القصص التربوية

القصص التربوية13%

القصص التربوية مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 421

القصص التربوية
  • البداية
  • السابق
  • 421 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 348118 / تحميل: 10135
الحجم الحجم الحجم
القصص التربوية

القصص التربوية

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

ألَمْ يأنِ للَّذين آمنوا

أنْ تخشع قلوبهم لذِكر الله؟!

يُحكى أنَّ فضيلاً كان في أوَّل أمره يقطع الطريق بين أبيورد وسرخس، وعشق جاريةً، فبينما يرتقي الجدران إليها سمع تالياً يتلو: ( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ... ) ، فقال: يا رَبِّ، قد آن.

فرجع وآوى إلى خَربةٍ، فإذا فيها رُفقةٌ.

فقال بعضهم: نرتحل.

وقال بعضهم: حتَّى نُصبح؛ فإنّ فضيلاً على الطريق يقطع علينا.

فتاب الفضيل وآمنهم (١) .

____________________

(١) شرح مكارم الأخلاق، ج٣.

١٨١

مَن أراد أن يُظلِّه الله مِن فَوح جَهنَّم..

فليُنظِر مُعسِراً

رأى النبيُّ (صلى الله عليه وآله) رجلان يتنازعان، فاقترب منهما وسألهما عِلَّة نزاعهما.

فقال أحدهما: أقرضتهُ فلم يُعطني دَيْني.

فنظر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الآخر ماذا يقول؟

فقال الآخر: يا نبيَّ الله، له عليَّ حُقٌّ وأنا مُعسرٌ، ولا والله، ما عندي.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (مَن أراد أنْ يُظلِّه الله مِن فَوح جَهنَّم يوم لا ظِلَّ إلاَّ ظِلَّه، فليُنظِر مُعسِراً أو ليدَع له).

فقال الرجل عند ذلك: قد وهبت لك ثُلُثاً وأخَّرتك بثُلُثٍ إلى سنةٍ وتعطيني ثُلُثاً.

فقال النبي (صلى الله عليه وآله): (ما أحسن هذا) (١) .

____________________

(١) شرح مكارم الأخلاق، ج٣.

١٨٢

لا تفعل يا عُثمان!

عن عليٍّ (عليه السلام) أنَّه قال:

(جاء عثمان بن مظعونٍ إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال: يا رسول الله، قد غلبني حَديث النَّفس ولم أُحدِّث شيئاً حتَّى أستأمرك.

قال: بمَ حدَّثَتك نفسك يا عثمان؟

قال: هممتُ أنْ أسيح في الأرض.

قال: فلا تُسح فيها؛ فإنّ سياحة أُمَّتي المساجد.

قال: هممت أنْ أُحرِّم اللَّحم على نفسي.

فقال: لا تفعل؛ فإنِّي لأشتهيه وآكله، ولو سألت الله أنْ يُطعمنيه كلَّ يومٍ لفعل.

قال: هممت أنَّ أجبَّ نفسي.

قال: يا عثمان، ليس مِنَّا مِن فعل ذلك بنفسه ولا بأحدٍ، إنَّ وجاء أُمَّتي الصِّيام.

قال: وهممت أنْ أُحرِّم خولة على نفسي (يعني امرأته).

قال: لا تفعل يا عثمان) (١) .

____________________

(١) شرح مكارم الأخلاق، ج٣.

١٨٣

لا تَكمُل الكمالات إلاَّ بالإسلام

كان مصعب بن عمير مِن أصحاب النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) الشباب قبل الهِجرة، وكان مصعب جميلاً ونبيلاً وهُماماً وسَخيَّاً، وكان عزيزاً عند أبويه، وكان أهل مَكَّة يكنُّون له الاحترام والتقدير، وكان يرتدي مِن الثياب أجملها، وكان يعيش في نعيم ورغد، وكان يستمع خُطب الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وكلماته وينشدُّ إلهيا بكل كيانه، وقد أدَّت لقاءاته المُتكرِّرة بالنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وسماعه لآياتٍ مِن القرآن الكريم إلى اعتناقه الإسلام.

كانت مسألة الاقتداء بالرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) واعتناق الإسلام في تلك الأوضاع الخطيرة، التي كانت تسود مَكَّة بين قوم يعبدون الأصنام، ويغرقون في جهلهم - وضلالهم - تُعتبر ذنباً كبيراً يُعاقب عليه، وكان مَن يؤمن بالنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) ورسالته ودعوته لا يجرؤ على الجَهر بإيمانه حتَّى أمام أهله وأقاربه. ومِن هذا المُنطلق لم يُفش مصعب أمر اعتناقه الإسلام لأحد، وكان يؤدِّي فرائضه الدينيَّة في الخَفاء.

وذات يوم وبينما كان مصعب يُصلِّي رآه عثمان بن طلحة فأيقن بإسلامه، ونقل الخبر إلى أُمِّ مصعب، ولم يمض وقت طويل حتَّى انتشر الخبر بين الناس، وأخذ الجميع يتحدَّثون عن اعتناق مصعب الإسلام، وقد أثار هذا الأمر غضب أُمِّ مصعب وأقاربه، مِمّا دفعهم إلى حبسه في المنزل؛ عسى أنْ يعدل عن رأيه ويَهجر الإسلام ويترك صُحبة محمّد (صلى الله عليه وآله).

لكنَّ هذا العقاب لم يترك أدنى أثر في نفس مصعب، ولم يستطع أنْ يثنيه عن مواصلة الدرب الذي اختاره لنفسه؛ لأنَّ مُصعباً الشابَّ قد اختار الإسلام على أساس مِن العقل والمنطق، واعتنقه وهو في كامل وعيه.

١٨٤

لقد بقي مصعب مُتمسِّكاً بإسلامه، مُقتدياً بالرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وبنهجه حتّى آخر عمره ((وشَهِدَ مُصْعَبٌ بَدراً معَ رسول الله (صلى الله عليه وآله) وشَهِدَ أُحُداً ومَعَهُ لِواءُ رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقُتِلَ بأُحُدٍ شهيداً) (١) .

____________________

(١) الشابُّ، ج١.

١٨٥

أوّلُ مَنْ جَمَعَ الجُمعَةَ بِالمَدِينَةِ

ثابر النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) على نشر دعوته في الخَفاء مُدَّة مِن الزمن، وبعد أنْ اعتنق عدد كبير مِن الناس الإسلام، ولبُّوا دعوة الرسول (صلى الله عليه وآله)، أشهر دعوته إلى الإسلام بأمر مِن الله سبحانه وتعالى، ومِن حينها بدأ بتلاوة القرآن في أوساط الناس في مَكَّة، وأخذ ينشر دعوته بينهم.

كان المُسافرون الوافدون على مدار السَّنَة إلى مَكَّة مِن الخارج للعبادة والزيارة، يُشارك غالبيَّتهم في المجالس العامَّة، التي كان يحضرها الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) ويستمعون إلى خُطبه ومواعظه، وبعد عودتهم إلى ديارهم كان كلٌّ منهم يروي لأهله وأقاربه ما شاهده مِن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسمعه منه، وأخذت دعوة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) تنتشر تدريجيَّاً في كافَّة مناطق الجزيرة العربيَّة لا سِيَّما في المدينة المنوَّرة، وبدأ الناس يتعرَّفون على الإسلام، وعلى منهجيَّة هذا الدين السماويِّ المُقدَّس.

وكانت النتيجة أنْ ازداد عدد المؤيِّدين للإسلام، حتَّى إنَّ بعضهم قد انشدَّ إلى دعوة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) قبل أنْ يراه.

وذات يوم قَدِم إلى مَكَّة رجلان مِن أشراف المدينة مِن قبيلة الخزرج، هما أسعد بن زرارة وذكوان بن عبد قيس، ودخلا على الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) في ظروف صعبة للغاية، وبعد استماعهما لحديث الرسول (صلى الله عليه وآله) أعلنا إسلامهما صراحة. ثُمَّ قالا: يا رسول الله ابْعَثْ مَعَنا رَجُلاً يُعَلِّمُنا القُرآنَ ويَدْعُو النَّاسَ إلى أمْرِكَ.

وكانت المدينة يومها مِن أهمِّ مُدن جزيرة العرب، وكانت تقطنها قبيلتان معروفتان هُما الأوس والخزرج، وكانت هاتان القبيلتان - وللأسف - تتبادلان العِداء لبعضهما البعض، وتخوض كلٌّ منها معارك ضِدَّ الأُخرى استمرَّت سنين طويلة.

١٨٦

وقد كان هذا الطلب فُرصة مُناسبة ومُهمَّة للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، والمسلمين الذين كانوا يعيشون ظروفاً صعبة، وكان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأنصاره وموالوه يُدركون - جَيِّداً - أنَّهم إذا استغلُّوا هذه الفرصة بشَكل جيِّدٍ، وإذا استطاع مبعوث الرسول (صلى الله عليه وآله) تعريف الإسلام إلى أهل المدينة بطريقة صحيحة وحكيمة، وجعلهم يعتنقونه ويؤمنون بما جاء به القرآن الكريم؛ فإنَّ نجاحاً عظيماً ومكسباً مُهمَّاً سيكون مِن نصيب المسلمين، الذين ستكون المدينة بالنسبة إليهم قاعدة مُهمَّة، ينطلقون منها لنشر دعوتهم وجهادهم ضِدَّ المُشركين، الذين كانوا يحكمون مَكَّة بالظلم والاستبداد، والكَبت والضغط، وسيكون بإمكان المسلمين التعاون مع أهل المدينة في نشر المعارف الإسلاميَّة، وزَلزلة كيان الشرك والظلم في مَكَّة.

وكانت المَرَّة الأُولى التي يطلب فيها أهل مدينة كبيرة يسودهم الخلاف مِن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) إرسال مبعوث لهم، وكانت المَرَّة الأُولى التي يُقرِّر فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) إرسال مبعوث خارج مَكَّة.

مِمَّا لا شكَّ فيه أنَّ الذي يتمُّ اختياره لهذه المُهمَّة الخطيرة، ينبغي أنْ يكون كفوءاً مِن جميع الجِهات، وأهلاً لهذه المُهمَّة؛ حتَّى يستطيع تسوية الخلافات المُزمنة بين قبيلتي الأوس والخزرج، ونشر جوٍّ مِن المَحبَّة والأخوَّة بين أفرادها مِن جِهة، ويعمل مِن جِهة ثانية على نشر الإسلام، والدعوة له بشكل صحيح يترك أثره في القلوب ويشدُّ إليه الألباب.

وقد اختار النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) مصعب بن عمير الشابَّ مِن بين كافَّة المسلمين - شيوخاً وشبَّاناً - ومِن بين جميع أصحابه وأنصاره، مبعوثاً له إلى المدينة لأداء هذا الأمر المُهمِّ. (فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لِمُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ - وكانَ فَتى حَدثاً ـ.. وأمَرَهَ رسول الله بِالْخُرُوجِ مَعَ أسعد، وقد كان تَعَلَّمَ مِنَ القُرْآنِ كَثيراً).

وقد دخل مصعب المدينة وهو في عُنفوان شبابه، وقلبه مُفعم بالإيمان وبدأ مهامَّه

١٨٧

بشوق وخلوص نيَّة. وكان لبراعته في الخطابة وحرارة تلاوته القرآن، وحُسن أخلاقه في مُعاشرة الناس وتدبُّره في حَلِّ المشاكل وإزالة الخلافات، الأثر البالغ في نفوس الناس، الذين انشدُّوا إليه وإلى مَلكاته الحَسنة مِن حيث لا يشعرون.

ولم يمضِ وقت طويل حتَّى توجَّه إليه الناس نساءً ورجالاً، شيوخاً وشُبَّانً، رؤوساء عشائر وأفراد عاديِّين؛ ليُعلنوا اعتناقهم الإسلام ويتعلَّموا القرآن مُطهِّرين قلوبهم مِن الأحقاد والأضغان، مُتآلفين مُتآخين، وأقاموا صلاة الجماعة في صفوف مُتراصَّة.

لقد نفذ مصعب بن عمير الشابُّ مُهمَّته في المدينة على أفضل وجه، ونال فخراً عظيماً. (إنَّهُ أوّلُ مَنْ جَمَعَ الجُمعَةَ بِالمَدينَةِ، وأَسْلَمَ على يَدِهِ أُسَيْدُ بْنُ خُضَيْرٍ وسَعْدُ بْنُ معاذٍ، وكَفى بِذلِكَ فَخْراً وأَثَراً في الإسلامِ).

لقد كان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) يعلم جيِّداً، أنَّ هناك في المدينة رجالاً مُسنِّين وشخصيَّات لها مكانتها مِن العصب جِدَّاً أنْ يَمتثلوا لأوامر شابٍّ بعمر مصعب، وكان بمقدور النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنْ يختار مِن بين أصحابه أكبرهم سِنَّاً ليكون مبعوثاً له إلى المدينة، أو أنْ يختار عدداً مِن الرجال يُشكِّلوا بعثة تتولَّى هذه المسؤوليَّة، ولكنَّ الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) لم يختر سوى مصعب بن عمير الشابَّ، لتحميله هذه المسؤوليَّة وإيفاده إلى المدينة، التي كان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) - وقتها - يعتبرها بلداً مُهمَّاً، يثبت لأنصاره ومواليه أنَّ الشرط الأساسي، الذي يُخوِّل المرء لتسلُّم أهمِّ المناصب والمسؤوليَّات في الإسلام، هو اللياقة والكفاءة وليس سنوات العمر، فإذا ما وجد بين جيل الشابَّ لبلد ما مِن هم أفاء يجب الاعتماد عليهم وتسليمهم زمام الأمور لإدارة البلاد (١) .

____________________

(١) الشابَّ، ج١.

١٨٨

الكفاءة لا السِّن هي المقياس

أقدم الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) في أواخر عمره الشريف على تعبئة طاقات المسلمين لمُحاربة بلاد الروم، وشكَّل جيشاً عظيماً ضمَّ كِبار قادة الجيش وأُمرائه، وكِبار وجهاء المُهاجرين والأنصار وكافَّة رؤساء القبائل العربيَّة.

ويوم خرج الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) مِن المدينة ليستعرض جيشه، لاحظ وجود كِبار وجهاء المسلمين في صفوف الجيش، (فَلَمْ يَبْقَ مِنْ وُجُوهِ المُهاجِرينَ والأنْصارِ إلاَّ انْتَدَبَ في تِلْكَ الغزاةِ، فِيهِم أبُو بَكْرٍ وعُمَرُ وسَعْدُ بنُ أبي وَقّاصٍ وسَعْدُ بْنُ زَيْدٍ وأَبُوا عُبَيْدَةَ وقَتادَةُ النُّعْمانِ).

مِمَّا لا شكَّ فيه أنَّ قيادة جيش عظيم، كالذي شكَّله الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) لمُحاربة الروم، مسألة دقيقة وحسَّاسة للغاية؛ إذ كان على النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنْ يختار - حتماً - الأنسب والأكثر كفاءة ولياقة لتعيينه قائداً للجيش.

فكان أنْ دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله أُسامَةَ بْنَ زَيدٍ، ونصبه قائداً للفرقة وشدَّ له الراية بيديه الشريفتين: (واسْتَعمَلَهُ النَبيُّ صلى الله عليه وآله وهُوَ ابْنُ ثَمانِيَ عَشَرَ سَنَةً).

ومثل هذا الاختيار - إنْ لم نقل: إنَّ التاريخ العسكري في العالم لم يشهد نظيراً له فلا بُدَّ مِن القول: - إنَّه يندر حصوله.

وبالرغم مِن أنَّ عالمنا المُعاصر، يولي اهتماماً بالغاً لجيل الشباب، ويوفِّر له الدعم الكامل، وبالرغم مِن أنَّ البُلدان المُتطوِّرة الأوروبيَّة والأميريكيَّة، تسعى جاهدة إلى تكليف شبابها بمسؤوليَّات جِسام، فإنَّ النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) قد أقدم قبل أربعة عشر قَرناً على خطوة عسكريَّة مُهمَّة؛ دعماً منه للشُبَّان الأكفَّاء، حيث ولَّى

١٨٩

شابَّاً في الثامنة عشرة مِن العمر قائداً لجيشٍ إسلاميٍّ عظيم، لمُحاربة إمبراطوريَّة الروم، ألا وهو أسامة بن زيد.

وكان على كبار القادة الذين خاضوا أصعب المعارك وأشدَّها أواراً، ورفعوا راية الإسلام خفَّاقة فوق أعظم قلاع العدوِّ استحكاماً، وكذلك كان على أشجع الفُرسان وأكثرهم بسالة مِمَّن خبروا شؤون الحرب، وعلى وجهاء العرب والشخصيَّات الإسلاميَّة البارزة، الذين جسَّدوا في أحلك الظروف لياقتهم وكفاءتهم، كان عليهم جميعاً أنْ يمتثلوا لأوامر رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويُشاركوا في هذا الحشد العسكريِّ مُطيعين أوامر قائدٍ شابٍّ، وهذا ما كان يصعب عليهم تصديقه وتحمُّله.

مِثل هذا الاختيار قد أثار الدهشة والحيرة لدى كبار القادة والأُمراء، الذين تلقّوا النبأ بكثير مِن التعجُّب والقلق، وأخذوا يتبادلون نظرات الحيرة، وأفصح بعضهم عمَّا يختلج في نفسه وما يُضمره قلبه:

(فَتَكَلَّمَ قَوْمٌ وقالُوا: يُسْتَعْمَلُ هذا الغُلامُ عَلى المُهاجِرينَ الأَوَّلينَ؟!

فَغَضِبَ رسول الله (صلى الله عليه وآله) غَضَباً شديداً، فَخَرَجَ فَصَعَدَ المنْبَرَ فَحَمِدَ الله وأثْنى عَلَيْهِ، ثُمَّ قالَ:

(أَمّا بَعْدُ أَيُّها النَّاسُ، فَما مَقالةٌ بَلَغَتني عَنْ بَعضِكُمْ فِي تَأمِيري أُسامَةَ؟

ولَئِنْ َطَعَنْتُمْ فِي تَأمِيري أُسامَةَ، فَقَدْ طَعَنْتُمْ فِي تَأمِيري أَباهُ قَبْلَهُ. وأيمُ الله، إنَّه كانَ للإمارَةٍ خَليقاً وإنَّ ابْنَهُ بَعْدَهُ لَخَليقٌ لإمارَةٍ) (١) .

____________________

(١) الشابُّ، ج١.

١٩٠

إنَّ الله يُحِبُّ إذا خَرَجَ عَبْدُهُ المؤمِنُ إلى أخيهِ

أنْ يَتَهيّأَ لَهُ وأنْ يَتَجَمَلَّ

عن الإمام الصادق (عليه السلام): (جاء رجل إلى بيت النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) طالباً لقاءَهُ، وعندما هَمَّ النبي (صلى الله عليه وآله) بالخروج مِن حُجْرَتِهِ وقف عند وعاء فيه ماء داخل الحُجْرة، فنظر فيه ومَشَّط شَعره ولحيته المُباركة فدهشت عائشة لما رأت، وبعد عودة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) سألته قائلة:

يا رسول الله، لماذا وقفت عند وعاء الماء ومَشَّطت شَعرك ولحيتك قبل خروجك للرجل؟!

فقال صلَّى (صلَّى الله عليه وآله): يا عائِشَةُ، إنَّ الله يُحِبُّ إذا خَرَجَ عَبْدُهُ المؤمِنُ إلى أخيهِ أنْ يَتَهيّأَ لَهُ وأنْ يَتَجَمَلَّ) (١) .

____________________

(١) الشابُّ، ج١.

١٩١

أستحيي مِن رَّبَّي أَنْ أتفضَّلَ عَلَيكَ

عن الإمام الباقر (عليه السلام):

(إنَّ أَميرَ المؤمِنينَ (عليه السلام) أَتى سوق البَزَّازينَ، فَقالَ لِرَجُلٍ: بِعْني ثَوْبَيْنِ.

فَقالَ الرَّجلُ: يا أَميرَ المؤمنينَ، عِنْدي حاجَتُكَ.

فَلَمَّا عَرَفَهُ مَضَى عَنْهُ، فَوَقَفَ على غُلامٍ فأَخَذَ ثَوْبَيْنِ أَحَدَهُما بِثلاثةِ دَرِاهمَ والآخرَ

رهمين، فقال: يا قَنبر خُذِ الذي بثلاثةٍ.

فقالَ قنبر: أنْتَ أَوْلى بِهِ، تَصْعَدُ المِنْبَرَ وتَخْطُبُ النّاسَ.

فَقالَ: وأَنتَ شابٌّ ولَكَ شَرَهُ الشّابِّ، وأَنا أَسْتَحْيي مِن رَبّي أَنْ أتفضَّل عليك؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: ألبسُوهُمْ مِمَّا تلبسون وأطعموهم مِمَّا تأكلون) (١) .

____________________

(١) الشابُّ، ج١.

١٩٢

الأحْداث أَسْرَعُ إلى كُلِّ خَيْرٍ

دخل رجل يُدعى: (أبا جعفر الأحول) - وهو مِن أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) وعمل مُدَّة داعياً ومُبلِّغاً للمذهب الشيعي، لنشر تعاليم أهل بيت النبوَّة (عليهم السلام) ـ.. دخل يوماً على الإمام الصادق (عليه السلام)، فسأله الإمام (عليه السلام): (كَيْفَ رأَيْتَ مُسَارَعَةَ الناس إلى هذا الأمر ودخولهم فيه؟).

قال: والله، إنَّهم لقليل.

فقال (عليه السلام): (عَلَيْكَ بالأحْداثِ؛ فإنَّهُمْ أَسْرَعُ إلى كُلِّ خَيْرٍ) (١) .

____________________

(١) الشابُّ، ج١.

١٩٣

إذ هممت بأمر فتدبَّر عاقبتهُ

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

(إنَّ رجلاً أتى النبيَّ (صلى الله عليه وآله)، فقال: يا رسول الله، أوصيني.

فقال له رسول الله: فهل أنت مُستوصٍ إنْ أنا أوصيتُكَ؟

حتَّى قال له ذلك ثلاثاً، وفي كُلّها يقولُ الرَّجُلُ: نَعَمْ، يا رسول الله.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

فإنِّي أوصيك إذا أنت هممت بأمرٍ فتدبَّر عاقبته، فإنْ يَكُ رُشداً فأمضه، وإنْ يَكُ غَيَّاً فانته عنه) (١) .

____________________

(١) الشاب، ج١.

١٩٤

لم يكن لي جريمة فأخشاها

بعد مضيِّ سنة على وفاة الإمام الرضا (عليه السلام) قَدِم المأمون العباسي إلى بغداد، وذات يوم اعتزم الخروج إلى الصيد، فمرَّ بأحد الأحياء المُحيطة بالمدينة، وكانت هناك مجموعة مِن الأولاد يلهون على الطريق، ومُحمد (الإمام الجواد) (عليه السلام) واقفٌ معهم، وكان عمره إحدى عشرة سنة فما حوله، فدنا المأمون منهم، ففرَّ الأولاد ولم يبقَ منهم سوى الإمام الجواد (عليه السلام) الذي لم يُحرِّك ساكناً، وشاهد الخليفة ما حصل، فدنا مِن الإمام (عليه السلام) وسأله عن سبب عدم فِراره مع بقيَّة الأولاد.

فقال الإمام (عليه السلام) مُسرعاً: (يا أمير المؤمنين، لم يكن بالطريق ضيق لأوسِّعه عليك بذهابي، ولم يكن لي جريمة فأخشاها، وظَنِّي بك حَسن، إنَّك لا تضرُّ مَن لا ذنب له فوقفت. فأعجبه كلامه ووجهه)، فقال له: ما اسمك؟

قال: (محمد).

قال: ابن مَن أنت؟

قال: (يا أمير المؤمنين، أنا ابن علي الرضا) (١) .

____________________

(١) الشابُّ، ج١.

١٩٥

أداء الأمانة زيادة في الرزق

كان في عهد عبد الملك بن مروان تاجر معروف بالصدق والعمل الصالح؛ ولحُسن سمعته في سوق دمشق واعتماد الناس عليه وثقتهم به؛ كانوا يودعونه مُمتلكاتهم وبضاعتهم ليبيعها لهم ويأخذ أجرته على ذلك.

وذات يوم انحرف التاجر في إحدى صفقاته عن قويم مسيره وخان الأمانة، فشاع الخبر وانتشر بسرعة البرق بين الناس، وأصبح الشغل الشاغل لألسنتهم، ففقد التاجر ثقة العامَّة والخاصَّة به واهتزَّت شخصيَّة، وسحب الناس ثقتهم به، فلم يأمنوه بعدها على بضاعتهم، حتَّى ساءت أُموره وتشتَّت تجارته، وأخذ دائنوه يُلحون في الطلب.

وكان للتاجر وَلد عاقل تبدو على ملامحه الفراسة والذكاء، قد اعتبر مِن تجربة أبيه المريرة، وتعلَّم منها درساً لا يُنسى، وعرف أنَّ مُجرد انزلاق أو خيانة واحدة قد تؤدِّي إلى القضاء على كرامة الإنسان وشرفه، وتُبدِّل حياة العِزِّ إلى الذِّلِّ والسوء، فقرَّر في قرارة نفسه أنْ يبتعد حتَّى عن مُجرَّد التفكير بالخيانة والذنب، ويضع على الدوام نُصب عينيه الطهارة والتقوى والنزاهة، وكان لسلوكه السليم هذا مردودٌ إيجابيٌّ عليه، فقد رفعه عِزَّاً وأدخله في جميع القلوب، واتَّفق أنْ بعث عبد الملك بن مروان جاراً له وهو قائد عسكريٌّ كبير بمَعيَّة جيش المسلمين في مُهمَّة لقتال الروم، فاستدعاه الجار قبل توجُّهه إلى ميادين القتال، وأودعه جميع ماله البالغ عشرة آلاف دينار مِن الذهب، وأوصاه بأنْ يحتفظ بالمال كأمانة لديه حتَّى عودته مِن القتال إنْ سَلِم، ووعده بأنْ يُعطيه أجراً على أمانته، وإذا لم يَعُد فأوصاه بأنْ يُسلِّم المبلغ إلى أُسرته متى ما ضاقت عليهم الأرض، بعد أنْ يقتطع منها عُشرها ليعيشوا حياة كريمة... وهكذا كان، فقد رحل القائد دون أنْ يعود.

١٩٦

وحينما علم والد الشابِّ - أيْ: التاجر المُفلس - بمقتل جاره قال لابنه: إنَّه لا أحد يعلم عن القطع الذهبيَّة المؤمَّنة لديه، وأنا - أيْ الأبّ - الآن على ما تراني في أشدِّ الضيق، وأطلب أنْ تُعطيني بعضها على أنْ أردَّها عليك متى صلح حالي وحَسنت عِيشتي.

فأجابه الشابُّ: يا أبتاه، إنَّ الخيانة والانحراف هو الذي أدَّى بك إلى ما أنت عليه مِن الشقاء. فبالله، لن أخون الأمانة لو قطعت إرباً إرباً، ولا أُعيد خَطأك ثانية؛ كي لا أشقى كما شقيت.

ومضت فترة، ساءت فيها أحوال ذوي القائد القتيل، فجاءوا إلى الشابِّ طالبين منه أنْ يكتب رسالة عنهم إلى عبد الملك بن مروان؛ يُعلمه فيها بفقرهم وشِدَّة حالهم، فلرُبَّما رثى لهم وأعانهم ببعض المال. فكتب لهم ما أمر به وسُلِّمت الرسالة ولكنْ دون جَدوى، فقد أجاب عبد الملك أنْ أيَّ شخصٍ يُقتل يُحذف اسمه مِن ديوان بيت المال.

ولمَّا علم الشابُّ بالجواب واليأس الذي سيطر على ذوي القائد القتيل، قال في نفسه: حانت الآن فرصة أداء الأمانة، فلا بُدَّ مِن أنْ أضع القطع الذهبيَّة تحت تصرُّفهم لإنقاذهم مِن الفَقر والفاقة، فدعا أُسرة القائد إلى منزله وقال لهم: إنَّ أباكم استودعني شيئاً مِن المال، وأوصاني أني أُسلِّمه إيَّاكم عند الحاجة الماسَّة إليه بعد أنْ أقتطع عُشْرَه، فطار أبناء القائد فَرحاً لدى سماعهم النبأ وقالوا: سنعطيك ضعف ما أوصى به أبونا.

جاء الشاب بالمال وسلَّمهم إيَّاه، فأعادوا إليه ألفي دينار وأخذوا ثمانية آلاف، ولم تمضِ أيَّام على هذه القضيَّة، حتَّى استدعى عبد الملك أُسرة القائد القتيل إلى بلاطه ليُحقِّق حول الرسالة، وسألم عن حالهم، فأخبروه بما جرى لهم مع الشابِّ، عندها استدعى عبد الملك الشابَّ فوراً، وأثنى عليه لأمانته وصدقه وسَلَّمه مسؤوليَّة خزينة البلاد قائلاً له: إنِّني لا أعرف أحداً قد قام بأداء الأمانة كما أدَّيتها أنت (١) .

____________________

(١) الشابُّ، ج١.

١٩٧

تجربة الحدَّاد وفتح عمَّوريَّة

لمَّا خرج ملك الروم وفعل في بلاد الإسلام ما فعل، بلغ الخبر المُعتصم فاستعظمه وكَبُر لديه، وبلغه أنَّ امرأة هاشميَّة صاحت وهي أسيرة في أيدي الروم وامعتصاه، فأجابها وهو جالس على سريره: لبيك لبيك.

ونهض مِن ساعته وصاح في قصره النفير النفير، وبلغه أنَّ عمَّوريَّة عَين النصرانيَّة وأشرف عندهم مِن القسطنطنيَّة؛ لتجهِّزها بما لم يُعهد مِن السلاح وحياض الأدم وغير ذلك، وفرَّق عساكره ثلاث فِرق، فخربوا بلاد الروم وقتلوا كثيراً وأحرقوا ووصلوا إلى ((أنقورية)) ثمَّ اجتمعوا في عمَّوريَّة وحاضروها ونصبوا عليها المجانيق، وكانت في غاية الحصانة، وقد ذكر الشيخ مُحيي الدين بن العربي في كتابه المسمى: (بالمسامرة) فتح عمَّوريَّة فقال: فتحها المُعتصم في رمضان سنة ثلاث وعشرين ومائتين.

وسبب فتحها أنَّ رجلاً وقف على المُعتصم فقال: يا أمير المؤمنين، كنت بعمورية وجارية مِن أحسن النساء أسيرة قد لطمها عِلجٌ في وجهها فنادت: وامعتصماه!

فقال العِلج: وما يقدر عليه المُعتصم؟ يجيء على أبلق ينصرك وزاد في ضربها.

فقال المُعتصم: وفي أيِّ جهةٍ عمَّوريَّة؟

فقال له الرجل: هكذا وأشار إلى جهتها.

فردَّ المُعتصم وجهه إليه، وقال: لبيك أيَّتها الجارية، لبيك هذا المُعتصم بالله قد أجابك، ثمَّ تجهَّز إليها في اثني عشر ألف فرس أبلق... فلمَّا حاصرها وطال مقامه عليها جمع المُنجِّمين، فقالوا: إنَّا نرى أنَّك ما تفتحها إلاَّ في زمان نضج

١٩٨

العِنب والتين، فبعُد عليه ذلك واغتمَّ له، فخرج ليلة مُتجسِّساً في العسكر يسمع ما يقوله الناس. فمَرَّ بخيمة حدَّاد يضرب نعال الخيل وبين يديه غُلام أقرع قبيح الصورة، يضرب نعال الخيل ويقول: في رأس المُعتصم.

فقال له مُعلِّمه: اتركنا مِن هذا، ما لك والمُعتصم؟

فقال: ما عنده تدبير، له كذا وكذا يوماً على هذه المدينة مع قوَّته ولا يفتحها، لو أعطاني الأمر ما بتُّ غداً إلاّ فيها، فتعجَّب المُعتصم مِمَّا سمع وانصرف إلى خيامه، وترك بعض رجاله موكَّلا بالغُلام، فلمَّا أصبح جاءوا به، فقال: ما حملك - يا هذا - على ما بلغني مِنك؟

فقال: الذي بلغك حَقٌّ، ولِّني ما وراء خبائك وقد فتح الله عمَّوريَّة.

قال: ولَّيتك. وخلع عليه وقدَّمه على الحرب.

فجمع الرُّماة واختار منهم أهل الإصابة وجاء إلى بدن مِن أبدان الصور، وفي البدن مِن أوَّله إلى آخره خَطٌّ أسود مِن خشب عرضه ثلاثة أشبار أو أكثر، فحمى السِّهام بالنار وقال للرُّماة: مَن أخطأ منكم ذلك الخَطَّ الأسود ضربت عُنقه، وإذا بذلك الخَطِّ خشب ساج فعندما حصلت فيه السهام المحميَّة قامت النار فيه واحترق، فنزل البدن فتح الطريق أمام جنود المسلمين فدخلوا القلعة مُكبِّرين (الله أكبر، الله أكبر) وصار الفتح والنَّصر مِن نصيبهم، وذلك قبل الزمان الذي ذكره المُنجِّمون. ولمَّا دخل المُعتصم القلعة راكباً الفرس الأبلق ومعه الرجل الذي بلغه حديث الجارية قال له: سِرْ بي إلى الموضع الذي رأيتها فيه تصيح (وامعتصماه)، فسار به وأخرجها مِن موضعها.

وقال لها: يا جارية، هل أجابك المعتصم؟ وملَّكها العِلْج الذي لطمها والسيِّد الذي كان يملكها وجميع ماله، وأقام عليها خمسة وخمسين يوماً وفرَّق الأسرى على القوَّاد، وسار إلى طرسوس، ثمَّ رجع إلى دار مُلكه.

لم يكن لهذا الغلام الشابِّ - صانع الحدَّاد - أيَّة ثروة علميَّة، لكنَّه انتفع مِن

١٩٩

مدرسة الحياة، وكان قد قضى جانباً مِن حياته في الحِدادة، واكتسب مِن مُشاهداته اليوميَّة دروساً كبيرة، فقَرن الحدادة والفلز المُنصهر، وشَرر النار واحتراق الخشب والاشتعال السريع لخشب الساج، وما إلى ذلك مِن معلومات اكتسبها ذِهن الحدَّاد الشابُّ وكوَّنت في ضميره تجارب مُفيدة.

فعندما عجز كبار الرجال والمُتعلِّمون عن فتح قلعة عمُّوريَّة، وحينما بات العُلماء وكبار الضباط في حيرة مِن أمرهم وغلبهم اليأس والقنوط، تدخَّل الغُلام الشابُّ وحَلَّ المُعضلة بسُرعة وسهولة فائقتين، مُستفيداً مِن تجاربه ومُشاهداته اليوميَّة أثناء عمله كحدَّاد (١) .

____________________

(١) الشابُّ، ج١.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

محمّد البدر، آخر أئمة الزيديّة، فليرجع إلى كتابنا (بحوث في الملل والنحل). (1)

فكما قامت للزيديّة دولة في المغرب واليمن، فهكذا قامت دولة زيديّة في طبرستان بين الأعوام (250 - 360هـ)؛ حيث ظهر الحسن بن زيد بن محمّد بن إسماعيل بن زيد بن الحسين في طبرستان أيّام المستعين الله، وتمكّن من بسط نفوذه على طبرستان وجُرجان، وقام بعده أخوه محمّد بن زيد، ودخل بلاد الديلم عام 277هـ، ثُمَّ ملك طبرستان بعد ذلك الناصر للحق الحسن بن عليّ المعروف بالأطروش، وجاء بعده الحسن بن القاسم، وبعده محمّد بن الحسن بن القاسم المتوفّى 360هـ.

هذه إلمامة موجزة وضعتها أمام القارئ عن ثوّارهم ودولهم.

عقائد الزيديّة

لم يكن زيد الشهيد صاحب نهج كلامي ولا فقهي، فلو كان يقول بالعدل والتوحيد ويكافح الجبر والتشبيه، فلأجل أنّه ورثهما عن آبائه (عليهم السّلام)، وإن كان يفتي في مورد أو موارد، فهو يصدر عن الحديث الّذي يرويه عن آبائه.

نعم، جاء بعد زيد مفكّرون وعاة، وهم بين دعاة للمذهب، أو بناة للدولة في اليمن وطبرستان، فساهموا في إرساء مذهب باسم المذهب الزيدي، متفتّحين في الأُصول والعقائد مع المعتزلة، وفي الفقه وكيفيّة الاستنباط مع الحنفيّة، ولكن الصلة بين ما كان عليه زيد الشهيد في الأُصول والفروع وما أرساه

____________________

(1) بحوث في الملل والنحل: 7/371 - 386.

٢٤١

هؤلاء في مجالي العقيدة والشريعة منقطعة إلاّ في القليل منهما.

ولا أُغالي إذا قلت: إنّ المذهب الزيدي مذهب ممزوج ومنتزع من مذاهب مختلفة في مجالي العقيدة والشريعة، ساقتهم إلى ذلك الظروف السائدة عليهم، وصار مطبوعاً بطابع مذهب زيد، وإن لم يكن له صلة بزيد إلاّ في القسم القليل.

ومن ثَمَّ التقت الزيديّة في العدل والتوحيد مع شيعة أهل البيت جميعاً، إذ شعارهم في جميع الظروف والأدوار رفض الجبر والتشبيه، والجميع في التديّن بذينك الأصلين عيال على الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام)، كما أنّهم التقوا في الأُصول الثلاثة: ـ

1 - الوعد والوعيد.

2 - المنزلة بين المنزلتين.

3 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. - مع المعتزلة حيث أدخلوا هذه الأُصول في مذهبهم ورتّبوا عليه:

1 - خلود مرتكب الكبيرة في النار إذا مات بلا توبة، وحرمانه من الشفاعة؛ لأنّها للعدول دون الفسّاق.

2 - الشفاعة؛ بمعنى ترفيع الدرجة، لا الحطّ من الذنوب.

3 - الفاسق في منزلة بين المنزلتين؛ فهو عندهم لا مؤمن ولا كافر بل فاسق.

فاستنتجوا الأمرين الأوّلين من الأصل الأوّل، والثالث من الأصل الثاني.

٢٤٢

وأمّا الأصل الثالث، فهو ليس من خصائص الاعتزال، ولا الزيديّة، بل يشاركهم الإماميّة. هذه عقائدهم في الأُصول.

وأمّا الفروع فقد التفّت الزيديّة حول القياس والاستحسان والإجماع، وجعلوا الثالث بما هو هو حجّة، كما قالوا بحجيّة قول الصحابي وفعله، وبذلك صاروا أكثر فِرق الشيعة انفتاحاً على أهل السنّة.

ولكن العلامة الفارقة والنقطة الشاخصة الّتي تميّز هذا المذاهب عمّا سواه من المذاهب، ويسوقهم إلى الانفتاح على الإماميّة والإسماعيليّة، هو القول بإمامة عليّ والحسنين بالنصّ الجليّ أو الخفيّ عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، والقول بأنّ تقدّم غيرهم عليهم كان خطأ وباطلاً.

وها نحن نأتي برؤوس عقائدهم الّتي يلتقون في بعضها مع المعتزلة والإماميّة:

1 - صفاته سبحانه عين ذاته، خلافاً للأشاعرة.

2 - إنّ الله سبحانه لا يُرى ولا تجوز عليه الرؤية.

3 - العقل يدرك حسن الأشياء وقبحها.

4 - الله سبحانه مريد بإرادة حادثة.

5 - إنّه سبحانه متكلّم بكلام، وكلامه سبحانه فعله: وهو الحروف والأصوات.

6 - أفعال العباد ليست مخلوقة لله سبحانه.

7 - تكليف ما يطاق قبيح، خلافاً للمجبّرة والأشاعرة.

8 - المعاصي ليس بقضاء الله.

٢٤٣

9 - الإمامة تجب شرعاً لا عقلاً، خلافاً للإمامية.

10 - النصّ على إمامة زيد والحسنين عند الأكثريّة.

11 - القضاء في فدك صحيح، خلافاً للإماميّة.

12 - خطأ المتقدّمين على عليّ في الخلافة قطعيّ.

13 - خطأ طلحة والزبير وعائشة قطعيّ.

14 - توبة الناكثين صحيحة.

15 - معاوية بن أبي سفيان فاسق لبغيه لم تثبت توبته.

هذه رؤوس عقائد الزيديّة استخرجناها من كتاب (القلائد في تصحيح الاعتقاد)، المطبوع في مقدّمة البحر الزخّار. (1)

فرق الزيديّة:

قد ذكر مؤرّخو العقائد للزيديّة فِرقاً، بين مقتصر على الثلاث، وإلى مفيض إلى ست، وإلى ثمان، منهم: الجاروديّة والسليمانيّة والبتريّة والنعيميّة، إلى غير ذلك من الفِرق، وبما أنّ هذه الفِرق كلّها قد بادت وذهبت أدراج الريح، مع بقاء الزيديّة في اليمن، ولا يوجد اليوم في اليمن بين الزيديّة من المفاهيم الكلاميّة المنسوبة إلى الفِرق كالجاروديّة أو السليمانيّة أو البتريّة أو الصالحيّة إلاّ مفهوم واحد، وهو المفهوم العام الّذي تعرفت عليه، وهو القول بإمامة زيد والخروج

____________________

(1) البحر الزخّار: 52 - 96.

٢٤٤

على الظلمة، واستحقاق الإمامة بالطلب والفضل، لا بالوراثة، مع القول بتفضيل عليّ - كرم الله وجهه - وأولويتّه بالإمامة، وقصرها من بعده في البطنين الحسن والحسين.

وأمّا أسماء تلك الفِرق والعقائد المنسوب إليهم، فلا توجد اليوم إلاّ في بطون الكتب والمؤلَّفات في الفِرق الإسلاميّة كالمِلل والنحل ونحوها، فإذا كان الحال في اليمن كما ذكره الفضيل شرف الدين، فالبحث عن هذه الفِرق من ناحية إيجابيّاتها وسلبيّاتها ليس مهمّاً بعد ما أبادهم الدهر، وإنّما اللاّزم دراسة المفهوم الجامع بين فِرقهم.

٢٤٥

15

الإسماعيليّة

الإسماعيليّة فِرقة من الشيعة القائلة بأنّ الإمامة بالتنصيص من النبيّ أو الإمام القائم مقامه، غير أنّ هناك خلافاً بين الزيديّة والإماميّة والإسماعيليّة في عدد الأئمّة ومفهوم التنصيص.

فالأئمّة المنصوصة خلافتهم وإمامتهم بعد النبيّ عند الزيديّة لا يتجاوز عن الثلاثة: عليّ أمير المؤمنين (عليه السّلام)، والسبطين الكريمين: الحسن والحسين (عليهما السّلام)، وبشهادة الأخير أغلقت دائرة التنصيص وجاءت مرحلة الانتخاب بالبيعة كما تقدم.

وأمّا الأئمّة المنصوصون عند الإماميّة فاثنا عشر إماماً آخرهم غائبهم يظهره الله سبحانه عندما يشاء، وقد حوّل أمر الأُمّة - في زمان غيبته - إلى الفقيه العارف بالأحكام والسنن والواقف على مصالح المسلمين على النحو المقرّر في كتبهم وتآليفهم.

وأمّا الإمامة عند الإسماعيليّة فهي تنتقل عندهم من الآباء إلى الأبناء، ويكون انتقالها عن طريق الميلاد الطبيعي، فيكون ذلك بمثابة نصّ من الأب بتعيين الابن، وإذا كان للأب عدّة أبناء فهو بما أُوتي من معرفة خارقة للعادة يستطيع أن يعرف من هو الإمام الّذي وقع عليه النص، فالقول بأنّ الإمامة عندهم بالوراثة أولى من القول بالتنصيص.

٢٤٦

وعلى كلّ حال فهذه الفِرقة منشقّة عن الشيعة، معتقدة بإمامة إسماعيل بن جعفر بن الإمام الصادق (عليه السّلام)، وإليك نبذة مختصرة عن سيرة إسماعيل بن جعفر الصادق (عليه السّلام) (110 - 145هـ).

الإمام الأوّل للدعوة الإسماعيليّة:

إنّ إسماعيل هو الإمام الأوّل والمؤسّس للمذهب، فوالده الإمام الصادق (عليه السّلام) غنيّ عن التعريف وفضله أشهر من أن يُذكر، وأُمّه فاطمة بنت الحسين بن عليّ بن الحسين الّتي أنجبت أولاداً ثلاثة هم:

1 - إسماعيل بن جعفر.

2 - عبد الله بن جعفر.

3 - أُم فروة.

وكان إسماعيل أكبرهم، وكان أبو عبد الله (عليه السّلام) شديد المحبّة له والبرَّ به والإشفاق عليه، مات في حياة أبيه (عليه السلام) (بالعريض) وحمل على رقاب الرّجال إلى أبيه بالمدينة حتّى دفنه بالبقيع. (1)

استشهاد الإمام الصادق (عليه السّلام) على موته:

كان الإمام الصادق حريصاً على إفهام الشيعة بأنّ الإمامة لم تُكتب لإسماعيل، فليس هو من خلفاء الرسول الاثني عشر الّذين كُتبت لهم الخلافة والإمامة بأمر السماء وإبلاغ الرسول الأعظم.

____________________

(1) إرشاد المفيد: 284.

٢٤٧

ومن الدواعي الّتي ساعدت على بثّ بذر الشبهة والشكّ في نفوس الشيعة في ذلك اليوم؛ هو ما اشتهر من أنّ الإمامة للولد الأكبر، وكان إسماعيل أكبر أولاده، فكانت أماني الشيعة معقودة عليه، ولأجل ذلك تركّزت جهود الإمام الصادق (عليه السّلام) على معالجة الوضع واجتثاث جذور تلك الشبهة وأنّ الإمامة لغيره، فتراه تارة ينصّ على ذلك، بقوله وكلامه، وأُخرى بالاستشهاد على موت إسماعيل وأنّه قد انتقل إلى رحمة الله ولن يصلح للقيادة والإمامة.

وإليك نموذجاً يؤيّد النهج الّذي انتهجه الإمام لتحقيق غرضه في إزالة تلك الشبهة.

روى النعماني عن زرارة بن أعين، أنّه قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السّلام) وعند يمينه سيّد ولده موسى (عليه السّلام) وقدّامه مرقد مغطّى، فقال لي: «يا زرارة جئني بداود بن كثير الرقي وحمران وأبي بصير» ودخل عليه المفضّل بن عمر، فخرجت فأحضرت من أمرني بإحضاره، ولم يزل الناس يدخلون واحداً إثر واحد حتّى صرنا في البيت ثلاثين رجلا.

فلمّا حشد المجلس قال: «يا داود اكشف لي عن وجه إسماعيل»، فكشف عن وجهه، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «يا داود أحيٌّ هو أم ميّت؟» ، قال داود: يا مولاي هو ميّت، فجعل يعرض ذلك على رجل رجل، حتّى أتى على آخر من في المجلس، وانتهى عليهم بأسرهم، وكل يقول: هو ميّت يا مولاي، فقال: «اللّهم اشهد» ثُمَّ أمر بغسله وحنوطه، وإدراجه في أثوابه.

فلمّا فرغ منه قال للمفضّل: (يا مفضّل أحسر عن وجهه)، فحسر عن وجهه، فقال: «أحيُّ هو أم ميّت؟» فقال له: ميّت، قال(عليه السّلام): «اللّهم اشهد عليهم» ، ثُمَّ

٢٤٨

حمل إلى قبره، فلمّا وضع في لحده، قال: «يا مفضّل اكشف عن وجهه»، وقال للجماعة: (أحيّ هو أم ميّت؟)، قلنا له: ميّت، فقال: «اللّهم اشهد، واشهدوا فانّه سيرتاب المبطلون، يريدون إطفاء نور الله بأفواههم - ثُمَّ أومأ إلى موسى - والله متمّ نوره ولو كره المشركون»، ثُمَّ حثونا عليه التراب، ثُمَّ أعاد علينا القول، فقال: «الميّت، المحنّط، المكفّن المدفون في هذا اللحد من هو؟» قلنا: إسماعيل، قال: «اللّهم اشهد». ثُمَّ أخذ بيد موسى (عليه السّلام) وقال: «هو حقّ، والحقّ منه، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها». (1)

هل كان عمل الإمام تغطية لستره؟

إنّ الإسماعيليّة تدّعي أنّ ما قام به الإمام الصادق (عليه السّلام) كان تغطية؛ لستره عن أعين العباسيّين، الّذين كانوا يطاردونه بسبب نشاطه المتزايد في نشر التعاليم الّتي اعتبرتها الدولة العباسيّة منافية لقوانينها. والمعروف أنّه توجّه إلى سلمية ومنها إلى دمشق فعلم به عامل الخليفة، وهذا ما جعله يغادرها إلى البصرة ليعيش فيها متستّراً بقيّة حياته.

مات في البصرة سنة 143هـ، وكان أخوه موسى بن جعفر الكاظم حجاباً عليه، أمّا وليّ عهده محمّد فكان له من العمر أربع عشرة سنة عند موته. (2)

ما ذكره أُسطورة حاكتها يدُ الخيال، ولم يكن الإمام الصادق (عليه السّلام) ولا أصحابه الأجلاّء، ممّن تتلمذوا في مدرسة الحركات السريّة، حتّى يفتعل موت ابنه بمرأى ومسمع من الناس وهو بعد حيّ يرزق، ولم يكن عامل الخليفة

____________________

(1) غيبة النعماني: 327، الحديث 8، ولاحظ؛ بحار الأنوار: 48/21.

(2) عارف تامر: الإمامة في الإسلام: 180.

٢٤٩

بالمدينة المنوّرة بليداً، يكتفي بالتمويه، حتّى يتسلّم المحضر ويبعث به إلى دار الخلافة العبّاسيّة.

والظاهر أنّ إصرارهم بعدم موت إسماعيل في حياة أبيه جعفر الصادق (عليه السّلام)، لأجل تصحيح إمامة ابنه عبد الله بن إسماعيل؛ حتّى يتسنّى له أخذ الإمامة من أبيه الحيّ بعد حياة الإمام الصادق (عليه السّلام).

لكن الحقّ أنّه توفّي أيّام حياة أبيه، بشهادة الأخبار المتضافرة الّتي تعرّفت عليها، وهل يمكن إغفال أُمّة كبيرة وفيهم جواسيس الخليفة وعمّالها؟!، وستْر رحيل إسماعيل إلى البصرة بتمثيل جنازة بطريقة مسرحيّة يُعلن بها موته، فإنّه منهج وأُسلوب السياسيّين المخادعين، المعروفين بالتخطيط والمؤامرة، ومن يريد تفسير فعل الإمام عن هذا الطريق فهو من هؤلاء الجماعة (وكلّ إناء بالّذي فيه ينضح). وأين هذا من وضع الجنازة مرّات وكشف وجهه والاستشهاد على موته وكتابة الشهادة على كفنه؟!

والتاريخ يشهد على أنّه لم يكن لإسماعيل ولا لولَده الإمام الثاني، أيّة دعوة في زمان أبي جعفر المنصور ولا ولَده المهدي العبّاسي، بشهادة أنّ ابن المفضّل كتب كتاباً ذكر فيه صنوف الفِرق، ثُمَّ قرأ الكتاب على الناس، فلم يذكر فيه شيئاً من تلك الفِرقة مع أنّه ذكر سائر الفِرق الشيعيّة البائدة.

والحق إنّ إسماعيل كان رجلاً ثقة، محبوباً للوالد، وتوفّي في حياة والده وهو عنه راض، ولم تكن له أي دعوة للإمامة، ولم تظهر أي دعوة باسمه أيّام خلافة المهدي العبّاسي الّذي توفّي عام 169هـ، وقد مضى على وفاة الإمام الصادق (عليه السّلام) إحدى وعشرون سنة.

٢٥٠

الخطوط العريضة للمذهب الإسماعيلي

إنّ للمذهب الإسماعيلي آراء وعقائداً:

الأُولى: انتماؤهم إلى بيت الوحي والرسالة:

كانت الدعوة الإسماعيليّة يوم نشوئها دعوة بسيطة لا تتبنّى سوى: إمامة المسلمين، وخلافة الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) واستلام الحكم من العباسيّين بحجة ظلمهم وتعسّفهم، غير أنّ دعوة بهذه السذاجة لا يُكتب لها البقاء إلاّ باستخدام عوامل تضمن لها البقاء، وتستقطب أهواء الناس وميولهم.

ومن تلك العوامل الّتي لها رصيد شعبي كبير هو ادّعاء انتماء أئمّتهم إلى بيت الوحي والرسالة وكونهم من ذريّة الرسول وأبناء بنته الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السّلام)، وكان المسلمون منذ عهد الرسول يتعاطفون مع أهل بيت النبيّ، وقد كانت محبّتهم وموالاتهم شعار كلّ مسلم واع.

وممّا يشير إلى ذلك أنّ الثورات الّتي نشبت ضد الأُمويّين كانت تحمل شعار حبّ أهل البيت (عليهم السّلام) والاقتداء بهم والتفاني دونهم، ومن هذا المنطلق صارت الإسماعيليّة تفتخر بانتماء أئمّتهم إلى النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، حتّى إذا تسلّموا مقاليد الحكم وقامت دولتهم اشتهروا بالفاطميّين، وكانت التسمية يومذاك تهزّ المشاعر وتجذب العواطف بحجّة أنّ الأبناء يرثون ما للآباء من الفضائل والمآثر، وأنّ

٢٥١

تكريم ذريّة الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) تكريم له (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فشتّان ما بين بيت أُسّس بنيانه على تقوى من الله ورضوانه وبيت أُسّس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم.

الثانية: تأويل الظواهر:

إنّ تأويل الظواهر وإرجاعها إلى خلاف ما يتبادر منها في عرف المتشرّعة هي السمة البارزة الثانية للدعوة الإسماعيليّة، وهي إحدى الدعائم الأساسيّة؛ بحيث لو انسلخت الدعوة عن التأويل واكتفت بالظواهر لم تتميّز عن سائر الفِرق الشيعيّة إلاّ بصرف الإمامة عن الإمام الكاظم (عليه السّلام) إلى أخيه إسماعيل بن جعفر، وقد بنوا على هذه الدعامة مذهبهم في مجالي العقيدة والشريعة، وخصوصاً فيما يرجع إلى تفسير الإمامة وتصنيفها إلى أصناف.

إنّ تأويل الظواهر والتلاعب بآيات الذكر الحكيم وتفسيرها بالأهواء والميول جعل المذهب الإسماعيلي يتطوّر مع تطوّر الزمان، ويتكيّف بمكيّفاته، ولا ترى الدعوة أمامها أي مانع من مماشاة المستجدات وإن كانت على خلاف الشارع أو الضرورة الدينيّة.

الثالثة: تطعيم مذهبهم بالمسائل الفلسفيّة:

إنّ ظاهرة الجمود على النصوص والظواهر ورفض العقل في مجالات العقائد، كانت من أهم ميّزات العصر العبّاسي، هذه الظاهرة ولّدت رد فعل عند أئمّة الإسماعيليّة، فانجرفوا في تيّارات المسائل الفلسفيّة وجعلوها من صميم

٢٥٢

الدّين وجذوره، وانقلب المذهب إلى منهج فلسفي يتطوّر مع تطوّر الزمن، ويتبنّى أُصولاً لا تجد منها في الشريعة الإسلاميّة عيناً ولا أثراً.

يقول المؤرّخ الإسماعيلي المعاصر مصطفى غالب: إنّ كلمة (إسماعيليّة) كانت في بادئ الأمر تدلّ على أنّها من إحدى الفِرق الشيعيّة المعتدلة، لكنّها صارت مع تطوّر الزمن حركة عقليّة تدلّ على أصحاب مذاهب دينيّة مختلفة، وأحزاب سياسيّة واجتماعيّة متعدّدة، وآراء فلسفيّة وعلميّة متنوّعة. (1)

الرابعة: تنظيم الدعوة:

ظهرت الدعوة الإسماعيليّة في ظروف ساد فيها سلطان العبّاسيّين شرق الأرض وغربها، ونشروا في كلِّ بقعة جواسيس وعيوناً ينقلون الأخبار إلى مركز الخلافة الإسلاميّة، ففي مثل هذه الظروف العصيبة لا يُكتب النجاح لكلّ دعوة تقوم ضدّ السلطة إلاّ إذا امتلكت تنظيماً وتخطيطاً متقناً يضمن استمرارها، ويصون دعاتها وأتباعها من حبائل النظام الحاكم وكشف أسرارهم.

وقد وقف الدعاة على خطورة الموقف، وأحسّوا بلزوم إتقان التخطيط والتنظيم، وبلغوا فيه الذروة؛ بحيث لو قُورنت مع أحدث التنظيمات الحزبيّة العصريّة، لفاقتها وكانت لهم القدح المعلّى في هذا المضمار، وقد ابتكروا أساليب دقيقة يقف عليها من سبر تراجمهم وقرأ تاريخهم، ولم يكتفوا بذلك فحسب بل جعلوا تنظيمات الدعوة من صميم العقيدة وفلسفتها.

____________________

(1) تاريخ الدعوة الإسماعيليّة: 14.

٢٥٣

الخامسة: تربية الفدائيّين للدفاع عن المذهب:

إنّ الأقلّية المعارضة من أجل الحفاظ على كيانها لا مناص لها من تربية فدائيّين مضحّين بأنفسهم في سبيل الدعوة؛ لصيانة أئمتهم ودعاتهم من تعرّض الأعداء، فينتقون من العناصر المخلصة المعروفة بالتضحية والإقدام، والشجاعة النادرة، والجرأة الخارقة ويكلّفون بالتضحيات الجسديّة، وتنفيذ أوامر الإمام أو نائبه، وإليك هذا النموذج:

في سنة 500 هـ فكّر فخر الملك بن نظام وزير السلطان سنجر، أن يُهاجم قلاع الإسماعيليّة، فأوفد إليه الحسن بن الصباح أحد فدائيّيه فقتله بطعنة خنجر، ولقد كانت قلاعه في حصار مستمر من قبل السلجوقيّين.

السادسة: كتمان الوثائق:

إنّ استعراض تاريخ الدعوات الباطنيّة السرّيّة وتنظيماتها رهن الوقوف على وثائقها ومصادرها الّتي تنير الدرب لاستجلاء كنهها، وكشف حقيقتها وما غمض من رموزها ومصطلحاتها، ولكن للأسف الشديد أنّ الإسماعيليّة كتموا وثائقهم وكتاباتهم ومؤلّفاتهم وكلّ شيء يعود لهم، ولم يبذلوها لأحد سواهم، فصار البحث عن الإسماعيليّة بطوائفها أمراً مستعصياً، إلاّ أن يستند الباحث إلى كتب خصومهم وما قيل فيهم، ومن المعلوم أنّ القضاء في حقّ طائفة استناداً إلى كلمات مخالفيهم خارج عن أدب البحث النزيه.

٢٥٤

السابعة: الأئمّة المستورون والظاهرون:

إنّ الإسماعيليّة أعطت للإمامة مركزاً شامخاً، وصنّفوا الإمامة إلى رُتب ودرجات، وزوّدوها بصلاحيّات واختصاصات واسعة، غير أنّ المهمَّ هنا الإشارة إلى تصنيفهم الإمام إلى مستور دخل كهف الاستتار، وظاهر يملك جاهاً وسلطاناً في المجتمع، فالأئمّة المستورون هم الّذين نشروا الدعوة سرّاً وكتماناً، وهم:

1 - إسماعيل بن جعفر الصادق (عليه السّلام) (110 - 145هـ).

2 - محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (الحبيب) (132 - 193هـ)، ولد في المدينة المنوّرة وتسلّم شؤون الإمامة واستتر عن الأنظار خشية وقوعه بيد الأعداء. ولقّب بالإمام المكتوم لأنّه لم يعلن دعوته وأخذ في بسطها خفية.

3 - عبد الله بن محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (الوافي) (179 - 212هـ)، ولد في مدينة محمّد آباد، وتولّى الإمامة عام 193هـ بعد وفاة أبيه، وسكن السلمية عام 194هـ مصطَحباً بعدد من أتباعه؛ وهو الّذي نظّم الدعوة تنظيماً دقيقاً.

4 - أحمد بن عبد الله بن محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (التقي) (198 - 265هـ)، وتولّى الإمامة عام 212هـ، سكن السلمية سرّاً حيث أصبحت مركزاً لنشر الدعوة.

5 - الحسين بن أحمد بن عبد الله بن محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (الرضي) (212 - 289هـ) تولّى الإمامة عام 265هـ، ويقال أنّه اتّخذ عبد الله بن ميمون القدّاح حجّة له وحجاباً عليه.

٢٥٥

الأئمّة الظاهرون:

6 - عبيد الله المهدي (260 - 322هـ) والمعروف بين الإسماعيليّة أنّ عبيد الله المهدي الّذي هاجر إلى المغرب وأسّس هناك الدولة الفاطميّة كان ابتداءً لعهد الأئمّة الظاهرين الّذين جهروا بالدعوة وأخرجوها عن الاستتار.

7 - محمّد بن عبيد الله القائم بأمر الله (280 - 334هـ)، ولد بالسلمية، ارتحل مع أبيه عبيد الله المهدي إلى المغرب وعهد إليه بالإمامة من بعده.

8 - إسماعيل المنصور بالله (303 - 346هـ)، ولد بالقيروان، تسلّم شؤون الإمامة بعد وفاة أبيه سنة 334هـ.

9 - معد بن إسماعيل المعزّ لدين الله (319 - 365هـ)، مؤسس الدولة الفاطميّة في مصر.

10 - نزار بن معد العزيز بالله (344 - 386هـ)، ولي العهد بمصر سنة 365هـ، واستقلّ بالأمر بعد وفاة أبيه، وكانت خلافته إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفاً.

11 - منصور بن نزار الحاكم بأمر الله (375 - 411هـ)، بويع بالخلافة سنة 386هـ وكان عمره أحد عشر عاماً ونصف العام، وهو من الشخصيّات القليلة الّتي لم تتجلّ شخصيّته بوضوح، وقام بأعمال إصلاحيّة زعم مناوئوه أنّها من البدع.

وأمّا عن مصير الحاكم، فمجمل القول فيه أنّه فُقد في سنة 411هـ، ولم يُعلم مصيره، وحامت حول كيفيّة اغتياله أساطير لا تتلاءم مع الحاكم المقتدر.

٢٥٦

وبعد اختفائه انشقّت فِرقة من الإسماعيليّة ذهبت إلى إلوهيّة الحاكم وغيبته، وهم المعروفون اليوم بـ (الدروز) يقطنون لبنان.

12 - عليّ بن منصور الظاهر لإعزاز دين الله (395 - 427هـ)، بويع بالخلافة وعمره ستة عشر عاماً، وشنّ حرباً على الدروز محاولاً إرجاعهم إلى العقيدة الفاطميّة الأصيلة.

13 - معد بن عليّ المستنصر بالله (420 - 487هـ)، بويع بالخلافة عام 427هـ، وكان له من العمر سبعة أعوام، وقد ظلّ في الحكم ستّين عاماً، وهي أطول مدّة في تاريخ الخلافة الإسلاميّة.

إلى هنا تمّت ترجمة الأئمّة الثلاثة عشر الّذين اتّفقت كلمة الإسماعيليّة على إمامتهم وخلافتهم، ولم يشذّ منهم سوى الدروز الّذين انشقوا عن الإسماعيليّة في عهد خلافة الحاكم بأمر الله، وصار وفاة المستنصر بالله سبباً لانشقاق آخر وظهور طائفتين من الإسماعيليّة، بين مستعلية تقول بإمامة أحمد المستعلي بن المستنصر بالله، ونزاريّة تقول بإمامة نزار بن المستنصر.

وسنأتي بالحديث عن الإسماعيليّة المستعلية والنزاريّة فيما يلي.

٢٥٧

الإسماعيليّة المستعلية

صارت وفاة المستنصر بالله سبباً لانشقاق الإسماعيليّة مرّة ثانية - بعد انشقاق الدروز في المرّة الأُولى - فمنهم من ذهب إلى إمامة أحمد المستعلي بن المستنصر بالله، ومنهم من ذهب إلى إمامة نزار من المستنصر بالله، وإليك الكلام في أئمّة المستعلية في هذا الفصل مقتصرين على أسمائهم وتاريخ ولادتهم ووفاتهم:

1 - الإمام أحمد بن معد بن عليّ المستعلي بالله (467 - 495هـ).

2 - الإمام منصور بن أحمد الآمر بأحكام الله (490 - 524هـ).

قال ابن خلّكان: مات الآمر بأحكام الله ولم يعقب، وربّما يقال: أنّ الآمر مات وامرأته حامل بالطيّب. فلأجل ذلك عهد الآمر بأحكام الله الخلافة إلى الحافظ، الظافر، الفائز، ثُمَّ إلى العاضد، وبما أنّ هؤلاء لم يكونوا من صلب الإمام السابق، بل كانوا من أبناء عمّه صاروا دعاة؛ حيث لم يكن في الساحة إمام، ودخلت الدعوة المستعلية بعد اختفاء الطيّب بالستر، وما تزال تنتظر عودته، وتوقّفت عن السير وراء الركب الإمامي واتّبعت نظام الدعاة المطلقين.

3 - الداعي عبد المجيد بن أبي القاسم محمّد بن المستنصر الحافظ لدين الله (467 - 544هـ).

4 - الداعي إسماعيل بن عبد المجيد الظافر بأمر الله (527 - 549 هـ).

٢٥٨

5 - الداعي عيسى بن إسماعيل الفائز بنصر الله (544 - 555هـ).

6 - عبد الله بن يوسف العاضد لدين الله (546 - 567هـ).

ثُمَّ إنّ العاضد فوّض الوزارة إلى صلاح الدين الأيّوبي الّذي بذل الأموال على أصحابه وأضعف العاضد باستنفاد ما عنده من المال، فلم يزل أمره في ازدياد وأمر العاضد في نقصان، حتّى تلاشى العاضد وانحلّ أمره، ولم يبق له سوى إقامة ذكره في الخطبة، وتتبّع صلاح الدين جُند العاضد، وأخذ دور الأمراء وإقطاعاتهم فوهبها لأصحابه، وبعث إلى أبيه وإخوته وأهله، فقدموا من الشام عليه، وعزل قُضاة مصر الشيعة، واختفى مذهب الشيعة إلى أنّ نُسي من مصر، وقد زادت المضايقات على العاضد وأهل بيته، حتّى مرض ومات وعمره إحدى وعشرون سنة إلاّ عشرة أيام، وهو آخر الخلفاء الفاطميّين بمصر، وكانت مدّتهم بالمغرب ومصر منذ قام عبيد الله المهدي إلى أن مات العاضد 272 سنة، منها بالقاهرة 208 سنين.(1)

تتابع الدعاة عند المستعلية:

قد عرفت أنّ ركب الإمامة قد توقّف عند المستعلية وانتهى الأمر إلى الدعاة الّذين تتابعوا إلى زمان 999هـ، وعند ذلك افترقت المستعلية إلى فِرقتين: داوديّة، وسليمانيّة، وذلك بعد وفاة الداعي المطلق داود بن عجب شاه، انتخبت مستعلية كجرات داود بن قطب شاه خلفاً له، ولكن اليمانيّين عارضوا ذلك وانتخبوا داعياً آخر، يُدعى سليمان بن

____________________

(1) انظر الخطط المقريزيّة: 1/358 - 359.

٢٥٩

الحسن، ويقولون: إنّ داود قد أوصى له بموجب وثيقة ما تزال محفوظة.

إنّ الداعي المطلق للفِرقة الإسماعيليّة المستعلية الداوديّة اليوم هو طاهر سيف الدّين، ويُقيم في بومباي الهند، أمّا الداعي المطلق للفِرقة المستعلية السليمانيّة فهو عليّ بن الحسين، ويقيم في مقاطعة نجران بالحجاز. (1)

جناية التاريخ على الفاطميّين:

لاشكّ أنّ كلّ دولة يرأسها غير معصوم لا تخلو من أخطاء وهفوات، وربّما تنتابها بين آونة وأُخرى حوادث وفتن تضعضع كيانها وتشرفها على الانهيار.

والدولة الفاطميّة غير مستثناة عن هذا الخط السائد؛ فقد كانت لديها زلاّت وعثرات، إلاّ أنّها قامت بأعمال ومشاريع كبيرة لا تقوم بها إلاّ الدولة المؤمنة بالله سبحانه وشريعته، كالجامع الأزهر الّذي ظلّ عبر الدهور يُنير الدرب لأكثر من ألف سنة، كما أنّهم أنشأوا جوامع كبيرة ومدارس عظيمة مذكورة في تاريخهم، وبذلك رفعوا الثقافة الإسلاميّة إلى مرتبة عالية، وتلك الأعمال جعلت لهم في قلوب الناس مكانة عالية.

غير أنّا نرى أنّ أكثر المؤرّخين يصوّرها بأنّها من أكثر العصور ظلاماً في التاريخ؛ شأنها في ذلك شأن سائر الفراعنة، وليس هذا إلاّ حدسيّات وتخمينات أخذها أصحاب أقلام السِّير والتاريخ من رُماة القول على عواهنه دون أن يُمعنوا فيه.

____________________

(1) عارف تامر: الإمامة في الإسلام: 162.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421