ميراثان في كتاب الله العجب

مؤلف: الشيخ محمد مهدي الآصفي
الناشر: دار القرآن الكريم
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 109
مؤلف: الشيخ محمد مهدي الآصفي
الناشر: دار القرآن الكريم
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 109
وَلكِن ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ) ، [ هود: ١٠١ ].
وقد تكون علاقة الإنسان بنفسه قائمة على أساس ( التفكير الذاتي بالنفس )، يقول تعالى:( أَوَلَمْ يَتَفَكّرُوا فِي أَنفُسِهِم ) ، [ الروم: ٨ ]. وقد تكون العلاقة بالنفس قائمة على أساس مراقبة النفس، وإخضاعها للمراقبة والحساب، يقول تعالى:( عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُم مَن ضَلّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) ، [ المائدة: ١٠٥ ].
وقد تكون هذه العلاقة بالعكس؛ قائمة على أساس نسيان النفس وإهمال مراقبتها، يقول تعالى:( أَتَأْمُرُونَ الْنّاسَ بِالْبِرّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ) . [ البقرة: ٤٤ ]
وقد تكون علاقة الإنسان بنفسه قائمة على أساس الصراع الداخلي بين الخير والشر:( إِنّ النّفْسَ لأَمّارَةُ بِالسّوءِ ) .
وقد تكون هذه العلاقة قائمة على أساس استقرار النفس على الهدى والاستقامة على خط الفطرة، يقول تعالى:( يَا أَيّتُهَا النّفْسُ الْمُطْمَئِنّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيّةً ) ، [ الفجر: ٢٧ - ٢٨ ]. ويقول تعالى:( الّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ ) . [ الرعد: ٢٨].
وهناك نماذج أخرى كثيرة لعلاقة الإنسان بنفسه قد أولاها القرآن الكريم اهتماماً كبيراً، والذي يقرأ القرآن بإمعان يجد أنّ علاقة الإنسان بنفسه، وتنظيم هذه العلاقة وتصحيحها، يأخذ من كتاب الله اهتماماً كبيراً ومساحة واسعة.
ولا نريد نحن أن ندخل هذا الأُفق من البحث في هذا المقال، وإنّما نريد فقط أن نشير إلى أنّ من النماذج الخطرة لعلاقة الإنسان بنفسه هو ( العُجب )، وهو حالة انشداد الإنسان بنفسه وإعجابه الشديد بها وبأعمالها، بحيث يستأثر ( الأنا ) بكل اهتمامه وإعجابه، ويستأثر بكل رؤيته، فلا يرى غير نفسه وغير أعماله.
وعنما يبلغ الإنسان هذه الدرجة من الانشداد بالأنا يحجبه ( الأنا ) عن الله تعالى، فيملأ الضئيل الذي يقدِّمه لله تعالى من عمل وجهد وطاعة كلّ قلبه وإحساسه، دون أن يرى عظيم رحمة الله تعالى وفضله وجميله به.
ولو كان الإنسان ينظر إلى الأشياء نظرة سويّة، ويراها بحجمها الحقيقي، لاستهان بجهده وعمله وطاعته لله تعالى، وأكبَرَ فضل الله تعالى ورحمته في حقّه، واستحى
من الله تعالى أن يقابل عظيم رحمته وفضله بمثل هذا الجهد الضئيل.
ولكن عندما يستأثر الأنا بكل رؤيته واهتمامه وإعجابه لا يرى إلاّ جهده وفعله، دون أن يرى رحمة الله تعالى وفضله، فيتحول إقباله على الله وطاعته لله بهذه الطريقة النفسية الملتوية إلى إعراض عن الله وشرك، أو كفر بالله تعالى، فإنّ الكافر هو الذي يحجبه حاجب عن الله تعالى حَجْباً كاملاً.
والعُجب إذا دخل النفس وتمكّن منها يحجب الإنسان عن الله حجباً كاملاً، وفي ذلك هلاك الإنسان وسقوطه التام، عن الإمام الصادق ( عليه السّلام ):( من دخله العُجب هَلك ) .
وأمّا في الحالات السويّة، عندما يقترن عمل الإنسان وجهده في طاعة الله تعالى بإحساسٍ حقيقيٍّ وواضح بعجزه عن شكر الله تعالى، ومقابلة إحسانه وفضله، فإنّ عمله عند ذلك على ضآلة حجمه يكون جسراً يوصله إلى الله تعالى، وقد روي عن أبي الحسن موسى بن جعفر ( عليهما السّلام ) أنّه قال لبعض وُلده:( يابُني عليك بالجدّ، ولا تخرجنّ نفسك عن حدّ التقصير في عبادة الله عزّ وجل وطاعته؛ فإنّ الله لا يُعبد حقّ عبادته ) .
وعن جابر قال، قال لي أبو جعفر ( عليه السّلام ):( يا جابر، لا أخرجك الله من النقص ولا التقصير ).
فالعمل الواحد - إذن - قد يؤدّي بالإنسان إلى طريق الله تعالى ويقرِّبه من الله، وقد يحجبه ويقطعه عن الله تعالى، والفارق الرؤية، وهو أمرٌ عظيم يستحقُّ من الإنسان كل اهتمام. فقد لا يختلف عمل عن عمل من حيث الحجم والوزن، ولكن أحدهما يقرِّب العبد إلى الله تعالى والآخر يبعّده عنه تعالى.
( العجب ) و( الاعتداد بالنفس ) و( الأنانية )
العجب حالة واحدة من ثلاث حالات ناتجة عن انشداد الإنسان بمحور الأنا، وهذه الحالات الثلاثة هي:
( العُجب ) و( الاعتداد بالنفس ) و( الأنانية ).
و(العجب) هو أن يستأثر الأنا بإعجاب الإنسان ويحجبه عن رؤية فضله تعالى ورحمته به، وفي مقابل ( العُجب ) الشعور بالتقصير والعجز عن أداء شكره، ومقابلة فضله ورحمته بالطاعة والعبادة.
و( الاعتداد بالنفس ) هي حالة أخرى من حالات الانشداد للنفس، تتلخّص في اعتماد النفس وطرح الثقة بالنفس في مقابل التوكّل على الله، ووضع الثقة المطلقة في الله تعالى، وهما حالتان من الاعتماد والثقة في مقام العمل.
وفي الحالة الأولى يضع الإنسان ثقته في نفسه ويعتمدها، وهي الحالة الانحرافية في التعامل مع النفس، وفي الحالة الثانية يضع الإنسان ثقته في الله تعالى ويعتمده في شؤونه وحياته وأعماله كلّها، وهي الحالة السوية في التعامل.
والحالة الثالثة من حالات الانحراف النفسي في انشداد الإنسان بنفسه هي حالة( الأنانية )، وهي حالةٌ يكون فيها ( الأنا ) هو المحور الذي يدور حوله كل حركة الإنسان ونشاطه، ويستأثر بكل فعالية الإنسان وتحرّكه، وفي مقابل هذه الحالة ( الإخلاص لله ) الذي يجعل من مرضاة الله تعالى محوراً لكل سعي الإنسان وحركته ونشاطه.
إذن، هناك ثلاث حالات من الانشداد بالذات هي( العجب، الاعتداد بالنفس، الأنانية )، وهي حالات انحرافية في نفس الإنسان، نابعة من انشداد الإنسان لنفسه وحبّه لها، وفي مقابلها حالات ثلاثة سوية؛ من الانشداد بالله تعالى، والتعلق به، وإيثار مرضاته على كل شيء، وهي:( الإحساس بالتقصير والعجز من أداء شكر الله تعالى، والتوكل على الله، والإخلاص لله ) .
أقسام العجب:
قد يعجب الإنسان بنفسه ومَلَكَاته وخِصاله، وقد يعجب الإنسان بأعماله، وقد تكون خصاله ومَلَكاته التي تعجبه خصالاً وملكات صالحة، وقد تكون خصالاً وملكات سيئة.
فقد يعجب الإنسان بما في نفسه من رأفة ورحمة، وقد يعجب
الإنسان بما في نفسه من قسوة وغِلظة.
وقد تكون أعماله التي تعجبه أعمالاً صالحة وحسنات، وقد تكون أعمالاً فاسدة وسيّئات، فقد يعجب الظالم بظلمه وإجحافه وتعسّفه بالناس، ويحسب أنّ ذلك من متطلبات الحزم والقوّة، وهو أقبح أنواع العجب، ويصف الله تعالى في كتابه أصحاب هذه الحالة بالأخسرين أعمالاً. يقول تعالى:
( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الّذِينَ ضَلّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أُولئِكَ الّذِينَ كَفَرُوا بَآيَاتِ رَبّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ) . [ الكهف: ١٠٤ - ١٠٦ ]
مراحل العجب:
للعجب مراحل في نفس الإنسان؛ فقد يعجب الإنسان بنفسه وخصاله وأعماله، وتمتلئ نفسه زهوّاً بما عنده من خصال وأعمال، فيحجبه هذا الشعور عن رؤية فضل الله تعالى عليه ورحمته به. وإنّما يحجبه خصاله ومواهبه عن الله إذا فَصَلها عن الله تعالى وربطها بنفسه، كأنها أشياء تخصّه وهو صاحبها، وليس لله تعالى فيها عليه فضل، فيحجبه هذا الشعور عن الله تعالى، ويكون الأنا حجاباً للإنسان.
أمّا إذا كان إحساسه بنفسه وخصاله وأعماله في امتداد إحساسه بفضل الله تعالى ورحمته فهذا الإحساس لا يحجبه عن الله تعالى، بل يعمّق ارتباطه بالله، ويكرس ذكر الله تعالى في نفسه.
والمرحلة الأخرى من العجب أن يتجاوز الإنسان مرحلة العجب بالنفس وخصالها وأعمالها إلى مرحلة الإدلال على الله سبحانه، فيتصوّر الإنسان أنّ له بأعماله دالّة على الله تعالى وهذهمرحلة ( الإدلال ) .
ويأتي بعد هذه المرحلةمرحلة ( التوقّع ) من الله، فيتوقّع الإنسان من الله ألا يردّ له دعاءً مثلاً، أو أن لا يصيبه بسوء ومكروه، ولا يقوم هذا التوقّع على أساس من حسن الظن بالله تعالى ورحمته ومنّه على عباده، وإنّما يقوم على أساس الإحساس باستحقاق من الله تعالى بإزاء عمله وجهده، وهذه المرحلة من العجب أقبح من
سابقتها.
ويأتي بعد هذه المرحلة مرحلة ( العتاب ) و( الاعتراض ) المكتوم على الله إذا لم تتحقّق توقّعات الإنسان كما يريد، وكما يرى أنّه يستحقها من الله تعالى، عندئذ يضمر العتاب والاعتراض في نفسه على الله تعالى، وهو على حدّ الكفر بالله تعالى وهو أقبح من سابقه.
ويأتي بعد هذه المرحلة مرحلة ( المَنّ ) على الله، فإنّ الإنسان إذا تمادى في شعوره هذا يستدرجه الشيطان إلى الإحساس بالمَنِّ على الله، فيتصوّر أنّه قد أفاد دين الله، ونفع رسالة الله، وأدّى خدمة إلى الله تعالى، وهو من أقبح أنواع العجب، وهو على حدّ الكفر بالله تعالى كما ذكرنا، أو من الكفر بالله، أعاذنا الله تعالي منه.
أسباب العجب:
العجب يتكوّن من عنصرين: الانبهار بـ (الأنا)، والغفلة عن الله تعالى. وهما مرتبطان ومتداخلان؛ فإنّ الانبهار بـ ( الأنا ) إذا فصله الإنسان عن الله تعالى يحجب الإنسان ويغفله عن الله، والعكس كذلك صحيح. فإنّ الانصراف والغفلة عن ذكر الله يعطي الفرصة للأنا ليستأثر بمشاعر صاحبه، ويبهره.
إلاّ أنّ جذور حالة العجب تكمن في ( الغَفلة ) عن ذكر الله، فإنّ الإنسان إذا كان ذاكراً لله تعالى، مستحضراً لعظمته وجلاله ورحمته ونعمائه، لا يمكن أن يكبر عنده ( الأنا )، ولا يمكن أن يستأثر الأنا باهتمامه وإعجابه وذكره، وإنّما يبرز ( الأنا ) في حياة الإنسان بقدر ما يغيب ذكر الله عن قلب الإنسان. وعلى ذلك فإنّ علاج ( العجب ) أيضاً هو من نفس سنخ السبب، وهو استعادة ذكر الله وتمكينه من العقل والقلب، وتكريس ( الذكر ) من النفس.
وليس الذكر من مقولة القول واللفظ في شيء، وإنّما القول واللفظ تعبير وإبراز للذكر، وحقيقة الذكر هو استحضار صفات الله وأسمائه الحسنى ونعمائه في
النفس.
أعرَاضُ العُجب:
من أخطر الأمراض التي تصيب الإنسان ( العجب )؛ وخطورة هذا المرض تنشأ من خطورة الأعراض والنتائج المترتّبة عليه، ونحن نشير فيما يلي إلى بعض أعراض حالة العجب:
الاستكبار:
إنّ حالة العجب تكرس ( الأنا ) في نفس الإنسان وتدفع الإنسان إلى تضخيم حجم ( الأنا ) في نفسه، وفي نفس الوقت تؤدّي إلى ضمور ذكر الله في قلب الإنسان.
وهذا التورّم في ( الأنا ) عندما يقترن بضمور ذكر الله في النفس يصبح أساساً لحالة انحرافية مَرَضِيةٍ خطيرةٍ في النفس يبتغي فيها الإنسان التمييز والكبر على الآخرين، ويتصنّع فيها الكبر والتمييز، وهي الحالة التي يسمّيها القرآن بالاستكبار والتكبر.
وقد يكون التكبّر على الحقّ وحتى على آيات الله وأحكامه، فيرفض المتكبّر أن يخضع للحقّ، ويرفض أن يقبل بآيات الله وأن يخضع لأحكامه وأمره ونهيه، وهذا الرفض واللُجاج من أبرز خصائص التكبّر.
وحالة التكبّر والعناد هي الأساس لأعظم مصائب الإنسان وبؤسه وشقائه، وهي التي حجبت أعداء الله تعالى من أمثال: فرعون، ونمرود، وهامان، وأبي سفيان، وأبي جهل وعتاة قريش، عن رؤية آيات الله وعن الخضوع لأحكامه تعالى، ومن قبل مَنعت إبليس عن السجود لآدم:
( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمّ صَوّرْنَاكُمْ ثُمّ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكِةِ اسْجُدُوا لآِدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِنَ السّاجِدِينَ * قَالَ مَامَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنّكَ مِنَ الصّاغِرِينَ ) ، [ الأعراف: ١٠ - ١٣ ].
وما أضر بالإنسان شيءٌ أعظم من ( التكبّر )، وما يهلك الناس ويدفعهم إلى جهنّم شيءٌ أعظم من ( التكبّر ).
والذي يمعن النظر في كتاب الله يرى أن التكبّر هو أساس( الإعراض عن الايمان بالله تعالى )، والإعراض عن ( لا إله إلاّ الله ):( إِنّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلهَ إِلاّ اللّهُ يَسْتَكْبِرُون َ ) ، [ الصافات: ٣٥ ].
وأساس الإعراض عن دعوة الأنبياء:( أَفَكُلّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ ) ، [ البقرة: ٨٧ ].
وأساس الكفر بالله ورسوله:( قَالَ الّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنّا بِالّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ) ، [ الأعراف: ٧٦ ].
وأساس العناد واللُجاج والصدّ عن سبيل الله:( ... لَوّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدّونَ وَهُم مُسْتَكْبِرُونَ ) [ المنافقون:٥].( ... وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً ) [ نوح: ٧ ].( قَالَ الْمَلأُ الّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنّكَ يَا شُعَيْبُ ) .
والاستكبار يؤدّي إلى الاستنكاف عن عبادة الله تعالى:( وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً ) ، [ النساء: ١٧٢ ].
وهؤلاء المتكبّرون إذا تمادوا في الكِبر يطبع الله على قلوبهم وأبصارهم:( كَذلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلَى كُلّ قَلْبِ مُتَكَبّرٍ جَبّارٍ ) ، [ غافر: ٣٥ ].( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلّى مُسْتَكْبِراً كَأَن لّمْ يَسْمَعْهَا ) [ لقمان: ٧ ].
وهؤلاء تغلق عليهم أبواب السماء ( أبواب الرحمة ):( إِنّ الّذِينَ كَذّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لاَ تُفَتّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السّمَاءِ ) ، [ الأعراف: ٤٠ ].
وتتفتح عليهم أبواب جهنّم:( قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبّرِينَ ) ، [ الزمر: ٧٢ ]،( ... أَلَيْسَ فِي جَهَنّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبّرِينَ ) ، [ الزمر: ٦٠ ].
الانحراف المركب:
والانحراف على شكلين: بسيطٌ، ومركّبٌ.أمّا البسيط: فهو أن ينحرف الإنسان عن صراط الله تعالى عالماً بانحرافه، وأمر هذا الانحراف أهون من غيره، فإنّ فُرص الاستقامة تبقى قائمة للإنسان عندما يكون انحرافه بسيطاً. أمّا إذا كان صاحب الانحراف يؤمن بأنّه يحسن صنعاً، ويسير على الصراط المستقيم، فذلك من الانحراف
المركّب ( تركيب من الانحراف والجهل )، وهذا أخطر من الانحراف الأوّل؛ فإنّ الإنسان المنحرف يعتقد في هذه الحالة أنّه ليس بمنحرف، وهذا التصوّر يفوّت عليه فرص العودة والاستقامة.
و( العُجب ) من أهمّ مصادر هذه الحالة من الانحراف المركب، فإنّ الإنسان عندما يأخذه العجب بنفسه يرى القبيح الذي يصدر منه حسناً، والسيئة التي يرتكبها حسنة، ولا يسمح لأحد أن يراجعه في شيء من ذلك، ولا يسمح لنفسه الشكّ والترديد في سلامة شيء من مواقفه وأعماله، ويرى لنفسه ما يشبه العصمة، وهذه الحالة كما ذكرنا أخطر حالات الانحراف، وإلى هذه الحالة من الانحراف المركّب تشير الآية الكريمة:
( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الّذِينَ ضَلّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أُولئِكَ الّذِينَ كَفَرُوا بَآيَاتِ رَبّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ) .
عندما يبلغ الإنسان هذه الدرجة من الانحراف تنحرف عنده الرؤية بشكلٍ كاملٍ فيتصوّر قبائح أعماله وسيئاته حسنات:( وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) ، وهذه حالة من حالات عمى العقل، والقلب، والبصيرة، يفقد فيها الإنسان القدرة على التمييز بين الحق والباطل، كما يفقد المصابون بعمى الألوان القدرة على تمييز بعض الألوان.
بل ( العمى ) في حالة العجب أخطر، حيث لا يفقد فيها الإنسان الرؤية فقط، وإنّما تنعكس فيها الرؤية فيرى القبيح منه حسناً، ويرى الحسن من غيره قبيحاً. وتسبّب هذه الحالة من العمى، وفقدان القدرة على التمييز، انقلاب المقاييس عند الإنسان في حالة ( العُجب ).
فإنّ الإنسان في حالة الرشد والاستواء يجعل من الحقّ مقياساً لنفسه وأعماله ومواقفه، ويطبّق نفسه وأخلاقه وسلوكه ومواقفه دائماً على هذا المقياس، فيستقيم ويصحح أعماله ومواقفه كلّما تعرّض لخطأ أو انحراف.
وكلّما يتقدم الإنسان في ( العُجب ) أكثر تتعمّق في نفسه هذه الحالة من
انقلاب المقاييس أكثر من ذي قبل، حتّى ينقلب الإنسان فيكون هو مقياساً كاملاً للحق، فما يعمله هو الحق وما يتركه هو الباطل، وما يريده هو الحق وما يعارضه ويرفضه هو الباطل، ويكون ( الأنا ) هو المقياس للحقّ وليس ( الحقّ ) هو المقياس للأنا.
والقرآن يصف هؤلاء بأوصاف عجيبة تستوقف الإنسان، وتدعو إلى كثير من التأمّل والتفكير.
فهو يقول لهم أوّلاً:( الّذِينَ ضَلّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا ) ، وهذه حالة تخصّ الحياة الدنيا، فيضيع سعيهم، وضياع السعي بانتفاء الأثر والفائدة المترتبة على السعي، فإنّ السعي كالحرث يؤتي ثماره طيّبة شهيّة إذا أراد الله تعالى لها الخير وبارك فيه، ويكون مبتوراً عقيماً إذا سلب الله تعالى منه الخير والبركة، كذلك ( السعي ) و( الحركة ) إذا سلب الله تعالى منه الخير والبركة كان جهداً ضائعاً وسعياً ضالاً.
ويعبّر القرآن عنهم ثانياً بـ:( الأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً ) وهذه أيضاً حالة تخصّ الدنيا، والخسارة هي أن يفقد الإنسان جهده وحياته وحركته دون أن يأتي له ذلك بنتيجة أو ثمرة، وجهد الإنسان وحركته وعمره هو ( رأس ماله ) الذي يتاجر به ويحوّله إلى( مرضاة الله ) و( قرب الله ) و( ثواب الآخرة ).
وكل جهد وحركة وساعة من عمر الإنسان لا يتحوّل إلى هذه النتائج فهو خسارة للعمر والجهد، وكأنَّ مَثَل هذا الإنسان مَثل التاجر الذي ينفق رأس ماله دون أن يعود عليه بأيّ شيء، وهذه هي الخسارة الكبيرة التي تشير إليها سورة العصر:( وَالْعَصْرِ * إِنّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ ) .
ولكنّ القرآن الكريم لا يقتصر هنا - في تصوير مأساة الإنسان - على هذا الحدّ، وإنّما يتجاوز ذلك ويصف مأساة الإنسان في هذه الحالة بـ:( الأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً ) ، بصيغة أفعل التفضيل. وسبب تكريس حالة الخسارة هذه أنّ جهد الإنسان وسعيه وحركته ليس فقط يضيع، وإنّما يتحوّل إلى ضدّه، فيتحوّل جهد الإنسان إلى عذاب الله وعقابه وغضبه عوض أن يتحوّل إلى رحمة الله وقربه ورضوانه وجنّته.
كمن ينفق
ماله في ارتكاب جريمة فيعاقب ويغرم، فإنّ هذا الإنسان ليس فقط يخسر رأس ماله، وإنّما ينقلب رأس ماله إلى وبال عليه.
ثمّ يقول القرآن الكريم عنهم ثالثاً:( فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ) ، وهذه الحالة تخصّ يوم القيامة، وهي حالة ( الحَبْط ) الكامل في الآخرة وحالة ( انعدام الوزن ):( فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ) .
وحالة ( الحَبط ) في مقابل أصلٍ لله:( البقاء ) و( الثبات ) للأعمال في يوم القيامة، والذي يشير إليه القرآن في كثير من آياته:( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرّةٍ شَرّاً يَرَهُ ) ،( وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلاَ يِظْلِمُ رَبّكَ أَحَداً ) ، [ الكهف: ٤٨ ].
وبموجب هذه الحالة لا ينعدم شيءٌ من العمل من خيرٍ أو شرٍ يصدر عن الإنسان يوم القيامة، وهذا أصلٌ كونيٌّ من الأصول الكونيّة التي يشرحها القرآن في تبيان سنن الله تعالى.
إلاّ أنّ ( الكفر ) و( الانحراف المركب ) النابع من العُجب يؤدّي إلى حبط الأعمال يوم القيامة:( فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ) ، وأصل ( الحَبط ) في مقابل أصل الثبات.
كما يؤدّي الكفر والانحراف المركب إلى حالة ( انعدام الوزن ) يوم القيامة:( فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ) . وبالوزن يوم القيامة يستقر الإنسان في رحمة الله ورضوانه، وإذا فقد الإنسان الوزن يوم القيامة فلا يستطيع أن يستقر في رحمة الله.
أرأيت لو أنّ الإنسان فقد ( الوزن الفيزياوي ) في الدنيا على وجه الأرض هل يستطيع أن يستقر فيها أو يبني لنفسه حياة فيها، كذلك انعدام الوزن يوم القيامة.
علاج العجب
في حياة الإنسان مصدران للابتلاء: ( الهوى ) و( الأنا ) وكلٌّ منهما سبب لسقوط الإنسان وهلاكه.
فقد يسقط الإنسان على مزلق الاستجابة للهوى فيملك الهوى أمره، ويحكِّمه في حياته فيجرّه إلى الهلاك والسقوط. وهو باب واسع من أبواب الفساد والهلاك والسقوط في حياة الإنسان، وقد حذّر الإسلام منه كثيراً واعتبره من أخطر المزالق التي تواجه الإنسان.
وهذه الآية الكريمة تجمع طائفة من أمّهات الأهواء في حياة الإنسان:( زُيّنَ لِلنّاسِ حُبّ الشّهَوَاتِ مِنَ النّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذّهَبِ وَالْفِضّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَاللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ) .
والمصدر الآخر للسقوط والهلاك والفساد في حياة الإنسان هو ( الأنا )، وكما كانت الاستجابة غير المحدودة للهوى سبباً في السقوط والهلاك في حياة الإنسان، كذلك الاستجابة غير المحدودة للأنا تعتبر المصدر الثاني للسقوط في حياة الإنسان.
فإنّ الأنا عندما يستعلي ويستكبر، ويتحوّل إلى محور يستقطب كل اهتمامات ومشاعر وجهد الإنسان، يتحوّل إلى صنم يتّخذه الإنسان إلهاً في حياته من دون الله، وهذا باب واسع آخر للسقوط والفساد والهلاك في حياة الإنسان، وقد أعطى الإسلام في منهاجه التربوي اهتماماً لهذا وذاك معاً.
والطريقة الصحيحة في معالجة كل من( الهوى ) و( الأنا ) ليس في استئصاله أو كبته ومحاربته، وإنّما في تعديله وتلطيفه والتحكّم فيه.
ومن الوسائل التربوية الصحيحة في تعديل كل من( الهوى ) و( الأنا ) وضبطه والتحكّم فيه العبادات؛ ففي العبادات ما يتّخذه الإسلام وسيلة لتعديل الهوى وكفّه وضبطه وتحديده كالصوم.
ومن العبادات ما يتّخذه الإسلام أداة لتعديل الأنا وتحجيمها كالصلاة؛ فإنّ الصلاة وسيلة فعّالة وقوية لإذلال الأنا وتركيعها بين يدي الله تعالى في الأذكار والأفعال معاً. فالتكبير والتهليل، والحمد، والتعبيد، والاستعانة بالله والتوحيد والدعاء في الأذكار يذلّل الأنا ويخضعها لله، ويشعرها بهذا الذلّ والخضوع
بإيحاءات متعددة.
والحجّ عبادة فريدة في الإسلام يجمع بين هذا وذاك، ففي الحجّ منهاج تربوي واسع لتدريب الإنسان على ضبط الهوى وتحديده، ويمكن الإنسان من أهوائه وشهواته.
ففي محرمات الإحرام منهج عملي لضبط مجموعة من الأهواء القويّة والمؤثرة في النفس كالغريزة الجنسية والنزوع إلى جملة من الطيبات والنزوع إلى الرفاه والراحة.
وفي محرّمات الحرام ما يضبط الأنا ويحدّده ويتحكّم فيه؛ كتحريم لبس المخيط على الحجاج الرجال، واللباس من أبرز سمات شخصية الإنسان في انتمائه الطبقي والقومي. وفي الميقات يتجرّد الحجّاج من كل ملابسهم وأزيائهم الشخصية والقومية ويظهرون بمظهر واحد، دون امتيازات شخصية، أو طبقية، أو قومية، أو فئوية.
ومن محرّمات الإحرام ( الجِدال )، وهو من الميول الأنانية العميقة في نفس الإنسان بالظهور والاستعلاء على خصمه. والطواف يرمز إلى تكريس التوحيد ومحوريّة ( الله ) تعالى في حياة الإنسان، في مقابل تكريس محورية الذات.
ولوقوف المسلمين جميعاً في عرفات في وقتٍ واحدٍ، في وادٍ غير ذي زرع، من دون امتيازات وفوارق للبعض على بعض، للتذلّل والتضرّع بين يدي الله تعالى دور كبير في إذلال الأنا وتعبيدها لله تعالى، وتحويلها من طَور الألوهية والأنانية إلى طور العبودية لله تعالى.
والذي يمعن النظر في فريضة الحجّ يجد أنّ هذه الفريضة العِبادية تتضمّن منهاجاً تربوياً دقيقاً وعملياً في ضبط ( الهوى ) و( الأنا ) وتعديلهما وتعبيدهما لله تعالى.
ونحن في هذا الحديث لا نريد أن نبحث عن الهوى وأخطاره وأعراضه وعلاجه في حياة الإنسان، فليس في هذا المقال موضع للدخول في هذا البحث، وإنّما أشرنا إليه إشارة لنعرف موضع ( الأنا ) من الأخطار التي تهدّد حياة الإنسان، وليكتمل عندنا
منهج البحث وإطاره.
فإنّ ( الأنا ) هو مصدر ( العجب ) في حياة الإنسان، ولا محالة بكون علاج العجب بعلاج الأنا، و( الأنا ) - كما ذكرنا - أحد مصدري الخطر والسقوط والفساد في حياة الإنسان.
فلنتأمل إذن في ( الأنا ) ونترك البحث عن الهوى إلى الموضع المناسب إن شاء الله.
العجب و( الأنا ):
مصدر العُجب ( الأنا )، ولا محالة يكون علاج العُجب في علاج ( الأنا ). إذن، المسألة الأساسية في المرض والعلاج هو ( الأنا ).
فلنتأمّل إذن في ( الأنا ).
للأنا حالتان:
فيالحالة الأولى: يتمحور الأنا حول نفسه، ويستقطب كل جهد صاحبه وحركته، وكل حبّه وبغضه، وكل مشاعره واهتماماته.
وفي الحالة الثانية : تكون مرضاة الله هي المحور لكلّ حركة الإنسان ونشاطه واهتمامه،( قُلْ إِنّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للّهِِ رَبّ الْعَالَمِينَ ) ، في الحالة الأولى يسقط الإنسان، وفي الحالة الثانية يعرج الإنسان.
ومرض العُجب بعض أعراض الحالة الأولى، وعلاج هذا المرض وسائر الأمراض الناشئة من مركزية ( الأنا ) في الحالة الثانية، فإذا فك الإنسان ارتباطه من ( الأنا ) وربط نفسه بمحور الله تعالى وذكْره، ورضاه، يخلص من العُجب كما يتخلّص من كل الأعراض والأمراض الكثيرة الأخرى التي تنشأ من حالة محورية الأنا.
وهذه الحالة من الاستكبار ومحورية ( الأنا ) هو الذي منع إبليس - لعنه الله - من الاستجابة لأمر الله تعالى في السجود لآدم:( قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ) .
وفي الخطاب الإلهي لإبليس من العناية بخلق آدم:( لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ ) . ومن الإنكار الساخر على إبليس:( أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ ) ما لا يخفى على الذي يمعن النظر في هذا الخطاب.
وصياغة الآية دقيقة ومعبّرة، فهي تبرز ( الأنا ) بشكل صارخ في جواب إبليس عن السبب الذي منعه من السجود( ما منعك أن تسجد؟ قال أنا ) .
وينحدر اللعين من ( الأنا ) إلى الحسد؛ فلا يطيق أن يرى هذه الميزة لآدم ( عليه السّلام ) من دونه فيحسده، وهذا هو الانحدار الأوّل.
ويشقّ عليه أن يستجيب لأمر الله تعالى في السجود لآدم، فيتمرّد على أمر الله تعالى ويمتنع عن الاستجابة له، وهذا هو الانحدار الثاني، وهو نهاية السقوط في حياة هذا اللعين.
وابتلاء قارون أيضاً في هذه الأنانية الطاغية:( قَالَ إِنّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي ) ، [ القصص: ٧٨ ]. فلا يرى قارون لله تعالى فضلاً عليه فيما عنده من الكنوز حتى يحاسبه عليه، ويطلب منه الإنفاق منها، وإنّما هي له خاصة، تجمعت عنده على علم عنده وجهد له.
إذن، نقطة الضعف في شخصية قارون هي ( الأنا )، ومن خلال هذه النقطة اندسّ الشيطان إليه، ودعاه إلى التمرّد على الله تعالى ورسوله.
ويبرز الأنا بصورة صارخة في حياة فرعون:( فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبّكُمُ الأَعْلَى ) ، [ النازعات: ٢٣ - ٢٤ ]، وهذه واحدة من أقبح حالات الاستعلاء للأنا.
وهذه الحالة من الأنانية الطاغية تؤدّي بصاحبها إلى استضعاف الآخرين واستخفافهم وإذلالهم للتمكّن منهم وفرض نفوذه وسيطرته عليهم:( فَاسْتَخَفّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ) ، [ الزخرف: ٥٤ ].
وهذا هو الوجه الممقوت والقبيح من الأنا، وإلى هذا الوجه تعود طائفة كبيرة من المشاكل والمتاعب، والمصائب والابتلاءات في حياة الإنسان.
والوجه الآخر للأنا هو وجه العبودية والارتباط والانشداد بالله تعالى، والأنا - في هذا الوجه الآخر - لا يكون محوراً لحركة الإنسان وجهده ونشاطه وحبّه
وبغضه، وإنّما يتحوّل الإنسان من ( الأنا ) إلى محور مرضاة الله تعالى وقربه، ويكون مرضاة الله هو غاية الإنسان في حركته ونشاطه وهو الأساس والمحور في حبّه وبغضه.
يقول تعالى فيما يوجّه به عبده ورسوله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ):( قُلْ إِنّنِي هَدَانِي رَبّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للّهِِ رَبّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وِبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوّلُ الْمُسْلِمِينَ ) ، [ الأنعام: ١٦١ - ١٦٣ ]. وهذا هو الوجه المقبل على الله تعالى من ( الأنا )، فيما كان الوجه الأوّل هو الوجه المعرض عن الله تعالى من الأنا.
الدوائر الأربعة للأنا:
وكما ينشئ الإنسان علاقة مع الآخرين تتّصف بالحبّ والبغض، والانسجام والتناقض، والتعاون والتواكل. كذلك للإنسان دوائر أُخر من العلاقات على نفس الترتيب مع الله تعالى ومع نفسه ومع الدنيا.
وهذه أربعة دوائر للعلاقات يدخل فيها الأنا بالصورة التالية:
١- علاقة الأنا بالله تعالى.
٢- علاقة الأنا بالآخرين.
٣- علاقة الأنا بالدنيا (الأشياء).
٤- علاقة الأنا بنفسه.
ونِمط علاقة الأنا في كل من هذه الدوائر الأربعة يختلف اختلافاً جوهرياً وعميقاً، في الحالة الأولى ( حالة محورية الأنا ) عن الحالة الثانية ( محورية الله تعالى ).
وطائفة واسعة من مصائب الإنسان وابتلاءاته ومشاكله هي من إفرازات (الأنا) عندما يتحوّل (الأنا) في حياة الإنسان إلى محور من دون الله تعالى، فيكون من إفراز ( الأنا ) في هذه الحالة في علاقة الإنسان بالله تعالى التكبّر على الله، والتمرّد على
الله والشرك والكفر.
ومن إفراز ( الأنا ) في علاقة الإنسان بالآخرين: نظام الاستكبار والاستضعاف في العلاقات الاجتماعية، والحسد، والعدوان، والبغضاء، والكراهية فيما بين الناس.
ومن إفراز ( الأنا ) في هذه الحالة في علاقات الإنسان بالدنيا: الحرص، والطمع، والجشع. ومن إفراز الأنا في علاقته بنفسه: العُجب، الغرور والاعتداد بالنفس، وتزكية النفس وتبرئتها عن الخطأ والتقصير.
بينما نجد أنّ إفراز الأنا ونتائجه عندما يجعل الإنسان مرضاة الله تعالى في حياته هي المحور، ويجعل الأنا تابعاً لهذا المحور أمر يختلف تماماً في النقاط التي ذكرناها في هذه الشبكة الواسعة من العلاقات.
وهذا إجمال لابدّ له من تفصيل، وهذا التفصيل يرتبط بموضوع بحثنا ارتباطاً وثيقاً، لابدّ من الدخول فيه.
وإليك هذا التفصيل:
عندما يتحوّل ( الأنا ) في حياة الإنسان إلى محور يستقطب كل مشاعره واهتماماته يصدق على هذا الإنسان أنّه اتخذ ( الأنا ) إلهاً. ويتحوّل ( الأنا ) إلى صنم في حياته يعبده الإنسان من دون الله. وبقدر ما يبرز ( الأنا ) إلهاً في حياة الإنسان يضمر إحساس الإنسان بإلوهية الله تعالى في حياته.
وبين هذا وذاك نسبة عكسية دائماً، فكلّما تبرز إلوهية الأنا أو الهوى في حياة الإنسان أكثر يختفي التوحيد أكثر؛ فإنّ التوحيد يقع في النقطة المقابلة لمحورية الأنا تماماً، وكلَّما تتكرّس حالة محورية الأنا في حياة الإنسان تختفي حالة ( التوحيد ).
والمرحلة الأولى لهذا البروز والاختفاء ( الشرك ) حيث يشرك الإنسان بالله تعالى، والشريك الذي يشركه الإنسان في الألوهية هو ( الأنا )، والمرحلة الأخيرة لهذا البروز والاختفاء هو ( الكفر ) حيث يغطّي ( الأنا ) ذكر الله تعالى في قلب الإنسان بشكل كامل، و( الكفر ) بمعنى التغطية، فتبرز محورية ( الأنا ) في حياة الإنسان بصورة طاغية ويختفي ( التوحيد ) تماماً من نفس الإنسان، وهذه هي التي ينتهي إليها الإنسان غالباً عندما يستدرجه حب الذات.
وهذا ( الكفر ) من الكفر في مقام العمل، وليس من الكفر في ( العقيدة ). وقد يختلفان فيبقى الإنسان في العقيدة مؤمناً بالله تعالى خالقاً ورازقاً ورباً، ولكنّه في مرحلة العمل ينسى الله تعالى ويُنْكره تماماً في اهتماماته وجهده، وحركته ومشاعره، ويتحرّك حول نفسه، ويتحوّل من محور ( الله ) إلى محور ( الأنا )، وينفك تماماً عن المحور الأوّل، ويرتبط تماماً بالمحور الثاني.
وهذا الكفر في التعامل قد يستتبع الكفر في العقيدة وقد يفارق الكفر في العقيدة، ولكنّ القرآن يحكم عليه بالكفر، كما يحكم على الحالة الأولى منها بالشرك.
قصّة صاحب الجنّتين:
وفي قصّة صاحب الجنّتين، في سورة الكهف نلتقي - نحن - هذه الحالة من الكفر المستبطن في التعامل.
ولنقرأ هذه القصّة في سورة الكهف:
( وَاضْرِبْ لَهُم مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً * كِلْتَا الجنّتين آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِنْهُ شَيئاً وَفَجّرْنَا خِلاَلَهُمَا نَهْراً * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزّ نَفَراً * وَدَخَلَ جَنّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنّ أَن تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً * وَمَا أَظُنّ السّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رّدِدتّ إِلَى رَبّي لأَجِدَنّ خَيْراً مِنْهَا مُنقَلَباً * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمّ مِن نُطْفَةٍ ثُمّ سَوّاكَ رَجُلاً * لكِنّ هُوَ اللّهُ رَبّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبّي أَحَداً * وَلَوْلاَ إِذْ دَخَلْتَ جَنّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللّهُ لاَ قُوّةَ إِلاّ بِاللّهِ إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً * فَعَسَى رَبّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِن جَنّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنَ السّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً * وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلّبُ كَفّيْهِ عَلَى ما أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبّي أَحَداً * وَلَمْ تَكُن لّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَمَا كَانَ مَنتَصِراً * هُنَالِكَ الْوَلاَيَةُ للّهِِ الْحَقّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً ) ، [ الكهف: ٣٢ - ٤٤ ].
ولنتأمل في هذه الآيات فإنّها غنية بالمفاهيم والأفكار، وأوّل ما يلفت نظرنا في هذه الآيات تأكيد القرآن على ربط هذه النعم بالله تعالى:( جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنّتَيْنِ ) ،( وَفَجّرْنَا خِلاَلَهُمَا نَهْراً ) .
ولا شكّ أنّها عناية مقصودة في بداية القصّة، وهو أحد الاتجاهين المختلفين في الحوار الذي يجري في جوّ هذه القصّة في سورة الكهف.
وهذا الاتّجاه هو ربط كلّ نعمةٍ وموهبةٍ وخيرٍ ورزقٍ في حياة الإنسان بالله تعالى والتأكيد على هذا الربط، في مقابل الاتجاه الآخر الذي نقرأه في هذه القصّة؛ وهو فكّ ارتباط النعم عن الله تعالى وربطها بالإنسان واعتبار الإنسان هو صاحب هذه النعم ووليّها.
ويبرز هذا الاتجاه في الحوار الذي يجري في القصة في كلمة صاحب الجنّتين لصاحبه، وهو يحاوره:( أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزّ نَفَراً ) ، فالمال والنفر العزيز للأنا، وليس لارتباطهما بالله تعالى ذكر أو إشارة.
ومن عجبٍ أنّ هذه النعم الموصولة بالله تعالى بدل أن تتحوّل في نفس صاحب الجنّتين إلى إحساس بالشكر والتواضع لله تعالى تتحوّل في نفسه إلى طغيان للأنانية وبروز صارخ للأنا أولاً، ثمّ إلى تكاثر وتفاخر ومباهاة:( فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزّ نَفَراً ) .
وسبب بروز ( الأنا ) وطغيانه عند صاحب الجنّتين ليس هو ( النعمة ) وإنّما طريقة فهمه للنعمة وعلاقة النعمة به؛ أنّ النعمة عنده له، وهو وليّها، وليس لأحدٍ فضل عليه فيها. بعكس التصوّر الذي يقدّمه القرآن لعلاقة الإنسان بالنعمة والتي أشرنا إليها قريباً، فإنّ النعمة، بناء على التصوّر القرآني لله وهو وليها، وليس لصاحب النعمة فيها شأن أو فضل، إلاّ أنّ الله تعالى أودعها عنده وجعله خليفة عليها.
وهذان التصوّران مفتاحان لنمطين من الشخصيّة يشير إليهما الحوار الذي يجري في سورة الكهف في قصّة صاحب الجنّتين، ولكلّ من هاتين الشخصيتين
طريقته وأسلوبه في فهم النعمة والتعامل معها في النمط الأوّل من الشخصية، وهو النمط القرآني، يتكرّس ارتباط النعمة بالله تعالى وهو بمعنى فقر الإنسان إلى الله تعالى وليّ النعمة، ولذلك فإنّ السمة البارزة في هذه الشخصية هي ( الفقر ) إلى الله تعالى، يقول الله تعالى:( يَا أَيّهَا النّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللّهِ وَاللّهُ هُوَ الْغَنِيّ الْحَمِيدُ ) ، [ فاطر: ١٥ ].
وأروع تصوير لهذه الحالة من ( الأنا ) ورد في القرآن في قصّة موسى بن عمران ( عليه السّلام ) عندما وقف في الظل يستريح بعدما سقى لابنتي شعيب:( رَبّ إِنّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) ، [ القصص: ٢٤ ].
والأنا في هذه الآية الكريمة تقع بين نعمة نازلة من الله:( لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيّ ) ، وفقرٍ صاعد إلى الله:( فَقِيرٌ ) . أحدهما ينتهي إلى الإنسان من الله تعالى وهو النعمة والرحمة، والآخر ينطلق من الإنسان إلى الله وهو الفقر.
و( الأنا ) بين هذا الخطّ الصاعد والخطّ النازل، وهذا هو الوضع الصحيح للأنا في الارتباط بالنعمة، والنمط القرآني للشخصية.
وهذا النموذج من الشخصية بارز كل البروز في الحوار الوارد في قصة صاحب الجنّتين، كما سيتضح أكثر فيما بعد إن شاء الله.
والنمط الآخر من الشخصية هو النمط الأناني، وفيها يتكرّس ارتباط النعمة بالأنا، وتختفي علاقة النعمة بالله تعالى، فتكون النعمة في حياة الإنسان من علامات ( الغنى ) وليس ( الفقر )، وكلّما يزداد حظّ الإنسان من النعمة يشعر بالاستغناء أكثر من ذي قبل
والإحساس بالغنى سبب الانفصال عن الله، كما أنّ الإحساس بالفقر سبب الارتباط بالله تعالى، وفي حالة الإحساس بالغنى والانفصال عن الله يبرز الأنا ويطغى، كما أنّ الأنا في حالة الإحساس بالفقر والارتباط بالله يختفي ويضمر.
وصدق الله تعالى حيث يقول:( كَلاّ إِنّ الإنسان لَيَطْغَى * أَن رَآهُ
اسْتَغْنَى ) . [ العلق: ٦ ]. وهذه الآية تصوّر، بصورةٍ واضحةٍ ودقيقةٍ، كيف تتحوّل النعمة في حياة الإنسان إلى إحساس بالغنى، وشعور بالانفصال عن الله، وبالتالي الطغيان.
وهذه الحالة من الأنانية، وبروز الأنا، وما يستتبعه من التباهي والتفاخر والتكاثر، ظاهرٌ في هذه الفقرة من الحوار الوارد في القصّة:( أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزّ نَفَراً ) . ومكافحة هذه الحالة من الطغيان: بتكريس الفقر إلى الله، وتحجيم الأنا وتحديده، والمنع من بروزه.
وفي التصوّر الذي يقدِّمه إلينا القرآن عن ( الأنا ) وطريقة التعامل معه يعتبر إطلاق العنان للأنا من الظلم الذي يمارسه الإنسان على نفسه، حيث يقطع الإنسان نفسه عن الله، وهو من أقبح أنواع الظلم الذي يمارسه الإنسان على نفسه.
ولذلك، فإنّ القرآن يقول عن صاحب الجنتين:( وَدَخَلَ جَنّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ ) .
ولهذا الظلم وجهان اثنان:
الوجه الأوّل: الانشداد إلى متاع الحياة الدنيا، وطول الأمل فيه، حتى كأنّه لا يبيد ولا يفنى:( قَالَ مَا أَظُنّ أَن تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً ) . وهو أمر طبيعي، فإنّ الإنسان إذا شدّ كل حبال نفسه بالدنيا ودّ لو لم ينقطع عن الدنيا، وتبقى له ولا تبيد، وهو بمعنى طول الأمل.
والوجه الثاني: قطع الرجاء والأمل عن الله في مقابل طول الأمل بالدنيا، حتى كأنّ الساعة لا تقوم، وإلى هذا الإحساس الباطني المكتوم تشير الآية الكريمة:( وَمَا أَظُنّ السّاعَةَ قَائِمَةً ) . وهذان وجهان لحقيقةٍ واحدةٍ، لا يمكن التفكيك بينهما.
والفصل الأخير من مأساة ( الأنا ) في هذا الحوار أنّ الإنسان عندما يسترسل في الطغيان يتحوّل عنده - بالتدريج - الشعور بالفقر إلى الله إلى إحساس بالاستحقاق على الله.
( وَلَئِن رّدِدتّ إِلَى رَبّي لأَجِدَنّ خَيْراً مِنْهَا مُنقَلَباً ) فهو يفترض أنّه في الآخرة - لو قامت الساعة - لا يقلّ مالاً وولداً عنه في الدنيا، بل يجد فيها خيراً ممّا يملك في الدنيا منقلباً.
وليس يطلب ذلك من الله تعالى، ولا يرجوه، ولا يسعى لتحصيله سعياً في الدنيا، وإنّما يفترض أنّه يستحقّ ذلك على الله استحقاقاً!
ولا يُخفى في نفس الوقت شكّه في أن تقوم الساعة:( وَلَئِن رّدِدتّ إِلَى رَبّي ) ، وينتهي هذا الطرف من الحوار هنا، ويبدأ ذكر الطرف الآخر من الحوار، وهو نموذج آخر من الشخصية يختلف عن النموذج الأوّل في مكوّناته ومنطلقاته.
فلنتأمّل في هذا الشطر الآخر من الحوار:( قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمّ مِن نُطْفَةٍ ثُمّ سَوّاكَ رَجُلاً ) .
وهذه أبرز نقطة تلفت النظر في هذا الحوار: فلم يسبق من صاحب الجنتين إنكار لله تعالى بالصراحة، عدا ما سبق منه من التشكيك في أن تقوم الساعة، فما مصدر هذه النسبة التي ينسبها إليه صاحبه المؤمن الذي يحاوره؟ إنّ هذا الكفر هو كفر بالله تعالى في مقام التعامل، يستبطنه الموقف العملي لصاحب الجنّتين وطريقة تعامله مع نعم الله تعالى.
إلاّ أنّ صاحب الجنّتين يحاول أن يتكتّم عليه ويخفيه ويحاول صاحبه المؤمن الذي يحاوره أن يجابهه به علانية، ويقرَّعه به ليردعه عنه.
وهذه هي الحقيقة التي أكّدناها من قَبل، فإنّ في كل بروز للأنا اختفاء للتوحيد في علاقة الإنسان بالله، والمرحلة الأولى منه الشرك، والمرحلة الأخيرة الكفر.
ولنتأمّل في البقية من هذا الحوار:( لكِنّا هُوَ اللّهُ رَبّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبّي أَحَداً * وَلَوْلاَ إِذْ دَخَلْتَ جَنّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللّهُ لاَ قُوّةَ إِلاّ بِاللّهِ إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً * فَعَسَى رَبّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِن جَنّتِكَ ) . وهذا شطرٌ آخر من الخلاف في طريقة التعامل مع الأنا من هذين النموذجين من الشخصية فإذا كان ( الأنا ) أبرز شيء في كلام المحاور الأوّل، فإنّ ( الأنا ) هنا يختفي، ويبرز التوحيد بشكل بارز:( لكِنّا هُوَ اللّهُ رَبّي ) .
والفرق بين ( الأنا ) في كلام هذا وذاك هو مفتاح فهم كل من هاتين الشخصيتين وأساس الفرق بينهما:( أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزّ نَفَراً ) ، ( لكِنّا هُوَ اللّهُ رَبّي ) . وإذا كان
المحاور الأوّل ربط النعمة مباشرة بنفسه، وكأنّه وليّها ومالكها الحقيقي، نجد أنّ المحاور المؤمن يربط هذه النعمة بمشيئة الله تعالى وقوته:( وَلَوْلاَ إِذْ دَخَلْتَ جَنّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللّهُ لاَ قُوّةَ إِلاّ بِاللّهِ ) .
وإذا كان أمل المحاور الأوّل وثقته فيما يفنى ويبيد من متاع الدنيا، فإنّ ثقة المحاور المؤمن فيما يبقى ولا يزول من الأمل برحمة الله:( فَعَسَى رَبّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِن جَنّتِكَ ) .
علاقة ( الأنا ) بالآخرين
هذا في علاقة ( الأنا ) بالله تعالى، وأمّا في علاقة ( الأنا ) بالآخرين فإنّ أكثر مآسي الإنسان وشقائه في علاقته بالآخرين يعود إلى ( الأنا ) و( الهوى )، كما أنّ أكثر شقاء الإنسان في علاقته بالله تعالى هو كذلك في ( الأنا ) و( الهوى ).
نحن نتحدّث هنا عن بؤس الإنسان في علاقته بالآخرين بقدر ما يتعلق الأمر بـ ( الأنا )، كما تحدّثنا قبل هذا عن بؤسه في علاقته بالله تعالى في نفس الحقل.
إنّ حالة التكريس والاستعلاء للأنا تؤدّي في شبكة العلاقات الاجتماعية إلى حالتي الاستكبار والاستضعاف في علاقة الناس بعضهم ببعض في المجتمع. وضمن هذه العلاقة يحاول كل فرد أن يفرض نفوذه وهيمنته على الآخرين، ولكي يحقّق هذه الغاية يستضعف الآخرين ويستخفّهم ليتمكّن من فرض نفوذه عليهم، يقول تعالى عن علاقة فرعون بقومه:( فَاسْتَخَفّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ) .
وبهذه الطريقة يتكوّن في المجتمع نظام من العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية يقوم على أساس الاستكبار والاستضعاف، وهو أساس لكثير من الفساد على وجه الأرض.
كما أنّ حالة التكريس والاستئثار والمحورية للأنا تؤدّي إلى طائفة من المتاعب الاجتماعية والأخلاقية في حياة الإنسان في علاقاته بالآخرين؛ كالعدوان والحسد ( تمنّي إزالة النعمة عن الآخرين )، والكراهية والبغضاء، والاستئثار وسوء الظن
والارتياب وفقدان الثقة فيما بين الناس، وحبّ البروز والاشتهار واستراق الأضواء عن الآخرين.
وهذه المفاسد وغيرها في العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية هي حصيلة حالة الاستعلاء والتكريس والاستئثار للأنا.
علاقة الإنسان بنفسه
وأمّا علاقة الإنسان بنفسه فهي علاقة معقّدة شديدة التعقيد، أشرنا إليها سابقاً إشارة سريعة، وهذه العلاقة قد تقوم على أساس من انبهار الإنسان بنفسه فيما آتاه الله من ملكات ومواهب، وفيما يفعله ويقوله، وهو جانب من العجب.
وقد تقوم على أساس من الترفع عن النقد، ورفض الاعتراف بتقصير أو خطأ في قول أو فعل، و( تزكية النفس ) وتبرأتها، وهو الجانب الآخر من العجب.
علاقة الإنسان بالدنيا
وفي دائرة علاقة الإنسان بالدنيا ومغرياتها تؤدّي هذه الحالة إلى الحرص والجشع و( جوعة الدنيا ) والنهم الذي لا يشبعه شيء. وقد روي عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ):( لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلاّ التراب ) .(١)
النهاية
والنتيجة والعاقبة التي ينتهي إليها جميع أولئك الذين يتخذون ( الأنا ) إلهاً ومحوراً في حياتهم من دون الله تعالى هي الانغلاق الكامل عن آيات الله تعالى
____________________
(١) إحياء العلوم للغزالي ٣: ٢٣٨.
والطبع والرَّيْن على القلوب.
يقول تعالى:( سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الّذِينَ يَتَكَبّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ ) .
ويقول تعالى:( كَذلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلَى كُلّ قَلْبِ مُتَكَبّرٍ جَبّارٍ ) .
تعديل الأنا:
وبعد هذه الجولة في أعراض ( الأنا ) عندما يتّخذ الإنسان ( الأنا ) محوراً وإلهاً في حياته من دون الله، نبحث عن الوسائل التي يقدّمها الإسلام في منهاجه التربوي لتعديل ( الأنا ) في حياة الإنسان؛ فإنّ الإسلام لا يؤمن بمبدأ إلغاء ( الأنا ) كما لا يؤمن بمشروع إلغاء ( الهوى ).
والمنهج الذي يقرّه الإسلام في ( الأنا ) و( الهوى ) هو التعديل وليس الإلغاء. ولابدّ أن نبحث عن الوسائل التي يقدّمها الإسلام في منهجه التربوي لتعديل ( الأنا )، أمّا تعديل الهوى فهو أمر خارجٌ عن اختصاص هذه المقالة نُحيلة إلى مواضعه من الدراسات الأخلاقية والنفسية في الإسلام.
وتعديل ( الأنا ) هو علاج العجب بشكل دقيق، فإنّ مشكلة ( العجب ) تكمن في ( الأنا ) وبالضرورة يكون علاج هذه المشكلة في تعديل الأنا وتلطيفه.
ويتمُّ تعديل الأنا بصورةٍ كاملةٍ في التربية الإسلامية ضمن تحديد وتنظيم علاقة الأنا بالله تعالى، وعلاقته بالآخرين، وعلاقته بنفسه.
وقد أولى الإسلام هذه الدوائر الثلاثة من العلاقات في حياة الإنسان اهتماماً كبيراً، وإذا قدِّر للإنسان أن ينظّم علاقاته مع الله، ومع الآخرين، ومع نفسه، ومع الدنيا بالطريقة التي يشرحها ويوضحها الإسلام، يسلم من كل الأعراض التي تصيب الإنسان من ناحية ( الأنا )، والعجب من أهم هذه الأمراض.
ونحن فيما يلي نحاول - إن شاء الله - أن نطرح النظرية الإسلامية في علاقة الأنا بالله تعالى وبالآخرين وبنفسه.
علاقة ( الأنا ) بالله تعالى
الأنماط الثلاثة للعلاقة بالله:
علاقة ( الأنا ) بالله تعالى من الأمور الدقيقة التي تعطيها النصوص الإسلامية اهتماماً كبيراً. فهناك أنماطاً من العلاقة بالله تعالى تقوم على أساس الطغيان على الله وتجاوز حدود العبودية، والقرآن يسمِّي هذه العلاقة بالطغيان، يقول تعالى:
( كَلاّ إِنّ الإنسان لَيَطْغَى * أَن رَآهُ اسْتَغْنَى ) ، [ العلق: ٦ ].
( فَأَمّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا * فَإِنّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى ) ، [ النازعات: ٣٧ - ٣٩ ].
( فَنَذَرُ الّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) ، [ يونس: ١١ ].
وللطغيان في حياة الإنسان صور ومصاديق كثيرة،منها: الخصومة مع الله تعالى( أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنّا خَلَقْنَاهُ مِن نّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مّبِينٌ ) ، [ يس: ٧٧ ].
ومنه: الصد عن سبيل الله:( إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدّوا عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمّ يُغْلَبُون َ ... ) ، [ الأنفال: ٣٦ ].
ومنه: محاربة الله:( وَالّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ ) ، [ التوبة: ١٠٧ ].
ومنه: محادّة الله:( إِنّ الّذِينَ يُحَادّونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الأَذَلّينَ ) ، [ المجادلة: ٢٠ ].
ومنه: مشاقّة الله:( ذلِكَ بِأَنّهُمْ شَاقّوا اللّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ، [ الأنفال: ١٣ ].
وهناك نوع آخر من العلاقة بالله قائمة على أساس الإدلال والمنّ على الله ورسوله:( يَمُنّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لاَ تَمُنّوا عَلَيّ إِسْلاَمَكُم بَلِ اللّهُ يَمُنّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ للإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) ، [ الحجرات: ١٧ ].
والنوع الثالث من العلاقة بالله تعالى قائمة على أساس العبودية لله، والحبّ، والذكر، والخوف، والرجاء، والطاعة، والخشوع والخضوع، والإخبات لله. وموقع الأنا في
هذه العلاقة من الله تعالى هو موقع التذلّل والعبودية والخشوع وليس موقع الطغيان والخلاف ولا موقع الإدلال والمنّ.
وهذه هي العلاقة الصحيحة للأنا مع الله تعالى، وهذه العلاقة تحمي الإنسان من العجب، وتمنع من حالة تورّم للأنا، وتحدد الموضع الصحيح للأنا من الله تعالى والحجم الحقيقي للأنا.
عناصر العلاقة بالله:
والنصوص الإسلامية تعطي للعلاقة بالله تعالى اهتماماً كبيراً، وتعتبر هذه العلاقة هي الأساس والمحور للشخصية الإسلامية، وتحدّد الأبعاد الأخرى للشخصية الإسلامية على ضوء هذه العلاقة، والعناصر التي تتألّف منها علاقة العبد بالله تعالى مجموعة متناسقة من النقاط يتألّف منها طيف منسجم ومتناسب ومتعادل في العلاقة بالله تعالى.
ودراسة هذا الطيف وتحليله يحتاج إلى فرصة ودراسة أوسع من هذا المقال، إلاّ أنّنا سوف نحاول أن نشير إلى مجموعة من النقاط التي تتألّف منها العلاقة بالله تعالى، من خلال النصوص الإسلامية في القرآن والحديث، وإليكم هذه الإضمامة من عناصر العلاقة بالله تعالى:
١ - الخوف والخشية من الله:
يقول تعالى:( وَأَمّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى النّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنّ الْجَنّةَ هِيَ الْمَأْوَى ) [ النازعات: ٤٠ ]،( فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي ) ، [ البقرة: ١٥٠ ].
٢ - التضرّع:
( تَدْعُونَهُ تَضَرّعاً وَخُفْيَةً ) [ الأنعام: ٦٣ ]،( وَاذْكُر رَبّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرّعاً وَخِيفَةً ) [ الأعراف: ٢٠٥ ].
٣ - الإنابة:
( وَأَنِيبُوا إِلَى رَبّكُمْ ) [ الزمر: ٥٤ ]، ( خَرّ رَاكِعاً وَأَنَابَ ) [ ص: ٢٤ ].
٤ - الإخبات: ( التواضع والخشوع )
( إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبّهِمْ أُولئِكَ أَصْحَابُ الْجَنّةِ ... ) [ هود: ٢٣ ]، ( وَبَشّرِ الْمُخْبِتِينَ ) [ الحجّ: ٣٤].
٥ - الحبّ:
( قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبّ إِلَيْكُم مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبّصُوا حَتّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَيَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِين َ ) [ التوبة: ٢٤ ]،( وَالّذِينَ آمَنُوا أَشَدّ حُبّاً للّهِ ) [ البقرة: ١٦٥ ].
٦ - التقوى:
( اتّقِ اللّهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ ... ) [ الأحزاب: ١ ].
٧ - الاستغفار:
( ... وَاسْتَغْفِرُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) [ البقرة: ١٩٩ ].
٨ - التوبة:
( فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ ) [ البقرة: ٥٤ ]،( وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبّكُمْ ثُمّ تُوبُوا إِلَيْهِ ) [ هود: ٥٢ ].
٩ - الاعتذار والندم:
( اللّهمّ عظم بلائي، وأفرط بي سوء حالي، وقَصُرَت بي أعمالي، وقَعُدَت بي
أغلالي وحبسني عن نفعي بُعد أملي، وخدعتني الدنيا بغُرورها، ونفسي بجنايتها ومِطالي، يا سيدي،. ..) [ دعاء كميل ].
١٠، ١١، ١٢ - ( الانكسار )، ( الاستقالة )، ( الإقرار والإذعان والاعتراف ):
( أتيتك - يا إلهي - بعد تقصيري وإسرافي على نفسي؛ معتذراً، نادماً، منكسراً، مستقيلاً، مستغفراً، منيباً، مقرَّاً، مذعناً، معترفاً، لا أجد مفراً ممّا كان مني، ولا مفزعاً أتوجه إليه في أمري، غير قبولك عذري... اللّهمّ، فأقبل عذري، وارحم شدّة ضري. ..) [ دعاء كميل ].
( أنت الساتر عورتي، والمؤمن روعتي، والمقيل عثرتي. ..) . [ دعاء الأسحار ]
١٥، ١٦ - ( البكاء )، ( الاستغاثة والتوسّل إلى الله ):
( فبعزتك - يا سيدي - أقسم صادقاً، لَئن تركتني ناطقاً لأَضُجنَّ إليك بين أهلها ضجيج الآملين، ولأصرخنَّ إليك صراخ المستصرخين، ولأبكينَّ عليك بُكاء الفاقدين، ولاُنادينّك: أين كنت يا ولي المؤمنين، يا غاية آمال العارفين، يا غياث المستغيثين،... أفتراك - سبحانك - تسمع صوت عبدٍ مسلمٍ سجن فيها بمخالفته، وذاق طعم عذابها بمعصيته، وهو يضجّ إليك ضجيج مؤمّل لرحمتك، ويناديك بلسان أهل توحيدك، ويتوسل إليك بربوبيتك ) ، [ دعاء كميل ].
١٧ - ( الفقر إلى الله ):
( يا إلهي، وسيدي ومولاي، ومالك رقّي، يا من بيده ناصيتي، يا عليماً بضرّي ومسكنتي، يا خبيراً بفقري وفاقتي )، ( أنا الصغير الذي ربيته، وأنا الجاهل الذي علمته، وأنا الضال الذي هديته، وأنا الوضيع الذي رفعته، وأنا الخائف الذي آمنته ).
( فإليك - يا ربِّ - نصبت وجهي، وإليك - يا ربِّ - مددت يدي ) .
١٨ - الاستجارة بالله واللواذ بالله:
( أجرنا من النار يا مجير ) [ دعاء المجير ]،( هذا مقام المستجير بك من النار )، ( وأنت جار من لاذ بك ) [ دعاء يستشير ]،( وقد خضعت بالإنابة إليك، ودعوت بالاستكانة لديك، فإن طردتني من بابك فبمن ألوذ، وإن رَدَدَتني عن جنابك فبمن أعوذ ) [ مناجاة التائبين ].
١٩ - الفرار إلى الله:
( فَفِرّوْا إِلَى اللّهِ إِنّي لَكُم مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ) [ الذاريات: ٥٠ ].
٢٠ - الاضطرار إلى الله:
( أَمّن يُجِيبُ الْمُضْطَرّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السّوءَ ) [ النمل: ٦٢ ].
( أنا - يا ربِّ - الذي لم أستحيك في الخلاء، ولم أراقبك في المُلأ، أنا صاحب الدواهي العظمى، أنا الذي على سيده اجترى، أنا الذي عصيت جبّار السماء... أنا الذي أمهلتني فما ارعويت، وسترت عليّ فما استحييت ) [ دعاء أبو حمزة ].
٢٢ - التملُّق إلى الله:
( إلهي، أتراك بعد الإيمان بك تعذّبني، أم بعد حبّي إياك تُبعدني، أم مع رجائي لرحمتك وصفحك تحرمني، أم مع استجارتي بعفوك تُسلِمني، حاشا لوجهك الكريم أن تخيبني... إلهي، هل تَسوِّد وجوهاً خرّت لعظمتك ساجدة، أو تُخرس ألسناً نطقت بالثناء على مجدك وجلالك، أو تطبع على قلوب انطوت على محبّتك، أو تصمّ أسماعاً تلذذت بسماع ذكرك، أو تغل أكفاً رفعتها الآمال إليك رجاء رأفتك.
إلهي، لا تغلق على موحّديك أبواب رحمتك، ولا تحجب مُشتاقيك عن النظر إلى جميل رؤيتك ) [ مناجاة الخائفين ]،( يا الله، لا تحرق وجهي بالنار بعد سجودي وتعفيري بغير مَنٍّ عليك، بل لك الحمد والمنُّ والفضل ) [ دعاء الأسحار ].
٢٣ - الالتِماس والترجّي:
( إلهي، من الذي نزل بك ملتمساً قِراك فما قريته، ومن الذي أناخ ببابك مرتجياً نداك فما أوليته ) [ مناجاة الراجين ].
٢٤ - تحسيس النفس بالتقصير:
( وهذا مقام من اعترف بسبوغ النعماء وقابَلها بالتقصير، وشهد على نفسه بالإهمال والتضييع. إلهي، تصاغر عند تعاظم آلائك شكري، وتضاءَل في جنب إكرامك إياي ثنائي ونشري ) [ مناجاة الشاكرين ].
( يا من يقبل اليسير، ويعفو عن الكثير، اقبل منّي اليسير، واعفُ عنّي الكثير ) [ دعاء الأسحار ]،( أفبِلِساني هذا الكال أشكرك، أم بغاية جهدي في عملي أرضيك، وما قدر لساني - يا ربّ - في جنب شكرك، وما قدر عملي في جنب نعمك وإحسانك ) [ دعاء أبو حمزة ].
هذه طائفة من العناصر التي تولّف العلاقة بالله تعالى استخرجناها من نصوص القرآن، والحديث، والدعاء. وهذه بمجموعها تؤلّف طيفاً زاهياً منسجماً ومتوازناً للعلاقة بالله تعالى.
٢٥ - الذكر:
( الّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنّ الْقُلُوبُ ) ، [ الرعد: ٢٨ ].
( لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) ، [ المنافقون: ٩ ].
٢٦ - الأُنس بالله:
( وهب لي الأنس بك وبأوليائك وبأهل طاعتك، اجعل سکون قلبي، وأنس نفسي، واستغنائي وکفايتي بك وبخيار خلقك ) [الدعاء (٢١) من الصحيفة الكاملة للإمام زين العابدين ].
٢٧ - الشوق إلى الله:
( وامنن عليّ بشوقي إليك، والعمل لك ما تجب ) الدعاء (٢١) من الصحيفة الكامِلة.
( وامنن عليّ بشوق إليك ) الدعاء (٢١) من الصحيفة الكامِلة.
وفيما يلي نحاول أن نشرح بعض مفردات هذه العناصر:
العبودية:
والعبودية لله هي الأساس في علاقة الإنسان بالله تعالى وبالکون والمجتمع، وهي التي تحدّد مرکز الإنسان في الكون والمجتمع، وقد أعطى الإسلام العبودية موقعاً مرکزياً في حياة الإنسان وتفکيره ومواقفه.
فهي تنعکس انعكاساً مباشراً وواضحاً وتتحکّم في سلوك الإنسان وعلاقاته ومواقفه وتصوّراته، کما تنعکس على مشاعره وعواطفه، وحالة ( العجب ) في الإنسان من الحالات التي تتأثّر بالعبودية سلباً وإيجاباً بصورة مباشرة.
فإذا استقرّت علاقة الإنسان بالله على أساس العبودية وما تستتبع من الانكسار والتضرّع والتذلّل بين يدي الله، فسوف لا يملكه العجب ولا يكبر لديه ( الأنا )، وتغلب عليه صفة العبودية حتى تكون الصفة البارزة في كل تحرّكاته وتصرفاته.
ولقد كانت صفة العبودية بارزة في رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) حتّى في طريقة جلوسه وكلامه، وكان يكره أن يتميّز عن الآخرين في مجلس أو حركة، فعابت عليه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) امرأة - كانت مشهورة بسوء الأدب - هذه الخصلة، وقالت له ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ):
كل شيء فيك حسن إلاّ إنّك تجلس مجلس العبيد، فقال لها (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعفوية وبساطة: ( ومن أعبد منّي؟ )، يقول أمير المؤمنين ( عليه السّلام ) في صفة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ):
( ولقد كان - صلّى الله عليه وآله وسلّم - يأكل على الأرض، ويجلس جلسة العبد، ويخصف بيده نعله، ويرقّع بيده ثوبه، ويركب الحمار العاري، ويردف خلفه، ويكون الستر على باب بيته، فيكون فيه التصاوير، فيقول:
يا فلان، غيبيه عنّي؛ فإنّي إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها. فأعرضَ عن الدنيا بقلبه، وأمات ذكرها من نفسه، وأحب أن تَغِيب زينتها عن عينه؛ لكيلا يتخذ منها رَياشاً، ولا يعتقدها قراراً، ولا يرجو فيها مقاماً، فأخرجها من النفس، وأشخصها عن القلب، وغيّبها عن النظر. وكذلك من أبغض شيئاً أبغض أن ينظر إليه، وأن يُذكر عنده... ). (١)
ويحضرني من الشعر في صفة بعض المقاتلين:
سمة العبيد من الخشوع عليهم |
لـلـه إن ضـمتهم الأسـحار |
|
فإذا ترجّلت الضحى شهدت لهم |
بـيض الـنواصي أنّهم أحرار |
وواضح أن للعبيد سِمة متميزة واضحة في حركتهم وسكونهم، ومأكلهم ومشربهم وملبسهم، وكلامهم وسكوتهم.
يحكى عن بعض العارفين الزهاد المشهورين أنّه كان قبل أن يتوب من أهل
____________________
(١) نهج البلاغة، الخطبة رقم: ١٦٠.
الترف والبذخ، وكانت له ليالٍ حمراء عامرة بالشُّرب والطرب، فمرَّ الإمام موسى بن جعفر ( عليه السّلام ) على داره ذات يوم ولفت نظره ضجّة الغناء والطرب والسكر، فسأل عن صاحب البيت، فأجابته أَمَةٌ من خادمات البيت، فسألها الإمام موسى بن جعفر ( عليه السّلام ):هو حرّ أم عبد؟ فلم تفهم الخادمة مغزى كلام الإمام (عليه السّلام )، وقالت:كيف يكون عبداً وهو يملك المئات من العبيد والإماء؟!
فقال لها الإمام: أجل لو كان ( عبداً ) لم يفعل هكذا. وذهب لشأنه، فسمع الرجل الحوار الذي جرى بين الإمام والخادمة، وفهم مغزى كلام الإمام، فأسرع في طلب الإمام، فخشي أن لا يدرك الإمام فخرج حافياً حتى لحق الإمام وتاب على يديه، فَعُرف بالحافي بعد ذلك، واشتهر أمره وذِكره في العارفين والزاهدين.
والذي يقرأ سمات الشخصية الإسلامية في النصوص الإسلامية يجد أنّ صِفة العبودية هي الصفة المحورية في الشخصية الإسلامية، يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السّلام ) في صفة المتقين:
( عَظُم الخالق في أنفسهم فَصَغُر ما دونه في أعينهم، فهم والجنّة كمن قد رآها فهم فيها منعَّمون، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذَّبون. قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة، وأجسادهم نحيفة، وحاجاتهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة.
... أمّا الليل فصافون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن يرتلونها ترتيلاً، يُحزنون به أنفسهم، ويستثيرون به دواء دائهم، وأمّا النهار فَحُلَماء علماء أبرار أتقياء، قد براهم الخوف بري القداح، ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى، وما بالقوم من مرض، ويقول لقد خولطوا ولقد خالطهم أمرٌ عظيم.
فمن علامة أحدهم أنّك ترى له قوّة في دين، وحزماً في لين، وإيماناً في يقين، وحرصاً في علم، وقَصْداً في غنى، وخشوعاً في عبادة، وتحمّلاً في فاقة، وصبراً في شدّة، وطلباً في حلال، ونشاطاً في هُدى وتحرجاً عن طمع. ..). (١)
____________________
(١) نهج البلاغة، خطبة المتقين، الخطبة رقم: ١٩٣.
الذكر:
والذكر هو استشعار علاقة العبودية وذلك باستحضار صفات الله وأسمائه تعالى الحسنى، فعندما يستحضر الإنسان صفات الله وأسمائه الحسنى يحدّد بشكلٍ دقيق - في قلبه وعقله - موضعه الدقيق من الله تعالى، وهو موقع العبودية.
وفي كل ذكر استحضار لصفة من صفات الله وأسمائه الحسنى، وفي كل استحضار لصفات الله وأسمائه الحسنى وعي وتشخيص لموقع الإنسان من الله تعالى.
ولهذا السبب فإنّ في( الذكر ) تكريساً لعلاقة العبودية بالله تعالى، وهذه العلاقة تحدّد الأنا وتضعه في موضعه الصحيح من العلاقة بالله تعالى.
فللذكر - إذن - دورٌ تربويٌّ مؤثّر في مكافحة العجب، وفي مقابل ذلك( الغفلة ) عن ذكر الله؛ فإنّها من مصادر العجب، وبقدر ما يغفل الإنسان عن ذكر الله يصيبه العُجب، ولا شيء يؤدّي إلى طيش الأنا وحجبه عن الله وطغيانه وتمرّده على الله كالغفلة عن ذكر الله.
الشكر:
الشكر من الوسائل المؤثّرة في كسر شَوكَة ( الأنا )، وتكريس حالة العبودية وتعبيد الأنا لله تعالى؛ ذلك أنّ الشكر ينطوي على إحساس مزدوج بفقر الإنسان إلى الله تعالى، وفضل الله عزّ شأنه على الإنسان.
وهذا الإحساس المزدوج يتكوّن من خطٍّ صاعد من الإنسان إلى الله وهو خطّ الفقر، وخطٍّ نازل من عند الله على عبده وهو خطّ الفضل والرحمة والرزق.
ويصوِّر القرآن على لسان موسى بن عمران ( عليه السّلام ) هذا الإحساس المزدوج أروع تصوير:( رَبّ إِنّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) ، والخطُّ النازل من عند الله في هذه الآية هو ( الخير )، والصاعد من العبد إلى الله هو الفقر، ويقع الإنسان بين هذا الفقر الصاعد من العبد إلى الله، والخير النازل من الله على عباده.
وهذا الفقر الصاعد والخير النازل حالةٌ دائمةٌ مستمرّة في حياة كل الناس، وإذا أمعن الإنسان النظر في هذا الكون عامّة، وفي حياة الأحياء خاصة يجد هناك دائماً فقراً صاعداً من العبد إلى الله، ورحمة هابطة من الله على العباد، الشاكرين منهم وغير الشاكرين، والشكر عملية توعية وتسليط للضوء والوعي على هذا الفقر الصاعد والخير النازل؛ يحسس الإنسان ويشعره بهذا الفقر الصاعد والخير النازل.
رُوي:
أن داود سأل الله تعالى عن قرينه، فأوحى الله إليه: أنّه متّى أبو يونس، فجاء مع سليمان لزيارته. فرآه إذ أقبل وعلى رأسه وفرٌ من حطب، فباعه واشترى طعامه، ثمّ طحنه وعجنه وخبزه، فأخذ لقمةً وقال: بسم الله، فلمّا ازدردها قال: الحمد لله، ثمّ فعل ذلك بأخرى، وأخرى.
ثمّ شرب الماء فذكر اسم الله، فلمّا وضعه قال: الحمد لله يا ربّ، من ذا الذي أنعمت عليه وأوليته مثل ما أوليتني، قد صححت بصري، وسمعي، وبدني، وقويتني؛ حتى ذهبت إلى شجر لم أغرسه ولم أهتم لحفظه جعلته لي رزقاً، وسقت إليّ من اشتراه منّي، فاشتريت بثمنه طعاماً لم أزرعه، وسخّرت لي النار فأنضجته، وجعلتني آكله بشهوة أقوى بها على طاعتك فلك الحمد، قال: ثمّ بكى.
قال داود:( يا بني، قم فانصرف بنا؛ فإنّي لم أرَ عبداً قط أشكر لله من هذا. ..) .(١)
ولهذا الوعي والإحساس دور كبير ومؤثر في كسر شوكة ( الأنا ) وتعبيد الأنا لله تعالى، وتكريس حالة عبودية الأنا لله.
الشُّكر والسُّكر:
وبعكس ذلك، عندما ينتفي هذا الوعي عند الإنسان يكبر الأنا ويبرز ويحتل مساحة واسعة من حياته وشعوره ونفسه وتختفي حالة العبودية، وهي حالة( السُّكر ) في مقابل( الشُّكر )، فإنّ الشكر هو الإحساس الواعي بفقر الإنسان إلى الله وحاجته إلى الله.
____________________
(١) سفينة البحار ١: ٤٨٦.
أمّا( السُّكر ) فهو حالة معاكسة من طغيان الأنا وغناه عن الله، وبروز الأنا والبطر والرثاء في حياة الإنسان، و( الشكر ) و( السُّكر ) ينطلقان من رؤيتين مختلفتين تمام الاختلاف؛ فالشكر ينشأ من الإحساس بالفقر إلى الله، والسكر ينشأ من الإحساس الكاذب بالاستغناء عن الله.
والشكر حالة نابعة من التعلق والارتباط بالله، والسكر حالة ناشئة من الانقطاع والانفصال عن الله.
ومن عجبٍ أن( الشكر ) و( السُّكر ) كلاهما ينشآن من النعمة؛ فإنّ النعمة إذا حلّت في النفوس الواعية والمؤمنة تمخّض عنها الشكر، وإذا حلّت في النفوس الجاهلة والغافلة تمخض عنها السكر:( وَالْبَلَدُ الطّيّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبّهِ وَالّذِي خَبُثَ لاَيَخْرُجُ إِلاّ نَكِداً ) .
وأوّل ما نجد التنبيه إلى علاقة السكر بالنعمة في النصوص الإسلامية في كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السّلام )، حيث يخاطب المسلمين العرب - بعد أن فتح الله تعالى عليهم البلاد، وأغدق عليهم النعمة، وانتعشت حياتهم الاقتصادية - فيقول ( عليه السّلام ):( ثمّ إنّكم معشر العرب أغراض بلايا قد اقتربت، فاتقوا سكرات النعمة، واحذروا بوائق النقمة. ..) .(١)
ويقول ( عليه السّلام ) أيضاً:( ذاك حيث تسكرون من غير شراب من النعمة والنعيم. ..). (٢)
الشُّكر والدعاء:
والشكر مفتاح الدعاء ومن دون الشكر لا يتيسّر للإنسان أن يدعو الله تعالى
____________________
(١) نهج البلاغة، الخطبة رقم: ١٥١.
(٢) نهج البلاغة، الخطبة رقم: ١٨٧.
كما ينبغي الدعاء، فإنّ حقيقة الدعاء هو الشعور بفقر الإنسان إلى فضل الله تعالى، وهذا الوعي لحاجة الإنسان وفقره إلى فضل الله تعالى ورحمته هو أساس الطلب والسؤال من الله تعالى في الدعاء.
فالدعاء - إذن - بشكله الصحيح والواعي يتطلّب إحساساً واعياً وعميقاً بالفقر والحاجة إلى فضل الله ورحمته، والشكر يمكّن الإنسان من وعي هذين الأمرين معاً: وعي الفقر الصاعد، ووعي الرحمة النازلة. ولذلك نجد أنّ الأدعية تبتدئ غالباً بالحمد والشكر، والتذكير لنعم الله تعالى وفضله ورحمته على عباده.
المقارنة بين النسق الصاعد والنازل في العلاقة بالله تعالى
ومن الوسائل النافعة في الكف من غلواء ( الأنا ) وتعبيده لله تعالى هو المقارنة بين العمل الصاعد من العبد إلى الله تعالى والرحمة النازلة من لدن الله تعالى على عبده.
فإذا أنعم الإنسان النظر في هذه المقارنة امتلأت نفسه بإحساس عميق بالحياء من الله تعالى لما صدر منه، ويختفي الأنا في نفسه ويضمر، ويبرز في نفسه الإحساس بالحياء من الله والشعور بعظم فضل الله تعالى ورحمته عليه، وهو من أهم العوامل النفسية في كف غلواء الأنا في العلاقة بالله تعالى.
وقد كان أحد الصالحين يعبّر عن هذا المعنى في هذه الكلمة المؤثرة:( اللّهم نستغفرك ممّا نرفعه إليك ونحمدك على ما تنزله علينا ) .
وقد ورد ذكر هذا المعنى في النصوص الإسلامية كثيراً. ففي دعاء ( الافتتاح ) المروي عن الإمام المهدي ( عجّل الله تعالى فرجه )، والذي يألَف المؤمنون قراءته في ليالي شهر رمضان:
( الحمد لله الذي يجيبني حين أناديه، ويستر علي كل عورة وأنا أعصيه،
ويعظّم النعمة عليّ فلا أجازيه... ). (١)
وأيضاً ورد في نفس الدعاء:( فلم أرَ مولىً كريماً أصبرَ على عبدٍ لئيمٍ منك عليّ يا ربّ، إنّك تدعوني فأولّي عنك، وتتحبّب إليّ فأتبغّض إليك، وتتودّد إليّ فلا أقبل منك، كأنّ ليّ التطوّل عليك، فلم يمنعك ذلك من الرحمة بي والإحسان إليّ، والتفضل عليّ بجودك وكرمك... ). (٢)
وتأملوا في هذه الفقرات من دعاء أبي حمزة:( الحمد لله الذي أدعوه فيجيبني وإن كنتُ بطيئاً حين يدعوني، والحمد لله الذي أسأله فيعطيني وإن كنتُ بخيلاً حين يستقرضني، والحمد لله أناديه كلّما شئت لحاجتي، وأخلو به حيث شئت لسرّي بغير شفيع فيقضي لي حاجتي.
أنت المحسن ونحن المسيئون، فتجاوز - يا ربّ - عن قبيح ما عندنا بجميل ما عندك، يا غفّار بنورك اهتدينا، وبفضلك استغنينا، وبنعمتك أصبحنا وأمسينا، ذنوبنا بين يديك نستغفرك - اللّهم - منها ونتوب إليك، تتحبّب إلينا بالنعم ونعارضك بالذنوب، خيرك إلينا نازل وشرنا إليك صاعد، ولم يزل - ولا يزال - ملك كريم يأتيك عنا بعمل قبيح، فلا يمنعك ذلك من أن تحوطنا بنعمك، وتتفضل علينا بآلائك، فسبحانك، ما أحلمك! وأعظمك! وأكرمك!
سيدي أنا الصغير الذي ربيته، وأنا الجاهل الذي علّمته، وأنا الضّال الذي هديته، وأنا الوضيع الذي رفعته، وأنا الخائف الذي آمنته، والجائع الذي أشبعته، والعطشان الذي أرويته، والعاري الذي كسوته، والفقير الذي أغنيته، والضعيف الذي قوّيته، والذليل الذي أعززته، والسقيم الذي شفيته، والسائل الذي أعطيته، والمذنب الذي سترته، والخاطئ الذي أقلته، وأنا القليل الذي كثّرته، والمستضعف الذي نصرته، وأنا الطريد الذي آويته ) .
وهذا هو النسق النازل من الله.
____________________
(١) دعاء الافتتاح.
(٢) دعاء الافتتاح.
وأمّا النسق الصاعد من العبد إلى الله:
( أنا - يا رب - الذي لم أستحيك في الخلاء، ولم أراقبك في الملاء، أنا صاحب الدواهي العظمى، أنا الذي على سيّده اجترى، أنا الذي عصيت جبار السماء، أنا الذي أعطيت على معاصي الجليل الرشا، أنا الذي حين بشِّرت بها خرجت إليها أسعى... لا أدري! أعجب من جرأتي وعدم حيائي، أم من حلمك ورأفتك... ).
والنسق الصاعد النازل:( أنا الذي أمهلتَني فما ارعويت، وسترتَ عليّ فما استحييت، وعَمِلتُ بالمعاصي فتعديت، وأسقطتني من عينيك فما باليت... ). وروى المفيد عن عمر بن محمّد، المعروف بابن الزيّات، عن علي بن مهرويه القزويني، عن داود بن سليمان، عن الرضا ( عليه السّلام )، عن آبائه ( عليهم السّلام )، قال، قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ):
( يقول الله عزّ وجلّ: يا بن آدم ما تنصفني، أتحبب إليك بالنعم وتتبغّض إليّ بالمعاصي، خيري إليك نازل، وشرّك إليّ صاعد، أفي كل يوم يأتيني عنك ملك كريم بعمل غير صالح، يا بن آدم لو سمعت وصفك من غيرك، وأنت لا تدري من الموصوف، لسارعت إلى مقته ). (١)
في علاقة الأنا بنفسه
ازدراء الأنانية:
كلّما يطلق الإنسان لنفسه العنان، ويعطيه حاجته من البروز والظهور والنفوذ والتميز على الآخرين، يزداد أنانية وشرهاً وحرصاً، وقد روي عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ):( حسب امرئ من الشر أن يشير الناس إليه بالأصابع في دينه ودنياه إلاّ من عصمه الله ). (٢)
وقد كان رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يحرص أن يؤدِّب أصحابه على أن لا
____________________
(١) آمالي الطوسي ١: ١٢٦، عن بحار الأنوار ٧٣: ٣٦٥.
(٢) إحياء العلوم ٣: ٢٧٥.
يطلقوا لأنفسهم العنان في حب الهيمنة والظهور والبروز. روي عن جابر بن عبد الله الأنصاري ( رحمه الله ). قال: استأذنت على النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ). فقال:( من هذا؟ )، فقلت: أنا. فقال النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ):( أنا أنا. ..) .(١)
وفي النصوص الإسلامية يرد كثيراً إبراز وجه البشاعة في الأنا، وازدراء حالة الأنانية في الإنسان. عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السّلام ):( ما لابن آدم وللعجب؛ أوّله نطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة، وهو بين ذلك يحمل عذرة ). (٢)
ترويض النفس:
ولكبح جماح ( الأنا ) و( الهوى ) ورد في النصوص الإسلامية تأكيد كثير على التضييق على النفس ( الهوى والأنا ) والتشدّد في التعامل معها وترويضها.
فإنّ النفس جموحة، وكلّما أرسل الإنسان لها العنان يزداد جِماحها، وكلّما يضيّق الإنسان عليها ويتشدِّد في التعامل معها تتعدّل، وتنقاد وتنضبط.
والنصوص الإسلامية في ترويض النفس وتطويعها كثيرة. وهذه النصوص إذا جمعت ونظِّمت تتكوّن منها مدرسة كاملة في تهذيب النفس وتربيتها، يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السّلام ):( وإنّما هي نفس أروضها بالتقوى؛ لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر، وتثبت على جوانب المزالق. ..). (٣)
وترويض النفس في الحلال يمكِّن الإنسان منها في الحرام، وإرسال العنان لها في الحلال يعجِّز صاحبها عنها في الحرام. يقول أمير المؤمنين ( عليه السّلام ):( وايم الله يميناً، أستثني فيها بمشيئة الله، أروض نفسي رياضةً تهشُّ معها إلى القرص إذا قدرت
____________________
(١) صحيح مسلم ٣: ١٦٩٧.
(٢) غرر الحكم للآمدي.
(٣) نهج البلاغة، الخُطبة رقم: ٤٥.
عليه مطعوماً، وتقنع بالملح مأدوماً... أتمتلئ السائمة من رعيها فتبرك، وتشبع الربيضة من عشبها فتربض، ويأكل عليٌّ من زاده فيهجع، قرّت إذاً عينه إذا اقتدى بعد السنين المتطاولة بالبهيمة الهامِلة، والسائمة المرعية ) . (١)
إنّ السائمة تمتلئ من عشبها فتشبع ويشبع الإنسان من طعامه كما يحبّ ويشتهي فيشبع، فماذا يكون الفرق بين هذا وذاك؟ وترسل السائمة لنفسها العنان فيما تشتهي، ويرسل الإنسان لنفسه العنان فيما يُحب، فبماذا يفترق هذا عن ذاك؟ إنّ الفرق - في مدرسة عليّ ( عليه السّلام ) - بين هذا وذاك:أنّ الإنسان يملك أزمّة نفسه فيما يحبُّ ويشتهي، ويكفّها عمّا تحبّ وترغب، ويتمكّن من نفسه، وتنقاد له دون البهيمة.
ولكي تنقاد للإنسان نفسه وتطيعه لابدّ أن يروضها ويضيّق عليها، ويتعبها فيما تحبُّ من الحلال؛ حتى يتمكّن منها فيما يزجرها عنه من الحرام.
ولكي تنقاد له نفسه فيما يأمرها ممّا تكرهه نفسه، وتشقّ عليها؛ كالجهاد، والصيام، يمنعها سؤلَها فيما تحبُّ كالطيبات المباحة. يقول أمير المؤمنين ( عليه السّلام ) عن ذلك، في خُطبة المتّقين لهمام:( إنّ استصعبت عليه نفسه فيما تكره لم يعطها سؤلها فيما تحب ). (٢)
وهذا المنهج التربوي الذي يشرح الإمام أصوله وقوانينه لا يدخل في الحلال والحرام، فليس يجب على الإنسان أن يمنع نفسه ممّا تحبّ من الحلال، ولا يحرم على الإنسان أن يتمتع بما أحلّ الله من الحلال، وهذا واضح ومؤكّد، ولا نقاش فيه، ولكن من يريد أن يمسك أزمّة نفسه، ويلجمها في الحرام، عليه أن يروّض نفسه ويقهرها؛ ليتمكّن منها في الحرام.
يقول أمير المؤمنين ( عليه السّلام ):( امرؤ لجم نفسه بلجامها، وزمّها بزمامها، فأمسكها
____________________
(١) نهج البلاغة، الخُطبة رقم: ٤٥.
(٢) نهج البلاغة، خُطبة المتّقين ( خطبة همام ).