القصص التربوية

القصص التربوية13%

القصص التربوية مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 421

القصص التربوية
  • البداية
  • السابق
  • 421 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 348159 / تحميل: 10135
الحجم الحجم الحجم
القصص التربوية

القصص التربوية

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

لقد مُلئ قلبي منه رُعباً

عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: (إنَّ مسلم بن عقبة بايع الناس على أنَّهم عبيد ليزيد، ومَن أبى ذلك أمَرَّهُ مُسرف على السيف).

ونظر الناس إلى علي بن الحسين السجَّاد وقد لاذ بالقبر وهو يدعو، فأُتي به إلى مُسرف وهو مُغتاظ عليه، فتبرَّأ منه ومِن آبائه، فلما رآه وقد أشرف عليه ارتعد وقام له وأقعده إلى جانبه، وقال له: سَلني حوائجك، فلم يسأله في أحد مِمَّن قُدِّم إلى السيف إلاّ شفَّعه فيه، ثمَّ انصرف عنه.

وقيل لمسلم: رأيناك تسبُّ هذا الغُلام وسلفه، فلما أُتي به إليك رفعت منزلته؟!

فقال: ما كان ذلك لرأيٍ مِنِّي لقد مُلئ قلبي منه رُعباً (١) .

____________________

(١) شرح مكارم الأخلاق، ج١.

١٤١

إنِّي أكره لكم أنْ تكونوا سبَّابين

سمع علي بن أبي طالب (عليه السلام) قوماً مِن أصحابه يسبُّون أهل الشام أيَّام حربهم بصِفِّين، فقال لهم: (إنِّي أكره لكم أنْ تكونوا سبَّابين، ولكنَّكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم كان أصوب في القول وأبلغ في العُذر، وقلتم مكان سَبِّكم إيَّاهم:

اللَّهمَّ احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهْدِهم مِن ضلالتهم، حتَّى يعرف الحَقَّ مِن جَهله) (١) .

____________________

(١) شرح مكارم الأخلاق، ج١.

١٤٢

سُبْحان الله! تقذف أُمَّه؟!

قال عمرو بن نعمان الجُعفيِّ: كان لأبي عبد الله (عليه السلام) صَديق لا يكاد يُفارقه أين يذهب، فبينا هو يمشي معه في الحذائين، ومعه غُلام له سِنديٌّ يمشي خلفهما، إذ التفت الرجل يُريد غُلامه ثلاث مَرَّات فلم يره، فلمَّا نظر في الرابعة، قال: يا ابن الفاعلة أين كنت؟

قال فرفع أبو عبد الله (عليه السلام) يده فصكَّ بها جَبهة نفسه، ثمَّ قال: (سبحان الله! تقذف أُمَّه؟! قد كنتُ أرى أنَّ لك ورعاً، فإذاً ليس لك ورعٌ!).

فقال: جُعِلت فِداك! إنَّ أُمَّه سِنديَّة مُشركة.

فقال: (أما علمت أنَّ لكلِّ أُمَّة نكاحاً؟! تنحَّ عنِّي).

فما رأيته يمشي معه حتَّى فرَّق الموت بينهما (١) .

____________________

(١) شرح مكارم الأخلاق، ج١.

١٤٣

الله يُحبُّ المُحسنين

كانت جارية لعليِّ بن الحسين (عليهما السلام) تسكب له الماء، فسقط الإبريق مِن يدها، فشجَّه، فرفع رأسه إليها، فقالت:

إنَّ الله تعالى يقول: ( ... وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ... ) (آل عمران: ١٣٤).

فقال: (كظمت غيظي).

قالت: ( ... وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ... ) .

قال: (عفوتُ عنك).

قالت: ( ... وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ... ) .

قال: (اذهبي، فأنت حُرَّة لوجه الله) (١) .

____________________

(١) شرح مكارم الأخلاق، ج٢.

١٤٤

إصلاح ذات بَيْنِ المُوالين لأبي عبد الله

عن أبي حنيفة سائق الحاج قال:

مَرَّ بنا المُفضَّل وأنا وخَتني نتشاجر في ميراث، فوقف علينا ساعة، ثمَّ قال لنا: تعالوا إلى المنزل، فأتيناه، فأصلح بيننا بأربعمئة درهم، فدفعها إلينا مِن عنده، حتَّى إذا استوثق كلُّ واحدٍ مِنَّا مِن صاحبه.

قال: أما إنَّها ليست مِن مالي، ولكنَّ أبا عبد الله (عليه السلام) أمرني إذا تنازع رجلان مِن أصحابنا في شيءٍ أنْ أصلِح بينهما، وأفتديهما مِن ماله، فهذا مِن مال أبي عبد الله (عليه السلام) (١) .

____________________

(١) شرح مكارم الأخلاق، ج٢.

١٤٥

اتَّبع النبي لأفعاله الكريمة

عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إنَّ عليَّاً صاحب رجلاً ذِميَّاً في طريق، فقال له: (الذِّمِّي أين تُريد يا عبد الله؟).

قال: أُريد الكوفة.

فلمَّا عدل الطريق بالذِّمِّي عدل معه عليٌّ، فقال الذِّمِّي له: أليس زعمت تُريد الكوفة؟!

قال: (بلى).

قال الذِّمِّي: فقد تركت الطريق.

قال عليٌّ (عليه السلام): (قد علمت).

فقال له: فلم عدلت معي وقد علمت ذلك؟!

فقال له علي: (هذا مِن تمام حُسن الصُّحبة أنْ يُشيِّع الرجل صاحبه هنيئة إذا فارقه، وكذلك أمرنا نبيُّنا).

فقال له: هكذا أمركم؟!

قال: (نعم).

فقال الذِّمِّي: لا جَرَم، أنَّما اتَّبعه مَن تبعه لأفعاله الكريمة، وأنا أُشهدك أنِّي على دينك، فرجع الذِّمِّي مع عليٍّ، فلمَّا عرفه أسلم (١) .

____________________

(١) شرح مكارم الأخلاق، ج٢.

١٤٦

صَدَّقَتني إذ كذَّبتم وآمنت بي إذ كفرتم

عن علي (عليه السلام) قال: ذكر النبي (صلى الله عليه وآله) خديجة يوماً وهو عند نسائه وبكى، فقالت عائشة: ما يُبكيك على عجوز حمراء من عجائر بني أسد؟!

فقال: (صَدَّقتي إذ كذَّبتم، وآمنت بي إذ كفرتم، وولدت لي إذ عَقمتم).

قالت عائشة: فما زلت أتقرَّب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بذكرها (١) .

____________________

(١) شرح مكارم الأخلاق، ج٢.

١٤٧

.. والله هذا يفي بدماء أهل الأرض!

قال أبو محمد الحسن العسكري (عليه السلام): (إنَّ رجلاً جاء إلى علي بن الحسين (عليهما السلام) برجل يزعم أنَّه قاتل أبيه، فاعترف، فأوجب عليه القِصاص، وسأله أنْ يعفو عنه ليُعظِّم الله ثوابه، فكأنَّ نفسه لم تَطِبْ بذلك.

فقال علي بن الحسين (عليهما السلام) للمُدَّعي للدَّم - الولي المُستحقُّ للقِصاص ـ: إنْ كنت تذكر لهذا الرجل عليك فضلاً فَهب له هذه الجناية واغفر له هذا الذنب.

قال: يا بن رسول الله، له عليَّ حَقٌ، ولكنْ لم يبلغ أنْ أعفو عن قتل والدي.

قال: فتُريد ماذا؟

قال: أُريد القَود، فإنْ أراد لحَقِّه عليَّ أنْ أُصالحه على الدِّيَّة صالحته وعفوت عنه.

فقال علي بن الحسين: فماذا حَقُّه عليك؟

قال يا بن رسول الله: لقَّنني توحيد الله ونبوَّة محمد رسول الله وإمامة عليٍّ والأئمَّة.

فقال علي بن الحسين (عليهما السلام): فهذا لا يفي بدم أبيك؟! بلى - والله - هذا يفي بدماء أهل الأرض.

قال عليِّ بن الحسين للقاتل: أفتجعل لي ثواب تلقينك له حتَّى أبذل لك الدِّيَّة فتنجو بها مِن القتل؟

قال: يا بن رسول الله، أنا مُحتاج إليها وأنت مُستغنٍ عنها؛ فإنَّ ذنوبي عظيمة وذنبي إلى هذا المقتول أيضاً بيني وبينه لا بيني وبين وليِّه هذا.

قال علي بن الحسين (عليهما السلام): فتستسلم للقتل أحبُّ إليك مِن نزولك عن هذا التلقين قال: بلى - يا بن رسول الله ـ) (١) .

____________________

(١) شرح مكارم الأخلاق، ج٢.

١٤٨

حاجة المؤمن رحمة مِن الله لمَن طُلِبت منه

عن إسماعيل بن عمار الصيرفي قال:

قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جُعِلت فِداك! المؤمن رحمة على المؤمن؟

قال: (نعم).

قلت: وكيف ذاك؟

قال: (أيُّما مؤمن أتى أخاه في حاجة، فإنَّما ذلك رحمة مِن الله ساقها إليه وسبَّبها له، فإنْ قضى حاجته كان قد قبل الرحمة بقبولها، وإنْ ردَّه عن حاجته وهو يقدر على قضائها، فإنَّما ردَّ عن نفسه رحمة مِن الله جَلَّ وعَزَّ ساقها إليه، وسبَّبها له وذخر الله عَزَّ وجَلَّ تلك الرحمة إلى يوم القيامة حتَّى يكون المردود عن حاجته هو الحاكم فيها، إنْ شاء صرفها إلى نفسه، وإنْ شاء صرفها إلى غيره.

يا إسماعيل، فإذا كان يوم القيامة وهو الحاكم في رحمة مِن الله قد شُرعت له فإلى مَن ترى يَصرفها؟).

قلت: أظنَّ أنَّه لا يَصرفها عن نفسه.

قال: (لا تظنَّ، ولكنْ استيقن؛ فإنَّه لن يردَّها عن نفسه) (١) .

____________________

(١) شرح مكارم الأخلاق، ج٢.

١٤٩

خُذْها فإنِّي إليك مُعتذِر

قال الحسين (عليه السلام): (يا قَنبر، هل بقي مِن مال الحِجاز شيءٌ؟).

قال: نعم، أربعة آلاف دينار.

فقال: (هاتِها؛ جاءها مَن هو أحَقُّ بها منَّا).

ثمَّ نزع بُرْدَته ولفَّ الدنانير فيها، وأخرج يده مِن شَقِّ الباب؛ حياءً مِن الأعرابي وأنشأ:

خُذْها فإنِّي إليك مُعتذِر

واعلم بأنِّي عليك ذو شَفقة (١)

____________________

(١) شرح مكارم الأخلاق، ج٢.

١٥٠

إيَّاكم والمُحقَّرات مِن الذنوب

قال أبو عبد الله (عليه السلام): (إنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نزل بأرض قَرعاء ما بها مِن حَطب.

قال: فليأت كلُّ إنسان بما قَدِر عليه.

فجاءوا به حتَّى رموا بين يديه بعضه على بعضٍ.

فقال رسول الله: هكذا تجتمع الذنوب.

ثمَّ قال: إيَّاكم والمُحقَّرات مِن الذنوب؛ فإنَّ لكلِّ شيءٍ طالباً ألاَ وإنَّ طالبها يكتب) (١) .

____________________

(١) شرح مكارم الأخلاق، ج٢.

١٥١

أنفقوا عليه مِن بيت المال

مَرَّ شيخ كبير مكفوف البصر يسأل، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (ما هذا؟).

قالوا: نصرانيٌّ.

فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (استعملتموه حتَّى إذا كَبر وعَجز منعتموه! أنفقوا عليه مِن بيت المال) (١) .

____________________

(١) شرح مكارم الأخلاق، ج٢.

١٥٢

مَن زار أخاً في الله مُحبَّاً له فقد زار الله ووجبت له الجَنَّة

قال النبي (صلى الله عليه وآله): (إنَّ مَلَكاً لقيَ رجلاً قائماً على باب دار، فقال له: يا عبد الله، ما حاجتُك في هذه الدار؟

فقال: أخٌ لي فيها أردت أنْ أُسلِّم عليه.

فقال: بينك وبينه رَحمٌ ماسَّة أو نزعتك إليه حاجة.

فقال: ما لي إليه حاجة، غير أنِّي أتعهَّده في الله رَبِّ العالمين، ولا بيني وبينه رَحم ماسَّة أقرب مِن الإسلام.

فقال له المَلَك: إنِّي رسول الله إليك، وهو يُقرؤك السلام، ويقول لك:

إيَّاي زُرت، فقد أوجبتُ لك الجَنَّة.

وقد عافيتك مِن غَضبي ومِن النار، لحُبِّك إيَّاه فيَّ) (١) .

____________________

(١) شرح مكارم الأخلاق، ج٢.

١٥٣

اتَّبع عليَّاً وحزبه فإنَّه مع الحَقِّ والحَقُّ معه

لمَّا كان يوم صِفِّين، خرج عمار بن ياسر إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقال له: يا أخا رسول الله، أتأذن لي في القتال؟

قال: (مَهْلاً رحمك الله).

فلمَّا كان بعد ساعة أعاد (عليه السلام) فأجابه بمِثله.

فأعاد ثالثاً، فبكى أمير المؤمنين، فنظر إليه عمار.

فقال: يا أمير المؤمنين، إنَّه اليوم الذي وصفني رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فنزل أمير المؤمنين عن بَغلته، وعانق عمار، وودَّعه.

ثمَّ قال: (يا أبا اليقظان، جَزاك الله عن الله وعن نبيِّك خيراً، فنِعْمَ الأخُ كنت ونِعْمَ الصاحب كنت).

ثمَّ بكى (عليه السلام) وبكى عمار ثمَّ قال: والله - يا أمير المؤمنين - ما تبعتك إلاَّ ببصيرة، فإنِّي سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول يوم حُنين:

(يا عمار، ستكون بعدي فِتنة وإذا كان ذلك فاتَّبع عليَّاً وحزبه؛ فإنَّه مع الحَقِّ والحَقُّ معه) (١) .

____________________

(١) شرح مكارم الأخلاق، ج٢.

١٥٤

لاستجابة الدعاء لا بُدَّ مِن الطريق الذي أمر الله به

عن عليِّ بن الحسين (عليهما السلام) قال:

(مَرَّ موسى بن عمران برجل، وهو رافع يده إلى السماء يدعو الله، فانطلق موسى في حاجته، فغاب سبعة أيَّام، ثمَّ رجع إليه وهو رافع يده إلى السماء، فقال:

يا رب، هذا عبدك رافع يديه إليك يسألك حاجة مُنذ سبعة أيَّام لا تستجيب له.

[ قال: ] فأوحى الله إليه:

يا موسى، لو دعاني حتَّى تسقط يداه أو ينقطع لسانه ما استجبت له حتَّى يأتيني مِن الباب الذي أمرته) (١) .

____________________

(١) شرح مكارم الأخلاق، ج٢.

١٥٥

لا ترفع حاجتك إلاَّ إلى أحد ثلاثة..

جاء رجل مِن الأنصار يسأل أبا عبد الله حاجة، فقال (عليه السلام):

(يا أخا الأنصار، صِنْ وجهك عن بِذْلَة المسألة، وارفع حاجتك في رقعة، فإنِّي آتٍ فيها ما هو سارُّك إنْ شاء الله).

فكتب: يا أبا عبد الله، إنَّ لفلان عليَّ خمسمئة دينار وقد ألحَّ عليَّ، فكلِّمه يُنظرني إلى مَيسرة، فلمَّا قرأ الحسين (عليه السلام) الرُّقعة، دخل إلى منزله، فأخرج صُرَّة فيها ألف دينار، وقال (عليه السلام) له:

(أمَّا خمسمئة فاقض بها ذِمَّتك، وأمَّا خمسمئة فاستعن بها على دهرك؛ لا ترفع حاجتك إلاَّ إلى أحد ثلاثة: إلى ذي دَيْن أو مُروءة أو حسب) (١) .

____________________

(١) شرح مكارم الأخلاق، ج٢.

١٥٦

إذا وجَدْنا بذلنا وإذا فقدنا شكرنا

عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنَّه مَرَّ يوماً على قوم، فرآهم أصحَّاء جالسين في زاوية المسجد، فقال (عليه السلام): (مَن أنتم؟).

قالوا: نحن المُتوكِّلون.

قال (عليه السلام): (لا، بلْ أنتم المُتأكِّلة، فإنْ كُنتم مُتوكِّلين، فما بلغ توكُّلكم؟).

قالوا: إذا وجدنا أكلنا، وإذا فقدنا صبرنا.

قال (عليه السلام): (هكذا تفعل الكلاب عندنا).

قالوا: فما نفعل؟

قال: (كما نفعل).

قالوا: كيف تفعل؟

قال (عليه السلام): (إذا وجَدْنا بذلنا، وإذا فقدْنَا شكرنا) (١) .

____________________

(١) شرح مكارم الأخلاق، ج٢.

١٥٧

لا تدعُ سِوى الله

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لمَّا أمر المَلِك بحبس يوسف في السِّجن، ألهمه الله تبارك وتعالى تأويل الرُّؤيا، فكان يُعبِّر لأهل السِّجن رؤياهم.

فقال صاحباه له: إنَّا رأينا رؤيا فعبِّرها لنا.

فقال: وما رأيتُما؟

قال أحدهما: إنِّي أراني أحمل فوق رأسي خُبزاً تأكل الطير منه.

وقال الآخر: إنِّي رأيت أنَّي أسقي المَلِك خمر.

ففسَّر لهما رؤياهما بما في الكتاب، ثمَّ قال - للذي ظنَّ أنَّه ناجٍ منهما ـ: اذكُرني عند رَبِّك.

قال: ولم يفزع يوسف في حاله إلى الله فيدعوه، فلذلك قال الله تعالى: ( ... فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ... ) .

قال أبو عبد الله (عليه السلام) قال الله ليوسف:

ألستُ الذي حبَّبتك إلى أبيك، وفضَّلتك على الناس بالحُسن؟! أوَ لستُ الذي سُقْت إليك السيَّارة وأنقذتك، وأخرجتك مِن الجُبِّ؟! أوَ لستُ الذي صرفت عنك كيد النِّسوة؟! فما حَمَلك على أنْ تدعو مَخلوقاً هو دوني؟! فالبث بما قلت بضع سنين ) (١) .

____________________

(١) شرح مكارم الأخلاق، ج٢.

١٥٨

.. وعِزَّتي وجَلالي لأقطعنَّ أمل كلِّ مؤمَّلٍ غيري

عن محمد بن عجلان قال: أصابتني فاقة شديدة وضائقة، ولا صديق لمَضيق، ولزمني دَيْنٌ ثقيل وغَريم يُلحُّ بقضائه، فتوجَّهت نحو دار الحسن بن زيد - وهو يومئذٍ أمير المدينة - لمعرفة كانت بيني وبينه، وشَعر بذلك مِن حالي محمد بن عبد الله بن علي بن الحسين، وكانت بيني وبينه قديمُ معرفة، فلَقيني في الطريق، فأخذ بيدي، وقال لي: قد بلغني ما أنت بسبيله ولا تسعف بطلبتك، فعليك بمَن يقدر على ذلك وهو أجود الأجودين، فالتمسْ ما تؤمله مِن قِبَله، فإنِّي سمعت ابن عمِّي جعفر بن محمد (عليهما السلام) يُحدِّث عن أبيه عن جَدِّه، عن أبيه الحسين بن علي، عن أبيه عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام)، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (أوحى الله عَزَّ وجَلَّ إلى بعض أنبيائه في بعض وحيه إليه: وعِزَّتي وجلالي، لأقطعنَّ أمل كلِّ مؤمَّل غيري بالإياس، ولأكسونَّه ثوب المَذلَّة ولأُبعدنَّه مِن فَرَجي وفَضلي، أيؤمِّل عبدي في الشدائد غيري والشدائد بيدي؟! أو يرجو سواي وأنا الغنيُّ الجَواد؟!).

فقلت له: يا ابن رسول الله، أعِدْ عليَّ هذا الحديث، فأعاده ثلاثاً، فقلت: لا والله، لا سألت بعد هذا حاجة، فما لبثت أنْ جاءني الله برزق وفضل مِن عنده (١) .

____________________

(١) شرح مكارم الأخلاق، ج٢.

١٥٩

.. اللَّهمَّ لا تكلني إلى نفسي طَرفة عين أبد..

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) في بيت أُمِّ سَلمة في ليلتها، ففقدته مِن الفراش، فدخلها مِن ذلك ما يدخل النساء، فقامت تطلبه في جوانب البيت، حتَّى انتهت إليه، وهو في جانبٍ مِن البيت قائم رافع يديه يبكي، وهو يقول:

اللَّهمَّ، لا تنزع مِنَّي صالح ما أعطيتني أبداً.

اللَّهمَّ، ولا تكلني إلى نفسي طَرْفة عين أبداً.

اللَّهمَّ، لا تُشمِت بي عدوَّاً ولا حاسداً أبداً.

اللَّهمَّ، لا تُرِدْني في سوءٍ استنقذتني منه أبداً) (١) .

____________________

(١) شرح مكارم الأخلاق، ج٢.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

الآيات

( وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (٥) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (٨) )

التّفسير

يوم البعث والنشور :

تأتي هذه الآيات لتواصل البحث عن الكفّار الذين كذّبوا الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يذعنوا للحقّ حيث أعرضوا عن جميع المعاجز التي شاهدوها.

والآيات أعلاه تشرح حال هؤلاء الأفراد وموضّحة المصير البائس الذي ينتظر هؤلاء المعاندين في يوم القيامة.

يقول سبحانه إنّ هؤلاء لم يعدموا الإنذار والإخبار ، بل جاءهم من الأخبار ما يوجب انزجارهم عن القبائح والذنوب :( وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ ) وذلك ليلقي عليهم الحجّة.

وبناء على هذا فلا يوجد نقص في تبليغ الدعاة الإلهيين ، وما يوجد من

٣٠١

نقصان أو خلل يمكن فيهم ، حيث ليس لديهم روح تواقة لمعرفة الحقّ ولا آذان صاغية ، ونفوسهم متنكّبة عن التقوى والتدبّر في الآيات الإلهية.

والقصد من «الأنباء» الإخبار عن الأمم والأقوام السابقة الذين هلكوا بألوان العذاب المدمّر الذي حلّ بهم ، وكذلك أخبار يوم القيامة وجزاء الظالمين والكفّار ، حيث اتّضحت كلّ تلك الأخبار في القرآن الكريم.

ويضيف تعالى :( حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ ) فهذه الآيات حكم إلهيّة بليغة ومواعظ مؤثّرة ، إلّا أنّها لا تفيد أهل العناد(١) (٢) .

تبيّن هذه الآية أن لا نقص في «فاعلية الفاعل» ، أو تبليغ الرسل. لكن الأمر يكمن في مدى استعداد الناس وأهليتهم لقبول الدعوة الإلهيّة ، وإلّا فإنّ الآيات القرآنية والرسل والأخبار التي وردتهم عن الأمم السابقة والأخبار التي تنبؤهم عن أحوال يوم القيامة كلّ هذه الأمور هي حكمة بالغة ومؤثّرة في النفوس الخيّرة ذات الفطرة السليمة.

الآية التالية تؤكّد على أنّ هؤلاء ليسوا على استعداد لقبول الحقّ ، فأتركهم لحالهم وأعرض عنهم وتذكّر يوم يدعو الداعي الإلهي إلى أمر مخيف ، وهو الدعوة إلى الحساب ، حيث يقول سبحانه :( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ ) (٣) .

وعلى هذا تكون عبارة :( يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ ) عبارة مستقلّة ومنفصلة عن جملة :( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ) . لكن البعض يرى أنّ كلّ واحدة من الجملتين مكمّلة للأخرى ، حيث يذهبون إلى أنّ قوله تعالى :( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ) جاءت بصيغة الأمر للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالإعراض عن المشركين الذين يرجون الشفاعة منه يوم القيامة عند ما يدعوهم

__________________

(١) (حكمة بالغة) خبر لمبتدأ محذوف تقديره (هذه حكمة بالغة).

(٢) نذر جمع نذير ويعني (المنذرين) والمقصود بالمنذرين هي الآيات القرآنية وأخبار الأمم والأنبياء الذين وصل صوتهم إلى أسماع الناس ، ويحتمل البعض أنّ (نذر) مصدر بمعنى إنذار. لكن المعنى الأوّل هو الأنسب. وضمنا فإنّ (ما) في عبارة (ما تغن بالنذر) نافية وليست استفهامية.

(٣) في الآية أعلاه (يوم) يتعلّق بمحذوف تقديره (اذكر) ويحتمل البعض أنّها تتعلّق بـ (يخرجون) ولكن ذلك مستبعد.

٣٠٢

الداعي الإلهي للحساب. وهذا الرأي مستبعد جدّا.

وهنا يثار السؤال التالي : هل الداعي هو الله سبحانه؟ أم الملائكة؟ أم إسرافيل الذي يدعو الناس ليوم الحشر عند ما ينفخ في الصور؟ أم جميع هؤلاء؟

ذكر المفسّرون احتمالات عدّة للإجابة على هذا التساؤل ، ولكن بالرجوع إلى قوله تعالى :( يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ ) ،(١) يرجّح الرأي الأوّل. رغم أنّ الآيات اللاحقة تتناسب مع كون الداعي هم الملائكة المختّصون بشؤون الحساب والجزاء.

أمّا المراد من( شَيْءٍ نُكُرٍ ) (٢) فهو الحساب الإلهي الدقيق الذي لم يكن معلوما من حيث وقته قبل قيام الساعة ، أو العذاب الذي لم يخطر على بالهم ، أو جميع هذه الأمور ، ذلك لأنّ يوم القيامة في جميع أحواله حالة غير مألوفة للبشر.

وفي الآية اللاحقة يبيّن الله سبحانه وتعالى توضيحا أكثر حول هذا الموضوع ويذكر أنّ هؤلاء يخرجون من القبور في حالة :( خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ ) .

نسبة «الخشوع» هنا للأبصار لأنّ المشهد مرعب ومخيف إلى حدّ لا تستطيع الأنظار رؤيته ، لذلك فإنّها تتحوّل عنه وتطرّق نحو الأسفل.

والتشبيه هنا بالجراد المنتشر لأنّ النشور في يوم الحشر يكون بصورة غير منتظمة لحالة الهول التي تعتري الناس فيه ، كما هي حركة انتشار الجراد التي تتمثّل فيها الفوضى والاضطراب خلافا للقسم الأكبر من حركة الطيور التي تطير وفق نظم خاصّة في الجو ، مضافا إلى أنّهم كالجراد من حيث الضعف وعدم القدرة.

نعم ، إنّ حالة هؤلاء الفاقدين للعلم والبصيرة ، حالة ذهول ووحشة وتخبّط في المسير كالسكارى يرتطم بعضهم ببعض فاقدين للوعي والإرادة كما في قوله

__________________

(١) الإسراء ٢

(٢) (نكر) مفرد من مادّة (نكارة) وتعني الشيء المبهم المخيف.

٣٠٣

تعالى :( وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى ) .(١)

والحقيقة أنّ هذا التشبيه هو ما ورد أيضا في الآية (٤) من سورة القارعة حيث يقول سبحانه :( يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ ) .

وأمّا قوله تعالى :( مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ ) فإنّ كلمة «مهطعين» تأتي من مادّة (إهطاع) أي مدّ الرقبة ، والبعض يرجعها إلى النظر بانتباه أو الركض بسرعة نحو الشيء ، ويحتمل أن تكون كلّ واحدة من هذه المعاني هي المقصودة ، ولكن المعنى الأوّل هو الأنسب ، لأنّ الإنسان عند سماعه لصوت موحش يمدّ رقبته على الفور وينتبه إلى مصدر الصوت ، ويمكن أن تكون هذه المفاهيم مجتمعة في الآية الكريمة حيث أنّ بمجرّد سماع صوت الداعي الإلهي تمدّ الرقاب إليه ثمّ يتبعه التوجّه بالنظر نحوه ، ثمّ الإسراع إليه والحضور في المحكمة الإلهيّة العادلة عند دعوتهم إليها.

وهنا يستولي الخوف من الأهوال العظيمة لذلك اليوم على وجود الكفّار والظالمين ، لذا يضيف سبحانه معبّرا عن حالة البؤس التي تعتري الكافرين بقوله :( يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ ) .

والحقّ أنّه يوم صعب وعسير. وهذا ما يؤكّده البارئعزوجل بقوله :( وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً ) .(٢)

ويستفاد من هذا التعبير أنّ يوم القيامة يوم غير عسير بالنسبة للمؤمنين.

* * *

__________________

(١) الحجّ ، ٢.

(٢) الفرقان ، ٢٦.

٣٠٤

مسألة

لماذا كان يوم القيامة يوما عسيرا؟ :

ولماذا لا يكون عسيرا؟ في الوقت الذي يحاط فيه المجرمون بكلّ أجواء الرهبة والوحشة ، وخاصّة عند ما يستلمون صحائف أعمالهم حيث يصطرخون :( يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها ) ،(١) هذا من جهة.

ومن جهة اخرى فإنّهم يواجهون بما ليس في الحسبان ، حيث يحاسبون بدقّة حتّى على أصغر الأعمال التي أدّوها ، سواء كانت صالحة أم طالحة :( إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ) .(٢)

ومن جهة ثالثة ، لا سبيل يومئذ للتكفير عن الذنوب والتعويض بالطاعة ، والاعتذار عن التقصير ، حيث لا عذر يقبل ولا مجال للعودة مرّة اخرى إلى الحياة يقول تعالى :( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ) .(٣)

ونقرأ كذلك في قوله تعالى :( وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) .(٤) . ولكن هيهات.

ومن جهة رابعة فإنّ العذاب الإلهي شديد ومرعب إلى درجة تنسي الامّهات أولادها ، وتسقط الحوامل أجنّتهن ، ويكون الجميع يومئذ في حيرة وذهول وفقدان للوعي كالسكارى وما هم بسكارى ولكنّ عذاب الله شديد ، قال تعالى :( يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى

__________________

(١) الكهف ، ٤٩.

(٢) لقمان ، ١٦.

(٣) البقرة ، ٤٨.

(٤) الأنعام ، ٢٧.

٣٠٥

النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ ) .(١)

والدليل على اضطراب وهلع العاصين هو حالة التشبّث بالافتداء بكلّ ما في الدنيا أملا في الخلاص من العذاب الأليم ، قال تعالى :( يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ، وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ ، كَلَّا إِنَّها لَظى ) .(٢)

إذا ، هل يمكن مع كلّ هذه الأوصاف والأوصاف الأخرى المهولة التي وردت في آيات اخرى أن يكون ذلك اليوم يوما مريحا وبعيدا عن الهمّ والغمّ والشدّة؟!

(حفظنا الله جميعا في ظلّ لطفه ورعايته).

* * *

__________________

(١) الحجّ ، ٢.

(٢) المعارج ، ١١ ـ ١٥.

٣٠٦

الآيات

( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧) )

التّفسير

قصّة قوم نوح عبرة وعظة :

جرت السنّة القرآنية في كثير من الموارد أنّ الله سبحانه يستعرض حالة الأقوام السابقة والعاقبة المؤلمة التي انتهوا إليها إنذارا وتوضيحا (للكفّار والمجرمين) بأنّ الاستمرار في طريق الضلال سوف لن يؤدّي بهم إلّا إلى المصير البائس الذي لاقته الأقوام السابقة.

٣٠٧

وفي هذه السورة ، إكمالا للبحث الذي تناولته الآيات السابقة ، في إثارات وإشارات مختصرة ومعبّرة حول تاريخ خمسة من الأقوام المعاندة ابتداء من قوم نوح كما في قوله تعالى :( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ) . فمضافا إلى تكذيبه واتّهامه بالجنون صبّوا عليه ألوان الأذى والتعذيب ومنعوه من الاستمرار في أداء رسالته.

فتارة يقولون له مهدّدين ومنذرين( قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ ) .(١)

وتارة اخرى يضغطون رقبته بأيديهم حتّى يفقد وعيه ، ولكنّه ما أن يفيق إلى وعيه حتّى يقول : «اللهمّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون»(٢) .

وخلاصة القول فإنّ قوم نوح مارسوا كلّ وسيلة لأذى نبيّهم ، ومع ذلك فإنّه لم يتوقّف عن التبليغ والإرشاد أملا في هدايتهم.

والجدير بالذكر أنّنا نلاحظ أنّ لفظ (التكذيب) قد ورد مرّتين ، ولعلّ السبب أنّه ورد في الحالة الاولى (مختصرا) وفي الثانية (مفصّلا).

والتعبير بـ «عبدنا» إشارة إلى أنّ هؤلاء القوم المعاندين والمغرورين في الواقع يبارزون الله تعالى لا مجرّد شخص «نوح».

كلمة (وازدجر) أصلها (زجر) بمعنى الطرد ، وهو الإبعاد المقترن بصوت شديد ، كما أنّه يطلق على كلّ عمل يراد منه منع الشخص من الاستمرار به.

والظريف في هذه الآية أنّ الفعل (قالوا) أتى بصورة فعل معلوم (وازدجر) بصيغة فعل مجهول ولعلّ ذلك للإشارة إلى أنّ عدم ذكر الفاعل هنا للترفّع عن ذكر قوم نوح بسبب سوء وقبح الأعمال التي مارسوها والتي كانت أقذر وأقبح من أقوالهم ، ممّا يكون سببا في عدم ذكرهم بالصيغة المعلومة كما في قوله تعالى :

__________________

(١) الشعراء ، ١١٦.

(٢) تفسير الكشّاف وأبو الفتوح والرازي هامش الآية مورد البحث

٣٠٨

( قالُوا ) .

ثمّ يضيف تعالى أنّ نوح عند ما يئس من هداية قومه تماما :( فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ) (١) .

والغلبة المذكورة في الآية الكريمة لم تكن غلبة في الحجّة والدليل أو البرهان على عدم صحّة الدعوة ، وإنّما كانت تتجسّد بالظلم والجناية والتكذيب والإنكار وأنواع الزجر والضغوط ولهذا فإنّ هؤلاء القوم لا يستحقّون البقاء ، فانتقم لنا منهم وانصرنا عليهم.

نعم ، فهذا النّبي العظيم كان يطلب من الله المغفرة لقومه ما دام يأمل في هدايتهم وصلاحهم ، ولكن عند ما يئس منهم غضب عليهم ولعنهم ودعا ربّه أنّ ينتقم منهم.

ثمّ يشير هنا إشارة معبّرة وقويّة في كيفية العذاب الذي ابتلوا به وصبّ عليهم حيث يقول سبحانه :( فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ ) .

إنّ تعبير انفتاح أبواب السماء لتعبير رائع جدّا ، ويستعمل عادة عند هطول الأمطار الغزيرة.

(منهمر) من مادّة (همر) على وزن (صبر) وتعني النّزول الشديد للدموع أو الماء ، ويستعمل هذا التعبير أيضا عند ما يستدر الحليب من الضرع حتّى النهاية.

والعجيب هنا أنّه ورد في أقوال المفسّرين أنّ قوم نوح كانوا قد أصيبوا بالجدب لعدّة سنوات قد خلت ، وكانوا يرتقبون بتلهّف سقوط المطر عليهم ، وفجأة ينزل المطر ولكن لا ليحيي أرضهم ويزيد خيرهم بل ما حقا ومميتا لهم(٢) .

ويذكر أنّ الماء الذي أدّى إلى الطوفان لم يكن من هطول الأمطار فقط ، بل

__________________

(١) (انتصر) : طلب العون كما في الآية (٤١) سورة الشورى ، وهنا جاءت بمعنى طلب الانتقام على أساس العدل والحكمة كما فسّرها البعض في التقدير (انتصر لي).

(٢) روح المعاني هامش الآية مورد البحث.

٣٠٩

كان من تفجير العيون في الأرض حيث يقول تعالى :( وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً ) (١) وهكذا اختلط ماء السماء بماء الأرض بمقدار مقدّر وملأ البسيطة :( فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ) .

إنّ هذا التعبير يجسّد حالة الطوفان الذي غمر الأرض ، إلّا أنّ بعض المفسّرين فسّروا عبارة (قد قدر) بقولهم : إنّ كميّتي المياه المتدفّقة من الجانبين المتقابلين كانتا متساويتين في مقاديرهما بصورة دقيقة ، إلّا أنّ الرأي الأوّل هو الأرجح.

وخلاصة الأمر : إنّ الماء قد فار من جميع جهات الأرض وفجّرت العيون وهطلت الأمطار من السماء ، واتّصل الماء بعضه ببعض وشكّل بحرا عظيما وطوفانا شديدا.

وتترك الآيات الكريمة مسألة الطوفان ، لأنّ ما قيل فيها من الآيات السابقة يعتبر كافيا فتنتقل إلى سفينة نجاة نوحعليه‌السلام حيث يقول تعالى :( وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ ) .

(دسر) جمع (دسار) على وزن (كتاب) ، كما يقول الراغب في المفردات ، أنّها في الأصل بمعنى الإبعاد أو النهر بشدّة مقترنا مع حالة عدم الرضا ، ولكون المسمار عند ما يتعرّض للطرق الشديد يدخل في الخشب وما شاكل فيقال له (دسار).

وذكر قسم من المفسّرين أنّ معنى هذه الكلمة هو (الحبل) مشيرين بذلك إلى حبال أشرعة السفينة وما إلى ذلك ، والتّفسير الأوّل هو الأرجح نظرا لذكر كلمة (ألواح).

على كلّ حال ، فإنّ التعبير القرآني هنا ظريف ، لأنّه كما يقول البارئعزوجل بأنّنا وفي وسط ذلك الطوفان العظيم ، الذي غمر كلّ شيء أودعنا أمر نجاة

__________________

(١) «عيونا» : يمكن أن تكون تميّزا للأرض والتقدير فجرنا عيون الأرض ، ثمّ إنّ العيون مفعول به منفصل وقد جاءت بصورة تمييز كي تعبّر عن المبالغة والأهميّة وكأنّ الأرض جميعا تحوّلت إلى عيون.

٣١٠

نوح وأصحابه إلى مجموعة من المسامير وقطع من الخشب ، وأنّها أدّت هذه الوظيفة على أحسن وجه ، وهكذا تتجلّى القدرة الإلهيّة العظيمة.

ويمكن أن يستفاد من هذا التعبير طبيعة البساطة التي كانت عليها سفن ذلك الزمان والتي هي بعيدة عن التعقيد والتكلّف قياسا مع السفن المتقدّمة في العصور اللاحقة. ومع ذلك فإنّ سفينة نوحعليه‌السلام كان حجمها بالقدر المطلوب وطبق الحاجة ، وطبقا للتواريخ فإنّ نوحعليه‌السلام قد أمضى عدّة سنين في صنعها كي يتمكّن من وضع (من كلّ زوجين إثنين) من مختلف الحيوانات فيها.

ويشير سبحانه إلى لطف عنايته للسفينة المخصّصة لنجاة نوحعليه‌السلام حيث يقول سبحانه( تَجْرِي بِأَعْيُنِنا ) أي أنّ هذه السفينة تسير بالعلم والمشيئة الإلهيّة ، وتشقّ الأمواج العالية بقوّة وتستمر في حركتها تحت رعايتنا وحفظنا.

إنّ التعبير (بأعيننا) كناية ظريفة للدلالة على المراقبة والرعاية للشيء ويتجسّد هذا المعنى بوضوح في قوله تعالى في الآية (٣٧) من سورة هود :( وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا ) .

بعض المفسّرين ذهبوا إلى أنّ المقصود من( تَجْرِي بِأَعْيُنِنا ) هو الإشارة إلى الشخصيات المهمّة التي كانت على ظهر السفينة ، وبناء على هذا فإنّ المقصود من قوله تعالى :( تَجْرِي بِأَعْيُنِنا ) (١) أنّ تلك السفينة كانت تحمل عباد الله الخالصين المخلصين ، ونظرا لطبيعة الموارد التي استعمل فيها هذا التعبير في الآيات القرآنية الاخرى فإنّ الرأي الأوّل هو الأصحّ.

ويحتمل أيضا أنّ المراد بجملة (بأعيننا) هو الملائكة التي كان لها الأثر في هداية سفينة نوحعليه‌السلام ، ولكن هذا الرأي ضعيف أيضا لسبب أعلاه.

ثمّ يضيف تعالى :( جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ ) (٢) .

__________________

(١) «أعين» جمع عين ، وإحدى معانيها العين الباصرة ، والمعنى الآخر لها هو : الشخصية المعتبرة ، ولها معان اخرى.

(٢) يجدر بالملاحظة هنا أنّ فعل (كفر) مبني للمجهول ، والمراد به نوحعليه‌السلام الذي كفر به ، وليس فعلا معلوما يشير إلى

٣١١

نعم إنّ نوحعليه‌السلام كسائر الأنبياء الإلهيين يعتبر نعمة إلهيّة عظيمة وموهبة من مواهبه الكبيرة على البشرية ، إلّا أنّ قومه الحمقى كفروا به وبرسالته(١) .

ثمّ يقول سبحانه وكنتيجة لهذه القصّة العظيمة موضع العظّة والإعتبار :( وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) .

والحقيقة أنّ كلّ ما كان يستحقّ الذكر في هذه القصّة قد قيل ، وكلّما ينبغي للإنسان الواعي المتّعظ أن يدركه فهو موجود.

واستنادا إلى هذا التّفسير المنسجم مع الآيات السابقة واللاحقة ، فإنّ الضمير في (تركناها) يرجع إلى قصّة الطوفان وماضي نوحعليه‌السلام ومخالفيه. ولكن البعض يرى أنّ المراد هو (سفينة نوح) لأنّها بقيت مدّة من الزمن شاخصة لأنظار العالم ، وكلّما يراها أحد تتجسّد أمامه قصّة الطوفان الذي حلّ بقوم نوحعليه‌السلام ، ومع علمنا بأنّ بقايا سفينة نوحعليه‌السلام كانت حتّى عصر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما أنّ البعض من المعاصرين ادّعى رؤية بقاياها في جبال (آرارات) في القفقاز ، عندئذ يمكن أن يكون المعنيان مقصودين في الآية الكريمة.

ولهذا فإنّ قصّة نوحعليه‌السلام كانت آية للعالمين ، وكذا سفينته التي بقيت ردحا من الزمن بين الناس(٢) .

وفي الآية اللاحقة يطرح الله سبحانه سؤالا معبّرا ومهدّدا للكافرين الذين اتّبعوا نفس المنهج الذي كان عليه قوم نوح حيث يقول سبحانه :( فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ ) .

هل هذه حقيقة واقعة ، أم قصّة واسطورة؟

__________________

الكفّار.

(١) إذا لم يكن في الآية شيء مقدّر فيكون نائب الفاعل للفعل (كفر) هو شخص نوحعليه‌السلام حين أنّهعليه‌السلام يكون النعمة التي (كفر) بها ، أمّا إذا قلنا أنّ للآية محذوف مقدّر ، فيكون تقديره (كفر به) فعندئذ تكون إشارة إلى عدم الإيمان بنوحعليه‌السلام وتعاليمه.

(٢) لقد ذكرت أبحاث مفصّلة حول قصة قوم نوحعليه‌السلام في هامش الآيات الكريمة ٢٥ ـ ٤٩ من سورة هود

٣١٢

ويضيف مؤكّدا هذه الحقيقة في آخر الآية مورد البحث في قوله تعالى :( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) .

نعم إنّ هذا الكتاب العظيم الخالي من التعقيد والمجسّد لعناصر التأثير من حيث عذوبة ألفاظه وجاذبيتها ، وحيوية عباراته وصراحتها في عرض المطالب ترغيبا وتهديدا ، وطبيعة قصصه الواقعية ذات المحتوى الغزير بالإضافة إلى قوّة دلائله وأحكامها ومنطقه المتين ، واحتوائه على كلّ ما يلزم من عناصر التأثير لذا فإنّ القلوب المهيأة لقبول الحقّ والمتفاعلة مع منطق الفطرة والمستوعبة لمنهج العقل تنجذب بصورة متميّزة ، والشاهد على هذا أنّ التأريخ الإسلامي يذكر لنا قصصا عديدة عجيبة محيّرة من حالات التأثير العميق الذي يتركه القرآن الكريم على القلوب الخيّرة.

ولكن ما العمل حينما تكون النطفة لبذرة ما ميتة ، حتّى لو هيّأ لزراعتها أخصب الأراضي ، وسقيت بماء الكوثر ، واعتني بها من قبل أمهر المزارعين ، فإنّها لن تنمو ولن تزهر وتثمر أبدا.

* * *

٣١٣

الآيات

( كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢) )

التّفسير

مصير قوم عاد :

تستعرض الآيات الكريمة أعلاه وباختصار أخبار نموذج آخر من الكفّار والمجرمين بعد قوم نوح ، وهم (قوم عاد) وذلك كتحذير لمن يتنكّب طريق الحقّ والهداية الإلهية.

وتبدأ فصول أخبارهم بقوله تعالى :( كَذَّبَتْ عادٌ ) .

لقد بذل هودعليه‌السلام غاية جهده في توعية قومه وتبليغهم بالحقّ الذي جاء به من عند الله ، وكانعليه‌السلام كلّما ضاعف سعيه وجهده لانتشالهم من الكفر والضلال ازدادوا إصرارا ونفورا ولجاجة في غيّهم وغرورهم الناشئ من الثراء والإمكانات المادية ، بالإضافة إلى غفلتهم نتيجة انغماسهم في الشهوات ، جعلتهم صمّ الآذان ،

٣١٤

عمّي العيون ، فجازاهم الله بعقاب أليم وعذاب شديد ، ولهذا تشير الآية الكريمة باختصار حيث يقول سبحانه :( فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ ) .

كما نلاحظ التفصيل في الآيات اللاحقة بعد هذا الإجمال حيث يقول سبحانه :( إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ ) .

«صرصر» من مادّة (صرّ) على وزن (شرّ) ، وفي الأصل تعني (الإغلاق والإحكام) ويأتي تكرارها في هذا السياق للتأكيد ، ولأنّ الرياح التي عذّبوا بها كانت باردة وشديدة ولاذعة ومصحوبة بالأزيز ، لذا اطلق عليها (صرصر).

أمّا (نحس) ففي الأصل معناها (الاحمرار الشديد) الذي يظهر في الأفق أحيانا ، كما يطلق العرب أيضا كلمة (نحاس) على وهج النار الخالية من الدخان ، ثمّ أطلق هذا المصطلح على كلّ (شؤم) مقابل (السعد).

«مستمر» صفة لـ (يوم) أو لـ (نحس) ومفهومه في الحالة الاولى هو استمرار حوادث ذلك اليوم كما في قوله تعالى :( سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً ، فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ ) .(١)

وتعني في الحالة الثانية استمرار نحوسة ذلك اليوم حتّى هلك الجميع.

كما يفسّر البعض معنى (النحس) بأنّه حالة الجو المكفهر المغبّر ، لأنّ العاصفة كانت مغبرة إلى درجة أنّها لم تسمح برؤية بعضهم البعض. وعند ما شاهدوا العاصفة من بعيد ظنّوا أنّها غيوم محملة بالأمطار متّجهة نحوهم ، وسرعان ما تبيّن لهم أنّها ريح عاتية لا تبقي ولا تذر أمرت بعذابهم والانتقام منهم ، كما في قوله تعالى :( فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ. مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ ) .(٢)

إنّ هذين التّفسيرين غير متنافيين ، ويمكن جمعهما في معنى الآية الكريمة

__________________

(١) الحاقّة ، ٧

(٢) الأحقاف ، ٢٤.

٣١٥

مورد البحث.

ثمّ يستعرض سبحانه وصف الريح بقوله :( تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ ) .

«منقعر» من مادّة (قعر) بمعنى أسفل الشيء أو نهايته ، ولذا يستعمل هذا المصطلح بمعنى قلع الشيء من أساسه.

كما يحتمل أن يكون المقصود من هذا التعبير أنّ ضخامة الهياكل وقوّة الأبدان التي كان عليها قوم عاد لم تغنهم من فتك الريح بهم وهلاكهم حيث ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ قوم عاد حاولوا التخلّص من العذاب الذي باغتهم وذلك بأن التجأوا إلى حفر عميقة وملاجئ تحت الأرض لحفظ أنفسهم ، ولكن دون جدوى حيث أنّ الريح كانت من القوّة بحيث قلعتهم من أعماق تلك الحفر وقذفت بهم من جهة إلى اخرى ، حتّى قيل أنّها كانت تدحرجهم وتجعل أعلى كلّ منهم أسفله وتفصل رؤوسهم عن أجسادهم.

«أعجاز» جمع (عجز) ـ على وزن (رجل) ـ بمعنى خلف أو تحت ، وقد شبّهوا بالقسم الأسفل من النخلة وذلك حسبما يقول البعض لأنّ شدّة الريح قطّعت أيديهم ورؤوسهم ودفعتها باتّجاهها ، وبقيت أجسادهم المقطّعة الرؤوس والأطراف كالنخيل المقطّعة الرؤوس ، ثمّ قلعت أجسادهم من الأرض وكانت الريح تتقاذفها.

وللسبب المذكور أعلاه ، يكرّر الله سبحانه وتعالى إنذاره للكفّار بقوله :( فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ ) .

فنحن كذلك فعلنا وجازينا الأقوام السالفة التي سلكت سبيل الغي والطغيان والعصيان ، فعليكم أن تتفكّروا في مصيركم وأنتم تسلكون نفس الطريق الذي سلكوه!!

وفي نهاية القصّة يؤكّد قوله سبحانه :( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) فهل هنالك من آذان صاغية وقلوب واعية لهذا النداء الإلهي والإنذار

٣١٦

الربّاني؟.

والنقطة الأخيرة الجديرة بالذكر هي تأكيد قوله سبحانه :( فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ ) حيث تكرّرت مرّتين : الأولى : في بداية الحديث عن قصّة قوم عاد ، والثانية : في نهايتها. ولعلّ سبب هذا الاختلاف بين قوم عاد والأقوام الاخرى ، أنّ عذاب قوم عاد كان أكثر شدّة وانتقاما ، رغم أنّ جميع ألوان العذاب الإلهي شديد.

* * *

بحث

سعد الأيّام ونحسها :

الشيء المتعارف بين الناس ، هو أنّ بعض الأيّام سعيدة ومباركة ، والبعض الآخر نحس ومشؤوم ، مع وجود اختلاف كثير في تشخيصها.

ويدور الحديث حول مدى قبولها إسلاميا ، وهل أنّها مأخوذة من تعاليم الإسلام أم لا؟.

من الناحية العقلية لا يعدّ اختلاف أجزاء الزمان من هذه الجهة محالا ، بأن يتّصف بعضها بالنحوسة والاخرى بالبركة والسعد. ولا نملك أي استدلال عقلي لإثبات أو نفي هذا المعنى ، ولهذا نستطيع القول : إنّ هذا الأمر بهذا القدر شيء ممكن ، ولكنّه غير ثابت من الناحية العقلية.

وبناء على ذلك فإذا كانت لدينا دلائل شرعية لهذا المعنى ثبتت عن طريق الوحي فلا مانع من قبولها ، بل الالتزام بها.

وحول (نحس الأيّام) تشير الآيات القرآنية مرّتين إلى هذا الموضوع ، الاولى في الآيات مورد البحث ، والثانية : في قوله تعالى :( فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً

٣١٧

صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ ) (١) (٢) .

وفي مقابل «النحوسة» فإنّنا نلاحظ في بعض الآيات القرآنية تعبير (مبارك) كما في قوله تعالى حول ليلة القدر :( إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ) .(٣)

وقلنا إنّ «نحس» مأخوذ في الأصل من صورة الاحمرار الشديد في الأفق ، الذي يشبه النار المتوهّجة الخالية من الدخان والتي يطلق عليها (النحاس). وبهذه المناسبة استعمل في معنى الشؤم.

ومن هنا نلاحظ أنّ القرآن الكريم لم يتطرّق لهذه المسألة إلّا من خلال إشارة مغلقة فقط. لكنّنا حينما نقرأ في الكتب الإسلامية ، يواجهنا العديد من الرّوايات في هذا المجال ، مع العلم أنّ الكثير منها ضعيف ، وأنّ البعض الآخر منها موضوع أو ملفّق ، أو مشوب بالخرافات. وليست جميعا كذلك ، بل هناك ما هو معتبر منها وموضع اطمئنان كما يؤكّد المفسّرون صحّة ذلك من خلال تفسير الآيات أعلاه.

ويذكر لنا المحدّث الكبير العلّامة المجلسي روايات عديدة في هذا المجال في بحار الأنوار(٤) .

وفي هذا المجال نستطيع إيراد الملاحظات التالية :

أ ـ لقد ذكروا في روايات عديدة (سعد ونحس) الأيّام ، وكذلك الحوادث التي وقعت فيها ، حيث نقرأ في الرّواية التالية في أسئلة الشامي لأمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال : (أخبرني عن يوم الأربعاء والتطيّر منه وثفله ، وأي أربعاء هو) ، قالعليه‌السلام : «آخر أربعاء من الشهر ، وهو المحاق ، وفيه قتل قابيل هابيل أخاه ، ويوم الأربعاء أرسل

__________________

(١) يجدر الانتباه إلى أنّ نحسات جاءت صفة للأيّام ، وذلك يعني أنّ الأيّام المذكورة وصفت بالنحوسة ، في الوقت الذي ذكرت كلمة (يوم) في الآية الكريمة (في يوم نحس مستمر) إضافة لـ (النحس) وليست وصفا ولكن بقرينة الآية أعلاه يجب القول : إنّ الإضافة هنا تكون إضافة موصوف إلى صفة (يرجى الانتباه).

(٢) فصّلت ، ١٦.

(٣) الدخان ، ٣.

(٤) بحار الأنوار ، ج ٥٩ كتاب السماء والعالم ، ص ١ ـ ٩١ وما بعدها.

٣١٨

اللهعزوجل الريح على قوم عاد»(١) .

ومن هنا فإنّ الكثير من المفسّرين يرتّبون أثرا على هذه الرّوايات ، ويعتبرون أنّ آخر أربعاء من كلّ شهر هو يوم نحس ، ويطلقون عليه (أربعاء لا تدور) أي لا تتكرّر.

ونقرأ في بعض الرّوايات أنّ اليوم الأوّل من كلّ شهر هو سعد ومبارك ، وذلك لأنّ آدمعليه‌السلام خلق في هذا اليوم ، وكذلك فإنّ اليوم ٢٦ من كلّ شهر يوم مبارك ، حيث : (ضرب موسى فيه البحر فانفلق)(٢) .

كما أنّ اليوم الثالث من كلّ شهر ، هو يوم نحس ، نزع عن آدم وحواء لباسهما وأخرجا من الجنّة(٣) .

كما أنّ اليوم السابع من كلّ شهر هو يوم مبارك ، لأنّ نوحعليه‌السلام قد ركب في السفينة (ونجا من الغرق)(٤) .

ونقرأ في الحديث التالي عن الإمام الصادقعليه‌السلام في هذا المعنى حول يوم (النوروز) حيث يقول :

«... يوم مبارك استوت فيه سفينة نوح على الجودي ، وهو اليوم الذي نزل فيه جبرائيل على النبي ، وهو اليوم الذي حمل فيه رسول الله أمير المؤمنين على منكبه حتّى رمى أصنام قريش من فوق البيت الحرام فهشّمها وهو اليوم أمر النّبي أصحابه أن يبايعوا عليا بإمرة المؤمنين ...»(٥) .

وقد اقترن سعد ونحس الأيّام بذكر بعض الوقائع التأريخية الحسنة والسيّئة كما في العديد من الرّوايات ، فمثلا ما ذكر عن يوم عاشوراء الذي اعتبره الامويون

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٨٣ حديث (٢٥).

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٠٥.

(٣) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٥٨.

(٤) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٦١.

(٥) بحار الأنوار ، ج ٥٩ ، ص ٩٢.

٣١٩

يوم سعد لمّا حقّقوا فيه وبظنّهم من انتصار على أهل البيتعليه‌السلام نلاحظ الرّوايات تنهى بشدّة عن التبرّك في مثل هذا اليوم ، كما تحذر من ادّخار الأقوات السنوية فيه ، والابتعاد عن أجواء الاحتفالات التي كان يقيمها الامويون في هذا اليوم وكذلك تؤكّد على تعطيل الأعمال فيه.

ومن ملاحظة مجموعة الرّوايات السابقة ، دفع البعض أن يفسّر مسألة سعد ونحس الأيّام على أنّها مجعولة من أجل شدّ المسلمين بهذه الحوادث التاريخيّة المهمّة ، وحثّهم عمليّا على تطبيق ما تستلزمه تلك الحوادث من التفاعل وما تفرزه من معطيات ، وكذلك الابتعاد عن محطّات الحوادث السيّئة واجتناب سبلها.

ويمكن أن يصدّق هذا التّفسير في قسم من هذه الرّوايات ولا يصدق على القسم الآخر منها ، ذلك لأنّ المستفاد من البعض منها أنّ هنالك تأثيرا ملموسا في بعض الأيّام (إيجابا وسلبا) وليس لنا تفسير أو علم لهذا التأثير.

ب ـ ممّا يجدر الانتباه إليه أنّ هنالك من يفرط في موضوع سعد ونحس الأيّام ، بحيث إنّهم يمتنعون من الشروع بأي عمل إلّا بالاعتماد على هذه الخلفية ، وبذلك يفوتون عليهم فرصا كثيرة يمكن الاستفادة منها.

وبدلا من التعمّق في البحث الموضوعي الذي تحسب فيه حسابات الربح والخسارة والاستفادة من الفرص والتجارب الثرية فإنّهم يرجعون كسب الأرباح إلى سعد الأيّام والانتكاسات والخسارة إلى شؤم الأيّام وهذا المنهج يعبّر عن الانهزام من الواقع والهروب من الحقيقة والإفراط في التعليل الخرافي لحوادث الحياة الذي يجب أن نحذّره ونتجنّبه بشدّة.

والجدير بنا في هذه المسائل أن لا نعطي آذانا صاغية لأقوال المنجّمين والإشاعات المنتشرة في الأجواء الاجتماعية المتخلّفة ، ولا لحديث أولئك الذين يدّعون المعرفة المستقبلية لفأل الأشخاص ، ونستمرّ في حياتنا العملية بجهد حثيث وخطى ثابتة وبالتوكّل على الله وبروح موضوعية بعيدة عن التأثّر بهذه

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421