وهذا ( الكفر ) من الكفر في مقام العمل، وليس من الكفر في ( العقيدة ). وقد يختلفان فيبقى الإنسان في العقيدة مؤمناً بالله تعالى خالقاً ورازقاً ورباً، ولكنّه في مرحلة العمل ينسى الله تعالى ويُنْكره تماماً في اهتماماته وجهده، وحركته ومشاعره، ويتحرّك حول نفسه، ويتحوّل من محور ( الله ) إلى محور ( الأنا )، وينفك تماماً عن المحور الأوّل، ويرتبط تماماً بالمحور الثاني.
وهذا الكفر في التعامل قد يستتبع الكفر في العقيدة وقد يفارق الكفر في العقيدة، ولكنّ القرآن يحكم عليه بالكفر، كما يحكم على الحالة الأولى منها بالشرك.
قصّة صاحب الجنّتين:
وفي قصّة صاحب الجنّتين، في سورة الكهف نلتقي - نحن - هذه الحالة من الكفر المستبطن في التعامل.
ولنقرأ هذه القصّة في سورة الكهف:
(
وَاضْرِبْ لَهُم مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً * كِلْتَا الجنّتين آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِنْهُ شَيئاً وَفَجّرْنَا خِلاَلَهُمَا نَهْراً * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزّ نَفَراً * وَدَخَلَ جَنّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنّ أَن تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً * وَمَا أَظُنّ السّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رّدِدتّ إِلَى رَبّي لأَجِدَنّ خَيْراً مِنْهَا مُنقَلَباً * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمّ مِن نُطْفَةٍ ثُمّ سَوّاكَ رَجُلاً * لكِنّ هُوَ اللّهُ رَبّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبّي أَحَداً * وَلَوْلاَ إِذْ دَخَلْتَ جَنّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللّهُ لاَ قُوّةَ إِلاّ بِاللّهِ إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً * فَعَسَى رَبّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِن جَنّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنَ السّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً * وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلّبُ كَفّيْهِ عَلَى ما أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبّي أَحَداً * وَلَمْ تَكُن لّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَمَا كَانَ مَنتَصِراً * هُنَالِكَ الْوَلاَيَةُ للّهِِ الْحَقّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً
)
،
[ الكهف: ٣٢ - ٤٤ ].
ولنتأمل في هذه الآيات فإنّها غنية بالمفاهيم والأفكار، وأوّل ما يلفت نظرنا في هذه الآيات تأكيد القرآن على ربط هذه النعم بالله تعالى:(
جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنّتَيْنِ
)
،(
وَفَجّرْنَا خِلاَلَهُمَا نَهْراً
)
.
ولا شكّ أنّها عناية مقصودة في بداية القصّة، وهو أحد الاتجاهين المختلفين في الحوار الذي يجري في جوّ هذه القصّة في سورة الكهف.
وهذا الاتّجاه هو ربط كلّ نعمةٍ وموهبةٍ وخيرٍ ورزقٍ في حياة الإنسان بالله تعالى والتأكيد على هذا الربط، في مقابل الاتجاه الآخر الذي نقرأه في هذه القصّة؛ وهو فكّ ارتباط النعم عن الله تعالى وربطها بالإنسان واعتبار الإنسان هو صاحب هذه النعم ووليّها.
ويبرز هذا الاتجاه في الحوار الذي يجري في القصة في كلمة صاحب الجنّتين لصاحبه، وهو يحاوره:(
أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزّ نَفَراً
)
، فالمال والنفر العزيز للأنا، وليس لارتباطهما بالله تعالى ذكر أو إشارة.
ومن عجبٍ أنّ هذه النعم الموصولة بالله تعالى بدل أن تتحوّل في نفس صاحب الجنّتين إلى إحساس بالشكر والتواضع لله تعالى تتحوّل في نفسه إلى طغيان للأنانية وبروز صارخ للأنا أولاً، ثمّ إلى تكاثر وتفاخر ومباهاة:(
فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزّ نَفَراً
)
.
وسبب بروز ( الأنا ) وطغيانه عند صاحب الجنّتين ليس هو ( النعمة ) وإنّما طريقة فهمه للنعمة وعلاقة النعمة به؛ أنّ النعمة عنده له، وهو وليّها، وليس لأحدٍ فضل عليه فيها. بعكس التصوّر الذي يقدّمه القرآن لعلاقة الإنسان بالنعمة والتي أشرنا إليها قريباً، فإنّ النعمة، بناء على التصوّر القرآني لله وهو وليها، وليس لصاحب النعمة فيها شأن أو فضل، إلاّ أنّ الله تعالى أودعها عنده وجعله خليفة عليها.
وهذان التصوّران مفتاحان لنمطين من الشخصيّة يشير إليهما الحوار الذي يجري في سورة الكهف في قصّة صاحب الجنّتين، ولكلّ من هاتين الشخصيتين