كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين0%

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 376

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين

مؤلف: الشيخ فؤاد كاظم المقدادي
تصنيف:

الصفحات: 376
المشاهدات: 123306
تحميل: 7759

توضيحات:

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 376 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 123306 / تحميل: 7759
الحجم الحجم الحجم
كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين

كتاب الثقلين الاسلام وشبهات المستشرقين

مؤلف:
العربية

خلفيّات المستشرقين

لقد أصبح من الواضح لدينا أنّ حقيقة الاستشراق والتعريف الدقيق له هو: أنّه حركة ذات جذور ودوافع أوسع وأعمق من المدّعى المُعلن له، من أنّه: عملٌ علميُّ محض يُعنى باللغات والآداب والعلوم الشرقيّة، أو أنّه اتّجاه علمي لدراسة الشرق الإسلامي وحضارته. بل إنّ هذا الادّعاء لا يعدو كونه ظاهراً يُخفي تحته أهدافاً غير معلنة هي الواقع الحقيقي من ورائه.

وقد تجلّت هذه الأهداف شيئاً فشيئاً في القرنين الأخيرين حتّى بان - بشكلٍ لا يدَع مجالاً للشك والتردّد - أنّ الاستشراق قد استوعب في حركته أغلب التطلّعات الحضاريّة لأوربّا، ومهّد لحركتها الاستعماريّة في الشرق.

وتأكّد هذا المعنى عند استعراضنا لنشأة الاستشراق وتبلوره ضمن مسير حركته الأولى، وسيتأكّد لنا أكثر عند تقييمنا للجهد الاستشراقي المطروح ضمن مراحل تكوّنه وصيرورته إلى عصرنا الحاضر. وتمهيداً لذلك نعرض عدّة خلفيّات في واقع المستشرقين، استُلّت من خلال ما سبق، لنسلّط من خلالها الضوء على منهجيّة التقويم والمراحل التي مرّ بها:

الخلفيّة الأُولى:

بلحاظ نشأة الاستشراق واقترانه بالتبشير بصبغته الاستعدائيّة التي بدأ به

٨١

بهدف اختراق المسلمين ثقافيّاً، لدحرهم باستلاب مواطن قوّتهم وإخمادها في واقعهم، نجد أنّ أوائل المستشرقين كانوا مبشّرين نصارى، وكان طابع احتقار الإسلام والمسلمين السمة البارزة في اتّجاهاتهم الفكريّة والثقافيّة، ممّا انعكس بشكلٍ كبير على ما استهدفوا دراسته من الإسلام وواقع المسلمين، فجاءت تلك الدراسات والأبحاث مشوّهةً ناقصةً مليئةً بالمثالب والافتراءات التي لا تستند إلى دليل، فهم لا يرون لغير مذهبهم فضلاً وحقّاً في الوجود.

يقولهنري جيسب المستشرق والمبشّر الأميركي: (المسلمون لا يفهمون الأديان ولا يقدّرونها قدرها... إنّهم لصوص، وقَتَلة، ومتأخّرون، وإنّ التبشير سيعمل على تمدينهم)(١) . إنّ هذا المعنى الذي أشرنا إليه يُعتَبر جزءاً أساسيّاً من التفكير الأوربّي، وغريزةً موروثةً، وانطباعاً راسخاً فيهم مُنذ سقوط الأندلس.

وقد اتّخذت المواجهة للإسلام شكلاً جديداً بعد الحروب الصليبيّة، حيثُ انتهجت أُسلوب الغزو الفكري المبرمج للمسلمين بهدف فصلهم عن الأُسُس والمضامين الحيّة لدينهم، والتي يَكمن فيها سرّ قوّتهم، ممّا خلّف تأثيراتٍ بالغةً في عقول الأوربيّين استثمرتها المؤسّسات السياسيّة، ووظّفتها في عمليّة خلق الأرضيّة الفكريّة والثقافيّة، للقيام بغزوٍ شاملٍ للشرق، وإحكام السيطرة الاستعماريّة عليه.

الخلفيّة الثانية:

إنّ المستشرقين الذين كرّسوا حياتهم لدراسة كلّ ما يتعلّق بالإسلام ببُعدَيه الإيديولوجي والحضاري، قد تركّز في أذهانهم اعتقادٌ ثابت بأنّ الإسلام الأصيل

____________________

(١) د. خالدي ود. فروخ - التبشير والاستعمار في البلاد العربيّة: ٣٧.

٨٢

يشكّل خطراً حقيقيّاً يقف سدّاً منيعاً أمام كلّ التطلّعات الاستعماريّة - لدُولهم الأُوربيّة - في الشرق، بل إنّه يحمل في واقعه النقيض الشامل لمدارسهم الفكريّة وكيانهم الحضاري، ويهدّد بالزوال كلّ وجودهم القائم على أساسها، لما يملكه من عمقٍ وواقعيّة وشموليّة مَنَحته وتمنحه القدرة الفائقة على التغيير، والامتداد إلى أيّ مجتمعٍ إنساني يجد طريقاً للنفوذ إليه.

وإلى هذا يشير لورانس براون بصراحة في كتابه الذي أصدره عام ١٩٤٤م قائلاً: (إنّ الخطر الحقيقي كامن في نظام الإسلام وفي قدرته على التوسّع والإخضاع وفي حيويّته. إنّه الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوربي). ويضيف براون في مناسبةٍ أُخرى قائلاً: (إذا اتّحد المسلمون في إمبراطوريّة أمكن أنْ يصبحوا لعنةً على العالم وخطراً،... أمّا إذا بقوا متفرّقين فإنّهم يظلّون حينئذٍ بلا وزن وتأثير)(١) .

وبنفس المضمون نشرت مجلّة العالم الإسلامي The Muslim World - الاستشراقيّة التي تصدر في لندن - في عددها المؤرّخ في حزيران سنة ١٩٣٠م ما نصّه: (إنّ شيئاً من الخوف يجب أنْ يسيطر على العالم الغربي، ولهذا الخوف أسباباً منها: إنّ الإسلام منذ أنْ ظهر في مكّة لم يضعف عدديّاً، بل هو دائماً في ازدياد واتّساع، ثمّ إنّ الإسلام ليس ديناً فحسب(٢) ، بل إنّ من أركانه الجهاد. ولم يتّفق قطّ أنّ شعباً دخل في الإسلام ثمّ عاد نصرانياً)(٣) ، ولعلّ المستشرق الألمانيكارل بيكر كان أكثر صراحة حينما قال: (إنّ هناك عداءً من النصرانيّة للإسلام، بسبب

____________________

(١) C F pown ٣٧ , Islam And Missions : ٤٤-٤٨ عن د. خالدي، مصطفى ود. فروخ، عمر - التبشير والاستعمار في البلاد العربيّة: ٣٧.

(٢) يقصد - حسب عقيدتهم - أنّ الدين هو الذي ينحصر في إطار الكنيسة والطقوس المقرّرة من قبلها فقط، لا كما نعتقد من أنّ الدين - كما هو الإسلام - عقيدةٌ ونظامٌ شاملٌ لكافّة أبعاد الحياة وجوانبها.

(٣) عدد يونيو سنة ١٩٣٠م تحت عنوان (الجغرافيّة السياسيّة للعالم الإسلامي).

The political Geography of The Mohammadan Word

٨٣

أنّ الإسلام عندما انتشر في العصور الوسطى أقام سدّاً منيعاً في وجه انتشار النصرانيّة، ثمّ امتدّ إلى البلاد التي كانت خاضعةً لصولجانها)(١) .

الخلفية الثالثة:

إنّ منهجيّة البحث الاستشراقي ومنطقه عبارة عن محاكاة الماديّة الوضعيّة ومنهج العلمانيّة الضاربة في صميم الوجود الغربي، وإنّ رؤيته منتزعة من بيئة تلك المنهجيّة الغربيّة، لذلك فقد كانت الدراسات الاستشراقيّة بعيدة كلّ البعد عن المسلك الإلهي، والمنطق العقلي الذي تتميّز به المدرسة الإسلاميّة، إنْ لم نقل إنّها جاءت مشبّعة بالروح الماديّة التي تتحكّم في طريقة تفكير تلك المجتمعات، وبهذا الصدد يرى(دينيه) (٢) مثلاً: (إنّه من المتعذّر إنْ لم يكن مِن المستحيل أنْ يتجرّد المستشرقون عن عواطفهم وبيئتهم ونزعاتهم المختلفة...، وإنّهم لذلك قد بلغ تحريفهم لسيرة النبيّ والصحابة مبلغاً يُخشى على صورتها الحقيقيّة من شدّة التحريف فيها.

ورغم ما يزعمون من اتّباعهم لأساليب النقد البريئة ولقوانين البحث العلمي الجادّ، فإنّنا نلمس من خلال كتاباتهم محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يتحدّث بلهجةٍ ألمانيّةٍ إذا كان المؤلّف ألمانيّاً، وبلهجةٍ إيطاليّةٍ إذا كان الكاتب إيطاليّاً، وهكذا تتغيّر صورة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بتغيّر جنسيّة الكاتب.

وإذا بحثنا في هذه السيرة عن الصورة الصحيحة فإنّنا لا نكاد نجد لها من أثر. إنّ المستشرقين يقدّمون لنا صوراً خياليّةً هي أبعد ما تكون عن الحقيقة. إنّها أبعد عن الحقيقة من أشخاص القصص

____________________

(١) راجع د. محمّد البهي في (الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي): ٥٢٧. وراجع أيضاً جريدة البلاغ الكويتيّة العدد ٥٨: ١٢. وراجع أيضاً مجلّة البعث الإسلامي الهنديّة العدد ٩، السنة الثامنة.

(٢) هو (ألفونس أتيان دينيه)، وهو عالم مستشرق درس الشرق ونتاجه دراسةً عميقةً حتّى اهتدى إلى الإسلام واعتنقه، وأصبح سيفاً من سيوفه يدافع عنه ويردّ الشُبه والمكائد التي يثيرها أعداؤه (من بحث للدكتور شوقي أبو خليل).

٨٤

التأريخيّة التي يؤلّفها أمثال (وولتر سكوت)(١) ، و(الكسندر دوماس)(٢) . وذلك أنّ هؤلاء يصوّرون أشخاصهاً من أبناء قومهم، فليس عليهم إلاّ أنْ يحسبوا حساب اختلاف الأزمنة. أمّا المستشرقون فلم يُمكنهم أنْ يُلبسوا الصورة الحقيقيّة لأشخاص السيرة، فصوّروهم حسب منطقهم الغربي وخيالهم العصري)(٣) .

إنّ من الأُمور التي باتت واضحةً اليوم هي ارتباط المنهج - كرؤية فكريّة وطريقة للعمل - بالموقف الفكري والثقافي من حيث الانتماء والهويّة، وهذه العلاقة لا تُستثنى في حقلٍ دون حقل، ولا في طريقةٍ دون أُخرى.

فخلاصة الخلفيّات السالفة الذكر هي: أنّ جهود المستشرقين وثمرات حركتهم تصدر جميعاً وفق أهدافٍ مشخّصة سلَفاً، وتقع - عند التأمّل - على نسقٍ واحد يتمثّل في موقفهم الفكري والثقافي، وما يلزمه من دفاع عن الهويّة الأُوربيّة بصورةٍ عامّة. ولهذا السبب نجدهم قد جانبوا الحق، فأوقعوا الكذب والاختلاف في دراساتهم، فكانت أساليبهم لا تُنبئ عن أمانتهم وصدقهم في مجالات البحث العلمي، مترسّمين هدفهم الراسخ أوّلاً وقبل كلّ شيء وهو: تمهيد الأرضيّة لعالميّة أوربّا وسيطرتها كقاعدة، فأسّست عليها الحركة الاستشراقية العالميّة.

____________________

(١) سكوت (وولتر): (١٧٧١ - ١٨٣٢م)، شاعر وروائي اسكتلندي من أشهر رواياته (آيفنهو) و(ابنة الجرّاح) (موسوعة المورد ٩: ١٠).

(٢) دوماس (ألكسندر) روائي فرنسي (١٨٠٢ - ١٨٧٠م)، وضع عدداً كبيراً من الروايات التاريخيّة. من أشهر رواياته: (الفرسان الثلاثة) و(الكونت دي مونت كريستو) (موسوعة المورد ٤: ٧).

(٣) دينيه (محمّد رسول الله) المقدّمة: ٢٧ و٢٨، و٤٣ و٤٤.

٨٥

المدارس الاستشراقيّة

عندما نريد أنْ نشخّص الأهداف الحقيقيّة للاستشراق كحركةٍ لها مراحلها وأدوارها، لا بدّ من استقراء الواقع الميداني الفعلي لها، ضمن خلفيّاته التاريخيّة ومناطق نموّه التي وُلِد وترعرع في أحضانها. وعليه فقد ارتأينا أنْ نصنّف الاستشراق إلى مدارس تعتمدأوّلاً على جنسيّة المستشرق وانتمائه إلى وطنه الأُم.وثانياً على مراكز التنظير والجهد الاستشراقي، وذلك لما لهما من تأثير على الطرح الاستشراقي للمدرسة المعنيّة. وسوف ينعكس تقويمنا للجهد الاستشراقي من خلال:

١ - استعراض أبرز الشخصيّات التي عملت في هذا الحقل، وكانت بحق من الروّاد الحقيقيّين لتلك المدرسة.

٢ - المصبّات الموضوعيّة الأساسيّة التي وقع الجهد الاستشراقي عليها.

٣ - نماذج مختارة من الجهد الموسوعي للمستشرقين، التي تعتبر من المصادر العلميّة المهمّة عند الكثير من الباحثين المؤرّخين. مع أنّنا سوف نبيّن الخلط والابتعاد عن الروح العلميّة في أغلب الموارد التي تعرّضت لها هذه الموسوعات.

ويمكن أنْ نقسّم المدارس الاستشراقيّة إلى نوعين:

الأول: المدارس الرئيسيّة ذات التأثير المستقل الفاعل على الدراسات

٨٦

والبحوث الاستشراقيّة العالميّة، والتي لم تكن أنشطتها تقتصر على الجوانب العلميّة فحسب، بل امتدّت لتشمل الجوانب السياسيّة والاقتصادية والاجتماعيّة، ورسمت الكثير من الخطوات على طريق الأحداث والتغييرات السياسيّة وملحقاتها في العالم.

الثاني: المدارس الثانويّة التي لم يكن لها الثقل المهم في مجمل الحركة الاستشراقيّة، أو التي انحصرت أنشطتها في فَتَرات زمنيّة محدودة، أو كانت لها أنشطة مشتركة مع إحدى المدارس الرئيسيّة، بحيث كانت تأثيراتها تصبّ ضمن أهداف تلك المدرسة.

وفي مجال الإحاطة بالأهداف العامّة للمدارس الاستشراقيّة، يمكننا اعتبار المدرسة الاستشراقيّة الفرنسيّة نموذجاً محقّقاً لها؛ لأنّها تجسّد لنا بشكل شمولي ونوعي، من خلال ملاحظتها ودراستها، كافّة الأبعاد الأساسيّة للجهد الاستشراقي لجميع المدارس الاستشراقيّة الأُخرى، ممّا يجعل انتخابها وأفرادها بالدراسة قائمٌ على أساس الضرورة الموضوعيّة، التي تبرز الأهم والأخطر والأكثر عمقاً من بين غيرها من المدارس، ممّا سيساهم بدرجةٍ كبيرة في تسليط الضوء على الهدف من دراسة الاستشراق، وهو كشف دوره في حركة الاستعمار الأوربّي للشرق الإسلامي، بِبُعديه الفكري والميداني، وتزامنه مع حركة الاستعمار العسكري وغزوه الحضاري لهذه المنطقة، والذي من أبرز معالمه جملة من النظريات والأُطروحات المُستحدثة التي تلبّست بالقوميّة أو الوطنيّة تارة، وبالتمدّن والتحديث تارةً أُخرى، وبالدفاع عن حقّ الشعوب تارةً ثالثة.

وعلى الرأس مِن هذه وتلك زرعُ الكيان الصهيوني الغاصب في قلب العالم الإسلامي، وجعله بؤرةً للقلق والاضطراب في المنطقة، ومركزاً لتحقيق الأطماع الاستعماريّة والطموحات الاستكباريّة.

٨٧

النموذج: المدرسة الاستشراقيّة الفرنسيّة

يمكن القول: إنّ المعالم الرئيسيّة للمدرسة الاستشراقيّة الفرنسيّة قد بدت واضحةً بعد فشل الحروب الصليبيّة التي شنّها الغرب المسيحي على المسلمين، والتي كان لفرنسا الحظّ الأوفر في اندلاعها وقيادتها، قرابة ثلاثة قرون انتهت بطرد الإفرنج تماماً من الأراضي العربيّة الإسلاميّة على يد المماليك في أواخر القرن الثالث عشر.

ولعلّ ما نادى به لويس التاسع(١) بعد فشله في إحدى الحملات الصليبيّة دليلٌ على أنّها كانت أرضاً خصِبة لنموّ الاستشراق، ممّا ساعد على تأسيس مدرسة كان لها الدور الكبير في رفد الحركة الاستشراقيّة العالميّة.

وليس من باب المصادفة أنْ تكون أوّل ترجمة للقرآن الكريم قد تمّت في فرنسا، وبقيت محفوظةً في دير كلوني بجنوبي فرنسا حتّى سنة ١٥٤٣م، ولا بدون قصد أنْ تبدأ مرحلة التنظيم الفعلي لحركة الاستشراق من فرنسا في مطلع القرن الثامن عشر، وأنْ يعقد أوّل مؤتمر عالمي للمستشرقين في باريس عام ١٧٨٣م. كما أنّ أوّل جمعيّة

____________________

(١) لويس التاسع، (١٢١٤ - ١٢٧٠م) أشهر الملوك الفرنسيّين، قاد الحملتين: السابعة التي وصل فيها إلى دمياط عام ١٢٤٩م، وأُسر في معركة المنصورة عام ١٢٥٠م، وانقلب إلى فرنسا بعد أربع سنوات، وقاد الحملة الصليبيّة الثامنة ولكنّه مات بالطاعون في تونس بُعَيد مغادرته فرنسا عام ١٢٧٠م. (المنجد في الأعلام، وموسوعة المورد ٦: ١٤٦).

٨٨

للمستشرقين تأسّست في باريس باسم جمعيّة باريس الآسيويّة Sociote Asiatique De paris في سنة ١٨٢١م، التي أصدرت دوريّتها تحت اسم (المجلّة الآسيويّة) Asiatique Journal في سنة ١٨٢٢م.

المميّزات الأساسيّة للمدرسة الاستشراقيّة الفرنسيّة

مِن الواضح لمتتبّعي شؤون الحضارات الإنسانيّة، أنّ لأوربّا حضارةً خاصّة تتميّز بها عبر تأريخها الطويل، إلاّ أنّ الذي نريد أنْ نضيفه هنا أو نؤكّد عليه هو أنّ لبعض الشعوب الأوربيّة - خصوصاً الكبيرة منها - بعض الخصائص الحضاريّة التي تتميّز بها عن غيرها من شعوب أوربّا، تدفعنا لأخذها بنظر الاعتبار ضمن المؤثّرات الإيديولوجيّة على موضوع دراستنا للاستشراق، وبعبارة أُخرى: إنّ منهج دراستنا للمدارس الاستشراقيّة التي برزت على سطح الواقع الميداني سيتمّ على ضوء تشخيصنا المُسبق للخصائص الإضافيّة لبلد ومجتمع المدرسة الاستشراقيّة التي نشأت فيه وترعرعت في أجوائه الحضاريّة.

إذن فالتمييز بين مدرسة استشراقيّة وأُخرى سوف لا يلحظ في جانبه الميداني جغرافيّاً فقط، بل يلحظ في جانبه الميداني حضاريّاً أيضاً، والمدرسة الفرنسيّة للاستشراق ممّا ينالها نصيب بارز من هذا اللحاظ، وباستقرائنا للنماذج البارزة من المستشرقين الفرنسيّين في إطار التأريخ الفرنسي يمكننا استخلاص المميّزات الأساسيّة التالية لهذه المدرسة:

١ - العداء والحقد للإسلام ديناً وللحضارة الإسلاميّة بمختلف معطياتها، وانعكاساتها وامتداداتها الزمانيّة والمكانيّة: ويُعزى ذلك إلى الصراع الطويل

٨٩

الذي كان محتدماً بين الطرفين إثر استيقاظ فرنسا بشكلٍ خاص، وأوربّا بشكلٍ عام على صوت الإسلام والدعوة الإسلاميّة، حيث كانت غارقةً في وحشيّة القرون الوسطى والحروب القبليّة، والصراعات بين الأُمراء والنُبلاء والملوك، وحيث تحكم الكنيسة بأفكارها الخرافيّة وسيطرتها على مراكز القرار، وابتداع أساليب الظلم والجور باسم الدين المسيحي.

في هذه الفترة المظلمة جاء الإسلام بمثابة حافزٍ ومنبّهٍ عظيم لإيقاظ الفرنسيّين بالخصوص؛ لأن الدولة الإسلاميّة أصبحت قريبةً ومجاورةً للجسد الأوربّي (في إسبانيا والبحر الأبيض المتوسّط وجنوبه)، وهي تحمل فكراً جديداً وعقيدةً ساطعة. فلم يكن من الكنيسة وملوك فرنسا إلاّ أنْ يشحنوا الفرنسيّين بالعداء للمسلمين على أنّهم كَفَرة برابرة يجب مواجهتهم بعنفٍ دموي، وسحقهم وإبادتهم.

وابتدأت المعارك فكانت (بلاط الشهداء) المعركة الأولى عام ٧٣٢م التي مهّدت للحروب الصليبيّة، حتّى تمكّن الفرنسيّون عام ١٠٩٩م من دخول القدس بقيادة (غودفري دي بويون)(١) . ولم تكن هذه هي المعركة الوحيدة التي خاضها الفرنسيّون ضدّ المسلمين، فقد قاد الفرنسيّون وحدهم خمسَ حملات صليبيّة كان آخرها الحملة الصليبيّة الثامنة عام ١٢٧٠م، التي قادها لويس التاسع، وقد مُنيت بالفشل الذريع.

إنّ هذا الصراع المرير قد انعكس على كافّة الجوانب الحيويّة للفرنسيّين، حتّى امتدّ إلى الحياة الأدبيّة والثقافيّة، وألقت بظلالها الثقيلة على الدراسات والبحوث التي تعالج قضايا الشرق عموماً، والإسلام بشكلٍ خاص، فجاء العديد

____________________

(١) غودفري دي بويون (١٠٦٠ - ١١٠٠م): أمير فرنسي اشترك في الحملة الصليبيّة الأولى (١٠٩٦ - ١٠٩٩م) وأسهم في حصار القدس، أوّل ملوك المملكة اللاتينيّة في بيت المقدس (١٠٩٩ - ١١٠٠م)، توفّي بعد أنْ أُصيب بحمّى التيفوئيد في أغلب الظن، عدّته الأساطير المتأخّرة (الفارس النصراني الأمثل). موسوعة المورد ٥: ٧.

٩٠

من الدراسات محمّلاً بالتشويه المتعمّد لصورة الإسلام وشخصيّة النبيّ الأكرم محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، كما في كتاب (تاريخ فرنسا) للمستشرق الفرنسي (جوليمين) حيثُ جاء: إنّ محمّداً مؤسّس دين المسلمين قد أمر أتباعه أنْ يُخضعوا العالم، وأنْ يُبدّلوا جميع الأديان بدينه هو، ما أعظم الفرق بين هؤلاء الوثنيّين (المسلمين) وبين النصارى؟

إنّ هؤلاء العرب قد فرضوا دينهم بالقوّة وقالوا للناس أسلموا أو موتوا، بينما أتباع المسيح ربحوا النفوس ببرّهم وإحسانهم. ماذا كان حال العالم لو أن العرب انتصروا علينا؟ إذن لكنّا مسلمين كالجزائريين والمراكشيين(١) .

وعندما نلاحظ كتابات الفرنسيّين نراهم يضعون أنفسهم في أوربّا ثمّ ينظرون منها، فيعكسون وجهة نظر الغرب إلى الشرق الإسلامي، كما جاء في الدراسة التي أعدّها المستشرق الفرنسي اليهودي الأصل (مكسيم رودنسون) تحت عنوان (الصورة الغربيّة والدراسات الغربيّة الإسلاميّة)، نختار منها المقاطع التالية مصداقاً لما أشرنا إليه: (كان المسلمون يشكّلون تهديداً للعالم المسيحي الغربي قبل أنْ يصبحوا مشكلة بزمن طويل.

فقد حدث - في نظر الأوربيّين - تحوّل في القُوى في الأقسام البعيدة من الشرق، وقام شعبٌ هائج هُم (العرب أو السراسنة)(٢) ، عرف بالسلب والنهب، وهو علاوة على ذلك شعبٌ غير مسيحي، فاجتاح وخرّب أراضي واسعة، وانتزعها من قبضة المسيحيّة... ولقد وصلت

____________________

(١) جوليمين، (تاريخ فرنسا): ٨٠ - ٨١.

(٢) السراسنة: هذه الكلمة آتية من الكلمة اللاتينيّة Saracenus (نقلاً عن اليونانيّة Sarakenos )، وتطلق على المسلمين. وقد ظهر هذا الاصطلاح أوّل مرّة في مؤلّفات كتّاب القرن الأوّل الميلادي، وقصدوا به البدو الذين كانو يعيشون منذ أزمان طويلة على أطراف المناطق الزراعيّة ما بين النهرين، ويهدّدون طُرق التجارة أو يحمونها بتكليف من القوّتين العُظميَيَن يومذاك: الرومان والفرس، والكلمة في اليونانيّة تعني ساكني الخيام، وتستخدم في كتابات الأُوربيّين استخداماً يعطي معنى السلب والنهب والتدمير، ولا تطلق إلا على المسلمين.

(راجع تراث الإسلام ترجمة د. السمهوري، الهامش: ٢٨).

٩١

الكارثة أخيراً إلى إسبانياً والشواطئ الايطاليّة و(بلاد الغال) ، وكانت موجة البرابرة الغزاة ذاتها هي دائماً المسؤولة)(١) .

٢ - الروح الصليبيّة النصرانيّة كانت غالبة على معظم كتابات المستشرقين الفرنسيّين: حتّى لَيُمكن القول: إنّ المدرسة الفرنسيّة قد نصبت نفسها حاميةً للنصارى، رافعةً شعار الدفاع عن الشرقيّين منهم، مستخدمةً بذلك شتّى الوسائل والأساليب لتحقيق هذا الهدف، وهذا يفسّر لنا سرّ الإسفاف والسقوط في الافتراء الذي مارسه المستشرقون الفرنسيّون لتشويه الحقائق الإسلاميّة.

وممّا يحكي هذه الحقيقة، بل هو دليلٌ صريح عليها، ما جاء في كتابات المُستشرق الفرنسي(رودنسون) ما نصّه: (لقد برزت صورة الإسلام، ليس كما قال البعض بنتيجة الحروب الصليبيّة، بقدر ما برزت بنتيجة الوحدة الإيديولوجيّة، التي تكوّنت ببطءٍ في العالم المسيحي اللاتيني.

وقد أدّت هذه الوحدة إلى رؤيةٍ أوضح لمعالم العدوّ، كما أدّت إلى تضافر الجهود نحو الحروب الصليبيّة، وفي القرن الحادي عشر وبنتيجة زيارات الحجّاج المتزايدة في العدد وفي التنظيم للأرض المقدّسة (في فلسطين)، والتي كانت قد تحوّلت إلى هَجَمات مسلّحة ضدّ (البدو أصحاب السلب والنهب) (المسلمين)، توطّد لدى الأوربيّين المثل الذي يُمكن أنْ يُحتذى للدخول إلى الأرض المقدّسة.

كما أنّ القيمة الأُخرويّة للقدس وللقبر المقدّس الذي دنّسه وجود الكفّار، والقيمة التطهيريّة للحجّ، والفكرة القائلة بأنّه من الواجب تقديم العون للمسيحيّين الشرقيّين الذين أُذِلّوا، كانت كلّها من الأُمور التي أدّت إلى جعل الحملة على الأرض المقدّسة واجباً مقدّساً يُوضع نصب أعيُن

____________________

(١) رودنسون، مكسيم: (تراث الإسلام)، القسم الأوّل. تصنيف: شاخت وبوزورث، ترجمة: د. السمهوري: ٢٧ و٢٨.

٩٢

المؤمنين (المسيحيّين)(١) .

٣ - تعميق الروح العنصريّة للثقافة الفرنسيّة في الدراسات الاستشراقيّة، وإبراز التراث والتاريخ الفرنسي بشكلٍ مبالغ به، والتمجيد بحضارة الإغريق التي تنتمي لها فرنسا، والحطّ من قيمة الحضارة الإسلاميّة والعربيّة، والتقليل مِن شأن اللغة العربيّة (لغة القرآن الكريم).

وهنا لابدّ من الإشارة إلى نقطة جوهريّة وهي: أنّ الثقافة الفرنسيّة المعدّة للتصدير، والتي سرت إلى تنظيرات الدراسات الاستشراقيّة، هي ثقافةٌ نصرانيّة خالصة، بل هي تجهّز وتُعدّ إعداداً خاصّاً للتصدير إلى الأمّة الإسلاميّة.

تقول جريدة(لاستامبا) الايطاليّة النصرانيّة عن ذلك: (إنّ وطنيّة الرهبانيّات الفرنسيّة في المشرق هي وطنيّة نقيّة وغيورة، والثقافة التي تنشرها هي ثقافة مسيحيّة خالصة وفرنسيّة واضحة، إنّها قبل كلّ شيء ثقافةٌ فرنسيّة، ومن ثمّ مسيحيّة، لقد أصبحت فرنسا سيّدة...)(٢) .

وقد ذكر ذلك الشاعر الباكستاني المعروف محمّد إقبال، حيث قال: (إنّ سحر الإفرنج أو فنّه - ثقافته - أذاب الصخور وأسالها ماء)(٣) .

والشواهد كثيرةٌ لبيان تأثير التعصّب للثقافة الفرنسيّة على المدرسة الاستشراقيّة الفرنسيّة، منها كتاب(مجد الإسلام) للمستشرق الفرنسي (جاستون فييت).

والذي يلفت النظر في أغلب كتب المستشرقين هذه هو: العناوين البرّاقة لكتبهم والتي تخالف المضمون الحقيقي لها بشكلٍ كامل، ولعلّها إحدى الأساليب

____________________

(١) رودنسون، مكسيم (تراث الإسلام)، نصنيف: شاخت وبوزورت، ترجمة: د. السمهوري: ٣١.

(٢) مجلّة المنتقى، العدد الأوّل، نقلاً عن مجلّة لاستامبا الايطاليّة.

(٣) الندوي، أبو الحسن (الصراع بين الفكرة الإسلاميّة والفكرة الغربيّة): ١٧٢.

٩٣

لخداع القرّاء المسلمين، حيثُ إنّ العنوان المتحقّق يخفي بين طياته سموما تعمل عملها في نفسيّة القرّاء وأذهانهم. فكتاب (مجد الإسلام) مثلاً الذي أشرنا إليه يبدأ من فصله الأوّل حتّى نهايته بترديد أفكارٍ مشوّهة عن الإسلام، وعن الرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وعن التاريخ الإسلامي، طالما قد تكرّرت في كثير من كتب المستشرقين.

فمثلاً عندما يتحدّث الكاتب عن التاريخ الإسلامي لا يذكر إلاّ الوقائع والحروب فقط، وقيام الدولة الإسلاميّة وسقوطها، وقد فاته أنّ للمسلمين تأريخاً آخر غير هذه السلسلة الطويلة من الوقائع والحروب، فاته تاريخ المجتمع الإسلامي كيف نشأ وكيف قام، وكيف تطوّر وشيّد حضارةً امتدّ إشعاعها إلى أوربّا بالذات، في وقت كانت غارقة في ظلمات الجهل والانحطاط، كما لا يتناول تاريخ اللغة العربيّة، وكيف سارت من الخليج إلى المحيط.

فليس بين فصول الكتاب ذكر لنواحي حضارتنا الإسلاميّة، أو أثر لتراثنا ودوره العلمي في انتشار الإسلام، وكلّ ما هناك هو أنّه يقف في نهاية الكتاب - وهو بيت القصيد - فيقول: (إنّ الحضارة الإسلاميّة ركدت لأنّها لم تقم على أساس حضارة اليونان)(١) .

وسنشير فيما بعد إلى أمثال هذه النماذج عند الدخول في تفصيل دراسة الجهد الاستشراقي إنْ شاء الله.

٤ - نزعة التعصّب ألاستكباري التي نجدها مهيمنة على أغلب الدراسات الاستشراقيّة للمدرسة الفرنسيّة، وقد أشرنا إلى هذا المعنى سابقاً في باب (هوية الاستشراق) بما كتبه المستشرق الفرنسي(هانوتو) الذي كان يعمل مستشاراً

____________________

(١) من دراسة حول كتاب (مجد الإسلام) للأستاذ الدكتور حسين مؤنس، أُستاذ التأريخ الإسلامي بجامعة القاهرة، نشرت بالملحق الأدبي لجريدة الأهرام (أهرام الجمعة)، وتتضمّن عرضاً وتحليلاً ومناقشة للفكر الاستشراقي يبيّن واقع إنتاجه العلمي.

٩٤

لوزارة المستعمرات الفرنسيّة حيثُ قال: (إنّ شعباً جمهوريّ المبادئ (شعب فرنسا) يبلغ عدد نفوسه أربعين مليوناً لا مرشد له إلاّ نفسه، لا عائلات ملوكيّة فيه يتنازعنَ الحكم، ولا رؤساء يتناولون الرئاسة بطريق الوراثة، هو الذي تقلّد زمام إدارة شعبٍ آخر لا يلبث أنْ ينمو حتّى يساويه في العدد، وهو ذلك الشعب المنتشر في الأرجاء الفسيحة والأصقاع المجهولة، والمتّبع لتقاليد وعادات غير التي نَعنُو لها ونحترمها... وهو الشعب الإسلامي السامي الأصل، الذي يحمل إليه الشعب الآري المسيحي الجمهوري الآن ملح المدنيّة وروحها)(١) .

ويُمكن أنْ نستطلع رأي مستشرق فرنسي آخر وهو (مكسيم رودنسون) الذي يُعتبر أحد أركان مدرسة الاستشراق الفرنسيّة، والذي يتجلّى بالبزّة العنصريّة الاستكباريّة بشكلٍ لا يقبل الشك حيث يقول: (وهكذا بعد أنْ أصبح القتال أكثر تركيزاً وتوجيهاً، كان لابدّ مِن إعطاء العدو صفات أوضح وأدق، وكان لابدّ من تبسيط صورته وإعطائها طابعاً نمطيّاً.

كان (السراسنة) - يقصد بهم المسلمين - بالنسبة للحجّاج - المسيحيّين - مجرّد أعداد زائدة لا وجود لها، ومجرّد كفّار تافهين، حكّام بحكم الأمر الواقع، يتحرّك المرء بينهم بلا مبالاة... وفي الواقع لم تكن لدى أوربّا المسيحيّة صورةٌ واحدة عن العالم المعادي الذي كانت في صِدام معه، بل كانت لديها عدّة صور...)(٢) .

إنّ الاستكبار الأوربّي لعِب دوراً كبيراً في تحديد طبيعة النظرة الأوربيّة إلى الشرق الإسلامي، وخصوصاً بعد منتصف القرن التاسع عشر.

يقول المستشرق رودنسون: (لقد كان التفوّق الأوربّي من النواحي الاقتصاديّة والفنيّة والعسكريّة والسياسيّة والثقافيّة طاغياً، في الوقت الذي كان فيه الشرق يغرق في التخلّف

____________________

(١) د. محمّد البهي (الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي): ٣٢.

(٢) رودنسون، مكسيم (تراث الإسلام) تصنيف، شاخت وبوزورث: ٣١ و٣٢.

٩٥

وأصبحت إيران والإمبراطوريّة العثمانيّة - عمليّاً - محميّتين أوربيّتين)(١) .

لقد أرادت فرنسا أنْ تكون حاملة للواء العظمة الأوربيّة في العالم، وانعكست هذه الإرادة على الثقافة الاجتماعيّة والرأي العام للمجتمعات الشرقيّة، فأصبح كل ما من شأنه أنْ يفتح نافذة التطلّع نحو الإسلام أو العودة إلى تحكيمه، أو دراسة منهجه الأصيل وتأثيره في العالم الإسلامي ضرباً من الجمود والتحجّر، ونزوعاً نحو الرجعيّة والتخلّف والتعصب.

وهذه هي صورة التطلّعات الإسلاميّة في نظر المستشرقين الفرنسيّين، أو هكذا يصوّرونها للآخرين من خلال كتاباتهم ومناهج عملهم.

فمثلاً، عندما تأسّست (حركة الجامعة الإسلاميّة)(٢) في القرن التاسع عشر كردّة فعل للاستعمار الأوربّي، وازدياد نفوذ دوله على حساب الدول الإسلاميّة، تعالت صرخات الغرب والأوربيّين بشكلٍ خاص في وجه هذه الحركة.

وبفعل الوسائل الإعلاميّة والثقافيّة كالصحافة والأدب والفنون الأُخرى استطاعت هذه الدول الاستعماريّة توجيه المجتمع الأوربّي ورأيه العام ضدّ هذه الحركة، وقد كتب أحد المستشرقين الفرنسيّين في ذلك قائلاً: (كانت حركة الجامعة الإسلاميّة ( pan – Islamism ) هي الغول المرعب في ذلك العصر، على نفس الطريقة وفي نفس الزمن اللذين انتشر الرعب فيهما من (الخطر الأصفر)(٣) ، وكانت هذه الكلمة -

____________________

(١) مجلّة رسالة الجهاد، العدد ٧٠، السنة السابعة: الاستشراق في الميزان: ٥٩.

(٢) حركة ظهرت في القرن التاسع عشر، واستهدفت توحيد المسلمين في دولةٍ كبرى على رأسها خليفة قادر على وقف الغزو النصراني للديار الإسلاميّة، يعتبر جمال الدين الأفغاني أبرز الداعين إليها، وقد رعاها السلطان عبد الحميد الثاني، وشنّ حملة واسعة للتبشير بها، بيد أنّ أثرها ضعف وتضاءل إثر سقوطه عام ١٩٠٩م. وهي غير الجامعة الإسلاميّة المُحدثة التي تأسّست بعد الحرب العالميّة الثانية. (عن موسوعة المورد ٧: ١٩٨).

(٣) يُزعم أنّه ناشئ عن تعاظم قوّة العرق الأصفر بملايينه التي تفوق الحصر، وقد يطلق على العرق الأصفر نفسه بوصفه مصدر هذا الخطر. (عن موسوعة المورد ١٠: ١٨٥).

٩٦

حركة الجامعة الإسلاميّة - نفسها توحي بالتطلّع الإسلامي للسيطرة وبإيديولوجيّةٍ عدوانيّة، وبمؤامرةٍ على نطاق عالمي)(١) .

نشأة المدرسة الاستشراقيّة الفرنسيّة وعوامل نموّها وتطوّرها

إنّ تاريخ نشوء المدرسة الفرنسيّة للاستشراق يرجع في بداياته الأُولى إلى الفترة الزمنيّة، التي بدأت بها فرنسا الاحتكاك بالشرق الإسلامي، مع بداية ظهور الإسلام في شمال إفريقيا، ثمّ أعقبته المداخلة الميدانيّة في إسبانيا بعد إسقاط الدولة البيزنطيّة، وتأسيس دولة الأندلس في نفس الفترة الزمنيّة التي ابتدأ بها القساوسة والرهبان الأوربيّون يتّجهون صوب دراسة وترجمة الفكر والثقافة الإسلاميّة، مجنّدين لهذا الهدف العديد من العلماء والمفكّرين الأوربيّين.

كالذي قام به بطرس الموقّر رئيس رهبان كلوني(٢) (١٠٩٤ - ١١٥٦)، من أجل الحصول على معرفة علميّة موضوعيّة عن الفكر الإسلامي، منطلقاً من موطنه فرنسا لنقل هذه المعرفة إلى كلّ أوربّا، تلك المعرفة التي حصل عليها بطرس الموقّر بصورةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرة، قد تأتّت من خلال نشاطاته وزياراته لأديِرةِ رهبنتهِ في إسبانيا - عندما كانت تحت الحكم الإسلامي، عن القضايا الإسلاميّة ونشاط التراجمة. وممّا زاد

____________________

(١) CF J – J. Wardenburg, L,Islam Dans Le Miroir De I, Occident (paris – The Hague, ١٩٦٣ ), pp. ١٠٢ – ٦.

(٢) كلوني: مدينة في شرق فرنسا أُسس فيها الدير المعروف باسمها سنة ٩١٠م، وهو من أشهر الأديرة الرهبانيّة في التاريخ الأوربّي الوسيط في منطقة الصون - اللوار في فرنسا - وانطلقت من هذا الدير حركة إصلاح دينيّة رهبانيّة، امتدّت في القرن الحادي عشر والثاني عشر من فرنسا إلى كلّ المسيحيّة الأوربيّة، وقد لعب هذا الدير دوره في التحريض على الصليبيّات وفي إيصال عدد من رهبانه إلى سدّة البابويّة - (تراث الإسلام): ٣٧.

٩٧

من تشبّثه بمشروعه هو اهتمامه بمحاربة الهرطقات (حسب رأيه) المتمثّلة باليهوديّة والإسلام (وإنْ يكن ذلك بجديّة ومحبّة إزاء الأفراد (الضالّين) بما ينسجم مع شخصيّة رئيس رهبان كلوني).

وبسبب أنّه كان مُدرِكاً بعمق الأخطار التي كانت تواجهها الكنيسة في عصرٍ تميّز بالاضطراب الفكري والانشقاق، لذلك فقد رغب أنْ يسلّح الكنيسة ضدّ هذه الأخطار، منطلقاً من اعتقاده الشخصي أنّه رئيس لرهبنة مكرّسة لهذا الهدف.

ويبيّن بطرس الموقّر الهدف من مشروعة - الاستشراقي - الذي كرّسه ضدّ الإسلام، في معرض ردّه على بعض من اقترح عليه عدم جدوى عمله حيثُ يقول: (إذا كان عملي يبدو عديم الفائدة؛ لأنّ العدوّ يبقى منيعاً ضدّ مثل هذه الأسلحة، فإنّي أُجيب أنّه في بلاد ملك عظيم تكون بعض الأشياء من أجل الحماية، وأُخرى للزينة، وأُخرى أيضاً للغرضَين معاً.

لقد صنع سليمان المسالم أسلحة للحماية، لم تكن هناك حاجة إليها في أيّامه، وقام داود بإعداد الزينة للمعبد، وإنْ كان استعمالها متعذّراً في أيّامه... وهذا العمل كما أراه لا يُمكن أنْ يُقال إنّه عديم الفائدة.

فإذا تعذّر هداية المسلمين (الضالّين) به فإنّ العلماء الذين يغارون على العدالة يجب أنْ لا يفوّتهم تحذير أُولئك الضعفاء من أفراد الكنيسة الذين يروَّعون أنْ يثأروا عن غير ما قصد بالقضايا التافهة).

٩٨

وامتدّت نشاطات الموقّر من فرنسا إلى إسبانيا حيثُ شكّل جماعة مِن التراجمة يعملون تحت إشرافه، وترجموا القرآن الكريم عام ١١٤٣م، ومجموعة من النصوص العربيّة الأُخرى وأعدّوا مؤلّفاً لتعليمات بطرس الموقّر نفسه، على أنّ هناك قولاً آخر يؤرّخ النشوء مع بدايات الصراع العسكري الصليبي، والحملات الصليبيّة ضدّ المسلمين وبخاصّة بعد الصرخات المُعادية التي أطلقها لويس التاسع سنة ١٢٥٠م.

ورغم ما يُمكن أنْ يُقال من أنّ هذه البدايات والظواهر لا تختص بالمدرسة الفرنسيّة وحدها، بل هي بدايات وظواهر مشتركة في قيام جميع المدارس الاستشراقيّة ونشوئها، إلاّ أنّه يمكننا أنْ نجعل الخصوصيّة هنا للمدرسة الفرنسيّة في أنّ أوّل كرسي للعربيّة تأسّس عام ١٥٣٩م، واقترن بأوجّ ما وصلت إليه الحروب الصليبيّة، كان في (الكالج دو فرانس غليوم بوستل(١) ، العالم المستنير - حسب وصف رودنسون - الذي درّب تلاميذ عديدين مِن أمثال (سكاليجر) الذي كانت مكانته في مجال الاستشراق لا يُستهان بها(٢) .

إنّ الحروب الصليبيّة وتأثيرات التحريض الكنسي العنصري، بالإضافة إلى التطلّعات الاستكباريّة الفرنسيّة، وانهيار الدولة الإسلاميّة - لأسبابٍ كثيرة كان أهمّها تعرّضها لتلك الهجمات الوحشيّة التي قادتها أوربّا وخصوصاً فرنسا - أدّت إلى ظهور الاستشراق الفرنسي بصورته الحقيقيّة العنصريّة، وبمواقفه العدائيّة تجاه العالم الإسلامي.

حتّى أنّه كان في بعض الفترات - إنْ لم نقل في معظمها - يداً قويّة للاستعمار الفرنسي، كما سيتوضّح ذلك في محلّه إنْ شاء الله.

لقد أفادت المدرسة الاستشراقيّة الفرنسيّة من الحروب الصليبيّة أيّما فائدة،

____________________

(١) بوستل غليوم (١٥١٠ - ١٥٨١م). مستشرق ورحّالة فرنسي ألّف كتاباً في أبجديّات اثنتي عشرة لغة، منها اللغة العربيّة - المنجد في الأعلام.

(٢) رودنسون، مكسيم - تراث الإسلام ق١: ٦٢.

٩٩

حيثُ إنّ الثمار الايجابيّة لأوربّا وفرنسا التي تمخّضت عن هذه الحروب، أعطت دفعاً وزخماً للاستشراق الفرنسي؛ لأنّ دور هذهِ الحروب لم يقتصر فقط على ساحات القتال، بل تجاوز إلى ميادين أُخرى ثقافيّة وتبشيريّة وأخلاقيّة على طريق الكثير من المؤسّسات والجامعات التي مارست نشاطاً استشراقيّاً واضحاً، ولا سيّما أنّ الحروب الصليبيّة كانت تمرّ في بعض الأوقات بفترات هدنة وسلام، كانت فرصة مواتية استثمرها الفرنسيّون لصالحهم بقصد تدمير البناء الإسلامي من الداخل، وتخريب المجتمع الإسلامي بزرع الخلافات وإذكاء أُوار الصراعات الداخليّة التي أخذت تنهش في أوصاله.

إنّ الدراسات الشرقيّة التي شاعت في أوربّا زوّدت الفرنسيّين بكنوز من المعلومات، سُخّرت لخدمة المصالح الفرنسيّة، فكان كلّ شخص في أوربّا يرغب في التعرّف بشكلٍ وافٍ على لغات المشرق الأدنى وحضاراته، يتوجّه إلى مدرسة اللغات الشرقيّة الحيّة في باريس، التي أسّستها حكومة المؤتمر الثوريّة(الكونفانسيّون) في مارس سنة ١٧٩٥م بإيعاز من المستشرق (لانجليز)(١) .

إنّ الدراسة الفرنسيّة بلغت أوجّ عظمتها في بعض الفترات، فلمع فيها بعض الشخصيّات الاستشراقيّة التي كان لها دورٌ كبير في تطوير الاستشراق الأوربّي، فأصبحت باريس القبلة التي يؤمّها جميع المستشرقين الأوربيّين الذين يرغبون في التخصّص بدراسة الشرق الأوسط، ومن هذه الشخصيّات (سلفستر دوساسي) الذي لُقّب بأُستاذ جميع المستشرقين الأوربيّين في زمانه، وبقي أُسلوبه في العمل حتّى يومنا هذا، هو الأُسلوب نفسه الذي يتّبعه عدد كبير من المستشرقين. وفي

____________________

(١) مستشرق فرنسي (١٧٦٣ - ١٨٢٤م). تعلّم على المستشرقين الفرنسيّين كوسان دي برسفال، ودوساسي، ترجم قسماً من ألف ليلة وليلة، ورحلات العرب والفرس إلى الصين والهند في القرن العاشر - المنجد في الأعلام.

١٠٠