ميراثان في كتاب الله العجب

ميراثان في كتاب الله العجب0%

ميراثان في كتاب الله العجب مؤلف:
الناشر: دار القرآن الكريم
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 109

  • البداية
  • السابق
  • 109 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 11323 / تحميل: 5669
الحجم الحجم الحجم
ميراثان في كتاب الله العجب

ميراثان في كتاب الله العجب

مؤلف:
الناشر: دار القرآن الكريم
العربية

والآية الكريمة هذه تشير إلى ولادة هذه الأمّة، وقد اختار الله تعالى عرب الجزيرة، دون سائر الشعوب، لحمل هذه الرسالة.

ويعبّر عنهم القرآن الكريم بـ( الأُمِّيِّينَ ) .

وقد كان يحكم في الأرض في تلك الفترة( فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ ) حضارتان جاهليتان عريقتان، قد ورثتا المواريث الحضارية للحضارات الجاهلية السابقة عليها: كالهندية، والإغريقية، والبابلية، والأكدية، والسومرية، وغيرها.

وهاتان الأمّتان الجاهليتان ( الفارسية والرومانية )، كانتا بحكم هذا العمق الحضاري قد تشبّعتا بالأفكار والمفاهيم والقيم والأعراف الجاهلية، وتلوثت أفكارهم وقلوبهم به، ولم يكن من السهل تجريدهم وتخليصهم عنها ليحملوا رسالة الله تعالى نخبة صافية إلى البشرية، والعرب في قلب الصحراء، لطبيعة موقعهم الجغرافي، كانوا معزولين عن هذه المؤثرات الحضارية.

والتعبير القرآني دقيق وبليغ:( في الأُمِّيِّينَ ) ، والأمّي مُسند إلى الأُم، وكأنّهم قد ولدوا لتوِّهم من بطون أُمهاتهم لا يعرفون شيئاً:( وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أُمّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً ) ، [ النمل: ٨٨ ].

وليس معنى ذلك أنّ العرب كانوا في الجاهلية على الفِطرة، ولم تتلوّث فطرتهم، وإنّما يقصد أنّ الجاهلية العربية لم تكن ذات عروق ضاربة في عمق الحضارات الجاهلية.

وبتعبير آخر: كانت الجاهلية العربية جاهلية غير متحضّرة، ولا تحمل عمقاً حضارياً كما كانت الجاهلية الرومانية والفارسية، ولهذا السبب كانت البيئة العربية في الصحراء أكثر تهيؤاً لقبول هذه الرسالة واحتضانها، وتبنّيها وحملها إلى البشرية.

قد يكون هذا هو السبب في اختيار الله تعالى الجزيرة العربية منزلاً أوّلاً للوحي دون سائر الأوساط والبيئات. ومهما يكن من أمر، فإنّ حركة التاريخ والتوحيد لا تتعطّل، وإنّما يختار الله لها

٢١

من بين الأمم أمّة يورثها ميراث الظالمين، ويبعث فيهم رسولاً ويستخلفهم محلّ الذين ظلموا، وأهلكهم الله بظلمهم.

وهذه الأمّة الفتيّة، التي يبعثها الله تعالى من بين سائر الأُمم، هي التي ترث مواريث الظالمين؛ من مالٍ، وسلطانٍ وقوّةٍ، وأرض، وتحلّ محلّهم وتتولّى السيادة على وجه الأرض: ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزّبُورِ مِن بَعْدِ الذّكْرِ أَنّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصّالِحُونَ ) .

وهذا هو الميراث الأوّل من ميراث المؤمنين، وهو ميراث المؤمنين من الظالمين.

الميراث الثاني

وأمّا ميراث المؤمنين من سلفهم؛ من الأنبياء، والصدّيقين، والصالحين، فهو: العبودية، ومنطلقاتها، وأحكامها، وقيمها، وأخلاقها، وهذا الميراث ينتقل من جيل ليسلّمه إلى الجيل الذي يأتي من بعده، والقرآن الكريم يشير في أكثر من موضع إلى هذا الميراث الحضاري، يقول تعالى:

( ثُمّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) ، [ فاطر: ٣٢ ].

( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى‏ وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ ) ، [ غافر: ٥٣ ].

إنّ هذا الميراث ليس ميراث المال والسلطان، وإنّما هو ميراث الهدى، والبيّنات، والكتاب، والعبودية، والقيم، والأخلاق، ميراثٌ يحفظه قوم ويضيّعه قوم آخرون، وليس بقليل الأقوام الذين ضيّعوا هذا الميراث واستبدلوا بالصلاة الشهوات، يقول تعالى:

( أُولئِكَ الّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِنَ النّبِيّينَ مِن ذُرّيّةِ آدَمَ وَمِمّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرّيّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى‏ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرّحْمنِ خَرّوا سُجّداً وَبُكِيّاً * فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصّلاَةَ

٢٢

وَاتّبَعُوا الشّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً ) ، [ مريم: ٥٨ - ٥٩ ].

وحدة المسيرة الربّانية على وجه الأرض:

ولا يتكوّن هذا الميراث الحضاري مرّة واحدة، وإنّما يتكوّن ويقوى ويتسع تيارها، ويتأصّل أكثر في الأرض، وفي نفوس المؤمنين، كلّما يمرّ به جيل أو يمتدّ به الزمن.

وهذا الميراث العقائدي والحضاري الكبير يشمل الإيمان بالله، والرسول، والقيم، والولاء لله وللرسول ولأوليائه، والأخلاق، والقيم، والسلوك، والحبّ، والبغض، والأعراف والتقاليد، وحتى المصطلحات، والشعارات... وهي تنتظم في حقول من حياة الإنسان.

وليس من الممكن - إطلاقاً - أن تتكوّن كل هذه الكنوز العقائدية والحضارية في حياة الجيل مرّة واحدة، وإنّما تتحوّل من جيل إلى جيل، يستلّمها كل جيل ليسلّمها إلى الجيل اللاحق، وخلال هذا الانتقال والعبور عبر الأجيال يزداد هذا الميراث عمقاً وأصالةً ورسوخاً ووضوحاً.

ونحن نلاحظ في القرآن هذا التماسك والارتباط بين أجزاء ومراحل هذه المسيرة العقائدية والحضارية الكبرى، ونلاحظ تأكيد القرآن على الارتباط بهذه المسيرة، بشكل عام ومن دون تفرقة، وأنّ هذه المسيرة بمجموعها هي الإسلام، ولن يقبل الله تعالى غيره من الإنسان.

( قُلْ آمَنّا بِاللّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْناَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى‏ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى‏ وَعِيسَى‏ وَالنّبِيّونَ مِن رَبّهِمْ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) ، [ آل عمران: ٨٤-٨٥ ].

( قُولُوا آمَنّا بِاللّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى‏ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى‏ وَعِيسَى‏ وَمَا أُوتِيَ النّبِيّونَ مِن

٢٣

رَبّهِمْ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِن آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهتَدَوا وّإِن تَوَلّوْا فَإِنّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ * صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ) . [ البقرة: ١٣٦-١٣٨ ]

وليس معنى ذلك أن نأخذ نحن اليوم ديننا من التوراة والإنجيل، وإنّما المقصود أنّ هذه المسيرة مسيرة واحدة، وأنّنا نؤمن بالله والأنبياء جميعاً، لا نفرّق بينهم، وأنّ حلقات هذه المسيرة مترابطة ومتماسكة، وأنّ هذه المسيرة التي تمرّ عبر الأجيال والقرون هي الإسلام الذي لا يرتضي الله للإنسان غيره ديناً.

ومن يرتبط بهذه المسيرة الربّانية على وجه الأرض فقد اهتدى، ومن تولّى عنها فهو في شقاق وحرب، وليس بينهما فاصل وبرزخ، وهذه المسيرة هي الصبغة الإلهية التي يجب أن تصبغ حياة الإنسان وتاريخه، وعقله، وعواطفه، وسلوكه، وتحركه، وسلمه، وحربه، بلونها الخلص، وأنّ للحضارة الربانية التي يتوارثها المؤمنون في الأرض لوناً خاصاً ومتميزاً عن سائر الألوان الجاهلية.

فاقرأ هذه الآيات المباركات من سورة الأنعام:

( وَتِلْكَ حُجّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى‏ قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَن نَشَاءُ إِنّ رَبّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرّيّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى‏ وَهَارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيّا وَيَحْيَى‏ وَعِيسَى‏ وَإِلْيَاسَ كُلّ مِنَ الصّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاً فَضّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرّيّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى‏ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * ذلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَا كانُوا يَعْمَلُونَ * أُولئِكَ الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنّبُوّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هؤُلاَءِ فَقَدْ وَكّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ * أُولئِكَ الّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ) ، [ الأنعام: ٨٢-٩٠ ].

أرأيت كيف يتماسك أطراف هذا الميراث الإلهي الكبير، وتتجاذب أجزاؤه

٢٤

وترتبط مراحله ببعض، وكل نبي يرث هذا الميراث من نبي مرسلٍ قبله، وكل أمّة من المؤمنين ترث هذا الميراث من أمّة مؤمنة قبلها. رسالة واحدة، وهدى واحد، وولاء واحد، وشريعة واحدة، وحبّ واحد، وسِلم واحد، وحرب واحدة، وخلق واحد، وصنعة واحدة، وإسلام واحد... وعناءٌ واحد، وابتلاءٌ واحد، ومحنة واحدة من لدن آدم ( عليه السّلام ) إلى إبراهيم ( عليه السّلام ) إلى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ):( أُولئِكَ الّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ) .

تعميق الإحساس بالوراثة:

يحرص القرآن الكريم على تعميق مفهوم الوراثة بشكلٍ خاصٍ في نفوس المؤمنين، ويصوّر المسيرة الإلهية للحضارة مسيرة واحدة ذات حلقات مترابطة، متماسكة، يشدّ بعضها بعضاً ويخلف اللاحق منها السابق.

والأنبياء (عليهم السّلام) في هذه المسيرة يؤكّدون دائماً على وحدة المسيرة، ووشائج القربى التي تربط القيِّمين على هذه المسيرة الربانية، وكل نبي يأتي يصدّق مَن قبله من الرسل والأنبياء، ويؤكّد أنّ هذه المسيرة الربانية مسيرة واحدة لا تعدد فيها وهي الإسلام، ولن يقبل الله تعالى غيره ديناً.

( إِنّ الدّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيَاً بَيْنَهُمْ ) ، [ آل عمران: ١٩ ].

( قُلْ آمَنّا بِاللّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْناَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى‏ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى‏ وَعِيسَى‏ وَالنّبِيّونَ مِن رَبّهِمْ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) ، [ آل عمران: ٨٤-٨٥ ].

فليس في هذه المسيرة تعدد ولا اختلاف، وإن اختلفت مراحله، إلاّ أنّ الخطّ

٢٥

واحد، والمسيرة واحدةٌ، والغاية واحدة.

ويرتبط المؤمنون السائرون على هذه المسيرة الربانية الواحدة، على اختلاف العصور، بصلات قربى وشيجة، فيكون بعضهم من بعض، وهم جميعاً يشكِّلون أسرة توحيدية واحدةً في الأرض، ويرتبط أعضاء هذه الأسرة ببعض بأوثق الصلات والوشائج، تأمّلوا في هذه الآية الكريمة في نهاية سورة الحجّ:

( وَجَاهِدُوا فِي اللّهِ حَقّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ مّلّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هذَا لِيَكُونَ الرّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النّاسِ فَأَقِيمُوا الصّلاَةَ وَآتُوا الزّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللّهِ‏ِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى‏ وَنِعْمَ النّصِيرُ ) ، [ الحج: ٧٨ ].

وترسم لنا هذه الآية العجيبة المسيرة الحضارية التي تولَّى القيمومة عليها من قبْلنا أبونا إبراهيم ( عليه السّلام )، ثمّ كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم ) على هذا الخط شهيداً وقيماً على الناس فيما بعد، ونحن اليوم شهداء في هذا الخط على الناس.

وقوام هذا الخط إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والاعتصام بحبل الله. والله تعالى هو مولانا ويتولّى أمورنا جميعاً.

وتَستَوقفنا هذه الكلمة القرآنية العجيبة طويلاً:( مّلّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ) ، إنّها ليست بأُبوّة نسب، فأيّة أُبوّة هذه التي يذكرها القرآن؟ إنّها أُبوّة الحضارة الإلهية على وجه الأرض، وأبوّة أسرة التوحيد، ونحن اليوم أبناء إبراهيم ( عليه السّلام ) وورثته، وميراثنا منه هو إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والاعتصام بحبل الله.

وشاهد الصدق على وحدة الخط - ووحدة الميراث، ووحدة الحضارة، ووحدة القيم، ووحدة أسرة التوحيد في التاريخ - التصادق الموجود في مراحل الخطّ المختلفة؛ فكلّ نبي يأتي يصدِّق مَن قبْله من الأنبياء، رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) خاتم الأنبياء يصدّق كل من جاء قبله من الأنبياء والمرسلين من دون استثناء، ومن دون تفريق.

( نَزّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْه ِ ) ، [ آل عمران: ٢ ].

٢٦

( وَقَفّيْنَا عَلَى‏ آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتّقِينَ * وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ فَأُوْلئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ) . [ المائدة: ٤٦-٤٨ ]

إنّ هذا التجاوب والتصادق لأطراف مسيرة طويلة عميقة في التاريخ يكشف عن وحدة المسيرة، ووحدة المنطلق والغاية فيها.

إنّ الإحساس بوحدة المسيرة، ووحدة أسرة التوحيد، يجعل ارتباط الإنسان المؤمن بهذه المسيرة وبهذه الأسرة ارتباطاً وثيقاً قوي، لا يصدر عن العقل فقط، وإنّما يصدر عن العقل والعاطفة.

وكلّما يقوى انشداد الإنسان بهذا الخطّ والتراث والأسرة الإلهية يكون أقدر على حماية نفسه من الانزلاق في مزالق الهوى والشهوات.

إنّ إحساسه بالارتباط بأسرة التوحيد، وأنّه فَرعٌ من هذه الشجرة الباسقة الضاربة في أعماق التاريخ، وليس نبتةً طارئة، مجتثةً من فوق الأرض ما لها من قرار، هذا الإحساس، يعطي الإنسان كثيراً من الحصانة والمناعة تجاه المغريات والشهوات، ويحجبه من مصايد الشيطان وكيده، ومن شراك الشجرة الخبيثة في التاريخ التي تحاول أن تلتف على هذه الشجرة الطيّبة، وتقتلعها من جذورها.

هدى الله، ومعيّته للعاملين:

إنّ طريق الدعوة إلى الله تعالى طريق عسير صعب، وليس في مسالك الإنسان طريق أصعب وأشق منه، والذين تساقطوا على هذا الطريق أو تخلّفوا عنه، أو ضاعوا وتاهوا، كثيرون؛ لم يتمكّنوا من مواصلة السّير على الطريق رغم استقامة الطريق ووضوحه.

والعاملون على هذا الطريق من الدعاة إلى الله يتعرّضون كثيراً لمتاعب الطريق ومخاطره ومزالقه، وأكثر ما يحيط العاملين في سبيل الله والدعاة إلى الله من مخاطر ومتاعب في هذا الطريقاثنان:

٢٧

* مخاطر الضياع والضلال والتيه.

* ومخاطر التعب، واليأس، والخوف، وإيثار العافية وحب الدنيا، والتقاعس والتخلف.

وهذان النوعان من المخاطر يحفّان طريق الله والدعاة إليه تعالى، وقلّما ينجو أحد ممّن يعمل في سبيل الله، ويدعو إليه، من مثل هذه العوائق النفسية.

ولولا رحمة من الله تعالى:( وَالّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنّ اللّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) ، [ العنكبوت: ٦٩ ].

الذين يجاهدون في سبيل الله، ويعطون من أنفسهم وذويهم وأموالهم لله تعالى، يعينهم الله تعالى فيأمرين:

١- الدلالة والهداية، والبصيرة، والوعي، والفقه، والتمييز بين الحقّ والباطل.

وهذه هي المنحة الإلهية الأُولى، ولولا أنّ الله تعالى يرزق المجاهدين من عباده، بصيرة في دينهم، وهدى، ووعي، وفقهاً في الدين، لتاه من هؤلاء الكثيرون في متاهات الطريق والمسالك.

٢- التثبيت والدعم والتطمين والتأييد، وطريق الدعوة إلى الله تعالى محفوفة بكثير من التثبيط، والإنسان العامل يواجه على طريق ذات الشوكة هذه العوائق التي تعيق تقدمه كثيراً.

ومن هذه العوائق( الخوف ) و( حب الدنيا ) و( إيثار العافية والراحة ) و( اليأس ) و( قصر النظر ) في العمل و( الكسل ) و( ضعف النفس ) و( الشحّ ).

هذه العقبات هي أسباب تخلّف الناس وتساقطهم أثناء الطريق، والشيطانيعمل أوّلاً : لتضليل العاملين وإيقاعهم في الغواية والشك والضلال، فإذا تمّ له تحقيق هذه الغاية فقد حقق كلّ ما يريد، وإن لم يتوفق في ذلك، بدأبالدور الثاني - من مهمّته -: بإلقاء اليأس، والخوف، والضعف، وحبّ الدنيا، وإيثار العافية في نفوس العاملين.

وإذا قدِّر للدعاة إلى الله النجاة من الشَرَك الأوّل للشيطان فإنّ الشيطان يمدّ

٢٨

لهم الشرك الثاني في هذه المرحلة، وقليل من العاملين من يستطيع أن يجتاز في هذه المرحلة ( عوائق الطريق ) ويمضي مستمراً في سيره، متكلاً على الله القوي العزيز.

وإذا كان الداعية يحتاج في المرحلة الأُولى - لاجتياز التضليل، والتعميه، والتلبيس - إلى هدىً وبصيرة من الله تعالى، فإنّه يحتاج في المرحلة الثانية - لاجتياز العوائق - إلى دعمٍ وتثبيتٍ من الله تعالى، وإلى معيّة الله عزّ وجلّ المستمرّة له عند كلّ منعطف ومَزلق في الطريق، وأَلاّ يَكِله الله تعالى إلى نفسه طَرْفَة عين، فإنّ الله عزّ وجلّ إذا أوكل عبده إلى نفسه طَرفة عين كان من الهالكين والساقطين.

عقبات الطريق:

وتعميق الإحساس بالوراثة يعين الدعاة إلى الله على اجتياز هاتين المرحلتين من عقبات الطريق:

* عقبة التضليل والتيه والضياع.

* وعَقَبة العوائق النفسية والموضوعية المبثوثة على طريق العاملين في سبيل الله.

عقبة الضلال وانعدام الرؤية:

ونبدأ بالعقبة الأُولى:

إنّ الطريق إلى الله صراط مستقيم ليس فيه أَمَت ولا عِوجٌ بالتأكيد، ولكن سلطان الهوى في نفس الإنسان هو الذي يعمي الإنسان عن الحقّ ويدفع الإنسان إلى متاهات الضلال والضياع، ويُلبس الحقّ بالباطل والباطل بالحقّ، ويبعث في نفس الإنسان الشكّ والريب، ويسلبه اليقين والوضوح.

٢٩

الهدى والهوى:

يقول الشاطبي: ( قد جعل الله اتّباع الهوى مضاداً للحق، وعدّه قسيماً له، كما في قوله تعالى:( يَا دَاوُدُ إِنّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقّ وَلاَ تَتّبِعِ الْهَوَى‏ فَيُضِلّكَ عَن سَبِيلِ اللّه ) الآية.

وقال في قسيمه:( وَأَمّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى النّفْسَ عَنِ الْهَوَى‏ * فَإِنّ الْجَنّةَ هِيَ الْمَأْوَى ) .

وقال:( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى‏ * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى ) .

فقد حصر الأمر في شيئين: الوحي - وهو الشريعة - والهوى، فلا ثالث لهما.

وإذا كان الأمر كذلك فهما متضادّان، وحين تعيّن الحقّ في الوحي، توجّه للهوى ضدّه، فاتّباع الهوى مضادّ للحقّ.

وقال تعالى:( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتّخَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلّهُ اللّهُ عَلَى‏ عِلْمٍ ) .

وقال:( أُولئِكَ الّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى‏ قُلُوبِهِمْ وَاتّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ) .

وقال:( أَفَمَن كَانَ عَلَى‏ بَيّنَةٍ مِن رَبّهِ كَمَن زُيّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتّبَعُوا أَهْوَاءَهُم ) .

فهذا كلّه واضح في أنّ قصد الشارع الخروج عن اتّباع الهوى.(١)

وعندما يلتبس الأمر على الإنسان بسبب الهوى، فليس أفضل من أن يستهدي الإنسان بهدي من سبقه من الأنبياء والصدّيقين على هذا الطريق الطويل؛ فإنّ الشيطان يتربص بالإنسان الدوائر عند كلّ منعطف من منعطفات الطريق ليضلّله وليدفعه عن الصراط المستقيم إلى متاهات الطريق.

فإذا مشى الإنسان لوحده على هذا الطريق لا يأمن الشيطان والهوى، ولكن عندما يضع خطاه على مواضع خطى الأنبياء والمرسلين، ويربط نفسه بهذه المسيرة الربّانية في التاريخ، ينجو من وساوس الشيطان وإغراء الهوى، فلا ينالان

____________________

(١) سفينة البحار، للشيخ عباس القمّي ٢: ٥٥، ( مادّة قوم )

٣٠

منه شيء، ولا يصيبانه بسوء.

فقد يلتبس أمر الطريق على الإنسان إذا كان يسير وحده، أمّا حينما يشعر أنّه يقتدي بهدي الأنبياء، ويسير على طريقهم، يضع خطاه بثقةٍ، واطمئنانٍ، على طريق ذات الشوكة.

فقد أُخطئ أنا الطريق لوحدي، ولكن لا يمكن أن يُخطئ الطريق هذا الحشد الهائل، والمسير الطويل من الصفوة الصالحة من عباد الله، من الأنبياء والمرسلين، والصدِّيقين والشهداء؛ فهم المعالم على الطريق، وعندما تحتفّ الطريق بمثل هذه المعالم والإشارات فلا يمكن أن يضيع الإنسان، أو يلتبس عليه الأمر.

ولأمر ما، إذا دعونا الله تعالى في الصلاة أن يرزقنا الهداية إلى الصراط المستقيم:( اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) ، نعقّب ذلك مباشرة بتشخيص الصراط المستقيم تشخيصاً عينيّاً خارجاً، فهؤلاء الذين أنعم الله عليهم من عباده الصالحين، ولم يغضب عليهم، ولم يضلّوا:( صِرَاطَ الّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضّآلّينَ ) .

وفي سورة الأنعام بعد ما تستعرض السورة المباركة ذكر عدد من الأنبياء ( عليهم السّلام )، منذ عهد إبراهيم أبي الأنبياء ( سلام الله عليه ) إلى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم )، يخاطب الله تعالى نبيه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بقوله:( أُولئِكَ الّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ) ، [ الأنعام: ٩٠ ].

العقبة الثانية ( العوائق ):

ولا تَقلّ خطورة العقبة الثانية عن العقبة الأولى، ولا تقلّ ضحاياها عنها.

إنّ قضية هذه العقبة هي العوائق التي تعيق حركة العاملين، وتسبّب لهم التخلّف عن الحركة والتساقط أثناء الطريق، وهذه العوائق على قسمين:منها، عوائق موضوعية مبثوثة على الطريق.

ومنها، عوائق ذاتيّة كامنة في نفوس الناس، وكلتاهما تعيقان حركة العاملين في سبيل الله، وإذا التقتا كان تأثيرهما تأثيراً قوياً بالغاً في نفوس العاملين.

٣١

فمن العوائق الموضوعية: طول الطريق، وبعد الشقّة والمتاعب التي يحفل بها هذا الطريق من البأساء والضرّاء، والدعاة إلى الله يعجبهم أن يكون الطريق قصيراً مُريحاً، آمناً من المخاوف والأخطار، ولكن الله تعالى يريد لعباده أن يسلكوا إليه طريق ذات الشوكة:( وَتَوَدّونَ أَنّ غَيْرَ ذَاتِ الشّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقّ الْحَقّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ) ، [ الأنفال: ٧ ].

فالطريق إلى الله إذا كان قصيراً مُريحاً، آمناً، سهلاً، لن يحقّق الحقّ، ولن يقطع دابر الكافرين، ولن تتمّ السيادة والسلطان لدين الله على وجه الأرض إلاّ حينما يسلك الدعاة طريق ذات الشوكة إلى الله.

وليست هذه البأساء والضراء خاصّة بهذه الأمّة، فهي سنة الله في حياة العاملين جميعاً، لم يشذّ منهم أحدٌ عن هذه السنّة الإلهية الصعبة:( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنّةَ وَلَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ مَسّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضّرّاءُ ) ، [ البقرة: ٢١٤ ].

ولو كان أمر هذا الطريق يسير، والمسافة قريبة، لم يتخلّف عن الطريق أحدٌ من الناس، ولكن طول المسافة، وبُعد الشقّة، جعل الناس يتفرّقون من حول الدعوة، ويتخلّفون عن المسيرة:( لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاتّبَعُوكَ وَلكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشّقّةُ ) ، [ التوبة: ٤٢ ].

وهناك عوائق ذاتية في داخل النفوس، وهي أخطر بكثير وأكثر بكثير من العوائق الموضوعية القائمة على الطريق، ومن خصائص هذه العوائق أنّها تختفي ساعات اليسر وتبرز ساعات العسر والشدّة، ولنقرأ هذه الآيات المباركات من سورة الأحزاب عن العوائق الكامنة في نفوس المؤمنين، والتي تبرز في ساعات الشدّة ولحظات العسر:

( اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً * إِذْ جَآءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ

٣٢

أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنّونَ بِاللّهِ الظّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً ) ، [ الأحزاب: ٩-١١ ] .

وفي نفس السياق:

( قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ الْمُعَوّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاّ قَلِيلاً * أَشِحّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالّذِي يُغْشَى‏ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً ) ، [ الأحزاب: ١٨-١٩ ].

ولا تخصّ هذه العوائق ونقاط الضعف نفوس المنافقين والصغار من المؤمنين فقط، وإنّما تشمل المؤمنين الذين امتحن الله قلوبهم للإيمان أحياناً.

فقد أثَّرت نكسة( أُحُد ) في نفوس المؤمنين الأشدّاء الذين امتحن الله قلوبهم ونصرهم الله ببدر، إلاّ القليل منهم، الذين ثبتت نفوسهم في نكسة( أُحد ) ولم يضعفوا ولم يتزلزلوا، وعن هؤلاء يقول تعالى بعد معركة أُحد:

( وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنْتُم مُؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَتّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللّهُ لاَ يُحِبّ الظّالِمِينَ ) ، [ آل عمران: ١٣٩-١٤٠ ].

وهذه بعض الأمثلة والشواهد من نقاط الضعف والعوائق الكامنة في نفوس الناس، والتي تختفي ساعات اليسر والإقبال، وتبرز بروزاً قوياً ساعات العسر والشدّة.

وإنّ هذه العوائق لتحيط الدعاة إلى الله، تعيق سيرهم، وتدفعهم إلى صفوف المتخلّفين والمنافقين والضعفاء، ولابدّ للدعاة من أن يروّضوا أنفسهم كثيراً لاجتياز هذه العوائق، ما كان منها على الطريق أو في داخل نفوسهم، وأن يدعوا الله تعالى ليمدّهم من عنده بقوّة وصبرٍ وثباتٍ، يستطيعون به أن يواجهوا هذه العقبات والفتن على طريق ذات الشوكة.

( وَلَمّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا

٣٣

وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) ، [ البقرة: ٢٥٠ ] .

كيف نعالج الخوف والضعف؟

تعميق الإحساس بوراثة الأنبياء والصديقين يمنح الإنسان مثل هذا الثبات والثقة والقوّة لمواجهة التحديات والنكسات التي تحدث أحياناً في صفوف المؤمنين، ويَحول دون أن تتحوّل النكسة إلى هزيمة نفسية. وهذا إجمال لابدّ له من تفصيل، وإشارة لابدّ لها من تحديد وتشخيص، وإليك هذا التفصيل:

١- قد تثير قوّة العدو وضخامة إمكاناته، وكثرة عدده، وضعف إمكانات القلّة المؤمنة إحساسا بالضعف والنقص في نفوس المؤمنين، ولكن الأمر يختلف كثيراً عندما ينظر المؤمنين إلى أنفسهم من خلال موقعهم الحضاري من التاريخ، ويعرفون أنّهم جزء لا يتجزّأ من هذه المسيرة الربانية الممتدّة على امتداد التاريخ كلّه.

فإنّ هذا الخط هو الدين القيّم الذي قوّم مسيرة البشرية وحركة التاريخ منذ اليوم الأوّل إلى اليوم الحاضر، ولم يزل هذا الخط منذ نشأته في عمق الفطرة البشرية - إلى أن تولاه أنبياء الله بالرعاية - قائماً في حياة البشرية، وقيّماً على حياة الإنسان وسلوكه وتاريخه.

وليست المعاناة، والعذاب، والتشريد، والتهجير، والقتل، والضغينة، التي يجدها الداعية في حياته الرسالية من جانب أئمّة الكفر وأتباعهم شيئاً جديداً في حياتهم، بل هي جزء من ميراثهم الضخم الذي يرثونه كابراً عن كابر.

ومن هذا التراث الكبير يجد المؤمن دعماً وسنداً روحياً يخرجه عن الشعور بالوحشة والانفراد والضعف، ويجد في معاناة سلفه الذين سبقوه في الإيمان والدعوة عزاء وسلوة، ويرى فيهم قدوة صالحة لنفسه.

كلّ ذلك يبعث في نفوس المؤمنين العاملين الإحساس بالقوّة والعمق والامتداد، ويشعرهم بالعزاء والسلوى فيما يلقَونه من عذاب، ويشعرهم بتأييد الله تعالى للمسيرة كلِّها.

٣٤

رحلة الدعوة والمعاناة في سورة هود:

وسورة هود سورة عجيبة ٌفي هذا المضمار، ولقد وددت أن أتلو السورة كلّها على القرّاء؛ ففي هذه السورة ينعكس خط الدعوة إلى الله:( أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ اللّهَ إِنّنِي لَكُم مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ* وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبّكُمْ ) ، ممّا يعكس خط الإعراض والجحود:( أَلاَ إِنّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخفُوا مِنْهُ ) .

ثمّ تبين السورة المباركة استدراج الله تعالى لهؤلاء المعرضين والمشركين وإمهالهم وتماديهم في غيّهم وطغيانهم:( وَلَئِنْ أَخّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى‏ أُمّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ ) .

ولعل صدر رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) كان يضيق وسط هذا الإعراض والطغيان، وتمادي القوم في غيّهم وضلالهم:( فَلَعَلّكَ تَارِكُ بَعْضَ مَا يُوحَى‏ إِلَيْكَ وَضَائِقُ بِهِ صَدْرُكَ ) .

لولا أن الله تعالى يذكِّر نبيه أنّ هؤلاء على كثرة عددهم وقوّتهم وطغيانهم لم يكونوا ليُعجزوا الله تعالى.، وأنّ الله إن أمهلهم استدراجاً لهم فلن ينساهم، ولن يفلتوا من قبضة قدرته وسلطانه تعالى:( أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ ) .

ثمّ ترسم السورة المباركة صورة حيّة لهذين الامتدادين والمعسكرين: الحضارة الإلهية، والحضارة الجاهلية:( مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى‏ وَالأَصَمّ وَالْبَصيرِ وَالسّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً ) .

فمهما كَثُر عددهم، وزادت قوّتهم، فلا يزيدون على أن يكونوا كتلةً مهملةً من العمى والصمّ في مسار التاريخ، وأنّ الجبهة الأخرى هي الجبهة الواعية ذات الإحساس والإدراك( السمع والبصر ) ومهما كانت قوّة هذه الكتلة وحجمها فلن

٣٥

يكون لها شأن ولن يكون لها قيمة في مضمار التاريخ.

ثمّ تبدأ السورة باستعراض المسيرة الإلهية الكبيرة في التاريخ في مقاطع متعدّدة وبشيء من التفصيل، وما لاقاه أنبياء الله ورسله خلال هذه المسيرة من عناءٍ، وعذابٍ، وجحودٍ، وتكذيبٍ واستهزاء من أقوامهم.

فتذكر السورة معاناة نوح ( عليه السّلام ) في دعوة قومه إلى الله، وتذكّر السورة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ):

بمعاناة هود ( عليه السّلام ) في دعوة ( عاد ).

بمعاناة صالح ( عليه السّلام ) في دعوة ( ثمود ).

بمعاناة إبراهيم ( عليه السّلام ) في دعوة قومه.

ومعاناة لوط ومعاناة شعيب ( عليه السّلام ) في دعوة ( أهل مدين ) إلى الله.

ومعاناة موسى ( عليه السّلام ) في دعوة قومه إلى الله.

وتسترسل الآيات المباركة في شرح هذه المعاناة ورسمها.

ثمّ بعد هذه الجولة في تاريخ الإنسان وحضارته، ومعاناة الأنبياء وعذابهم، وعناد المشركين، ورفضهم وتعنتّهم ولجاجهم، وصبر الأنبياء وجَلَدِهم واستقامتهم، تخاطب السورة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم )، الذي قد كان يضيق صدره بما يراه من تعنّت قومه وعنادهم، قوله تعالى:( فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا إِنّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) .

وتحذر الآية الكريمة المسلمين من أن يمسّهم ضعف في خضم الصراع ومرارته إلى الذين ظلموا، فتقول لهم:

( وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسّكُمْ النّارُ وَمَا لَكُم مِن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمّ لاَ تُنصَرُونَ ) .

يقول ابن عبّاس: ما نُزِّل على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) آيةٌ كانت أشدّ عليه ولا أشقّ من قوله تعالى:( فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ) ، ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له:

٣٦

( أسرع إليك الشيب يا رسول الله ) ، قال:( شيّبتني هودٌ والواقعة ) (١) .

ثمّ يعلِّم الله تعالى نبيه أمرين يشدّان أزره، ويربطان على قلبه، ويثبِّتان فؤاده في هذه المسيرة الصعبة الشائكة، وهما:

الصلاة، والصبر

وما أدراك ما الصلاة والصبر؟ الصلاة في آناء الليل وأطراف النهار، والدعاء والتضرّع إلى الله، ومواصلة ذكر الله تعالى والصبر في الغرائب وعلى البأساء والضراء:( أَقِمِ الصّلاَةَ طَرَفَيِ النّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللّيْلِ إِنّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السّيّئاتِ ذلِكَ ذِكْرَى‏ لِلذّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فإِنّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) .

وقد ذكّر القرآن الكريم المؤمنين، والدعاء إلى الله، في أكثر من موضع بالاستعانة بالصبر والصلاة، في اجتياز العقبات ومجابهة التحديات:( وَاسْتَعِينُوْا بِالصّبْرِ وَالصّلاَةِ ) ، [ البقرة: ٤٥ ].

( وَكُلاًّ نَقُصّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرّسُلِ مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى‏ لِلْمُؤْمِنِينَ ) ، [ البقرة: ١٥٣ ].

ثمّ تأتي بعد هذه الجولة الرسالية في تاريخ الدعوة، ومسارها الطويل الشاقّ، هذه الآية العجيبة التي تبيّن لنا السرّ في تذكير رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم )، في خضم الصراع والمعاناة، بهذا التاريخ الطويل المليء بالمعاناة والعذاب.

إنّ السرّ في هذا الاستعراض الطويل هو تثبيت قلب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في معاناته الشاقّة بأطراف من قصص الأنبياء والمرسلين ( عليهم السّلام ):( وَكُلاًّ نَقُصّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرّسُلِ مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى‏ لِلْمُؤْمِنِينَ ) .

وأنّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ليجد في استقامة الأنبياء وصبرهم على

____________________

(١) بحار الأنوار ٥٢: ٣٣٦، ح ٧١.

٣٧

المحنة قوّةً وثباتاً في فؤاده على المضي في الصراع المصيري، ويجد في معاناة الأنبياء ( عليهم السّلام ) عزاءً وسلوة.

وإذا كان التذكير بالمسيرة التاريخية الواحدة للدعوة إلى الله، وتعميق الإحساس بوحدة الخطّ والميراث، يثبّت فؤاد رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في خضم معركة الدعوة، وهو الذي شرح الله صدره وثبّت فؤاده، فأحرى بنا نحن الدعاة إلى الله تعالى أن نستوحي من هذه المسيرة الإلهية الثبات والعزم، والثقة بالنصر والطمأنينة، والقدرة على مواجهة التحديات والغرائب والمحن، وأن نتلمس في هذه المسيرة الربانية الضاربة في أعماق التاريخ أعماقنا الحضارية، ومن هذه الصفوة الصالحة المنتجبة من عباد الله، أصولنا وجذورنا وأسرتنا التي ننتمي إليها.

نماذج أخرى من رحلة العذاب والمعاناة:

وإن شئت أن تسترسل في هذا الهدي الإلهي، وترى كيف يثبّت الله تعالى فؤاد نبيّه بمن سبقه من الأنبياء والمرسلين، للمتعبين بعد طول العناء وطول المعاناة، وبما لاقوه من عناءٍ، وعذابٍ، واضطهاد، فاتلُ معي هذه الآيات المباركات:

( وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كَذّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذّبَ مُوسَى‏ فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ) ،[ الحج: ٤٢-٤٥ ].

( وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلّذِينَ كَفَرُوا ثُمّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ) ، [ الرعد: ٣٢ ].

( وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ ) ، [ الأنبياء: ٤١ ].

( وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مِن قَبْلِكَ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ) ، [ فاطر: ٤ ].

٢- وتعميق الإحساس بالوراثة في نفس الداعية يمكّن من فهم سنن الله تعالى

٣٨

وقوانينه في مسيرة الحضارية الإنسانية.

ذلك أنّ الداعية ينظر إلى المسيرة ليس من خلال عناء الساعة وابتلاءات الطريق، وإنّما ينظر إليها من خلال استعراض مسيرة الحضارات الطويل في التاريخ، وتاريخ هذا الصراع بين الخطّ الرباني والخطوط الجاهلية، وما آل إليه هذا الصراع بين الحقّ والباطل.

إنّ الداعية الذي ينظر إلى التاريخ بهذه الرؤية الشاملة العميقة يستطيع أن ينظر إلى مسيرة المعاناة والعمل والدعوة نظرة شموليةً واسعةً، ويكشف السنن والقوانين الإلهية في مسير الحضارة، ويقضي في أمر المسيرة لا من خلال معاناة اللحظة، وإنّما من خلال النتائج والعواقب.

أسلوبان في الرؤية :

والإنسان ينظر إلى المسيرة على نحوين:

فقد ينظر إلى المسيرة من خلال المعاناة والآلام والمتاعب التي تكتنف الطريق، وهذه هي النظرة القصيرة والرؤية المحدودة للطريق، التي لا تتجاوز اللحظة والساعة، وهي رؤية محفوفة الأخطار، ولا يسلم صاحبها كثيراً من السقوط، ولا ينجو من الخوف واليأس والتعب، في أغلب الأحوال.

فإنّ الذي ينظر إلى المسيرة، ويقضي فيها من خلال معاناة العمل ومتاعبه وآلامه، يسرع إلى نفسه اليأس والخوف والتعب، ومن يدخله التعب واليأس والخوف لا يستطيع أن يواصل المسيرة، ويتخلّف أو يسقط أثناء الطريق، إن عاجلاً أو آجلاً.

وقد ينظر إلى المسيرة من خلال النتائج والعواقب، وهذه هي الرؤية الصحيحة للمسيرة، ونحن نلتقي في القرآن هذه الرؤية، التي تمكّننا من تجاوز سلبيات المعاناة والمرور بها في طريق العمل دون أن يصيبنا الخوف، أو اليأس، أو التعب، ودون أن يشقّ علينا بُعد الشقّة.

٣٩

فإنّ القرآن يحرص على النظر إلى معاناة الطريق وعذابها من خلال العواقب والنتائج، وليس من خلال المعاناة نفسها ساعة المعاناة والمواجهة والعمل.

وفيما يلي نتلو عليكم طرفاً من آيات القرآن التي تحرص أن تعلّمنا أسلوب الرؤية الصحيح إلى المعاناة؛ لاستيعابها وامتصاصها، يقول تعالى:

( فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللّهُ مَعَكُمْ وَلَن يتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ) ، [ محمّد: ٣٥ ].

( وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنْتُم مُؤْمِنِينَ ) ، [ آل عمران: ١٣٩ ].

( قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى‏ مَكَانَتِكُمْ إِنّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدّارِ إنّهُ لا يُفْلِحُ الظّالِمُونَ ) ، [ الأنعام: ١٣٥ ].

( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزّبُورِ مِن بَعْدِ الذّكْرِ أَنّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصّالِحُونَ * إِنّ فِي هذَا لَبَلاَغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ ) ،[ الأنبياء: ١٠٥ ].

( وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنّ لَهُمْ دِينَهُمُ الّذِي ارْتَضَى‏ لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنّهُم مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ) ، [ النور: ٥٥ ].

( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنّ جُنْدَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ ) ، [ الصافات: ١٧١].

والذين يرزقهم الله هذا النهج من الرؤية البعيدة والنافذة يمكِّنهم الله من النظر إلى الأحداث التاريخية لمسيرة الإنسان نظرة شاملة غير محدودة، ويمكِّنهم من استنباط قوانين وسنن هذه المسيرة، ومعرفة مواضع النصر والهزيمة في هذه المسيرة.

أولئك يطمئنون إلى حتمية النصر، ولا يساورهم في ذلك شكّ لحظةٍ واحدةٍ، وحتى في أحرج الساعات، وأحلك الظروف، وأشدّ الابتلاءات، لا يمسّ الريب نفوسهم ولا ينال من ثقتهم ويقينهم بحتمية النصر الإلهي، وأنّ العاقبة للمتقين. وهؤلاء هم الذين يستطيعون أن يتجاوزوا الحاضر المليء بالمعاناة إلى

٤٠