء الفكر والحضارة الأوربيّة والغربيّة، وقد استخدموا الكثير من الأساليب لخدمة هذا الغرض، منها ردّ الفكر الإنساني عموماً إلى الفكر اليوناني، دون الرجوع إلى الفكر الإسلامي.

ولعلّ جذور هذهِ المرحلة يعود إلى إدراك الأوربيّين لضرورة فهم الحضارة الإسلاميّة، ودراستها للوقوف في وجهها وصدّها عن الامتداد، ولا سيّما أنّهم أحسّوا بخطر تأثير المبادئ والأفكار الحضاريّة التي أتى بها الدين الإسلامي، وأثرها على المجتمع الأوربّي آنذاك، وقد تجلّى ذلك في أقوال بعض المُستشرقين منهم(فرانز

____________________

(١) عن مجلّة رسالة الجهاد - العدد ٧٢ - السنة السابعة - ١٩٨٨م ص٢٦، عن ندوة الدين والتدافع الحضاري في محور البحث الثالث (الاستشراق كأداة مواجهة للإسلام).

٧٤

دوزنتال) حين يقول: (إنّ الهدف هو الوصول إلى فهم عميق للتفكير الديني الكلامي عند المسلمين، أملاً أنْ يصبح الأوربيّون أقدر على التعرّف على هذا التفكير، واستغلال ما كانوا يتصوّرون أنّه مَواطن الضعف فيه)(١) .

ولعلّ الإيديولوجيّة الاستعماريّة تمتد بجذورها إلى تلك المرحلة، حيثُ مُورست أبشع وسائل المصادرة والاستغنام العلميّين عن طريق فرز النظريّات الإنسانية والعلميّة التي جاء بها المسلمون، وانتحال ما يرَونه مناسباً منها، ومحاولة إبرازها على أنّها من أُمّهات الفكر الأوربّي ومن نتاجاتهم العلميّة، وكما يقول الباحث الكاتب(د. ياسين عريبي) : (إنّ بهذه المرحلة دخلت أوربّا عصر النهضة، وخرجت من العصر الوسيط المتخلّف حيث تمّ فيما بعد تعميم الدراسات الشرقيّة والإسلاميّة والتحكّم في علومها بتوظيفها في بناء الحضارة الأوربيّة)(٢) .

المرحلة الثالثة

مرحلة تغريب إفرازات الحضارة الإسلاميّة المُستلبة

في هذهِ المرحلة - التي يُمكننا أنْ نسمّيها بعصر النهضة الحقيقيّة لأوربّا - ازدهرت تجربة الاستشراق وتطوّرت وانتقلت إلى محاولة تغريب الثقافة الإسلاميّة والعربيّة، والثقافات الإنسانيّة المقرّبة والمؤسلمة، لاستثمارها من قِبَل الغرب ليُعمِّر بها أُسُس نهضته ويُشيّد مَدنيّته التي يصبو إليها، وفيها سُرِق النموذج

____________________

(١) فوك، يوهان في (المستشرقون الألمان) ص١٥.

(٢) عن مجلّة رسالة الجهاد - العدد ٧٢ - السنة السابعة ١٩٨٨ ص٢٦ عن ندوة الدين والتدافع الحضاري في محور البحث الثالث (الاستشراق كأداة مواجهة للإسلام).

٧٥

الثقافي والحضاري الإسلامي في الحريّة الفكريّة، والأخلاقيّة العلميّة والبحث النزيه والتسامح الديني، استناداً إلى منهج توحيدي إنساني، ومقارنةً بسيطةً بين الحالة الثقافيّة والحضاريّة المتخلّفة لأوربّا قبل هذهِ المرحلة، وحالتها اللاحقة تكشف عن مدى التغيير الهائل كمّيّاً وكيفيّاً في هذا الاتّجاه.

ولعلّ الإرهاصات الأوليّة لهذا التغريب بدأت في العصور الوسطى على يد البابا(سلفستر الثاني) والقدّيس(أنسلم) وغيرهما.

ومن أبرز نماذج هذا التغريب ما امتدّ إلى الفكر الفلسفي، وإلى النظريّات الكلاميّة ما ظهر على يد (ديكارت)(١) حيث حاول استيعابالنظريّة السينوية في شموليّتها، محاولاً التعتيم عليها من خلال التركيب مع المذاهب الكلاميّة دون أنْ يذكر مفكّراً إسلاميّاً على الإطلاق، ومنها قياملايبنيتز (٢) من بعده بعمليّة تركيبٍ أوسَع وأشمل ليكمل ما أهمله (ديكارت)، وهكذا من بعده أمثال: مالبرانش، وفولف، وكروزيوس...

وقد اعترف (لايبنيتز) باغترافه من معين المعرفة في الفكر الإسلامي، خاصّة علم الكلام، فإنّه أي (لايبنيتز) يصف هذا العلم بأنّه وجده كذَهبٍ مكنوز

____________________

(١) ديكارت، رينيه (١٥٩٦ - ١٦٥٠م): فيلسوف وفيزيائي ورياضي فرنسي. يُعتبر في رأي كثير من الباحثين أبا الفلسفة الحديثة ومؤسّسها، اشتهر بكتابه (مقالة في المنهج) عام ١٦٣٧م، وفيه أطرح كلّ المعتقدات السابقة ليُعاود البحث عن الحقيقة، شاكّاً في كلّ شيء إلاّ حقيقة واحدة وهي أنّه يشك، ومن هنا كلمته المشهورة: (أنا أشك فإذن أنا أفكّر. وأنا أُفكّر فإذن أنا موجود). عن موسوعة المورد المجلّد ٣، ص١٨٠.

(٢) لايبنيتز غوتفريد فيلهلم (١٦٤٦ - ١٧١٦م): رياضيّ وفيلسوف ومخترع ألماني. ولد في (لايبسيك) حاول معبوسيه دمج الكنيستين الكاثوليكيّة والبروتستانتيّة. اكتشف أُسس (التحليل الحسابي)، من أتباع الفلسفة المثاليّة وقال: إنّه لا تعارض بين الإيمان والعقل. ابتكر عام ١٦٧١م أوّل آلة حاسبة تقوم بعمليّات الجمع والضرب.

عن المنجد - في الإعلام - ص٦١٠ وكذلك موسوعة المَورِد المجلّد ٦ ص١٠٤.

٧٦

في التراب المتبربر،(١) بل إنّه لا يكتفي بوصف المسلمين بالمتوحّشين، بل يخطّط في كتب ثلاثة لاستعمار مصر ويحرّض على ذلك، وبرغم اعترافه بأنّ النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله) قد بشّر بالدين الطبيعي، فإنّه حاول النيل من الإسلام في الكثير من كتاباته.

ولا يفوتنا أنْ نسجل تحفّظنا العلمي من محاولة التغريب هذه، حيث إنّنا نرفض أنْ يكون مضمون هذا التغريب بصورته الفعليّة، هو في أصله منسوب على الحضارة والفكر الإسلامي، وذلك لِما أُحدِث فيه من تركيبٍ وخلطٍ و تغيير أفقده الكثير من حقيقته وصورته الأصليّة، ولأنّ الهدف الحقيقي مِن وراء هذا التغريب ليس هو فرز ونقل النموذج الحضاري وعلوم المسلمين إلى أوربّا فحسب، بل هو في شقّه الثاني مَحْقٌ لهويّة وعوامل القوّة والأصالة في الفكر الإسلامي ومنهجه في الحياة، ويمكننا استثناء ما يتعلّق منها بالعلوم الطبيعية (كالطب والفيزياء والكيمياء والفلك وأمثالها)، فهي غالباً ما تكون في أصولها لدى المسلمين سُرقت ونُسِبت إلى أوربّا واستثمرت مدنيّا.

المرحلة الرابعة

مرحلة استعمار الشرق وتطبيعه على الحضارة المغرّبة

في هذهِ المرحلة التي غالباً ما كانت متداخلة ومصاحبة لمراحل الاستشراق وتطوّره، عمل الاستشراق على التعاون والامتزاج مع الحركة الاستعماريّة للبلدان الإسلاميّة، وبالذات في النصف الأخير من القرن التاسع عشر والنصف

____________________

(١) نسبة إلى البرابرة، وهو اسم أطلقه اليونان ثمّ الرومان على الأجانب من الأُمم من غير اليونانيّين والرومانيّين.

٧٧

الأوّل من القرن العشرين، حيثُ تمكّن الاستعمار من تطبيع الثقافة المغرّبة وضخِّها إلى البلدان التي يُريد استعمارها، وتعميمها في كافّة مرافق الحياة بحيث تكون هذه الثقافة المغرّبة متزامنة مع نموّ المدّ الاستعماري لهذهِ البلدان، كذلك عند استقرائنا للتاريخ الحديث الذي يؤرّخ للاستعمار العسكري للبلدان الإسلاميّة، نرى أنّ كثيراً من المستشرقين كان لهم الدور الكبير في مساعدة الدول الأوربيّة المستعمرة، حتّى إنّ قسماً منهم قد عمِل في نفس وزارة المستعمرات لتلك البلدان كما أسلفنا سابقاً، وعندما كان الشرقيّون وخاصّة المسلمين منهم في تلك الفترة يشكون العزلة الفكريّة والحصار الحضاري، والافتقار إلى أبسط وسائل التعليم والانتشار الثقافي التي فرضتها حالة السلطات المتحكّمة فيهم، بعد أنْ كانوا متربّعين كأساتذة وأساطين على عرش العلم والحضارة الإنسانيّة في أنحاء المعمورة.

أخذ الأوربّي المستعمر يجهز جيشه المسلح من جهة وعلماءه ومثقفيّه من جهة أُخرى لكي يغزو العالم الإسلامي عسكريّاً وفكريّاً، وحتّى عندما انتهى عهد الاستعمار العسكري - شكلياً - بقي أثره واضحاً في استمرار الحركة الاستعماريّة الفكريّة والمنهجيّة التي غزت العالم الإسلامي متمثّلة بالنظريّات الماديّة والاتجاهات القوميّة التي صِيغت بأشكالٍ برّاقة وجذّابة اتخذت طابعاً تحرّرياً وسياسيّاً يُناغي العواطف الساذجة للمسلمين. بهذا نرى أنّ تطبيع بلاد المسلمين على التغريب كان لهُ دورٌ كبير في تأكيد التسلّط الاستعماري على الشرق، ولعلّ آثاره ونتائجه ومصاديقه واضحة وجليّة إلى يومنا هذا.

٧٨

الفصل الثّالث

المدارسُ الاستشراقيّة

* خلفيّات المستشرقين

* المدارس الاستشراقيّة.

* النّموذج: المدرسة الاستشراقيّة الفرنسيّة.

* المميّزات الأساسيّة للمدرسة الاستشراقيّة الفرنسيّة.

* نشأة المدرسة الاستشراقيّة الفرنسيّة وعوامل نموّها وتطوّرها.

* مناطق نفوذ المدرسة الاستشراقيّة الفرنسيّة.

* صِيَغ وأساليب المدرسة الاستشراقيّة الفرنسيّة وتشكيلاتها.

* أثر المدرسة الاستشراقيّة الفرنسيّة على الفكر الاستشراقي العام.

٧٩

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376