ميراثان في كتاب الله العجب

ميراثان في كتاب الله العجب0%

ميراثان في كتاب الله العجب مؤلف:
الناشر: دار القرآن الكريم
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 109

  • البداية
  • السابق
  • 109 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 11325 / تحميل: 5669
الحجم الحجم الحجم
ميراثان في كتاب الله العجب

ميراثان في كتاب الله العجب

مؤلف:
الناشر: دار القرآن الكريم
العربية

المستقبل المليء بالأمل.

إنّ نظرة الداعية إلى المسيرة نظرة ثاقبة نفّاذة، تنفذ من معاناة الحاضر إلى آفاق المستقبل، لا تحجبها معاناة الحال عن رؤية النصر الإلهي للقلّة المؤمنة على وجه الأرض، وكما كانت الرؤية البشرية المحدودة المدى للمسيرة تورث صاحبها الضعف والخوف واليأس والعجز عن مواصلة الطريق فإنّ الرؤية الثاقبة، البعيدة المدى التي يتمتع بها الداعية، تمكِّنه من مواصلة الطريق، وتمنحه الثقة، والطمأنينة، والقوّة، والشجاعة، والأمل، وتنتزِع من نفسه الخوف واليأس، وهذه هي خاصية الرؤية عندما تتجاوز المعاناة إلى السنن والقوانين الإلهية في الحضارة والتاريخ.

إنّ الفلاّح لو كان ينظر إلى عمله من خلال معاناة الحرث والغرس والسقي لترك المزرعة ومضى إلى شأنه، ولكنّه عندما ينظر إلى هذا الجهد الشاقّ الذي يبذله في المزرعة من خلال سنن الله تعالى، يمضي في عمله دون أن يكلّ أو يمسّه تعب أو لغوب.

ولِنَعد إلى القرآن من جديد، فإنّه مَعين لا ينضب للدعاة إلى الله، إنّ القرآن الكريم يرسم هذه المسيرة الشاقّة للدعوة إلى الله، الساحة حامية بالصراع بين الحقّ والباطل، ولكن لا من خلال معاناة العاملين، وإنّما من خلال سنن الله تعالى في التاريخ، في حتمية النصر للفئة المؤمنة، حتمية الهلاك والسقوط لجبهة الشرك.

وإنّ القرآن ليحرص على أن يحوّل نظر الداعية من الحال إلى المستقبل ومن المعاناة إلى سنن الله، وذلك من خلال استعراض مسيرة التوحيد والشرك، واستعراض ساحات الصراع بين هاتين الجبهتين ولنستمع إلى كلام الله تعالى:

( إِنّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ) ، [ غافر: ٥١ ].

٤١

أجل ليس نصراً فقط يوم يقوم الأشهاد وإنّما في الحياة الدنيا أيضاً.

( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدّ قُوّةً وَآثَاراً فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى‏ عَنْهُم مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) .

( فَلَمّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ * فَلَمّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنّا بِاللّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنّتَ اللّهِ الّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ) ، [ غافر: ٨٣ - ٨٥ ].

ترى كيف يستعرض القرآن مسيرة الشرك والظلم استعراضاً واسعاً، ويطويها طيّاً سريعاً، ويعلن بأنّ عاقبتهم كان الخسران والهلاك، وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون، وإنّ هذه العاقبة لم تكن عن عجز أو ضعف مادي منهم، فقد كانوا أشدّ من مشركي عصر رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) - قوّة وآثاراً في الأرض - ومع ذلك فلم تغنِ عنهم قوّتهم شيئاً وأدركهم العذاب والهلاك.

ثمّ يعلن القرآن أنّ ذلك لم يكن عن صدفة، ولم يحدث عفواً، وإنّما هو سنّة ثابتة لله تعالى في الذين كفروا وعتوا عن أمر ربهم جميعاً من دون استثناء:( سُنّتَ اللّهِ الّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ) ، ثمّ استمع إلى هذه الآيات المباركات من سورة فاطر:

( وَأَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لّيَكُونُنّ أَهْدَى‏ مِنْ إِحْدَى‏ الأُمَمِ فَلَمّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مّا زَادَهُمْ إِلاّ نُفُوراً * اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السّيّئِ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السّيّئُ إِلاّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاّ سُنّتَ الأَوّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنّتِ اللّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنّتِ اللّهِ تَحْوِيلاً * أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدّ مِنْهُمْ قُوّةً وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْ‏ءٍ فِي السّماوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ إِنّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً ) ، [ فاطر: ٤٢ - ٤٤ ].

إنّهم نفروا من الأنبياء نفوراً لمّا جاءوهم استكباراً في الأرض ومكر السيّء، ثمّ يبين القرآن بعد ذلك مباشرة السنّة الإلهية القائمة في الذين يمكرون

٤٢

مكر السوء: ( اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السّيّئِ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السّيّئُ إِلاّ بِأَهْلِهِ ) ، ثمّ يربط القرآن بعد ذلك هذه المسيرة - التي تبدأ بالاستكبار والمكر وتنتهي بالمحق والهلاك - بسنن الله تعالى، في تكرار وتأكيد حتى لا يتصوّر أحد من الطغاة والمتمرّدين أنّ أولئك لو حاق بهم مكر السوء فمن الممكن أنّه ينفلت هو من دائرة السوء هذه التي تحيط بالظالمين:

( فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاّ سُنّتَ الأَوّلِينَ ) .

( فَلَن تَجِدَ لِسُنّتِ اللّهِ تَبْدِيلاً ) .

( وَلَن تَجِدَ لِسُنّتِ اللّهِ تَحْوِيلاً ) .

ثمّ تأتي بعد هذه التأكيدات الثلاثة المتوالية على حاكمية السنن الإلهية في حياة الإنسان وتاريخه، دعوة أخرى لاستعراض تاريخ ومسيرة الجاهلية المتمردة على حكم الله وشريعته:

( أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدّ مِنْهُمْ قُوّةً وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْ‏ءٍ فِي السّماوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ ) . ثمّ استمع إلى هذه الآيات المباركات من سورة ق:

( وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِن قَرْنٍ هُمْ أَشَدّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقّبوا فِي الْبِلاَدِ هَلْ مِن مَحِيصٍ * إِنّ فِي ذلِكَ لَذِكْرَى‏ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا السّماوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتّةِ أَيّامٍ وَمَا مَسّنَا مِن لُغُوبٍ * فَاصْبِرْ عَلَى‏ مَا يَقُولُونَ وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللّيْلِ فَسَبّحْهُ وَأَدْبَارَ السّجُودِ ) [ ق: ٣٦ - ٤٠ ].

وهو مشهد عجيب تقترن السنن الإلهية في التاريخ والحضارة بالسنن الإلهية في الكون، وتمتزج فيه السنن الإلهية في الكون بسنن الله في المجتمع.

ومن خلال هذه الرؤية الشاملة الحضارية الكونية لسنن الله تعالى يدعو الله

٤٣

تعالى نبيه لمواصلة الطريق، والاستمرار والثبات، ويعلمه أمرين، سبق أن ذكرناهما من قبل وهما الصبر والصلاة:( فَاصْبِرْ عَلَى‏ مَا يَقُولُونَ وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ) .

ومن عجيب أنّ الأمر بالصبر والصلاة يتكرّر كثيراً عبر ذكر الدعوة إلى الله تعالى وما واجه الدعاة إلى الله من متاعب وعناء في الطريق.

الصبر على تحمّل سنن الله، وعدم استعجال الأمور قبل أوانها، واللجوء والتضرع إلى الله -( الصلاة ) - ليسدّ ما في نفوسنا من عجز ونقص في الصبر والاستقامة.

المعاناة سنة إلهية لكلّ أطراف الصراع:

والقرآن عندما يمدّ نظر الداعية إلى البعيد، لينفذ من الحاضر إلى المستقبل، ومن المعاناة إلى آفاق الأمل، لا يريد أن يفصّله فصلاً كاملاً عن لحظة المعاناة، وإنّما يوجّه تصوّر الداعية وحمله للحظة المعاناة على طريق ذات الشوكة؛ حتى لا تستغرقه المعاناة عن معايشة سنن الله، والنظر إلى مستقبل الدعوة وعاقبتها.

فيوجّه نظره أولاً إلى أنّ هذه المعاناة حقيقة قائمة وأمر واقع في كل من المعسكرين، من دون استثناء، وليست هي من خصائص مسيرة الدعوة إلى الله، وإنّما المعاناة تشمل المعسكرين جميعاً.

فما دام هناك صراع فهناك معاناة، والعناء يتوزّع على طرفي الصراع من دون فرق، وليس لأحدٍ من الطرفين حصانة من المعاناة:

( وَلاَ تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ ) [ النساء: ١٠٤ ].

( وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنْتُم مُؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الّذِينَ

٤٤

آمَنُوا وَيَتّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللّهُ لاَ يُحِبّ الظّالِمِينَ ) [ آل عمران: ١٣٩ - ١٤٠ ].

فإن تكونوا تألَمون فإنّهم يألَمون كما تألَمون، وإن يكن قد أصابكم قَرْحٌ فقد أصاب القوم مِثلُه، وتلك ضريبة الصراع والحرب، وهذه الضريبة تتوزّع على كل الأطراف من دون استثناء.

وأولئك ينفقون كما تنفقون أنتم، فلا بدّ في الصراع من إنفاق للأموال والبنين والأنفس، ولا يخصّكم هذا الإنفاق، إلاّ أنّ هذا الإنفاق يعود عليكم بنصر الله في الدنيا وبرحمته الواسعة يوم يقوم الأشهاد، ولا يعود عليهم إلاّ بالحسرة والخيبة.

( إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدّوا عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمّ يُغْلَبُونَ ) [ الأنفال: ٣٦ ].

وهذا أوّلاً.

التمحيص والتكامل بالمعاناة:

ويوجّه القرآن نظرنا - ثانياً - إلى أنّ المعاناة هي الأداة التي تتكامل بها شخصية المؤمنين، ويَصلُب عودهم، وتعلو بها كلمة الله على وجه الأرض وفي حياة الإنسان، وعبر هذه الآلام والمتاعب والأشواك تعود الحاكمية على وجه الأرض لله ولرسوله ولأوليائه.

إنّ مسيرة المحنة هي مسيرة تكامل الإنسان ونموّه، وهي مسيرة تكامل الأمة ونموّها، وإنّ الإنسان ليحبّ - إذا ارجع إليه أمر الاختيار - الطريق غير ذات الشوكة، والعبور من الممرّات والطرق الآمنة المحفوفة بالعافية، في طريقه إلى الله تعالى، ويحب أن ينال الغاية من أيسر الطرق، والنصر بأيسر الأسباب، دون أن تشوكه شوكة أو تنتابه محنة.

ولكنّ الله تعالى، وهو العليم بما يصلح عباده ويفسده، يعلم أنّ تكامل الإنسان أفراداً وجماعات وأُمماً لا يتمّ إلاّ عبر طريق المحنة، وأنّ تحقيق سيادة كلمة الله على وجه الأرض لا يتمّ إلاّ عبر هذه المعاناة الطويلة.

٤٥

ولقد كان المسلمون، عند الخروج إلى موقعة بدر للغارة على قافلة قريش التجارية، يتمنّون أن يعودوا من بدر بالغنيمة الباردة وبالمال والسلطان والقوّة، دون أن يمسّهم تعبٌ أو يصيبهم قرح، فعلّمهم الله تعالى أنّهم لا ينالون ما يريده الله تعالى لهم من تحقيق السيادة والسلطان لهذا الدين على وجه الأرض، والقضاء على سلطان الباطل دون أن يجتازوا طريق ذات الشوكة إلى الله:

( وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطّائِفَتَيْنِ أَنّهَا لَكُمْ وَتَوَدّونَ أَنّ غَيْرَ ذَاتِ الشّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقّ الْحَقّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقّ الْحَقّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُون َ ) . [ الأنفال: ٧ - ٨ ]

ويذكّر القرآن المسلمين، بعد معركة أُحد، أنّ القرح الذي يصيبهم في طريق الدعوة إلى الله لا بدّ منه في تمحيصهم وتطهيرهم وتزكيتهم، كما لا بدّ منه في مَحْق الآخرين، ومن غير هذه القروح لا يتمّ التمحيص والتزكية في الجماعة المؤمنة، كما لا يتم المَحْق والهلاك والسقوط لمعسكر الكفر:

( إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَتّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللّهُ لاَ يُحِبّ الظّالِمِينَ * وَلِيُمَحّصَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ) ، [ آل عمران: ١٤٠ - ١٤١ ].

وإنّ التمحيص ليتمّ في صورتين:

في خطٍّ عموديٍّ في تصفية وتمحيص المؤمنين، فإنّ الابتلاءات والمحن والشدائد تصفّي الإنسان وتهذّبه من كل الشوائب، ولا يوجد في حياة الإنسان عامل أفضل من عامل الابتلاء في تصفية وتهذيب الذات، وتخليصها من سلطان الهوى ومن حبّ الدنيا.

وتصفية وتمحيص آخر في الخط العرضي في داخل المجتمع، وذلك بتخليص المجتمع الإسلامي من العناصر الضعيفة والمنافقة التي تواكب مسيرة المجتمع الإسلامية وحركته إلى الله.

فإنّ حالة اليسر والرفاه في المجتمع الإسلامي تجمع حوله الكثير من

٤٦

العناصر الضعيفة والخائرة والمنافقة والانتهازية، ومن الطبيعي أنّ هذا التورّم يُثقل حركة المجتمع الإسلامي إلى الله، ويعيق تحرّكه، فإذا جاء الابتلاء، واشتدت المحنة، تساقطت هذه العناصر المُعيقة، وتخلّصت المسيرة من هذه العناصر المثبِّطة للحركة والمعيقة لها.

الطريق إلى الجنّة محفوف بالبلاء:

ثمّ يذكِّر القرآن الإنسان أنّ لحظات المعاناة هي الذخيرة التي يدخرها الإنسان للقاء الله، وهي التي تؤهله للقاء الله؛ فليس يدخل الإنسان الجنّة دون أن يجتاز طريق ذات الشوكة، ودون أن يتحمّل في الله الجهد والعناء، ودون أن يُؤذى في الله ويضطهد في الله، يصبر على الأذى والاضطهاد في الله، فالطريق إلى رضوان الله في الجنّة، وإلى لقاء الله، محفوف بالعناء والفتنة والابتلاء.

( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنّةَ وَلَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ مَسّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضّرّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتّى‏ يَقُولَ الرّسُولُ وَالّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى‏ نَصْرُ اللّهِ أَلاَ إِنّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ ) ، [ البقرة: ٢١٤ ].

( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنّةَ وَلَمّا يَعْلَمِ اللّهُ الّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصّابِرِينَ ) ، [ آل عمران: ١٤٢ ].

( وَلَنَبْلُوَنّكُمْ بِشَيْ‏ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالّثمَرَاتِ وَبَشّرِ الصّابِرِينَ * الّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنّا للّهِ‏ِ وإِنّا إِلَيهِ رَاجِعُونَ * أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِن رَبّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) ، [ البقرة: ١٥٥ - ١٥٧ ].

وفي سورة الصف يذكِّر القرآن المؤمنين بأنّ الجهاد بالمال والنفس هو الطريق إلى غفران الذنوب، ومرضاة الله تعالى، والدخول إلى الجنّة، ثمّ يذكُر النصر

والفتح بعد ذلك كنتيجة ثانوية للجهاد، أمّا الغاية الأولى والفائدة الأولى، من جهاد النفس والمال، فهو مرضاة الله والدخول إلى الجنّة:

٤٧

( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلّكُمْ عَلَى‏ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بَأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيّبَةً فِى جَنّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى‏ تُحِبّونَها نَصْرٌ مِنَ اللّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِين َ ) ، [ الصف: ١٠ - ١٣ ].

إنّ النتيجة الأولى للجهاد بالأموال والأنفس هو الجنّة، والجنّة هي الفوز العظيم، أمّا الغاية الثانية، وهي النصر والفتح، فيعبّر القرآن عنه بـ( وَأُخْرَى‏ تُحِبّونَها ) وكأنّه فائدة ونتيجة ثانوية للجهاد.

وانظروا إلى هذه اللوحة الرائعة المتدفّقة بالحياة والحركة - ولا أقول اقرأوا وتأمّلوا - كيف يرسم القرآن مسيرة الإنسان إلى الله تعالى ومرضاته في الجنّة من خلال رحلة المعاناة والعذاب:

( ذلِكَ بِأَنّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّ نَيْلاً إِلاّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ، [ التوبة: ١٢٠ - ١٢١ ].

وبهذه الطريقة يرسم القرآن دورة المعاناة في حياة الفرد المؤمن والأمّة المؤمنة، ويعالج مسألة الابتلاء والمعاناة في حياة الإنسان، ويوجّه الإنسان لفهم الابتلاء وطريقة التعامل معه.

ونعود من جديد إلى الحديث عن سنن الله تعالى في المسيرة وضرورة وعي ومعايشة السنن الإلهية في هذه الرحلة.

فلا يجوز أن تستغرقنا لحظات الابتلاءات والمعاناة، وتحجبنا عن سنن الله في المسيرة. والإنسان إذا لم يحسن التصرف ساعة الابتلاء، ولم يعرف كيف يتعامل مع المحن والابتلاء، تحجبه المعاناة عن سنن الله وقوانين الحركة، وإذا نظر الإنسان

٤٨

إلى المسيرة الكبرى من خلال هذه اللحظات يغلبه التعب واليأس والخوف، ويُؤثِر العافية والحياة الآمنة والوديعة على السير على طريق ذات الشوكة.

ولكن لا تحجب لحظة المحنة والمعاناة الإنسان عن رؤية سنن الله تعالى في المسيرة، وعن رؤية المشيئة الإلهية في حتميّة النصر للقلّة المؤمنة، يحوّل القرآن - كثيراً - نظر المؤمنين من الحاضر إلى الماضي، والمستقبل إلى الماضي، في استعراض أطراف وقصص من هذه المسيرة، وإلى آفاق المستقبل البعيد في إعطاء الأقضية والأحكام الإلهية النهائية في الحضارات والأمم والتاريخ.

وعندما يتزود الداعية بهذه الرؤية النفّاذة الثاقبة، بعيدة المدى، يستطيع أن يعبر معاناة الحاضر إلى سنن الله العامّة، فتطمئن قدماه على الطريق، ويربط الله على قلبه، ويَثبُت للمحنة، ويواجه التحديّات بصبرٍ وثباتٍ من دون خوف وجزع.

انظروا إلى هذه الصورة المستقبلية الرائعة لحتمية النصر، والتي تنزّل على المسلمين ساعة النكسة والمحنة في أُحد:

( وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنْتُم مُؤْمِنِينَ ) ، [ آل عمران: ١٣٩ ].

وقد نقلت المسلمين في أُحد، وهم يعيشون مرارة النكسة والمحنة، إلى الآفاق البعيدة للمستقبل وإلى السنن الإلهية في حتمية النصر للمؤمنين( إن كانوا مؤمنين ) .

فتحوِّل النكسة في نفوسهم إلى شعورٍ قويّ بالاستعلاء والقوّة، والثقة المطلقة بتأييد الله، ويتحوّل هذا الشعور في نفوسهم إلى تحرّك وعمل متصل، وعزم على مواصلة الطريق.

وحدة المسيرة وطول النفس في العمل:

٣- وتعميق الإحساس بالوراثة في نفس الإنسان يفيد في تحسيس الداعية بوحدة المسيرة، وأنّ هذه المسيرة على امتدادها الطويل ومراحلها الكثيرة فهي مسيرة واحدة يتوارثها الأبناء عن الآباء، جيلاً بعد جيل، ويتمتّع فيها الأبناء بما

٤٩

ورثوا من مجد الآباء وجهدهم وعملهم وتراثهم، كما أنّ عليهم أن يوَرِّثوا أبناءهم هذا التراث والمجد؛ فإنّ هذه المسيرة سلسلة واحدة، مهمّتها واحدة، ومنطلقها واحدٌ، وغايتها واحدةٌ، وخطّها واحدٌ، مهما تعددت حلقاتها، وهي تشكّل في التاريخ الحضاري أسرة واحدة بالدقّة.

وليس من المفروض في الأسرة الواحدة، في مسير التاريخ، أن تتحقق أهدافها مرّة واحدة، وأن يبلغ كل حلقة من حلقاتها كل أهداف السلسلة، وإنّما الذي يجري في مثلها أن يمهِّد كل حلقة من حلقاتها للحلقة التي تأتي من بعدها، وتُعَد هذه الحلقات جميعاً للغاية العليا التي تعمل لها، فيشعر كل عضو في هذه المسيرة أنّه حلقة واحدة من حلقات كثيرة في سلسلة مباركة ممتدة من آدم ( عليه السّلام ) إلى أن يأذن الله تعالى للدنيا بالانتهاء.

فيطول نفس الداعية في العمل، وطُول النفس من أهمّ عوامل الثبات والنصر، فهو لا يعمل ليقتطف ثمار عمله في حياته القصيرة، وإنّما يعمل ضمن سلسلة ممتدة طويلة من العاملين الدعاة إلى الله، ويكفيه أن يجني ثمار عمله الجيل الرابع، أو العاشر، أو أكثر أو أقل من بعده، وأنّ الداعية إلى الله لَيُحقق كل أهدافه إذا كان يحصد أبناؤه أو أبناء أبنائه حصاد عمله، كما أنّه هو يجني ثمار جهود أسلافه وآبائه.

وليس كذلك من يعمل لغير الله، وعلى غير هذه المسيرة؛ فهو يعمل لنفسه وللحظة المتعة وليجني ثمرة عمله في خلال عمره القصير، ومن الطبيعي أن يكون نَفسُه قصيراً في العمل.

ولقد كنّا نقرأ في القصص الحَكَمية القديمة:( أنّ مَلِكاً مرّ على شيخٍ طاعن في السن يغرس فسيلاً للنخل، فوقف عنده متعجباً يسأله: لمن يغرس هذا الفسيل، وهو في هذا الحدّ من العمر؟ فأجابه الفلاّح الطاعن في السن: أيّها الملك غرس آباؤنا فأكلنا، ونغرس نحن ليأكل أبناؤنا. فأعجب الملكَ جوابُه... إلى آخر القصة ).

والأمر لَكذلك في مسيرة الحضارة الإلهية المورُوثة من نوح وإبراهيم

٥٠

وموسى وعيسى ( عليهم السّلام )؛ فإنّهم غرسوا غرسة التوحيد فجنينا ثمار عملهم وجهودهم، ونغرس نحن للأجيال القادمة ليجنوا ثمار عملنا.

فقد اجتبانا الله تعالى جيلاً بعد جيل لرسالته، وأودع لدينا رسالته نتعاقب عليها جيلاً بعد جيل، فيستلمها كل جيل منّا من الجيل السابق ليسلِّمها إلى الجيل الذي يأتي من بعده، وهذا هو الجانب الإلهي من هذا الميراث، وإلى جانب هذا الميراث الإلهي فإنّ الأجيال المتعاقبة على هذا الميراث تتوارث فيما بينها خبرات العمل والدعوة.

فإنّ محتوى الدعوة إلى الله تعالى واحد، لا يختلف من جيل إلى جيل، ولكن خبرة الدعاة إلى الله في الدعوة تتكامل بالتأكيد، عدا من عصمهم الله بالوحي، وكل جيل من الدعاة يورث الجيل الذي يأتي من بعده إلى جانب هذا الميراث الإلهي خبرته التي اكتسبها من خلال العمل ومعاناة الدعوة إلى الله.

فإنّ الدعوة إلى الله تعالى من أكثر الأمور تعقيداً، والإنسان الداعية يحتاج إلى الكثير من التعقّل، والفهم والنضج السياسي، ومعرفة أساليب التعامل مع الناس، ووعي الظروف الاجتماعية المختلفة وطريقة مواجهة الظالمين، وشجاعة المواجهة والإقدام والقدرة على ضبط النفس والعواطف، ويحتاج إلى المداراة والمرونة، والجدّية، والقوّة واللين.

يحتاج إلى ذلك كلّه وإلى غيره من المؤهلات والخبرات، ولا يمكن أن تكون هذه المؤهلات والخبرات الضرورية للدعوة والجهاد في جيل واحد، وإنّما تتكامل في شخصية الداعية عبر الأجيال وعبر خوض ساحات الصراع والجهاد والمواجهة مع أئمّة الكفر والجاهلية، وتساهم هذه الأحداث، التي تشكّل التاريخ الحضاري والرسالي للإنسان، في تكوين خبرات ومؤهّلات الداعية في ممارسته الدعوة إلى الله والجهاد في سبيل الله.

ومن المهمّ جداً أن ينتبه الدعاة إلى الله إلى الأهمّية الحياتية لهذا الميراث الكبير في مجال الدعوة إلى الله، فلا يغفل أجيال الدعاة قيمة وأهمّية الخبرة التي أورثها أسلافهم إياهم في مجال الدعوة.

٥١

وعلى الدعاة إلى الله أن يقرأوا في هذا المجال بإمعان واهتمام قصص الأنبياء في القرآن والحديث، وسيرة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم )، وسيرة الأئمّة ( عليهم السّلام )، ومن والاهم من العلماء والدعاة إلى الله، من عباد الله الصالحين.

الإمام المهدي ( عجّل الله فرجه ) وارث الأنبياء والمرسلين:

والذي يتابع النصوص الإسلامية الواردة في ظهور الإمام المهدي ( عجّل الله فرجه )، وقيام الدولة الإلهية الكبرى في عهده على أنقاض الجاهليات البشرية الواسعة، الذي يتابع هذه النصوص يجد أنّ دولة الإمام المهدي هي الدولة الوارثة لكل القيم والتراث الذي جاء به الأنبياء والمرسلون والأئمة ( عليهم السّلام ).

والحضارة الجديدة التي يقيمها مهدي آل محمّد ( عليه السّلام ) على وجه الأرض ليست سوى امتداد للحضارة الإسلامية التي جاء بها الأنبياء والمرسلون والأئمّة الهداة ( عليهم السّلام )، وعودة لتلك الحضارة إلى صلب الحياة الاجتماعية من جديد، وهي ميراث النبي والصالحين.

وكل ما في الأمر من جديد في هذا الطور الجديد من الحياة الذي يقيمه الإمام المهدي ( عليه السّلام ) هو النضج والرشد العقلي للإنسان في هذه المرحلة من الحياة.

عن أبي خالد الكابلي، عن أبي جعفر الباقر ( عليه السّلام )، قال:( إذا قام قائِمنا وضع يده على رؤوس العباد، فجمع به عقولهم وأكمل به أخلاقهم ) .(١)

وهذا النصّ يكشف لنا عن النضج العقلي والأخلاقي الذي يميّز المجتمع في هذه المرحلة بعد الصراع العنيف والحاسم، بين المعسكر الإسلامي ومعسكر الشرك والنفاق.

ويحتمل أن يكون مرور الإنسان بمراحل التاريخ المختلفة، واختيار الألوان المختلفة من الأنظمة والحضارات، وفشل وسقوط هذه الحضارات والأنظمة

____________________

(١) منتخب الأثر: ٣٠٨، عن الإرشاد للمفيد.

٥٢

الجاهلية نظاماً بعد نظام وحضارة بعد حضارة من أسباب هذا النضج العقلي والأخلاقي الذي يشير إليه النصف الآنف.

وروي في هذا المعنى:( أن دولتنا آخر الدول، ولم يبقَ أهل بيتٍ لهم دولة إلاّ مَلكوا قبلنا؛ لِئلا يقولوا إذا رأوا سيرتنا: إذا ملكنا سِرنا بمثل سيرة هؤلاء، وهو قول الله تعالى: ( وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتّقِينَ ) ). (١)

فهذه الدولة - إذن - بالإضافة إلى عصمة قيادتها تستجمع خلاصة تجارب ووعي ونضج هذه المسيرة الربانية، والسائرين على هذا الطريق، وَوَرد في نصٍ آخر ما يتضمّن هذا النضج العقلي بصيغ رمزية ومضمون هذا النصّ.

إنّ ما استطاع الإنسان أن يتلقاه من الأنبياء ( عليهم السّلام ) حرفان من العلم فقط، فإذا ظهر قائم آل محمّد ( عليه السّلام ) أَظهر للناس خمساً وعشرين حرفاً فيبثّها في الناس، وضمّ إليه الحرفين، فيكون مجموع ذلك سبعاً وعشرين حرفاً.(٢)

ولا شكّ أنّ النصّ بهذه الصورة من النصوص الرمزية التي يحتاج تفسيره إلى تذوّق النصّ من الناحية الأدبية، وسبعة وعشرون هي العدد الكامل للأحرف العربية، وعليه فإنّ سبعة وعشرين حرفاً يعني كمال المعرفة والعلم، وكمال النضج العقلي.

وما رزق الناس من النضج العقلي قبل هذا الطَّور الجديد من الحياة لا يزيد على جزئين فقط من أحرف العلم والمعرفة، أمّا بقية أجزاء المعرفة والنضج العقلي فلا تتمّ للإنسان إلاّ في هذه المرحلة الجديدة من الحضارة والحياة، في عهد المهدي من آل محمّد ( عليه السّلام ).

وفي مثل هذه المرحلة من النضج العقلي والفكري والأخلاقي يتمّ نقل

____________________

(١) بحار الأنوار ٥٢: ٣٣٦.

(٢) نهج البلاغة ٣: ٢٠٠ شرح محمّد عبده، تحقيق مُحيي الدين عبد الحميد، حكمة رقم: ٢٠٩.

٥٣

ميراثين إلى المجتمع الإسلامي على يد الإمام المهدي ( عجل الله فرجه ): ميراث القوّة والسلطان من الظالمين والجبابرة، وميراث العلم والحكمة والقيم من الأنبياء والمرسلين والصالحين.

عن الميراث الأوّل يقول أمير المؤمنين ( عليه السّلام ):( لتعطفنَّ الدنيا علينا بعد شماسها عَطفَ الضروسِ على ولدها ) وتلا عقيب ذلك:( وَنُرِيدُ أَن نّمُنّ عَلَى الّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) . (١)

يقول محمّد عبده في شرح هذه الفقرة: ( الشِماس - بالكسر - امتناع ظهر الفرس من الركوب، والضَرُوس - بفتح فضم - الناقة السيئة تعضّ حالبها، أي: إنّ الدنيا ستنقاد لنا بعد جموحها، وتلين بعد خشونتها، كما تنعطف الناقة على ولدها، وإن أبت على الحالب ).

وإقبال الدنيا هو إقبال القوّة والسلطان والمال، وهو ميراث الصالحين من الظالمين، واستشهاد الإمام ( عليه السّلام ) بقوله تعالى:( وَنُرِيدُ أَن نّمُنّ عَلَى الّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) يؤكّد هذا المعنى.

ويقول ( عليه السّلام ):( وتخرج له الأرض من أفاليذ أكبادها، وتلقي إليه سِلماً مقاليدها ) (٢) ، قال الشيخ محمّد عبده في شرح هذه الفقرة: وهذه كناية عمّا يظهر لمن يقوم بالأمر من كنوز الأرض.

والميراث الآخر في هذه الحضارة، التي يقيمها المهدي من آل محمّد، هو ميراث الأنبياء والمرسلين ( عليهم السّلام )، وهو الميراث المعنوي في هذه الدولة فيما كان الميراث الأوّل هو الميراث المادي.

عن أبي خالد الكابُلي عن أبي جعفر الباقر ( عليه السّلام )، قال أبو جعفر:( والله لَكأنّي

____________________

(١) نهج البلاغة: ٢، خطبة ١٣٤.

(٢) بحار الأنوار ٥٢: ٣١٥ و ٣٤١، وراجع تفسير العيّاشي ٢: ٥٦.

٥٤

أنظر إلى القائم ( عليه السّلام ) وقد أسند ظهره إلى الحَجَر، ثمّ ينشد الله حَقه، ثمّ يقول:

أيّها الناس من يحاجّني في الله فأنا أولى بالله.

أيّها الناس من يحاجّني في آدم فأنا أولى بآدم.

أيّها الناس من يحاجّني في نوح فأنا أولى بنوح.

أيّها الناس من يحاجّني في إبراهيم فأنا أولى بإبراهيم.

أيّها الناس من يحاجّني في موسى فأنا أولى بموسى.

أيّها الناس من يحاجّني في عيسى فأنا أولى بعيسى.

أيّها الناس من يحاجّني في محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فأنا أولى بمحمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ). (١) أيّها الناس من يحاجّني في كتاب الله فأنا أولى بكتاب الله ).

وروى حريز عن أبي عبد الله ( عليه السّلام ) قال:( لن تذهب الدنيا حتى يخرج رجل منّا أهل البيت يحكم بحكم داود وآل داود، لا يسأل الناس بينة ).

ومن قراءة هذه النصوص وأمثالها، نلمس بصورة دقيقةٍ العلاقة الوثيقة التي تربط الدولة والحضارة التي يقيمها المهدي من آل محمّد ( عليه السّلام ) بالأصول والقيم والمعارف والحكم التي جاء بها الأنبياء ( عليهم السّلام ) من قبل.

وبذلك يكون الإمام المهدي ( عجّل الله فرجه ) بقيّة حجج الله وخليفة أنبياء الله. يقول أمير المؤمنين ( عليه السّلام ) كما ورد في نهج البلاغة في الإمام المهدي ( عليه السّلام ):

( قد لبس للحكمة جنّتها وأخذها بجميع أدبها، من الإقبال عليها، والمعرفة بها، والتفرغ لها... وضرب بعسيب ذنبه وألصق الأرض بِجرانه، بقية من بقايا حجّته، خليفة من خلائف أنبيائه ). (٢)

فالإمام - إذن - بقيّة من بقايا حجج الله وخليفة أنبيائه، ودولته التي يقيمها هي ميراث أنبياء الله.

____________________

(١) بحار الأنوار ٥٢: ٣١٩.

(٢) نهج البلاغة ٢: ١٣٠ شرح محمّد عبده، تحقيق مُحيي الدين عبد الحميد.

٥٥

٥٦

العُجب

٥٧

٥٨

بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ

( قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الّذِينَ ضَلّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أُولئِكَ الّذِينَ كَفَرُوا بَآيَاتِ رَبّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ) ، [ الكهف: ١٠٤ ].

المدخل إلى البحث:

من أخطر ما يصنعه الشيطان بالإنسان من مكرٍ هو ( العجب )، وذلك أنّ الشيطان قد يحرف الإنسان من العبادة إلى الشرك، وهذا نوع من المكر ظاهر، يتمكّن الإنسان من مكافحته، وقد يحوِّل الشيطان العبادة نفسها إلى الشرك، وهذا هو أخطر مكر الشيطان.

وقد يقطع الشيطان السبيل على الإنسان فيحوّله من الإقبال على الله إلى الإعراض عن الله، وقد يحوّل الشيطان الإقبال على الله - نفسه - إلى الإعراض عن الله، وهذا أخطر من الأوّل.

كيف يمكر الشيطان هذا المكر؟ وما هي الأداة التي يستخدمها فيحوّل العبادة والإقبال على الله إلى الشرك والإعراض عن الله؟

الجواب على ذلك ينطوي في

٥٩

كلمتي( العجب ) و( الرياء ) .

في العجب يحجب الشيطان الإنسان عن الله بـ ( الأنا )، ويجعل الأنا حجاباً بين الإنسان وبين الله، فتتحوّل العبادة إلى ضدها: إعراضٌ وشركٌ.

وفي الرياء يحجب الشيطان الإنسان عن الله بالغير، وليس بـ ( الأنا ) فيجعل وِجْهَة عمله، والغاية من عمله، هو ( الغير ) وليس الله، ويستدرج الإنسان من الإخلاص لله تعالى وابتغاء مرضاته إلى ابتغاء مرضاة الآخرين، وإعجابهم، فيتحوّل عمل الإنسان من الطاعة والإقبال على الله إلى الشرك والإعراض عن الله.

إذن، من أخطر مكر الشيطان في حياة الإنسان( العجب ) و( الرياء ) ، ونحن في هذه المقالة نحاول أن نبحث عن ( العجب ) - إن شاء الله - ونتعرف على أسبابه، وأعراضه، وأنواعه، وعلاجه، من خلال القرآن الكريم.

علاقة الإنسان بنفسه:

من طرائف الفكر الإسلامي تحديد نوع علاقة الإنسان بنفسه، وهو أُفقٌ واسعٌ في نفس الإنسان، وقد تتعقد شبكة العلاقة التي تربط الإنسان بنفسه أكثر من تعقيد شبكة العلاقات الاجتماعية التي تربط الإنسان بالآخرين؛ من أفراد أسرته، وزملائه، وأصدقائه، ومنافسيه، وأعدائه.

ولكلّ من هاتين الشبكتين ( في النفس والمجتمع ) أصولها وأحكامها، ومنهاجها التربوي الذي يخصّها، ولعلّ اهتمام الإسلام بالشبكة الأُولى في علاقة الإنسان بنفسه لا تقلّ عن اهتمامه بالشبكة الثانية في علاقة الإنسان بالآخرين.

وللناس في العلاقة بأنفسهم أطوار مختلفة، فقد تكون علاقة الإنسان بنفسه قائمة على ( السلام مع النفس ) - كما قال المسيح بن مريم ( عليهما السّلام ):( وَالسّلاَمُ عَلَيّ يَوْمَ وُلِدتّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً ) ، [ مريم: ٣٣ ].

فهذا طَور من العلاقة بالنفس قائمة على السلام مع النفس، وقد تكون علاقة الإنسان بنفسه قائمة على أساس من الظلم والاعتداء، يقول تعالى:( وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ

٦٠