ميراثان في كتاب الله العجب

ميراثان في كتاب الله العجب0%

ميراثان في كتاب الله العجب مؤلف:
الناشر: دار القرآن الكريم
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 109

  • البداية
  • السابق
  • 109 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 11326 / تحميل: 5669
الحجم الحجم الحجم
ميراثان في كتاب الله العجب

ميراثان في كتاب الله العجب

مؤلف:
الناشر: دار القرآن الكريم
العربية

وَلكِن ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ) ، [ هود: ١٠١ ].

وقد تكون علاقة الإنسان بنفسه قائمة على أساس ( التفكير الذاتي بالنفس )، يقول تعالى:( أَوَلَمْ يَتَفَكّرُوا فِي أَنفُسِهِم ) ، [ الروم: ٨ ]. وقد تكون العلاقة بالنفس قائمة على أساس مراقبة النفس، وإخضاعها للمراقبة والحساب، يقول تعالى:( عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُم مَن ضَلّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) ، [ المائدة: ١٠٥ ].

وقد تكون هذه العلاقة بالعكس؛ قائمة على أساس نسيان النفس وإهمال مراقبتها، يقول تعالى:( أَتَأْمُرُونَ الْنّاسَ بِالْبِرّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ) . [ البقرة: ٤٤ ]

وقد تكون علاقة الإنسان بنفسه قائمة على أساس الصراع الداخلي بين الخير والشر:( إِنّ النّفْسَ لأَمّارَةُ بِالسّوءِ ) .

وقد تكون هذه العلاقة قائمة على أساس استقرار النفس على الهدى والاستقامة على خط الفطرة، يقول تعالى:( يَا أَيّتُهَا النّفْسُ الْمُطْمَئِنّةُ * ارْجِعِي إِلَى‏ رَبّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيّةً ) ، [ الفجر: ٢٧ - ٢٨ ]. ويقول تعالى:( الّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ ) . [ الرعد: ٢٨].

وهناك نماذج أخرى كثيرة لعلاقة الإنسان بنفسه قد أولاها القرآن الكريم اهتماماً كبيراً، والذي يقرأ القرآن بإمعان يجد أنّ علاقة الإنسان بنفسه، وتنظيم هذه العلاقة وتصحيحها، يأخذ من كتاب الله اهتماماً كبيراً ومساحة واسعة.

ولا نريد نحن أن ندخل هذا الأُفق من البحث في هذا المقال، وإنّما نريد فقط أن نشير إلى أنّ من النماذج الخطرة لعلاقة الإنسان بنفسه هو ( العُجب )، وهو حالة انشداد الإنسان بنفسه وإعجابه الشديد بها وبأعمالها، بحيث يستأثر ( الأنا ) بكل اهتمامه وإعجابه، ويستأثر بكل رؤيته، فلا يرى غير نفسه وغير أعماله.

وعنما يبلغ الإنسان هذه الدرجة من الانشداد بالأنا يحجبه ( الأنا ) عن الله تعالى، فيملأ الضئيل الذي يقدِّمه لله تعالى من عمل وجهد وطاعة كلّ قلبه وإحساسه، دون أن يرى عظيم رحمة الله تعالى وفضله وجميله به.

ولو كان الإنسان ينظر إلى الأشياء نظرة سويّة، ويراها بحجمها الحقيقي، لاستهان بجهده وعمله وطاعته لله تعالى، وأكبَرَ فضل الله تعالى ورحمته في حقّه، واستحى

٦١

من الله تعالى أن يقابل عظيم رحمته وفضله بمثل هذا الجهد الضئيل.

ولكن عندما يستأثر الأنا بكل رؤيته واهتمامه وإعجابه لا يرى إلاّ جهده وفعله، دون أن يرى رحمة الله تعالى وفضله، فيتحول إقباله على الله وطاعته لله بهذه الطريقة النفسية الملتوية إلى إعراض عن الله وشرك، أو كفر بالله تعالى، فإنّ الكافر هو الذي يحجبه حاجب عن الله تعالى حَجْباً كاملاً.

والعُجب إذا دخل النفس وتمكّن منها يحجب الإنسان عن الله حجباً كاملاً، وفي ذلك هلاك الإنسان وسقوطه التام، عن الإمام الصادق ( عليه السّلام ):( من دخله العُجب هَلك ) .

وأمّا في الحالات السويّة، عندما يقترن عمل الإنسان وجهده في طاعة الله تعالى بإحساسٍ حقيقيٍّ وواضح بعجزه عن شكر الله تعالى، ومقابلة إحسانه وفضله، فإنّ عمله عند ذلك على ضآلة حجمه يكون جسراً يوصله إلى الله تعالى، وقد روي عن أبي الحسن موسى بن جعفر ( عليهما السّلام ) أنّه قال لبعض وُلده:( يابُني عليك بالجدّ، ولا تخرجنّ نفسك عن حدّ التقصير في عبادة الله عزّ وجل وطاعته؛ فإنّ الله لا يُعبد حقّ عبادته ) .

وعن جابر قال، قال لي أبو جعفر ( عليه السّلام ):( يا جابر، لا أخرجك الله من النقص ولا التقصير ).

فالعمل الواحد - إذن - قد يؤدّي بالإنسان إلى طريق الله تعالى ويقرِّبه من الله، وقد يحجبه ويقطعه عن الله تعالى، والفارق الرؤية، وهو أمرٌ عظيم يستحقُّ من الإنسان كل اهتمام. فقد لا يختلف عمل عن عمل من حيث الحجم والوزن، ولكن أحدهما يقرِّب العبد إلى الله تعالى والآخر يبعّده عنه تعالى.

( العجب ) و( الاعتداد بالنفس ) و( الأنانية )

العجب حالة واحدة من ثلاث حالات ناتجة عن انشداد الإنسان بمحور الأنا، وهذه الحالات الثلاثة هي:

( العُجب ) و( الاعتداد بالنفس ) و( الأنانية ).

٦٢

و(العجب) هو أن يستأثر الأنا بإعجاب الإنسان ويحجبه عن رؤية فضله تعالى ورحمته به، وفي مقابل ( العُجب ) الشعور بالتقصير والعجز عن أداء شكره، ومقابلة فضله ورحمته بالطاعة والعبادة.

و( الاعتداد بالنفس ) هي حالة أخرى من حالات الانشداد للنفس، تتلخّص في اعتماد النفس وطرح الثقة بالنفس في مقابل التوكّل على الله، ووضع الثقة المطلقة في الله تعالى، وهما حالتان من الاعتماد والثقة في مقام العمل.

وفي الحالة الأولى يضع الإنسان ثقته في نفسه ويعتمدها، وهي الحالة الانحرافية في التعامل مع النفس، وفي الحالة الثانية يضع الإنسان ثقته في الله تعالى ويعتمده في شؤونه وحياته وأعماله كلّها، وهي الحالة السوية في التعامل.

والحالة الثالثة من حالات الانحراف النفسي في انشداد الإنسان بنفسه هي حالة( الأنانية )، وهي حالةٌ يكون فيها ( الأنا ) هو المحور الذي يدور حوله كل حركة الإنسان ونشاطه، ويستأثر بكل فعالية الإنسان وتحرّكه، وفي مقابل هذه الحالة ( الإخلاص لله ) الذي يجعل من مرضاة الله تعالى محوراً لكل سعي الإنسان وحركته ونشاطه.

إذن، هناك ثلاث حالات من الانشداد بالذات هي( العجب، الاعتداد بالنفس، الأنانية )، وهي حالات انحرافية في نفس الإنسان، نابعة من انشداد الإنسان لنفسه وحبّه لها، وفي مقابلها حالات ثلاثة سوية؛ من الانشداد بالله تعالى، والتعلق به، وإيثار مرضاته على كل شيء، وهي:( الإحساس بالتقصير والعجز من أداء شكر الله تعالى، والتوكل على الله، والإخلاص لله ) .

أقسام العجب:

قد يعجب الإنسان بنفسه ومَلَكَاته وخِصاله، وقد يعجب الإنسان بأعماله، وقد تكون خصاله ومَلَكاته التي تعجبه خصالاً وملكات صالحة، وقد تكون خصالاً وملكات سيئة.

فقد يعجب الإنسان بما في نفسه من رأفة ورحمة، وقد يعجب

٦٣

الإنسان بما في نفسه من قسوة وغِلظة.

وقد تكون أعماله التي تعجبه أعمالاً صالحة وحسنات، وقد تكون أعمالاً فاسدة وسيّئات، فقد يعجب الظالم بظلمه وإجحافه وتعسّفه بالناس، ويحسب أنّ ذلك من متطلبات الحزم والقوّة، وهو أقبح أنواع العجب، ويصف الله تعالى في كتابه أصحاب هذه الحالة بالأخسرين أعمالاً. يقول تعالى:

( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الّذِينَ ضَلّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أُولئِكَ الّذِينَ كَفَرُوا بَآيَاتِ رَبّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ) . [ الكهف: ١٠٤ - ١٠٦ ]

مراحل العجب:

للعجب مراحل في نفس الإنسان؛ فقد يعجب الإنسان بنفسه وخصاله وأعماله، وتمتلئ نفسه زهوّاً بما عنده من خصال وأعمال، فيحجبه هذا الشعور عن رؤية فضل الله تعالى عليه ورحمته به. وإنّما يحجبه خصاله ومواهبه عن الله إذا فَصَلها عن الله تعالى وربطها بنفسه، كأنها أشياء تخصّه وهو صاحبها، وليس لله تعالى فيها عليه فضل، فيحجبه هذا الشعور عن الله تعالى، ويكون الأنا حجاباً للإنسان.

أمّا إذا كان إحساسه بنفسه وخصاله وأعماله في امتداد إحساسه بفضل الله تعالى ورحمته فهذا الإحساس لا يحجبه عن الله تعالى، بل يعمّق ارتباطه بالله، ويكرس ذكر الله تعالى في نفسه.

والمرحلة الأخرى من العجب أن يتجاوز الإنسان مرحلة العجب بالنفس وخصالها وأعمالها إلى مرحلة الإدلال على الله سبحانه، فيتصوّر الإنسان أنّ له بأعماله دالّة على الله تعالى وهذهمرحلة ( الإدلال ) .

ويأتي بعد هذه المرحلةمرحلة ( التوقّع ) من الله، فيتوقّع الإنسان من الله ألا يردّ له دعاءً مثلاً، أو أن لا يصيبه بسوء ومكروه، ولا يقوم هذا التوقّع على أساس من حسن الظن بالله تعالى ورحمته ومنّه على عباده، وإنّما يقوم على أساس الإحساس باستحقاق من الله تعالى بإزاء عمله وجهده، وهذه المرحلة من العجب أقبح من

٦٤

سابقتها.

ويأتي بعد هذه المرحلة مرحلة ( العتاب ) و( الاعتراض ) المكتوم على الله إذا لم تتحقّق توقّعات الإنسان كما يريد، وكما يرى أنّه يستحقها من الله تعالى، عندئذ يضمر العتاب والاعتراض في نفسه على الله تعالى، وهو على حدّ الكفر بالله تعالى وهو أقبح من سابقه.

ويأتي بعد هذه المرحلة مرحلة ( المَنّ ) على الله، فإنّ الإنسان إذا تمادى في شعوره هذا يستدرجه الشيطان إلى الإحساس بالمَنِّ على الله، فيتصوّر أنّه قد أفاد دين الله، ونفع رسالة الله، وأدّى خدمة إلى الله تعالى، وهو من أقبح أنواع العجب، وهو على حدّ الكفر بالله تعالى كما ذكرنا، أو من الكفر بالله، أعاذنا الله تعالي منه.

أسباب العجب:

العجب يتكوّن من عنصرين: الانبهار بـ (الأنا)، والغفلة عن الله تعالى. وهما مرتبطان ومتداخلان؛ فإنّ الانبهار بـ ( الأنا ) إذا فصله الإنسان عن الله تعالى يحجب الإنسان ويغفله عن الله، والعكس كذلك صحيح. فإنّ الانصراف والغفلة عن ذكر الله يعطي الفرصة للأنا ليستأثر بمشاعر صاحبه، ويبهره.

إلاّ أنّ جذور حالة العجب تكمن في ( الغَفلة ) عن ذكر الله، فإنّ الإنسان إذا كان ذاكراً لله تعالى، مستحضراً لعظمته وجلاله ورحمته ونعمائه، لا يمكن أن يكبر عنده ( الأنا )، ولا يمكن أن يستأثر الأنا باهتمامه وإعجابه وذكره، وإنّما يبرز ( الأنا ) في حياة الإنسان بقدر ما يغيب ذكر الله عن قلب الإنسان. وعلى ذلك فإنّ علاج ( العجب ) أيضاً هو من نفس سنخ السبب، وهو استعادة ذكر الله وتمكينه من العقل والقلب، وتكريس ( الذكر ) من النفس.

وليس الذكر من مقولة القول واللفظ في شيء، وإنّما القول واللفظ تعبير وإبراز للذكر، وحقيقة الذكر هو استحضار صفات الله وأسمائه الحسنى ونعمائه في

٦٥

النفس.

أعرَاضُ العُجب:

من أخطر الأمراض التي تصيب الإنسان ( العجب )؛ وخطورة هذا المرض تنشأ من خطورة الأعراض والنتائج المترتّبة عليه، ونحن نشير فيما يلي إلى بعض أعراض حالة العجب:

الاستكبار:

إنّ حالة العجب تكرس ( الأنا ) في نفس الإنسان وتدفع الإنسان إلى تضخيم حجم ( الأنا ) في نفسه، وفي نفس الوقت تؤدّي إلى ضمور ذكر الله في قلب الإنسان.

وهذا التورّم في ( الأنا ) عندما يقترن بضمور ذكر الله في النفس يصبح أساساً لحالة انحرافية مَرَضِيةٍ خطيرةٍ في النفس يبتغي فيها الإنسان التمييز والكبر على الآخرين، ويتصنّع فيها الكبر والتمييز، وهي الحالة التي يسمّيها القرآن بالاستكبار والتكبر.

وقد يكون التكبّر على الحقّ وحتى على آيات الله وأحكامه، فيرفض المتكبّر أن يخضع للحقّ، ويرفض أن يقبل بآيات الله وأن يخضع لأحكامه وأمره ونهيه، وهذا الرفض واللُجاج من أبرز خصائص التكبّر.

وحالة التكبّر والعناد هي الأساس لأعظم مصائب الإنسان وبؤسه وشقائه، وهي التي حجبت أعداء الله تعالى من أمثال: فرعون، ونمرود، وهامان، وأبي سفيان، وأبي جهل وعتاة قريش، عن رؤية آيات الله وعن الخضوع لأحكامه تعالى، ومن قبل مَنعت إبليس عن السجود لآدم:

( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمّ صَوّرْنَاكُمْ ثُمّ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكِةِ اسْجُدُوا لآِدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِنَ السّاجِدِينَ * قَالَ مَامَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنّكَ مِنَ الصّاغِرِينَ ) ، [ الأعراف: ١٠ - ١٣ ].

٦٦

وما أضر بالإنسان شيءٌ أعظم من ( التكبّر )، وما يهلك الناس ويدفعهم إلى جهنّم شيءٌ أعظم من ( التكبّر ).

والذي يمعن النظر في كتاب الله يرى أن التكبّر هو أساس( الإعراض عن الايمان بالله تعالى )، والإعراض عن ( لا إله إلاّ الله ):( إِنّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلهَ إِلاّ اللّهُ يَسْتَكْبِرُون َ ) ، [ الصافات: ٣٥ ].

وأساس الإعراض عن دعوة الأنبياء:( أَفَكُلّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى‏ أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ ) ، [ البقرة: ٨٧ ].

وأساس الكفر بالله ورسوله:( قَالَ الّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنّا بِالّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ) ، [ الأعراف: ٧٦ ].

وأساس العناد واللُجاج والصدّ عن سبيل الله:( ... لَوّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدّونَ وَهُم مُسْتَكْبِرُونَ ) [ المنافقون:٥].( ... وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً ) [ نوح: ٧ ].( قَالَ الْمَلأُ الّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنّكَ يَا شُعَيْبُ ) .

والاستكبار يؤدّي إلى الاستنكاف عن عبادة الله تعالى:( وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً ) ، [ النساء: ١٧٢ ].

وهؤلاء المتكبّرون إذا تمادوا في الكِبر يطبع الله على قلوبهم وأبصارهم:( كَذلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلَى‏ كُلّ قَلْبِ مُتَكَبّرٍ جَبّارٍ ) ، [ غافر: ٣٥ ].( وَإِذَا تُتْلَى‏ عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلّى‏ مُسْتَكْبِراً كَأَن لّمْ يَسْمَعْهَا ) [ لقمان: ٧ ].

وهؤلاء تغلق عليهم أبواب السماء ( أبواب الرحمة ):( إِنّ الّذِينَ كَذّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لاَ تُفَتّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السّمَاءِ ) ، [ الأعراف: ٤٠ ].

وتتفتح عليهم أبواب جهنّم:( قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبّرِينَ ) ، [ الزمر: ٧٢ ]،( ... أَلَيْسَ فِي جَهَنّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبّرِينَ ) ، [ الزمر: ٦٠ ].

الانحراف المركب:

والانحراف على شكلين: بسيطٌ، ومركّبٌ.أمّا البسيط: فهو أن ينحرف الإنسان عن صراط الله تعالى عالماً بانحرافه، وأمر هذا الانحراف أهون من غيره، فإنّ فُرص الاستقامة تبقى قائمة للإنسان عندما يكون انحرافه بسيطاً. أمّا إذا كان صاحب الانحراف يؤمن بأنّه يحسن صنعاً، ويسير على الصراط المستقيم، فذلك من الانحراف

٦٧

المركّب ( تركيب من الانحراف والجهل )، وهذا أخطر من الانحراف الأوّل؛ فإنّ الإنسان المنحرف يعتقد في هذه الحالة أنّه ليس بمنحرف، وهذا التصوّر يفوّت عليه فرص العودة والاستقامة.

و( العُجب ) من أهمّ مصادر هذه الحالة من الانحراف المركب، فإنّ الإنسان عندما يأخذه العجب بنفسه يرى القبيح الذي يصدر منه حسناً، والسيئة التي يرتكبها حسنة، ولا يسمح لأحد أن يراجعه في شيء من ذلك، ولا يسمح لنفسه الشكّ والترديد في سلامة شيء من مواقفه وأعماله، ويرى لنفسه ما يشبه العصمة، وهذه الحالة كما ذكرنا أخطر حالات الانحراف، وإلى هذه الحالة من الانحراف المركّب تشير الآية الكريمة:

( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الّذِينَ ضَلّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أُولئِكَ الّذِينَ كَفَرُوا بَآيَاتِ رَبّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ) .

عندما يبلغ الإنسان هذه الدرجة من الانحراف تنحرف عنده الرؤية بشكلٍ كاملٍ فيتصوّر قبائح أعماله وسيئاته حسنات:( وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) ، وهذه حالة من حالات عمى العقل، والقلب، والبصيرة، يفقد فيها الإنسان القدرة على التمييز بين الحق والباطل، كما يفقد المصابون بعمى الألوان القدرة على تمييز بعض الألوان.

بل ( العمى ) في حالة العجب أخطر، حيث لا يفقد فيها الإنسان الرؤية فقط، وإنّما تنعكس فيها الرؤية فيرى القبيح منه حسناً، ويرى الحسن من غيره قبيحاً. وتسبّب هذه الحالة من العمى، وفقدان القدرة على التمييز، انقلاب المقاييس عند الإنسان في حالة ( العُجب ).

فإنّ الإنسان في حالة الرشد والاستواء يجعل من الحقّ مقياساً لنفسه وأعماله ومواقفه، ويطبّق نفسه وأخلاقه وسلوكه ومواقفه دائماً على هذا المقياس، فيستقيم ويصحح أعماله ومواقفه كلّما تعرّض لخطأ أو انحراف.

وكلّما يتقدم الإنسان في ( العُجب ) أكثر تتعمّق في نفسه هذه الحالة من

٦٨

انقلاب المقاييس أكثر من ذي قبل، حتّى ينقلب الإنسان فيكون هو مقياساً كاملاً للحق، فما يعمله هو الحق وما يتركه هو الباطل، وما يريده هو الحق وما يعارضه ويرفضه هو الباطل، ويكون ( الأنا ) هو المقياس للحقّ وليس ( الحقّ ) هو المقياس للأنا.

والقرآن يصف هؤلاء بأوصاف عجيبة تستوقف الإنسان، وتدعو إلى كثير من التأمّل والتفكير.

فهو يقول لهم أوّلاً:( الّذِينَ ضَلّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا ) ، وهذه حالة تخصّ الحياة الدنيا، فيضيع سعيهم، وضياع السعي بانتفاء الأثر والفائدة المترتبة على السعي، فإنّ السعي كالحرث يؤتي ثماره طيّبة شهيّة إذا أراد الله تعالى لها الخير وبارك فيه، ويكون مبتوراً عقيماً إذا سلب الله تعالى منه الخير والبركة، كذلك ( السعي ) و( الحركة ) إذا سلب الله تعالى منه الخير والبركة كان جهداً ضائعاً وسعياً ضالاً.

ويعبّر القرآن عنهم ثانياً بـ:( الأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً ) وهذه أيضاً حالة تخصّ الدنيا، والخسارة هي أن يفقد الإنسان جهده وحياته وحركته دون أن يأتي له ذلك بنتيجة أو ثمرة، وجهد الإنسان وحركته وعمره هو ( رأس ماله ) الذي يتاجر به ويحوّله إلى( مرضاة الله ) و( قرب الله ) و( ثواب الآخرة ).

وكل جهد وحركة وساعة من عمر الإنسان لا يتحوّل إلى هذه النتائج فهو خسارة للعمر والجهد، وكأنَّ مَثَل هذا الإنسان مَثل التاجر الذي ينفق رأس ماله دون أن يعود عليه بأيّ شيء، وهذه هي الخسارة الكبيرة التي تشير إليها سورة العصر:( وَالْعَصْرِ * إِنّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ ) .

ولكنّ القرآن الكريم لا يقتصر هنا - في تصوير مأساة الإنسان - على هذا الحدّ، وإنّما يتجاوز ذلك ويصف مأساة الإنسان في هذه الحالة بـ:( الأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً ) ، بصيغة أفعل التفضيل. وسبب تكريس حالة الخسارة هذه أنّ جهد الإنسان وسعيه وحركته ليس فقط يضيع، وإنّما يتحوّل إلى ضدّه، فيتحوّل جهد الإنسان إلى عذاب الله وعقابه وغضبه عوض أن يتحوّل إلى رحمة الله وقربه ورضوانه وجنّته.

كمن ينفق

٦٩

ماله في ارتكاب جريمة فيعاقب ويغرم، فإنّ هذا الإنسان ليس فقط يخسر رأس ماله، وإنّما ينقلب رأس ماله إلى وبال عليه.

ثمّ يقول القرآن الكريم عنهم ثالثاً:( فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ) ، وهذه الحالة تخصّ يوم القيامة، وهي حالة ( الحَبْط ) الكامل في الآخرة وحالة ( انعدام الوزن ):( فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ) .

وحالة ( الحَبط ) في مقابل أصلٍ لله:( البقاء ) و( الثبات ) للأعمال في يوم القيامة، والذي يشير إليه القرآن في كثير من آياته:( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرّةٍ شَرّاً يَرَهُ ) ،( وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلاَ يِظْلِمُ رَبّكَ أَحَداً ) ، [ الكهف: ٤٨ ].

وبموجب هذه الحالة لا ينعدم شيءٌ من العمل من خيرٍ أو شرٍ يصدر عن الإنسان يوم القيامة، وهذا أصلٌ كونيٌّ من الأصول الكونيّة التي يشرحها القرآن في تبيان سنن الله تعالى.

إلاّ أنّ ( الكفر ) و( الانحراف المركب ) النابع من العُجب يؤدّي إلى حبط الأعمال يوم القيامة:( فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ) ، وأصل ( الحَبط ) في مقابل أصل الثبات.

كما يؤدّي الكفر والانحراف المركب إلى حالة ( انعدام الوزن ) يوم القيامة:( فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ) . وبالوزن يوم القيامة يستقر الإنسان في رحمة الله ورضوانه، وإذا فقد الإنسان الوزن يوم القيامة فلا يستطيع أن يستقر في رحمة الله.

أرأيت لو أنّ الإنسان فقد ( الوزن الفيزياوي ) في الدنيا على وجه الأرض هل يستطيع أن يستقر فيها أو يبني لنفسه حياة فيها، كذلك انعدام الوزن يوم القيامة.

علاج العجب

في حياة الإنسان مصدران للابتلاء: ( الهوى ) و( الأنا ) وكلٌّ منهما سبب لسقوط الإنسان وهلاكه.

٧٠

فقد يسقط الإنسان على مزلق الاستجابة للهوى فيملك الهوى أمره، ويحكِّمه في حياته فيجرّه إلى الهلاك والسقوط. وهو باب واسع من أبواب الفساد والهلاك والسقوط في حياة الإنسان، وقد حذّر الإسلام منه كثيراً واعتبره من أخطر المزالق التي تواجه الإنسان.

وهذه الآية الكريمة تجمع طائفة من أمّهات الأهواء في حياة الإنسان:( زُيّنَ لِلنّاسِ حُبّ الشّهَوَاتِ مِنَ النّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذّهَبِ وَالْفِضّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَاللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ) .

والمصدر الآخر للسقوط والهلاك والفساد في حياة الإنسان هو ( الأنا )، وكما كانت الاستجابة غير المحدودة للهوى سبباً في السقوط والهلاك في حياة الإنسان، كذلك الاستجابة غير المحدودة للأنا تعتبر المصدر الثاني للسقوط في حياة الإنسان.

فإنّ الأنا عندما يستعلي ويستكبر، ويتحوّل إلى محور يستقطب كل اهتمامات ومشاعر وجهد الإنسان، يتحوّل إلى صنم يتّخذه الإنسان إلهاً في حياته من دون الله، وهذا باب واسع آخر للسقوط والفساد والهلاك في حياة الإنسان، وقد أعطى الإسلام في منهاجه التربوي اهتماماً لهذا وذاك معاً.

والطريقة الصحيحة في معالجة كل من( الهوى ) و( الأنا ) ليس في استئصاله أو كبته ومحاربته، وإنّما في تعديله وتلطيفه والتحكّم فيه.

ومن الوسائل التربوية الصحيحة في تعديل كل من( الهوى ) و( الأنا ) وضبطه والتحكّم فيه العبادات؛ ففي العبادات ما يتّخذه الإسلام وسيلة لتعديل الهوى وكفّه وضبطه وتحديده كالصوم.

ومن العبادات ما يتّخذه الإسلام أداة لتعديل الأنا وتحجيمها كالصلاة؛ فإنّ الصلاة وسيلة فعّالة وقوية لإذلال الأنا وتركيعها بين يدي الله تعالى في الأذكار والأفعال معاً. فالتكبير والتهليل، والحمد، والتعبيد، والاستعانة بالله والتوحيد والدعاء في الأذكار يذلّل الأنا ويخضعها لله، ويشعرها بهذا الذلّ والخضوع

٧١

بإيحاءات متعددة.

والحجّ عبادة فريدة في الإسلام يجمع بين هذا وذاك، ففي الحجّ منهاج تربوي واسع لتدريب الإنسان على ضبط الهوى وتحديده، ويمكن الإنسان من أهوائه وشهواته.

ففي محرمات الإحرام منهج عملي لضبط مجموعة من الأهواء القويّة والمؤثرة في النفس كالغريزة الجنسية والنزوع إلى جملة من الطيبات والنزوع إلى الرفاه والراحة.

وفي محرّمات الحرام ما يضبط الأنا ويحدّده ويتحكّم فيه؛ كتحريم لبس المخيط على الحجاج الرجال، واللباس من أبرز سمات شخصية الإنسان في انتمائه الطبقي والقومي. وفي الميقات يتجرّد الحجّاج من كل ملابسهم وأزيائهم الشخصية والقومية ويظهرون بمظهر واحد، دون امتيازات شخصية، أو طبقية، أو قومية، أو فئوية.

ومن محرّمات الإحرام ( الجِدال )، وهو من الميول الأنانية العميقة في نفس الإنسان بالظهور والاستعلاء على خصمه. والطواف يرمز إلى تكريس التوحيد ومحوريّة ( الله ) تعالى في حياة الإنسان، في مقابل تكريس محورية الذات.

ولوقوف المسلمين جميعاً في عرفات في وقتٍ واحدٍ، في وادٍ غير ذي زرع، من دون امتيازات وفوارق للبعض على بعض، للتذلّل والتضرّع بين يدي الله تعالى دور كبير في إذلال الأنا وتعبيدها لله تعالى، وتحويلها من طَور الألوهية والأنانية إلى طور العبودية لله تعالى.

والذي يمعن النظر في فريضة الحجّ يجد أنّ هذه الفريضة العِبادية تتضمّن منهاجاً تربوياً دقيقاً وعملياً في ضبط ( الهوى ) و( الأنا ) وتعديلهما وتعبيدهما لله تعالى.

ونحن في هذا الحديث لا نريد أن نبحث عن الهوى وأخطاره وأعراضه وعلاجه في حياة الإنسان، فليس في هذا المقال موضع للدخول في هذا البحث، وإنّما أشرنا إليه إشارة لنعرف موضع ( الأنا ) من الأخطار التي تهدّد حياة الإنسان، وليكتمل عندنا

٧٢

منهج البحث وإطاره.

فإنّ ( الأنا ) هو مصدر ( العجب ) في حياة الإنسان، ولا محالة بكون علاج العجب بعلاج الأنا، و( الأنا ) - كما ذكرنا - أحد مصدري الخطر والسقوط والفساد في حياة الإنسان.

فلنتأمل إذن في ( الأنا ) ونترك البحث عن الهوى إلى الموضع المناسب إن شاء الله.

العجب و( الأنا ):

مصدر العُجب ( الأنا )، ولا محالة يكون علاج العُجب في علاج ( الأنا ). إذن، المسألة الأساسية في المرض والعلاج هو ( الأنا ).

فلنتأمّل إذن في ( الأنا ).

للأنا حالتان:

فيالحالة الأولى: يتمحور الأنا حول نفسه، ويستقطب كل جهد صاحبه وحركته، وكل حبّه وبغضه، وكل مشاعره واهتماماته.

وفي الحالة الثانية : تكون مرضاة الله هي المحور لكلّ حركة الإنسان ونشاطه واهتمامه،( قُلْ إِنّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للّهِ‏ِ رَبّ الْعَالَمِينَ ) ، في الحالة الأولى يسقط الإنسان، وفي الحالة الثانية يعرج الإنسان.

ومرض العُجب بعض أعراض الحالة الأولى، وعلاج هذا المرض وسائر الأمراض الناشئة من مركزية ( الأنا ) في الحالة الثانية، فإذا فك الإنسان ارتباطه من ( الأنا ) وربط نفسه بمحور الله تعالى وذكْره، ورضاه، يخلص من العُجب كما يتخلّص من كل الأعراض والأمراض الكثيرة الأخرى التي تنشأ من حالة محورية الأنا.

وهذه الحالة من الاستكبار ومحورية ( الأنا ) هو الذي منع إبليس - لعنه الله - من الاستجابة لأمر الله تعالى في السجود لآدم:( قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ) .

٧٣

وفي الخطاب الإلهي لإبليس من العناية بخلق آدم:( لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ ) . ومن الإنكار الساخر على إبليس:( أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ ) ما لا يخفى على الذي يمعن النظر في هذا الخطاب.

وصياغة الآية دقيقة ومعبّرة، فهي تبرز ( الأنا ) بشكل صارخ في جواب إبليس عن السبب الذي منعه من السجود( ما منعك أن تسجد؟ قال أنا ) .

وينحدر اللعين من ( الأنا ) إلى الحسد؛ فلا يطيق أن يرى هذه الميزة لآدم ( عليه السّلام ) من دونه فيحسده، وهذا هو الانحدار الأوّل.

ويشقّ عليه أن يستجيب لأمر الله تعالى في السجود لآدم، فيتمرّد على أمر الله تعالى ويمتنع عن الاستجابة له، وهذا هو الانحدار الثاني، وهو نهاية السقوط في حياة هذا اللعين.

وابتلاء قارون أيضاً في هذه الأنانية الطاغية:( قَالَ إِنّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى‏ عِلْمٍ عِندِي ) ، [ القصص: ٧٨ ]. فلا يرى قارون لله تعالى فضلاً عليه فيما عنده من الكنوز حتى يحاسبه عليه، ويطلب منه الإنفاق منها، وإنّما هي له خاصة، تجمعت عنده على علم عنده وجهد له.

إذن، نقطة الضعف في شخصية قارون هي ( الأنا )، ومن خلال هذه النقطة اندسّ الشيطان إليه، ودعاه إلى التمرّد على الله تعالى ورسوله.

ويبرز الأنا بصورة صارخة في حياة فرعون:( فَحَشَرَ فَنَادَى‏ * فَقَالَ أَنَا رَبّكُمُ الأَعْلَى‏ ) ، [ النازعات: ٢٣ - ٢٤ ]، وهذه واحدة من أقبح حالات الاستعلاء للأنا.

وهذه الحالة من الأنانية الطاغية تؤدّي بصاحبها إلى استضعاف الآخرين واستخفافهم وإذلالهم للتمكّن منهم وفرض نفوذه وسيطرته عليهم:( فَاسْتَخَفّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ) ، [ الزخرف: ٥٤ ].

وهذا هو الوجه الممقوت والقبيح من الأنا، وإلى هذا الوجه تعود طائفة كبيرة من المشاكل والمتاعب، والمصائب والابتلاءات في حياة الإنسان.

والوجه الآخر للأنا هو وجه العبودية والارتباط والانشداد بالله تعالى، والأنا - في هذا الوجه الآخر - لا يكون محوراً لحركة الإنسان وجهده ونشاطه وحبّه

٧٤

وبغضه، وإنّما يتحوّل الإنسان من ( الأنا ) إلى محور مرضاة الله تعالى وقربه، ويكون مرضاة الله هو غاية الإنسان في حركته ونشاطه وهو الأساس والمحور في حبّه وبغضه.

يقول تعالى فيما يوجّه به عبده ورسوله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ):( قُلْ إِنّنِي هَدَانِي رَبّي إِلَى‏ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للّهِ‏ِ رَبّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وِبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوّلُ الْمُسْلِمِينَ ) ، [ الأنعام: ١٦١ - ١٦٣ ]. وهذا هو الوجه المقبل على الله تعالى من ( الأنا )، فيما كان الوجه الأوّل هو الوجه المعرض عن الله تعالى من الأنا.

الدوائر الأربعة للأنا:

وكما ينشئ الإنسان علاقة مع الآخرين تتّصف بالحبّ والبغض، والانسجام والتناقض، والتعاون والتواكل. كذلك للإنسان دوائر أُخر من العلاقات على نفس الترتيب مع الله تعالى ومع نفسه ومع الدنيا.

وهذه أربعة دوائر للعلاقات يدخل فيها الأنا بالصورة التالية:

١- علاقة الأنا بالله تعالى.

٢- علاقة الأنا بالآخرين.

٣- علاقة الأنا بالدنيا (الأشياء).

٤- علاقة الأنا بنفسه.

ونِمط علاقة الأنا في كل من هذه الدوائر الأربعة يختلف اختلافاً جوهرياً وعميقاً، في الحالة الأولى ( حالة محورية الأنا ) عن الحالة الثانية ( محورية الله تعالى ).

وطائفة واسعة من مصائب الإنسان وابتلاءاته ومشاكله هي من إفرازات (الأنا) عندما يتحوّل (الأنا) في حياة الإنسان إلى محور من دون الله تعالى، فيكون من إفراز ( الأنا ) في هذه الحالة في علاقة الإنسان بالله تعالى التكبّر على الله، والتمرّد على

٧٥

الله والشرك والكفر.

ومن إفراز ( الأنا ) في علاقة الإنسان بالآخرين: نظام الاستكبار والاستضعاف في العلاقات الاجتماعية، والحسد، والعدوان، والبغضاء، والكراهية فيما بين الناس.

ومن إفراز ( الأنا ) في هذه الحالة في علاقات الإنسان بالدنيا: الحرص، والطمع، والجشع. ومن إفراز الأنا في علاقته بنفسه: العُجب، الغرور والاعتداد بالنفس، وتزكية النفس وتبرئتها عن الخطأ والتقصير.

بينما نجد أنّ إفراز الأنا ونتائجه عندما يجعل الإنسان مرضاة الله تعالى في حياته هي المحور، ويجعل الأنا تابعاً لهذا المحور أمر يختلف تماماً في النقاط التي ذكرناها في هذه الشبكة الواسعة من العلاقات.

وهذا إجمال لابدّ له من تفصيل، وهذا التفصيل يرتبط بموضوع بحثنا ارتباطاً وثيقاً، لابدّ من الدخول فيه.

وإليك هذا التفصيل:

عندما يتحوّل ( الأنا ) في حياة الإنسان إلى محور يستقطب كل مشاعره واهتماماته يصدق على هذا الإنسان أنّه اتخذ ( الأنا ) إلهاً. ويتحوّل ( الأنا ) إلى صنم في حياته يعبده الإنسان من دون الله. وبقدر ما يبرز ( الأنا ) إلهاً في حياة الإنسان يضمر إحساس الإنسان بإلوهية الله تعالى في حياته.

وبين هذا وذاك نسبة عكسية دائماً، فكلّما تبرز إلوهية الأنا أو الهوى في حياة الإنسان أكثر يختفي التوحيد أكثر؛ فإنّ التوحيد يقع في النقطة المقابلة لمحورية الأنا تماماً، وكلَّما تتكرّس حالة محورية الأنا في حياة الإنسان تختفي حالة ( التوحيد ).

والمرحلة الأولى لهذا البروز والاختفاء ( الشرك ) حيث يشرك الإنسان بالله تعالى، والشريك الذي يشركه الإنسان في الألوهية هو ( الأنا )، والمرحلة الأخيرة لهذا البروز والاختفاء هو ( الكفر ) حيث يغطّي ( الأنا ) ذكر الله تعالى في قلب الإنسان بشكل كامل، و( الكفر ) بمعنى التغطية، فتبرز محورية ( الأنا ) في حياة الإنسان بصورة طاغية ويختفي ( التوحيد ) تماماً من نفس الإنسان، وهذه هي التي ينتهي إليها الإنسان غالباً عندما يستدرجه حب الذات.

٧٦

وهذا ( الكفر ) من الكفر في مقام العمل، وليس من الكفر في ( العقيدة ). وقد يختلفان فيبقى الإنسان في العقيدة مؤمناً بالله تعالى خالقاً ورازقاً ورباً، ولكنّه في مرحلة العمل ينسى الله تعالى ويُنْكره تماماً في اهتماماته وجهده، وحركته ومشاعره، ويتحرّك حول نفسه، ويتحوّل من محور ( الله ) إلى محور ( الأنا )، وينفك تماماً عن المحور الأوّل، ويرتبط تماماً بالمحور الثاني.

وهذا الكفر في التعامل قد يستتبع الكفر في العقيدة وقد يفارق الكفر في العقيدة، ولكنّ القرآن يحكم عليه بالكفر، كما يحكم على الحالة الأولى منها بالشرك.

قصّة صاحب الجنّتين:

وفي قصّة صاحب الجنّتين، في سورة الكهف نلتقي - نحن - هذه الحالة من الكفر المستبطن في التعامل.

ولنقرأ هذه القصّة في سورة الكهف:

( وَاضْرِبْ لَهُم مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً * كِلْتَا الجنّتين آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِنْهُ شَيئاً وَفَجّرْنَا خِلاَلَهُمَا نَهْراً * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزّ نَفَراً * وَدَخَلَ جَنّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنّ أَن تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً * وَمَا أَظُنّ السّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رّدِدتّ إِلَى‏ رَبّي لأَجِدَنّ خَيْراً مِنْهَا مُنقَلَباً * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمّ مِن نُطْفَةٍ ثُمّ سَوّاكَ رَجُلاً * لكِنّ هُوَ اللّهُ رَبّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبّي أَحَداً * وَلَوْلاَ إِذْ دَخَلْتَ جَنّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللّهُ لاَ قُوّةَ إِلاّ بِاللّهِ إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً * فَعَسَى‏ رَبّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِن جَنّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنَ السّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً * وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلّبُ كَفّيْهِ عَلَى‏ ما أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى‏ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبّي أَحَداً * وَلَمْ تَكُن لّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَمَا كَانَ مَنتَصِراً * هُنَالِكَ الْوَلاَيَةُ للّهِ‏ِ الْحَقّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً ) ، [ الكهف: ٣٢ - ٤٤ ].

ولنتأمل في هذه الآيات فإنّها غنية بالمفاهيم والأفكار، وأوّل ما يلفت نظرنا في هذه الآيات تأكيد القرآن على ربط هذه النعم بالله تعالى:( جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنّتَيْنِ ) ،( وَفَجّرْنَا خِلاَلَهُمَا نَهْراً ) .

ولا شكّ أنّها عناية مقصودة في بداية القصّة، وهو أحد الاتجاهين المختلفين في الحوار الذي يجري في جوّ هذه القصّة في سورة الكهف.

وهذا الاتّجاه هو ربط كلّ نعمةٍ وموهبةٍ وخيرٍ ورزقٍ في حياة الإنسان بالله تعالى والتأكيد على هذا الربط، في مقابل الاتجاه الآخر الذي نقرأه في هذه القصّة؛ وهو فكّ ارتباط النعم عن الله تعالى وربطها بالإنسان واعتبار الإنسان هو صاحب هذه النعم ووليّها.

ويبرز هذا الاتجاه في الحوار الذي يجري في القصة في كلمة صاحب الجنّتين لصاحبه، وهو يحاوره:( أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزّ نَفَراً ) ، فالمال والنفر العزيز للأنا، وليس لارتباطهما بالله تعالى ذكر أو إشارة.

ومن عجبٍ أنّ هذه النعم الموصولة بالله تعالى بدل أن تتحوّل في نفس صاحب الجنّتين إلى إحساس بالشكر والتواضع لله تعالى تتحوّل في نفسه إلى طغيان للأنانية وبروز صارخ للأنا أولاً، ثمّ إلى تكاثر وتفاخر ومباهاة:( فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزّ نَفَراً ) .

وسبب بروز ( الأنا ) وطغيانه عند صاحب الجنّتين ليس هو ( النعمة ) وإنّما طريقة فهمه للنعمة وعلاقة النعمة به؛ أنّ النعمة عنده له، وهو وليّها، وليس لأحدٍ فضل عليه فيها. بعكس التصوّر الذي يقدّمه القرآن لعلاقة الإنسان بالنعمة والتي أشرنا إليها قريباً، فإنّ النعمة، بناء على التصوّر القرآني لله وهو وليها، وليس لصاحب النعمة فيها شأن أو فضل، إلاّ أنّ الله تعالى أودعها عنده وجعله خليفة عليها.

وهذان التصوّران مفتاحان لنمطين من الشخصيّة يشير إليهما الحوار الذي يجري في سورة الكهف في قصّة صاحب الجنّتين، ولكلّ من هاتين الشخصيتين

٧٧

طريقته وأسلوبه في فهم النعمة والتعامل معها في النمط الأوّل من الشخصية، وهو النمط القرآني، يتكرّس ارتباط النعمة بالله تعالى وهو بمعنى فقر الإنسان إلى الله تعالى وليّ النعمة، ولذلك فإنّ السمة البارزة في هذه الشخصية هي ( الفقر ) إلى الله تعالى، يقول الله تعالى:( يَا أَيّهَا النّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللّهِ وَاللّهُ هُوَ الْغَنِيّ الْحَمِيدُ ) ، [ فاطر: ١٥ ].

وأروع تصوير لهذه الحالة من ( الأنا ) ورد في القرآن في قصّة موسى بن عمران ( عليه السّلام ) عندما وقف في الظل يستريح بعدما سقى لابنتي شعيب:( رَبّ إِنّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) ، [ القصص: ٢٤ ].

والأنا في هذه الآية الكريمة تقع بين نعمة نازلة من الله:( لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيّ ) ، وفقرٍ صاعد إلى الله:( فَقِيرٌ ) . أحدهما ينتهي إلى الإنسان من الله تعالى وهو النعمة والرحمة، والآخر ينطلق من الإنسان إلى الله وهو الفقر.

و( الأنا ) بين هذا الخطّ الصاعد والخطّ النازل، وهذا هو الوضع الصحيح للأنا في الارتباط بالنعمة، والنمط القرآني للشخصية.

وهذا النموذج من الشخصية بارز كل البروز في الحوار الوارد في قصة صاحب الجنّتين، كما سيتضح أكثر فيما بعد إن شاء الله.

والنمط الآخر من الشخصية هو النمط الأناني، وفيها يتكرّس ارتباط النعمة بالأنا، وتختفي علاقة النعمة بالله تعالى، فتكون النعمة في حياة الإنسان من علامات ( الغنى ) وليس ( الفقر )، وكلّما يزداد حظّ الإنسان من النعمة يشعر بالاستغناء أكثر من ذي قبل

والإحساس بالغنى سبب الانفصال عن الله، كما أنّ الإحساس بالفقر سبب الارتباط بالله تعالى، وفي حالة الإحساس بالغنى والانفصال عن الله يبرز الأنا ويطغى، كما أنّ الأنا في حالة الإحساس بالفقر والارتباط بالله يختفي ويضمر.

وصدق الله تعالى حيث يقول:( كَلاّ إِنّ الإنسان لَيَطْغَى‏ * أَن رَآهُ

٧٨

اسْتَغْنَى ) . [ العلق: ٦ ]. وهذه الآية تصوّر، بصورةٍ واضحةٍ ودقيقةٍ، كيف تتحوّل النعمة في حياة الإنسان إلى إحساس بالغنى، وشعور بالانفصال عن الله، وبالتالي الطغيان.

وهذه الحالة من الأنانية، وبروز الأنا، وما يستتبعه من التباهي والتفاخر والتكاثر، ظاهرٌ في هذه الفقرة من الحوار الوارد في القصّة:( أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزّ نَفَراً ) . ومكافحة هذه الحالة من الطغيان: بتكريس الفقر إلى الله، وتحجيم الأنا وتحديده، والمنع من بروزه.

وفي التصوّر الذي يقدِّمه إلينا القرآن عن ( الأنا ) وطريقة التعامل معه يعتبر إطلاق العنان للأنا من الظلم الذي يمارسه الإنسان على نفسه، حيث يقطع الإنسان نفسه عن الله، وهو من أقبح أنواع الظلم الذي يمارسه الإنسان على نفسه.

ولذلك، فإنّ القرآن يقول عن صاحب الجنتين:( وَدَخَلَ جَنّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ ) .

ولهذا الظلم وجهان اثنان:

الوجه الأوّل: الانشداد إلى متاع الحياة الدنيا، وطول الأمل فيه، حتى كأنّه لا يبيد ولا يفنى:( قَالَ مَا أَظُنّ أَن تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً ) . وهو أمر طبيعي، فإنّ الإنسان إذا شدّ كل حبال نفسه بالدنيا ودّ لو لم ينقطع عن الدنيا، وتبقى له ولا تبيد، وهو بمعنى طول الأمل.

والوجه الثاني: قطع الرجاء والأمل عن الله في مقابل طول الأمل بالدنيا، حتى كأنّ الساعة لا تقوم، وإلى هذا الإحساس الباطني المكتوم تشير الآية الكريمة:( وَمَا أَظُنّ السّاعَةَ قَائِمَةً ) . وهذان وجهان لحقيقةٍ واحدةٍ، لا يمكن التفكيك بينهما.

والفصل الأخير من مأساة ( الأنا ) في هذا الحوار أنّ الإنسان عندما يسترسل في الطغيان يتحوّل عنده - بالتدريج - الشعور بالفقر إلى الله إلى إحساس بالاستحقاق على الله.

( وَلَئِن رّدِدتّ إِلَى‏ رَبّي لأَجِدَنّ خَيْراً مِنْهَا مُنقَلَباً ) فهو يفترض أنّه في الآخرة - لو قامت الساعة - لا يقلّ مالاً وولداً عنه في الدنيا، بل يجد فيها خيراً ممّا يملك في الدنيا منقلباً.

٧٩

وليس يطلب ذلك من الله تعالى، ولا يرجوه، ولا يسعى لتحصيله سعياً في الدنيا، وإنّما يفترض أنّه يستحقّ ذلك على الله استحقاقاً!

ولا يُخفى في نفس الوقت شكّه في أن تقوم الساعة:( وَلَئِن رّدِدتّ إِلَى‏ رَبّي ) ، وينتهي هذا الطرف من الحوار هنا، ويبدأ ذكر الطرف الآخر من الحوار، وهو نموذج آخر من الشخصية يختلف عن النموذج الأوّل في مكوّناته ومنطلقاته.

فلنتأمّل في هذا الشطر الآخر من الحوار:( قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمّ مِن نُطْفَةٍ ثُمّ سَوّاكَ رَجُلاً ) .

وهذه أبرز نقطة تلفت النظر في هذا الحوار: فلم يسبق من صاحب الجنتين إنكار لله تعالى بالصراحة، عدا ما سبق منه من التشكيك في أن تقوم الساعة، فما مصدر هذه النسبة التي ينسبها إليه صاحبه المؤمن الذي يحاوره؟ إنّ هذا الكفر هو كفر بالله تعالى في مقام التعامل، يستبطنه الموقف العملي لصاحب الجنّتين وطريقة تعامله مع نعم الله تعالى.

إلاّ أنّ صاحب الجنّتين يحاول أن يتكتّم عليه ويخفيه ويحاول صاحبه المؤمن الذي يحاوره أن يجابهه به علانية، ويقرَّعه به ليردعه عنه.

وهذه هي الحقيقة التي أكّدناها من قَبل، فإنّ في كل بروز للأنا اختفاء للتوحيد في علاقة الإنسان بالله، والمرحلة الأولى منه الشرك، والمرحلة الأخيرة الكفر.

ولنتأمّل في البقية من هذا الحوار:( لكِنّا هُوَ اللّهُ رَبّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبّي أَحَداً * وَلَوْلاَ إِذْ دَخَلْتَ جَنّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللّهُ لاَ قُوّةَ إِلاّ بِاللّهِ إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً * فَعَسَى‏ رَبّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِن جَنّتِكَ ) . وهذا شطرٌ آخر من الخلاف في طريقة التعامل مع الأنا من هذين النموذجين من الشخصية فإذا كان ( الأنا ) أبرز شيء في كلام المحاور الأوّل، فإنّ ( الأنا ) هنا يختفي، ويبرز التوحيد بشكل بارز:( لكِنّا هُوَ اللّهُ رَبّي ) .

والفرق بين ( الأنا ) في كلام هذا وذاك هو مفتاح فهم كل من هاتين الشخصيتين وأساس الفرق بينهما:( أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزّ نَفَراً ) ، ( لكِنّا هُوَ اللّهُ رَبّي ) . وإذا كان

٨٠