القصص التربوية

القصص التربوية13%

القصص التربوية مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 421

القصص التربوية
  • البداية
  • السابق
  • 421 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 347751 / تحميل: 10129
الحجم الحجم الحجم
القصص التربوية

القصص التربوية

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

القَصص التربويَّة

عند الشيخ محمَّد تقي فلسفي

١

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

٢

القَصَص التربويَّة

عند الشيخ محمد تقي فلسفي

لطيف الراشدي

٣

٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

مُقدِّمة

الحمد لله الواحد المنَّان، الذي خلق الإنسان، وعلَّمه البيان ووضع الميزان، والصلاة الأبد، والسلام السرمد على مَن بُعث إلى الخلائق بالقرآن، وعلى آله الأطهرين، الذين هم أمناء الرحمان.

أمَّا بعد:

فلا يخفى على أحد، أنَّ التربية جزء لا يتجزَّأ مِن الحياة الإنسانيَّة، وقد مَنَّ الله تعالى على عباده؛ إذ بعث فيهم رسولاً، يتلو عليهم آياته، ويُزكِّيهم ويُعلِّمهم الكتاب والحِكمة.

ولا ريب، بأنَّ الله تعالى أنزل القرآن هُدىً للمُتَّقين، الذين يؤمنون بالغيب و...

وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (إنَّ قومي اتَّخذوا هذا القرآن مهجوراً...)، وفي كلام آخر قال (صلى الله عليه وآله وسلم): (إنِّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، وعِترتي، ما إنْ تمسَّكتم بهما لن تضلوا...).

والتربية للإنسان، هي الهداية والنجاة مِن الضلالة. وغنيٌّ عن البيان، بأنَّ التربية الإسلاميَّة، هي الطريق والسبيل الوحيد للنجاة مِن الضلالة؛ فيجب على مَن يطلب السعادة في الدارين، أنْ يتمسَّك بالتربية والشريعة الإسلاميَّة.

فنجد في هذه الشريعة المُقدَّسة رجالاً، يتمثَّلون تعاليم هذه الشريعة المُقدَّسة، قد أدَّبهم الله فأحسن تأديبهم، والتزموا هذا الأدب والتربية الإلهيَّة.

٥

وعلى الذين يرغبون في الحياة النبيلة، والعَيش الهنيء أنْ يتَّبعوا خُطاهم وحياتهم السامية. وها نحن نَقصُّ حياتهم وسيرتهم، تحت عنوان (القَصص التربويَّة) ، آملين تطبيقها في حياتنا؛ لكي نفوز بالدارين... والله عنده حسن المآب...

دعواهم فيها سبحانك اللَّهمَّ وتحيَّتهم فيها سلام، وآخر دعواهم أنْ الحمد لله رَبِّ العالمين.

العبد

لطيف محمد علي مُطوَّف الراشدي

٦

لا إفراط ولا تفريط

كان في مدينة البصرة أخوان أحدهما يُدعى: العلاء بن زياد الحارثي، والآخر: عاصم. وكانا كلاهما مِن المُخلصين لعليٍّ (عليه السلام)، ولكنْ كانا مُختلفيَن في السُّلوك، فعلاء مُفرِط في حُبِّه للدنيا وجمعه للمال... أمَّا عاصم، فكان على العَكس منه مُدْبِراً ظهره للدنيا، صارفاً جُلَّ وقته في العبادة وتحصيل الكمالات الروحيَّة، وفي الواقع كانا كلاهما قد تجاوز الطريق المُستقيم، وانحرف عن الصراط السويِّ...

وذات يوم مَرِض العلاء، فذهب علي (عليه السلام) لعيادته، وما أنْ استقرَّ به الجلوس، حتَّى التفت الإمام إلى سِعة عَيشه، وإفراطه في سَعيه وراء الدنيا؛ فخاطبه قائلاً: (وماذا تصنع - يا علاء - بهذه السِّعة المُفرِطة مِن العَيش؟ إنَّك إلى تحصيل وسائل سعادتك المعنويَّة أحوج، فاسعِ في ذلك الجانب أيضاً...)، ثمَّ قال (عليه السلام): (اللَّهمَّ إلاَّ أنْ تكن عملتَ ذلك كلَّه؛ لتمهيد طريق السعادة المعنويَّة؛ لتتمكَّن مِن استقبال الضيوف في بيتك، وتستطيع صِلة أرحامك، وأداء حقوق إخوانك بأكمل وجه) (١) .

لقد أثَّر هذا الدرس البليغ، بأسلوبه الهادئ المَتين في علاء كثيراً، وجاشت به العواطف للشكوى مِن تفريط أخيه؛ فقال: يا أمير المؤمنين، أشكو إليك عاصم بن زياد.

قال: (وما له؟).

قال: لبس العَباء، وتخلَّى عن الدنيا.

قال: (عليَّ به!).

وبعد أنْ حضر عاصم بين يدي الإمام، وبَّخَه الإمام قائلاً: (يا عُدَيَّ نفسه، لقد استهام بك الخبيثُ! أما رحمتَ أهلك ووِلدَك؟! أترى الله أحلَّ لك الطيِّبات وهو يكره أنْ تأخُذها؟! أنت أهون على الله مِن ذلك...).

____________________

(١) مُلاحظة: لمعرفة نصِّ الكلام راجع نهج البلاغة للإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) جمعه الشريف الرضيِّ.

٧

مِن خِلال هذه القِصَّة التاريخيَّة؛ يتَّضح لنا مدى استقامة المنهج الإسلامي، الذي نطق به الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهو يُعبِّر عن تعاليم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وحكم الله عَزَّ وجَلَّ...

لكن بقيت في نفس عاصم بن زياد مُشكلةٌ لم يجد لها حَلاً، وهي كيفيَّة التوفيق بين كلام الإمام (عليه السلام) وعمله؛ حيث قد زهد في الدنيا، وترك الملاذَّ.

فاندفع لسؤاله، وما أسرع أنْ قال:

(... يا أمير المؤمنين، هذا أنت في خشونة مَلبسك وجُشوبة مأكلك؟!).

فقال الأمير: (إنِّي لستُ كأنت... إنَّ الله فرض على أئمَّة الحَقِّ أنْ يُقدِّروا أنفسهم بضَعَفَة الناس؛ كي لا يتبيَّغ بالفقيرة فقره...) (١) .

____________________

(١) الطفل، ج١.

٨

الخال أحد الضجيعين

كان محمد بن الحنفية بن الإمام علي (عليه السلام)، حامل اللواء في حرب الجَمل، فأمره عليٌّ بالهجوم فأجهز على العدوِّ، لكنَّ ضربات الأسنَّة، ورشقات السِّهام منعته مِن التقدُّم فتوقَّف قليلاً... وسرعان ما وصل إليه الإمام، وقال له: (احمل بين الأسنَّة)؛ فتقدَّم قليلاً ثمَّ توقَّف ثانية، فتأثَّر الإمام مِن ضُعف ابنه، فاقترب منه، و(... ضربه بقائم سيفه، وقال له: (أدركك عِرقٌ مِن أُمِّك).

مِن الواضح هنا، أنَّ الجُبن الذي ظهر واضحاً في ابنه محمد، ليس موروثاً منه (عليه السلام)؛ لأنَّه لم يَعرف للجُبن مَعنى قَطّ، فلا بُدَّ وأنْ يكون مِن أُمِّه؛ لأنَّها لم تكن مِن الفضيلة بدرجة، تكون معها بمنزلة الصِّدِّيقة الزهراء (عليها السلام) (١) .

____________________

(١) الطفل، ج١.

٩

كلُّ إنسان بينه وبين آدم صِلة

عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (أتى رجُلٌ مِن الأنصار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال: هذه ابنة عَمِّي وامرأتي، لا أعلم منها إلاَّ خيراً، وقد أتتني بولدٍ شديد السواد، مُنتشِر المِنخر، جَعْدٌ، قَطَطٌ، أفطس الأنف، لا أعرف شَبَهه في أخوالي ولا في أجدادي.

فقال لامرأته: ما تقولين؟

قالت: لا والذي بعثك بالحق نبيَّاً، ما أقعدت مقعده مِنِّي - مُنذ ملكني - أحداً غيره)

قال: (فأطرق رسول الله رأسه مَليَّاً، ثمَّ رفع بصره إلى السماء، ثمَّ أقبل على الرجل، فقال: يا هذا، إنَّه ليس مِن أحد إلاَّ بينه وبين آدم تسعة وتسعون عِرقاً، كلُّها تضرب في النسب، فإذا وقعت النطفة في الرحم اضطربت تلك العُروق، وسألتْ الله الشَّبَه لها، فهذا مِن تلك العُروق التي لم تُدركها أجدادك ولا أجداد أجدادك، خذ إليك ابنك!).

فقالت المرأة: فرَّجت عنِّي يا رسول الله (١) .

____________________

(١) الطفل، ج١.

١٠

صِفات الابن مِن الأب أو الأُمِّ

عن علي بن الحسين، عن أبيه، عن علي (عليه السلام) قال: (أقبل رجل مِن الأنصار إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال: يا رسول الله، هذه بنت عمي وأنا فلان بن فلان.. حتَّى عَدَّ عشرة مِن آبائه، وهي بنت فُلان... حتَّى عَدَّ عشرةً مِن آبائها، ليس في حَسبي ولا حَسبها حَبشيٌّ، وإنَّها وضعت هذا الحبشيَّ، فأطرق رسول الله طويلاً، ثمَّ رفع رأسه، فقال: إنَّ لك تسعة وتسعين عِرقاً، ولها تسعة وتسعين عِرقاً، فإذا اشتملت اضطربت العُروق وسأل الله عَزَّ وجَلَّ كلَّ عِرقٍ منها أنْ يذهب الشَبَه إليه. قُمْ، فإنَّه وَلَدُك، ولم يأتك إلاَّ مِن عِرقٍ منك أو عِرقٍ منها.

قال: فقام الرجل، وأخذ بيد امرأته وازداد بها وبولدها عجباً) (١) .

____________________

(١) الطفل، ج١.

١١

الاستعمال يكون بعد التجربة

سأل المأمون العباسي بعض خواصِّه ومَحارمه يوماً، سبب ما يُلاقيه مِن: جَفاء، وخيانة، وقِلَّة إنصاف مِن بعض أصحابه وأقاربه، الذين كان قد قلَّدهم مناصب عاليةً، ورُتباً مُهمَّة في الدولة، في حين أنَّ المفروض أنْ يُقابلوا إحسانه بالإحسان لا الإساءة.

فقال له أحدهم: إنَّ المَعنيِّين بأمر الحَمْام الزاجل، والمُهتمِّين بتربيته، يتحقَّقون عن أصله وفَصيله الذي ينتمي إليه، وعندما يطمئنُّون إلى عَراقة نسبه يهتمُّون بتربيته كثيراً، ويَجنون مِن ذلك فوائد كثيرة... وأنت يا أمير المؤمنين، تأخذ أقواماً مِن غير أُصول ولا تدريج، فتبلغ بهم الغايات، فلا يكون منهم ما تؤثِره.

فمِن الطبيعي أنْ لا يكون مَن يتمُّ اختيارهم لأشغال ومناصب، دون امتحان ولا نظر في أصولهم وأحسابهم وأنسابهم على حالة غير مرضيَّة مِن حيث الإخلاص والأمانة والوفاء...

إنَّ الإسلام يرى في سُلوك الآباء والأُمَّهات، تأثيراً كبيراً على سلوك أبنائهم، الذين يرثون صفاتهم الصالحة أو الطالحة؛ ولذلك نجد القرآن الكريم يحكي على لسان نوح هذه الحقيقة الناصعة؛ حيث يقول - بعد أنْ يئس مِن هداية قومه، طِيلة تسعمئة وخمسين عام (١) .

____________________

(١) الطفل، ج١.

١٢

الجُملة العصبيَّة هي الأساس

جاءت امرأة في زمن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، ولدت مِن زوجها طفلاً له بدنان ورأسان على حُقوٍ واحدٍ، وتحيَّرت هي وقومها في حِصَّته مِن الإرث، هل يُعطى حِصَّة واحدة أم حِصَّتين؟

فصاروا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) يسألونه عن ذلك؛ ليعرفوا الحكم فيه، فكان جواب الإمام (عليه السلام): (اعتبروا إذا نام ثمَّ نبِّهوا أحد البدنين والرأسين، فإنْ انتبها معاً، في حالة واحدة؛ فهُما إنسان واحد، وإنْ استيقظ أحدهما والآخر نائم؛ فهُما اثنان وحَقُّهما مِن الميراث حَقُّ اثنين).

والسِّرُّ في هذا القضاء العادل، والحكم الدقيق واضح؛ لأنَّه اعتبر مِلاك الحُكم هو المركز العَصَبي؛ إذ عليه المُعوَّل في توجيه الإنسان، فإنْ كانت قيادة واحدة توجِّه البدنين والرأسين؛ فهو شخصٌ واحدٌ، ولكنْ إذا كان كلُّ قسم يُدار مِن قِبَل جهازٍ عصبيٍّ مُستقلٍّ عن الآخر، فهما بدنان (١) .

____________________

(١) الطفل، ج١.

١٣

الفَرق بين قضاء الله وقَدَره

عن ابن نُباتة، قال: إنَّ أمير المؤمنين عدل مِن عند حائط مائل إلى حائط آخر.

فقيل له: يا أمير المؤمنين، تَفرُّ مِن قضاء الله؟!

قال: (أفرُّ مِن قضاء الله إلى قَدَر الله عَزَّ وجَلَّ) (١) .

____________________

(١) الطفل، ج١.

١٤

بأبي وأُمِّي مَن لم ينخل له طعام

يقول سويد بن غفلة: دخلت على الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يوماً، وقد حان وقت طعامه، فرأيته جالساً على جانب مائدة، وفي يده رغيف أرى قِشار الشعير في وجهه، فذهبت إلى خادمته، وقلت لها:

يا فضة، ألا تتَّقين الله في هذا الشيخ؟! ألا تنخلون له طعاماً مِمَّا أرى فيه مِن النِّخالة؟!

فقالت: قد تقدَّم إلينا أنْ لا ننخل له طعاماً...

فرجع سويد إلى الإمام ثانية، وذكر قِصَّته مع فِضَّة، فتبيَّن أنَّ الإمام (عليه السلام) قد أخذ هذا الأُسلوب مِن النبيِّ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)... ثمَّ ذكر عظمة النبي قائلاً: (بأبي وأُمِّي، مَن لم يُنخل له طعامٌ) (١) .

____________________

(١) الطفل، ج١.

١٥

عن مِثل هذا الرجُل أخبرتك

بينما المنصور بن أبي عامر في بعض غزواته، إذ وقف على نَشزٍ مِن الأرض مُرتفعٍ، فرأى جيوش المسلمين مِن بين يديه، ومِن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله قد ملؤوا السهل والجَبل، فالتفت إلى مُقدَّم العسكر وهو رجل يُعرَف بابن المضجعي.

فقال له: كيف ترى هذا العسكر أيُّها الوزير؟

قال: أرى جمعاً كثيراً، وجيشاً واسعاً كبيراً.

فقال له المنصور: تُرى، هل يكون في هذا الجيش ألف مُقاتل مِن أهل الشجاعة والنجدة والبَسالة؟

فسكت ابن المَضجعي.

فقال له المنصور: ما سكوتك؟! أليس في هذا الجيش ألف مُقاتل؟!

قال: لا.

فتعجَّب المنصور، ثمَّ قال: فهل فيهم خمسمئة مُقاتل مِن الأبطال المَعدودين؟

قال: لا.

فحَنَق المنصور، ثمَّ قال: أفيهم مِئة رجل من الأبطال؟

قال: لا.

قال: أفيهم خمسون رجُلاً مِن الأبطال؟

قال: لا.

فسبَّه المنصور، وأغلظ عليه وأمر به، فأُخرِج على أسوأ حالٍ، فلمَّا توسطَّوا بلاد الورم، اجتمعت الروم وتصادف الجَمعان، فبرز عِلْجٌ مِن الروم بين الصَّفَّين شاكي السلاح، وجعل يكرُّ ويفرُّ ويقول: هل مِن مُبارز؟!

فبرز إليه رجل مِن المسلمين فتجاولا ساعة، فقتله العِلْجُ؛ ففرِح المُشركون وصاحوا، واضطرب المسلمون له. ثمَّ جعل العِلْج يموج بين الصَّفَّين ويُنادي: هل مِن مُبارز؟! اثنين لواحد

فبرز إليه

١٦

رجل مِن المسلمين، فتجاولا ساعة، فقتله العِلْج، وجعل يكرُّ ويحمل ويُنادي ويقول: هل مِن مُبارز؟! ثلاثة لواحد!!

فبرز إليه رجل مِن المسلمين فقتله العِلْج، فصاح المُشركون وذَلَّ المسلمون، وكادت أنْ تكون كَسرة.

فقيل للمنصور: ما لها إلاَّ ابن المضجعي، فبعث إليه، فحضر، فقال له المنصور: ألا ترى ما صنع هذا العِلْج... منذ هذا اليوم.

فقال: لقد رأيته، فما الذي تُريد؟

قال: أنْ تكفي المسلمين شَرَّه.

قال: الآن يُكفى المسلمون شَرَّه، إنْ شاء الله تعالى.

ثمَّ قصد إلى رجال يعرفهم، فاستقبله رجل مِن أهل الثغور، على فرس قد تَهرَّت أوراكها هَزالاً، وهو حامل قِربة ماء بين يديه على الفرس، والرجل في حليته ونفسه غير مُتصنِّع.

فقال له ابن المضجعي: ألا ترى ما يصنع هذا العِلْج مُنذ اليوم؟!

قال: قد رأيته، فما الذي تُريد؟

... أنْ تكفي المسلمين شَرَّه؟

قال: حُبَّاً وكَرامة.

ثمَّ إنَّه وضع القِربة على الأرض، وبرز إليه غير مُكترث به، فتجاولا ساعة، فلم يرَ الناس إلاَّ والمسلم خارجاً إليهم يركض، ولا يدرون ما هناك، وإذا برأس العِلْج يلعب بها في يده، ثمَّ ألقى الرأس بين يدي المنصور.

فقال له ابن المضجعي: عن هؤلاء الرجال أخبرتك... ثم رد المنصور إلى ابن المضجعي منزلته وأكرمه، ونصر الله جيوش المسلمين وعساكر الموحِّدين (١) .

____________________

(١) الطفل، ج١.

١٧

الذاكرة الخارقة

أبو زكريَّا التبريزي، تلميذ أبي العلاء المَعرِّي، وقد تَلمذ على يده سنوات عديدة، ولمَّا كان أبو العلاء مكفوف البصر، فقد كان لا يستطيع القراءة. وفي أحد الأيَّام كان أبو زكريَّا يقرأ لأبي العلاء كتاباً له في مسجد المَعرَّة. وفي الأثناء حضر مُسافر مِن تبريز إلى الجامع ليُصلِّي، فسَرَّ أبو زكريَّا لرؤيته كثيراً، وتوقَّف عن قراءة الكتاب عِدَّة لحظات، فسأله الأستاذ عن السبب، فأخبره بمجيء صاحبه، فأمره أبو العلاء بأنْ يذهب إليه ويتحدَّث معه.

فقال له: أمهلني أكمل الصفحة.

قال: لا، وسأنتظرك حتَّى تُنهي حديثك.

فجلس أبو زكريَّا مع صاحبه، على بُعْد خَطوات مِن أبي العلاء، وأخذ يتحدَّث معه باللغة التركيَّة المحلِّيَّة في تبريز، ويسأله عن بعض القضايا فيُجيبه، وعندما رجع إلى أستاذه سأله: أيَّ لغة هذه؟

قال: لغة آذربايجان!

فقال: إنِّي لم أفهم ما جرى بينكما مِن حديث، ولكنِّي حفظت ما قلتماه، وأعاد جميع الألفاظ بلا زيادة أو نُقصان، فتعجَّب صاحب أبي زكريَّا مِن حافظة أُستاذه بشِدَّة، وكيف أنَّه حَفِظ تلك الألفاظ بسُرعة، دون أنْ يفهم معانيها (١) .

____________________

(١) الطفل، ج١.

١٨

واعمراه لولا عليٌّ لهَلك عمر

قال: سمعت غلاماً بالمدينة، وهو يقول: يا أحكم الحاكمين، أُحكم بيني وبين أُمِّي! فقال له عمر بن الخطاب: يا غلام، لمَ تَدْعُو على أُمِّك؟!

فقال: يا أمير المؤمنين، إنَّها حملتني في بطنها تسعاً، وأرضعتني حولين كاملين، فلمَّا ترعرعتُ وعرفت الخير مِن الشَّرِّ ويميني مِن شِمالي طردتني، وانتفت مِنِّي، وزعمت أنَّها لا تعرفني.

فقال عمر: أين تكون الوالدة؟

قال: في سقيفة بني فلان.

فقال عمر: عليَّ بأُمِّ الغُلام. فأتوا بها مع أربعة أخوة لها، وأربعين قَسَّامة يشهدون لها أنَّها لا تعرف الصبي، وأنَّ هذا الغُلام مدَّعٍ ظالم، يُريد أنْ يفضحها في عشيرتها، وأنَّ هذه جارية مِن قريش لم تتزوَّج قطُّ؛ لأنَّها بخِتام ربِّها.

فقال عمر: يا غُلام، ما تقول؟

فقال: يا أمير المؤمنين، هذه - والله - أُمِّي! حملتني في بطنها تسعاً، وأرضعتني حولين كاملين، فلمَّا ترعرعت وعرفتُ الخير والشَّرَّ، ويميني مِن شمالي طردتني، وانتفت مِنِّي، وزعمتْ أنَّها لا تعرفني!

فقال عمر: يا هذه، ما يقول الغُلام؟

فقالت: يا أمير المؤمنين، والذي احتجب بالنور، فلا عين تراه، وحَقِّ محمد وما ولد، ما أعرفه ولا أدري مِن أيِّ الناس هو! وإنَّه غلام يُريد أنْ يفضحني في عشيرتي، وأنا جارية مِن قريش، ولم أتزوَّج قطُّ، وإني بخاتم ربِّي.

فقال عمر: ألكِ شهودٌ؟

١٩

فقالت: نعم هؤلاء، فتقدَّم الأربعون قَسامة، وشهدوا عند عمر أنَّ الغُلام مُدَّعٍ، يُريد أنْ يفضحها في عشيرتها، وأنْ هذه جارية مِن قريش لم تتزوَّج قَطُّ، وأنَّها بخاتم رَبِّه.

فقال عمر: خذوا بيد الغُلام وانطلقوا به إلى السِّجن، حتَّى نسأل عن الشهود، فإنْ عَدْلت شهادتهم جَلدته حُدَّ المُفتري. فأخذوا بيد الغُلام، وانطلقوا به إلى السِّجن، فتلقَّاهم أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام) في بعض الطُّرق، فنادى الغُلام: يا ابن عَمِّ رسول الله، إنِّي غُلام مظلوم، وأعاد عليه الكلام الذي تكلَّم به عند عمر، ثمَّ قال: وهذا عمر قد أمر بي إلى السِّجن.

فقال عليٌّ (عليه السلام): (ردُّوه إلى عمر).

فلمَّا ردُّوه قال لهم عمر: أمرت به إلى السِّجن فرددتموه إليَّ!

فقالوا: يا أمير المؤمنين، أمرنا عليُّ بن أبي طالب أنْ نرُدَّه إليك، وسمعناك تقول: لا تعصوا لعليٍّ أمراً.

فبينا هم كذلك، إذ أقبل عليٌّ (عليه السلام)، فقال: (عليَّ، بأمِّ الغُلام)، فأتوا بها.

فقال عليٌّ (عليه السلام): (يا غُلام، ما تقول؟).

فأعاد الكلام على عليٍّ (عليه السلام).

فقال علي لعمر: (أتأذن لي أنْ أقضي بينهم؟).

فقال عمر: سبحان الله، وكيف لا، وقد سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: أعدلكم عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام).

ثمَّ قال للمرأة: (يا هذه المرأة، ألك شهود؟).

قالت: نعم، فتقدَّم الأربعون قَسَّامة، فشهدوا بالشهادة الأُولى.

فقال عليٌّ (عليه السلام): (لأقضينَّ اليوم بينكم بقضيَّة، هي مرضاة الرَّبِّ مِن فوق عرشه، علمنيها حبيبي رسول الله).

فقال لها: (ألك وليٌّ؟).

قالت: نعم، هؤلاء إخوتي.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

وقال الفضل(١) :

مذهب الأشاعرة : إنّ الله تعالى (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ )(٢) ، كما نصّ عليه في كتابه ، ولا خالق سواه

ويعاقب الناس على كسبهم ومباشرتهم الذنوب والمعاصي ، ويلوم العباد بالكسب الذميم ، وهو يخلق الأشياء ، والله يخلق الإعراض ، ولكنّ العبد مباشر للإعراض فهو معرض ، والمعرض من يباشر الفعل لا من يخلق ، وكذا المنع(٣) .

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٢٨٢.

(٢) سورة الأنعام ٦ : ١٠٢ ، سورة الرعد ١٣ : ١٦ ، سورة الزمر ٣٩ : ٦٢ ، سورة غافر ٤٠ : ٦٢.

(٣) انظر : اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ٦٩ ـ ٩١ ، تمهيد الأوائل : ٣٤١ ـ ٣٤٥ ، الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ٨٦ ـ ٩٣ ، المسائل الخمسون : ٥٩ ـ ٦١ ، شرح العقائد النسفية : ١٣٥ ـ ١٣٩.

٣٤١

وأقول :

لا يخفى أنّ قوله تعالى : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) وارد في مقامين من الكتاب المجيد

الأوّل : قوله تعالى في سورة الأنعام : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ )(١) .

وهو ظاهر في غير أفعال العباد ؛ لأنّه سبحانه قد جعل الأمر بعبادته واستحقاقه لها فرعا عن وحدانيّته وخلقه للكائنات.

ومن الواضح أنّ تفريع الأمر بالعبادة على خلق الكائنات إنّما يتمّ إذا كانت العبادة فعلا للعبد ، إذ لا معنى لقولنا : لا إله إلّا هو خالق عبادتكم وغيرها فاعبدوه.

الثاني : قوله تعالى في سورة الرعد : (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ )(٢) .

وقد استدلّ المجبّرة بهذه الآية على مذهبهم من حيث اشتمالها على العموم ، وعلى إنكار من يخلق كخلقه(٣) .

وأجيب بأنّ الآية وردت حجّة على الكفّار ، فلو أريد بها العموم

__________________

(١) سورة الأنعام ٦ : ١٠٢.

(٢) سورة الرعد ١٣ : ١٦.

(٣) تمهيد الأوائل : ٣٤٥ ، الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ٨٨ ـ ٨٩ ، تفسير الفخر الرازي ١٩ / ٣٨.

٣٤٢

لأفعال العباد لانقلبت الحجّة بها للكفّار ؛ لأنّه إذا كان هو الخالق لشركهم لمّا صلح الإنكار عليهم به ، وكان لهم أن يقولوا : إذا كنت قد فعلت ذلك بنا فلم تنكر علينا بفعل فعلته فينا ونحن لا أثر لنا فيه أصلا؟!

مضافا إلى أنّ المراد الإنكار عليهم في جعل آلهة لا يمكن الاشتباه بإلهيّتهم ، إذ لم يجعلوا لله تعالى شركاء لهم خلق يشبه خلقه حتّى يحصل به الالتباس في الإلهية.

وهذا إنّما يراد به المخلوقات المناسبة للإلهية كالسماوات والأرض والأجسام والأعراض ، فيكون عموم قوله تعالى : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) إنّما هو بالنسبة إلى تلك المخلوقات ، لا مثل الشرك والإلحاد والظلم والفساد ونحوها ، ممّا يصدر من البشر ويتنزّه عنه خالق العجائب وعظام الأمور وبديع السماوات والأرضين.

ولو أعرضنا عن ذلك كلّه فالعموم مخصّص بالأدلّة العقلية والنقلية ، الكتابية وغيرها ، الدالّة على إنّ العباد هم الفاعلون لأفعالهم ، كما ستعرف إن شاء الله.

وأمّا قوله : « ويعاقب الناس على كسبهم ومباشرتهم الذنوب ».

ففيه : إنّ الكسب إن كان من فعلهم فقد خرج عن مذهبه ، وإن كان من فعل الله تعالى فالإشكال بحاله ؛ إذ كيف يعاقبهم على فعله؟!

وأمّا قوله : « والمعرض من يباشر الإعراض لا من يخلق ».

ففيه : إنّ المصنّف لم يدّع صدق المعرض على الله تعالى بناء على مذهبهم حتّى يجيبه بذلك ، بل يقول في تقرير مذهبهم : إنّه سبحانه يخلق الإعراض في الناس ، وينكر على المعرض أي المحلّ الذي يخلق فيه الإعراض ، كما هو مراد الخصم بمباشر الإعراض.

٣٤٣

وبالضرورة أنّ الإنكار على المحلّ الذي لا أثر له بوجه أصلا جزاف لا يرتضيه العقل ، وإنّما حقّ الإنكار أن يقع على الفاعل المؤثّر.

ومثله الكلام في قوله تعالى : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا )(١) ؛ إذ كيف ينكر عليهم وهو الذي منعهم؟!

* * *

__________________

(١) سورة الإسراء ١٧ : ٩٤.

٣٤٤

قال المصنّف ـ عطّر الله ثراه ـ(١) :

وقالت الإمامية : إنّ الله تعالى لم يفعل شيئا عبثا ، بل إنّما يفعل لغرض ومصلحة ، وإنّما يمرض لمصالح العباد ، ويعوّض الثواب ، بحيث ينتفي العبث والظلم(٢) .

وقالت الأشاعرة : لا يجوز أن يفعل الله تعالى شيئا لغرض من الأغراض ، ولا لمصلحة ، ويؤلم العبد بغير مصلحة ولا غرض(٣) .

بل يجوز أن يخلق خلقا في النار مخلّدين فيها من غير أن يكونوا قد عصوا أو لا(٤) .

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٧٤.

(٢) أوائل المقالات : ٥٧ ـ ٥٨ رقم ٢٦ ، الذخيرة في علم الكلام : ١٠٨ وما بعدها ، تقريب المعارف : ١١٤ وما بعدها ، قواعد المرام في علم الكلام : ١١٠ ، تجريد الاعتقاد : ١٩٨.

(٣) الاقتصاد في الاعتقاد ـ للغزّالي ـ : ١١٥ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٩٦ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٥٠ ـ ٣٥٤ ، تفسير الفخر الرازي ٢٨ / ٢٣٣ ـ ٢٣٤ ، المواقف : ٣٣١ ، شرح المواقف ٨ / ٢٠٢.

(٤) اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ١١٥ ـ ١١٧ ، تمهيد الأوائل : ٣٨٢ ـ ٣٨٦ ، الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ١٣٤.

٣٤٥

وقال الفضل(١) :

مذهب الأشاعرة : إنّ أفعال الله تعالى ليست معلّلة بالأغراض.

وقالوا : لا يجوز تعليل أفعاله تعالى بشيء من الأغراض(٢) ـ كما سيجيء بعد هذا ـ ، ووافقهم في ذلك جماهير الحكماء والإلهيّين.

وهو يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، إن أراد تخليد عباده في النار فهو المطاع والحاكم ، ولا تأثير للعصيان في أفعاله ، بل هو المؤثّر المطلق.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٢٨٤.

(٢) المسائل الخمسون : ٦٢ المسألة ٣٧ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٥٠ ، طوالع الأنوار : ٢٠٣ المسألة ٥ ، المواقف : ٣٣١ المقصد ٨ ، شرح المواقف ٨ / ٢٠٢.

٣٤٦

وأقول :

ليس في كلامه إلّا ما يتضمّن تصديق المصنّف بما حكاه عنهم والالتزام بنسبتهم إلى العدل الرحمن ما لا يرضى بنسبته إليه ذو وجدان ، فإنّهم إذا أجازوا عليه سبحانه إيلام عبيده بلا غرض ولا مصلحة ، وتخليد عباده بالنار بلا غرض ولا غاية ، فقد أجازوا أن يكون من العابثين وأظلم الظالمين.

وليت شعري ما الذي حسّن لهم تلك المقالات الجائرة الفاجرة في حقّ خالقهم تبعا لإنسان خطأه أكثر من صوابه؟!

وما زعمه من موافقة الفلاسفة محلّ نظر ؛ إذ لا يبعد أنّ الفلاسفة إنّما ينفون الغرض الذي به الاستكمال دون كلّيّ الغرض(١) ، كما ستعرف إن شاء الله تعالى.

* * *

__________________

(١) انظر مثلا : تهافت التهافت : ٤٩١ ، شرح التجريد : ٤٤٣.

٣٤٧

قال المصنّف ـ أعلى الله مقامه ـ(١) :

وقالت الإمامية : لا يحسن في حكمة الله تعالى أن يظهر المعجزات على يد الكذّابين ، ولا يصدّق المبطلين ، ولا يرسل السفهاء والفسّاق والعصاة(٢) .

وقالت الأشاعرة : يحسن كلّ ذلك(٣) .

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٧٤.

(٢) النكت الاعتقادية : ٣٧ ، تنزيه الأنبياء ـ للشريف المرتضى ـ : ١٧ ـ ١٨ ، المنقذ من التقليد ١ / ٤٢٤ ـ ٤٢٥.

(٣) مقالات الإسلاميّين : ٢٢٦ ، المواقف : ٣٤١ و ٣٥٨ ـ ٣٦٥ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٣٨ ، شرح المواقف ٨ / ٢٢٨ ـ ٢٢٩ و ٢٦٥ و ٢٨١.

٣٤٨

وقال الفضل(١) :

لا حسن ولا قبح بالعقل عند الأشاعرة ، بل جرى عادة الله تعالى بعدم إظهار المعجزة على يد الكذّابين ، لا لقبحه في العقل ، وهو يرسل الرسل ، وهم الصادقون.

ولو شاء الله أن يبعث من يريد من خلقه ، فهو الحاكم في خلقه ، ولا يجب عليه شيء ، ولا شيء منه قبيح ، يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٢٨٦.

٣٤٩

وأقول :

لا يخفى أنّ تجويز إظهار المعجزة على يد الكاذب ـ عقلا ـ مناف لما يذكرونه عند الكلام في عصمة الأنبياء ، من دلالة المعجزة عقلا على عصمتهم عن الكذب ، في دعوى الرسالة وما يبلّغونه عن الله تعالى.

ولكن إذا كان الكلام تبعا للهوى ومبنيّا على شفا جرف هار ، يجوز الاختلاف فيه بمثل ذلك.

وأمّا دعوى جريان العادة بعدم إظهار المعجزة على يد الكاذب ، فمحتاجة إلى دعوى علم الغيب ممّن لم يقبح عقله إظهار المعجزة على يد الكاذب ، فإنّه لم يعرف كلّ كاذب ، ولم يطّلع على أحوالهم ، فلعلّ بعض من يعتقد نبوّته لظهور المعجزة على يده كان كاذبا ، ولا يمكن العلم بعدم المعجزة لكلّ كاذب من إخبار نبيّنا ٦ ـ إذ لعلّه لم يكن نبيّا ـ وإن تواتر ظهور المعجزات على يده ، على إنّه لم يثبت عنه ذلك الإخبار.

ولو ثبت مع نبوّته فخبره لا يفيد العلم ، لتجويز الأشاعرة الكذب في مثل ذلك على الأنبياء سهوا ، بل عمدا(١) ، كما ستعرف إن شاء الله تعالى.

وأمّا تجويزهم أن يرسل الله السفهاء والفسّاق ، فأفظع من ذلك ، وسيجيء تحقيقه إن شاء الله تعالى.

* * *

__________________

(١) انظر : الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ٢٨٤ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٣٢٠.

٣٥٠

قال المصنّف ـ أعلى الله منزلته ـ(١) :

وقالت الإمامية : إنّ الله سبحانه لم يكلّف أحدا فوق طاقته(٢) .

وقالت الأشاعرة : لم يكلّف الله أحدا إلّا فوق طاقته ، وما لا يتمكّن من تركه وفعله ، ولامهم على ترك ما لم يعطهم القدرة على فعله.

وجوّزوا أن يكلّف الله مقطوع اليد الكتابة ، ومن لا مال له الزكاة ، ومن لا يقدر على المشي للزمانة الطيران إلى السماء ، وأن يكلّف العاطل الزمن المفلوج خلق الأجسام ، وأن يجعل القديم محدثا والمحدث قديما.

وجوّزوا أن يرسل رسولا إلى عباده بالمعجزات ليأمرهم بأن يجعلوا الجسم الأسود أبيض دفعة واحدة ، ويأمرهم بالكتابة الحسنة ، ولا يخلق لهم الأيدي والآلات ، وأن يكتبوا في الهواء بغير دواة ولا مداد ولا قلم ولا يد ما يقرأه كلّ أحد(٣) .

وقالت الإمامية : ربّنا أعدل وأحكم من ذلك(٤) .

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٧٥.

(٢) أوائل المقالات : ٥٧ رقم ٢٦ ، الذخيرة في علم الكلام : ١٠٠ ، شرح جمل العلم والعمل : ٩٨ ، المنقذ من التقليد ١ / ٢٠٢ ـ ٢٠٣ ، تجريد الاعتقاد : ٢٠٢ ـ ٢٠٣.

(٣) اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ٩٨ ـ ١٠٠ و ١١٢ ، تمهيد الأوائل : ٣٢٨ ـ ٣٢٩ و ٣٣٢ ـ ٣٣٣ ، المواقف : ٣٣٠ ـ ٣٣١ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٩٦ ، شرح المواقف ٨ / ٢٠٠.

(٤) النكت الاعتقادية : ٣٢ ، أوائل المقالات : ٥٦ ـ ٥٧ رقم ٢٤ و ٢٦.

٣٥١

وقال الفضل(١) :

تكليف ما لا يطاق جائز عند الأشاعرة ؛ لأنّه لا يجب على الله شيء ، ولا يقبح منه فعل ، إذ يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، ومنعه المعتزلة لقبحه عقلا(٢) .

والحال : إنّه لا بدّ لهم أن يقولوا به ، فإنّ الله أخبرهم بعدم إيمان أبي لهب وكلّفه الإيمان ، فهذا تكليف ما لا يطاق ؛ لأنّ إيمانه محال وفوق طاقته ؛ لأنّه إن آمن لزم الكذب في خبر الله تعالى ، وهو محال اتّفاقا.

وهذا شيء يلزم المعتزلة القول بتكليف ما لا يطاق.

ثمّ ما لا يطاق على مراتب : أوسطها ما لا يتعلّق به القدرة الحادثة عادة ، سواء امتنع تعلّقها به لا لنفس مفهومة كخلق الأجسام أم لا ، بأن يكون من جنس ما يتعلّق به ، كحمل الجبل ، والطيران إلى السماء ، والأمثلة التي ذكرها الرجل الطامّاتي فهذا شيء يجوّزه الأشاعرة ، وإن لم يقع بالاستقراء ولقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها )(٣) .

وقد عرّفناك معنى هذا التجويز في ما سبق.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٢٨٧.

(٢) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٩٣ و ٢٩٥ ، المواقف : ٣٣٠ ـ ٣٣١ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٩٤.

(٣) سورة البقرة ٢ : ٢٨٦.

٣٥٢

وأقول :

لا أدري كيف يقع الكلام مع هؤلاء القوم؟! فإنّ النزاع ينقطع إذا بلغ إلى مقدّمات ضرورية ، وهؤلاء جعلوا نزاعهم في الضروريات!

ليت شعري إذا لم يحكم العقل بامتناع التكليف بما لا يطاق وجوّز أن ينهى الله العبد عن الفعل ، ويخلقه فيه اضطرارا ، ويعاقبه عليه ، فقل لي أيّ أمر يدركه العقل؟!

قيل : اجتمع النظّام والنجّار للمناظرة ، فقال له النجّار : لم يدفع أن يكلّف الله عباده ما لا يطيقون؟!

فسكت النظّام ، فقيل له : لم سكتّ؟!

قال : كنت أريد بمناظرته أن ألزمه القول بتكليف ما لا يطاق ، فإذا التزمه ولم يستح فبم ألزمه؟!(١) .

وجلّ مسائل هذا الكتاب من هذا الباب كما رأيت وترى إن شاء الله تعالى.

وكفاك إنكارهم أن يجب على الله شيء ، فإنّه إذا لم يجب عليه شيء بعدله وحكمته ورحمته ، فأيّ إله يكون؟! وكيف يكون حال الدنيا والآخرة؟!

ومثله تجويز أن يفعل ما يشاء ممّا لا غرض فيه ولا غاية ولا حكمة ولا عدل ، كتكليف ما لا يطاق ؛ تعالى الله عن ذلك.

__________________

(١) انظر مضمونه في : شرح الأصول الخمسة : ٤٠٠.

٣٥٣

وأمّا قوله : « والحال : إنّه لا بدّ لهم أن يقولوا به ، فإنّ الله أخبر بعدم إيمان أبي لهب »

فمدفوع بأنّه تعالى إنّما أخبر بأنّه سيصلى نارا ، وهو لا يستلزم الكفر ؛ لجواز تعذيب المسلم الفاسق

والأولى أن يقول : إنّ الله سبحانه أخبر نبيّه ٦ ، بقوله : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ )(١) ونحوه في القرآن كثير ، ومع ذلك كلّف الناس جميعا بالإيمان ، وأخبر بصدور المعاصي من الناس وكلّفهم بالطاعة.

والجواب : إنّ الإخبار بعدم الإيمان مثلا لا يستوجب امتناعه ، بل غاية ما يقتضيه صدور ما أخبر به على ما هو عليه في نفسه من الإمكان ، والممكن مطاق في نفسه ، يصحّ التكليف به أو بخلافه ، وإن علم بعدم وقوعه من المكلّف لاختياره العدم.

فيكون صدق الخبر تابعا لوقوع المخبر به على ما هو عليه في نفسه لا العكس ، نظير تبعية العلم للمعلوم ، فإنّ علمه تعالى بالممكنات لا يجعل خلاف ما علمه ممتنعا ، بل هو تابع للمعلوم ؛ لأنّه عبارة عن انكشاف المعلوم على ما هو عليه.

ولو كان المعلوم تابعا للعلم لما صحّ التكليف أصلا ؛ لصيرورة كلّ مكلّف به ، إمّا واجبا حيث يعلم بوقوعه ، أو ممتنعا حيث يعلم بعدم وقوعه ، ولا يقوله عارف.

وأمّا ما ذكره من أنّ ما لا يطاق على مراتب ، أوسطها إلى قوله :

__________________

(١) سورة يوسف ١٢ : ١٠٣.

٣٥٤

« هذا شيء نجوّزه » فهو مشعر بأنّهم لا يجوّزون التكليف بالرتبة العليا ، وهي ما يمتنع لنفس مفهومه ، كالجمع بين الضدّين وإعدام الواجب.

والظاهر أنّه من باب تقليل الشناعة ، وإلّا فالمناط عندهم في جواز التكليف بالرتبة الوسطى والسفلى ، هو أنّه تعالى لا يجب عليه شيء ولا يقبح منه شيء ، وهو يقتضي صحّة التكليف بالرتبة العليا ـ كما ستعرفه وتعرف تمام الكلام فيه في المطلب الثامن ـ ، وكلام القوم في المقام مضطرب ؛ ولذا جعل الخصم أمثلة المصنّف من الوسطى ، والحال أنّ بعضها من العليا ، كجعل القديم محدثا.

ثمّ إنّ الخصم ذكر عدم وقوع التكليف بما لا يطاق بالاستقراء ولقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها )(١) ، وهو مناف لقوله سابقا بتكليف أبي لهب بالإيمان وأنّه فوق طاقته.

ومن المضحك وصفه للمصنّف رحمه الله تعالى بالطامّاتي ، والحال أنّ الطامّات هي أقوالهم ، وقد اعترف بها ، وليس للمصنّف إلّا النقل عنهم!

* * *

__________________

(١) سورة البقرة ٢ : ٢٨٦.

٣٥٥

قال المصنّف ـ أجزل الله ثوابه ـ(١) :

وقالت الإمامية : ما أضلّ الله أحدا من عباده عن الدين ، ولم يرسل رسولا إلّا بالحكمة والموعظة الحسنة(٢) .

وقالت الأشاعرة : قد أضلّ الله كثيرا من عباده عن الدين ، ولبّس عليهم ، وأغواهم ، وأنّه يجوز أن يرسل رسولا إلى قوم ولا يأمرهم إلّا بسبّه ومدح إبليس.

فيكون من سبّ الله تعالى ومدح الشيطان ، واعتقد التثليث والإلحاد وأنواع الشرك مستحقّا للثواب والتعظيم.

ويكون من مدح الله تعالى طول عمره ، وعبده بمقتضى أوامره ، وذمّ إبليس دائما ، في العقاب المخلّد واللعن المؤبّد.

وجوّزوا أن يكون في من سلف من الأنبياء ممّن لم يبلغنا خبره من لم تكن شريعته إلّا هذا(٣) .

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٧٥.

(٢) شرح نهج البلاغة ـ لابن ميثم ـ ٥ / ٢٧٨ ـ ٢٨٠ ، وانظر مؤدّى ذلك في : الذخيرة في علم الكلام : ٣٢٣ ، شرح جمل العلم والعمل : ١٦٩ ، الاقتصاد في ما يتعلّق بالاعتقاد : ١٢٤ ـ ١٢٥ ، المنقذ من التقليد ١ / ٣٧٣ ، تجريد الاعتقاد : ٢٠٢ و ٢١١ و ٢١٢.

(٣) الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ١٦٨ ـ ١٧٠ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٤٦ ـ ٣٤٩ ، المواقف : ٣٢٠ ـ ٣٣٠ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٨٢.

٣٥٦

وقال الفضل(١) :

مذهب الأشاعرة : إنّ الله خالق كلّ شيء ، ولا يجري في ملكه إلّا ما يشاء ، ولا يجوّزون وجود الآلهة في الخلق كالمجوس ، بل يقولون : هو الهادي وهو المضلّ ، كما نصّ عليه في كتابه المجيد : (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ )(٢) ، وهو تعالى يرسل الرسل ويأمرهم بإرشاد الخلائق.

وما ذكره الرجل الطامّاتي من جواز إرسال الرسل بغير هذه الهداية ، فقد علمت معنى هذا التجويز ، وأنّ المراد من هذا التجويز نفي وجوب شيء عليه.

وهذه الطامّات المميلة لقلوب العوامّ لا تنفع ذلك الرجل ، وكلّ ما بثّه من الطامّات افتراء ، بل هم أهل السنّة والجماعة والهداية.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٢٩١.

(٢) سورة النحل ١٦ : ٩٣ ، سورة فاطر ٣٥ : ٨.

٣٥٧

وأقول :

لا يخفى أنّ قوله : « لا يجري في ملكه إلّا ما يشاء » من كلام أبي إسحاق الأسفراييني الشافعي(١) عندما دخل القاضي عبد الجبّار المعتزلي(٢) دار الصاحب بن عبّاد(٣) فرأى أبا إسحاق جالسا ، فقال : سبحان من تنزّه عن الفحشاء! ـ تعريضا بأبي إسحاق بأنّه من الأشاعرة الّذين ينسبون الفحشاء إلى الله تعالى ـ فقال أبو إسحاق : سبحان من لا يجري في ملكه إلّا ما يشاء(٤) .

__________________

(١) تقدّمت ترجمته في صفحة ٥٩ من هذا الجزء.

(٢) هو : أبو الحسن عبد الجبّار بن أحمد بن عبد الجبّار بن أحمد الهمداني المعتزلي ، أحد كبار متكلّمي المعتزلة ، ولد سنة ٣٥٩ ه‍ ، كان ينتحل مذهب الشافعية في الفروع ، وهو من كبار فقهائهم ، ولّي القضاء بالريّ ، وله تصانيف كثيرة منها : المغني في علم الكلام ، شرح الأصول الخمسة ، طبقات المعتزلة ، وغيرها ، توفّى بالريّ سنة ٤١٥ ه‍.

انظر : تاريخ بغداد ١١ / ١١٣ ـ ١١٥ رقم ٥٨٠٦ ، سير أعلام النبلاء ١٧ / ٢٤٤ ـ ٢٤٥ رقم ١٥٠ ، لسان الميزان ٣ / ٣٨٦ ـ ٣٨٧ رقم ١٥٣٩ ، شذرات الذهب ٣ / ٢٠٢ ـ ٢٠٣ ، هديّة العارفين ٥ / ٤٩٨ ـ ٤٩٩.

(٣) هو : أبو القاسم إسماعيل بن أبي الحسن عبّاد بن العبّاس الطالقاني ، كان نادرة الدهر في فضائله ومكارمه وكرمه ، أخذ الأدب عن أبي الحسين أحمد بن فارس اللغوي ـ صاحب كتاب « المجمل في اللغة » ـ وكذا عن ابن العميد ، وغيرهما.

كان مولده سنة ٣٢٠ ه‍ بإصطخر ، وقيل بالطالقان ، وتوفّي ليلة الرابع والعشرين من صفر سنة ٣٨٥ ه‍ بالريّ ، ثمّ نقل إلى أصبهان ودفن هناك.

انظر : معجم الأدباء ٢ / ٢١٣ ، وفيات الأعيان ١ / ٢٢٨ رقم ٩٦ ، سير أعلام النبلاء ١٦ / ٥١١ رقم ٣٧٧ ، شذرات الذهب ٣ / ١١٣.

(٤) شرح المقاصد ٤ / ٢٧٥ ، شرح العقائد النسفية : ١٤٠ ـ ١٤١ ، تحفة المريد على جوهرة التوحيد : ٤٢.

٣٥٨

وحاصله : إنّ كلّ ما يجري في ملكه من أنواع الفواحش ، والفجور ، والكفر ، والإلحاد ، والكذب ، والظلم ، والغواية ، ونحوها ، إنّما هو بإساءته ومن فعله!

فيا ليت شعري كيف يصلح مع هذا الزعم أن يسبّحه وينزّهه؟!

وأمّا قوله : « ولا يجوّزون وجود الآلهة في الخلق كالمجوس ».

فهو تعريض بأهل العدل حيث ينسبون تلك الأفعال الشنيعة والأحوال الفظيعة إلى العباد ، وينزّهون الله سبحانه عنها.

ومن المعلوم أنّ ذلك لا يستدعي القول بالشركة ، فإنّهم إنّما يرون أنّه تعالى أقدرهم على أفعالهم بلا حاجة منه إليهم ، ففعلوها بتمكينه لهم ، فلا استقلال لهم حتّى يكونوا آلهة ، فكيف يشبهون المجوس؟! وإنّما الذي يشبههم من يقول بزيادة صفاته على ذاته ، وقدمها مثله ، وحاجته إليها في الخلق ، بحيث لولاها لما خلق شيئا فهي شريكته في الإلهية ؛ تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

وأمّا ما استدلّ به من قوله تعالى : (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ )(١) .

ففيه : إنّ استدلاله موقوف على أن يراد بالإضلال : خلق الضلال ، وبالهداية : خلق الهدى ؛ وهو ممنوع ؛ لجواز أن يراد بالإضلال : الخذلان والإضاعة ، وبالهداية : التوفيق ، كما قال ٧ : «تطاع بتوفيقك وتجحد بخذلانك »(٢) .

__________________

(١) سورة النحل ٦ : ٩٣ ، سورة فاطر ٣٥ : ٨.

(٢) إقبال الأعمال ١ / ٢٩٩ ب‍ ٢٠ دعاء الليلة ١٦ ، وفيه « تعبد » بدل « تطاع ».

٣٥٩

فإنّ الإنسان إذا اجتهد بفعل الخير كان محلّا للتوفيق ، وإذا أصرّ على الشرّ كان أهلا للخذلان ، وآل أمره إلى النفاق والكفر ، كما قال تعالى : (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً )(١) وقال تعالى : (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ )(٢) ، ولا قرينة على إنّ المراد بالإضلال والهداية في الآية ما ادّعاه ، بل القرينة على خلافه عقلا ونقلا

أمّا العقل : فلأنّ ذلك يستلزم إبطال الثواب والعقاب ، ونفي العدل ، وفائدة الرسل والكتب ، والأوامر والنواهي ـ كما ستعرف إن شاء الله تعالى ـ ، ولأنّه لا يحسن لمن ينهى عن شيء أن يفعله ، ولذا قال شعيب : (ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ )(٣)

وقال الشاعر :

لا تنه عن خلق وتأتي مثله

عار عليك إذا فعلت عظيم(٤)

وأمّا النقل : فقوله تعالى : (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى )(٥) ، ومن عليه الهدى كيف يتركه ويخلق الضلال؟!

وقوله تعالى : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى )(٦) .

__________________

(١) سورة التوبة ٩ : ٧٧.

(٢) سورة الروم ٣٠ : ١٠.

(٣) سورة هود ١١ : ٨٨.

(٤) البيت من قصيدة لأبي الأسود الدؤلي ، مطلعها :

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه

فالقوم أعداء له وخصوم

انظر : ديوان أبي الأسود الدؤلي : ١٢٩ ـ ١٣٢ ، خزانة الأدب ٨ / ٥٦٨.

(٥) سورة الليل ٩٢ : ١٢.

(٦) سورة فصّلت ٤١ : ١٧.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421