القصص التربوية

القصص التربوية9%

القصص التربوية مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 421

القصص التربوية
  • البداية
  • السابق
  • 421 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 347882 / تحميل: 10132
الحجم الحجم الحجم
القصص التربوية

القصص التربوية

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

إذ حاصر إسماعيل جيش عمرو، وما لبثوا أنْ هُزِموا وقُتل الكثير منهم، وأُسر منهم كثير وفر آخرون، وكان عمرو بن الليث مِن الفارِّين، ولكنَّه أُسِر ووقع ما كان عنده غنيمة بيد إسماعيل ومنها الخُرج. فلمَّا رآه مختوماً وقرأ ما كُتب عليه، أدرك ما هنالك وأنَّ الخُرج يحتوي على رسائل قوَّاده إلى عمرو، وهمَّ أنْ يفتح الخُرج ليطَّلع على الذين كتبوا تلك الرسائل، ولكنَّه بحِكمته الصائبة وتدبُّره العواقب، امتنع عن ذلك قائلاً في نفسه: لو أنَّني اطَّلعت على أسمائهم لساء ظنِّي بهم، كما أنَّهم إذا عرفوا انكشاف سِرِّ خيانتهم ونقضهم لعهودهم سوف يستولي عليهم الخوف، وقد يدفعهم ذلك إلى العصيان والثورة ومُحاولة اغتيالي أو قد يُشكِّلون مُعارضة تسعى للإخلال بالانضباط في الجيش، ويقلبون النصر إلى هزيمة مِمَّا يؤدِّي إلى مفاسد لا يُمكن تلافيها.

بناءً على ذلك أبقى الخُرج مَختوماً ثمَّ استدعى قادته وخواصَّ أصحابه، وأراهم الخُرج وعليه ختم عمرو وقال لهم: هذه رسائل كتبها بعض قادتي وأصحابي إلى عمرو يتقرَّبون إليه ويطلبون منه الأمان. أحلف أنْ أحِجَّ عشر حَجَّات إذا كنت أعلم ما في هذه الرسائل والذين كتبوه. فإذا كان ظَنِّي في أنَّهم قد طلبوا منه الأمان صحيحاً، فإنِّي أعفو عنهم، وإذا كان غير صحيح فإنِّي أستغفر الله على ظَنِّي. ثمَّ أمر بإحراق الخُرج بما فيه فأُحرق ولم يبقَ للرسائل مِن أثر.

فاستولت على كاتبي الرسائل الدهشة والحيرة، لما رأوه مِن إسماعيل مِن كرامة النفس والعفو الأخلاقي، وأحسُّوا بالراحة والاطمئنان بعد أنْ شاهدوا رسائلهم قد استحالت إلى رماد، وإنْ سِرَّهم قد قُبر إلى الأبد ولكنَّهم ندموا على ما بدر منهم، ومالوا إلى قائدهم الكريم وأحبُّوه وعزموا عزماً صادقاً مُخلصاً أنْ يبقوا على وفائهم له (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٤١

أردت أنْ أعظك فوعظتني

محمد بن المنكدر قال:

خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارَّة، فلقيت محمد بن علي وكان رجلاً بديناً وهو مُتَّكئ على غُلامين له أسودين، فقلت في نفسي: شيخ مِن شيوخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا، أشهد لأعظنَّه، فدنوت منه فسلَّمت عليه فسلَّم عليَّ وقد تصبَّب عرقاً.

قلت: أصلحك الله! شيخ مِن أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا! لو جاءك الموت وأنت على هذه الحال.

خلَّى عن الغُلامين مِن يده ثمَّ تساند وقال: (لو جاءني - والله - الموت وأنا في هذه الحال، جاءني وأنا في طاعة مِن طاعات الله تعالى أكفُّ بها نفسي عنك وعن الناس، وإنَّما كنت أخاف الموت لو جاءني وأنا على مَعصية مِن معاصي الله).

فقلت: يرحمك الله! أردت أنْ أعظك فوعظتني (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٤٢

خير لباس في كلِّ زمان لباس أهله

عن حماد بن عثمان قال:

حضرت أبا عبد الله الصادق (عليه السلام) وقال رجل: أصلحك الله! ذكرت أنَّ علي بن أبي طالب كان يلبس الخشن، يلبس القميص بأربعة دراهم وما أشبه ذلك، ونرى عليك اللباس الجديد.

فقال له:(إنَّ علي بن أبي طالب كان يلبس ذلك في زمانٍ لا يُنكر، ولو لبس مِثل ذلك اليوم شُّهِّر به؛ فخير لباس كلِّ زمان لباس أهله) (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٤٣

الإسراف مذموم مِن أيٍّ كان

كان مسلمة بن عبد الملك أحد أُمراء الجيش في حرب الروم، وعندما تولَّى عمر بن عبد العزيز الخلافة سمح لمسلمة بزيارته كلَّ يوم.

في أحد الأيَّام وصل خبر إلى الخليفة بأنَّ مسلمة يُسرف كثيراً بتهيئة الطعام، فأدَّى هذا الخبر إلى عدم ارتياح الخليفة، وصمَّم على نصيحته وإرشاده، فأمر الخليفة في أحد الأيَّام بإعداد وجبة عشاء مُخصَّصة لمسلمة، وفي تلك الدعوة أمر الخليفة طبَّاخ القصر بتهيئة أنواع مُختلفة مِن الطعام، ومنها حَساء مِن العدس والبصل والزيتون، وأمره عندما يحين وقت العشاء أنْ يُقدِّم الحَساء وبعد فترة يقدم أنواع الأطعمة الأُخرى.

لمَّا حضر مسلمة بدأ الخليفة يسأل مسلمة عن أوضاع الروم، والحرب في تلك المنطقة فأجابه، وبعد ساعتين مِن وقت العشاء أمر الخليفة الطبَّاخ بجلب العشاء وأوَّل الأطعمة المطلوبة الحَساء، وكان مسلمة جائعاً فلم يستطيع انتظار بقيَّة الطعام، فقام بأكل الحَساء وشبع، وعندما قدَّموا بقيَّة الأطعمة المُختلفة لم يستطع مسلمة الأكل بعد ذلك.

سأله عمر بن عبد العزيز: لماذا لا تأكل؟

أجاب: لقد شبعت.

قال الخليفة: سبحان الله! أنت شبعت مِن هذا الحَساء الذي كلَّفنا درهماً واحد، أما لهذه المأكولات المُختلفة، فإنَّك تصرف آلاف الدراهم! خَف الله ولا تُسرف! يجب أنْ تُعطي هذه المبالغ إلى المُحتاجين لمرضاة الله.

وقد كانت نصيحة عبد العزيز لمسلمة مؤثِّرة طول حياته.

إنَّ تقديم النُّصح عَلناً والإشارة إلى الأخطاء أمام الناس، وتوبيخ الخاطئ على ما

٣٤٤

فعل وتخطئته على رؤوس الأشهاد، وانتظار زلاَّته في حضور الآخرين، إنَّما هو في الحقيقة تحطيم لشخصيَّته، ومثل هذا النُّصح - فضلاً عن كونه لا يأتي بأيِّ أثر مُفيد فإنَّه - يبعث على العداوة والبغضاء، ويُثير الرغبة في الانتقام وتكون له نتائج ضارَّة (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٤٥

التعليم الذكي

الحسن والحسين (عليهما السلام) مرَّا على شيخ يتوضَّأ ولا يُحسن. فتظاهرا بالتنازع يقول كلُّ واحدٍ منهما للآخر: (أنت لا تُحسن الوضوء).

فقالا: (أيُّها الشيخ كُنْ حكماً بيننا، يتوضَّأ كلُّ واحدٍ منَّا)، فتوضَّآ.

ثمَّ قالا: (أيُّنا يُحسن؟).

قال: كلاكما تُحسنان الوضوء، ولكنَّ هذا الشيخ الجاهل - يعني نفسه - هو الذي لم يكن يُحسن، وقد تعلَّم الآن منكما، وتاب على يديكما وببركتكما وشفقتكما على أُمَّة جَدِّكما.

لم ينتقد الحسنان (عليه السلام) الشيخ انتقاداً مُباشراً، ولم يُجابهاه بجهله بطريقة الوضوء الصحيحة، ولم يذكرا وضوءه بسوء أو يصفاه بالبطلان، بلْ أجريا الوضوء بنفسيهما مُحتكمين إليه ليجلب انتباهه إلى كيفيَّة وضوئهما، بحيث يُدرك بطريقة غير مُباشرة خطأ وضوئه؛ فكان مِن نتيجة ذلك الانتقاد المؤدَّب العقلاني أنْ اعترف الشيخ بخطئه صراحة، وتعلَّم طريقة الوضوء الصحيحة وشكر لهما راضياً شفقتهما ومحبتهم (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٤٦

تحتقر الكلام وتستصغره؟!

عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنَّه قال وقد كلَّمه رجل بكلام كثير:

(أيُّها الرجل، تحتقر الكلام وتستصغره!

اعلم أنَّ الله عَزَّ وجَلَّ لم يبعث رُسله، حيث بعثها ومعها ذهب ولا فضَّة، ولكنْ بعثها بالكلام، وإنَّما عُرِف الله جَلَّ وعَزَّ نفسه إلى خلقه بالكلام والدلالات عليه والأعلام).

هنا أيضاً لم يقل الإمام شيئاً عن الرجل الثرثار، ولم يجعله هدف انتقاده مُباشرةً، كما لم يُشر بشيء إلى ثرثرته، ولا انتقد فيه هذه الصفة المذمومة انتقاداً مُباشراً، بلْ اكتفى بذكر قيمة الكلام وأهميَّته وأنَّه ينبغي ألا يستصغر شأن الكلام، وألا يهدر رأسماله الثمين هذا عبثاً بحَقٍّ وبغير حَقٍّ.

وحثَّه على استثمار موهبته في الحالات المُقتضية وبالقدر اللازم، وهكذا انتقد الإمام بشكل مؤدَّب وحكيم وغير مُباشر ثرثرة الرجل (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٤٧

مُعاوية يأمر بسبِّ عليٍّ (عليه السلام) على المَنابر

عندما بدأ مُعاوية حُكمه على أرض الإسلام الواسعة، أمر بسبِّ علي بن أبي طالب في أرجاء البلاد، فارتكب بعمله الظالم والقذر هذا إثماً كبيراً لا يُغتفر، وكان بذلك يرمي إلى الإساءة إلى سُمعة الإمام، وحمل الناس على إساءة الظَّنِّ بالإمام وانتزاع مَحبَّته مِن قلوب الناس، ومحو دلائل عدالته ووقوفه بوجه الظلم مِن ذاكرتهم، وبذلك يُغطِّي مِن جهة وصمات العار وسوء السُّمعة التي تلطِّخ اسم مُعاوية وآل أُميَّة، وتكون له مِن جِهة أُخرى حُرِّيَّة إطلاق يده في الظلم والجور، دون أنْ يُقارن أحد بين حكومته وحكومة الإمام عليِّ (عليه السلام) مِن حيث ظلمه وعدل عليٍّ..

ولكي يعمل على الإسراع في انتشار سبِّ الإمام في إرجاء البلاد؛ أمر جميع كبار الضبَّاط وكبار أعضاء الحكومة في أنحاء البلاد أنْ يُنفِّذوا ذلك عن طريق ذكر اسم الإمام عليٍّ بالسوء في جميع المحافل والمجالس، وأن يقوم أئمَّة الجمعة في خُطب صلاتهم بسبِّه على المنابر، وطلب إلى الشعراء أنْ ينظموا القصائد في هَجوه وينشروها بين الناس، وهكذا جَنَّد جميع موظَّفي الدولة لتنفيذ هذه الخُطَّة دون هواد، بحيث يتعوَّد الناس على سبِّ عليِّ بن أبي طالب، وكأنَّه جزءٌ مِن تكاليفهم الشرعيَّة وبموازاة سَبِّ الإمام عليٍّ وشتمه خطَّط لقمع حركة التشيع ونفذه.

بدأ - أوَّلاً - بإلقاء القبض على أخلص أصحاب الإمام المعروفين، والثابتين على الولاء له، والمشهورين بالتقوى ومِن خيرة تلامذة مدرسة الإسلام، أهانهم وحطَّ مِن كراماتهم، وقتل بعضهم شرَّ قتلة، وعذَّب بعضهم عذاباً مُبرحاً حتَّى الموت، وألقى ببعض في غياهب السجون.

وبهذه الجرائم المُنكَرة المُتَّسمة بالإرهاب خَلَق جَوَّاً مِن الرُّعب والخوف، بحيث لم يعد أحد يَجرؤ على أنْ يُجاهر بولائه للإمام علي، ويتحدَّث عن فضائله أو أنْ

٣٤٨

ينبري لتفنيد افتراءات مُعاوية ومأجوريه دفاعاً عن الإمام. وبقي الحال على هذا المنوال خلال حُكم مُعاوية.

وبعده واصل عدد مِن خُلفائه السيرة نفسها في الاستمرار على سبِّ الإمام علي. وظلَّ هذا الإثم الكبير شائعاً في طول البلاد وعرضها مُدَّة نِصف قَرن أو أكثر، دون أنْ يستطيع الناس الأخيار المؤمنون مُكافحته، وانتقاد تلك البِدعة الشائنة التي وضع مُعاوية لُبنته.

وفي سنة (٩٩) هِجريَّة تسلَّم الخلافة عمر بن عبد العزيز، وأصبح قائد البلاد الإسلاميَّة لقد كان في شبابه - عندما كان يدرس في المدينة - مثل سائر المخدوعين يذكر عليَّاً بالسوء، ولكنَّه عرف الحقيقة مِن أحد العلماء، وأدرك منه أنَّ سَبَّ تلك الشخصيَّة خلاف للشرع وموجب لغضب الله تعالى، غير أنَّه لم يكن قادراً على بيان ذلك للناس لمنعهم مِن الذنب الذي يرتكبونه، وعندما تربَّع على كرسيِّ الخلافة قرَّر أنْ يستفيد مِن منصبه لإزالة تلك الوصمة مِن جَبين البلاد، بمنع سَبِّ الإمام عليٍّ (عليه السلام).

ولكنَّه لكيلا يتعرَّض في مُهمَّته لمُعارضة المُتعصِّبين مِن بني أُميَّة وأصحابه الأنانيِّين، فلا يقيمون عَقبة في طريقه قرَّر أنْ يُفاتحهم في الأمر، لكي يُهيِّئهم له ويلفت أنظارهم إلى ضرورة التعاون معه في غسل ذلك العار، فوضع لذلك خُطَّة استخدم فيها طبيباً شابَّاً يهوديَّاً كان في الشام، فاستدعاه سِرَّاً وأطلعه على تفاصيل خُطَّته، وطلب إليه الحضور إلى قصر الخلافة في يوم وساعة مُعينين لينفذ الخُطَّة.

وقبل اليوم المُحدَّد أرسل إلى كبار شخصيَّات بني أُميَّة وذوي النفوذ في الشام، للحضور في ذلك اليوم عند الخليفة. وفي الساعة المُحدَّدة دخل الطبيب اليهوديِّ بعد الاستئذان، فأثار دخوله انتباه الحاضرين جميعاً.

سأله الخليفة عن سبب حضوره؟

فقال: إنَّه جاء يخطب ابنة الخليفة.

٣٤٩

سأله عمر: لمَن تخطبها؟

قال: لنفسي.

فبُهِت الحاضرون وراحوا ينظرون إليه باندهاش.

نظر إليه عمر وقال: ليس لي أنْ أوافقك على طلبك، فنحن مسلمون وأنت لستَ مسلماً، ومثل هذا الزواج غير جائز في الإسلام.

فقال الطبيب اليهودي: إذا كان هذا هو حُكم الإسلام، فكيف زوج نبيَّكم ابنته عليَّاً (عليه السلام)؟

فغضب الخليفة وقال له: عليٌّ (عليه السلام) كان مِن كبار المسلمين.

فقال اليهودي: إذا كنتم تعتبرونه مسلماً، فلماذا - إذن - تلعنونه وتسبُّونه في المجالس؟! فالتفت عمر إلى الحاضرين وقد بدا التأثُّر على ملامحه وقال لهم: أجيبوا على سؤاله.

سكت الجميع وأطرقوا برؤوسهم خَجلاً، وخرج الطبيب اليهودي دون أنْ يحظى بجواب (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٥٠

أيُّهما أفضل عليٌّ أم مُعاوية؟!

لمَّا وَلِي عمر بن عبد العزيز استعمل ميمون بن مهران على الجزيرة. واستعمل ميمون بن مهران على (قرقيس)) رجلاً يُقال له: (علاثة). فتنازع رجلان فقال أحدهما: مُعاوية أفضل مِن عليٍّ وأحقُّ. وقال الآخر: عليٌّ أولى مِن مُعاوية.

فكتب عامل (قرقيس) إلى ميمون بن مهران بذلك، فكتب ميمون بن مهران إلى عمر. فكتب عمر إلى ميمون بن مهران أنْ اكتب إلى عامل (قرقيس) أنْ أقم الرجل الذي قدَّم مُعاوية على عليٍّ بباب المسجد الجامع فاضربه مئة سوط، وانفه مِن البلد الذي هو به. فأخبر مَن رآه وقد ضرب مئة سوط وأخرج مُلبَّباً (أي: مأخوذاً بتلابيبه) حتَّى أُخرج مِن باب يُقال لها: باب الدين.

يبدو أنَّ عمر قد أدرك أنَّ الجدل في أفضليَّة مُعاوية كان خُطَّة جديدة للمُعاندين، وأنَّهم مِن هذا الطريق يُريدون أنْ ينالوا مِن مقام الإمام علي الشامخ، وأنْ يُسيئوا إليه ليُعيدوا السبَّ والشتم إلى الوجود بصورة أُخرى ويواصلوا أُسلوبهم الخبيث الظالم. إلاَّ أنَّ خليفة المسلمين أدرك سوء نيَّتهم هذه، فأحبط خُطَّتهم بأمره الصريح القاطع (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٥١

التغاضي عن سفاسف الأُمور

حُكي أنَّ بهرام الملك خرج يوماً للصيد فانفرد عن أصحابه، فرأى صيداً فتبعه طامعاً في لحاقه حتَّى بَعُد عن عسكره، فنظر إلى راعٍ تحت شجرة فنزل عن فرسه لحاجة، وقال للراعي: احفَظ عليَّ فرسي حتَّى أعود، فعَمد الراعي إلى العنان - وكان مُلبَّساً ذهباً كثيراً - وأخرج سكِّيناً فقطع أطراف اللجام وأخذ الذهب الذي عليه.

نظر بهرام نظرة إليه فرآه، فغضَّ بصره وأطرق برأسه إلى الأرض، وأطال الجلوس حتَّى أخذ الرجل حاجته.

ثمَّ قام بهرام فوضع يده على عينيه وقال للراعي: قَدِّم إليَّ فرسي، فإنَّه قد دخل في عيني مِن سافي الريح فلا أقدر على فتحهما، فقدَّمه إليه فركب وسار إلى أنْ وصل عسكره فقال لصاحب مراكبه: إنَّ أطراف اللجام قد وهبتها فلا تتَّهمَنَّ بها أحداً.

هذا الراعي لم يكن سارقاً مُحترفاً، كما أنَّ ذلك المقدار مِن الذهب لم يكن ذا قيمة عند بهرام، فلو أنَّه كان قد أظهر علمه بما فعل الرجل وأمر عند عودته بالقبض عليه، واسترجاع الذهب منه ومُعاقبته على السرقة؛ لكان في ذلك تصغير لشخصه بالإضافة إلى تحطيم كرامة الراعي. ولكنَّه بهذا التغافل والتغاضي أخفى سِرَّ الراعي كما رفع مِن قيمة نفسه الإنسانيَّة وكرم أخلاقه (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٥٢

مُديرٌ حكيم

قبل سنوات كان هناك شخص قدير، يُدير إحدى شركات التصدير الكُبرى ذات الفروع في عدد مِن المُدن، وكان كلُّ سنة في موسم الشراء يُحوِّل إلى كلِّ فرع ما يحتاجه مِن الأموال، أُخبر هذا المدير يوماً بأنَّ مُحاسب الفرع الفلاني قد استغلَّ مركزه واختلس بعض الأموال المُرسلة إليه لشراء البضاعة.

لم يكن ذلك الفرع يبعُد كثيراً عن المركز، فقرَّر المدير أنْ يزوره في اليوم التالي، وطلب مِن مدير مكتبه أنْ يصحبه، وفي اليوم التالي سافرا إلى تلك المدينة ووصلاها عند الضحى، ودخلا على مُحاسب فرع الشركة مُباشرة دون إخبار أحدٍ.

وعندما سأل المُدير المُحاسب عن الوضع المالي في فرعه، فتح هذا دفتره أمام المُدير فوجد المُدير أنَّ الموجود في المصرف يقرب مِن ٩٥% مِن المبلغ المُحوَّل إليه، بالإضافة إلى عدد مِن قوائم الشراء ومبلغٍ نقديٍّ في الصندوق.

عندما أخذ المُحاسب يحسب النقود في الصندوق قال له المُدير: هذا يكفي.

ثمَّ أثنى على نشاطه وصافحه وخرج مِن الشركة.

يقول مُدير المكتب الفرعي: في الطريق قلت للمُدير: إنَّ المبلغ الذي كان في الصندوق لم يكن يكفي لتسديد الحساب؛ فلو أنَّك تمهَّلت حتَّى يُنهي الحساب لعلمت أنَّ رصيد الصندوق ناقص.

قال المدير: لقد عرفت أنَّ ما في الصندوق لا يكفي لتسديد الرصيد، ولكنَّ سُمعة موظفٍ مُحترمٍ في الشركة أغلى بكثير مِن هذا المبلغ الزهيد. إنَّني أوقفت عَدَّ النقود؛ لئلا ينكشف أمر المُحاسب وتُهان كرامته. إنَّني ما سافرت إلاّ لأنَّي كنت قلقاً على مصير عِدَّة ملايين مِن أموال الشركة، فكنت أُريد أنْ أتحقَّق مِن الأمر بنفسي، وأتعرَّف على وضع الفرع المالي بأسرع ما يُمكن. وقد ظهر لي بمراجعة

٣٥٣

الحسابات أنَّ أموال الشركة لم يُصبها ضرر يُذكر. وهذا العجز البسيط في الصندوق ليس دليلاً على خيانة المُحاسب فلرُبَّما اضطرَّ إلى استقراضه ليُسدِّد مصاريف وضع حمل زوجه، أو لمرض ابنه، أو لدفع إيجار بيته. فكان لا بُدَّ مِن التغافل عن ذلك للمُحافظة على ماء وجهه، ولستُ أشكُّ في أنَّه سوف يُسدِّد ما عليه في أوَّل فُرصةٍ تُتاح له، ولن يعود لمِثلها بعد ذلك ولن يُخاطر بتشويه سُمعته (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٥٤

إذا أكرمت اللئيم تمرَّد

استعمال مكارم الأخلاق يكون مع الأشخاص الذين يستحقُّون ذلك، فالوضيعون الذين تزيدهم العِفَّة جُرأة على ارتكاب السيِّئات، ليسوا جديرين بالعفو مِن جانب الكُرماء ذوي النفوس الرفيعة.

كذلك التغافل والتغاضي مِثل مكارم الأخلاق، يجب أنْ يوضعا في محلِّهما عند مَن يستحقَّهما، فإذا أراد أحد إساءة استغلال ذلك وأوغل في ارتكاب أعماله السيِّئة؛ فلا يجوز التغافل عنه، بلْ يجب أنْ يُصارح بسوء عمله ويؤاخذ ويُعاقَب عليه. وهذا ما فعله الرسول الكريم بحقِّ الحَكم بن أبي العاص الذي كان مِن كبار المُنافقين:

في سنة فتح مَكَّة استسلم الحَكم بن أبي العاص بسبب قُدرة المسلمين في ذلك الوقت، ولكنَّه كان يؤذي الرسول بأساليب مُختلفة، فبعض الأحيان كان يتجسَّس على النبي ويُخبر بذلك أعداءه، حيث كان يتجسَّس على الأماكن التي كان يقطنها الرسول مع عائلته ويسمع ما يتكلَّمون به، ويُخبر به المُنافقين بصورة سُخريَّة واستهزاء. بعض الأحيان كان يمشي وراء الرسول الأكرم مع جماعة مِن المُنافقين، ويسخر مِن مشية الرسول بتحريك رأسه ويده. وكان الرسول عارفاً بأقوال وتصرُّفات الحَكم بن أبي العاص، وكان يغضُّ النظر عنه؛ وذلك أنَّ الرسول يأمل أنْ يأتي يوم يُغيِّر هذا الرجل فيه تصرُّفاته القبيحة، ولكنَّ الرسول رأى منه عكس ذلك؛ حيث ازدادت جسارته على الرسول فصمَّم الرسول على تغيير أُسلوبه معه.

في أحد الأيَّام كان الرسول عابراً، فلاحظ الحَكم بن أبي العاص خلفه يسخر منه بَحكَّة رأسه ويده، وفجأة التفت الرسول الأكرم إليه وقال:

(كذلك فلتكُن، يا حَكم)، فلم ينتبه الحَكم بن أبي العاص لكلام الرسول فأُصيب

٣٥٥

بضبَّة في روحه وأعصابه، اعترته الرعشة والحركات المُضحكة، وقد حَكم عليه بالإقامة الجبريَّة بالطائف وأُبعد عن المدينة (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٥٦

فِطنة أديب

كان يعيش في عصر الحَجَّاج بن يوسف رجل عالم وأديب اسمه (قبعثري) كان يوماً مع أصحاب له في جلسة أُنس في بعض البساتين خارج المدينة. وخلال تبادل الحديث جاء ذكر الحَجَّاج، فعرَّض به قبعثري في كلامه كناية مُظهراً عدم رضاه عنه، فوصل هذا إلى سمع الحَجَّاج؛ فعزم على مُعاقبته على التعريض به.

استحضره وقال له مُحتدَّاً: لأحملنك على الأدهم، أي: سأسجنك وأضع القيد في رجليك، (للأدهم في العربية معانٍ كثيرة، منها: تقييد الرجلين، ومنها الفرس الأسود).

أدرك قبعثري الأديب الأريب قصد الحَجَّاج، وعرف أنَّه يُهدِّده بالقيد والسجن، ولكنَّه لتجنُّب الخطر تغافل عن هذا المعنى ولم يُبدٍ أنَّه فهم المُراد، بلْ أظهر أنَّه فهم مِن (الأدهم) أنَّه يقصد الفرس الأسود، ولذلك قال له باسماً: مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب. أي أنَّ الأمير بما له مِن مقام كبير وقُدرة عظيمة قادر على أنْ يشمل الناس بعطفه وكرمه، فيرسلهم إلى أهليهم على الخيول السود والشهب.

فقال الحَجَّاج توضيحاً لقوله: أردت الحديد. وكان مِن باب المُصادفة أنَّ للحديد في العربيَّة معاني متعددة، منها: القيد، ومنها الذكاء والفطنة. فتغافل قبعثري مَرَّة أُخرى عن المقصود الحقيقي وقال: الحديد خير مِن البليد. قاصداً أنَّ الفرس الذكي خير مِن الفرس البليد.

لقد قلب قبعثري بهذا التغافل الأدبي الذي قلَّ نظيره - والذي مزجه بالتكريم والاحترام - الموقف رأساً على عقب؛ مِمَّا أطفأ نار غضب الحَجَّاج وأنقذه مِن السجن والحديد، بلْ استجلب رضى الحَجَّاج وعطفه؛ فلم يبخل عليه بعطيَّته (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٥٧

تغافل في مَحلِّه

كان هارون الرشيد يخرج إلى الصيد، وفي أحد المَرَّات وصل إلى بُستان معمور فسأل: لمَن هذا البُستان؟

قالوا: هو لرجل مجوسيٍّ.

فقال: أُريد هذا البستان، ولا بُدَّ مِن شرائه.

فقال الوزير: قد كلَّمناه في هذا الأمر عِدَّة مَرَّات فلم يوافق.

فقال هارون الرشيد: ما العمل حتَّى يصبح هذا البُستان مِن أملاكي؟

قال الوزير: نقول له: إنَّ الخليفة نزل في بُستانك، ونسأله لمَن هذا البستان؟

سوف يقول: إنَّه لحضرة الخليفة هارون الرشيد، وسوف نعتبر هذه الجُملة مُستمسكاً ونُعطيه المبلغ مع بعض جوائز.

وافق هارون على ذلك، ثمَّ نزل هارون في ذلك البُستان وبعد فترة جاء المجوسيُّ وأدَّى التحيَّة باحترام. وعندما سأله هارون: لمَن هذا البستان؟

قال: كان ملك أبي واليوم أصبح ملكي، ولا أعرف غداً لمَن يكون؛ فأثَّر كلام المجوسيِّ في نفس هارون الرشيد.

قال: إنَّك حفظت بُستانك بهذا الكلام وقد غلبتنا بالحيلة.

كان المجوسيُّ عارفاً بالآداب والأعراف، ويعلم أنَّه عندما يسأل هارون لمَن هذا البستان؟ يجب أنْ يُقال له: إنَّه لخليفة المسلمين. ولكنَّه تغافل عمَّا يعلم وأظهر أنَّه لا علم له بما جرت عليه العادة. وعلى أثر هذا التغافل المؤدَّب، الذي جاء في محلِّه أمكن حَلُّ المُشكلة، واستفاد المُتغافل مِن نتيجة تغافله الإيجابيِّ المُفيد (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٥٨

إنَّما الطاعة في المعروف ولا طاعة في معصية

جهَّز رسول الله جيشاً لإحدى حُروبه وعيَّن قائداً للجيش، وأمر الجنود بإطاعته وتنفيذ أوامره.

قام هذا القائد في بداية مسيره بتجربة غريبة، ربَّما لكي يعرف مدى طاعة جنوده له، أو ليعلم درجات إدراكهم، أو لأيِّ هدفٍ آخر حيث أمر بنار فأُضرمت، ثمَّ أمرهم أن يُلقوا بأنفسهم فيها.

راح بعض الجنود يتهيَّأون لتنفيذ الأمر، ورأى آخرون أنَّ هذا الأمر غير صحيح ورفضوا إطاعته فيه.

فقال لهم شابٌّ: لا تعجلوا حتَّى تأتوا رسول الله، فهو إنْ أمركم أنْ تدخلوها فادخلوها، فأتوا رسول الله فقال لهم: (لو دخلتموها ما خرجتم منها أبداً. إنَّما الطاعة في المعروف ولا طاعة لمخلوقٍ في معصيته للخالق) (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج٢.

٣٥٩

لا يستهوينَّكم الشيطان لعنه الله

يقول ابن شهر آشوب: بعد أنْ صمَّم مُعاوية على القيام ضِدَّ الإمام عليٍّ خطر له أنْ يختبر أهل الشام؛ ليعرف مدى طاعتهم لأوامره، فاقترح عليه عمرو بن العاص طريقة لإجراء هذا الاختبار قائلاً له: اصدر أمرك إلى الناس بأنَّ عليهم أنْ يذبحوا القَرع كما يذبحون الشاة، فيذكُّوه قبل أنْ يأكلوه، فإذا أطاعوك فثق بتأييدهم وإسنادهم لك، وإلاّ فلا.

أصدر مُعاوية أمره بذلك فأطاعه الناس دون أيِّ اعتراض، وانتشرت هذه البِدعة الأموي في أرجاء الشام.

وسُرعان ما وصل خبر تلك البِدعة إلى أسماع أهل العراق، وراح الناس يتساءلون عن ذلك. فسُئل أمير المؤمنين عن القرع يذبح؟

فقال: (القَرع ليس يُذكَّى؛ فكلوه ولا تذبحوه ولا يستهوينَّكم الشيطان لعنه الله).

إنَّ المسلمين الذين أطاعوا أمر مُعاوية غير المشروع يومئذٍ، ونفَّذوه على مُخالفته أمر الله، هُمْ أشبه بذلك الفئة مِن أهل الكتاب الذين حَرَّم عليهم أحبارهم ورُهبانهم ما أحلَّ الله، وحلَّلوا لهم ما حرَّم الله، فكانوا يُطيعونهم إطاعة عمياء فيُشركون وهُمْ جاهلون (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج٢.

٣٦٠

لا تَعمى الأبصار ولكنْ تَعمى القلوب

كان أحد جنود الكوفة قد حضر حرب صِفِّين على بعيره، فقرَّر عند رجوعه أنْ يُعرِّج على الشام؛ ليطَّلع عن كثب على نظام حكومة مُعاوية. وعند دخوله دمشق قابل جنديَّاً مِن جنود مُعاوية كان قد رآه في الحرب، ويعرف أنَّه مِن جنود الإمام علي (عليه السلام).

تقدَّم هذا نحوه وأخذ بخناقه زاعماً أنَّ الناقة التي يركبها له، وأنَّه قد انتزعها منه في حرب صِفِّين. فتجمَّع الناس واشتدَّ الكلام بينهما، حتَّى وصل بهما الأمر إلى الرجوع إلى مُعاوية.

عرض الشامي دعواه واستشهد خمسين شاهداً شهدوا جميعاً: بأنَّ الناقة له. فحكم مُعاوية له وأمر الكوفي بتسليمه الناقة.

عندئذ قال الكوفي لمُعاوية: ولكنَّ هذا جمل وليس ناقة، مع أنَّ الدمشقي كان مُنذ البداية قد زعم أنَّ الجمل ناقة وشهد له بذلك خمسون شاهداً.

في الحقيقة كان الكوفيُّ يُريد بهذا أنْ يُلفت نظر مُعاوية إلى أنَّ كلَّ تلك الضجَّة كانت فارغة، وأنَّ الحُكم الذي أصدره كان باطلاً ومُخالفاً للحَقِّ.

غير أنَّ مُعاوية لم يلتفت إليه، وقال: إنَّ الحُكم قد صدر ويجب تنفيذه.

انتهى مجلس القضاء وتفرَّق طرفا الدعوى والشهود، فأرسل مُعاوية سِرَّاً يستدعي الكوفي وسأله عن ثمن الجمل وأعطاه له وأكرمه.

وقال له: أبلغ عليَّاً أنِّي أُقابله بمئة ألف ما فيهم مَن يُفرِّق بين الناقة والجمل.

لقد كان الدمشقي والشهود الخمسون مِثل سائر أهل الشام يؤيِّدون مُعاوية

٣٦١

ويُطيعونه مِن دون قيد ولا شرط. ما كان فيهم مَن يُفكِّر في الحَقِّ والباطل، ولا في الحلال والحرام، ولا في رضى الله وسخطه. كلُّ ما كان يُهمُّهم هو أنْ يفعلوا ما يرضي مُعاوية وأصحابه، ويُصيب بالضرر عليَّاً (عليه السلام) وأصحابه (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج2.

٣٦٢

باع آخرته بدنيا غيره

كان أبو العلاء (يزيد بن أبي مسلم) أخاً في الرضاعة للحَجَّاج بن يوسف، ويُدير له ديوان المكاتيب لقاء مرتَّب شهريٍّ قدره ثلاثمئة درهم ما كانت تكفيه معيشته. ومع ذلك فقد كان يقتل الناس مِن أجل الحَجَّاج.

مَرِض الرجل يوماً فعاده الحَجَّاج في بيته، فرآه قد وضع أمامه كانوناً مِن طين وسراجاً مِن خشب.

قال له: يا أبا العلاء، لا أرى رزقك يكفيك.

فردَّ عليه قائلاً: لئن لم تكفني ثلاثمئه درهم فلن تكفيني ثلاثمئة ألف درهم.

يزيد بن أبي مسلم لم يكن رجل حَقٍّ وحقيقة، ولم يكن يتحمَّل ضنك العيش على سبيل الزُّهد والتقوى في مرضاة الله، بلْ كان هذا الإنسان ذو الحظ المنكود والمعيشة الشقيَّة عبداً مِن عبيد الحَجَّاج، يُريق دماء الأبرياء في سبيل توطيد أركان حُكمه الظالم الجائر. فهو قد اشترى رضى المخلوق بسخط الخالق، وداس بقدمه الكرامة الإنسانيَّة لتنفيذ أغراض غير مشروعة لشخص جبَّار. إنَّه - كما قال رسول الله: ـقد باع آخرته بدنيا غيره فلحق بركب أشقى الناس وأرذلهم (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج2.

٣٦٣

اشترى مرضاة المخلوق بسخط الخالق

بعد واقعة كربلاء الدمويَّة، وفي الوقت الذي كان فيه أهل بيت الإمام الحسين (عليه السلام) في الشام اجتمع الناس في يوم جمعة لأداء الصلاة، وكان قد حضره الإمام السجاد (عليه السلام).

دخل يزيد المسجد ليؤمَّ المُصلِّين، فأمر الخطيب أنْ يرقى المنبر. حمد الخطيب الله وأثنى عليه ثمَّ راح يسبُّ علي بن أبي طالب والحسين (عليه السلام)، وتجرَّأ في كلامه على مقاميهما الإلهيَّين.

ثمَّ أخذ يمدح مُعاوية ويزيد ويُمجِّدهما، ونسب إليهما الكثير مِن الصفات الحميدة والخصال المجيدة، فصاح به السجاد (عليه السلام): (ويلك أيُّها الخاطب! اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق) (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج2.

٣٦٤

ثِقْ بحُسن صِنع الله مِن حيث لا تدري

قال محمد بن أبي العتاهية حدَّثني أبي:

لمَّا امتنعت مِن قول الشعر وتركته، أمر المهدي بحبسي في سجن الجرائم، فأُخرجت مِن بين يديه إلى السجن، فلمَّا أُدخلته دُهشت وذهل عقلي ورأيت منظراً هالني، فرميت بطرفي أطلب موضعاً آوي إليه، أو رجلاً آنس بمجالسته، فإذا أنا بكهل هالني فرميت بطرفي أطلب موضعاً آوي إليه أو رجلاً آنس بمُجالسته، فإذا أنا بكهل حَسن السمت نظيف الثوب يُبيَّن عليه سيماء الخير فقصدته، فجلست إليه مِن غير أنْ أُسلِّم عليه أو أسأله عن شيء مِن أمره؛ لما أنا فيه مِن الجزع والحيرة، فمكثت كذلك مليَّاً وأنا مُطرق مُفكِّر في حالي، فأنشد هذا الرجل هذين البيتين. فقال:

تـعوَّدت مَـسَّ الضَّرَّ حتَّى ألفته

أسـلمني حُسن العزاء إلى الصبر

وحـيَّرني يـأسٌ مِن الناس واثقا

بحُسن صُنع الله مِن حيث لا أدري

فاستحسنت هذين البيتين وتبرَّكت بهما وثاب إليَّ عقلي، فأقبلت على الرجل فقلت له: تفضَّل - أعزَّك - الله بإعادة هذين البيتين.

فقال لي: ويحك يا إسماعيل! - ولم يُكنِّني - ما أسوأ أدبك وأقلَّ عقلك ومروءتك، دخلت إليَّ ولم تُسلِّم عليَّ بتسليم المسلم على المسلم، ولا توجَّعت لي توجُّع المُبتلى للمُبتلى، ولا سألتني مسألة الوارد على المُقيم، حتَّى إذا سمعت مِنِّي بيتين مِن الشعر الذي لم يجعل الله فيك خيراً ولا أدباً، ولا جعل لك معاشاً غيره لم تتذكَّر ما سلف منك فتتلافاه، ولا اعتذرت مِمَّا قَدَّمته وفرَّطت فيه مِن الحَقِّ حتَّى استنشدتني مُبتدئاً كأنَّ بيننا أُنساً قديماً ومعرفة شافية وصُحبة تَبسط المنقبض.

فقلت له: اعذرني مُتفضِّلاً؛ فإنَّ دون ما أنا فيه مُدهش.

قال: وفي أيِّ شيءٍ أنت؟! إنَّما تركت قول الشعر الذي كان جاهك عندهم وسبيلك إليهم، فحبسوك حتَّى تقوله، وأنت لا بُدَّ مِن أنْ تقوله فتُطلق، وأنا يُدعى بي الساعة فأُطالب بإحضار عيسى بن زيد ابن رسول الله، فإنْ دللت عليه فسوف يُقتل

٣٦٥

وبذلك ألقى الله بدمه، وكان رسول الله خصمي فيه وإلاَّ قُتلت فأنا أولى بالحيرة منك وأنت ترى احتسابي وصبري.

فقلت: يكفيك الله، وأطرقت خَجلاً منه.

فقال لي: لا أجمع عليك التوبيخ والمنع، اسمع البيتين واحفظهما. فأعادهما عليَّ مِراراً حتَّى حفظتهما ثمَّ دُعي به وبيَّ، فلمَّا قُمنا قلت: مَن أنت أعزَّك الله؟

قال: أنا حاضر صاحب عيسى بن زيد.

فأُدخلنا على المهدي فلمَّا وقف بين يديه قال له: أين عيسى بن زيد؟

قال ما يُدريني أين عيسى، طلبته وأخفته فهرب منك في البلاد، وأخذتني فحبستني فمِن أين أقف على موضع هارب منك وأنا محبوس؟!

فقال له: فأين كان مُتوارياً؟ ومتى آخر عهدك به؟ وعند مَن لقيته؟

فقال: ما لقيته مُنذ توارى ولا أعرف له خبراً.

قال: والله، لتدُلَّني عليه أو لأضربَنَّ عُنقك الساعة.

قال: اصنع ما بدا لك! أنا أدلُّك على ابن رسول الله لتقتله فألقى الله ورسوله يُطالباني بدمه. والله، لو كان بين ثوبي وجلدي ما كشفت عنه.

ثمَّ دعاني فقال: أتقول الشعر أو ألحقك به.

فقلت: بلْ أقول الشعر.

فقال: أطلقوه.

تُجيز التعليمات الإسلاميَّة للمسلمين لكي يُحافظوا على حياتهم وعند الضرورة أنْ يرتكبوا بعض المُحرَّمات بقدر الضرورة، ولكنْ ما مِن مسلم يجوز له أنْ يُضحِّي بحياة أخيه في الدين مِن أجل نفسه هو، كأنْ يقتله أو يدفع به للقتل لينجو هو بحياته (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج2.

٣٦٦

المُسلم لا يمكر بالمُسلم

في أيَّام خلافة عبد الله بن الزبير في الحِجاز، ذهب حامل ختم الخليفة عبد الملك بن مروان مِن الشام إلى زيارة بيت الله الحرام، وهناك التقى مع أحد خواصِّ عبد الله بن الزبير ومِن خلال البحث والجدال تنازع الرجلان وافترقا.

وبعد دخول الحَجَّاج بن يوسف مَكَّة وقتل ابن الزبير، ثم القبض على أصحاب ابن الزبير وإلقائهم في السجن بعد إرسالهم إلى الكوفة، كان أحد الأشخاص الذين أُلقي القبض عليهم هو الشخص الذي تنازع مع حامل ختم الخليفة.

وكتب الحَجَّاج مِن العراق برسالة إلى عبد الملك حول مصير السُّجناء، فأمر عبد الملك حاجبه بالرَّدِّ على الرسالة، وذلك بتعيين عددهم وكتابة أسمائهم، فكانت العبارة: أحصهم واكتب أسماءهم. وبعد كتابة الرسالة وتوقيعها مِن قِبَل الخليفة أُعطيت لحامل ختم الخليفة لتدقيقها وختمها.

وكان حامل ختم الخليفة قد عرف أنَّ أحد السُّجناء المذكورين في الرسالة، هو الشخص الذي تنازع معه عند زيارته لبيت الله، فأراد انتهاز الفرصة والانتقام منه؛ ولذلك فكَّر بفكرة شيطانيَّة عجيبة. فقال بصوت عالٍ: لقد نسيت أنْ أضع نقطة على إحدى الكلمات، فهل لي الإذن بوضعها؟ فأُذن له فوضع نقطة على (ح) مِن كلمة أحصهم فأصبحت (أخصهم)، وبعد ذلك أُغلقت الرسالة وهيِّئت للتوشيح مع بقيَّة الرسائل.

وبذلك تغيَّر أمر الخليفة إلى خَصي خواصِّ عبد الله بن الزبير. وعند وصول الرسالة إلى الحَجَّاج تمَّ العمل الهَمجيِّ، وذلك بخصي السُّجناء وحرمانهم مِن الحياة الطبيعيَّة (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج2.

٣٦٧

مَن حَفر حُفرة لغيره وقع فيها

المنصور الدوانيقي (ثاني خُلفاء بني العباس) طرد خالداً البرمكي مِن منصبه في أعمال الديوان، ونصب أبا أيُّوب مكانه، وأرسل خالداً إلى ولاية فارس حيث ظَلَّ والياً عليها سنتين. إلاّ أنَّ أبا أيُّوب - الذي كان عارفاً بفضل خالد وعلمه - كان دائم القَلق مِن أنْ يُعيده الخليفة إلى منصبه السابق، ويُجرَّد هو مِن مقامه الرفيع. فخامرته فكرة الدسّ لخالد كي يحط من قدره عند الخليفة ويحافظ هو على مركزه بأي شكل من الأشكال.

نَجح أبو أيُّوب في دسائسه الخفيَّة وخُططه اللا إنسانيَّة، وأثار سوء ظنِّ المنصور في خالد، فعزله عن ولاية فارس وطالبه بدفع ثلاثة آلاف ألف درهم، فأطلع خالد المنصور على أنَّ كلَّ ما يملكه لا يتجاوز السبعمئة ألف درهم، غير أنَّ هذا رفض قبول ذلك وأمر باستحصال مبلغ الثلاثة ملايين منه.

فتقدَّم لإعانته صاحب المصر بمبلغ خمسين ألف دينار، والتركي بمبلغ ألف ألف درهم. كما أنَّ (الخيزران) أرسلت له عِقداً مِن الجواهر تصل قيمته إلى ألف ألف ومئتي ألف درهم؛ وذلك رعاية لأخوَّة (الفضل) ابن خالد بالرضاعة مع ابنها (هارون) وإذ عرف منصور بالأمر ووثق مِن صحة قول خالد عن مُقدار ما يملك تخلَّى عن مُطالبته بالمبلغ. فصعب ذلك على أبي أيَّوب استدعى صرَّافاً مسيحيَّاً وأعطاه بعض المال، وطلب إليه أنْ يعترف بأنَّ ذلك المال يخصُّ خالداً، ثمَّ أوصل إلى المنصور أنَّ خالداً يحتفظ ببعض المال عند فلان، فاستدعى المنصور الصرَّاف وسأله عن المال، فادَّعى الصرَّاف بأنَّ لخالد عنده بعض المال، فاستدعى المنصور خالداً وسأله عن ذلك المال، فأقسم خالد أنَّه لم يدَّخر مالاً وأنَّه لم يرَ ذلك الصرَّاف مِن قبل.

٣٦٨

أمر المنصور خالداً بالبقاء في مجلسه، وطلب إحضار الصرَّاف وسأله عمّا إذا كان يعرف خالداً إذا رآه فردَّ هذا بالإيجاب قائلاً: إنَّه يعرفه إذا رآه، عندئذ التفت المنصور إلى خالد وقال لقد أظهر الله براءتك، وقال للنصراني هذا هو خالد، فكيف لم تعرفه؟

فقال الصرَّاف: يا أمير المؤمنين، أعطني الأمان لأذكر لك الحقيقة، فآمنه المنصور، فسرد له الحكاية كما حدثت، فتغيَّرت نظرة المنصور نحو أبي أيُّوب، وساء الظنُّ به ولم يعد يثق بأقواله (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج2.

٣٦٩

عند الامتحان يُكرم المرء أو يُهان

وصل هارون الرشيد إلى مَكَّة، فقضى حَجَّه وشهد مناسكه ومشاعره ثمَّ انصرف قافلاً إلى بغداد، وذلك في آخر شهر ذي الحجة من سنة ثمانين ومئة، فلمَّا همَّ بالانصراف وذكر القفول إلى العراق. رفع إليه أهل مَكَّة كتاباً يسألونه فيه أنْ يولِّي عليهم قاضياً عادلاً، فأدخلهم على نفسه فقال: إنْ شئتم فاختاروا منكم رجلاً صالحاً أولِّيه قضاءكم، وإنْ أحببتم بعثت إليكم مِن العراق رجلاً لا آلوكم فيه إلاَّ خيراً، فخرجوا فاختاروا رجلاً فاختلفوا فيه، فاختارت طائفة منهم رجلاً واختارت أُخرى رجلاً آخر.

فلمَّا اختلفوا ارتفعوا إلى الرشيد يذكرون اختلافهم، فقال لهم هارون: أدخلوا عليَّ هذين الرجلين اللذين اختلفتم فيهما، فإذا برجلين أحدهما شيخ مِن قريش والآخر غُلام حديث مِن الموالي.

فلمَّا نظر إليهما الرشيد قال للشيخ: ادْنِ منِّي فدنا منه، فقال له الرشيد: أيُّها القاضي، إنَّ بيني وبين وزيري هذا خصومة ونزاعاً فاقض بيننا بالحَقِّ.

فقال الشيخ: قصَّا عليَّ قصَّتكما فقصَّا عليه.

فقال الشيخ: تُقيم البيِّنة - يا أمير المؤمنين - على ما ذكرته، أو يحلف وزيرك هذا.

فقال له هارون: إنَّ أخي لا يُدافعني ما أقول ولا يُنكر إلاَّ قليلاً مِمَّا أدَّعي، فلم يزالا يُردِّدان القول بيهما ويتنازعان حتَّى قضى القاضي لأمير المؤمنين على الوزير.

فقال له: قُمْ. فقام عنه.

ثمَّ دعا بالغُلام الحَدَث الذي دعته الطائفة الأُخرى فدخل عليه، فقال له: ادْن منِّي فدنا منه.

٣٧٠

فقال له هارون: إنَّ بيني وبين وزيري تنازعاً وخصومة، فاسمع منَّا قولنا، ثمَّ اقض بيننا بالحَقِّ.

فقال لهما: إنَّ مقعدكما مُختلف ومجلسكما مُتنائي، وأخشى إذا اختلف مجلسكما أنْ يختلف قولكما، فإذا تفاضل مجلس الخصوم اختلف بينهما القول، وكان صاحب المجلس الأرفع ألحن بحُجَّته وأدحض لحُجَّة صاحبه، وكان إصغاء الحاكم إلى صاحب المجلس الأرفع أكثر إليه وأميل، ولكن تقومان مِن مَجلسكما هذا الذي قد استعليتما فيه فتجلسا بين يديَّ، ثمَّ أسمع منكما قولكما وأقضي لمَن رأيت الحقَّ له، ثمَّ لا أُبالي على مَن دار منكم.

فقال الرشيد: صدقت وبررت في قولك.

فقام الرشيد وقام عمرو بن مسعدة حتَّى صارا بين يديه جالسين، فلمَّا جلسا بين يديه ذهب الرشيد ليتكلَّم، فقال له القاضي: لو تركت هذا يتكلَّم؛ فإنَّه أسنُّ منك. فقال الرشيد: إنَّ الحقَّ أسنُّ منه.

فقال القاضي: بلى، ولكنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لحويصة ومحيصة كبر كبر، يُريد: ليتكلَّم عَمُّكما؛ لأنَّه أسنُّ منكما وأكبر، فتكلَّم عمرو بن سعدة ثمَّ تكلَّم الرشيد وتنازعا الخصومة وترافعا الحُجَّة بينهما، حتَّى رأى القاضي أنَّ الحقَّ لعمروٍ، وقضى لهبه على الرشيد فلمَّا قضى عليه قال لهما: عودا إلى مجلسكما.

فعادا، فعُجب الرشيد مِن قضائه وعدله، واحتفاظه وقِلَّة ميله، فالتفت إلى عمرو فقال: إنَّ هذا أحقُّ بقضاء القضاة مِن الذي استقضيناه.

فقال عمرو: بلى والله، ولكنَّ القوم أحقُّ بقاضيهم، إلاَّ أنْ يأذنوا فيه.

فدعا الرشيد برجال مَكَّة، فأدخلهم على نفسه وأجزل لهم العطاء، وأحسن على قاضيهم الثناء، ثمَّ قال لهم: هل لكم أنْ تأذنوا أولِّيه قضاء القُضاة فيسير إلى العراق يقضي بينهم؟

فقالوا: نعم يا أمير المؤمنين، أنت أحقُّ به نؤثرك على أنفسنا.

فأرسل إليه الرشيد فقال: إنِّي قد ولَّيتك قضاء القُضاة، فسر إلى العراق لتقضي

٣٧١

بينهم وتولِّي القُضاة في البُلدان والأمصار مِن تحت يدك، وتوليتهم إليك وعزلهم عليك.

فقال القاضي: إنْ يُجبرني أمير المؤمنين على ذلك فسمعاً وطاعة، وإنْ يُخيِّرني في نفسي اخترت العافية وجوار هذا البيت الحرام.

ـ خذ على نفسك، فإنِّي مُصبِح على ظهر إنْ شاء الله.

فخرج الرشيد ومعه الفتى حتَّى قَدِم العراق فولاَّه القضاء، وجعل إليه قضاء القُضاة، فلم يزل بها قاضياً حتَّى توفِّي، وذلك بعد ثلاثة أعوام مِن توليته، فلمَّا توفِّي اغتمَّ الرشيد وشَقَّ عليه، فجعل الناس يعزوُّنه فيه علماً منهم بما بلغ منه الغَمِّ عليه.

فسأل عن قاضٍ يولِّيه قاضي القُضاة والعراق بعد ذلك، فرُفعت إليه تسمية عشرة رجال مِن خِيار الناس وعلمائهم وأشرافهم.

فلمَّا دُفِعت إليه التسمية أمر بهم فأُدخلوا عليه رجلاً رجلاً، يتفرَّس فيهم مَن يولِّيه القَضاء، فنظر إلى رجل منهم توسَّم فيه الخير والعلم فأمر به فقُدِّم إليه، فلمَّا صار بين يديه قال له ما اسمك؟

قال: معشوق.

قال: فما كنيتك؟

قال: (أبو الهوى).

قال: فما نقشُ خاتمك؟

قال: دام الحُبُّ دام، وعلى الله التمام.

فقال له: قُمْ لا قُمْت.

ثمَّ دعا بالآخر وكان قد تفرَّس فيه ما تفرَّس في صاحبه، فقال له: ما نقشُ خاتمك؟

فقال: ما لي لا أرى الهدهد؟ أم كان مِن الغائبين؟

٣٧٢

فقال: له اخرُج.

فدعا الرشيد بيحيى بن خالد بن برمك، وكان مِمَّن رَفَع إليه أسماءهم، فعنَّفه بهم وقال: رفعت إليَّ أسماء المجانين.

قال له: والله، ما في العراقييِّن أعقل مِن الرجلين اللذين سألت ولا أفضل منهم.

فقال: ويحك! إنِّي اختبرت منهما جُنوناً.

قال يحيى: إنَّهما - والله - كانا كارهين لما دعوتهما إليه، وإنَّما أرادا التخلُّص منك.

قال: ويحك! أعدهما عليَّ، فطُلبا فلم يوجدا (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج2.

٣٧٣

الرياء مُفسد للعمل

وقد حدَّثني أوثق مشايخي أنَّ رجلاً كان لا يقدر على الإخلاص في العمل وترك الرياء، فاحتال وقال: إنَّ في طرف البلد مسجداً مهجوراً لا يدخله أحد، فأمضي إليه ليلاً وأعبد الله فيه.

مضى إليه في ليلة مُظلمة، وكانت ذات رعد وبرق ومطر، فشرع في العبادة، فبينما هو في الصلاة إذ دخل عليه داخل، فأحسَّ به، فدخله السرور برؤية ذلك الداخل له، وهو على حالة العبادة في الليلة الظلماء، فأخذ في الجَدِّ والاجتهاد في عبادته إلى أنْ جاء النهار، فنظر إلى ذلك فإذا هو كلب أسود قد دخل المسجد مِمَّا أصابه مِن المَطر.

تندَّم الرجل على ما دخله حال دخوله وقال:

يا نفس، إنِّي فررت مِن أنْ أُشرك بعبادة ربِّي أحداً مِن الناس، فوقعت في أنْ أشركت معه في العبادة كلباً أسود يا أسفاه! ويا ويلاه على ذلك ! (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج2.

٣٧٤

أنا عبد لله أوَّلاً

كان أبو منصور وزير السلطان طغرل رجلاً عالماً وخائفاً مِن الله، وكان بعد كلِّ فريضة يجلس على السجَّادة، ويشتغل بالتسبيح والدعاء حتَّى طلوع الشمس، ثمَّ كان يذهب بعدها إلى السلطان طغرل.

في أحد الأيَّام اتَّفقت حادثة مُهمَّة للسلطان قبل طلوع الشمس، فطلب الوزير فذهبت الخدم إلى منزله، فشاهده جالساً على السجَّادة مشغولاً بالذِّكر، فأبلغوه أمر السلطان العاجل بالحضور بين يديه، فلم ينتبه لهم.

كرَّروا له الأمر مَرَّتين وثلاث فلم ينتبه، فعزموا على الرجوع وقالوا للسلطان: بأنَّه رجل مغرور ومُتمرِّد لم يستجب لأمر السلطان وقوله.

وبهذا الكلام اشتعلت نيران غضب السلطان. وبعد طلوع الشمس وإتمام الوزير قراءة الأدعية ذهب إلى السلطان.

صرخ السلطان في وجهه وقال: لماذا أتيت متأخِّراً؟

أجاب الوزير: أيُّها السلطان، أنا عبد لله وخادم للسلطان طغرل: يجب عليَّ أوَّلاً أداء وظيفة العبودية لله، ثمَّ خدمتك.

خرج هذا الكلام مِن أعماق قلب الوزير بنيَّة خالصة، فأثَّر بشكل عميق بقلب السلطان وضميره ودمعت عيناه. وقام السلطان بمدح الوزير وقال: عبادة الله مُقدَّمة وببركة هذا العمل تنتظم أعمالنا وتُحرَس المَملكة (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج2.

٣٧٥

وضع جرَّة ماءٍ مسكورة وبرقع

كان الأصمعي مِن شُعراء العصر العباسي المشهورين، وكان أيضاً مُقتدراً وذو استعداد في قصصه المُضحكة والمزاح. وكان يُلقي القصائد في مجالس رجال الدولة، وأحياناً يحكي القصص الفكاهيَّة فيُضحك الحاضرين.

في أحد الأيَّام قال جعفر البرمكي رئيس وزراء هارون الرشيد لأحد خُدَّامه: اجلب لي ألف دينار، أُريد أنْ أذهب إلى منزل الأصمعي، فإذا حكى لي قصَّة وأضحكني سأضع كيس الذهب في حاشية قميصه.

دخل جعفر البرمكي ومعه أنس بن شيخ بيت الأصمعي، حيث حكى الأصمعي قَصصاً مُختلفة وكانت، كلُّ قصَّة تحكي جانباً مِن الحياة.

وبعد الخروج مِن البيت قال أنس لجعفر: لقد سعى الأصمعي لإضحاكك ولكنْ لم تضحك فلم يكن هدفك ذلك (إعطاء كيس الذهب للأصمعي)، قال جعفر: أُفٍّ لك! أرسلت له خمسمائة درهم قبل وصولنا إلى بيته لتهيئة الطعام، ولكنَّك شاهدته كيف وضع جرَّة ماء مسكورة وبرقع، وفرش سجَّادة قذرة.

حيث لاحظت وجود النعمة والإحسان والمدح على لسانه، ولكن لم أُلاحِظ ظهور الإحسان شكراً للنعمة، فلماذا نُعطيه المال؟

على الرغم مِن أنَّ الأصمعي كان مُوسراً، إلاَّ أنَّه أظهر نفسه وكأنَّه مِن أفقر الفُقراء. فهل كان هدفه مِن ذلك هو أنْ يَظهر بمظهر الزاهد الراغب عن الدنيا ليُلفت انتباه الآخرين إلى صلاحه وتقواه؟ أم أنَّ أنَّه كان يُريد أنْ يبدو في نظر القادمين فقيراً مسكيناً؛ لكي ينال شيئاً مِن عطاءاتهم السخيَّة، أمْ كان هناك ثَمَّة هدف آخر حمله على أنْ يفعل ما فعل؟

على كلِّ حال كان انطباع البرمكي عن الوضع الداخلي للأصمعي ومعيشته

٣٧٦

انطباع مَن يرى شخصاً مُنافقاً ذا وجهين، فأساء به الظنَّ وبمُشاهدة ذلك المشهد المُصطنع انقبضت نفسه، وتألَّم أشدَّ الألم، بحيث إنَّ قصصه الفَكهة لم تستطع أنْ تنتزع منه ابتسامة، وغادر المنزل في النهاية بمرارة وتأثُّر (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج2.

٣٧٧

الرياء هو الشِّرك كلُّه

قال ابن أوس:

دخلت على رسول الله فرأيت في وجهه ما ساءني، فقلت: ما الذي أرى بك؟!

فقال: (أخاف على أُمَّتي الشِّرك).

فقلت: أيُشركون مِن بعدك.

فقال: (أما إنَّهم لا يعبدون شمساً ولا قمراً ولا وثناً ولا حجراً، ولكنَّهم يُراؤون بأعمالهم والرِّياء هو الشِّرك كلُّه).

فمَن يرجو لقاء ربِّه فليعمل عملاً صالحاً، ولا يُشرك بعبادة ربِّه أحداً) (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج2.

٣٧٨

النفاق أشدُّ مِن الكُفر

في الأيَّام التي كان فيها مسلم بن عقيل (عليه السلام) في الكوفة مبعوثاً مِن قِبَل الإمام الحسين لأخذ البيعة له من الناس، وصل الكوفة عبيد الله بن زياد والياً عليها مِن قِبَل يزيد بن مُعاوية، وهدَّد الناس بالقتل إنْ هُمْ خالفوا أوامره، وأخذ العُرفاء أخذاً شديداً مُعِدَّاً نفسه لقمع حركة التشيُّع والقضاء عليها.

ولمَّا سمع مسلم بمجيء عبيد الله إلى الكوفة ومقالته التي قالها، وما أخذ به العُرفاء والناس قرَّر أنْ يترك دار المُختار - التي كان قد اتَّخذها مَقرَّاً لنشاطه - وينتقل إلى دار هاني بن عروة، فدخلها فأخذت الشيعة تختلف إليه في دار هاني على تستُّر واستخفاء مِن عبيد الله بن زياد وتواصوا بالكتمان.

دعا ابن زياد مولى له يُقال له: (معقل) وقال له: خُذْ ثلاثة آلاف درهم واطلب مسلم (عليه السلام) والتمس أصحابه، فإذا ظفرت بواحد منهم أو جماعة فأعطهم هذه الثلاثة آلاف درهم، وقُلْ لهم: استعينوا بها على حرب عدوِّكم، وأعلمهم أنَّك منهم، فإنَّك لو أعطيتهم إيَّاها لاطمأنُّوا إليك ووثقوا بك، ولم يكتموك شيئاً مِن أخبارهم، ثمَّ أغدُ عليهم وراوح، حتَّى تعرف مُستقرَّ مسلم (عليه السلام) وتدخل عليه.

ففعل ذلك وجاء حتَّى جلس على مسلم (عليه السلام) ابن عوسجة الأسدي في المسجد الأعظم وهو يُصلّي، فسمع قوماً يقولون هذا يُبايع للحسين (عليه السلام).

فجاء وجلس إلى جنبه حتَّى فرغ مِن صلاته، ثمَّ قال: يا عبد الله، إنِّي امرؤٌ مِن أهل الشام أنعم الله عليَّ بُحبِّ أهل البيت وحُبِّ مَن أحبَّهم وتباكى له، وقال:

معي ثلاثة آلاف درهم أردت بها لقاء رجل منهم بلغني أنَّه قَدِم الكوفة، رجل يُبايع لابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكنت أُريد لقاءه فلم أجد أحداً يدلُّني عليه ولا أعرف مكانه. وإنِّي لجالس في المسجد الآن إذ سمعت نفراً مِن المؤمنين يقولون

٣٧٩

: هذا رجل له علم بأهل هذا البيت، وإنِّي أتيتك لتقبض منِّي هذا المال وتُدخلني على صاحبك، فإنِّي أخٌ مِن إخوانك وثقة عليك، وإنْ شئت أخذت بيعتي له قبل لقائه.

فقال له ابن عوسجة:

أحمد الله على لقائك إيَّاي، فقد سرَّني ذلك لتنال الذي تُحبُّ ولينصر الله بك أهل بيت نبيِّه (عليه وعليهم السلام) ولقد ساءني معرفة الناس إيَّاي بهذا الأمر قبل أنْ يتمَّ مَخافة هذا (يعني ابن زياد).

وأخذ عليه المواثيق المُغلَّظة ليُناصحنَّ وليكتمنَّ، فأعطاه مِن ذلك ما رضي به، ثمَّ قال له: اختلفْ إليَّ أيَّاماً في منزلي، فإنِّي طالب لك الإذن على صاحبك.

وأخذ يختلف مع الناس فطلب له الإذن فأذن له، فأخذ مسلم (عليه السلام) بيعته وأمر أبا ثمامة الصائدي يقبض المال منه، وهو الذي كان يقبض أموالهم وما يُعين به بعضهم بعضاً، ويشري لهم السلاح وكان بصيراً وفارساً مِن فُرسان العرب ووجوه الشيعة.

وأقبل ذلك الرجل يختلف إليهم، فهو أوَّل داخل وآخر خارج، حتَّى فَهم ما احتاج إليه ابن زياد مِن أمرهم فكان يُخبر به أوَّلاً بأول.

إنَّ نفاق هذا المُنافق قد أدَّى إلى مفاسد كبيرة ما كان بالإمكان جبرها، كمَقتل مسلم (عليه السلام) وهاني بن عروة، والتمهيد لواقعة كربلاء الدامية التي قُتِل فيها الحسين (عليه السلام) وأصحابه العظام، وهُمْ مِن أكرم أبناء الإسلام، وبذلك مَكَّن لتوطيد سُلطان يزيد وأعماله الفاسدة (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج2.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421