القصص التربوية

القصص التربوية13%

القصص التربوية مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 421

القصص التربوية
  • البداية
  • السابق
  • 421 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 348130 / تحميل: 10135
الحجم الحجم الحجم
القصص التربوية

القصص التربوية

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

ان علق الامر بزوال علة النهى... إلى غير ذلك (والتحقيق) أنه لا مجال للتشبث بموارد الاستعمال فانه قل مورد منها يكون خاليا عن قرينة على الوجوب أو الاباحة أو التبعية، ومع فرض التجريد عنها لم يظهر بعد كون عقيب الحظر موجبا لظهورها في غير ما تكون ظاهرة فيه غاية الامر يكون موجبا لاجمالها غير ظاهرة في واحد منها الا بقرينة أخرى كما أشرنا (المبحث الثامن) الحق أن صيغة الامر مطلقا لا دلالة لها على المرة ولا التكرار، فان المنصرف عنها ليس الا طلب إيجاد الطبيعة المأمور بها فلا دلالة لها على أحدهما لا بهيئتها ولا بمادتها، والاكتفاء بالمرة فانما هو

______________________________

(قوله: إن علق النهي بزوال) كما في قوله تعالى: فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين، وقوله تعالى: فإذا تطهرن فأتوهن، وقوله تعالى: وإذا حللتم فاصطادوا (قوله: لا مجال للتشبث) اشارة إلى إبطال استدلال بعضهم على مدعاه ببعض موارد الاستعمال كالايات المتقدمة (وحاصله) أن الكلام في المقام في أن وقوع الامر عقيب الحظر هل هو من القرائن العامة التي لا يجوز العدول عن مقتضاها إلا بدليل الموجبة لظهور الصيغة في الاباحة مطلقا أو الوجوب أو رجوع الحكم السابق على النهي أو غير ذلك ؟ والاستعمال لا يدل على شئ من ذلك لامكان استناد الظهور فيه إلى قرينة خاصة غير الوقوع عقيب الحظر فلا يصح الاستناد إليه في اثبات الدعوى (قوله: ومع فرض) يعني لو فرض التجريد عن القرائن الخاصة لم يظهر أن الوقوع عقيب الحظر من القرائن الموجبة لظهور الصيغة في غير الوجوب الذي تكون ظاهرة فيه لولا الوقوع عقيب الحظر (قوله: لاجمالها) وعليه فلا تحمل على الوجوب بناء على وضعها له الا بناء على كون حجية أصالة عدم القرينة من باب التعبد لا من باب حجية الظهور

المرة والتكرار

(قوله: مطلقا) يعنى حيث لا يقيد بمرة أو تكرار (قوله: على المرة والتكرار) سيأتي منه شرحهما (قوله: لا بهيئتها ولا بمادتها) إذ

١٨١

لحصول الامتثال بها في الامر بالطبيعة كما لا يخفى (ثم) لا يذهب عليك أن الاتفاق على أن المصدر المجرد عن اللام والتنوين لا يدل الا على الماهية - على ما حكاه السكاكي - لا يوجب كون النزاع ههنا في الهيئة - كما في الفصول - فانه غفلة وذهول عن أن كون المصدر كذلك لا يوجب الاتفاق على أن مادة الصيغة لا تدل إلا على الماهية، ضرورة أن المصدر ليس مادة لسائر المشتقات بل هو صيغة مثلها

______________________________

الهيئة موضوعة وضع الحروف للنسبة الخاصة والمادة موضوعة لصرف الماهية لا بشرط، وكل من المرة والتكرار خارج عن مدلولهما (قوله: لحصول الامتثال) إذ الامتثال يحصل بوجود المأمور به فإذا كان المأمور به صرف الطبيعة وكان يتحقق بالمرة كانت امتثالا للامر، ومنه يظهر بطلان استدلال القائل بالمرة بصدق الامتثال بها (قوله: لا يذهب عليك) قال في الفصول: الحق أن هيئة الامر لا دلالة لها على مرة ولا على تكرار... إلى أن قال: وانما حررنا النزاع في الهيئة لنص جماعة عليه، ولان الاكثر حرروا النزاع في الصيغة وهي ظاهرة بل صريحة فيها، ولانه لا كلام في أن المادة وهي المصدر المجرد عن اللام والتنوين لا تدل الا على الماهية من حيث هي على ما حكى السكاكي وفاقهم عليه... الخ فأشكل عليه المصنف (ره) بان الاتفاق على عدم دلالة المصدر المجرد الا على الماهية لا يدل على كون النزاع في المقام في الهيئة لا في المادة إذ المصدر ليس مادة للمشتقات التي منها صيغة الامر بل هو مشتق مثلها، والمادة هي الامر المشترك بينه وبينها حسبما حققه (أقول): ما في الفصول يرجع إلى أمرين أحدهما أن المصدر مادة للمشتقات وثانيهما ان الاتفاق على عدم دلالته على المرة والتكرار يقتضي الاتفاق على عدم دلالة مادة (افعل) عليه ويكون النزاع في مدلول الهيئة أما الاول فيمكن أن يكون جاريا على المشهور، وأما الثاني فلا غبار عليه لان المصدر إذا لم يدل على المرة والتكرار دل ذلك عدم دلالة مادته عليهما فيصح الاستدلال به على عدم دلالة مادة (افعل) عليهما فيلزم الاتفاق على الاول الاتفاق على الاخير (قوله: غفلة وذهول) قد عرفت أنه في محله (قوله: ضرورة أن)

١٨٢

كيف وقد عرفت في باب المشتق مباينة المصدر وسائر المشتقات بحسب المعنى ؟ فكيف بمعناه يكون مادة لها ؟ فعليه يمكن دعوى اعتبار المرة أو التكرار في مادتها كما لا يخفى (إن قلت): فما معنى ما اشتهر من كون المصدر أصلا في الكلام (قلت): - مع أنه محل الخلاف - معناه أن الذى وضع اولا بالوضع الشخصي ثم بملاحظته وضع نوعيا أو شخصيا ساير الصيغ التى تناسبه مما جمعه معه مادة لفظ متصورة في كل منها ومنه بصورة ومعنى كذلك، هو المصدر أو الفعل فافهم (ثم) المراد بالمرة والتكرار هل هو الدفعة والدفعات أو الفرد والافراد ؟ والتحقيق أن يقعا بكلا المعنيين محل النزاع

______________________________

هذا لا يثبت الاشكال على الفصول إلا من جهة ظهور كلامه في كون المصدر مادة للمشتقات، وقد عرفت إمكان حمله على الاصطلاح المشهوري (قوله: فعليه يمكن) قد عرفت أنه لا يمكن (قوله: مع أنه محل) هذا لا دخل له في دفع السؤال إذ قول الكوفيين: ان الفعل هو الاصل في الاشتقاق أءكد في توجه الاشكال فتأمل (قوله: معناه أن) إذا كان هذا معنى كلامهم فليكن هو معنى كلام الفصول (قوله: جمعه معه) الضمير الاول راجع إلى (ما) التي هي عبارة عن سائر الصيغ والثاني راجع إلى (الذي) ويمكن العكس (قوله: ومعنى) معطوف على قوله: لفظ، يعني ومادة معنى متصورة في كل منها ومنه (قوله: هو المصدر) خبر أن (قوله: أو الفعل فافهم) لعله اشارة إلى وجوب حمل كلامهم على ما ذكر بقرينة دعوى الكوفيين ان الفعل هو الاصل إذ لا يراد منه أن الفعل مادة للمشتقات بالمعنى الحقيقي " ثم " ان الموجود في بعض النسخ الضرب على لفظة: وهو أولى (قوله: الدفعة والدفعات) الفرق بين الدفعة والفرد أن الدفعة تصدق على الافراد المتعددة الموجودة في وقت واحد ولا يصدق عليها أنها فرد واحد، وأن الفرد الموجود تدريجا مثل الكلام الممتد المتصل فرد واحد وليس دفعة فبينهما عموم من وجه كما بين الافراد والدفعات ايضا (قوله: والتحقيق أن يقعا) الذي استظهره في الفصول أن النزاع

١٨٣

وان كان لفظهما ظاهرا في المعنى الاول (وتوهم) أنه لو أريد بالمرة الفرد لكان الانسب بل اللازم أن يجعل هذا المبحث تتمة للمبحث الآتي من أن الامر هل يتعلق بالطبيعة أو بالفرد ؟ فيقال عند ذلك: وعلى تقدير تعلقه بالفرد هل يقتضي التعلق بالفرد الواحد أو المتعدد أو لا يقتضي شيئا منهما ؟ ولم يحتج إلى إفراد كل منهما بالبحث - كما فعلوه - وأما لو أريد بها الدفعة فلا علقة بين المسألتين كما لا يخفى (فاسد) لعدم العلقة بينهما لو أريد بها الفرد أيضا فان الطلب - على القول بالطبيعة - إنما يتعلق بها باعتبار وجودها في الخارج ضرورة أن الطبيعة من حيث هي

______________________________

*

فيهما بالمعنى الاول، ونسب إلى القوانين كونه فيهما بالمعنى الثاني، والظاهر ان مراد المصنف (ره) امكان كون النزاع فيهما بالمعنيين لا تحقق النزاع فيهما بهما معا إذ ليس له وجه ظاهر (قوله: وان كان لفظهما) هذا من القرائن التي اعتمد عليها في الفصول لاثبات ما استظهره (قوله: وتوهم انه لو أريد) هذا التوهم للفصول والباعث له عليه ظهور لفظ الفرد المذكور في المسألتين بمعنى واحد وهو ما يقابل الطبيعة (قوله: فاسد لعدم العلقة) حاصله أن المراد بالفرد هنا غير المراد به في تلك المسألة إذ المراد به في تلك المسألة ما يتقوم بالخصوصية المميزة له عن بقية الافراد والمراد به هنا الوجود الواحد للمأمور به فان كان المأمور به هو الطبيعة يقع النزاع في أن صيغة الامر تدل على وجوب وجود واحد للطبيعة أو وجود متعدد لها أو مطلق وجودها فيتأتى النزاع على القول بتعلق الامر بالطبيعة بعين ما يتأتى به على القول بتعلقه بالفرد، والقرينة على إرادة هذا المعنى من الفرد جعله في قبال الدفعة (قوله: باعتبار وجودها) هذا ذكره المصنف (رحمه الله) تمهيدا لتأتي النزاع على القولين لا ردا على الفصول إذ لم يتوهم خلافه في الفصول كما يشهد به دعواه تأتي النزاع على القولين بناء على كون المراد الدفعة إذ لا يخفى أن القائل بالطبيعة لو كان مراده الطبيعة من حيث هي لا معنى لتأتى النزاع في المقام بكل معنى (قوله: ضرورة ان الطبيعة من) قد يقال: الماهية

١٨٤

ليست الا هي لا مطلوبة ولا غير مطلوبة، وبهذا الاعتبار كانت مرددة بين المرة والتكرار بكلا المعنيين فيصح النزاع في دلالة الصيغة على المرة والتكرار بالمعنيين وعدمها، أما بالمعنى الاول فواضح، وأما بالمعنى الثاني فلوضوح أن المراد من الفرد أو الافراد وجود واحد أو وجودات، وإنما عبر بالفرد لان وجود الطبيعة في الخارج هو الفرد غاية الامر خصوصيته وتشخصه - على القول بتعلق الامر بالطبايع - يلازم المطلوب وخارج عنه بخلاف القول بتعلقه بالافراد فانه مما يقومه (تنبيه) لا إشكال - بناء على القول بالمرة - في الامتثال وأنه لا مجال للاتيان بالمأمور به ثانيا على أن يكون أيضا به الامتثال فانه من الامتثال بعد الامتثال (وأما) على المختار من دلالته على طلب الطبيعة من دون دلالة على المرة ولا على التكرار فلا يخلو الحال إما أن لا يكون هناك إطلاق الصيغة في مقام البيان بل في مقام الاهمال أو الاجمال

______________________________

من حيث هي ليست الا هي، ويراد منه معنى أن كل ما هو خارج عنها فليس هو هي لا عينها ولا جزؤها، وبهذا المعنى يقال: الماهية من حيث هي لا موجودة ولا معدومة ولا واحد ولا كثير ولا غيرها، وقد يقال ذلك بمعنى أن الخارج عنها ليس عارضا لها بما هي هي بل بشرط الوجود، ويختص النفي بعوارض الوجود كالكتابة والحركة وبهذا المعنى يقال: الماهية من حيث هي لا كاتبة ولا متحركة ولا لا كاتبة ولا لا متحركة، فان الكتابة لما كانت في الرتبة اللاحقة للوجود كان نقيضها هو العدم في الرتبة اللاحقة له أيضا لوحدة رتبة النقيضين فجاز ارتفاع النقيضين في غير تلك الرتبة وحيث أن الطلب ليس من عوارض الماهية من حيث هي بل بشرط الوجود صح أن يقال: الماهية من حيث هي لا مطلوبة ولا لا مطلوبة فتأمل (قوله: وبهذا الاعتبار) أي اعتبار الوجود (قوله: في الامتثال) يعني يتحقق بالمرة (قوله: من الامتثال بعد الامتثال) يعني وهو ممتنع لان الامتثال فعل المأمور به وبالامتثال الاول يسقط الامر فلا يكون فعله ثانيا امتثالا وسيجئ له

١٨٥

فالمرجع هو الاصل، وإما أن يكون اطلاقها في ذاك المقام فلا اشكال في الاكتفاء بالمرة في الامتثال، وإنما الاشكال في جواز ان لا يقتصر عليها فان لازم اطلاق الطبيعة المأمور بها هو الاتيان بها مرة أو مرارا لا لزوم الاقتصار على المرة كما لا يخفى (والتحقيق) أن قضية الاطلاق انما هو جواز الاتيان بها مرة في ضمن فرد أو افراد فيكون ايجادها في ضمنها نحوا من الامتثال كايجادها في ضمن الواحد لا جواز الاتيان بها مرة ومرات فانه مع الاتيان بها مرة لا محالة يحصل الامتثال ويسقط به الامر فيما إذا كان امتثال الامر علة تامة لحصول الغرض الاقصى بحيث يحصل بمجرده فلا يبقى معه مجال لاتيانه ثانيا بداعي امتثال آخر أو بداعي أن يكون الاتيانان امتثالا واحدا لما عرفت من حصول الموافقة باتيانها وسقوط الغرض معها وسقوط الامر بسقوطه فلا يبقى مجال لامتثاله أصلا، وأما إذا لم يكن الامتثال علة تامة لحصول الغرض

______________________________

تتمة (قوله: فالمرجع هو الاصل) يعني الاصل العملي فلو تردد الامر بين الطبيعة والتكرار فالاصل البراءة عن وجوب الزائد على المرة مع تعدد الوجود أما مع اتصاله - بناء على تحقق التكرار به - فاستصحاب الوجوب هو المرجع، ولو تردد بين الطبيعة والمرة فلا أثر للشك، ولو تردد بين المرة والتكرار والطبيعة فالحكم كما لو تردد بين الطبيعة والتكرار، وكذا لو تردد بين المرة والتكرار، وربما يختلف الاصل باختلاف تفسير المرة من حيث كونها لا بشرط أو بشرط لا فلاحظ (قوله: في ذاك المقام) أي في مقام البيان (قوله: في الاكتفاء بالمرة) لصدق الطبيعة على المرة (قوله: في جواز ان لا يقتصر) يعني في جواز الاتيان ثانيا بقصد امتثال الامر لا مجرد الاتيان ثانيا بلا قصد الامر فانه لا ريب في جوازه (قوله: أو مرارا) فيجوز الاتيان ثانيا وثالثا بقصد الامتثال (قوله: فرد أو أفراد) يعني افرادا دفعية (قوله: فانه مع الاتيان بها) هذا تعليل لعدم كون مقتضى الاطلاق جواز الاتيان زائدا على المرة، ومرجعه إلى ابداء المانع العقلي عن ثبوت

١٨٦

كما إذا أمر بالماء ليشرب أو يتوضأ فأتى به ولم يشرب أو لم يتوضأ فعلا فلا يبعد صحة تبديل الامتثال باتيان فرد آخر أحسن منه بل مطلقا كما كان له ذلك قبله على ما يأتي بيانه في الاجزاء (المبحث التاسع) الحق انه لا دلالة للصيغة

______________________________

اطلاق المذكور لان الوجود الاول إذا كان علة تامة لسقوط الغرض كان علة تامة لسقوط الامر ايضا فيمتنع كون الوجود اللاحق موضوعا للامر كي يجوز الاتيان به بقصد امتثال الامر، وإذا امتنع كون الاتيان الثاني موضوعا للامر امتنع ان يكون اطلاق الصيغة شاملا للمرة والمرات " أقول ": يمكن منع الاطلاق المذكور مع قطع النظر عن المانع العقلي وذلك لان اطلاق المادة يقتضي أن يكون المراد بها صرف الوجود الصادق على القليل والكثير وهو لا ينطبق على الوجود اللاحق فانه وجود بعد وجود لا صرف الوجود الذي هو بمعنى خرق العدم فتأمل، وأما المانع الذي ذكره فهو يتوقف على امتناع التخيير بين الاقل والاكثر بكل وجه، وسيأتي الكلام فيه (قوله: كما إذا امر بالماء ليشرب) الغرض من الامر باحضار الماء: تارة يكون مجرد تمكن الآمر من شربه ولا ريب في حصوله بمجرد احضاره، واخرى يكون هو الشرب الفعلي فيشكل الامتثال ثانيا من جهة امتناع بقاء الامر مع حصول موضوعه الذي هو صرف الاحضار، فلا بد اما من الالتزام بأن موضوع الامر ليس مطلق الاحضار بل الاحضار المترتب عليه الشرب، والباعث على هذا الالتزام لزوم المساواة عقلا بين الغرض وموضوع الامر سعة وضيقا لامتناع التفكيك بينهما، وعليه فلا يتعين الاحضار الحاصل لان يكون مأمورا به الا بعد ترتب الغرض عليه، ولازمه ان المكلف في مقام الامتثال انما يأتي بالاحضار الاول رجاء كونه مأمورا به لا بقصد ذلك، وحينئذ فللمكلف الاتيان ثانيا وثالثا بهذا القصد بعينه ولا يكون فرق بين الوجود الاول وبقية الوجودات اللاحقة في كيفية الامتثال لكن لازم ذلك القول بالمقدمة الموصلة، واما من الالتزام بأن الغرض كما يبعث إلى الامر اولا بالاحضار يبعث ثانيا إلى صرف الاحضار المنطبق على بقاء الفرد الاول واحضار فرد آخر إذ لا يتعين للدخل في

١٨٧

لا على الفور ولا على التراخي (نعم) قضية إطلاقها جواز التراخي والدليل عليه تبادر طلب ايجاد الطبيعة منها بلا دلالة على تقيدها باحدهما فلا بد في التقييد من دلالة أخرى كما ادعي دلالة غير واحد من الآيات على الفورية، وفيه منع الضرورة أن سياق آية: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) وكذا آية: (واستبقوا الخيرات) انما هو البعث نحو المسارعة إلى المغفرة والاستباق إلى الخير من دون استتباع تركهما للغضب والشر ضرورة أن تركهما لو كان مستتبعا للغضب والشر كان البعث بالتحذير عنهما أنسب كما لا يخفى " فافهم " مع لزوم كثرة تخصيصه في المستحبات وكثير من الواجبات بل أكثرها فلا بد من حمل الصيغة فيهما على خصوص الندب أو مطلق الطلب ولا يبعد دعوى استقلال العقل بحسن المسارعة والاستباق وكان ما ورد من الآيات والروايات في مقام البعث نحوه ارشادا إلى ذلك كالآيات والروايات الواردة في البعث على اصل الاطاعة فيكون الامر فيها لما يترتب على المادة بنفسها ولو لم يكن

______________________________

الغرض الفرد الاول بخصوصه بمجرد وجوده بل كما لم يتعين أولا قبل وجوده لم يتعين بعد وجوده، ولازم ذلك الالتزام باوامر طولية بحسب الزمان مادام الغرض باقيا ويكون المراد من بقاء الامر هذا المعنى لا بقاء الامر الشخصي بحدوده لامتناع بقائه بحصول موضوعه فتأمل جيدا.

الفور والتراخى

(قوله: لا على الفور ولا على) كما هو المشهور وعن الشيخ (ره) وجماعة القول بالفور، وعن السيد (ره) الاشتراك بين الفور والتراخي، وعن آخرين التوقف، والتحقيق الاول ويظهر ذلك بملاحظة ما تقدم في المرة والتكرار (قوله: قضية اطلاقها) يعني اطلاق المادة بالاضافة إلى الزمان (قوله: تبادر طلب) يعني ولو كان الوجه في التبادر مقدمات الاطلاق (قوله: ضرورة ان تركهما) يعني أن ظاهر تعليق المسارعة والاستباق بالمغفرة والخير كون تركهما

١٨٨

هناك أمر بها كما هو الشأن في الاوامر الارشادية " فافهم " (تتمة) بناء على القول بالفور فهل قضية الامر الاتيان فورا ففورا بحيث لو عصى لوجب عليه الاتيان به فورا ايضا في الزمان الثاني أولا ؟ وجهان مبنيان على أن مفاد الصيغة - على هذا القول - هو وحدة المطلوب

______________________________

لا ينافي تحقق المغفرة والخير كما هو الحال في كل فعل متعلق بمفعوله، ولازم ذلك عدم وجوب المسارعة والاستباق والا كان تركهما موجبا للغضب والشر كما هو شأن ترك الواجب وهو خلف، بل كان الانسب حينئذ أن يقال: احذروا من الغضب والشر بالمسارعة والاستباق، لا التعبير بما في الآية، إلا أن يقال: ان الغضب الحاصل بترك المسارعة لا يضاد المغفرة التي هي موضوع المسارعة فوجوب المسارعة لا ينافي كون تركها لا يؤدي إلى الغضب بل إلى المغفرة، وكذا الحال في الآية الاخرى، ولكن هذا لو سلم لا ينافي ظهور السياق فيما ذكره المصنف (ره) فتأمل جيدا (والاولى) أن يقال: المغفرة في الآية الاولى يراد منها سببها وهو الاطاعة وكما يمتنع اخذ الاطاعة قيدا للواجب الشرعي يمتنع أخذ المسارعة إليها كذلك وكما أن الامر بالاطاعة ارشادي كذلك الامر بالمسارعة فيها، مع أن الآية على تقدير دلالتها على وجوب المسارعة لا تدل على تقييد الواجب بالفورية بل هي على خلاف ذلك أدل لان مادة المسارعة إلى الشئ إنما تكون فيما هو موسع كما لا يخفى، وكذا الحال في الآية الاخرى على تقدير كون المراد من الخيرات الخيرات الاخروية كما هو الظاهر، ولعله إلى بعض ما ذكرنا اشار بقوله: فافهم (قوله: الارشادية فافهم) لعله اشارة إلى لزوم الالتزام به لما عرفت، (قوله: فهل قضية الامر) ينبغي ان يجعل الاحتمال ثلاثي الاطراف فيقال: هل ظاهر الامر الاتيان به فورا فلو تركه عصى وسقط الامر أو الاتيان به فورا على نحو لو تركه في الزمان الاول عصى في ترك الفورية وبقي الامر بصرف الطبيعة أو الاتيان به فورا ففورا فلو تركه في الزمان الاول عصى ووجب الاتيان به بعد ذلك

١٨٩

أو تعدده ولا يخفى أنه لو قيل بدلالتها على الفورية لما كان لها دلالة على نحو المطلوب من وحدته أو تعدده فتدبر جيدا

الفصل الثالث

الاتيان بالمأمور به على وجهه يقتضى الاجزاء في الجملة بلا شبهة، وقبل الخوض في تفصيل المقام وبيان النقض والابرام ينبغي تقديم أمور (أحدها) الظاهر ان المراد من (وجهه) في العنوان هو النهج الذى ينبغي أن يؤتى به على ذاك النهج شرعا

______________________________

فورا أيضا... وهكذا، ومبنى الاحتمال الاول ان الفورية في الزمان الاول مقومة لاصل المصلحة فتفوت بفوتها وهذا هو المراد من وحدة المطلوب، ومبنى الثاني ان يكون مصلحتان احداهما قائمة بذات الفعل مطلقا والاخرى قائمة بالفورية في الزمان الاول لا غير، ومبنى الثالث كذلك الا ان مصلحة الفورية ذات مراتب مختلفة يكون ترك الفورية في كل زمان مفوتا لمرتبة من مصلحتها لا لاصلها كما هو مبنى الثاني (قوله: أو تعدده) قد عرفت ان تعدده على نحوين يكونان مبنيين لاحتمالين (قوله: لو قيل بدلالتها على) اما لو كان الدليل على الفورية غير الصيغة فيختلف باختلاف تلك الادلة، وفي المعالم بنى القول بالسقوط على الاستناد لغير الآيتين والقول بعدمه على الاستناد اليهما، ولا يخلو من تأمل ليس هذا محل ذكره والله سبحانه اعلم، ثم انه حيث كان اطلاق يعتمد عليه في نفي الفور والتراخي فلا اشكال واما إذا لم يكن اطلاق كذلك فالمرجع الاصل فلو كان التردد بين الفور والتراخي فالواجب الجمع بين الوظيفتين للعلم الاجمالي بالتكليف باحدهما، ولو كان بين الفور والطبيعة فالمرجع اصل البراءة لو كان وجوب الفورية على نحو تعدد المطلوب ولو كان بنحو وحدة المطلوب فالحكم هو الحكم مع الشك بين الاقل والاكثر، وكذا الحكم لو كان التردد بين الطبيعة والتراخي والله سبحانه أعلم

١٩٠

وعقلا مثل أن يؤتى به بقصد التقرب في العبادة، لا خصوص الكيفية المعتبرة في المأمور به شرعا فانه عليه يكون (على وجهه) قيدا - توضيحيا - وهو بعيد - مع أنه يلزم خروج التعبديات عن حريم النزاع بناء على المختار كما تقدم من ان قصد القربة من كيفيات الاطاعة عقلا لا من قيود المأمور به شرعا، ولا الوجه المعتبر عند بعض الاصحاب فانه - مع عدم اعتباره عند المعظم، وعدم اعتباره عند من اعتبره إلا في خصوص العبادات لا مطلق الواجبات، لا وجه لاختصاصه به بالذكر على تقدير الاعتبار فلا بد من ارادة ما يندرج فيه من المعنى وهو ما ذكرناه كما لا يخفى

______________________________

الكلام في الاجزاء

(قوله: مثل ان يؤتى به) بيان للنهج اللازم عقلا بناء على خروج قصد التقرب عن موضوع الامر (قوله: لا خصوص) معطوف على النهج وفيه تعريض بما قد يظهر من عبارة التقريرات فتأملها (قوله: قيدا توضيحيا) لان ذكر المأمور به يغني عنه ثم إن كون القيد توضيحيا لازم للقائلين بأن قصد التقرب داخل في المأمور به (قوله: مع انه يلزم خروج) إذ لا إشكال في عدم الاجزاء لو كان المأمور به في العبادات فاقدا لقصد التقرب وان كان واجدا لجميع ما يعتبر فيه شرعا (قوله: بناء على المختار) أما على القول بكون قصد التقرب قيدا للمأمور به فهي داخلة في محل النزاع لدخولها في العنوان ويكون عدم الاجزاء مع فقد التقرب لعدم الاتيان بالمأمور به شرعا (قوله: ولا الوجه المعتبر) يعني الوجوب والندب (قوله: عند المعظم) فلا وجه لذكره في العنوان في كلام المعظم إلا أن يكون المقصود من ذكره الاحتياط في ذكر القيود لكنه بعيد (قوله: لا مطلق الواجبات) فلا وجه لاخذه قيدا في دعوى الاجزاء مطلقا (قوله: لاختصاصه) يعني من دون سائر القيود المعتبرة في الاطاعة مثل التقرب والتمييز إلا أن يدعى الاكتفاء به عنهما على بعض

١٩١

(ثانيها) الظاهر ان المراد من الاقتضاء ههنا الاقتضاء بنحو العلية والتأثير لا بنحو الكشف والدلالة، ولذا نسب إلى الاتيان لا إلى الصيغة (ان قلت): هذا إنما يكون كذلك بالنسبة إلى أمره وأما بالنسبة إلى أمر آخر كالاتيان بالمأمور به بالامر الاضطراري أو الظاهرى بالنسبة إلى الامر الواقعي فالنزاع في الحقيقة في دلالة دليلهما على اعتباره بنحو يفيد الاجزاء أو بنحو آخر لا يفيده (قلت): نعم لكنه لا ينافى كون النزاع فيها كان في الاقتضاء بالمعنى المتقدم غايته ان العمدة في سبب الاختلاف فيهما انما هو الخلاف في دلالة دليلهما هل انه على نحو يستقل العقل بان الاتيان به موجب للاجزاء ويؤثر فيه وعدم دلالته، ويكون النزاع فيه صغرويا أيضا بخلافه في الاجزاء بالاضافة إلى أمره فانه لا يكون الا كبرويا لو كان هناك نزاع

______________________________

التقادير فتأمل (قوله: المراد من الاقتضاء ههنا) الواقع في القوانين والفصول وغيرهما في تحرير العنوان قولهم: الامر بالشئ هل يقتضي الاجزاء أولا ؟، وحيث أن ظاهر الاقتضاء فيه الكشف والدلالة كما في قولهم: الامر يقتضي الوجوب، والنهي يقتضي التحريم، نبه المصنف (ره) على ان الاقتضاء في العنوان المذكور في المتن ليس بمعنى الكشف والدلالة بل بمعنى العلية والتأثير كما في قولهم: الامر بالشئ يقتضي النهي عن ضده، والوجه في ذلك نسبة الاقتضاء في عنوان المتن إلى الاتيان وفي عنوان غيره إلى الامر وحيث أنه لا معنى لتأثير الامر في الاجزاء وجب حمله على الدلالة يعني يدل الامر على أن موضوعه واف بتمام المصلحة بخلاف الاتيان فان تأثيره في الاجزاء ظاهر إذ لولا كونه علة لحصول الغرض لما كان مامورا به (قوله: هذا إنما يكون) يعني أن حمل الاقتضاء على العلية إنما يصح بالاضافة إلى نفس الامر المتعلق بالماتي فان إجزاءه يلازم سقوط امره لا بالنسبة إلى الامر المتعلق بغيره إذ النزاع في الحقيقة يكون في دلالة الدليل فالاقتضاء فيه بمعنى الدلالة (قوله: نعم) يعني كما ذكرت من أن النزاع في دلالة الدليل (قوله: صغرويا) صورة القياس في المقام هكذا: المأمور به

١٩٢

كما نقل عن بعض (فافهم) (ثالثها) الظاهر ان الاجزاء ههنا بمعناه لغة وهو الكفاية وان كان يختلف ما يكفى عنه فان الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي يكفى فيسقط به التعبد به ثانيا، وبالامر الاضطراري أو الظاهرى الجعلي فيسقط به القضاء لا انه يكون ههنا اصطلاحا بمعنى اسقاط التعبد أو القضاء فانه بعيد جدا

______________________________

*

بالامر الاضطراري مأمور به بالامر الواقعي - ولو تنزيلا - والمامور به بالامر الواقعي يقتضي الاجزاء، ينتج: المأمور به بالامر الاضطراري يقتضي الاجزاء. والنزاع في هذه المسألة بالنسبة إلى الامر الواقعي في الكبرى وبالنسبة إلى الامر الاضطراري في الصغرى بالنسبة إلى الامر الواقعي، وفي الكبرى بالنسبة إلى أمر نفسه والمحكم في الكبرى مطلقا العقل والمحكم في الصغرى الدليل الشرعي فإذا كان الاقتضاء في الكبرى بمعنى العلية كان في النتيجة كذلك، ومنه يظهر أن إثبات الاجزاء في الفعل الاضطراري والظاهري بالنسبة إلى الامر الواقعي يتوقف على إثبات الصغرى والكبرى معا، وفي الفعل الواقعي على اثبات نفس الكبرى لانه عينها (قوله: فافهم) يمكن ان يكون اشارة إلى ان النزاع في مثل هذه الصغرى ليس نزاعا في المسألة الاصولية لان شأن المسائل الاصولية تنقيح الكبريات وأما الصغريات فوضيفة الفقيه، ولذا لم يتعرض في هذا المبحث لصغريات الافعال الاضطرارية والظاهرية تفصيلا فلاحظ (قوله: الظاهر ان الاجزاء) قد تضمنت جملة من العبارات كون الاجزاء له معنيان (احدهما) إسقاط التعبد بالفعل ثانيا (وثانيهما) إسقاط القضاء، وأن المراد هنا أي المعنيين ؟ وقد دفع المصنف (ره) ذلك - تبعا للتقريرات - بان لفظ الاجزاء لم يستعمل في المقام إلا بمعناه اللغوي وهو الكفاية غاية الامر أن ما يكفي عند الماتي به تارة يكون هو التعبد به ثانيا فيكون مسقطا للتعبد به واخرى الامر به قضاء فيكون مسقطا للقضاء لا أن له معنى اصطلاحيا ليتردد في أنه إسقاط التعبد أو إسقاط القضاء (قوله: يكفي فيسقط) يعنى يكفي في حصول الغرض فلا يحتاج إلى التعبد به ثانيا لتحصيله (قوله: فيسقط به) يعنى يكفي أيضا في حصول

١٩٣

(رابعها) الفرق بين هذه المسألة ومسألة المرة والتكرار لا يكاد يخفى، فان البحث ههنا في ان الاتيان بما هو المأمور به يجزئ عقلا بخلافه في تلك المسألة فانه في تعيين ما هو المأمور به شرعا بحسب دلالة الصيغة بنفسها أو بدلالة اخرى (نعم) كان التكرار عملا موافقا لعدم الاجزاء لكنه لا بملاكه، وهكذا الفرق بينها وبين مسألة تبعية القضاء للاداء فان البحث في تلك المسألة في دلالة الصيغة على التبعية وعدمها بخلاف هذه المسألة فانه كما عرفت في ان الاتيان بالمأمور يجزئ عقلا عن اتيانه ثانيا اداء أو

______________________________

*

الغرض فلا يثبت الامر بالقضاء ثم إن إجزاء المأمور به الواقعي لما كان بلحاظ الامر به ناسب التعبير باسقاط التعبد به ثانيا وإجزاء المأمور به بالامر الاضطراري والظاهري لما كان بلحاظ الامر به قضاء ناسب التعبير باسقاط القضاء (قوله: الفرق بين هذه) قد يتوهم أن القول بالمرة قول بالاجزاء والقول بالتكرار قول بعدم الاجزاء (قوله: بما هو المأمور به) يعني بعد الفراغ عن تعيين تمام المأمور به (قوله: فانه في تعيين) وحينئذ فيكون النزاع في الاجزاء مترتبا على النزاع في المرة والتكرار لا أن النزاع فيهما نزاع في الموضوع والنزاع فيه نزاع في الحكم (قوله: بحسب دلالة) يعني فيكون النزاع في أمر لفظي (قوله: عملا) متعلق بقوله: موافقا، يعني هما من حيث العمل سواء لكنه موقوف على أن المراد بالتكرار فعل كل فرد ممكن بعد آخر أما لو كان المراد ما يشمل تكرار الصلاة اليومية وصوم رمضان كما يقتضيه استدلال بعضهم فلا ملازمة بينهما عملا ثم إن هذا بالنسبة إلى أمره أما بالنسبة إلى أمر غيره فلا مجال للتوهم ولا للموافقة عملا (قوله: لا بملاكه) إذ ملاك عدم الاجزاء عدم وفاء المأمور به بالغرض المقصود منه وملاك التكرار عدم حصول تمام المأمور به (قوله: وهكذا الفرق) يعني قد يتوهم أن القول بعدم الاجزاء عين القول بتبعية القضاء للاداء، والقول بالاجزاء قول بعدم تبعية القضاء للاداء (قوله: فان البحث حينئذ) يعني أن البحث في تبعية القضاء للاداء بحث في ان الامر بشئ في وقت

١٩٤

قضاء أولا يجزئ فلا علقة بين المسألة والمسئلتين اصلا (إذا) عرفت هذه الامور فتحقيق المقام يستدعي البحث والكلام في موضعين (الاول) أن الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي بل بالامر الاضطراري أو الظاهري أيضا يجزئ عن التعبد به ثانيا، لاستقلال العقل بانه لا مجال مع موافقة الامر باتيان المأمور به على وجهه لاقتضائه التعبد به ثانيا. نعم لا يبعد ان يقال بأنه يكون للعبد تبديل الامتثال والتعبد به ثانيا بدلا عن التعبد به أولا لا منضما إليه كما اشرنا إليه في المسألة السابقة، وذلك فيما علم ان مجرد امتثاله لا يكون علة تامة لحصول الغرض وان كان وافيا به لو اكتفى

______________________________

*

هل يدل على لزوم فعله في خارج الوقت على تقدير عدم الاتيان به في الوقت بحيث يرجع إلى الامر به مطلقا لكونه في الوقت أولا يدل ؟ فيكون النزاع في تعيين المأمور به من حيث دلالة الامر، وأين هو من النزاع في المسألة ؟ (قوله: فلا علقة بين) أولا من جهة أن إحداهما متضمنة لتعيين نفس المأمور به والاخرى متضمنة لتعيين مقتضاه (وثانيا) من جهة أن النزاع في إحداهما لفظي وفى الاخرى عقلي " وثالثا " من جهة ان القول بعدم الاجزاء انما في ظرف الاتيان بالمأمور به والقول بالتبعية انما هو في ظرف عدم الاتيان به (قوله: بالامر الاضطراري) يعني بالاضافة إلى أمره (قوله: أو الظاهري) يعني بالاضافة إلى أمره (قوله: لاستقلال العقل بأنه) قد عرفت أن الامر الحقيقي لابد ان يكون حاكيا عن الارادة وأن الارادة حدوثا وبقاء تتوقف على العلم بالمصلحة المعبر عنها بالداعي تارة وبالغرض أخرى فالماتي به في الخارج إما أن لا يترتب عليه الغرض فلا يكون مامورا به فهو خلف أو يترتب عليه الغرض فبقاء الامر حينئذ إن كان بلا غرض فهو مستحيل كما عرفت وان كان عن غرض آخر غير الغرض الحاصل من الماتي به أولا فيلزمه أن يكون المأمور به فردين في الخارج يترتب على كل منهما غرض خاص فيكون الامر منحلا إلى أمرين يسقط كل منهما بالاتيان بمتعلقه وهو عين الاجزاء المدعى غاية الامر أنه لا يكون فعل أحدهما مسقطا لامر الآخر ومجزئا عنه ولكنه غير محل الكلام إذ الكلام - كما عرفت - في أن فعل المأمور به مجزئ عن الامر به ثانيا (قوله: لا منضما إليه)

١٩٥

به كما إذا اتى بماء امر به مولاه ليشربه فلم يشربه بعد فان الامر بحقيقته وملاكه لم يسقط بعد ولذا لو اهرق الماء واطلع عليه العبد وجب عليه اتيانه ثانيا كما لم يأت به أولا ضرورة بقاء طلبه ما لم يحصل غرضه الداعي إليه والا لما اوجب حدوثه فحينئذ يكون له الاتيان بماء آخر موافق للامر كما كان له قبل اتيانه الاول بدلا عنه. نعم فيما كان الاتيان علة تامة لحصول الغرض فلا يبقى موقع التبديل كما إذا أمر باهراق الماء في فمه لرفع عطشه فاهرقه، بل لو لم يعلم أنه من أي القبيل فله التبديل باحتمال ان لا يكون علة فله إليه السبيل، ويؤيد ذلك بل يدل عليه ما ورد من الروايات في باب اعادة من صلى فرادى جماعة وان الله تعالى يختار احبهما إليه (الموضع الثاني) وفيه مقامان (المقام الاول) في ان الاتيان بالمأمور به بالامر الاضطراري هل يجزئ عن الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي ثانيا بعد رفع الاضطرار في الوقت اعادة وفى خارجه قضاء أولا يجزئ ؟ تحقيق الكلام فيه يستدعي التكلم فيه (تارة) في بيان ما يمكن ان يقع عليه الامر الاضطراري من الانحاء وبيان ما هو قضية كل منها من الاجزاء وعدمه (وأخرى) في تعيين ما وقع عليه فاعلم انه يمكن

______________________________

*

قد يمكن أن يكون منضما إليه كما في الافراد الدفعية التى تكون امتثالا واحدا لعدم المرجح. فتأمل (قوله: وجب عليه) يعني بعين وجوبه أولا كما تقدم الكلام فيه (قوله: بدلا عنه) قد عرفت أنه يمكن أن يكون منضما إليه (قوله: فلا يبقى موقع) إذ الثاني مما يعلم بعدم ترتب الاثر عليه (قوله: ما ورد من الروايات) كرواية أبي بصير قلت لابي عبد الله (عليه السلام): أصلي ثم أدخل المسجد فتقام الصلاة وقد صليت فقال (عليه السلام): صل معهم يختار الله أحبهما إليه، ورواية هشام عنه (عليه السلام): في الرجل يصلي الصلاة وحده ثم يجد جماعة قال (عليه السلام): يصلي معهم ويجعلها الفريضة انشاء الله، ونحوها رواية حفص، وفي مرسلة الصدوق: يحسب له أفضلهما وأتمهما

١٩٦

ان يكون التكليف الاضطراري في حال الاضطرار كالتكليف الاختياري في حال الاختيار وافيا بتمام المصلحة وكافيا فيما هو المهم والغرض ويمكن ان لا يكون وافيا به كذلك بل يبقى منه شئ امكن استيفاؤه أو لا يمكن، وما أمكن كان بمقدار يجب تداركه أو يكون بمقدار يستحب، ولا يخفى انه ان كان وافيا به فيجزئ فلا يبقى مجال اصلا للتدارك لا قضاء ولا اعادة، وكذا لو لم يكن وافيا ولكن لا يمكن تداركه ولا يكاد يسوغ له البدار في هذه الصورة الا لمصلحة كانت فيه لما فيه من نقض الغرض وتفويت مقدار من المصلحة لولا مراعاة ما هو فيه من الاهم فافهم

______________________________

الامر الاضطراري

(قوله: ان يكون التكليف) يعني موضوعه (قوله: كالتكليف الاختياري) يعني كموضوعه (قوله: وما أمكن كان) يعني أن المقدار الباقي من المصلحة الذي يمكن استيفاؤه قسمان فانه تارة يكون واجب التدارك وأخرى يكون مستحب التدارك (أقول): ما لا يمكن استيفاؤه ايضا قسمان تارة يكون محرم التفويت وأخرى لا يكون كذلك فالاقسام خمسة وإنما لم يتعرض للقسمين المذكورين لعدم اختلافهما في الاجزاء وإن كانا يختلفان في جواز البدار وعدمه (قوله: ولا يخفى) شروع في حكم الاقسام من حيث الاجزاء (قوله: اصلا للتدارك) لان التدارك إنما يكون في ظرف الفوت والمفروض عدمه (قوله: ولا يكاد يسوغ) يعني حيث يكون الفائت مما يحرم تفويته أما إذا لم يكن فلا تحريم للبدار كما أن نسبة التحريم إلى البدار لا تخلو من مسامحة إذ المحرم هو تفويت ذلك المقدار والبدار ليس تفويتا ولا مقدمة له وإنما هو ملازم له فلا ينسب إليه التحريم إلا بالعرض والمجاز ولذا لم تفسد العبادة، ولعله إلى هذا اشار بقوله: فافهم (قوله: إلا لمصلحة) يعني إذا كانت مصلحة في البدار تصلح لمزاحمة المقدار الفائت لم يحرم التفويت الملازم للبدار حينئذ (قوله: لما فيه من)

١٩٧

(لا يقال): عليه فلا مجال لتشريعه ولو بشرط الانتظار لامكان استيفاء الغرض بالقضاء (فانه يقال): هذا كذلك لولا المزاحمة بمصلحة الوقت، وأما تسويغ البدار أو ايجاب الانتظار في الصورة الاولى فيدور مدار كون العمل بمجرد الاضطرار مطلقا أو بشرط الانتظار أو مع اليأس عن طرؤ الاختيار ذا مصلحة ووافيا بالغرض، وان لم يكن وافيا وقد امكن تدارك الباقي في الوقت أو مطلقا ولو بالقضاء خارج

______________________________

تعليل لعدم جواز البدار لكن عرفت أن البدار لا تفويت فيه لغرض المولى وإنما هو يلازم التفويت (قوله: فلا مجال لتشريعه) يعني إذا كان البدل الاضطراري غير واف بمصلحة المبدل الاختياري كيف جاز تشريعه ولو في آخر الوقت ؟ لان في تشريعه تفويتا للمصلحة (قوله: هذا كذلك) (أقول): تشريع الاضطراري إنما جاز لاشتماله على المصلحة مع عدم كونه مقدمة للتفويت فالمنع عن تشريعه غير ظاهر الوجه الا ان يكون المراد من تشريعه الامر بفعله في الوقت أو الاذن كذلك الملازمين للاذن في التفويت (قوله: لولا المزاحمة) يعنى انما يكون تفويت التشريع ممنوعا عنه حيث يؤدي إلى تفويت المصلحة مع عدم مزاحمتها بمصلحة أخرى وإلا فلو فرض كون خصوصية الفعل في الوقت مشتملة على مصلحة تزاحم المقدار الفائت لم يكن مانع عن تشريعه كما تقدم مثل ذلك في جواز البدار ثم إنه حيث كان في خصوصية الوقت مصلحة يتدارك بها ما يفوت جاز البدار أول الوقت إذا علم الاضطرار في تمام الوقت ولا موجب للانتظار فتأمل (قوله: في الصورة الاولى) وهي ما كان الاضطراري فيها وافيا بتمام المصلحة (قوله: الاضطرار مطلقا) وعليه يجوز البدار مطلقا (قوله: أو بشرط الانتظار) وعليه فلا يجوز البدار (قوله: أو مع اليأس) فلا يجوز البدار الا مع اليأس ثم إن هذه الاقسام لا تختص بالصورة الاولى بل تجري في الثانية أيضا إذ قد تكون خصوصية الوقت مطلقا ذات مصلحة تزاحم المقدار الفائت. وقد تكون بشرط الانتظار، وقد تكون بشرط اليأس وقد يكون بغير ذلك فيتبع كلا حكمه (قوله: وان لم يكن وافيا)

١٩٨

الوقت فان كان الباقي مما يجب تداركه فلا يجزئ فلا بد من ايجاب الاعادة أو القضاء وإلا فاستحبابه ولا مانع عن البدار في الصورتين غاية الامر يتخير في الصورة الاولى بين البدار والاتيان بعملين العمل الاضطراري في هذا الحال والعمل الاختياري بعد رفع الاضطرار أو الانتظار والاقتصار باتيان ما هو تكليف المختار، وفي الصورة الثانية يتعين عليه استحباب البدار واعادته بعد طروء الاختيار. هذا كله فيما يمكن أن يقع عليه الاضطراري من الانحاء، وأما ما وقع عليه فظاهر إطلاق دليله مثل قوله تعالى: (فان لم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا) وقوله (عليه السلام): (التراب أحد الطهورين ويكفيك عشر سنين) هو الاجزاء وعدم وجوب الاعادة أو القضاء ولا بد في ايجاب الاتيان به ثانيا من دلالة دليل بالخصوص (وبالجملة):

______________________________

*

معطوف على قوله: إن كان وافيا (قوله: فلا بد من ايجاب) لاجل تدارك الباقي (قوله: والا فاستحبابه) الظاهر أن أصل العبارة: والا فيجزئ، بمعنى عدم وجوب الاعادة والقضاء وان كان يستحب (قوله: ولا مانع عن) إذ لا تفويت فيهما (قوله: في الصورة الاولى) وهي ما يكون الباقي فيها مما يجب تداركه (قوله: وفى الصورة الثانية) وهي ما كان الباقي فيها مما يستحب تداركه (قوله: استحباب البدار) هذا الاستحباب بنحو الكلية غير ظاهر الوجه إلا أن يستند فيه إلى مثل آيتي المسارعة والاستباق فتأمل (قوله: وأما ما وقع عليه) التعرض لذلك ينبغي أن يكون في الفقه لا هنا إذ ليس لدليله ضابطة كلية فقد يختلف الدليل باختلاف قرينة الحال أو المقال من حيث الدلالة على الوفاء وعدمه وكأن مقصود المصنف (ره) الاشارة إلى ما يكون كالانموذج لادلة البدل الاضطراري (قوله: هو الاجزاء) أما اقصاء ما كان بلسان البدلية مثل: أحد الطهورين، ونحوه فظاهر، فان اطلاق البدلية يقتضي قيام البدل مقام المبدل منه بلحاظ جميع الآثار والخواص فلا بد من أن يفى بما يفي به المبدل من المصلحة بمرتبتها ويترتب عليه الاجزاء " فان قوله ": هذا الاطلاق

١٩٩

وان كان ثابتا الا انه معارض باطلاق دليل المبدل منه فانه يقتضي تعينه في جميع الاحوال ولازمه وجوب حفظ القدرة عليه الكاشف عن عدم وفاء البدل بمصلحته والا جاز تفويت القدرة عليه، وكما يمكن الجمع بينهما برفع اليد عن اطلاق دليل المبدل فيحمل على تعينه في ظرف القدرة عليه جاز رفع اليد عن اطلاق دليل البدل فيحمل على وفائه ببعض مراتب المصلحة التي يفي بها المبدل واذ لا مرجح يرجع إلى الاصل ويسقط الاطلاق عن المرجعية " قلت ": نسبة دليل البدل إلى دليل المبدل منه نسبة الحاكم إلى المحكوم لانه ناظر إليه موسع لموضوعه فيجب تقديمه عليه وجوب تقديم الحاكم على المحكوم. هذا كله بالنظر إلى طبع الكلام نفسه أما بملاحظة كون البدلية في حال الاضطرار فلا يبعد كون مقتضى الجمع العرفي كون البدل من قبيل الميسور للتام ولاجل ذلك نقول: لا يجوز تعجيز النفس اختيارا لانه تفويت للتام، فتأمل جيدا. وأما ما كان بلسان الامر فقد يشكل اطلاقه المقتضي للاجزاء إذ الامر انما يدل على وفاء موضوعه بمصلحة مصححة للامر به أما أنها عين مصلحة المبدل أو بعضها فلا يدل عليه الامر ولا يصلح لنفي وجوب الاعادة أو القضاء. نعم لو كان المتكلم في مقام بيان تمام ما له دخل في حصول الغرض المترتب على الاختياري مع عدم الامر بالاعادة أو القضاء أمكن الحكم بالاجزاء حينئذ اعتمادا على هذا الاطلاق المقامي المقدم على اطلاق دليل المبدل للحكومة، أو كون الامر واردا مورد جعل البدل فيجري فيه ما تقدم، اللهم إلا أن يقال: دليل المبدل ظاهر في التعيين في حال التمكن وعدمه ودليل البدل ظاهر في تعينه في حال عدم التمكن من المبدل وهما متنافيان للعلم بعدم تعينهما معا فيدور الامر (بين) رفع اليد عن ظهور دليل البدل في التعيين ودليل المبدل فيه بالاضافة إلى بعض مراتب المصلحة ولازمه الحكم بتعين المبدل في تحصيل تمام مرتبة الغرض والتخيير بينه وبين البدل في تحصيل بعضها ويترتب عليه عدم الاجزاء (وبين) رفع اليد عن اطلاق دليل المبدل بالاضافة إلى حالتي التمكن وعدمه وحيث أن الثاني أقرب يكون هو المتعين ولازم ذلك اشتراط وجوب المبدل بحال التمكن فيترتب

٢٠٠

إنَّما اللَّوْمُ لَوْمُ الجاهليَّةِ

كان لعبد الملك بن مروان عين بالمدينة يكتب إليه ما يَحدث فيها، فكتب له يوماً أنَّ علي بن الحسين (عليه السلام) أعتق جارية له ثمَّ تزوَّجها.

فكتب عبد الملك إلى علي بن الحسين (عليه السلام):

أمَّا بعد: فقد بلغني تزويجك مولاتك، وقد علمت أنَّه كان في أكفائك مِن قريش مَن تُمجَّد به في الصهر، وتستنجبه في الوُلد، فلا لنفسك نظرت ولا على وُلدك أبقيت والسَّلام.

فكتب إليه الإمام عليُّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام):

(أمّا بعد: فقد بلغني كتابك تعنفني بتزويجي مولاتي، وتزعم أنَّه قد كان في نساء قريش مَن أتمجَّد به في الصهر، وأستنجبه في الوُلد، وإنَّه ليس فوق رسول الله (صلى الله عليه وآله) مُرتقى في مَجد ولا مُستزاد في كرم، وإنَّما كانت مِلك يميني ثمَّ خرجت مِن مِلكي، فأراد الله عَزَّ وجَلَّ أمراً ألتمس به ثوابه فارتجعتها على سُنَّته، ومَن كان زكيَّاً في دين الله فليس يُخلُّ به شيء مِن أمره، وقد رفع الله بالإسلام الخسيسة، وتمَّم به النقيصة، وأذهب اللوم، فلا لَوْمَ على امرِئٍ مُسْلِمٍ، إنَّما اللَّوْمُ لَوْمُ الجاهليَّةِ والسَّلام).

فلمَّا قرأ الكتاب رمى به إلى ابنه سليمان فقرأه، فقال: يا أمير المؤمنين، لشدَّ ما فخر عليك عليُّ بن الحسين!! فقال: يا بُنيَّ، لا تقل ذلك، فإنَّها ألسُن بني هاشم التي تفلق الصخر، وتغرف مِن بحر، إنَّ عليَّ بن الحسين (عليه السلام) - يا بني - يرتفع مِن حيث يتَّضع الناس (١) .

____________________

(١) الشابُّ، ج١.

٢٠١

العَدل أساس المُلك

لّمَا صارَ محمد (صلى الله عليه وآله) ابْنَ سَبْعِ سِنينَ قالَ لأُمَّهِ حَليمَةَ: (يا أُمِّي، أَيْنَ إخْوَتي؟).

قالتْ: يا بُنيّ إنَّهُمْ يَرْعَوْنَ الغَنَمَ التي رَزَقَنا الله إيَّاها بِبَرَكَتِكَ.

قالَ: (يا أُمّاهُ، ما أَنْصَفْتِني!).

قالَتْ: كَيْفَ ذلِكَ يا وَلَدي؟!

قالَ: (أكُونُ أَنا في الظِّلِّ وإخْوَتي في الشَّمْسِ والْحَرِّ الشّديدِ وأنا أَشْرِبُ مِنها اللَّبَنَ!).

الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) كان وهو في سِنِّ السابعة يتحدَّث مع مُرضعته عن الإنصاف داخل مُحيط الأُسرة الصغير، ويُنمِّي في عقله الفتيِّ مفهوم العدل والإنصاف، وعندما بلغ (صلى الله عليه وآله) وشَبَّ ترسَّخ هذا المفهوم في ذهنه أكثر، وعمد إلى نقل هذا المفهوم مِن مُحيط الأُسرة المحدود وتطبيقه على مُحيط مدينة مَكَّة الواسع، فاجتمع (صلى الله عليه وآله) مع مجموعة مِن كِبار رجال العرب في حِلف سُمِّيَ بـ: (حلف الفضول) وذلك بهدف تحقيق العدالة وتطبيق العدل الاجتماعي، فتحالف معهم دفاعاً عن حقوق الناس، وكان ما كان كما نقله لنا التاريخ.

كان نفر مِن جُرْهم وقطوراء يُقال لهم: الفضيل بن الحارث الجُرهمي، والفضيل بن وداعة القطوريِّ، والمفضل بن فضالة الجرهمي اجتمعوا فتحالفوا أنْ لا يُقرُّوا ببطن مَكَّة ظالماً، وقالوا: لا ينبغي إلاَّ ذلك؛ لما عَظَّم الله مِن حَقَّها، فقال عمر بن عوف الجُرهمي:

إنَّ الفُضول تحالفوا وتعاقدوا

ألا يَـقرَّ بـبطن مَكَّة ظالم

أمـرٌ عليه تعاهدوا وتواثقوا

فـالجار والمعترُّ فيهم سالم

٢٠٢

ثمَّ درس ذلك، فلم يبق إلاَّ ذِكره في قريش.

ثمَّ إنَّ قبائل مِن قريش تداعت إلى ذلك الحلف، فتلاقوا في دار عبد الله بن جدعان لشرفه وسِنِّه، وكانوا بني هاشم وبني عبد المُطَّلب وبني أسد بن عبد العِزَّى وزهرة بن كلاب وتيم بن مُرَّة، فتحالفوا وتعاقدوا أنْ لا يجدوا بمَكَّة مظلوماً مِن أهلها أو مِن غيرهم مِن سائر الناس، إلاّ قاموا معه وكانوا على ظلمه حتَّى تُردُّ عليه مظلمته، فسَّمت قريش ذلك الحِلف حِلف الفُضول.

كان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) يتجنَّب في فترة شبابه الاختلاط في ذلك العصر الجاهلي قدر الإمكان، ويمتنع عن مُجالستهم، لكنَّه (صلى الله عليه وآله) شارك في هذا الحِلف بكلِّ سرور ورَحابة صدرٍ، وتعاون مع الأشخاص الذين تعاهدوا وتواثقوا على بَسط العدل؛ لأنَّ هذا الحِلف جاء مُطابقاً لمرامه وطباعه (صلى الله عليه وآله) ونفسِهِ التَّوَّاقةِ للعدل.

فالذي يُفكِّر بالعدل مُنذ طفولته، ويتحدَّث عن الإنصاف مع مُرضعته وهو ابن سبع سنين، لا بُدَّ أنْ يترسَّخ هذا المفهوم في نفسه أكثر عندما يُصبح شابَّاً. وكان لا بُدَّ للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنْ يستفيد مِن كلِّ فُرصة تُسنح له، ويلجأ إلى اتِّباع شتَّى الأساليب لتطبيق العدل الاجتماعي، الذي يُشكِّل هدفاً مُقدَّساً بالنسبة له (صلى الله عليه وآله). وفعلاً حانت الفُرصة المُنتظرة، عندما قرَّر عدد مِن كبار رجال مَكَّة بذل ما بوسعهم لتطبيق العدل ووضع حَدٍّ للظلم والجور، فاغتنمها رسول الله (صلى الله عليه وآله) مُعلناً استعداده للتعاون معهم والانضمام للحٍلف، فكان ما كان.

وقد دعا الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) الناس قاطبة إلى العدل مُنذ بُعِث نَبيَّاً. وقد تخطَّت دعوته حدود مَكَّة وبلاد الحِجاز، وكان لها صدى واسع في جميع أنحاء المعمورة. ولم تَغِب ذِكرى حِلف الفضول عن بال رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي كان يتذكَّرها، فيسعد ويفخر بها.

٢٠٣

فَقَالَ حِينَ أَرْسَلَهُ الله تعالى: (لَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ عُمومَتي حِلْفاً في دارِ عَبْدِ الله بنِ جَدْعانَ، ما أُحِبُّ أنَّ لي بهِ حُمْرَ النَّعّمِ، ولّو دُعِيتُ بهِ في الإسْلام لأَجَّبْتُ).

لا أحد يعلم - على وجه التحديد - كمْ مَرَّة نجح حِلف الفضول مُنذ قيامه في إحقاق الحَقِّ وبسط العدل بين الناس، ولكنْ هناك حالتان نوردهما بإيجاز حسبما وردت في التواريخ.

السبب في هذا الحِلف والحامل عليه أنَّ رجلاً مِن زبيد قدم مَكَّة ببِضاعة، فاشتراها منه العاص بن وائل، وكان مِن أهل الشرف والقَدر بمَكَّة، فحبس عنه حقَّه فاستعدى عليه الزبيدي الأحلاف: عبد الدار، ومخزوماً وجمح، وسهماً، وعدي بن كعب فأبوا أنْ يُعينوا على العاص وانتهروه - أيْ الزبيدي - فلمَّا رأى الزبيدي الشرَّ رقي على أبي قبيس عند طلوع الشمس وقريش في أنديتهم حول الكعبة، فقال بأعلى صوته:

يـا آل فِـهرٍ لمَظلوم بضاعته

بـبطن مَكَّة نائي الدهر والقَفر

ومُحرم أشعث لم يقض عمرته

يا للرجال وبين الحِجر والحِجر

إنَّ الـحرام لمَن تمَّت مكارمه

ولا حـرام لثواب الفاجِر الغَدر

والحرام بمعنى الاحترام؛ فقام في ذلك الزبير بن عبد المُطَّلب مع عبد الله بن جدعان، واجتمع إليه مَن تقدَّم وتعاقدوا وتعاهدوا ليكونُنَّ يداً واحدة مع المظلوم على الظالم، حتَّى يؤدَّى إليه حَقَّه شريفاً أو وضيعاً، ثمَّ مشوا إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه.

وفي رواية أُخرى أنَّ رجلاً مِن خثعم قَدِم مَكَّة مُعتمراً أو حاجَّاً، ومعه بنت له جميلة فاغتصبها منه نبيه بن الحَجَّاج فقيل له: عليك بحِلف الفضول، فوقف عند الكعبة ونادى يا لحلف الفضول، فإذا هُمْ يعنقون إليه مِن كلِّ جانب، وقد انتضوا أسيافهم - أيْ جرَّدوها - يقولون: جاءك الغوث فما لك؟

فقال: إنَّ نَبيهاً ظلمني في بُنيَّتي فانتزعها مِنِّي قَسراً.

٢٠٤

فساروا إليه حتَّى وقفوا على باب داره فخرج إليهم، فقالوا له: أخرج الجارية فقد علمت مَن نحن، وما تعاهدنا عليه.

فقال: أفعل، ولكنْ متِّعوني بها الليلة.

فقالوا: لا والله، ولا شَخْب لقحة - أيْ مُقدار زمن - فأخرجها إليهم (١) .

____________________

(١) الشابُّ، ج١.

٢٠٥

الأحداث أسرع إلى الخير

عندما خرج الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) شاهراً دعوته بين الناس في مَكَّة، دبَّت فورة عظيمة بين جيل الشابِّ، فتجمعَّوا بدافعٍ مِن ميولهم الفطريَّة حول الرسول (صلى الله عليه وآله) ينهلون مِن مَعين أحاديثه الشريفة، وقد أثار هذا الأمر خلافات بين الشباب وأُسرهم، ودفع بالمُشركين إلى الاحتجاج على ذلك عند الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله).

... فاجتمعت قريش على أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب، إنَّ ابن أخيك قد سبَّ آلهتنا، وأفسد شبابنا، وفرَّق جماعتنا.

لقد بلغت دعوة النبيِّ محمّد (صلى الله عليه وآله) أسماع كلِّ الناس مِن رجال ونساء، وشيوخٍ وشبابٍ، إلاّ أنَّ الشباب كانوا أكثر تأثُّراً بهذه الدعوة واندفاعاً لها؛ لأنَّ توقُّد الحِسِّ الديني لديهم خِلال مرحلة البلوغ، جعلهم مُتعطِّشين لتعلُّم فضائل الإيمان والأخلاق، ولهذا كانت كلمات الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) تنزل في نفوسهم كالماء السلسبيل، كما أنَّها كانت بالنسبة لهم بمثابة غذاء للروح، دون غيرهم مِن الشيوخ والطاعنين في السِّنِّ.

فلمَّا أوفد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) مصعب بن عمير إلى المدينة، ليُعلِّم أهلها قراءة القرآن، وينشر بينهم التعاليم والمعارف الإسلاميَّة، كان الشباب أوَّل مَن لبَّى دعوته، حيث أبدوا رغبة شديدة في تعلُّم قراءة القرآن واكتساب التعاليم الإسلاميَّة.

وكان مصب نازلاً على أسعد بن زرارة، وكان يخرج في كلِّ يوم ويطوف على مجالس الخزرج، يدعوهم إلى الإسلام فيُجيبه الأحداث (١).

____________________

(١) الشابُّ، ج١.

٢٠٦

الحِلم سيِّد الأخلاق

مَرّ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) بِقَوْمٍ فيهِمْ رَجُلٌ يَرْفَعُ حَجَراً يُقالُ لَهُ: حَجَرُ الأَشِدَّاءِ وهُمْ يُعْجَبُونَ مِنْهُ.

فَقالَ: (ما هذا؟).

قالُوا: رَجُلٌ يَرْفَعُ حَجَراً يُقالُ لَهُ: حَجَرُ الأَشِدّاءِ.

قال: (أَفَلا أُخْبِرُكُمْ بِما هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ؟

رَجُلٌ سَبَّهُ رَجُلٌ فَحَلُمَ عَنْهُ، فَغَلَبَ نَفْسَهُ وغَلَبَ شَيْطانَهُ وشَيْطانَ صاحِبهِ).

يرى أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) أنَّ غلبة النفس الأمَّارة، التي فيها يكمن عزم الإنسان وقُدرته، لتبعث على العِزَّةِ والفَخر. والفتى الذي يبحث عن حَقٍّ وصدق عمَّا يرفع به رأسه بين الناس، عليه أنْ يبني شخصيَّته على أساسٍ مِن الحِلم والصبر والثبات والإرادة وغلبة النفس، ليؤمِّن سعادته في الدنيا والآخرة (١).

____________________

(١) الشابُّ، ج١.

٢٠٧

في حلالها حساب وفي حرامها عِقاب

كان ليزيد بن مُعاوية وَلد يُدعى: مُعاوية، كان يُحبُّه حُبَّاً جَمَّاً، ويودُّ تربيته تربية تعينه على بلوغ مُنيته، فاختار له مؤدِّباً ومُعلِّماً فاضلاً يُدعى (عمو المقصوص)، وقد عُرف هذا المؤدِّب بإيمانه وورعه، وحُبِّه ومولاته لأمير المؤمنين عليٍّ (عليه السلام)، وبغضه الدفين لظلم وبغي مُعاوية بن أبي سفيان ووَلده يزيد.

وقد حرص هذا المُعلِّم الكفوء على تعليم وتربية مُعاوية بن يزيد على التعاليم الإسلاميَّة، وتحريم وتنمية حِسِّ الإيمان والعقل والرغبة في المعرفة الدينيَّة في كيانه، وقد أفلح فعلاً في أنْ يصنع مِن مُعاوية بن يزيد فرداً مؤمناً عاقلاً، ومُحبِّاً لعليٍّ وآله (عليهم السلام أجمعين).

وقد بُويع لمُعاوية بن يزيد بالخلافة يوم موت أبيه وهو في عنفوان شبابه، حيث لم يكن يتجاوز العشرين مِن عُمره.

إنَّ سِنّ العشرين هو مِن سِنيِّ الدورة الواقعة بين سِنِّ الـ ١٨ والـ ٢٣، وهي مرحلة تبرز فيها الرغبات بقوَّة في أعماق الفتيان والشباب، ففيها تصل الشهوة الجنسيَّة إلى ذروتها، وتنفتح أحاسيس التفوُّق والشُّهرة، وحُبُّ المال والجاه في ذات الشابِّ بعُنفٍ.

وخلال هذه الدورة يُصبح الشابُّ مُتعطِّشاً لتحصيل اللذائذ وإشباع الشهوات، وقد يلجأ إلى سلوك الطريق الملتوية وغير المشروعة؛ لتحقيق أمانيه ورغباته الدفينة.

إنَّ خلافة يزيد وحكومة بلاد واسعة كانت بالنسبة لمُعاوية الشابِّ أفضل وسيلة لإشباع ميوله ورغباته؛ إذ كان بإمكانه إشباع نزواته الجنسيَّة، وأحاسيس التفوُّق، وحُبِّ المال والجاه وغيرها مِن الرغبات الجامعة التي تكمن في أعماق كلِّ شابٍّ

٢٠٨

بصورة فطريَّة، فمُعاوية بن يزيد كان قادراً على استغلال وجوده على عرش الخلافة شَرَّ استغلال، في إرضاء غرائزه لو كان عبداً لهواه، ذليلاً لشهواته، لو لم يكن قد نشأ في ظِلِّ تربية إسلاميَّة صحيحة، وترعرع في كِنف مؤدِّبٍ كفوءٍ رسَّخ في نفسه روح الإيمان بالله والتعاليم الإسلاميَّة الحَقَّة؛ ليجعل منه إنساناً ذا إرادة قويَّة، مُتحرِّراً مِن قيود النفس الأمَّارة مُستقلَّاً لن يؤثِّر فيه منصب الخلافة بكلِّ عظمتها.

لقد أقام مُعاوية بن يزيد في الخلافة أربعين يوماً، نظر فيها في كلِّ ما ارتكبته حكومة أبيه وجَدِّه، مِن بغي وسوء فِعالٍ وجُرأة على الله سبحانه وتعالى، فأدرك عُظم الجرائم التي ارتكبها أبوه يزيد بن مُعاوية طيلة فَترة خلافته، الذي تجرَّأ على الله وبغى على مَن استحلَّ حُرمته مِن أولاد رسول الله (صلى الله عليه وآله).

فوجد مُعاوية بن يزيد أمام مُفترق طريقين، عليه أنْ يختار سلوك أحدهما، فإمَّا أنْ يستمرَّ في الخلافة ويسير على خُطى أبيه وجَدِّه في البغي والرذيلة، ومُمارسة الظلم بحَقِّ العباد، وإشباع جميع رغباته وغرائزه، وإمَّا أنْ يُطيع أوامر الله ويسلك طريق الحَقِّ والفضيلة، ويخلع نفسه عن الخلافة التي لن تعود عليه إلاّ بالذِّلِّ والعار.

وقد اتَّخذ مُعاوية بن يزيد قراره، واستطاع بقوَّة إيمانه والتربية السليمة، التي عاش في ظلِّها أيَّام طفولته وصباه، أنْ يتغلَّب على هواه ويُصمِّم على إقالة نفسه مِن الخلافة، فصعد المِنبر ثمَّ حمد الله وأثنى عليه وذكر النبي (صلى الله عليه وآله) بأحسن ما يذكر به، ثمَّ قال:

أيُّها الناس، إنَّ جَدِّي مُعاوية بن أبي سفيان قد نازع في أمر الخلافة مَن كان أولى بها منه ومِن غيره؛ لقَرابته مِن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وعظم فضله وسابقته، أعظم المُهاجرين قدراً وأشجعهم قلباً، وأكثرهم علماً، وأوَّلهم إيماناً، وأشرفهم منزلة، وأقدمهم صُحبة، ابن عَمِّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) وصِهره وأخوه، زوَّجه (صلى الله عليه وآله) ابنته فاطمة وجعله لها بَعلاً وجعلها له زوجة، أبو سِبطيه سيِّدي شباب أهل الجَنَّة، وأفضل هذه الأُمَّة، فركب جَدِّي منه ما تعلمون وركبتم معه ما لا

٢٠٩

تجهلون حتَّى انتظمت لجَدِّي الأُمور، فلمَّا جاءه القدر المحتوم واخترمته أيدي المَنون، بقي مُرتهناً بعلمه فريداً في قبره، ووجد ما قدَّمت يداه ورأى ما ارتكبه واعتداه.

ثمَّ انتقلت الخلافة إلى أبي يزيد - والكلام ما زال لمُعاوية - ولقد كان أبي يزيد بسوء فعله وإسرافه على نفسه، غير خليق بالخلافة على أُمَّة محمّد (صلى الله عليه وآله)، فركب هواه واستحسن خُطاه، وأقدم على ما أقدم مِن جُرأته على الله، وبغيه على مَن استحلَّ حُرمته مِن أولاد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقلَّت مُدَّته وانقطع أثره وضاجع عمله، وصار حليف حُفرته رهين خطيئته، وبقيت أوزاره وتبعاته.

ثمَّ اختنقته العبرة، فبكى طويلاً وعلا نحيبه، ثمَّ قال:

وما كنت لأتحمَّل آثامكم، ولا يراني الله جلَّت قدرته مُتقلِّداً أوزاركم وألقاه بتبعاتكم، فشأنكم أمركم فخذوه ومَن رضيتم به عليكم فولُّوه، فلقد خلعت بيعتي مِن أعناقكم والسَّلام.

فاضطرب المجلس، وقام مروان بن الحكم - وكان تحت المنبر - فقال له: أسنَّة عُمريَّة يا أبا ليلى؟!

فقال مُعاوية: اغدُ عنِّي، أعن ديني تخدعني؟! فو الله، ما ذقت حلاوة خلافتكم فأتجرَّع مرارتها. والله، لئن كانت الخلافة مَغنماً لقد نال أبي منها مَغرماً ومأثماً، ولئن كانت سوءاً فحسبه منها ما أصابها.

ثمَّ نزل عن المنبر وعيناه مُغرورقتان بالدموع.

ولمَّا رأى بنو أُميَّة ما حصل قالوا لمؤدِّبه عمر المقصوص:

أنت علَّمته هذا ولقَّنته إيَّاه، وصددته عن الخلافة، وزيَّنت له حُبَّ عليٍّ وأولاده، وحملته على ما وسمنا به مِن الظلم وحسَّنت له البِدع، حتَّى نطق وقال ما قال.

٢١٠

فقال: والله، ما فعلته ولكنَّه مجبول ومطبوع على حُبِّ عليٍّ، فلم يقبلوا منه ذلك وأخذوه ودفنوه حيَّاً حتَّى مات (١) .

____________________

(١) الشابُّ، ج١.

٢١١

جزاء مَن يتعدَّ حُرمات الله

كان الخليفة العباسي المُتوكِّل يبرز عِداءه الشديد وبُغضه للإمام عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وعندما يذكره كان لا يُسمِّيه إلاِّ بـ: (أبو تراب)، ولا يتورَّع في المجالس العامَّة عن توجيه الإهانة له (عليه السلام)، لكنَّ وَلَده الشابَّ وولي عهده المُنتصر كان مُتألِّماً جِدَّاً مِن سُلوك أبيه إزاء الإمام علي (عليه السلام)، ولكنْ لم يكن يملك أمام هذا السلوك إلاَّ التزام الصمت، وقد جاء في كُتب التاريخ أنَّ المُتوكِّل كان يُبغض عليَّاً (عليه السلام) وينتقصه، فذكره وغَضَّ منه، فتمعَّر وجه ابنه المُنتصر لذلك، فشتمه المُتوكِّل وأنشأ يقول:

غَضِبَ الفَتى لابنِ عَمِّه

رَأسُ الفَتى في حَرِّ أُمِّهِ

لم يُطِق المنتصر هذه الإهانة التي سمعها مِن أبيه، وهو وليُّ العهد الذي كان آنذاك في الخامسة والعشرين مِن العمر، وتأثَّر كثيراً لانتقاص أبيه منه أمام المَلأ، فأضمر له أمراً يُعوِّض له عمَّا حَقَّره به وحَقد عليه، وقَرَّر الأخذ بالثأر الذي يمحو عنه إهانة أبيه، وأغراه ذلك على قتله، فخطَّط مع بعض الغُلمان على قتله في أوَّل فُرصة ووعدهم بالمال والمنصب.

فبينما المُتوكِّل جالس في قصره يشرب مع ندمائه وقد سَكر، إذ دخل بغاء الصغير وأمر النُّدماء بالانصراف، فانصرفوا ولم يَبقَ عنده إلاَّ الفتح بن خاقان، فإذا الغُلمان الذين عيَّنهم المُنتصر لقتل المُتوكِّل قد دخلوا وبأيديهم السيوف مُصلتة، فهجموا عليه، فقال الفتح بن خاقان: ويلكم! أتقتلون أمير المؤمنين؟! ثمَّ رمى بنفسه عليه، فقتلوهما جميعاً، ثمَّ خرجوا إلى المُنتصر فسلَّموا عليه بالخلافة (١) .

____________________

(١) الشابُّ، ج١.

٢١٢

المؤمن مُبتلى

كان أحد صحابة الإمام الصادق (عليه السلام) يُدعى يونس بن عمّار، وذات يوم أُصيب يونس بمرض البَّرص أو الجُذام، وغطَّت بُقعٌ بيضاء كامل وجهه، فأثَّرت في نفسه، وأخذت شخصيَّته تضمحلُّ شيئاً فشيئاَ فاقدة مكانتها الاجتماعيَّة، وقد قيل في حَقِّه: لو كان للإسلام به حاجة، أو كان لوجوده أدنى أثر أو قيمة لما ابتُلي بهذا البَلاء، فجاء يونس بن عمَّار إلى الإمام الصادق (عليه السلام) شاكياً لسان الناس، فقال له (عليه السلام): (لَقَدْ كانَ مُؤْمِنُ آلِ فِرعَوْنَ مُكَنَّعَ الأصابعِ فَكانَ يَقُولُ هكَذا ويَمُدُّ يَدَيْهِ ويَقُولُ: ( . .. يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ) ).

لقد رَدَّ الإمام الصادق (عليه السلام) بهذه العبارة القصيرة على أقاويل الناس الجَوفاء، حيث حاول (عليه السلام) أنْ يُثبت لنا إمكانيَّة ابتلاء المؤمن بالله وسُنَّة نبيِّه ببليَّة أو عاهة ما، مِثلما ابتُلي مؤمن آل فرعون بتلك العاهة. كما أنَّه (عليه السلام) قد ساعد في رفع معنويَّات يونس بن عمّار؛ حيث دعاه إلى عدم الابتعاد عن الناس بسبب البُقع البيضاء التي انتشرت في وجهه، وطلب منه الاستمرار بواجباته في التبليغ، كما كان يفعل مؤمن آل فرعون، حيث كان يمدُّ يده التي كانت تنقصها الأصابع ويقول: ( ... يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ) ، فتلك العاهة لم تَثنِ عزيمة مؤمن آل فرعون، ولم تُحبط معنويَّاته وشخصيَّته (١) .

____________________

(١) الشابُّ، ج٢.

٢١٣

لسانك حصانك إنْ صِنته صانك

كان ابن المقفع رجلاً ذكيَّاً ذا شأنٍ عظيمٍ في عصره، وكان يمتاز عن غيره بقوَّة عقله وحِدَّة ذكائه. وقد نجح في بداية شبابه في تلقِّي العلوم، وترجمة بعض الكُتب العلميَّة إلى اللغة العربيَّة لفطنته وكفاءته الفطريَّة، إلاّ أنَّ تفوّقه العقلي والفكري جعل منه إنساناً مَغروراً، وترك في سلوكه وأخلاقه آثاراً سيِّئة، مِمَّا جعله يواجه مَشاكل جَمَّة في عَلاقاته الاجتماعيَّة.

وكان ابن المُقفع يستهزئ بالناس ويُحقِّرهم بكلمات وألفاظ بذيئة؛ ليُثير في نفوسهم روح الحِقد والعِداء.

وكان سفيان بن مُعاوية - الذي نصَّبه المنصور الدوانيقي والياً على البصرة - مِن جُملة الأشخاص الذين لم يأمنوا لسان ابن المقفع، إذ كان هذا الأخير يستهزئ بسفيان بن مُعاوية أمام الناس.

وكان سفيان بن مُعاوية ذا أنف كبير قبيح الشَّكل، وكلَّما دخل عليه ابن المقفع في دار الولاية قال بأعلى صوته أمام الملأ: السَّلام عليكم، ويعني به: السَّلام عليك وعلى أنفك الكبير، وذات يوم رَدَّ عليه سفيان بالقول: إنَّني لستُ نادماً على التزامي الصمت حيالك، فقال له ابن المقفع: إنَّ مَن خِصلته التلعثُم في الكلام يجب أنْ لا يندم أبداً على التزام الصَّمت.

وأحياناً كان ابن المقفع يُعيِّر سفيان بن مُعاوية بأُمِّه، حيث كان يُناديه بأعلى الصوت وأمام الجميع (يابن المُغتلمة) أيْ: يا ابن المُنقادة للشهوة. وذات يوم أراد ابن المقفع أنْ يظهر جهل وسذاجة سفيان، فسأله في محفل عامٍّ عن رجل يموت ويُخلِّف زوجة وزوج، كيف يتمُّ تقسيم الميراث بينهما؟

آثار ابن المقفع ذلك الرجل الذكي الفطن بكلامه المُهين، النابع مِن غُروره وتكبُّره، حِقد سفيان عليه وعداءه له، وبات سفيان يتحيَّن الفُرص للانتقام مِن ابن المقفع شرَّ انتقام.

٢١٤

وصادف أنْ ادَّعى عبد الله بن علي الخلافة على ابن أخيه المنصور الدوانيقي، وخرج لقتاله. فطلب الخليفة المنصور مِن أبي مُسلم الخراساني الخروج إلى البصرة بجيش جرَّار لقتال عَمِّه، وأخيراً انتصر جيش أبي مسلم على جيش عبد الله بن علي، الذي لجأ إلى أخويه سليمان وعيسى مُتخفِّياً عندهم. وبعد فترة توجَّه الأخوان إلى المنصور، وطلبا منه الصَّفح عن أخيهما عبد الله، فقبل المنصور شفاعتهما، وقرَّر أنْ يَكتُبا عهد أمان ليوقِّعه المنصور الدوانيقي.

وبعد عودتهما إلى البصرة أوكلا إلى ابن المقفع، الذي كان يعمل حينها كاتباً لدى عيسى، كتابة عهد الأمان، وطلبا منه أنْ يكون الكتاب مِن القوَّة بمكان، بحيث يسلب الدوانيقي كلَّ قُدرة على إلحاق الأذى بأخيهما عبد الله، فكتب ابن المقفع عهد الأمان وغالى في تنظيمه، حيث ذكر فيه أنَّ المنصور الدوانيقي إذا ما مكر بعَمِّه عبد الله بن علي وألحق به الأذى، فإنَّ أمواله ستوزع على الرعيَّة، وسيعتق عبيده وجواريه ويُصبِح المسلمون في حِلٍّ مِن بيعته. وعندما دخلا على المنصور وهما يحملان كتاب الأمان ليوقِّعه، ثارت ثائرته فسأل عن الكاتب، فقيل له: إنَّه ابن المقفع، فأمر المنصور بعد أنْ امتنع عن التوقيع، أمر والي البصرة سِرَّاً بقتل ابن المقفع.

ولمَّا كان سُفيان والي البصرة يحمل ما يحمل في جوفه مِن عِداءٍ لابن المقفع، الذي طالما مَسَّ كرامته وجرح شعوره، ويتحيَّن الفرصة للانتقام، جاءت أوامر الخليفة المنصور بقتل ابن المقفع لتَثْلُج صدر سفيان الذي استغلَّ هذه الفُرصة المُناسبة للانتقام مِن غريمه.

فأمر سفيان بحبس ابن المقفع في حُجرة، فدخل عليه وقال له: أتذكر ما قتله في شأني وشأن أُمِّي؟ والله، إنَّ أُمِّي لمُغتلمة إنْ لم أقتلك قتلة لم ترَ الرعيَّة مِثلها مِن قبل، فأمر سفيان بإشعال التنُّور، وجيء بابن المقفع وكان حينها في السادسة والثلاثين مِن العُمر، فأخذ يقتطَّع مِن جسمه قطعة قطعة ويرميها أمام ناظريه داخل التنُّور، ومازال كذلك حتَّى قضى بهذه الطريقة المُفجعة (١) .

____________________

(١) الشابُّ، ج٢.

٢١٥

لا طاعة لمَخلوق

حتَّى لو كان أُمَّاً في مَعصية الخالق

لقد أحدثت كلمات الرسول (صلى الله عليه وآله) وخُطبه المؤثِّرة في بدايات الدعوة تحوُّلاً روحيَّاً عظيماً في جيل الشباب، ولمَّا كان الشباب بفطرتهم ثوريِّين ويرغبون في التجدُّد والحداثة، التفُّوا حول الرسول (صلى الله عليه وآله) مُعلنين انضواءهم تحت راية الإسلام، فبدأوا في ظِلِّ قيادته الرشيدة وتوجيهاته الحكيمة حملة ضِدَّ السُّنَن الفاسدة، والعادات والتقاليد المذمومة التي كانت سائدة آنذاك، مُعلنين عن مُخالفتهم للمُعتقدات والأفكار الباطلة أينما حلُّوا في أُسرتهم ومُجتمعهم، أو في حِلِّهم وترحالهم.

كان سعد بن مالك مِن الشباب النشيطين والمُتحمِّسين في صدر الإسلام، وقد اعتنق الإسلام على يد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وهو في سِنِّ الـ ١٧، وكان سعد قد أظهر وفاءه للإسلام ومُخالفته للجاهليَّة في أكثر مِن مكان وزمان، لا سِيَّما في الظروف الحرجة التي مَرَّ بها المسلمون قبل الهِجرة.

وكان أصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله) إذا أرادوا الإتيان بالصلاة، ينزلون إلى شعاب مَكَّة ليتَّقوا شَرَّ المُشركين، فبينا سعد بن مالك في نفر مِن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) في شِعبٍ مِن شعاب مَكَّة، إذ ظهر عليهم نفر مِن المُشركين، فناكروهم وعابوا عليهم دينهم حتَّى قاتلوهم فاقتتلوا، فضرب سعد رجُلاً مِن المُشركين بلِحي جَمَل، فشجَّه فكان أوَّل دَمٍ أُريق في الإسلام.

وكان المُشركون في تلك الأيَّام في ذروة قوَّتهم وجَبروتهم، بينما المسلمون في نهاية الضعف والعجز، وأيُّ صِدامٍ بين الطرفين - آنذاك - كان يَجرُّ إلى أحداث خطيرة، ولكنَّ الشباب الذين أعدُّوا أنفسهم لتحمُّل شتَّى أنواع التعذيب والأذى لم

٢١٦

يخشوا عواقب الأُمور، أو المخاطر التي قد يواجهونها نتيجة دفاعهم عن حُرمة الإسلام.

يقول سعد: كنتُ رجلاً برَّاً بأُمِّي، فلمَّا أسلمت قالت: يا سعد ما، هذا الدين الذي أحدثت؟! لَتَدَعَنَّ دينك أو لا آكل ولا أشرب حتَّى أموت، وعيَّرتني، فقال: لا تفعلي يا أُمَّاه، فإنِّي لا أدع ديني، قال: فمكثتْ يوماً وليلة لا تأكل فأصبحت وقد جهدت وتصوَّرت أنَّ ابنها لو رآها على هذا الحال مِن الضعف سيترك دينه لبرِّه بها، وقد غاب عنها. إنَّ عطف الأُمِّ وبَرَّها لا يُمكنه أنْ يقف أمام الحُبِّ الإلهي لو تغلغل إلى النفس، ولهذا قال لها سعد في اليوم التالي:

والله، لو كانت لك ألف نفس، فخرجت نفساً نفساً ما تركتُ ديني.

ولمَّا رأت الأُمُّ التصميم القاطع لولدها، ويئست مِن تغيير مُعتقده عدلت عن قرارها بالإمساك عن الطعام.

وخُلاصة القول: إنَّ السلوك الثوري للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) والخُطب الحماسيَّة كان لها الأثر الكبير في بناء شخصيَّة ثوريَّة للشباب، الذين ثاروا بالاتِّكال على الله وتوجيهات قائدهم العظيم ضِدَّ سُنَن الجاهليَّة الفاسدة، فحطَّموا الأصنام وهدُّوا بيوتها واقتلعوا جذور الظلم والعدوان، وقضوا على الآداب والتقاليد والعادات الباطلة والنُّظم الفاسدة، وأقاموا مكانها نظاماً جديداً قائماً على أساس العلم والإيمان، والعدل والحُرِّيَّة، والأخلاق والفضيلة، استطاع أنْ يُنقذ البشريَّة مِن الجهل والضلالة (١) .

____________________

(١) الشابُّ، ج٢.

٢١٧

مَن يَتَّقِ الله يجعل له مَخرجاً

مِن الأشخاص الذين آمنوا بما جاء به الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) في بداية البعثة، وفي ظلِّ أكثر الظروف قساوةً، عياش بن أبي ربيعة وزوجته أسماء بنت سلامة، فقد عانا الكثير مِن المشاكل والصعوبات والضغوطات في طريق إعلاء كلمة الحَقِّ.

كان لعياش شقيقان مِن أُمِّه هُما: أبو جهل، والحارث، وكان عندما اعتنق الإسلام في الثلاثين مِن عُمُره وزوجته في العشرين مِن العُمر، وما أنْ أعلن عياش إسلامه حتَّى ثارث ثائرة قومه، فحاولوا تعذيبه وإلحاق الأذى به؛ لمنعه مِن اتِّباع النبي (صلى الله عليه وآله)، إلاَّ أنَّ ذلك لم يؤثِّر به وبقي ثابتاً على إسلامه.

وهاجر عياش وزوجته بمعيَّة مجموعة مِن المسلمين إلى الحبشة، بأمر مِن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، لكنَّهما عادا إلى مَكَّة ثانية قبل الآخرين، فتعرَّضا مُجدَّداً لأذى المُشركين وتعذيبهم، حتَّى حان موعد هِجرة الرسول (صلى الله عليه وآله) والمسلمين إلى المدينة، فهاجرا وتخلَّصا مِن شَرِّ الأعداء.

وعندما علمت أسماء أُمُّ عياش بهجرة ولدها أقسمت اليمين، بأنَّها لن تدهن شَعرها ولن تجلِس في فَيء حتَّى يعود عياش، فشدَّ أبو جهل والحارث الرحال إلى المدينة، وأخبرا عياش بما أقسمت عليه أُمُّهم، وقالا له: إنَّك أكثرنا مكانة عند أُمِّنا، وإنَّك على دين يوصي ببَرِّ الوالدين، فعُدْ إلى مَكَّة واعبدْ ربَّك فيها كما تعبده هنا في المدينة.

فلمَّا سمع عياش بذلك تألَّم لحال أُمِّه وصَدَّق أخويه، فطلب منهما عهداً بعدم الخيانة إنْ هو عاد إلى مَكَّة، فغادر معهما المدينة، وما أنْ ابتعدوا عن المدينة حتَّى شرعا يُعذِّبانه ويؤذيانه، فربطاه ودخلا به مَكَّة نهاراً وهو على هذه الحال، وقالا:

٢١٨

(يا أهل مَكَّة، هكذا فافعلوا بسُفهائكم كما فعلنا بسفيهنا)، ثمَّ رميا به في حُجرة لا سقف له.

وبقي عياش سجيناً في مَكَّة لسنوات عديدة، لاقى خلالها شتَّى صنوف التعذيب، لكنَّه لم تظهر عليه علامات الضعف المعنوي والانهيار الروحي، فقد كان على اتَّصال بخالقه مُتسلِّحاً بقوَّة الإيمان في وجه المصائب والمصاعب.

وكان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) في المدينة يدعو له بالخلاص، وكان الناس مُتأثِّرين لما حَلَّ بعياش، وبعد مُدَّة تمكَّن أحد المسلمين - في خُطَّةٍ بارعةٍ - مِن التسلُّل إلى مَكَّة وإنقاذ عياش مِن السِّجن والعودة به إلى المدينة (١) .

____________________

(١) الشابُّ، ج٢.

٢١٩

قوَّة الإيمان أقوى مِن قوَّة الجَسد

مِن المسلمين الأوائل سعيد بن زيد وزوجته فاطمة، حيث اعتنق سعيد الإسلام وهو في العشرين مِن العُمر وزوجته تصغره بسنوات، كان سعيد وزوجته يحضران عند الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) في ظروف مشحونة بالمخاطر لاكتساب تعاليم الإسلام وتعلُّم قراءة القرآن.

وكان لفاطمة شقيق حادُّ الأخلاق قويَّ الجِسم، شديد المُعارضة للإسلام. وذات يوم مِن أيَّام الصيف الحار التقى به رجل مِن قريش في أزقَّة مَكَّة، وقال له: أنت تزعم أنَّك هكذا؟ وقد دخل عليك هذا الأمر في بيتك وصبأت أُختك، فرجع غاضباً. وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يجمع الرجل والرجلين إذا أسلما عند الرجل به قوَّة، فيكونان معه ويُصيبان مِن طعامه. وقد كان ضُمَّ إلى زوج أُخته رجلين، فجاء وقرع الباب والقوم يقرأون القرآن في صحيفة معهم، فلمَّا سمعوا الصوت تبادروا واختفوا، وقامت المرأة وفتحت الباب، فقال لها: يا عدوَّة نفسها، قد بلغني أنَّك أسلمت، وصفعها بقوَّة فسال الدمُ مِن وجهها، فلمَّا رأت الدمَ كشفت عن السِّرِّ وقالت بكلِّ صَراحة وثَبات: ما كنتَ فاعلاً فافعل، فقد أسلمت.

لقد كانت النساء والبنات مُضطهدات في العصر الجاهليِّ ومحرومات مِن حُقوقهنَّ الإنسانيَّة والمدنيَّة، وكُنَّ يُعاملن أسوأ مِن مُعاملة العبيد والحيوانات، إلى أنْ جاء الإسلام حاملاً منهجه التربوي، الذي يضمن للمرأة شخصيَّتها ويمحنها قوَّة في الإرادة واستقلالاً في الفكر، استطاعت مِن خِلالهما فتاة شابَّة الوقوف بوجه أخيها دفاعاً عن إيمانها ومُعتقدها بكلِّ شجاعة (١).

____________________

(١) الشاب، ج٢.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421