القصص التربوية

القصص التربوية13%

القصص التربوية مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 421

القصص التربوية
  • البداية
  • السابق
  • 421 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 353131 / تحميل: 10273
الحجم الحجم الحجم
القصص التربوية

القصص التربوية

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

وقد نقل جمع آخر من علماء السنة ، وكبائر علماء الشيعة هذه الحادثة في كتب عديدة ، تارة بدون ذكر الآية أعلاه ، وأخرى مع ذكرها(١) .

إنّ القرائن الموجودة في الآيات توحي بأن هذا الحديث المعروف من قبيل تطبيق المصداق ، لا أنه سبب النّزول ، وبتعبير آخر : فإنّ سبب نزول الآية هو قصة عيسى وقول المشركين وأصنامهم ، لكن لما وقع لعليعليه‌السلام حادث شبيه لذاك بعد ذلك القول التاريخي للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تلا هذه الآية هنا ليبين أنّ هذا الحادث كان مصداقا لذاك من جهات مختلفة.

ولئلا يتوهموا أنّ الله سبحانه محتاج لعبوديتهم ، وأنّه يصر عليها ، فإنّه تعالى يقول في الآية التالية :( وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ ) ملائكة تخضع لأوامر الله ، ولا تعرف عملا إلّا طاعته وعبادته.

واختار جمع من المفسّرين تفسيرا آخر للآية ، يصبح معنى الآية على أساسه : ولو نشاء لجعلنا أبناءكم ملائكة يخلفونكم في الأرض. بناء على هذا فلا تعجبوا من أن يولد المسيح من دون أب ، فإنّ اللهعزوجل قادر على أن يخلق ملكا من الإنسان ، وهو نوع يختلف عنه(٢) .

ولما كان تولد الملك من الإنسان لا يبدوا مناسبا ، فقد فسّره بعض كبار المفسّرين بولادة الأبناء الذين يتمتعون بصفات الملائكة ، وقالوا : إنّ المراد : لا تعجبوا من أن تكون لعبد كالمسيح القدرة على إحياء الموتى ، وإبراء المرضى بإذن الله ، وهو في الوقت نفسه عبد مخلص مطيع لأمر الله ، فإنّ الله قادر على أن يخلق

__________________

(١) لمزيد الاطلاع راجعوا : كتاب إحقاق الحق ، المجلد ٣ ، صفحة ٣٩٨ وما بعدها ، تفسير نور الثقلين ، المجلد ٤ ، صفحة ٦٠٩. وما بعدها ، وتفسير مجمع البيان ذيل الآيات مورد البحث.

(٢) اختار التّفسير الأوّل ، الطبرسي في مجمع البيان ، والشيخ الطوسي في التبيان ، وأبو الفتوح الرازي وآخرون. أما التّفسير الثّاني فقد نقله القرطبي والآلوسي في روح المعاني ، والزمخشري في الكشاف ، والمراغي ، على أنه المعنى الوحيد للآية ، أو أنّه أحد معنيين لها.

٨١

من أبنائكم من تكون فيه كل صفات الملائكة وطبائعهم(١) .

إلّا أنّ التّفسير الأوّل ينسجم مع ظاهر الآية أكثر من الجميع ، وهذه التفاسير بعيدة(٢) .

والآية التالية إشارة إلى خصيصة أخرى من خصائص المسيحعليه‌السلام فتقول : إنّ عيسى سبب العلم بالساعة( وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ ) إمّا أن ولادته من غير أب دليل على قدرة الله اللامتناهية ، فتحل على ضوئها مسألة الحياة بعد الموت ، أو من جهة نزول المسيحعليه‌السلام من السماء في آخر الزمان طبقا لروايات عديدة ، ونزوله هذا دليل على اقتراب قيام الساعة.

يقول جابر بن عبد الله : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «ينزل عيسى بن مريم ، فيقول أميرهم : تعالى صلّ بنا ، فيقول : لا ، إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة من الله لهذه الأمّة»(٣) .

ونقرأ في حديث آخر عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم وإمامكم منكم»(٤) .

وعلى أية حال ، فإنّ إطلاق (العلم) على المسيح نوع من التأكيد والمبالغة ، وهو إشارة إلى أن نزوله من علامات القيامة حتما.

واحتمل أيضا أن يعود الضمير في (أنه) على القرآن ، وعلى هذا يكون معنى الآية : إنّ نزول القرآن الذي هو آخر الكتب السماوية ، دليل على اقتراب الساعة ، ويخبر عن قيام القيامة.

غير أنّ الآيات السابقة واللاحقة حول عيسى تقوي التّفسير الأوّل.

ثمّ تقول الآية بعد ذلك : إنّ قيام الساعة حتم ، ووقوعها قريب ،( فَلا تَمْتَرُنَّ بِها )

__________________

(١) الميزان ، ذيل الآية مورد البحث.

(٢) طبقا للتفسير الأوّل ، فإنّ (من) للبدلية ، وبناء على التّفسيرين الثّاني والثّالث فإنّ (من) للإنشاء ، والابتداء.

(٣) نقل هذا الحديث صاحب مجمع البيان عن صحيح مسلم في ذيل الآيات مورد البحث.

(٤) مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث ، وتفسير روح المعاني ، المجلد ٥ ، صفحة ٨٨.

٨٢

لا من حيث الإعتقاد بها ولا من حيث الغفلة عنها.

( وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ ) وأي صراط أكثر استقامة من الذي يخبركم بالمستقبل الخطير الذي ينتظركم ، ويحذركم منه ، ويدلكم على طريق النجاة من أخطار يوم البعث؟!

إلّا أن الشيطان يريد أن يبقيكم في عالم الغفلة والارتباط بها ، فاحذروا :( وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) .

لقد أظهر عداءه لكم منذ اليوم الأوّل ، مرّة عند وسوسته لأبيكم وأمكم ـ آدم وحواء ـ وإخراجهما من الجنّة ، وأخرى عند ما أقسم على إضلال بني آدم وإغوائهم ، إلّا المخلصين منهم ، فكيف تخضعون أمام هكذا عدو لدود أقسم على أذاكم ودفعكم إلى الهاوية السحيقة؟ وكيف تسمحون له أن يتسلط على قلوبكم وأرواحكم ، وأن يمنعكم عن طريق الحق بوساوسه المستمرة؟!

* * *

٨٣

الآيات

( وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٦٥) )

التّفسير

الذين غالوا في المسيح :

مرت الإشارة إلى جانب من خصائص حياة المسيحعليه‌السلام في الآيات السابقة ، وتكمل هذه الآيات ذلك البحث ، وتؤكّد بالخصوص على دعوة المسيح إلى التوحيد الخالص ، ونفي كل شكل من أشكال الشرك.

تقول الآية أوّلا :( وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ) وبهذا فقد كانت «البينات» ـ أي آيات الله والمعجزات ـ رأسمال عيسى ، إذ كانت تبين حقانيته من جانب ، وتبين من جانب آخر الحقائق

٨٤

المرتبطة بالمبدأ والمعاد واحتياجات حياة البشر.

ويصف عيسىعليه‌السلام محتوى دعوته بـ «الحكمة» في عبارته ، ونحن نعلم أن أساس الحكمة هو المنع من شيء بقصد إصلاحه ، ثمّ أطلقت على كل العقائد الحقّة ، وبرامج الحياة الصحيحة التي تصون الإنسان من أنواع الانحراف في العقيدة والعمل ، وتتناول تهذيب نفسه وأخلاقه ، وعلى هذا فإنّ للحكمة هنا معنى واسعا يشمل «الحكمة العلمية» و «الحكمة العملية».

ولهذه الحكمة ـ إضافة إلى ما مرّ ـ هدف آخر ، وهو رفع الاختلافات التي تخلّ بنظام المجتمع ، وتجعل الناس حيارى مضطربين ، ولهذا السبب نرى المسيحعليه‌السلام يؤكّد على هذه المسألة.

وهنا يطرح سؤال التفت إليه أغلب المفسّرين ، وهو : لماذا يقول :( قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ) ولم لا يبيّن الجميع؟

وقد ذكرت أجوبة عديدة لهذا السؤال ، وأنسبها هو :

إنّ الاختلافات التي بين الناس نوعان : منها ما يكون مؤثرا في مصيرهم من الناحية العقائدية والعملية ، ومنها ما يكون في الأمور غير المصيرية ، كالنظريات المختلفة حول نشأة المنظومة الشمسية والسماوات ، وكيفية الأفلاك ، والنجوم ، وماهية روح الإنسان ، وحقيقة الحياة ، وأمثال ذلك.

ومن الواضح أنّ الأنبياء مكلّفون أن ينهوا الاختلافات من النوع الأوّل ويقتلعوها بواسطة تبيان الحقائق ، ولكنّهم غير مكلّفين برفع أي اختلاف كان حتى وإن لم يكن له تأثير في مصير الإنسان مطلقا.

ويحتمل أيضا أن تبيان بعض الاختلافات نتيجة وغاية لدعوة الأنبياء ، أي إنّهم سيوفقون أخيرا في حل بعض هذه الاختلافات ، أمّا حلّ جميع الاختلافات في الدنيا فإنّه أمر غير ممكن ، ولذلك تبيّن آيات متعددة من القرآن المجيد أن أحد خصائص القيامة هو ارتفاع كل الاختلافات وانتهاؤها ، فنقرأ في الآية (٩٢) من

٨٥

سورة النحل :( وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) .

وقد جاء هذا المعنى في الآيات ، ٥٥ ـ آل عمران ، ٤٨ ـ المائدة ، ١٦٤ ـ الأنعام ، ٦٩ ـ الحج ، وغيرها(١) .

وتضيف الآية في النهاية :( فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ) .

بعد ذلك ، ومن أجل أن ترفع كل نوع من الإبهام في مسألة عبوديته ، تقول الآية :

( إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ ) .

الملفت للانتباه تكرار كلمة «الرب» مرّتين في هذه الآية ، مرّة في حقّه ، وأخرى في حق الناس ، ليوضح للناس أنّي وإيّاكم متساوون ، وربّي وربّكم واحد. وأنا مثلكم محتاج في كل وجودي إلى الخالق المدبر ، فهو مالكي ودليلي.

وللتأكيد أكثر يضيف :( فَاعْبُدُوهُ ) إذ لا يستحق العبادة غيره ، ولا تليق إلّا به ، فهو الرب والكل مربوبون ، وهو المالك والكل مملوكون.

ثمّ يؤكّد كلامه بجملة أخرى حتى لا تبقى لمتذرع ذريعة ، فيقول :( هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ ) (٢) .

نعم ، إنّ الصراط المستقيم هو طريق العبودية لله سبحانه ذلك الطريق الذي لا انحراف فيه ولا اعوجاج ، كما جاء في الآية (٦١) من سورة يس :( وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ ) .

لكن العجب أن يختلف أقوام من بعده مع كل هذه التأكيدات :( فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ ) (٣) :

__________________

(١) قال بعض آخر من المفسّرين : إنّ (بعض) هنا بمعنى الكل ، أو أن التعبير بـ( بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ) إضافة موصوف إلى الصفة ، أو أن هذا التعبير إشارة إلى أنّي أبيّن لكم أمور الدين وحسب ، لا اختلافاتكم في أمر الدنيا. إلّا أن أيّا من هذه التفاسير لا يستحق الاهتمام.

(٢) ورد نظير هذه الآية بتفاوت يسير في سورة مريم ـ ٣٦ ، وسورة الأنعام ـ ٥١ ، وتكرار هذا المعنى تأكيد على أن عيسىعليه‌السلام قد أتمّ الحجة على جميع هؤلاء في مورد عبوديته وكونه عبد الله سبحانه.

(٣) الضمير في (بينهم) يعود إلى الذين خاطبهم المسيحعليه‌السلام في الآية السابقة ، ودعاهم إلى عبودية الله سبحانه.

٨٦

فالبعض ذهب إلى أنّه الرب الذي نزل إلى الأرض!

وبعض آخر اعتبره ابن ربّه.

وآخرون بأنّه أحد الأقانيم الثلاثة (الذوات المقدسة الثلاثة : الأب ، والابن ، وروح القدس).

وهناك فئة قليلة فقط هم الذين اعتبروه عبد الله ورسوله ، غير أن عقيدة الأغلبية هي التي هيمنت ، وعمت مسألة التثليث والآلهة الثلاثة عالم المسيحية.

وقد نقل في هذا الباب حديث تاريخي جميل أوردناه في ذيل الآية (٣٦) من سورة مريم.

ويحتمل أيضا في تفسير الآية ، أنّ هذا الاختلافات لم يكن بين المسيحيين وحسب ، بل حدث بين اليهود والنصارى في المسيح ، فغالى أتباعه فيه ، وأو صلوه إلى مقام الألوهية ، في حين اتهمه وأمّه الطاهرة أعداؤه بأشنع الاتهامات ، وهكذا سلوك الجاهلين وعرفهم ، بعضهم صوب الإفراط ، وآخرون نحو التفريط ، أو هم ـ على حد تعبير أمير المؤمنين عليعليه‌السلام ـ بين محب غال وبين مبغض قال ، حيث يقولعليه‌السلام : «هلك فيّ رجلان : محب غال ، ومبغض قال»(١) !

وكم هي متشابهة أحوال هذين العظيمين!

وهددهم الله سبحانه في نهاية الآية بعذاب يوم القيامة الأليم ، فقال :( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ ) (٢) .

نعم ، إنّ يوم القيامة يوم أليم ، فطول حسابه أليم ، وعقوباته أليمة ، وحسرته وغمه أليمان ، وخزيه وفضيحته أليمان أيضا.

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة. الكلمات القصار : ١١٧.

(٢) ينبغي الانتباه إلى أن (أليم) صفة لليوم لا للعذاب.

٨٧

الآيات

( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٦٦) الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (٦٧) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩) )

التّفسير

ماذا تنتظرون غير عذاب الآخرة؟

كان الكلام في الآيات السابقة يدور حول عبدة الأوثان العنودين ، وكذلك حول المنحرفين والمشركين في أمّة عيسىعليه‌السلام ، والآيات مورد البحث تجسد عاقبة أمرهم ، يقول تعالى :( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) ؟

لقد طرح هذا السؤال بصورة الاستفهام الإنكاري ، وهو في الحقيقة بيان لواقع حال أمثال ، هؤلاء الأفراد ، كما نقول في مقام ذم شخص لا يصغي إلى نصيحة ناصح ، ويهيء عوامل فنائه بيده : إنّه بانتظار حتفه فقط!

٨٨

والمراد من «الساعة» في هذه الآية ـ ككثير من آيات القرآن الأخرى ـ هو يوم القيامة ، لأنّ الحوادث تقع سريعة حتى كأنّها تحدث في ساعة واحدة.

وجاءت هذه الكلمة ـ أيضا ـ بمعنى لحفظة انتهاء الدنيا ، ولما لم يكن بين هذين المعنيين كبير فرق ، فمن الممكن أن يكون هذا التعبير شاملا لكلا المعنيين.

وعلى أية حال ، فقد وصف قيام الساعة ، الذي يبدأ بانتهاء الدنيا المفاجئ ، بوصفين في الآية أعلاه : الأوّل : كونه بغتة ، والآخر : عدم علم عامة الناس بتأريخ وقوعها وحدوثها.

من الممكن أن يحدث حدث فجأة ، ولكنّا نتوقع حدوثه من قبل ، ونكون على استعداد لمواجهة المشاكل التي تنجم عنه ، إلّا أن سوء الحظ والتعاسة في أن تقع فاجعة قاسية وصعبة جدّا ، بصورة مفاجئة ونحن غافلون عنها تماما.

هكذا بالضبط حال المجرمين ، فهم يؤخذون وهم في غفلة تامة ، بحيث تصور الروايات الواردة عن نبيّ الإسلام الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك فتقول : «تقوم الساعة والرجلان يحلبان النعجة ، والرجلان يطويان الثوب ، ثمّ قرأصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) (١) .

وأي شيء آلم من أن يكون الإنسان غافلا أمام مثل هذه الحادثة التي ليس فيها أي طريق أو منفذ للرجوع والخلاص ، ويغرق في أمواجها من دون أن يكون معدّا لمستلزمات النجاة؟

ثمّ رفعت الآية الغطاء عن حالة الأخلاء الذين يودّ بعضهم بعضا ، ويسيرون معا في طريق المعصية والفساد ، والاغترار بزخارف الدنيا ، فتقول :( الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ) (٢) .

__________________

(١) تفسير روح البيان ، المجلد ٢٥ ، صفحة ٨٩.

(٢) «الأخلاء» جمع (خليل) ـ من مادة خلة ـ بمعنى المودّة والمحبّة ، وأصلها من الخلل ـ على وزن شرف ـ أي الفاصلة بين جسمين ، ولما كانت المحبة والصداقة كأنّها تنفذ في أعماق القلب وثناياه ، فقد استعملت فيها هذه الكلمة.

٨٩

إن هذه الآية التي تصف مشهدا من مشاهد القيامة ، تبيّن بوضوح أنّ المراد من الساعة في الآية السابقة هو يوم القيامة أيضا ، اليوم الذي تنفصم فيه عرى العلاقات الأخوية والصداقة والرفقة ، إلّا العلاقات التي قامت لله وفي الله وباسمه.

إن تبدل مثل هذه المودة إلى عداوة في ذلك اليوم أمر طبيعي ، لأنّ كلا منهم يرى صاحبه أساس تعاسته وسوء عاقبته ، فأنت الذي دللتني على هذا الطريق ودعوتني إليه ، وأنت الذي زينت الدنيا في نظري ورغبتني فيها وأطمعتني.

نعم ، أنت الذي أغرقتني في بحر الغفلة والغرور ، وجعلتني جاهلا بمصيري ، غافلا عنه.

وهكذا يقول كل واحد منهم لصاحبه مثل هذه المطالب ، إلّا المتقين الذين تبقى روابط أخوتهم ، وأواصر مودّتهم خالدة ، لأنّها تدور حول محور القيم والمعايير الخالدة ، وتتّضح نتائجها المثمرة في عرصة القيامة أكثر ، فتمنحها قوّة إلى قوّتها.

من الطبيعي أنّ الأخلاء يعين بعضهم بعضا في أمور الحياة ، فإن كانت خلتهم على أساس الشرّ والفساد ، فهم شركاء في الذنب والجريمة ، وإن كانت على أساس الخير والصلاح فهم شركاء في الثواب والعطية ، وعلى هذا فلا مجال للعجب من أن يتبدل الخليل من القسم الأوّل الى عدوّ ، ومن القسم الثّاني إلى خليل يشتد حبّه ومودّته أكثر من ذي قبل.

يقول الإمام الصادقعليه‌السلام : «ألا كل خلّة كانت في الدنيا في غير اللهعزوجل فإنّها تصير عداوة يوم القيامة»(١) .

والآية التالية ـ في الحقيقة ـ تبيان لأوصاف المتقين وأحوالهم ، وبيان لعاقبتهم التي تبعث على الفخر والاعتزاز.

في ذلك اليوم العصيب يقول لهم الله تعالى :( يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ) .

__________________

(١) تفسير علي بن إبراهيم ، طبق نقل نور الثقلين ، ج ٤ : صفحة ٦١٢.

٩٠

كم هو جميل هذا النداء؟! نداء مباشر من الله سبحانه من دون واسطة توصله

نداء يبدأ بأحسن الصفات : يا عباد الله! نداء يزيل قلق الإنسان في يوم ليس فيه إلّا القلق والاضطراب نداء يطهر القلب من غم الماضي وحزنه ، وينقيه

نعم ، لهذا النداء هذه المزايا الأربعة المذكورة.

وتبيّن آخر آية ـ من هذه الآيات ـ هؤلاء المتقين والعباد المكرمين بصورة أكثر وضوحا ، بذكر جملتين أخريين ، فتقول :( الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ ) .

أجل ، هؤلاء هم الذين يخاطبون بمثل هذا الخطاب العظيم ، ويسبحون في تلك النعم.

إن هاتين الجملتين تعريف بليغ باعتقادات هؤلاء وأعمالهم ، فهما تبينان إيمانهم الذي هو أساس عقيدتهم الثابت ، وتبينان إسلامهم في تسليمهم لأمر الله سبحانه وتنفيذ أوامره.

* * *

٩١

الآيات

( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (٧١) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (٧٣) )

التّفسير

فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين :

تبيّن هذه الآيات جزاء عباد الله المخلصين ، والمؤمنين الصالحين الذين مرّ وصفهم في الآيات السابقة ، وتبشرهم بالجنّة الخالدة مع ذكر سبع نعم من نعمها النفيسة الغالية.

تقول أوّلا :( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ ) وبذلك فإنّ مضيفهم الحقيقي هو الله تعالى الذي يدعو ضيوفه ويقول لهم : أدخلوا الجنّة.

ثمّ أشارت إلى أول نعمة من تلك النعم ، فقالت :( أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ ) ومن الواضح أنّ كون المؤمنين الرحماء إلى جانب زوجاتهم المؤمنات يمنحهما معا

٩٢

اللذة والسرور ، فإذا كانا شريكين في همّ الدنيا ، فإنّهما سيكونان شريكين في سرور الآخرة ونشوتها.

وقد فسّر بعضهم «الأزواج» هنا بالمتساوين في الدرجة والأصدقاء والأقارب ، فلو صحّ فوجودهم نعمة عظيمة ، إلّا أنّ ظاهر الآية هو المعنى الأوّل.

ثمّ تضيف :( تُحْبَرُونَ ) .

«تحبرون» من مادة حبر ـ وزن فكر ـ أي الأثر المطلوب ، وتطلق أحيانا على الزينة وآثار الفرح التي تظهر على الوجه ، وإذا قيل للعلماء أحبار ، فلآثارهم التي تبقى بين المجتمعات البشرية ، كما يقول أمير المؤمنين عليعليه‌السلام : «العلماء باقون ما بقي الدهر ، أعيانهم مفقودة ، وأمثالهم في القلوب موجودة»(١) .

وتقول في بيان النعمة الثالثة :( يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ ) فهم يضافون ويخدمون بأفضل الأواني ، وألذّ الأطعمة ، في منتهى الهدوء والاطمئنان والصفاء.

«الصحاف» جمع صحفة ، وهي في الأصل من مادة صحف ، أي التوسع ، وتعني هنا الأواني الكبيرة الواسعة والأكواب جمع كوب ، وهي أقداح الماء التي لا عروة لها.

ومع أنّ الكلام في الآية عن الصحاف الذهبية ، دون طعامهم وشرابهم ، إلّا أن من البديهي أنّ الذين يخدمونهم لا يطوفون عليهم بصحاف خالية مطلقا.

وتشير في الرابعة والخامسة إلى نعمتين أخريين جمعت فيهما كلّ نعم العالم المادية والمعنوية ، فتقول :( وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ ) ، وعلى قول المرحوم الطبرسي في مجمع البيان : لو أنّ جميع الخلائق قد اجتمعت لوصف أنواع نعم الجنّة ، فسوف لا يقدرون أن يضيفوا شيئا على ما جاء في هذه الجملة أبدا.

وأي تعبير أجمل من هذا التعبير وأجمع منه؟ فهو تعبير بسعة عالم الوجود ،

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ١٤٧.

٩٣

وبسعبة ما يخطر في أذهاننا اليوم وما لا يخطر ، تعبير ليس فوقه تعبير.

والطريف أن مسألة شهية النفس قد بيّنت منفصلة عن لذة العين ، وهذا الفصل عميق المعنى : فهل هو من قبيل ذكر الخاص بعد العام ، من جهة أنّ للذّة النظر أهمية خاصّة تفوق اللذات الأخرى؟ أم هو من جهة أن جملة :( ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ ) تبيّن لذات الذوق ، والشم والسمع واللمس ، أمّا جملة :( تَلَذُّ الْأَعْيُنُ ) فهي تبيان للذة العين والنظر.

ويعتقد البعض أنّ جملة :( ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ ) إشارة إلى كلّ اللذات الجسمية ، في حين أن جملة :( تَلَذُّ الْأَعْيُنُ ) مبينة للذات الروحية ، وأي لذة في الجنة أسمى من أن ينظر الإنسان بعين القلب إلى جمال الله الذي لا يشبهه جمال ، فإنّ لحظة من تلك اللحظات تفوق كل نعم الجنة المادية.

ومن البديهي أنّ شوق الحبيب كلما زاد ، كانت لذة الإلقاء أعظم.

سؤال :

وهنا يطرح سؤال ، وهو : هل أنّ سعة عمومية مفهوم هذه الآية ، دليل على أنّهم يطلبون من الله هناك أن يمنحهم أمورا كانت حراما في الدنيا؟

والجواب :

إنّ طرح هذا السؤال ناتج عن عدم الالتفات إلى نكتة ، وهي أنّ المحرمات والقبائح كالغذاء المضر لروح الإنسان ، ومن المسلم أنّ الروح السالمة الصحيحة لا تشتهي مثل هذه الغذاء ، وتلك التي تميل أحيانا إلى السموم والأغذية المضرة هي الأرواح المريضة.

إنّنا نرى ، بعض المرضى يميلون حتى في حالة المرض إلى تناول التراب أو أشياء أخرى من هذا القبيل ، إلّا أنّهم بمجرّد أن يزول عنهم المرض تزول عنهم

٩٤

هذه الشهية الكاذبة.

نعم ، إنّ أصحاب الجنّة سوف لا يميلون أبدا إلى مثل هذه الأعمال ، لأن ميل الروح وانجذابها إليها من خصائص أرواح أصحاب الجحيم المريضة.

إنّ هذا السؤال يشبه ما ورد في الحديث من أن أعرابيا أتى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال : هل في الجنّة إبل؟ فإنّي أحبّها حبّا جمّا ، فالتفت إليه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي كان يعلم أن في الجنّة نعما سينسى معها الأعرابي الإبل ، وأجابه بعبارة قصيرة فقال : «يا أعرابي ، إن أدخلك الله الجنّة أصبت فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك»(١) .

وبتعبير آخر : فهناك العالم الذي ينسجم فيه الإنسان مع الحقائق تماما.

وعلى كل حال ، لما كانت قيمة النعمة في كونها خالدة ، فقد طمأنت الآية أصحاب النعيم من هذه الجهة عند ما ذكرت الصفة السادسة فقالت :( وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ ) لئلّا يكدر التفكير في زوال هذه النعمة صفو عيشهم ولذّتهم ، فيقلقوا من المستقبل وما يخبئه.

وهنا ، من أجل أن يتّضح أن كل نعم الجنّة هذه تعطى جزاء لا اعتباطا وعبثا ، تضيف الآية :( وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

والطريف في الأمر أنّ الآية تطرح مجازاة الأعمال وكون الجنّة في مقابلها من جهة ، ومن جهة أخرى تجعلها إرثا ، وهو يستعمل عادة في الموارد التي تصل فيها النعمة إلى الإنسان من دون أن يبذل جهدا أو سعيا في تحصيلها ، وهذه إشارة إلى أنّ أعمالكم هي أساس خلاصكم ونجاتكم ، إلّا أن ما تحصلون عليه إذا ما قورن بأعمالكم فهو كالشيء المجاني المعطى من قبل الله تعالى ، وكالهبة حصلتم عليها بفضله.

ويعتبر البعض هذا التعبير إشارة إلى ما قلناه سابقا من أن لكل إنسان منزلا في الجنّة ومحلا في الجحيم ، فيرث أصحاب الجنّة منازل أصحاب النّار ، ويرث

__________________

(١) روح البيان ، المجلد ٨ ، صفحة ٣٩١.

٩٥

أصحاب النّار أمكنة أصحاب الجنّة!

إلّا أنّ التّفسير الأوّل يبدو هو الأنسب.

والكلام في النعمة السابعة والأخيرة في ثمار الجنّة التي هي من أفضل نعم الله ، فتقول الآية :( لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ ) .

لقد كانت الصحاف والأكواب بيانا لأنواع الأطعمة والأشربة في الواقع ، أمّا الفواكه فلها حسابها الخاص ، وقد أشير إليه في آخر آية من هذه الآيات.

والجميل أنّها تبيّن بتعبير (منها) حقيقة أنّ فاكهة الجنّة كثيرة جدّا بحيث لا تتناولون إلّا جزءا منها ، وعلى هذا فإنّها لا تفنى ، وأشجارها مثمرة دائما.

وجاء في الحديث : «لا ينزع رجل في الجنّة ثمرة من ثمرها إلّا نبت مثلها مكانها»(١) .

كانت هذه بعض نعم الجنّة التي تبعث الحياة في النفوس ، وهي بانتظار ذوي الإيمان القوي البيّن ، والأعمال الصالحة النبيلة.

* * *

__________________

(١) تفسير روح البيان ، الجزء ٨ ، صفحة ١٩٢.

٩٦

الآيات

( إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (٧٧) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٨) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠) )

التّفسير

نتمنى أن نموت لنستريح من العذاب :

لقد فصّلت هذه الآيات القول في مصير المجرمين والكافرين في القيامة ، ليتّضح الفرق بينه وبين مصير المؤمنين ـ المطيعين لأمر الله ـ المشرف السعيد من خلال المقارنة بين المصيرين.

تقول الآية الأولى :( إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ ) .

«المجرم» من مادة جرم ، وهو في الأصل بمعنى القطع الذي يستعمل في قطع

٩٧

الثمار من الشجرة ـ أي القطف ـ وكذلك في قطع نفس الشجرة ، إلّا أنّه استعمل فيما بعد في القيام بكل عمل سيء ، وربّما كان سبب هذا الاستعمال هو أنّ هذه الأعمال تفصل الإنسان عن ربّه وعن القيم الإنسانية ، وتبعده عنهما.

لكن من المسلم هنا أنّه لا يريد كل المجرمين ، وإنّما المراد هم المجرمون الذين اتخذوا سبيل الكفر سبيلا لهم ، بقرينة ذكر مسألة الخلود والعذاب الخالد ، وبقرينة المقارنة بالمؤمنين الذين مرّ الكلام عنهم في الآيات السابقة. ويبدو بعيدا ما قاله بعض المفسّرين من أنها تشمل كل المجرمين.

ولما كان من الممكن أن يخفف العذاب الدائمي بمرور الزمان ، وتقل شدته تدريجيا ، فإنّ الآية التالية تضيف :( لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ) ، وعلى هذا فإنّ عذاب هؤلاء دائم من ناحيتي الزمان والشدّة ، لأنّ الفتور يعني السكون بعد الحدة ، واللين بعد الشدة ، والضعف بعد القوّة كما يقول الراغب في مفرداته.

«مبلس» من مادة «إبلاس» ، وهي في الأصل الحزن الذي يصيب الإنسان من شدة التأثر والانزعاج ، ولما كان هذا الهم والحزن يدعو الإنسان إلى السكوت ، فقد استعملت مادة الإبلاس بمعنى السكوت والامتناع عن الجواب أيضا. ولما كان الإنسان ييأس من خلاص نفسه ونجاته في الشدائد العصيبة ، فقد استعملت هذه المادة في مورد اليأس أيضا ، ولهذا المعنى سمي «إبليس» إبليس ، إذ أنّه آيس من رحمة الله.

على أية حال ، فإنّ هاتين الآيتين قد أكدتا على ثلاث مسائل : مسألة الخلود ، وعدم تخفيف العذاب ، والحزن واليأس المطلق. وما أشد العذاب الذي تمتزج فيه هذه الأمور الثلاثة وتجتمع.

وتنبه الآية التالية إلى أنّ هؤلاء هم الذين أرادوا هذا العذاب الأليم ، واشتروه بأعمالهم وبظلمهم لأنفسهم ، فتقول :( وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ ) .

فكما أن الآيات السابقة قد بينت أن منبع كل تلك النعم اللامتناهية هي أعمال

٩٨

المؤمنين المتقين ، فإن هذه الآيات تعد أعمال هؤلاء الظالمين سبب هذا العذاب الخالد ومنبعه. وأي ظلم أكبر من أن يكذّب الإنسان بآيات الله سبحانه ، ويضرب جذور سعادته بمعول الكفر والافتراء :( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ ) .(١)

نعم ، إن القرآن يرى ارادة الإنسان وأعماله السبب الأساسي لكل سعادة أو شقاء ، لا المسائل الظنية والوهمية التي اصطنعها البعض لأنفسهم.

ثمّ تطرقت الآية إلى بيان جانب من مذلة هؤلاء ومسكنتهم ، فقالت ،( وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ ) فمع أن كل امرئ يهرب من الموت ويريد استمرار الحياة وبقاءها ، إلّا أنّه عند ما تتوالى عليه المصائب أحيانا ويضيق عليه الخناق يتمنى على الله الموت ، وإذا كانت هذه الأمنية قد تحدث أحيانا لبعض الناس في الدنيا ، فانّها تعمّ جميع المجرمين هناك ، فكلهم يتمنى الموت.

ولكن حيث لا فائدة من ذلك ، فإنّ مالك النّار وخازنها يجيبهم :( قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ ) (٢) .

والعجيب أنّ خازن النّار يجيبهم بعد ألف سنة ـ برأي بعض المفسّرين ـ وبكل احتقار وعدم اهتمام ، فما أشد إيلام هذا الاحتقار(٣) .

قد يقال : كيف يطلب هؤلاء مثل هذا الطلب مع يقينهم أن لا موت هناك؟ غير أن مثل هذا الطلب طبيعي من إنسان أحاطت به المصائب والآلام ، وقطع أمله من كل شيء.

أجل ، إنّ هؤلاء عند ما يرون كل سبل النجاة مغلقة في وجوههم ، سيطلقون هذه الصرخة من أعماق قلوبهم ، ولكن حق القول عليهم بالعذاب ، فلا فائدة من

__________________

(١) الصف ، الآية ٧.

(٢) «ماكثون» من مادة (مكث) ، وهو في الأصل التوقف المقترن بالانتظار ، وربّما كان هذا التعبير من مالك استهزاء ، كما تقول ـ أحيانا ـ لمن يطلب شيئا لا يستحقه انتظر!

(٣) مجمع البيان ، ذيل الآيات مورد البحث وقال البعض : إنّ المسافة بين السؤال والجواب مائة سنة ، وآخرون : أربعون سنة ، ومهما تكن فإنّها دليل على الاحتقار وعدم الاهتمام.

٩٩

صراخهم ، ولا صريخ لهم.

أمّا لماذا لا يطلب هؤلاء الموت من الله مباشرة ، بل يقولون لمالك :( لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ ) ؟ فلأنّهم في ذلك اليوم محجوبون عن ربّهم ، كما نقرأ ذلك في الآية (١٥) من سورة المطففين :( كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ) ولذلك يطلبون طلبتهم هذه من ملك العذاب. أو بسبب أن مالكا ملك مقرب عند الله سبحانه.

وتقول الآية الأخرى ، والتي هي في الحقيقة علة لخلود هؤلاء في نار جهنم :( لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ ) .

وللمفسّرين رأيان مختلفان في أن هذا الكلام هل هو من قبل مالك خازن النّار ، وأن ضمير الجمع يعود على الملائكة ومنهم مالك ، أم أنّه كلام الله تعالى؟

السياق يوجب أن يكون الكلام كلام مالك ، لأنّه أتى بعد كلامه السابق ، إلّا أنّ محتوى نفس الآية ينسجم مع كونه كلام الله تعالى ، والشاهد الآخر لهذا الكلام الآية (٧١) من سورة الزمر :( وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ ) فهنا يعد الملائكة الرسل هم الذين جاؤوا بالحق ، لا هم.

وللتعبير «بالحق» معنى واسع يشمل كل الحقائق المصيرية ، وإن كانت مسألة التوحيد والمعاد والقرآن تأتي في الدرجة الأولى.

وهذا التعبير يشير ـ في الحقيقة ـ إلى أنّكم لم تخالفوا الأنبياء فحسب ، وإنّما خالفتم الحق في الواقع ، وهذه المخالفة هي التي ساقتكم إلى العذاب الخالد الأبدي.

وتعكس الآية التالية جانبا من كراهية هؤلاء للحق واشمئزازهم منه ، وكذلك مناصرتهم للباطل والتمسك به ، فتقول :( أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ ) (١) فقد حاك هؤلاء الأشرار الدسائس ودبروا المؤامرات لإطفاء نور الإسلام ، وقتل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يتورعوا في إنزال الضربات بالإسلام والمسلمين ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.

__________________

(١) «أم» في الآية منقطعة ، وهي بمعنى (بل) والإبرام بمعنى الإحكام.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

إذ حاصر إسماعيل جيش عمرو، وما لبثوا أنْ هُزِموا وقُتل الكثير منهم، وأُسر منهم كثير وفر آخرون، وكان عمرو بن الليث مِن الفارِّين، ولكنَّه أُسِر ووقع ما كان عنده غنيمة بيد إسماعيل ومنها الخُرج. فلمَّا رآه مختوماً وقرأ ما كُتب عليه، أدرك ما هنالك وأنَّ الخُرج يحتوي على رسائل قوَّاده إلى عمرو، وهمَّ أنْ يفتح الخُرج ليطَّلع على الذين كتبوا تلك الرسائل، ولكنَّه بحِكمته الصائبة وتدبُّره العواقب، امتنع عن ذلك قائلاً في نفسه: لو أنَّني اطَّلعت على أسمائهم لساء ظنِّي بهم، كما أنَّهم إذا عرفوا انكشاف سِرِّ خيانتهم ونقضهم لعهودهم سوف يستولي عليهم الخوف، وقد يدفعهم ذلك إلى العصيان والثورة ومُحاولة اغتيالي أو قد يُشكِّلون مُعارضة تسعى للإخلال بالانضباط في الجيش، ويقلبون النصر إلى هزيمة مِمَّا يؤدِّي إلى مفاسد لا يُمكن تلافيها.

بناءً على ذلك أبقى الخُرج مَختوماً ثمَّ استدعى قادته وخواصَّ أصحابه، وأراهم الخُرج وعليه ختم عمرو وقال لهم: هذه رسائل كتبها بعض قادتي وأصحابي إلى عمرو يتقرَّبون إليه ويطلبون منه الأمان. أحلف أنْ أحِجَّ عشر حَجَّات إذا كنت أعلم ما في هذه الرسائل والذين كتبوه. فإذا كان ظَنِّي في أنَّهم قد طلبوا منه الأمان صحيحاً، فإنِّي أعفو عنهم، وإذا كان غير صحيح فإنِّي أستغفر الله على ظَنِّي. ثمَّ أمر بإحراق الخُرج بما فيه فأُحرق ولم يبقَ للرسائل مِن أثر.

فاستولت على كاتبي الرسائل الدهشة والحيرة، لما رأوه مِن إسماعيل مِن كرامة النفس والعفو الأخلاقي، وأحسُّوا بالراحة والاطمئنان بعد أنْ شاهدوا رسائلهم قد استحالت إلى رماد، وإنْ سِرَّهم قد قُبر إلى الأبد ولكنَّهم ندموا على ما بدر منهم، ومالوا إلى قائدهم الكريم وأحبُّوه وعزموا عزماً صادقاً مُخلصاً أنْ يبقوا على وفائهم له (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٤١

أردت أنْ أعظك فوعظتني

محمد بن المنكدر قال:

خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارَّة، فلقيت محمد بن علي وكان رجلاً بديناً وهو مُتَّكئ على غُلامين له أسودين، فقلت في نفسي: شيخ مِن شيوخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا، أشهد لأعظنَّه، فدنوت منه فسلَّمت عليه فسلَّم عليَّ وقد تصبَّب عرقاً.

قلت: أصلحك الله! شيخ مِن أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا! لو جاءك الموت وأنت على هذه الحال.

خلَّى عن الغُلامين مِن يده ثمَّ تساند وقال: (لو جاءني - والله - الموت وأنا في هذه الحال، جاءني وأنا في طاعة مِن طاعات الله تعالى أكفُّ بها نفسي عنك وعن الناس، وإنَّما كنت أخاف الموت لو جاءني وأنا على مَعصية مِن معاصي الله).

فقلت: يرحمك الله! أردت أنْ أعظك فوعظتني (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٤٢

خير لباس في كلِّ زمان لباس أهله

عن حماد بن عثمان قال:

حضرت أبا عبد الله الصادق (عليه السلام) وقال رجل: أصلحك الله! ذكرت أنَّ علي بن أبي طالب كان يلبس الخشن، يلبس القميص بأربعة دراهم وما أشبه ذلك، ونرى عليك اللباس الجديد.

فقال له:(إنَّ علي بن أبي طالب كان يلبس ذلك في زمانٍ لا يُنكر، ولو لبس مِثل ذلك اليوم شُّهِّر به؛ فخير لباس كلِّ زمان لباس أهله) (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٤٣

الإسراف مذموم مِن أيٍّ كان

كان مسلمة بن عبد الملك أحد أُمراء الجيش في حرب الروم، وعندما تولَّى عمر بن عبد العزيز الخلافة سمح لمسلمة بزيارته كلَّ يوم.

في أحد الأيَّام وصل خبر إلى الخليفة بأنَّ مسلمة يُسرف كثيراً بتهيئة الطعام، فأدَّى هذا الخبر إلى عدم ارتياح الخليفة، وصمَّم على نصيحته وإرشاده، فأمر الخليفة في أحد الأيَّام بإعداد وجبة عشاء مُخصَّصة لمسلمة، وفي تلك الدعوة أمر الخليفة طبَّاخ القصر بتهيئة أنواع مُختلفة مِن الطعام، ومنها حَساء مِن العدس والبصل والزيتون، وأمره عندما يحين وقت العشاء أنْ يُقدِّم الحَساء وبعد فترة يقدم أنواع الأطعمة الأُخرى.

لمَّا حضر مسلمة بدأ الخليفة يسأل مسلمة عن أوضاع الروم، والحرب في تلك المنطقة فأجابه، وبعد ساعتين مِن وقت العشاء أمر الخليفة الطبَّاخ بجلب العشاء وأوَّل الأطعمة المطلوبة الحَساء، وكان مسلمة جائعاً فلم يستطيع انتظار بقيَّة الطعام، فقام بأكل الحَساء وشبع، وعندما قدَّموا بقيَّة الأطعمة المُختلفة لم يستطع مسلمة الأكل بعد ذلك.

سأله عمر بن عبد العزيز: لماذا لا تأكل؟

أجاب: لقد شبعت.

قال الخليفة: سبحان الله! أنت شبعت مِن هذا الحَساء الذي كلَّفنا درهماً واحد، أما لهذه المأكولات المُختلفة، فإنَّك تصرف آلاف الدراهم! خَف الله ولا تُسرف! يجب أنْ تُعطي هذه المبالغ إلى المُحتاجين لمرضاة الله.

وقد كانت نصيحة عبد العزيز لمسلمة مؤثِّرة طول حياته.

إنَّ تقديم النُّصح عَلناً والإشارة إلى الأخطاء أمام الناس، وتوبيخ الخاطئ على ما

٣٤٤

فعل وتخطئته على رؤوس الأشهاد، وانتظار زلاَّته في حضور الآخرين، إنَّما هو في الحقيقة تحطيم لشخصيَّته، ومثل هذا النُّصح - فضلاً عن كونه لا يأتي بأيِّ أثر مُفيد فإنَّه - يبعث على العداوة والبغضاء، ويُثير الرغبة في الانتقام وتكون له نتائج ضارَّة (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٤٥

التعليم الذكي

الحسن والحسين (عليهما السلام) مرَّا على شيخ يتوضَّأ ولا يُحسن. فتظاهرا بالتنازع يقول كلُّ واحدٍ منهما للآخر: (أنت لا تُحسن الوضوء).

فقالا: (أيُّها الشيخ كُنْ حكماً بيننا، يتوضَّأ كلُّ واحدٍ منَّا)، فتوضَّآ.

ثمَّ قالا: (أيُّنا يُحسن؟).

قال: كلاكما تُحسنان الوضوء، ولكنَّ هذا الشيخ الجاهل - يعني نفسه - هو الذي لم يكن يُحسن، وقد تعلَّم الآن منكما، وتاب على يديكما وببركتكما وشفقتكما على أُمَّة جَدِّكما.

لم ينتقد الحسنان (عليه السلام) الشيخ انتقاداً مُباشراً، ولم يُجابهاه بجهله بطريقة الوضوء الصحيحة، ولم يذكرا وضوءه بسوء أو يصفاه بالبطلان، بلْ أجريا الوضوء بنفسيهما مُحتكمين إليه ليجلب انتباهه إلى كيفيَّة وضوئهما، بحيث يُدرك بطريقة غير مُباشرة خطأ وضوئه؛ فكان مِن نتيجة ذلك الانتقاد المؤدَّب العقلاني أنْ اعترف الشيخ بخطئه صراحة، وتعلَّم طريقة الوضوء الصحيحة وشكر لهما راضياً شفقتهما ومحبتهم (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٤٦

تحتقر الكلام وتستصغره؟!

عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنَّه قال وقد كلَّمه رجل بكلام كثير:

(أيُّها الرجل، تحتقر الكلام وتستصغره!

اعلم أنَّ الله عَزَّ وجَلَّ لم يبعث رُسله، حيث بعثها ومعها ذهب ولا فضَّة، ولكنْ بعثها بالكلام، وإنَّما عُرِف الله جَلَّ وعَزَّ نفسه إلى خلقه بالكلام والدلالات عليه والأعلام).

هنا أيضاً لم يقل الإمام شيئاً عن الرجل الثرثار، ولم يجعله هدف انتقاده مُباشرةً، كما لم يُشر بشيء إلى ثرثرته، ولا انتقد فيه هذه الصفة المذمومة انتقاداً مُباشراً، بلْ اكتفى بذكر قيمة الكلام وأهميَّته وأنَّه ينبغي ألا يستصغر شأن الكلام، وألا يهدر رأسماله الثمين هذا عبثاً بحَقٍّ وبغير حَقٍّ.

وحثَّه على استثمار موهبته في الحالات المُقتضية وبالقدر اللازم، وهكذا انتقد الإمام بشكل مؤدَّب وحكيم وغير مُباشر ثرثرة الرجل (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٤٧

مُعاوية يأمر بسبِّ عليٍّ (عليه السلام) على المَنابر

عندما بدأ مُعاوية حُكمه على أرض الإسلام الواسعة، أمر بسبِّ علي بن أبي طالب في أرجاء البلاد، فارتكب بعمله الظالم والقذر هذا إثماً كبيراً لا يُغتفر، وكان بذلك يرمي إلى الإساءة إلى سُمعة الإمام، وحمل الناس على إساءة الظَّنِّ بالإمام وانتزاع مَحبَّته مِن قلوب الناس، ومحو دلائل عدالته ووقوفه بوجه الظلم مِن ذاكرتهم، وبذلك يُغطِّي مِن جهة وصمات العار وسوء السُّمعة التي تلطِّخ اسم مُعاوية وآل أُميَّة، وتكون له مِن جِهة أُخرى حُرِّيَّة إطلاق يده في الظلم والجور، دون أنْ يُقارن أحد بين حكومته وحكومة الإمام عليِّ (عليه السلام) مِن حيث ظلمه وعدل عليٍّ..

ولكي يعمل على الإسراع في انتشار سبِّ الإمام في إرجاء البلاد؛ أمر جميع كبار الضبَّاط وكبار أعضاء الحكومة في أنحاء البلاد أنْ يُنفِّذوا ذلك عن طريق ذكر اسم الإمام عليٍّ بالسوء في جميع المحافل والمجالس، وأن يقوم أئمَّة الجمعة في خُطب صلاتهم بسبِّه على المنابر، وطلب إلى الشعراء أنْ ينظموا القصائد في هَجوه وينشروها بين الناس، وهكذا جَنَّد جميع موظَّفي الدولة لتنفيذ هذه الخُطَّة دون هواد، بحيث يتعوَّد الناس على سبِّ عليِّ بن أبي طالب، وكأنَّه جزءٌ مِن تكاليفهم الشرعيَّة وبموازاة سَبِّ الإمام عليٍّ وشتمه خطَّط لقمع حركة التشيع ونفذه.

بدأ - أوَّلاً - بإلقاء القبض على أخلص أصحاب الإمام المعروفين، والثابتين على الولاء له، والمشهورين بالتقوى ومِن خيرة تلامذة مدرسة الإسلام، أهانهم وحطَّ مِن كراماتهم، وقتل بعضهم شرَّ قتلة، وعذَّب بعضهم عذاباً مُبرحاً حتَّى الموت، وألقى ببعض في غياهب السجون.

وبهذه الجرائم المُنكَرة المُتَّسمة بالإرهاب خَلَق جَوَّاً مِن الرُّعب والخوف، بحيث لم يعد أحد يَجرؤ على أنْ يُجاهر بولائه للإمام علي، ويتحدَّث عن فضائله أو أنْ

٣٤٨

ينبري لتفنيد افتراءات مُعاوية ومأجوريه دفاعاً عن الإمام. وبقي الحال على هذا المنوال خلال حُكم مُعاوية.

وبعده واصل عدد مِن خُلفائه السيرة نفسها في الاستمرار على سبِّ الإمام علي. وظلَّ هذا الإثم الكبير شائعاً في طول البلاد وعرضها مُدَّة نِصف قَرن أو أكثر، دون أنْ يستطيع الناس الأخيار المؤمنون مُكافحته، وانتقاد تلك البِدعة الشائنة التي وضع مُعاوية لُبنته.

وفي سنة (٩٩) هِجريَّة تسلَّم الخلافة عمر بن عبد العزيز، وأصبح قائد البلاد الإسلاميَّة لقد كان في شبابه - عندما كان يدرس في المدينة - مثل سائر المخدوعين يذكر عليَّاً بالسوء، ولكنَّه عرف الحقيقة مِن أحد العلماء، وأدرك منه أنَّ سَبَّ تلك الشخصيَّة خلاف للشرع وموجب لغضب الله تعالى، غير أنَّه لم يكن قادراً على بيان ذلك للناس لمنعهم مِن الذنب الذي يرتكبونه، وعندما تربَّع على كرسيِّ الخلافة قرَّر أنْ يستفيد مِن منصبه لإزالة تلك الوصمة مِن جَبين البلاد، بمنع سَبِّ الإمام عليٍّ (عليه السلام).

ولكنَّه لكيلا يتعرَّض في مُهمَّته لمُعارضة المُتعصِّبين مِن بني أُميَّة وأصحابه الأنانيِّين، فلا يقيمون عَقبة في طريقه قرَّر أنْ يُفاتحهم في الأمر، لكي يُهيِّئهم له ويلفت أنظارهم إلى ضرورة التعاون معه في غسل ذلك العار، فوضع لذلك خُطَّة استخدم فيها طبيباً شابَّاً يهوديَّاً كان في الشام، فاستدعاه سِرَّاً وأطلعه على تفاصيل خُطَّته، وطلب إليه الحضور إلى قصر الخلافة في يوم وساعة مُعينين لينفذ الخُطَّة.

وقبل اليوم المُحدَّد أرسل إلى كبار شخصيَّات بني أُميَّة وذوي النفوذ في الشام، للحضور في ذلك اليوم عند الخليفة. وفي الساعة المُحدَّدة دخل الطبيب اليهوديِّ بعد الاستئذان، فأثار دخوله انتباه الحاضرين جميعاً.

سأله الخليفة عن سبب حضوره؟

فقال: إنَّه جاء يخطب ابنة الخليفة.

٣٤٩

سأله عمر: لمَن تخطبها؟

قال: لنفسي.

فبُهِت الحاضرون وراحوا ينظرون إليه باندهاش.

نظر إليه عمر وقال: ليس لي أنْ أوافقك على طلبك، فنحن مسلمون وأنت لستَ مسلماً، ومثل هذا الزواج غير جائز في الإسلام.

فقال الطبيب اليهودي: إذا كان هذا هو حُكم الإسلام، فكيف زوج نبيَّكم ابنته عليَّاً (عليه السلام)؟

فغضب الخليفة وقال له: عليٌّ (عليه السلام) كان مِن كبار المسلمين.

فقال اليهودي: إذا كنتم تعتبرونه مسلماً، فلماذا - إذن - تلعنونه وتسبُّونه في المجالس؟! فالتفت عمر إلى الحاضرين وقد بدا التأثُّر على ملامحه وقال لهم: أجيبوا على سؤاله.

سكت الجميع وأطرقوا برؤوسهم خَجلاً، وخرج الطبيب اليهودي دون أنْ يحظى بجواب (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٥٠

أيُّهما أفضل عليٌّ أم مُعاوية؟!

لمَّا وَلِي عمر بن عبد العزيز استعمل ميمون بن مهران على الجزيرة. واستعمل ميمون بن مهران على (قرقيس)) رجلاً يُقال له: (علاثة). فتنازع رجلان فقال أحدهما: مُعاوية أفضل مِن عليٍّ وأحقُّ. وقال الآخر: عليٌّ أولى مِن مُعاوية.

فكتب عامل (قرقيس) إلى ميمون بن مهران بذلك، فكتب ميمون بن مهران إلى عمر. فكتب عمر إلى ميمون بن مهران أنْ اكتب إلى عامل (قرقيس) أنْ أقم الرجل الذي قدَّم مُعاوية على عليٍّ بباب المسجد الجامع فاضربه مئة سوط، وانفه مِن البلد الذي هو به. فأخبر مَن رآه وقد ضرب مئة سوط وأخرج مُلبَّباً (أي: مأخوذاً بتلابيبه) حتَّى أُخرج مِن باب يُقال لها: باب الدين.

يبدو أنَّ عمر قد أدرك أنَّ الجدل في أفضليَّة مُعاوية كان خُطَّة جديدة للمُعاندين، وأنَّهم مِن هذا الطريق يُريدون أنْ ينالوا مِن مقام الإمام علي الشامخ، وأنْ يُسيئوا إليه ليُعيدوا السبَّ والشتم إلى الوجود بصورة أُخرى ويواصلوا أُسلوبهم الخبيث الظالم. إلاَّ أنَّ خليفة المسلمين أدرك سوء نيَّتهم هذه، فأحبط خُطَّتهم بأمره الصريح القاطع (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٥١

التغاضي عن سفاسف الأُمور

حُكي أنَّ بهرام الملك خرج يوماً للصيد فانفرد عن أصحابه، فرأى صيداً فتبعه طامعاً في لحاقه حتَّى بَعُد عن عسكره، فنظر إلى راعٍ تحت شجرة فنزل عن فرسه لحاجة، وقال للراعي: احفَظ عليَّ فرسي حتَّى أعود، فعَمد الراعي إلى العنان - وكان مُلبَّساً ذهباً كثيراً - وأخرج سكِّيناً فقطع أطراف اللجام وأخذ الذهب الذي عليه.

نظر بهرام نظرة إليه فرآه، فغضَّ بصره وأطرق برأسه إلى الأرض، وأطال الجلوس حتَّى أخذ الرجل حاجته.

ثمَّ قام بهرام فوضع يده على عينيه وقال للراعي: قَدِّم إليَّ فرسي، فإنَّه قد دخل في عيني مِن سافي الريح فلا أقدر على فتحهما، فقدَّمه إليه فركب وسار إلى أنْ وصل عسكره فقال لصاحب مراكبه: إنَّ أطراف اللجام قد وهبتها فلا تتَّهمَنَّ بها أحداً.

هذا الراعي لم يكن سارقاً مُحترفاً، كما أنَّ ذلك المقدار مِن الذهب لم يكن ذا قيمة عند بهرام، فلو أنَّه كان قد أظهر علمه بما فعل الرجل وأمر عند عودته بالقبض عليه، واسترجاع الذهب منه ومُعاقبته على السرقة؛ لكان في ذلك تصغير لشخصه بالإضافة إلى تحطيم كرامة الراعي. ولكنَّه بهذا التغافل والتغاضي أخفى سِرَّ الراعي كما رفع مِن قيمة نفسه الإنسانيَّة وكرم أخلاقه (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٥٢

مُديرٌ حكيم

قبل سنوات كان هناك شخص قدير، يُدير إحدى شركات التصدير الكُبرى ذات الفروع في عدد مِن المُدن، وكان كلُّ سنة في موسم الشراء يُحوِّل إلى كلِّ فرع ما يحتاجه مِن الأموال، أُخبر هذا المدير يوماً بأنَّ مُحاسب الفرع الفلاني قد استغلَّ مركزه واختلس بعض الأموال المُرسلة إليه لشراء البضاعة.

لم يكن ذلك الفرع يبعُد كثيراً عن المركز، فقرَّر المدير أنْ يزوره في اليوم التالي، وطلب مِن مدير مكتبه أنْ يصحبه، وفي اليوم التالي سافرا إلى تلك المدينة ووصلاها عند الضحى، ودخلا على مُحاسب فرع الشركة مُباشرة دون إخبار أحدٍ.

وعندما سأل المُدير المُحاسب عن الوضع المالي في فرعه، فتح هذا دفتره أمام المُدير فوجد المُدير أنَّ الموجود في المصرف يقرب مِن ٩٥% مِن المبلغ المُحوَّل إليه، بالإضافة إلى عدد مِن قوائم الشراء ومبلغٍ نقديٍّ في الصندوق.

عندما أخذ المُحاسب يحسب النقود في الصندوق قال له المُدير: هذا يكفي.

ثمَّ أثنى على نشاطه وصافحه وخرج مِن الشركة.

يقول مُدير المكتب الفرعي: في الطريق قلت للمُدير: إنَّ المبلغ الذي كان في الصندوق لم يكن يكفي لتسديد الحساب؛ فلو أنَّك تمهَّلت حتَّى يُنهي الحساب لعلمت أنَّ رصيد الصندوق ناقص.

قال المدير: لقد عرفت أنَّ ما في الصندوق لا يكفي لتسديد الرصيد، ولكنَّ سُمعة موظفٍ مُحترمٍ في الشركة أغلى بكثير مِن هذا المبلغ الزهيد. إنَّني أوقفت عَدَّ النقود؛ لئلا ينكشف أمر المُحاسب وتُهان كرامته. إنَّني ما سافرت إلاّ لأنَّي كنت قلقاً على مصير عِدَّة ملايين مِن أموال الشركة، فكنت أُريد أنْ أتحقَّق مِن الأمر بنفسي، وأتعرَّف على وضع الفرع المالي بأسرع ما يُمكن. وقد ظهر لي بمراجعة

٣٥٣

الحسابات أنَّ أموال الشركة لم يُصبها ضرر يُذكر. وهذا العجز البسيط في الصندوق ليس دليلاً على خيانة المُحاسب فلرُبَّما اضطرَّ إلى استقراضه ليُسدِّد مصاريف وضع حمل زوجه، أو لمرض ابنه، أو لدفع إيجار بيته. فكان لا بُدَّ مِن التغافل عن ذلك للمُحافظة على ماء وجهه، ولستُ أشكُّ في أنَّه سوف يُسدِّد ما عليه في أوَّل فُرصةٍ تُتاح له، ولن يعود لمِثلها بعد ذلك ولن يُخاطر بتشويه سُمعته (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٥٤

إذا أكرمت اللئيم تمرَّد

استعمال مكارم الأخلاق يكون مع الأشخاص الذين يستحقُّون ذلك، فالوضيعون الذين تزيدهم العِفَّة جُرأة على ارتكاب السيِّئات، ليسوا جديرين بالعفو مِن جانب الكُرماء ذوي النفوس الرفيعة.

كذلك التغافل والتغاضي مِثل مكارم الأخلاق، يجب أنْ يوضعا في محلِّهما عند مَن يستحقَّهما، فإذا أراد أحد إساءة استغلال ذلك وأوغل في ارتكاب أعماله السيِّئة؛ فلا يجوز التغافل عنه، بلْ يجب أنْ يُصارح بسوء عمله ويؤاخذ ويُعاقَب عليه. وهذا ما فعله الرسول الكريم بحقِّ الحَكم بن أبي العاص الذي كان مِن كبار المُنافقين:

في سنة فتح مَكَّة استسلم الحَكم بن أبي العاص بسبب قُدرة المسلمين في ذلك الوقت، ولكنَّه كان يؤذي الرسول بأساليب مُختلفة، فبعض الأحيان كان يتجسَّس على النبي ويُخبر بذلك أعداءه، حيث كان يتجسَّس على الأماكن التي كان يقطنها الرسول مع عائلته ويسمع ما يتكلَّمون به، ويُخبر به المُنافقين بصورة سُخريَّة واستهزاء. بعض الأحيان كان يمشي وراء الرسول الأكرم مع جماعة مِن المُنافقين، ويسخر مِن مشية الرسول بتحريك رأسه ويده. وكان الرسول عارفاً بأقوال وتصرُّفات الحَكم بن أبي العاص، وكان يغضُّ النظر عنه؛ وذلك أنَّ الرسول يأمل أنْ يأتي يوم يُغيِّر هذا الرجل فيه تصرُّفاته القبيحة، ولكنَّ الرسول رأى منه عكس ذلك؛ حيث ازدادت جسارته على الرسول فصمَّم الرسول على تغيير أُسلوبه معه.

في أحد الأيَّام كان الرسول عابراً، فلاحظ الحَكم بن أبي العاص خلفه يسخر منه بَحكَّة رأسه ويده، وفجأة التفت الرسول الأكرم إليه وقال:

(كذلك فلتكُن، يا حَكم)، فلم ينتبه الحَكم بن أبي العاص لكلام الرسول فأُصيب

٣٥٥

بضبَّة في روحه وأعصابه، اعترته الرعشة والحركات المُضحكة، وقد حَكم عليه بالإقامة الجبريَّة بالطائف وأُبعد عن المدينة (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٥٦

فِطنة أديب

كان يعيش في عصر الحَجَّاج بن يوسف رجل عالم وأديب اسمه (قبعثري) كان يوماً مع أصحاب له في جلسة أُنس في بعض البساتين خارج المدينة. وخلال تبادل الحديث جاء ذكر الحَجَّاج، فعرَّض به قبعثري في كلامه كناية مُظهراً عدم رضاه عنه، فوصل هذا إلى سمع الحَجَّاج؛ فعزم على مُعاقبته على التعريض به.

استحضره وقال له مُحتدَّاً: لأحملنك على الأدهم، أي: سأسجنك وأضع القيد في رجليك، (للأدهم في العربية معانٍ كثيرة، منها: تقييد الرجلين، ومنها الفرس الأسود).

أدرك قبعثري الأديب الأريب قصد الحَجَّاج، وعرف أنَّه يُهدِّده بالقيد والسجن، ولكنَّه لتجنُّب الخطر تغافل عن هذا المعنى ولم يُبدٍ أنَّه فهم المُراد، بلْ أظهر أنَّه فهم مِن (الأدهم) أنَّه يقصد الفرس الأسود، ولذلك قال له باسماً: مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب. أي أنَّ الأمير بما له مِن مقام كبير وقُدرة عظيمة قادر على أنْ يشمل الناس بعطفه وكرمه، فيرسلهم إلى أهليهم على الخيول السود والشهب.

فقال الحَجَّاج توضيحاً لقوله: أردت الحديد. وكان مِن باب المُصادفة أنَّ للحديد في العربيَّة معاني متعددة، منها: القيد، ومنها الذكاء والفطنة. فتغافل قبعثري مَرَّة أُخرى عن المقصود الحقيقي وقال: الحديد خير مِن البليد. قاصداً أنَّ الفرس الذكي خير مِن الفرس البليد.

لقد قلب قبعثري بهذا التغافل الأدبي الذي قلَّ نظيره - والذي مزجه بالتكريم والاحترام - الموقف رأساً على عقب؛ مِمَّا أطفأ نار غضب الحَجَّاج وأنقذه مِن السجن والحديد، بلْ استجلب رضى الحَجَّاج وعطفه؛ فلم يبخل عليه بعطيَّته (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٥٧

تغافل في مَحلِّه

كان هارون الرشيد يخرج إلى الصيد، وفي أحد المَرَّات وصل إلى بُستان معمور فسأل: لمَن هذا البُستان؟

قالوا: هو لرجل مجوسيٍّ.

فقال: أُريد هذا البستان، ولا بُدَّ مِن شرائه.

فقال الوزير: قد كلَّمناه في هذا الأمر عِدَّة مَرَّات فلم يوافق.

فقال هارون الرشيد: ما العمل حتَّى يصبح هذا البُستان مِن أملاكي؟

قال الوزير: نقول له: إنَّ الخليفة نزل في بُستانك، ونسأله لمَن هذا البستان؟

سوف يقول: إنَّه لحضرة الخليفة هارون الرشيد، وسوف نعتبر هذه الجُملة مُستمسكاً ونُعطيه المبلغ مع بعض جوائز.

وافق هارون على ذلك، ثمَّ نزل هارون في ذلك البُستان وبعد فترة جاء المجوسيُّ وأدَّى التحيَّة باحترام. وعندما سأله هارون: لمَن هذا البستان؟

قال: كان ملك أبي واليوم أصبح ملكي، ولا أعرف غداً لمَن يكون؛ فأثَّر كلام المجوسيِّ في نفس هارون الرشيد.

قال: إنَّك حفظت بُستانك بهذا الكلام وقد غلبتنا بالحيلة.

كان المجوسيُّ عارفاً بالآداب والأعراف، ويعلم أنَّه عندما يسأل هارون لمَن هذا البستان؟ يجب أنْ يُقال له: إنَّه لخليفة المسلمين. ولكنَّه تغافل عمَّا يعلم وأظهر أنَّه لا علم له بما جرت عليه العادة. وعلى أثر هذا التغافل المؤدَّب، الذي جاء في محلِّه أمكن حَلُّ المُشكلة، واستفاد المُتغافل مِن نتيجة تغافله الإيجابيِّ المُفيد (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٥٨

إنَّما الطاعة في المعروف ولا طاعة في معصية

جهَّز رسول الله جيشاً لإحدى حُروبه وعيَّن قائداً للجيش، وأمر الجنود بإطاعته وتنفيذ أوامره.

قام هذا القائد في بداية مسيره بتجربة غريبة، ربَّما لكي يعرف مدى طاعة جنوده له، أو ليعلم درجات إدراكهم، أو لأيِّ هدفٍ آخر حيث أمر بنار فأُضرمت، ثمَّ أمرهم أن يُلقوا بأنفسهم فيها.

راح بعض الجنود يتهيَّأون لتنفيذ الأمر، ورأى آخرون أنَّ هذا الأمر غير صحيح ورفضوا إطاعته فيه.

فقال لهم شابٌّ: لا تعجلوا حتَّى تأتوا رسول الله، فهو إنْ أمركم أنْ تدخلوها فادخلوها، فأتوا رسول الله فقال لهم: (لو دخلتموها ما خرجتم منها أبداً. إنَّما الطاعة في المعروف ولا طاعة لمخلوقٍ في معصيته للخالق) (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج٢.

٣٥٩

لا يستهوينَّكم الشيطان لعنه الله

يقول ابن شهر آشوب: بعد أنْ صمَّم مُعاوية على القيام ضِدَّ الإمام عليٍّ خطر له أنْ يختبر أهل الشام؛ ليعرف مدى طاعتهم لأوامره، فاقترح عليه عمرو بن العاص طريقة لإجراء هذا الاختبار قائلاً له: اصدر أمرك إلى الناس بأنَّ عليهم أنْ يذبحوا القَرع كما يذبحون الشاة، فيذكُّوه قبل أنْ يأكلوه، فإذا أطاعوك فثق بتأييدهم وإسنادهم لك، وإلاّ فلا.

أصدر مُعاوية أمره بذلك فأطاعه الناس دون أيِّ اعتراض، وانتشرت هذه البِدعة الأموي في أرجاء الشام.

وسُرعان ما وصل خبر تلك البِدعة إلى أسماع أهل العراق، وراح الناس يتساءلون عن ذلك. فسُئل أمير المؤمنين عن القرع يذبح؟

فقال: (القَرع ليس يُذكَّى؛ فكلوه ولا تذبحوه ولا يستهوينَّكم الشيطان لعنه الله).

إنَّ المسلمين الذين أطاعوا أمر مُعاوية غير المشروع يومئذٍ، ونفَّذوه على مُخالفته أمر الله، هُمْ أشبه بذلك الفئة مِن أهل الكتاب الذين حَرَّم عليهم أحبارهم ورُهبانهم ما أحلَّ الله، وحلَّلوا لهم ما حرَّم الله، فكانوا يُطيعونهم إطاعة عمياء فيُشركون وهُمْ جاهلون (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج٢.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421