ميراثان في كتاب الله العجب

ميراثان في كتاب الله العجب0%

ميراثان في كتاب الله العجب مؤلف:
الناشر: دار القرآن الكريم
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 109

  • البداية
  • السابق
  • 109 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 11321 / تحميل: 5669
الحجم الحجم الحجم
ميراثان في كتاب الله العجب

ميراثان في كتاب الله العجب

مؤلف:
الناشر: دار القرآن الكريم
العربية

سلسلة في رحاب القرآن

٥

ميراثان في كتاب الله العُجْبُ

بقلم: الأستاذ الشّيخ محمّد مهدي الآصفي

دار القرآن الكريم

١

بمناسبة المؤتمر الرابع للأبحاث والدراسات

القرآنية في دار القرآن الكريم، قم - ٢٧ / رجب / ١٤١٢هـ

سلسلة في رحاب القرآن ( ٥ )

( ميراثان في كتاب الله - العجب )

المؤلف: سماحة الشيخ محمّد مهدي الآصفي

الناشر: دار القرآن الكريم، قم - ص.ب ١٥١

الصفّ والاخراج الفني الكومبيوتري: دار القرآن الكريم

زينغراف: حميد - قم

تعداد: ٣٠٠٠ نسخة

التاريخ: ٢٧ رجب ١٤١٢هـ.

حقوق الطبع والنشر محفوظة لدار القرآن الكريم - قم

٢

ميراثان في كتاب الله

٣

٤

ميراثان في كتاب الله

في كتاب الله نجد ثلاثة أنواع من المواريث لعباد الله الصالحين: ميراثين في الدنيا، وميراثاً في الآخرة.

أمّا الميراث في الآخرة فهو الجنّة، يورثها عباده الصالحين والمتّقين من عباده بما عملوا. وإنّما يسمّيه القرآن ( إرثاً ) لأنّ الله تعالى خَلَق الجنّة لعباده جميعاً إذا آمنوا وعملوا صالحاً.

ولَمّا حُرم الكفّار والمشركون من الجنّة؛ بكفرهم وإفسادهم في الأرض، فإنّ الله تعالى خصّ المؤمنين فقط بالجنّة، دون الكفّار المشركين، وأورثهم الجنّة التي كان يستحقّها أولئك لو كانوا يؤمنون ويعملون صالحاً.

وقد روي عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ):( ما منكم مِن أحدٍ إلاّ وله منزِلان: منزلٌ في الجنّة، ومنزلٌ في النار، فإن مات ودخل النار، ورث أهل الجنّة منزِله )، والإرث هو الجنّة، والوارثون هم المؤمنون الذي يرثون الفِردوس.

٥

والآيات المباركة، في بداية سورة ( المؤمنون )، تعطي صورةً واضحةً للوارثين الذين يرثون الجنّة، يقول تعالى:

( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالّذِينَ هُمْ عَنِ اللّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالّذِينَ هُمْ لِلزّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاّ عَلَى‏ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى‏ وَرَاءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالّذِينَ هُمْ عَلَى‏ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ) . [ المؤمنون: ١ - ١١ ]

إذن، وِراثة الجنّة لا تتم إلاّ بالخشوع في الصلاة، والإعراض عن اللغو، والزكاة، والصلاة، وحفظ الفروج عن الحرام، وأداء الأمانات والعهود.

وفي سورة ( مريم: ٦٣ ) ورد ذكر التقوى في الأسباب التي تورث الجنّة:( تِلْكَ الجنّة الّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً ) . وفي مواضع أُخرى يقرّر القرآن الكريم أنّ الجنّة يرثها المؤمنون بأعمالهم:( وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الجنّة أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) [ الأعراف: ٤٣ ]،( وَتِلْكَ الجنّة الّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) . [ الزخرف: ٧٢ ]

فلا ينال المؤمنون الجنّة إلاّ بما قدّموا من عملٍ صالحٍ في الدنيا، والعمل الصالح هو الذي يورث المؤمنين الجنّة، وهذا هو ميراث الصالحين في الآخرة، أمّا في الدنيا فقد جعل الله تعالى للصالحينميراثين: ميراثاً من الظالمين والجبابرة الطغاة، وميراثاً من الأنبياء المرسلين، والصالحين من عباد الله.

وفي كتاب الله تعالى إيضاحٌ وتفصيل لهذين الميراثين اللذين يرثهما الصالحون من عباد الله في الدنيا، وفي هذه الرسالة نتحدّث عن هذين الميراثين في كتاب الله.

٦

الميراث الأوّل

الميراث الأوّل: هو ميراث الصالحين من المستكبرين، وهذا الميراث هو السلطان والمال والأرض، يقول تعالى:

( وَنُرِيدُ أَن نّمُنّ عَلَى الّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ ) . [ القصص: ٥ ]

( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزّبُورِ مِن بَعْدِ الذّكْرِ أَنّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصّالِحُونَ ) . [ الأنبياء: ١٠٥ ]

( وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لّمْ تَطَؤُوها ) . [ الأحزاب: ٢٧ ]

( قَالَ مُوسَى‏ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُوا إِنّ الأَرْضَ للّهِ‏ِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتّقِينَ ) . [ الأعراف: ١٢٨ ]

( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ الْحُسْنَى‏ عَلَى‏ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ ) . [ الأعراف: ١٣٧ ]

دورة التاريخ في القرآن

وهذه الجملة من الآيات الكريمة لها دِلالات عجيبة في ترسيم سنّة الله تعالى في تداول الأيام، والقوّة والسلطان، والسيادة بين الناس، وهي ترسم لنا دورةً كاملة للتاريخ في حركته المستمرة الدائبة، ونلاحظ نحن في هذه الحركة الأصول التالية - التي ترسم لنا سنن الله في التاريخ -:

١- أنّ القوة والمال تتبعان دائماً الصلاح والتقوى، وكلّما حلّ بقوم الصلاح حلّت معه القوة والسلطان والمال، بعكس ما يتصوّر الناس - عادةً - من أنّ الإنسان يكسب القوّة والمال بالعدوان والغش والظلم والفساد، والقرآن يؤكد كثيراً، وفي تعبيرات مختلفة، هذا المعنى:( وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتّقِينَ ) . [ الأعراف: ١٢٨ ]

٧

( وَتَمّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ الْحُسْنَى‏ عَلَى‏ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ) . [ الأعراف: ١٣٧ ]

( لّيَجْزِيَ اللّهُ الصّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنّ اللّهِ كَانَ غَفُوراً رّحِيماً * وَرَدّ اللّهُ الّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً * وَأَنزَلَ الّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الْرّعْبَ فِرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لّمْ تَطَؤُوها وَكَانَ اللّهُ عَلَى‏ كُلّ شَيْ‏ءٍ قَدِيراً ) . [ الأحزاب: ٢٤-٢٧ ]

٢ - المال والسلطان يعرّضان الإنسان للفساد والطغيان والعجب:( كَلاّ إِنّ الإنسَانَ لَيَطْغَى‏ * أَن رَآهُ اسْتَغْنَى ) . [ العلق: ٦ ]

وذلك أنّ المال والسلطان يصيبان الإنسان بالعجب والغرور، ويحجبانه عن الله تعالى، وأنّ ما يرزق الله تعالى عباده من مال وسلطان لَحَري أن يدعو الإنسان إلى الشكر والارتباط بالله سبحانه، إلاّ أنّ الإنسان قد يحوّل المال والسلطان في حياته إلى أداة للقطيعة مع الله والسُّكْر؛ ومن ذلك يكون المال والسلطان أداة للفساد والطغيان والعجب والغرور في حياة الإنسان.

يقول أمير المؤمنين ( عليه السّلام ) - في أولئك الذين أفسدتهم النعمة والمال والسلطان -:( ذلك حيث تسكُرون من غير شراب؛ بل من النعمة والنعيم ). (١)

ومن عجبٍ أن يَسكُر الإنسان ولكن من دون شراب، بل من النعمة والنعيم، وإنّها لحريٌّ أن تكون سبباً للوعي واليقظة في حياة الإنسان.

٣- وإذا فسد الإنسان انتزع الله تعالى منه المال والسلطان، بعد أن يمهله ويمدّه في الطغيان:( وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمّرْنَاهَا

____________________

(١) نهج البلاغة، شرح وفهرسة د. صبحي صالح، ١: ٢٧٧، خطبة ١٨٧.

٨

تَدْمِراً * وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى‏ بِرَبّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ) ، [ الإسراء: ١٦ - ١٧ ].

وهذه هي نهاية الحضارة وسقوطها، وهي نهاية دورة التاريخ، وعندها يأذن الله تعالى بدورة جديدة للتاريخ، فإنّ الأُمم إذا أفسدها المال والسلطان، مدّ الله تعالى لها في المال والسلطان، استدراجاً لها، وإمعاناً في الاستدراج، فتزداد فساداً وطغياناً، وعند ذلك يسلبها الله تعالى ما أتاها من مال وسلطان مرّة واحدة، وينتزع منها ما رزقها من النعمة.

ذلك أنّها توغل في الفساد - حالة الاستدراج - وينخر فيها الفساد من الداخل، دون أن يظهر ذلك على السطح المرئي من حياتها، فتفقد الضمير والعاطفة، والقيم والأخلاق، وتستولي عليها الأهواء والشهوات والنزوات، حتى إذا نخِرت من الداخل بشكل كامل، انهارت مرّة واحدة.

لهذا السبب فإنّ نهاية الدورة الحضارية السقوط والانهيار دائماً، هو الموت الدُّفعي المفاجئ، وليس الموت التدريجي، بعكس الحال في ولادة الحضارات ونموّها؛ فإنّها تتولّد وتنمو بصورة تدريجية.

والتعبير القرآني دقيق في هذا الأمر:

( وَدَمّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ ) ، [ الأعراف: ١٣٧ ].

هكذا، دمرناها مرّة واحدة.

( أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ ) ، [ الأعراف: ٩٨ ].

ضحى، وبصورةٍ مفاجئةٍ، حيث يعيش الناس في أمان، لا يتصورون أن يصيبهم من هذا الوباء شرٌ أو سوءٌ، وهم في غيبهم وفي غفلتهم سادرون يلعبون، وفجأةً يأتيهم بأس الله العزيز القهّار فلا ينجو منهم من أحد، ولا يُمهَل أحداً أبداً.

دورة التاريخ في سورة الأعراف

والآيات التالية من سورة الأعراف توضح لنا دورة التاريخ هذه، وسنن الله تعالى

٩

في حركة التاريخ، وميلاد وموت الحضارات:

( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيّ إِلاّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضّرّاءِ لَعَلّهُمْ يَضّرّعُونَ * ثُمّ بَدّلْنَا مَكَانَ السّيّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتّى‏ عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسّ آبَاءَنَا الضّرّاءُ وَالسّرّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * وَلَوْ أَنّ أَهْلَ الْقُرَى‏ آمَنُوا وَاتّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السّماءِ وَالأَرْضِ وَلكِن كَذّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى‏ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوْ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى‏ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ) ، [ الأعراف: ٩٤-٩٩ ].

في بداية الأمر يبتليهم الله ليتضرَّعوا إليه تعالى؛ وليهتدوا، وليأخذوا بأسباب الهداية والنجاة، وهذه هي مرحلة (الابتلاء) و( التمحيص ):( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيّ إِلاّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضّرّاءِ لَعَلّهُمْ يَضّرّعُونَ ) .

فإذا اهتدوا، واستقاموا على الطريق، فتح الله عليهم بركات من السماء والأرض:( وَلَوْ أَنّ أَهْلَ الْقُرَى‏ آمَنُوا وَاتّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السّماءِ وَالأَرْضِ ) ، وهذه هي مرحلة الهداية والنعمة.

وإن رفضوا الهداية، وتمرّدوا فإنّ الله تعالى يبدّلهم مكان الشدّة الرخاء، ومكان البأساء والضرّاء النعماء، حتّى يكثروا وحتّى ينسوا الله تعالى:( ثُمّ بَدّلْنَا مَكَانَ السّيّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتّى‏ عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسّ آبَاءَنَا الضّرّاءُ وَالسّرّاءُ ) .

ويطبع على قلوبهم، ويسلبهم العقل والبصيرة والوعي:( وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذّبُوا مِن قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلَى‏ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ ) [ الأعراف: ١٠١ ]،( أَوَلَمْ يَهْدِ لِلّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ

١٠

وَنَطْبَعُ عَلَى‏ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَيَسْمَعُونَ ) [ الأعراف: ١٠٠ ]، وهذه مرحلة المكر، والطبع على القلوب، والاستدراج.

ثمّ بعد مرحلة المكر والاستدراج، تأتي مرحلة الهلاك والدمار، وسقوط الحضارة الكامل والمفاجئ:( فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ) ، لاحظوا:( بغتة ) ، مرّةً واحدةً وبصورةٍ مفاجئةٍ وهم لا يشعرون:

( أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى‏ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوْ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى‏ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ) ، وهذه مرحلة ( الهلاك ) و( المَحْق ).

دورة التاريخ في نهج البلاغة:

دورة التاريخ في كلمات الإمام ( عليه السّلام ):

وفي خُطبة ( القاصعة ) - من كلام الإمام أمير المؤمنين ( عليه السّلام ) - نجد تصويراً دقيقاً لهذه المراحل الثلاث التي يحدّدها القرآن الكريم لحركة التاريخ:

١- مرحلة ميلاد الحضارات.

٢- مرحلة الفساد والاختلال.

٣- مرحلة سقوط الحضارة.

فيضرب لنا الإمام ( عليه السّلام ) مثلاً بحضارة بني إسرائيل في عصر فرعون، وعند قيام رسول الله وكليمه موسى بن عمران ( عليه السّلام ).

يقول ( عليه السّلام ):

( وتدبّروا أحوال الماضين من المؤمنين قَبلكم، كيف كانوا في حال التمحيص والبلاء، ألَم يكونوا أثقل الخلائق أعباءً، وأجهد العباد بلاءً، وأضيق أهل الدنيا حالاً؟!

١١

اتخذتهم الفراعنة عبيداً، فساموهم سوء العذاب، وجرّعوهم المرارَ، فلم تبرح الحال بهم من ذلّ الهَلَكة، وقهر الغلبة، لا يجدون حِيلة في امتناع، ولا سبيلاً إلى دفاع ) . (١)

وهذه هي مرحلة الابتلاء والتمحيص التي تهيّئ الأمّة للصلاح والاستقامة، ولا بدّ لكل استقامةٍ وصلاحٍ في حياة الأُمم من المرور بمرحلةٍ من الابتلاء والتمحيص، الذي يُعدّ الأمّة للاستقامة والعودة إلى الله تعالى.

ولم نتحدّث نحن عن هذه المرحلة من رسم دورة التاريخ في هذا الحديث، كما لم نتحدّث نحن عن مرحلة الاستدراج بصورة مستقلة.

ثمّ يقول ( عليه السّلام ):

( حتّى إذا رأى الله جِدّ الصبر منهم على الأذى في محبّته، والاحتمال للمكروه من خوفه، جعل لهم من مضائق البلاء فرجاً، فأبدلهم العزّ مكان الذلّ، والأمن مكان الخوف، فصاروا مُلوكاً حكّاماً، أئمّة أعلاماً، قد بلغت الكرامة من الله لهم ما لم تبلغ الآمال بهم.

فانظروا كيف كانوا حيث كانت الأمْلاء مجتمعة، والأهواء متفقة، والقلوب معتدلة، والأيدي مترادفة، والسيوف متناصِرة، والبصائر نافذة، والعزائم واجدة، ألم يكونوا أرباباً في أقطار الأرضين، وملوكاً على رقاب العالمين؟! ) .(٢)

وهذه هي المرحلة الأُولى من الدورة الحضارية للتاريخ، مرحلة ولادة الحضارة الإلهية ونشوئها.

ثمّ يحدثنا الإمامعن المرحلة الثانية : حيث يبدأ الفساد يدبّ في جسم هذه الحضارة وتنخر هذه الحضارة من الداخل، وتتحوّل نِعم الله تعالى من جسور للارتباط بالله تعالى إلى حُجب وحواجز تحجب الإنسان وتحجزه عن الله، فيلهو باللعب واللهو والسُّكْر، وينسى نفسه، وتتحكّم فيهم الأهواء، ويكثر فيهم الخلاف،

____________________

(١) المصدر السابق ١: ١٧٧.

(٢) المصدر السابق ١: ١٧٧.

١٢

وتختلف لديهم الآراء والأهواء.

يقول ( عليه السّلام ):

( فانظروا إلى ما صاروا إليه في آخر أمورهم حين وقعت الفتنة، وتشتّت الأُلفة، وتشعّبوا مختلفين، وتفرّقوا متحاربين ). (١)

ثمّ يتحدث الإمام بعد ذلكعن المرحلة الثالثة: مرحلة السقوط والانهيار، حيث يسلبهم الله تعالى نِعمه كلّها، ويفاجئهم بغضبه وبأسه ضُحى وهم يلعبون.

( قد خلع الله عنهم لباس كرامته، وسلبهم غضارة نِعمته، وبقي قصص أخبارهم فيكم عبرة للمعتبرين ) .(٢)

وهذه المحنة الأخيرة، ليست من نوع( ابتلاء التمحيص ) الذي كان يحضّ المؤمنين من عباد الله، والذي كان يعدّ الأمة لميلاد حضاري جديد.

وإنّما هو نوع آخر من المحنة يعبر عنها القرآن الكريم بـ( المَحْق ) في مقابل التمحيص، وهو يخصّ الحضارات( وَلِيُمَحّصَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ) ، [ آل عمران: ١٤١ ].

وكلاهما من المحنة، إلاّ أنّأحدهما: مِحنة للتمحيص والتزكية والتطهير،والآخر: محنة للمَحْق والهلاك والتدمير.

حرِّية القرار:

ولابدّ أن نشير في هذه النقطة من الحديث إلى مسألتين هامّتين، لهما علاقة مباشرة بهذه الدورة الحضارية في التاريخ:

الأُولى: أنّ استتباع المال والقوّة للصلاح والتقوى قضية حتمية في مسير التاريخ.

____________________

(١) المصدر السابق ١: ١٧٧.

(٢) الموافقات، للشاطبي ٢: ١٢١.

١٣

كما أنّ سقوط الحضارات وموتها وانهيارها بانتشار الفساد والأخلاق في الأمم قضية حتمية في هذا المسير، ومن سنن الله الثابتة التي لا تتبدّل، وليس للإنسان أن يغيّر هذه الحتميات التاريخية والسنن الإلهية في حركة الحضارة ودون التاريخ.

إنّها تشكّل الشطر الحتمي من دورة التاريخ، وتَفْعَل وتؤثِّر بصورة حتمية ثابتة في حياة الإنسان دون أن تتبدّل أو تتغيّر أو تتحوّل.

فاستمع إليه تعالى في آياته البيّنات حيث يقول:( سُنّةَ اللّهِ فِي الّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ قَدَراً مّقْدُور ) [ الأحزاب: ٣٨ ].

( وَلَن تَجِدَ لِسُنّةِ اللّهِ تَبْدِيلاً ) [ الأحزاب: ٦٢ ].

( وَلَن تَجِدَ لِسُنّتِ اللّهِ تَحْوِيلاً ) [ فاطر: ٤٣ ].

( سُنّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنّتِنَا تَحْوِيلاً ) [ الإسراء: ٧٧ ].

إلاّ أنّ حتمية هذه العوامل في حركة التاريخ لا تعني حتميّة حركة التاريخ، فإنّ حركة التاريخ في النظرية الإسلامية ليست حركة حتمية، وإنّما هي تابعة لتحرّك الإنسان وتوجّهه.

وذلك أنّ شطرين آخرين من الأجزاء المؤثّرة في تحريك التاريخ والحضارة هما من صُنع الإنسان وإرادته، وهما حركة الإنسان نحو الصلاح أو حركته نحو الفساد.

إنّ تحرّك الإنسان بهذين الاتجاهين خاضع لاختيار الإنسان بشكل كامل، وإن كان للابتلاء والتمحيص دورٌ مساعد معروف في توجيه الإنسان إلى الصلاح، وللمال والسلطان دور مساعد معروف في إغراء الإنسان بالفساد.

لكن الإنسان يبقى مع ذلك كلّه، صاحب القرار في الصلاح والفساد والاستقامة والضلال، وتبقى له حريّة اتخاذ القرار والتوجّه في هذا الأمر بشكل كامل.

وحركة الإنسان نحو الصلاح أو الفساد مفتاح لكل الدورة التاريخية والحضارية في حياة الإنسان، وتفسير كلّ التحولات الحضارية التي تحدث للإنسان.

وقد أعطى الله تعالى هذا المفتاح بيد الإنسان يتصرف به باتجاه الهدى أو

١٤

الضلال.

( أَلَمْ نَجْعَل لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النّجْدَيْنِ ) [ البلد: ٨-١٠ ].

( إِنّا هَدَيْنَاهُ السّبِيلَ إِمّا شَاكِراً وَإِمّا كَفُور ) [ الإنسان: ٣ ].

وهذه الحرّية في اتخاذ القرار، والتحرّك باتجاه الصلاح أو الفساد، تعطي الإنسان دوراً فاعلاً في صنع التاريخ.

وبهذا التوضيح، نجد أنّ النظرية الإسلامية تختلف اختلافاً جوهرياً عن نظرية ( الحتميّة التاريخية ) التي تتبنّاها المادّية التاريخية؛ إنّ دورة الحضارة، وحركة التاريخ تجري في نظرية المادّية التاريخية بصورة حتميّة، لا يستطيع الإنسان أن يغيّرها.

أمّا في النظرية الإسلامية في حركة التاريخ، فإنّ الإنسان هو العنصر الفاعل المحرِّك للتاريخ، وبيده مفتاح حركة دورة التاريخ، ويتمتّع في هذه الحركة الفاعلة بكامل حريّته في اتخاذ القرار وفي التوجّه والتحرّك.

الدور الفاعل والمسؤول للإنسان في حركة التاريخ:

ليس الإنسان - إذن - خشبةً عائمةً في مجرى التاريخ، مسلوب الإرادة والاختيار، وإنّما يشكّل الإنسان في هذه المسيرة الحضارية عنصراً فاعلاً ومسؤولاً، ومركزه في التاريخ مركز التغيير والقيادة، وإلى هذه الحقيقة يشير القرآن الكريم.

( إِنّ اللّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتّى‏ يُغَيّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ) [ الرعد: ١١ ].

( ذلِكَ بِأَنّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى‏ قَوْمٍ حَتّى‏ يُغَيّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) [ الأنفال: ٥٣ ].

إنّ هاتين الآيتين تشيران إلى: المركز والدور التغييري الفاعل للإنسان في حركة التاريخ، وأنّ حركة التاريخ تابعة لإرادة الإنسان واختياره وليس العكس.

ولا يمنع من هذه الحقيقة إطلاقاً الشطر الحتمي من قوانين التاريخ وسننه، إذا

١٥

كان هذا الشطر هو المنفعل اتجاه إرادة الإنسان، والآية الكريمة تتألف من حقيقتين:

حقيقة حتمية لا سبيل للإنسان إلى تغييرها وتبديلها: وهي الجزء المتعلِّق بإرادة الله تعالى بتغيير الأوضاع المادّية والمعيشية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية للأمّة.

وحقيقةُ إرادةٍ تابعةٍ لاختيار الإنسان: وهي الجزء المتعلِّق بإرادة الإنسان لتغيير نفسه، والذي يستتبع - بشكل ضروري - التغييرات الحتمية من القسم الأوّل.

العلاقة بين الجانب المادي والمعنوي من حياة الإنسان:

والمسألة الثانية التي لابدّ أن نشير إليها بهذا العلاقة الوثيقة بين الشطرين، المعنوي والمادّي، من حياة الإنسان، فليس هذان الشطران من الحياة أجنبيين عن بعض، كما يتصوّر بعض الناس، بل هما مرتبطان ببعض ارتباطاً وثيقاً، والجانب المعنوي من شخصية الإنسان والأمّة يؤثّر تأثيراً مباشراً وقويّاً في الجانب المادي، ولا يصحّ فصل هذين الجانبين عن بعض، ولا يصح تجزئة شخصية الإنسان والأمّة إلى جزأين منفصلين، لا علاقة بينهما.

يقول تعالى:

( وَلَوْ أَنّ أَهْلَ الْقُرَى‏ آمَنُوا وَاتّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السّماءِ وَالأَرْضِ وَلكِن كَذّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) [ الأعراف: ٩٦ ].

ولكلٍّ منهما تأثير على الطرف الآخر، إلاّ أنّ الجانب المعنوي يبقى هو الأساس لشخصية الإنسان، بعكس النظرية المادية التي تنفي وجود أيَّ تأثيرٍ للجانب المعنوي من شخصية الفرد أو الأمّة على الجانب المادي، إن لم يكن الأمر بالعكس، أي: أن يكون الجانب المادّي هو الذي يؤثِّر على الجانب المعنوي ويكوّنه.

١٦

الولادة الجديدة:

تنتهي عند هذا الحدّ دورة التاريخ عبر مراحل: الولادة، والمعاناة، والابتلاء، والاستقامة، والنعمة، والاندراج، والمَحْق، والهلاك.

إلاّ أنّ الله تعالى لا يُبقي حركة التاريخ عاطلة، فيبعث سبحانه وتعالى هذه الحركة في حياة الإنسان على وجه الأرض من جديد بولادة جديدة لأمةٍ من الأُمم، يختارها الله تعالى لاحتضان رسالته وحملها إلى البشرية بين سائر الأمم.

إذن، الولادة الجديدة ليست بمعنى ظهور أمّة على وجه الأرض؛ وإنّما هي بمعنى ظهور الرسالة الإلهية والحركة على خط هذه الرسالة في إحدى الأمم، يختارها الله تعالى لهذه المهمّة فتنهض بها هذه الأمّة دون سائر الأمم.

وهذه سنة من سنن الله تعالى لِئلاّ تتعطل حركة التوحيد على وجه الأرض، ولا تنتهي هذه الحركة بمَحْق الأُمم وهلاكها.

والأمّة الجديدة التي اختارها الله تعالى لاحتضان رسالته وتبنّيها وحملها إلى البشرية تتحرّك على نفس النهج السابق من السنن الإلهية.

وهذا النهج يتلخّص في حركتين: حركة صاعدة، وحركة دائرية:

والحركة الصاعدة: هي الحركة التي ترتفع بالأمّة إلى الله تعالى في مسيرة تصاعدية، ابتداءً بولادة الأمّة واستخلافها، ثمّ التعرض للابتلاء والمعاناة( لَعَلّهُمْ يَضّرّعُونَ ) ، ثمّ الاستقامة والتقوى، والاستقامة والتقوى يستتبعان المال والسلطان، وللمال والسلطان دور مباشر في إثارة الذكر والشُّكر والعرفان، بالحمل في القلوب والنفوس السليمة، وكل ذلك من عوامل التقوى وأسباب الصعود والقرب إلى الله تعالى.

ومن خصائص الشكر أنّه يزيد من نعمة الله تعالى ( المال والسلطان والعافية ):( لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنّكُمْ ) . وزيادة المال والسلطان والعافية تصعّد درجة الشكر والذكر في النفوس والقلوب السليمة، وهكذا يتسلسل الإنسان في حركة تصاعدية

١٧

إلى الله.

وهذه هي حركة الإنسان التصاعدية إلى الله تعالى. وإلى جنب هذه الحركة يوجد نوع آخر من الحركةوهي الحركة الدائرية.

وقد شرحنا مراحل هذه الحركة من قبل: ولادة ثمّ ابتلاء، ثمّ استقامة وتقوى، ثمّ ينعم الله على هذه الأمّة بالمال والسلطان فيشيع المال والسلطان الغرور والطغيان ( في النفوس والقلوب المريضة ).

ثمّ استدراج، ثمّ هلاك ومَحْق، ثمّ يبدأ التاريخ دورته من جديد. وهاتان حركتان للأمم وللجماعات، أمّا حركة الأفراد إلى الله فلها شأن آخر وحديث آخر لا يدخل في صلب بحثنا الآن.

ونستطيع أن نلخص هذه الحركة بكلمتين:( الصعود إلى الله، والسقوط ).

وكل من الصعود والسقوط يجري بموجب سنن إلهية حتميّة لا تتخلّف، وللإنسان الخيار في اختيار هذه الحركة أو تلك، وليس من عامل جبري يحتّم على الإنسان اختيار إحدى هاتين الحركتين بالخصوص، وهذا الاختيار هو أساس ( المسؤولية ) في حياة الإنسان، ولولا هذا ( الاختيار ) لم يتحمَّل الإنسان أيّة مسؤولية عن سلوكه ومواقفه.

إلاّ أنّ النتائج المترتبة على هذه الحركة أو تلك، التي يختارها الإنسان، نتائج حتميّة لا تتغيّر ولا تتبدّل:( وَلَن تَجِدَ لِسُنّتِ اللّهِ تَحْوِيلاً ) .

ونعود الآن إلى حديث الولادة الجديدة للتاريخ.

بعد كل مَحْق وهلاك ولادةٌ جديدة في التاريخ، وهذه الولادة الجديدة تتلخّص في استخلاف الله تعالى لإحدى الأُمم محلّ الأمّة الهالكة، وإيراثها المال والسلطان الذي خلَّفته الأمّة الهالكة بعد هلاكها وسقوطها، فلا تتعطّل سنن الله تعالى، ولا تتعطّل حركة الإنسان إلى الله تعالى.

وهكذا تستمر هذه الحركة وتتصل حلقاتها عبر العروج والسقوط والتعثّر، إلى أن تلتقي الله تعالى.

١٨

( يَا أَيّهَا الإنسان إِنّكَ كَادِحٌ إِلَى‏ رَبّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ ) .(١)

وعن هذه الولادة الجديدة يعبّر القرآن الكريم بثلاث تعبيرات، وهي تعبيرات دقيقةٌ وبليغةٌ في تفهّم سنن الله تعالى، وهذه التعابير هي:

( الاستبدال ) و( الاستخلاف ) و( الإرث ) .

يقول تعالى:( وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً ) ، [ الإنسان: ٢٨ ].

( إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ) ، [ التوبة: ٣٩ ].

____________________

(١) هذه الآية الكريمة تشير إلى معنى لطيف ودقيق؛ فليس المقصود بالإنسان في هذه الآية ( الفرد )، فليس كل فرد يَلقى الله تعالى، وليس كل فرد يكدح إلى الله، والآية الكريمة صريحة في المعنيين معاً، الكدح ولقاء الله: ( إِنّكَ كَادِحٌ إِلَى‏ رَبّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ ) .

وتفسير لقاء الله بالموت تفسير غير دقيق؛ فليس كل من يموت يلقى الله تعالى، ففي ( لقاء الله ) من السمو والعلو ما ليس في الموت، وهل يصح أن يكون في موت المجرمين والساقطين ( لقاء الله ) تعالى، بما تحمل هذه الكلمة من رقّة وسمو.

وليس كل من يموت يكدح إلى الله كدحاً، وما أكثر ما يموت الناس وهم لم يعرفوا الله تعالى، ولم يكدحوا إليه عز شأنه طرفة عين، فلا يجوز - إذن - أن يكون المقصود من الإنسان ( الفرد ).

ولا يصح أن يكون المقصود من الإنسان الأمم والجماعات، فما أكثر الأمم والجماعات التي تعثّرت وسقطت وهلكت دون أن تلتقي الله تعالى.

إذن، التفسير الوحيد لهذه الآية الكريمة - والله عز شأنه أعلم بمراده - أنّ مسيرة الإنسان تنتهي إلى الله تعالى بعد كدح طويل وبعد سقوط الكثيرين، وأنّ هذه القافلة بمجموعها ومجملها، ومن خلال تاريخها الطويل عبر الأجيال والأمم، تنتهي في حركة صاعدة إلى الله تعالى، ولن يضر بهذا المعنى سقوط الأفراد والجماعات والأمم خلال المسيرة.

وهو تماماً كما لو كان المعلِّم يخاطب تلاميذه في بدء رحلة التعليم: إنّكم تنتهون في دراستكم إلى الدراسات الجامعية العليا، إذا كانت غاية الطلبة هي الوصول إلى التخصص في الدراسات العالية، ولن يضرّ ذلك تعثر مجموع من الطلاب وسقوطها وتركهم للدراسة.

وكذلك مسيرة البشرية، وإن كانت تتعثّر في حركتها بين العروج والسقوط، ومهما كثر السقوط في حياة الإنسان وتاريخه الطويل، فإنّ عاقبة هذه المسيرة في لقاء الله.

إنّ الفلاّح يزرع أشجار البرتقال لتثمر البرتقال، ويعلم أنّها سوف تثمر، وإن كانت بعض هذه الأشجار يذبل أو يموت أو تثمر أو لا تثمر.

١٩

( إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُم مَا يَشَاءُ ) ، [ الأنعام: ١٣٣ ].

( وَيَسْتَخْلِفُ رَبّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرّونَهُ شَيْئاً ) ، [ هود: ٥٧ ].

( وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ) ، [ النور: ٥٥ ].

( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزّبُورِ مِن بَعْدِ الذّكْرِ أَنّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصّالِحُونَ ) ، [ الأنبياء: ١٠٥ ].

( وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لّمْ تَطَؤُوها ) ، [ الأحزاب: ٢٧ ].

( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الّتِي بَارَكْنَا فِيهَ ) ، [ الأعراف: ١٣٧ ].

( وَقَالُوا الْحَمْدُ للّهِ‏ِ الّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ ) ، [ الزمر: ٧٤ ].

( كَذلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ) ، [ الشعراء: ٥٩ ].

( كَذلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ ) ، [ الدخان: ٢٨ ].

وهذا هو الميراث الذي ذكرناه في هذا العنوان، ميراث المؤمنين من الطاغين والمستكبرين، وهو المال، والقوّة، والسلطان، والأرض.

والله تعالى يختار - بعد هلاك الظالمين - أُمّة من بين سائر الأمم؛ ليحمّلها مسؤولية النهوض برسالة التوحيد وتبنّيها واحتضانها وحملها إلى سائر الأمم، ويورثها ما خلّفه الظالمون والمستكبرون من بعدهم من مال وسلطان وأرض.

أمّا لماذا يختار الله تعالى لرسالته أمّة دون أخرى من سائر الأمم؟ وتتحمَّل هذه الأمة دون سائر الأمم مسؤولية النهوض واحتضان الرسالة، وتبنيها والدفاع عنها وحملها إلى سائر الأمم، فهو شأن من شأن الله عزّ وجلّ، وبالتأكيد له سبب وحكمة. نسأل الله تعالى أن يشرح صدورنا له، ولعلّنا نجد في هذه الآية المباركة مفتاحاً لفهم هذه الحقيقة.

( هُوَ الّذِي بَعَثَ فِي الأُمّيّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) ، [ الجمعة: ٢ ].

٢٠