القصص التربوية

القصص التربوية13%

القصص التربوية مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 421

القصص التربوية
  • البداية
  • السابق
  • 421 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 347726 / تحميل: 10129
الحجم الحجم الحجم
القصص التربوية

القصص التربوية

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

الفصل الثالث و الخمسون في الفتن و الشبه و البدع

١٦١

١ في أوّل الباب الثالث من النهج باب المختار

من حكم امير المؤمنينعليه‌السلام و يدخل في ذلك المختار من أجوبة مسائله و الكلام القصير الخارج في ساير أغراضه .

قالعليه‌السلام :

كُنْ فِي اَلْفِتْنَةِ كَابْنِ اَللَّبُونِ لاَ ظَهْرٌ فَيُرْكَبَ وَ لاَ ضَرْعٌ فَيُحْلَبَ قول المصنّف : « باب المختار » هو القسم الأخير من كتابه « من حكم أمير المؤمنينعليه‌السلام » اقتصر عليه في ( المصرية ) و زاد ابن أبي الحديد و ابن ميثم : « و مواعظه » و هو الصحيح لأصحية نسختيهما لا سيما الأخير الذي نسخته بخط المصنف .

و لأنّ فيه مواعظ كثيرة و منها في العنوان ( ١٥٠ ) كلامهعليه‌السلام لرجل سأله أن يعظه الذي قال المصنف فيه « و لو لم يكن في هذا الكتاب إلاّ هذا الكلام لكفى به موعظة ناجعة » .

١٦٢

و وصف الشعبي كلامهعليه‌السلام في الحكم و غيرها فقال : تكلّم أمير المؤمنينعليه‌السلام بتسع كلمات ارتجلهن ارتجالا فقأن عيون البلاغة و أيتمن جواهر الحكمة و قطعن جميع الأنام عن اللحاق بواحدة منهن ، ثلاث منهن في الحكمة و ثلاث في المناجاة و ثلاث في الأدب ، أما اللائي في الحكمة فقال : قيمة كلّ امرى‏ء ما يحسنه ، و ما هلك امرؤ عرف قدره ، و المرء مخبوء تحت لسانه .

و أما اللائي في المناجاة فقال : اللّهم كفى بي عزّا أن أكون لك عبدا ، و كفى بي فخرا أن تكون لي ربا ، أنت كما أحب فاجعلني كما تحب و أما اللائي في الأدب فقال : امنن على من شئت تكن أميره ، و استغن عمّن شئت تكن نظيره و احتج إلى من شئت تكن أسيره(١) .

« و يدخل في ذلك المختار من أجوبة مسألته » ترى أجوبة مسألته في العناوين ( ١٦ ) ( ٣٠ ) ( ٩٤ ) ( ١٢٠ ) ( ١٥٠ ) ( ٢٢٧ ) ( ٢٢٩ ) ( ٢٣٥ ) ( ٢٦٦ ) ( ٢٨٧ ) ( ٢٩٤ ) ( ٣٠٠ ) ( ٣١٨ ) ( ٣٥٦ ) ( ٤٧٠ ) .

« و الكلام القصير » كان حاجب هشام بن عبد الملك يأمر منتجعيه بالإيجاز في الكلام ، فقام أعرابي فقال : إنّ اللَّه تعالى جعل العطاء محبة و المنع مبغضة فلأن نحبك خير من أن نبغضك فأعطاه و أجزل له .

« الخارج في سائر أغراضه » أي باقي مقاصده ، و الأصل في ( الغرض ) الهدف و ( سائر ) يأتي بمعنى الجميع و معنى الباقي ، و الأخير هو المراد هنا .

قوله « كن في الفتنة » الأصل في « الفتنة » قولهم « دينار مفتون » فتن بالنار ، و كلّ شي‏ء ادخل النار فقد فتن ، و قالوا « الناس عبيد الفتانين » أي الدرهم و الدينار .

« كابن اللبون » ابن اللبون : ولد الناقة الذكر إذا دخل في الثالثة ، لأن امّه

____________________

( ١ ) الخصال للصدوق : ١٨٦ .

١٦٣

وضعت غيره فصار لها لبن ، و الانثى بنت اللبون ، و يجمعان بنات اللبون .

« لا ظهر فيركب و لا ضرع فيحلب » نظيره قول حاجب بن زرارة في القعقاع :

ما هو رطب فيعصر و لا يابس فيكسر .

و في المثل : لا تكن حلوا فتزدرد و لا مرّا فتلفظ .

و من الأمثال في الاعتزال قولهم : لا ناقة لي في هذا و لا جمل و قالوا : ان كنت من أهل الفطن فلا تدر حول الفتن .

ثم كما لا ينتفع بابن اللبون لصغره كذلك بالثلب لكبره ، و هو الذي انكسرت أنيابه من شدّة هرمه ، و إنما الانتفاع الكامل بالناب الذي في وسط الشباب ، قال بعضهم :

ألم تر أن الناب يحلب علبة

و يترك ثلب لا ضراب و لا ظهر

قال ابن أبي الحديد : أيام الفتنة هي أيام الخصومة بين رئيسين ضالين يدعوان كلاهما إلى ضلالة ، كفتنة عبد الملك و ابن الزبير و فتنة مروان و الضحاك و فتنة الحجاج و ابن الأشعث ، و أما إذا كان أحدهما صاحب حق فليست أيام فتنة كالجمل و صفين(١) .

قلت : إن جانبوا العصبية و أرادوا فهم الحقيقة فأول أيام الفتنة أيام أوّلهم ، ففي ( الطبري ) : قال أبو مويهبة مولى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : بعث إليّ النبي من جوف الليل فقال : يا أبا مويهبة إنّي قد امرت أن أستغفر لأهل البقيع فانطلق معي فانطلقت معه فلما وقف بين أظهرهم قال : السّلام عليكم أهل المقابر ، ليهن لكم ما أصبحتم ممّا أصبح الناس فيه ، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أوّلها ، الآخرة شرّ من الاولى إلى أن قال ثم انصرف فبدأ

____________________

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٨٢ .

١٦٤

بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وجعه الذي قبض فيه(١) .

و في ( بلاغات نساء أحمد بن أبي طاهر البغدادي ) من رجالهم في ذكره خطبة سيّدة نساء العالمين باتفاق فرق المسلمين لما منعها أبو بكر فدك و في الخطبة : فأنقذكم اللَّه برسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد اللتيا و التي ، و بعد ما مني ببهم الرجال و ذؤبان العرب ، كلّما حشوا نارا للحرب أطفأها و نجم قرن للضلال و فغرت فاغرة من المشركين قذف بأخيه في لهواتها ، فلا ينكفي حتى يطأ صماخها بأخمصه و يخمد لهبها بحده ، مكدودا في ذات اللَّه قريبا من رسول اللَّه سيّدا في أولياء اللَّه ، و أنتم في بلهنية و ادعون آمنون ، حتى إذا اختار اللَّه تعالى لنبيه دار أنبيائه ظهرت خلّة النفاق و سمل جلباب الدين و نطق كاظم الغاوين و نبغ خامل الآفلين و هدر فنيق المبطلين ، فخطر في عرصاتكم و أطلع الشيطان رأسه من مغرزه صارخا بكم ، فوجدكم لدعائه مستجيبين و للغرة فيه ملاحظين ، فاستنهضكم فوجدكم خفافا و أحمشكم فألفاكم غضابا ، فوسمتم غير أبلكم و أوردتموها غير شربكم ، هذا و العهد قريب و الكلم رحيب و الجراح لما يندمل ، بدارا زعمتم خوف الفتنة ألا في الفتنة سقطوا و إنّ جهنم لمحيطة بالكافرين(٢) .

و روى الإسكافي منهم في نقضه ( عثمانية الجاحظ ) عن أبي رافع قال :

أتيت أبا ذر بالربذة اودّعه ، فلما أردت الانصراف قال لي و لا ناس معي :

ستكون فتنة فاتقوا اللَّه و عليكم بالشيخ علي بن أبي طالب فاتبعوه ، فإني سمعت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول له : أنت أوّل من آمن بي و أوّل من يصافحني يوم القيامة ، و أنت الصدّيق الأكبر ، و أنت الفاروق الذي تفرّق بين الحق و الباطل ،

____________________

( ١ ) تاريخ الطبري ٢ : ٤٣٢ .

( ٢ ) بلاغات النساء لابن طيفور : ١٣ ١٤ .

١٦٥

و أنت يعسوب المؤمنين و المال يعسوب الكافرين ، و أنت أخي و وزيري و خير من أترك بعدي(١) .

ثم ما قاله ابن أبي الحديد : من فتنة الحجاج و ابن الأشعث خلاف عقيدة أهل نحلته ، فإنّ عندهم كان قيام ابن الأشعث فتنة ، و أمّا الحجاج فكان عامل من بايعه جميع الناس و كان عندهم خليفة حقّا و أميرا للمؤمنين به .

و كذلك قوله « فتنة عبد الملك و ابن الزبير » غير صحيح عند أهل ملته ، فانّه عندهم كان ابتداء ابن الزبير ولي اللَّه و عبد الملك عدوّ اللَّه ، و لما غلب عبد الملك صار هو ولي اللَّه و ابن الزبير عدوّ اللَّه(٢) .

ففي ( كامل المبرد ) : خرج مصعب بن الزبير إلى باجميراء ، ثم أتى الخوارج خبر مقتله بمسكن و لم يأت المهلب و أصحابه ، فتواقفوا يوما على الخندق ، فناداهم الخوارج : ما تقولون في المصعب ؟ قالوا : إمام هدى قالوا : فما تقولون في عبد الملك ؟ قالوا : ضالّ مضل فلما كان بعد يومين أتى المهلب قتل صعب و إنّ أهل الشام اجتمعوا على عبد الملك ، و ورد عليه كتاب عبد الملك بولايته ، فلما تواقفوا ناداهم الخوارج : ما تقولون في مصعب ؟ قالوا : لا نخبركم قالوا : فما تقولون في عبد الملك ؟ قالوا : إمام هدى قالوا : يا أعداء اللَّه بالأمس ضال مضل و اليوم امام هدى ، يا عبيد الدّنيا عليكم لعنة اللَّه(٣) .

و الخوارج و إن طعنوا عليهم بكون ما عليهم خلاف العقل و خلاف الفطرة التي فطر الناس عليها ، إلاّ أنّه يقال لهم : إنّ ذلك لازم لكم أيضا بموافقة العامة في إمامة صديقهم و صديقه ، فلا يمكن القول بالملزوم و ترك اللازم .

____________________

( ١ ) نقض العثمانية لأبي جعفر الإسكافي : ٢٩٠ ملحقة بالعثمانية .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٨٢ .

( ٣ ) الكامل في الأدب للمبرّد ٣ : ١١٠١ ١١٠٢ .

١٦٦

و أما قوله « إذا كان أحدهما صاحب حق فليست أيام فتنة كالجمل و صفين » فأيضا أهل ملّته غير معترفين به ، فهذا ابن عبد البر من أئمتهم قال في سعد بن أبي وقاص الذي لم يشهد الجمل و صفين مع أمير المؤمنينعليه‌السلام :

كان ممّن قعد و لزم بيته في الفتنة و أمر أهله أن لا يخبروه من أخبار الناس بشي‏ء حتى تجتمع الامة على إمام(١) .

و قال في ترجمة ابن فاروقهم : قيل لنافع : ما بال ابن عمر بايع معاوية و لم يبايع عليّا ؟ فقال : كان ابن عمر لا يعطي يدا في فرقة و لا يمنعها من جماعة ، و لم يبايع معاوية حتى اجتمعوا عليه(٢) .

قبّح اللَّه هذا الدين الذي يصير معاوية الذي كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لعنه في غير موطن و عدوّ الدين أولى بالإمامة من أمير المؤمنينعليه‌السلام الذي جعله اللَّه تعالى في كتابه كنفس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في قوله .( و أنفسنا و أنفسكم . ) (٣) و جعله النبي بمنزلة نفسه في المتواتر منه في قوله للناس : من كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه .

لا يقال : انّما قال « من كنت مولاه فعلي مولاه » لا ما قلت قلت : ما ذكرته ان لم يكن لفظه هو معناه ، ألم يكن قال تلك الجملة بعد قوله للناس « ألست بكم أولى من أنفسكم » و قول الناس له « بلى أنت أولى بنا من أنفسنا » فهل يصير معناها غير ما قلناه .

قبّح اللَّه هذا الدين الذي هو خلاف ناموس الإنسانية ، حتى ان الحجاج الذي قال عمر بن عبد العزيز الذي هو أحد خلفائهم : لو أنّ جميع الامم جاءت

____________________

( ١ ) الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر ٢ : ٦٠٩ .

( ٢ ) المصدر نفسه ٣ : ٩٥٣ .

( ٣ ) آل عمران : ٦١ .

١٦٧

يوم القيامة كلّ واحدة منهم بشرارهم و جئناهم بالحجاج لغلبنا جميعهم لم يرضه ، فقال الاسكافي أحد أئمتهم في نقض ( عثمانيته ) : امتنع ابن عمر من بيعة عليعليه‌السلام و طرق على الحجاج بابه ليلا ليبايع لعبد الملك كيلا يبيت تلك الليلة بلا إمام ، زعم لأنّه روي ان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال « من مات و لا إمام له مات ميتة جاهلية »(١) و حتى بلغ من احتقار الحجاج له و استرذاله حاله أن أخرج رجله من الفراش فقال : اصفق بيدك عليها قال و رواه بعضهم و زاد : و لما خرج قال الحجاج : ما أحمق هذا يترك بيعة علي و يأتيني مبايعا في ليله .

٢ الخطبة ( ٩١ ) إِنَّ اَلْفِتَنَ

إِذَا أَقْبَلَتْ شَبَّهَتْ وَ إِذَا أَدْبَرَتْ نَبَّهَتْ يُنْكَرْنَ مُقْبِلاَتٍ وَ يُعْرَفْنَ مُدْبِرَاتٍ يَحُمْنَ حَوْلَ اَلرِّيَاحِ يُصِبْنَ بَلَداً وَ يُخْطِئْنَ بَلَداً أقول : رواه الثقفي في أول ( غاراته ) باسنادين عن زر بن حبيش عنهعليه‌السلام : الأول عن إسماعيل بن ابان عن عبد الغفار بن القاسم عن المنصور بن عمرو عن ذر و الثاني عن أحمد بن عمران الأنصاري عن أبيه عن أبن أبي ليلى عن المنهال بن عمرو عن زر قال : خطب عليعليه‌السلام بالنهروان إلى أن قال فقام إليه رجل آخر فقال لهعليه‌السلام : حدّثنا عن الفتن قال : ان الفتن إذا أقبلت شبهت و إذا أدبرت نبهت ، يشبهن مقبلات و يعرفن مدبرات ، ان الفتن تحوم كالرياح يصبن بلدا و يخطئن اخرى(٢) .

« ان الفتن إذا أقبلت شبهت و إذا أدبرت نبهت » في ( نهاية الجزري ) : التشابه قسمان ، قسم إذا ردّ إلى المحكم يفهم معناه ، و قسم لا سبيل إلى معرفة

____________________

( ١ ) نقض العثمانية : ٣٠١ .

( ٢ ) الغارات للثقفي : ٧ .

١٦٨

حقيقته ، فالمتتبع له متتبع للفتنة ، لأنّه لا يكاد ينتهي إلى شي‏ء تسكن إليه نفسه ، و منه حديث ذكر فيه فتنة « تشبه مقبلة و تبين مدبرة » أي أنّها إذا أقبلت شبهت على القوم و أرتهم أنّهم على الحق حتى يدخلوا فيها و يركبوا منها ما لا يجوز ، فإذا أدبرت بان أمرها فعلم من دخل فيها أنّه كان على الخطأ(١) .

« ينكرن مقبلات و يعرفن مدبرات » قد عرفت أنّ ( غارات الثقفي ) رواه « يشبهن مقبلات و يعرفن مدبرات » .

« يحمن حول الرياح » هكذا في ( المصرية )(٢) ، و الصواب : « حوم الرياح » كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية )(٣) ، مع أنّه لا معنى لما في ( المصرية ) ، فالفتن لا يدرن حول الرياح بل يدرن حول الناس دور الرياح ، من قولهم « حام الطائر حول الشي‏ء حوما » أي دار .

« يصبن بلدا و يخطئن اخرى » أي كما أن الرياح الشديدة تصيب بلدا و تخطى‏ء بلدا كذلك الفتن يصبن بلدا فيبتلى الناس بوخامتهن و يخطئن بلدا فيسلمون منها .

٣ الحكمة ( ٧٦ ) و قالعليه‌السلام :

إِنَّ اَلْأُمُورَ إِذَا اِشْتَبَهَتْ اُعْتُبِرَ آخِرُهَا بِأَوَّلِهَا كان العباسيون يدّعون إجراء العدالة إذا ظهروا إلاّ انّه كان حالهم في الآخر معلومة من أوّلها .

____________________

( ١ ) النهاية لابن الأثير للجزري ٢ : ٤٤٢ .

( ٢ ) الطبعة المصرية : ٢٣٤ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ٧ : ٤٤ الخطبة ( ١٩٢ ) ، أمّا شرح ابن ميثم ٢ : ٣٨٨ ، بلفظ « حول » ، أما الخطبة ٧٤ بلفظ « حوم » .

١٦٩

و لما بايعت الأوس أبا بكر لئلا يصير الأمر إلى الخزرج و كانت بينهما رقابة من الجاهلية ، قال لهم المنذر بن الحباب : فعلتموها أما و اللَّه لكأني بأبنائكم على أبواب أبنائهم قد وقفوا يسألونهم بأكفّهم و لا يسقون الماء .

و صار كما قال(١) .

٤ الحكمة ( ٩٣ ) و قالعليه‌السلام :

لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ اَللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ اَلْفِتْنَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ إِلاَّ وَ هُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى فِتْنَةٍ وَ لَكِنْ مَنِ اِسْتَعَاذَ فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ مُضِلاَّتِ اَلْفِتَنِ فَإِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ وَ اِعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ١ ٧ ٨ : ٢٨ وَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ يَخْتَبِرُهُمْ بِالْأَمْوَالِ وَ اَلْأَوْلاَدِ لِيَتَبَيَّنَ اَلسَّاخِطَ لِرِزْقِهِ وَ اَلرَّاضِيَ بِقِسْمِهِ وَ إِنْ كَانَ سُبْحَانَهُ أَعْلَمَ بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ لَكِنْ لِتَظْهَرَ اَلْأَفْعَالُ اَلَّتِي بِهَا يُسْتَحَقُّ اَلثَّوَابُ وَ اَلْعِقَابُ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يُحِبُّ اَلذُّكُورَ وَ يَكْرَهُ اَلْإِنَاثَ وَ بَعْضَهُمْ يُحِبُّ تَثْمِيرَ اَلْمَالِ وَ يَكْرَهُ اِنْثِلاَمَ اَلْحَالِ و هذا من غريب ما سمع منه في التفسير « لا يقولن أحدكم اللّهم اني أعوذ بك من الفتنة » قال ابن بابويه في ( توحيده ) :

الفتنة على عشرة أوجه : فوجه الضلال ، و الثاني : الاختبار و هو قوله تعالى .( و فتناك فتونا ) .(٢) ( ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا و هم لا يفتنون ) (٣) و الثالث : الحجّة و هو قوله تعالى( ثم لم تكن فتنتهم إلاّ أن قالوا

_ ___________________

( ١ ) التوحيد للصدوق : ٣٨٦ .

( ٢ ) طه : ٤٠ .

( ٣ ) العنكبوت : ١ ٢ .

١٧٠

 و اللَّه ربنا ما كنّا مشركين ) (١) و الرابع : الشرك و هو قوله تعالى .( و الفتنة أشدّ من القتل ) .(٢) و الخامس : الكفر و هو قوله تعالى .( ألا في الفتنة سقطوا ) .(٣) و السادس : الإحراق بالنار و هو قوله تعالى( إن الذين فتنوا المؤمنين و المؤمنات ) . .(٤) و السابع : العذاب كقوله تعالى( يوم هم على النار يفتنون ) (٥) ( ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون ) (٦) .( و من يرد اللَّه فتنته فلن تملك له من اللَّه شيئا ) . .(٧) و الثامن : القتل كقوله تعالى .( إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ) .(٨) ( فما آمن لموسى إلاّ ذريّة من قومه على خوف من فرعون و ملئهم أن يفتنهم ) .(٩) و التاسع : الصدّ كقوله تعالى( و ان كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا اليك ) .(١٠) و العاشر : شدّة المحنة كقوله تعالى .( ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ) (١١) ، و قد زاد علي بن ابراهيم وجها آخر ، و هو المحبة كقوله تعالى .( انّما أموالكم و أولادكم فتنة ) .(١٢) و عندي أنّه المحنة بالنون لا المحبة بالباء لقول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله « الولد مجبنة مبخلة »(١٣) .

____________________

( ١ ) الأنعام : ٢٣ .

( ٢ ) البقرة : ١٩١ .

( ٣ ) التوبة : ٤٩ .

( ٤ ) البروج : ١٠ .

( ٥ ) الذاريات : ١٣ .

( ٦ ) الذاريات : ١٤ .

( ٧ ) المائدة : ٤١ .

( ٨ ) النساء : ١٠١ .

( ٩ ) يونس : ٨٣ .

( ١٠ ) الاسراء : ٧٣ .

( ١١ ) يونس : ٨٥ .

( ١٢ ) الأنفال : ٢٨ .

( ١٣ ) بحار الأنوار ١٠٤ : ٩٧ رواية ٦٠ ب ٢ .

١٧١

قلت : و المفهوم من الخليل أن الأصل في معناه الإحراق ، فقال : الفتن الإحراق(١) ، قال تعالى( يوم هم على النار يفتنون ) (٢) ، و ورق فتين أي فضة محرقة و يقال للحرة فتين كأن حجارتها محرقة .

هذا ، و عن الأصمعي لا يقال أفتنته بل فتنته ، ورد عليه بقول أعشى همدان في سعيد بن جبير :

لئن أفتنتني فهي بالأمس أفتنت سعيدا فأمسى قد قلى كلّ مسلم(٣) و عن ام عمرو بنت الأهتم : مررنا بمجلس فيه سعيد بن جبير و نحن جوار و معنا جارية تغني بدف معها و تنشد البيت « لئن أفتنتني . » ، فقال سعيد : كذبتن كذبتن .

« لأنّه ليس أحد إلاّ و هو مشتمل على فتنة » و لو بالمال أو الولد ، و لأنّ سنته تعالى فتن عباده و لن تجد لسنته تبديلا ، قال تعالى( أحسب الناس ان يتركوا أن يقولوا آمنا و هم لا يفتنون و لقد فتنا الذين من قبلهم فَليعلمنَّ اللَّه الذين صدقوا و ليعلَمَنَّ الكاذبين ) (٤) .

« و لكن من استعاذ فليستعذ باللَّه من مضلاّت الفتن » كما في فتنة بني اسرائيل بالعجل الذي أضلّهم السامري به حتى تركوا هارون و أرادوا قتله .

و كما في فتنة المسلمين بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بمثل فتنة بني اسرائيل بجعل الثاني الأول عجله حتى تركوا خليفة نبيّهم و أرادوا قتله ، و كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لهم في المتواتر : لتتبعن بني إسرائيل حذوا بحذو حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه .

____________________

( ١ ) العين لأحمد الفراهيدي ٨ : ١٢٧ مادة ( فتن ) .

( ٢ ) الذاريات : ١٣ .

( ٣ ) العين للفراهيدي ٨ : ١٢٨ مادة ( فتن ) .

( ٤ ) العنكبوت : ٢ ٣ .

١٧٢

و في ( خلفاء ابن قتيبة ) في قصة السقيفة فأخرجوا عليّا فمضوا به إلى أبي بكر ، فقالوا له : بايع فقال : إن أنا لم أفعل فمه ؟ قالوا : إذن و اللَّه الذي لا إله إلاّ هو لضرب عنقك قال : إذن تقتلون عبد اللَّه و أخا رسوله قال عمر : أما عبد اللَّه فنعم و أما أخو رسوله فلا و أبو بكر ساكت لا يتكلّم ، فقال له عمر : ألا تأمر فيه ؟ فقال : لا اكرهه على شي‏ء ما كانت فاطمة إلى جنبه فلحق علي بقبر رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله يصيح و يبكي و ينادي : يابن امّ إن القوم استضعفوني و كادوا يقتلونني إلى آخر ما ذكر(١) .

هذا ، و روى ( توحيد الصدوق ) أنّه تعالى قال : إنّ من عبادي المؤمنين لمن يريد الباب من العبادة فأكفّه عنه لئلا يدخله عجب فيفسده ، و إنّ منهم لمن لا يصلح ايمانه إلاّ بالفقر و لو أغنيته لأفسده ، و إنّ منهم لمن لا يصلح ايمانه إلاّ بالغنى و لو أفقرته لأفسده ، و ان منهم لمن لا يصلح إيمانه إلاّ بالسقم و لو صححت جسده لأفسده ذلك ، و إنّ من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلاّ بالصحّة و لو أسقمته لأفسده ، و إنّي ادبر عبادي بعلمي بقلوبهم فإنّي عليم خبير(٢) .

« فإنّ اللَّه سبحانه يقول( و اعلموا أنّما أموالكم و أولادكم فتنة و أن اللَّه عنده أجر عظيم ) (٣) .

« و معنى ذلك أنّه سبحانه » سقطت كلمة « سبحانه » من ( المصرية )(٤) مع وجودها في ( ابن ميثم و ابن أبي الحديد و الخطية )(٥) .

____________________

( ١ ) الخلفاء لابن قتيبة : ١٣ .

( ٢ ) التوحيد للصدوق : ٣٩٨ ح ١ .

( ٣ ) الأنفال : ٢٨ .

( ٤ ) الطبعة المصرية : ٦٧٧ .

( ٥ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٢٤٨ ، و ابن ميثم ٥ : ٢٨٧ .

١٧٣

« يختبرهم » أي : يمتحنهم .

« بالأموال و الأولاد ليتبيّن الساخط لرزقه » في الأموال .

« و الراضي بقسمه » في الأولاد .

« و إن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم » .( فليعلمن اللَّه الذين صدقوا و ليعلمن الكاذبين ) (١) .

« و لكن لتظهر الأفعال التي بها يستحق الثواب و العقاب » لأن الجزاء على العمل لا مجرّد النيّة و مقتضى الطوية ، و إن كان هو تعالى يثيب على مجردهما تفضلا و لا يؤاخذ على صرفهما تكرّما .

« لأنّ بعضهم يحب الذكور و يكره الاناث » حتى قال تعالى( في مثلهم و إذا بُشّر أحدهم بالانثى ظلّ وجهه مسودّا و هو كظيم يتوارى عن القوم من سوء ما بُشّر به أيمسكه على هون أم يدسّه في التراب ألا ساء ما يحكمون ) (٢) .

قالوا : و لحب الناس الذكور و كراهتم للإناث و كان الواجب عليهم التسليم لمشيته تعالى شأنه قدّم عز و جل هبة الإناث على الذكور فقال .( يهب لمن يشاء إناثا و يهب لمن يشاء الذكور ) (٣) .

« و بعضهم يحبّ تثمير المال و يكره انثلام الحال » أي وقوع الخلل فيه ، قال تعالى( و إنّه لحبّ الخير لشديد ) (٤) و فسر الخير هنا بالمال .

و قال تعالى في امتحان عبيده بالمال و الولد و غيرهما( و لنبلونكم بشي‏ء من الخوف و الجوع و نقص من الأموال و الأنفس و الثمرات

_ ___________________

( ١ ) العنكبوت : ٣ .

( ٢ ) النحل : ٥٨ ٥٩ .

( ٣ ) الشورى : ٤٩ .

( ٤ ) العاديات : ٨ .

١٧٤

 و بشّر الصابرين ) (١) .

« و هذا من غريب ما سمع منه في التفسير » و لو كان قال ما روي عنهعليه‌السلام بدل ما سمع منهعليه‌السلام كان أحسن .

جعله من غريب التفسير لأنّ المتبادر من كون الأموال فتنة أنّ الانسان يطغى أن رآه استغنى ، و أنّ كثيرا من الناس يميل المال بهم إلى الشهوات كما أنّ كثيرا منهم يصعب عليهم إخراج الحقوق التي أوجب اللَّه تعالى عليهم في المال فيهلكون كما ان المتبادر من كون الأولاد فتنة أنّهم يصيرون سببا للتخلّف عن الجهاد ، و البخل عن الزكاة ، و تحصيل المال لهم من غير طريق المشروع لو ضاق عليه المشروع و لموافقة الآباء غالبا أهواء أبنائهم المهوية ، كما اتفق للزبير مع ابنه ، فقالعليه‌السلام : ما زال الزبير منّا حتى نشأ ابنه الميشوم .

و روت العامة في تفسير الآية عن بريدة : إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يخطب فجاء الحسن و الحسينعليهما‌السلام و عليهما قميصان أحمران يمشيان و يعثران ، فنزل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إليهما فأخذهما و وضعهما في حجره على المنبر و قال : صدق اللَّه تعالى( انّما أموالكم و أولادكم فتنة ) .(٢) نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان و يعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي و رفعتهما(٣) .

هذا ، و مما روي عنهعليه‌السلام من غريب التفسير غير ما مرّ أنّهعليه‌السلام قال :

الاستثناء في اليمين متى ما ذكر و لو بعد أربعين صباحا ثم تلا هذه الآية . و اذكر ربّك إذا نسيت .(٤) .

و أنّهعليه‌السلام قال : تستحب المقاربة مع أهله ليلة أول شهر الصيام لقوله

____________________

( ١ ) البقرة : ١٥٥ .

( ٢ ) التغابن : ١٥ .

( ٣ ) سنن الترمذي ٥ : ٦١٦ ح ٣٧٧٤ .

( ٤ ) الكافي ٧ : ٤٤٨ الرواية ٦ ، و الآية ٢٤ من سورة الكهف .

١٧٥

تعالى( اُحلّ لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ) . .(١) .

٥ في الخطبة ( ١٤٣ ) منها :

وَ مَا أُحْدِثَتْ بِدْعَةٌ إِلاَّ تُرِكَ بِهَا سُنَّةٌ فَاتَّقُوا اَلْبِدَعَ وَ اِلْزَمُوا اَلْمَهْيَعَ إِنَّ عَوَازِمَ اَلْأُمُورِ أَفْضَلُهَا إِنَّ مُحْدَثَاتِهَا شِرَارُهَا « و ما احدثت بدعة إلاّ ترك بها سنة » قال ابن أبي الحديد : البدعة كلّ ما لم يكن في عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فمنها الحسن كصلاة التراويح و منها القبيح كالمنكرات التي ظهرت أواخر الخلافة العثمانية و إن كانت قد تكلّفت الأعذار عنها(٢) .

قلت : صلاة التراويح أيضا من بدع ، قالعليه‌السلام ترك بها سنة ، و كيف تكون حسنة و كانت تشريعا في قبال الدين ، و إنما التشريع للَّه تعالى( ما لكم كيف تحكمون أم لكم كتاب فيه تدرسون إنّ لكم فيه لما تخيرون ) (٣) .

ما كان للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يشرّع شيئا من قبل نفسه إلاّ بوحي منه تعالى إليه ، فكيف كان لعمر الذي أفحمته مرأة في أنفها فطس في حظره جعل الصداق أكثر من خمسمائة درهم بأنّه تعالى قال .( و آتيتم إحداهن قنطاراً ) .(٤) فقال : كل الناس أفقه من عمر .

و روى سليم بن قيس الهلالي في كتابه أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام خطب فقال : قد عملت الولاة قبلي أعمالا خالفوا فيها رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله متعمّدين لخلافه

____________________

( ١ ) البقرة : ١٨٧ .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ٩ : ٩٤ .

( ٣ ) القلم : ٣٦ ٣٨ .

( ٤ ) النساء : ٢٠ .

١٧٦

ناقضين لعهده مغيّرين لسنّته ، و لو حملت الناس على تركها تفرّق عني جندي حتى أبقى وحدي و قليل من شيعتي ، و اللَّه لقد أمرت أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلاّ في فريضة و أعلمتهم أن اجتماعهم في النوافل بدعة ، فتنادى بعض أهل عسكري ممّن يقاتل معي يا أهل الاسلام لقد غيرت سنّة عمر نهينا عن الصلاة في شهر رمضان تطوّعا ، و قد خفت أن يثوروا في ناحية عسكري(١) .

و روى محمد بن علي بن بابويه عن الباقر و الصادقعليهما‌السلام : أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إنّ الصلاة بالليل في شهر رمضان في جماعة بدعة ، و صلاة الضحى بدعة ، ألا و إنّ كلّ بدعة ضلالة و كلّ ضلالة سبيلها إلى النار(٢) .

و روى محمد بن يعقوب الكليني : إنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام مر برجل يصلّي الضحى في مسجد الكوفة ، فغمز جنبه بالدرة و قال : نحرت صلاة الأوابين نحرك اللَّه(٣) .

و أما أعمال عثمان و لم قال كالمنكرات التي ظهرت أواخر الخلافة العثمانية كنفيه أبا ذر و ضربه عمارا و نهبه بيت المال لأقاربه و توليته لهم حتى يصلّوا بالناس سكارى و يصلّوا الصبح أربعا و يغنوا في الصلاة و غيرها من نظائرها فشنائع ينكرها الموحد و الملحد و المسلم و الكافر .

و أما ما قاله من تكلّف الأعذار الذي نوريهم ، فالتكلّف لعدم منكرية عداوة أبي جهل مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أقرب إلى العقول منه .

ثم جعلها في عداد البدع كصلاة التراويح في غير محله .

____________________

( ١ ) سليم بن قيس ، لا وجود له في الطبعة النجفية ، لعل المؤلف أخذه من البحار حيث ذكر المجلسي في ٩٦ : ٢٠٣ الرواية ٢١ باب ٢٤ .

( ٢ ) الفقيه للصدوق ٢ : ١٣٧ الرواية ١٩٦٤ باب ٢ .

( ٣ ) الكافي ٣ : ٤٥٢ رواية ٨ .

١٧٧

« فاتقوا البدع » روى ابن بابويه عن الصادقعليه‌السلام : من مشى إلى صاحب بدعة فوقرها فقد مشى في هدم الإسلام(١) .

« و الزموا المهيع » أي الطريق الواسع و هو طريق الاسلام ، قال تعالى( و إنّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه و لا تتبعوا السبل فتفرّق بكم عن سبيله ) . .(٢) .

« إنّ عوازم الامور أفضلها » قال ابن أبي الحديد : عوازم ما تقادم منها من قولهم « عجوز عوزم » أي مسنّة ، و يجوز أن يكون جمع عازمة بمعنى مفعول أي معزوم عليها ، أي مقطوع معلوم بيقين صحتها ، و الأول أظهر لأن في مقابلته « و ان محدثاتها » و المحدث في مقابلة القدم(٣) .

قلت : بل الظاهر أن « عوازم » محرف « قدائم » جمع قديم للتشابه الخطي بينهما ، لأن العزم في مقابل الرخصة لا المحدث ، يقال عزائم القرآن و رخصه ، ثم جمع العوزم بالعوازم كما قاله غير معلوم .

٦ الخطبة ( ٥٠ ) و من كلام لهعليه‌السلام :

إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ اَلْفِتَنِ أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ وَ أَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ يُخَالَفُ فِيهَا كِتَابُ اَللَّهِ وَ يَتَوَلَّى عَلَيْهَا رِجَالٌ رِجَالاً عَلَى غَيْرِ دِينِ اَللَّهِ فَلَوْ أَنَّ اَلْبَاطِلَ خَلَصَ مِنْ مِزَاجِ اَلْحَقِّ لَمْ يَخْفَ عَلَى اَلْمُرْتَادِينَ وَ لَوْ أَنَّ اَلْحَقَّ خَلَصَ مِنْ اَلْبَاطِلِ اِنْقَطَعَتْ عَنْهُ أَلْسُنُ اَلْمُعَانِدِينَ وَ لَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ وَ مِنْ هَذَا

____________________

( ١ ) الفقيه للصدوق ٣ : ٥٧٢ ح ٤٩٥٧ الباب ٢ .

( ٢ ) الأنعام : ١٥٣ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ٩ : ٩٤ .

١٧٨

ضِغْثٌ فَيُمْزَجَانِ فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي اَلشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ وَ يَنْجُو اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ ٢ ٤ ٢١ : ١٠١ مِنَ اَللَّهِ اَلْحُسْنى‏ ٦ ٦ ٢١ : ١٠١ أقول : رواه الكليني في ( بدع كافيه ) بإسنادين عن عاصم بن حميد عن محمد ابن مسلم عن أبي جعفرعليه‌السلام قال : خطب أمير المؤمنينعليه‌السلام فقال : أيها الناس إنّما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع و أحكام تبتدع ، يخالف فيها كتاب اللَّه ، يؤخذ من هذا ضغث و من هذا ضغث فيمزجان فيجيئان معا ، فهنا لك استحوذ الشيطان على أوليائه و نجا الذين سبقت لهم منه الحسنى(١) .

و رواه في ( روضته ) مع زيادات ، فروى عن سليم بن قيس قال : خطب عليعليه‌السلام فقال : إنّما بدء وقوع الفتن من أهواء تتبع و أحكام تبتدع ، يخالف فيها حكم اللَّه ، يتولى فيها رجال رجالا ، إنّ الحق لو خلص لم يكن اختلاف و لو أنّ الباطل خلص لم يخف على ذي حجى ، لكنّه يؤخذ من هذا ضغث و من هذا ضغث فيمزجان فيجتمعان فيجللان معا ، فهنا لك يستولي الشيطان على أوليائه و نجا الذين سبقت لهم الحسنى ، إنّي سمعت رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول :

كيف أنتم إذا لبستكم فتنة تربو فيها الصغير و يهرم فيها الكبير يجري الناس عليها و يتخذونها سنة ، فإذا غيّر منها شي‏ء قيل قد غيّرت السنّة ، و قد أتى الناس منكرا ثم تشتدّ البلية و تسبى الذريّة و تدقهم الفتنة كما تدقّ النار الحطب و كما تدقّ الرحى بثفالها ، و يتفقهون لغير اللَّه و يتعلمون لغير العمل و يطلبون الدنيا بأعمال الآخرة .

ثم أقبل بوجهه و حوله ناس من أهل بيته و خاصته و شيعته فقال : قد عملت الولاة قبلي أعمالا خالفوا فيها رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله متعمّدين لخلافه ناقضين بعهده مغيّرين لسنّته ، و لو حملت الناس على تركها و حوّلتها إلى مواضعها

____________________

( ١ ) الكافي ١ : ٥٤ رواية ١ و أيضا ٨ : ٥٨ الرواية ٢١ .

١٧٩

و الى ما كانت في عهد رسول اللَّه لتفرّق عني جندي حتى أبقى وحدي أو مع قليل من شيعتي الذين عرفوا فضلي و فرض إمامتي من كتاب اللَّه و سنّة رسوله ، أرأيتم لو أمرت بمقام ابراهيم فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول اللَّه و رددت فدك إلى ذريّة فاطمة و رددت صاع رسول اللَّه كما كان و أمضيت قطائع أقطعها النبي لأقوام لم تمض لهم و لم تنفذ و رددت دار جعفر إلى ورثته و هدمتها من المسجد و رددت قضايا من الجور قضي بها و نزعت نساء تحت رجال بغير حق فرددتهن إلى أزواجهن و استقبلت بهن الحكم ( في الفروج و الأحكام ) و سبيت ذراري بني تغلب و رددت ما قسم من أرض خيبر و محيت دواوين العطاء و أعطيت كما كان النبي يعطي بالسوية و لم أجعلها دولة بين الأغنياء و ألقيت المساحة و سويت بين المناكح و أنفذت خمس الرسول كما أنزل اللَّه عز و جل و فرضه و رددته إلى ما كان عليه و سددت ما فتح من الأبواب و فتحت ما سد منه و حرمت المسح على الخفين و حددت على النبيذ و أمرت باحلال المتعتين و أمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات و ألزمت الناس الجهر ببسم اللَّه الرحمن الرحيم و أخرجت من ادخل مع رسول اللَّه في مسجده ممن كان رسول اللَّه أخرجه و أدخلت من اخرج بعد رسول اللَّه و حملت الناس على حكم القرآن ( في ) الطلاق على السنّة و أخذت الصدقات على أصنافها و حدودها و رددت الوضوء و الغسل و الصلاة إلى مواقيتها و شرائعها و حدودها و رددت أهل نجران إلى مواضعهم و رددت سبايا فارس و سائر الامم إلى كتاب اللَّه و سنّة نبيّه ، إذن لتفرّقوا عني ، و اللَّه لقد أمرت الناس ألا يجتمعوا في شهر رمضان إلاّ في فريضة و أعلمتهم أنّ اجتماعهم في النوافل بدعة ، فتنادى بعض أهل عسكري ممن يقاتل معي : يا أهل الاسلام غيّرت سنّة عمر نهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوّعا ، و لقد خفت أن

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

إذ حاصر إسماعيل جيش عمرو، وما لبثوا أنْ هُزِموا وقُتل الكثير منهم، وأُسر منهم كثير وفر آخرون، وكان عمرو بن الليث مِن الفارِّين، ولكنَّه أُسِر ووقع ما كان عنده غنيمة بيد إسماعيل ومنها الخُرج. فلمَّا رآه مختوماً وقرأ ما كُتب عليه، أدرك ما هنالك وأنَّ الخُرج يحتوي على رسائل قوَّاده إلى عمرو، وهمَّ أنْ يفتح الخُرج ليطَّلع على الذين كتبوا تلك الرسائل، ولكنَّه بحِكمته الصائبة وتدبُّره العواقب، امتنع عن ذلك قائلاً في نفسه: لو أنَّني اطَّلعت على أسمائهم لساء ظنِّي بهم، كما أنَّهم إذا عرفوا انكشاف سِرِّ خيانتهم ونقضهم لعهودهم سوف يستولي عليهم الخوف، وقد يدفعهم ذلك إلى العصيان والثورة ومُحاولة اغتيالي أو قد يُشكِّلون مُعارضة تسعى للإخلال بالانضباط في الجيش، ويقلبون النصر إلى هزيمة مِمَّا يؤدِّي إلى مفاسد لا يُمكن تلافيها.

بناءً على ذلك أبقى الخُرج مَختوماً ثمَّ استدعى قادته وخواصَّ أصحابه، وأراهم الخُرج وعليه ختم عمرو وقال لهم: هذه رسائل كتبها بعض قادتي وأصحابي إلى عمرو يتقرَّبون إليه ويطلبون منه الأمان. أحلف أنْ أحِجَّ عشر حَجَّات إذا كنت أعلم ما في هذه الرسائل والذين كتبوه. فإذا كان ظَنِّي في أنَّهم قد طلبوا منه الأمان صحيحاً، فإنِّي أعفو عنهم، وإذا كان غير صحيح فإنِّي أستغفر الله على ظَنِّي. ثمَّ أمر بإحراق الخُرج بما فيه فأُحرق ولم يبقَ للرسائل مِن أثر.

فاستولت على كاتبي الرسائل الدهشة والحيرة، لما رأوه مِن إسماعيل مِن كرامة النفس والعفو الأخلاقي، وأحسُّوا بالراحة والاطمئنان بعد أنْ شاهدوا رسائلهم قد استحالت إلى رماد، وإنْ سِرَّهم قد قُبر إلى الأبد ولكنَّهم ندموا على ما بدر منهم، ومالوا إلى قائدهم الكريم وأحبُّوه وعزموا عزماً صادقاً مُخلصاً أنْ يبقوا على وفائهم له (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٤١

أردت أنْ أعظك فوعظتني

محمد بن المنكدر قال:

خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارَّة، فلقيت محمد بن علي وكان رجلاً بديناً وهو مُتَّكئ على غُلامين له أسودين، فقلت في نفسي: شيخ مِن شيوخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا، أشهد لأعظنَّه، فدنوت منه فسلَّمت عليه فسلَّم عليَّ وقد تصبَّب عرقاً.

قلت: أصلحك الله! شيخ مِن أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا! لو جاءك الموت وأنت على هذه الحال.

خلَّى عن الغُلامين مِن يده ثمَّ تساند وقال: (لو جاءني - والله - الموت وأنا في هذه الحال، جاءني وأنا في طاعة مِن طاعات الله تعالى أكفُّ بها نفسي عنك وعن الناس، وإنَّما كنت أخاف الموت لو جاءني وأنا على مَعصية مِن معاصي الله).

فقلت: يرحمك الله! أردت أنْ أعظك فوعظتني (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٤٢

خير لباس في كلِّ زمان لباس أهله

عن حماد بن عثمان قال:

حضرت أبا عبد الله الصادق (عليه السلام) وقال رجل: أصلحك الله! ذكرت أنَّ علي بن أبي طالب كان يلبس الخشن، يلبس القميص بأربعة دراهم وما أشبه ذلك، ونرى عليك اللباس الجديد.

فقال له:(إنَّ علي بن أبي طالب كان يلبس ذلك في زمانٍ لا يُنكر، ولو لبس مِثل ذلك اليوم شُّهِّر به؛ فخير لباس كلِّ زمان لباس أهله) (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٤٣

الإسراف مذموم مِن أيٍّ كان

كان مسلمة بن عبد الملك أحد أُمراء الجيش في حرب الروم، وعندما تولَّى عمر بن عبد العزيز الخلافة سمح لمسلمة بزيارته كلَّ يوم.

في أحد الأيَّام وصل خبر إلى الخليفة بأنَّ مسلمة يُسرف كثيراً بتهيئة الطعام، فأدَّى هذا الخبر إلى عدم ارتياح الخليفة، وصمَّم على نصيحته وإرشاده، فأمر الخليفة في أحد الأيَّام بإعداد وجبة عشاء مُخصَّصة لمسلمة، وفي تلك الدعوة أمر الخليفة طبَّاخ القصر بتهيئة أنواع مُختلفة مِن الطعام، ومنها حَساء مِن العدس والبصل والزيتون، وأمره عندما يحين وقت العشاء أنْ يُقدِّم الحَساء وبعد فترة يقدم أنواع الأطعمة الأُخرى.

لمَّا حضر مسلمة بدأ الخليفة يسأل مسلمة عن أوضاع الروم، والحرب في تلك المنطقة فأجابه، وبعد ساعتين مِن وقت العشاء أمر الخليفة الطبَّاخ بجلب العشاء وأوَّل الأطعمة المطلوبة الحَساء، وكان مسلمة جائعاً فلم يستطيع انتظار بقيَّة الطعام، فقام بأكل الحَساء وشبع، وعندما قدَّموا بقيَّة الأطعمة المُختلفة لم يستطع مسلمة الأكل بعد ذلك.

سأله عمر بن عبد العزيز: لماذا لا تأكل؟

أجاب: لقد شبعت.

قال الخليفة: سبحان الله! أنت شبعت مِن هذا الحَساء الذي كلَّفنا درهماً واحد، أما لهذه المأكولات المُختلفة، فإنَّك تصرف آلاف الدراهم! خَف الله ولا تُسرف! يجب أنْ تُعطي هذه المبالغ إلى المُحتاجين لمرضاة الله.

وقد كانت نصيحة عبد العزيز لمسلمة مؤثِّرة طول حياته.

إنَّ تقديم النُّصح عَلناً والإشارة إلى الأخطاء أمام الناس، وتوبيخ الخاطئ على ما

٣٤٤

فعل وتخطئته على رؤوس الأشهاد، وانتظار زلاَّته في حضور الآخرين، إنَّما هو في الحقيقة تحطيم لشخصيَّته، ومثل هذا النُّصح - فضلاً عن كونه لا يأتي بأيِّ أثر مُفيد فإنَّه - يبعث على العداوة والبغضاء، ويُثير الرغبة في الانتقام وتكون له نتائج ضارَّة (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٤٥

التعليم الذكي

الحسن والحسين (عليهما السلام) مرَّا على شيخ يتوضَّأ ولا يُحسن. فتظاهرا بالتنازع يقول كلُّ واحدٍ منهما للآخر: (أنت لا تُحسن الوضوء).

فقالا: (أيُّها الشيخ كُنْ حكماً بيننا، يتوضَّأ كلُّ واحدٍ منَّا)، فتوضَّآ.

ثمَّ قالا: (أيُّنا يُحسن؟).

قال: كلاكما تُحسنان الوضوء، ولكنَّ هذا الشيخ الجاهل - يعني نفسه - هو الذي لم يكن يُحسن، وقد تعلَّم الآن منكما، وتاب على يديكما وببركتكما وشفقتكما على أُمَّة جَدِّكما.

لم ينتقد الحسنان (عليه السلام) الشيخ انتقاداً مُباشراً، ولم يُجابهاه بجهله بطريقة الوضوء الصحيحة، ولم يذكرا وضوءه بسوء أو يصفاه بالبطلان، بلْ أجريا الوضوء بنفسيهما مُحتكمين إليه ليجلب انتباهه إلى كيفيَّة وضوئهما، بحيث يُدرك بطريقة غير مُباشرة خطأ وضوئه؛ فكان مِن نتيجة ذلك الانتقاد المؤدَّب العقلاني أنْ اعترف الشيخ بخطئه صراحة، وتعلَّم طريقة الوضوء الصحيحة وشكر لهما راضياً شفقتهما ومحبتهم (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٤٦

تحتقر الكلام وتستصغره؟!

عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنَّه قال وقد كلَّمه رجل بكلام كثير:

(أيُّها الرجل، تحتقر الكلام وتستصغره!

اعلم أنَّ الله عَزَّ وجَلَّ لم يبعث رُسله، حيث بعثها ومعها ذهب ولا فضَّة، ولكنْ بعثها بالكلام، وإنَّما عُرِف الله جَلَّ وعَزَّ نفسه إلى خلقه بالكلام والدلالات عليه والأعلام).

هنا أيضاً لم يقل الإمام شيئاً عن الرجل الثرثار، ولم يجعله هدف انتقاده مُباشرةً، كما لم يُشر بشيء إلى ثرثرته، ولا انتقد فيه هذه الصفة المذمومة انتقاداً مُباشراً، بلْ اكتفى بذكر قيمة الكلام وأهميَّته وأنَّه ينبغي ألا يستصغر شأن الكلام، وألا يهدر رأسماله الثمين هذا عبثاً بحَقٍّ وبغير حَقٍّ.

وحثَّه على استثمار موهبته في الحالات المُقتضية وبالقدر اللازم، وهكذا انتقد الإمام بشكل مؤدَّب وحكيم وغير مُباشر ثرثرة الرجل (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٤٧

مُعاوية يأمر بسبِّ عليٍّ (عليه السلام) على المَنابر

عندما بدأ مُعاوية حُكمه على أرض الإسلام الواسعة، أمر بسبِّ علي بن أبي طالب في أرجاء البلاد، فارتكب بعمله الظالم والقذر هذا إثماً كبيراً لا يُغتفر، وكان بذلك يرمي إلى الإساءة إلى سُمعة الإمام، وحمل الناس على إساءة الظَّنِّ بالإمام وانتزاع مَحبَّته مِن قلوب الناس، ومحو دلائل عدالته ووقوفه بوجه الظلم مِن ذاكرتهم، وبذلك يُغطِّي مِن جهة وصمات العار وسوء السُّمعة التي تلطِّخ اسم مُعاوية وآل أُميَّة، وتكون له مِن جِهة أُخرى حُرِّيَّة إطلاق يده في الظلم والجور، دون أنْ يُقارن أحد بين حكومته وحكومة الإمام عليِّ (عليه السلام) مِن حيث ظلمه وعدل عليٍّ..

ولكي يعمل على الإسراع في انتشار سبِّ الإمام في إرجاء البلاد؛ أمر جميع كبار الضبَّاط وكبار أعضاء الحكومة في أنحاء البلاد أنْ يُنفِّذوا ذلك عن طريق ذكر اسم الإمام عليٍّ بالسوء في جميع المحافل والمجالس، وأن يقوم أئمَّة الجمعة في خُطب صلاتهم بسبِّه على المنابر، وطلب إلى الشعراء أنْ ينظموا القصائد في هَجوه وينشروها بين الناس، وهكذا جَنَّد جميع موظَّفي الدولة لتنفيذ هذه الخُطَّة دون هواد، بحيث يتعوَّد الناس على سبِّ عليِّ بن أبي طالب، وكأنَّه جزءٌ مِن تكاليفهم الشرعيَّة وبموازاة سَبِّ الإمام عليٍّ وشتمه خطَّط لقمع حركة التشيع ونفذه.

بدأ - أوَّلاً - بإلقاء القبض على أخلص أصحاب الإمام المعروفين، والثابتين على الولاء له، والمشهورين بالتقوى ومِن خيرة تلامذة مدرسة الإسلام، أهانهم وحطَّ مِن كراماتهم، وقتل بعضهم شرَّ قتلة، وعذَّب بعضهم عذاباً مُبرحاً حتَّى الموت، وألقى ببعض في غياهب السجون.

وبهذه الجرائم المُنكَرة المُتَّسمة بالإرهاب خَلَق جَوَّاً مِن الرُّعب والخوف، بحيث لم يعد أحد يَجرؤ على أنْ يُجاهر بولائه للإمام علي، ويتحدَّث عن فضائله أو أنْ

٣٤٨

ينبري لتفنيد افتراءات مُعاوية ومأجوريه دفاعاً عن الإمام. وبقي الحال على هذا المنوال خلال حُكم مُعاوية.

وبعده واصل عدد مِن خُلفائه السيرة نفسها في الاستمرار على سبِّ الإمام علي. وظلَّ هذا الإثم الكبير شائعاً في طول البلاد وعرضها مُدَّة نِصف قَرن أو أكثر، دون أنْ يستطيع الناس الأخيار المؤمنون مُكافحته، وانتقاد تلك البِدعة الشائنة التي وضع مُعاوية لُبنته.

وفي سنة (٩٩) هِجريَّة تسلَّم الخلافة عمر بن عبد العزيز، وأصبح قائد البلاد الإسلاميَّة لقد كان في شبابه - عندما كان يدرس في المدينة - مثل سائر المخدوعين يذكر عليَّاً بالسوء، ولكنَّه عرف الحقيقة مِن أحد العلماء، وأدرك منه أنَّ سَبَّ تلك الشخصيَّة خلاف للشرع وموجب لغضب الله تعالى، غير أنَّه لم يكن قادراً على بيان ذلك للناس لمنعهم مِن الذنب الذي يرتكبونه، وعندما تربَّع على كرسيِّ الخلافة قرَّر أنْ يستفيد مِن منصبه لإزالة تلك الوصمة مِن جَبين البلاد، بمنع سَبِّ الإمام عليٍّ (عليه السلام).

ولكنَّه لكيلا يتعرَّض في مُهمَّته لمُعارضة المُتعصِّبين مِن بني أُميَّة وأصحابه الأنانيِّين، فلا يقيمون عَقبة في طريقه قرَّر أنْ يُفاتحهم في الأمر، لكي يُهيِّئهم له ويلفت أنظارهم إلى ضرورة التعاون معه في غسل ذلك العار، فوضع لذلك خُطَّة استخدم فيها طبيباً شابَّاً يهوديَّاً كان في الشام، فاستدعاه سِرَّاً وأطلعه على تفاصيل خُطَّته، وطلب إليه الحضور إلى قصر الخلافة في يوم وساعة مُعينين لينفذ الخُطَّة.

وقبل اليوم المُحدَّد أرسل إلى كبار شخصيَّات بني أُميَّة وذوي النفوذ في الشام، للحضور في ذلك اليوم عند الخليفة. وفي الساعة المُحدَّدة دخل الطبيب اليهوديِّ بعد الاستئذان، فأثار دخوله انتباه الحاضرين جميعاً.

سأله الخليفة عن سبب حضوره؟

فقال: إنَّه جاء يخطب ابنة الخليفة.

٣٤٩

سأله عمر: لمَن تخطبها؟

قال: لنفسي.

فبُهِت الحاضرون وراحوا ينظرون إليه باندهاش.

نظر إليه عمر وقال: ليس لي أنْ أوافقك على طلبك، فنحن مسلمون وأنت لستَ مسلماً، ومثل هذا الزواج غير جائز في الإسلام.

فقال الطبيب اليهودي: إذا كان هذا هو حُكم الإسلام، فكيف زوج نبيَّكم ابنته عليَّاً (عليه السلام)؟

فغضب الخليفة وقال له: عليٌّ (عليه السلام) كان مِن كبار المسلمين.

فقال اليهودي: إذا كنتم تعتبرونه مسلماً، فلماذا - إذن - تلعنونه وتسبُّونه في المجالس؟! فالتفت عمر إلى الحاضرين وقد بدا التأثُّر على ملامحه وقال لهم: أجيبوا على سؤاله.

سكت الجميع وأطرقوا برؤوسهم خَجلاً، وخرج الطبيب اليهودي دون أنْ يحظى بجواب (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٥٠

أيُّهما أفضل عليٌّ أم مُعاوية؟!

لمَّا وَلِي عمر بن عبد العزيز استعمل ميمون بن مهران على الجزيرة. واستعمل ميمون بن مهران على (قرقيس)) رجلاً يُقال له: (علاثة). فتنازع رجلان فقال أحدهما: مُعاوية أفضل مِن عليٍّ وأحقُّ. وقال الآخر: عليٌّ أولى مِن مُعاوية.

فكتب عامل (قرقيس) إلى ميمون بن مهران بذلك، فكتب ميمون بن مهران إلى عمر. فكتب عمر إلى ميمون بن مهران أنْ اكتب إلى عامل (قرقيس) أنْ أقم الرجل الذي قدَّم مُعاوية على عليٍّ بباب المسجد الجامع فاضربه مئة سوط، وانفه مِن البلد الذي هو به. فأخبر مَن رآه وقد ضرب مئة سوط وأخرج مُلبَّباً (أي: مأخوذاً بتلابيبه) حتَّى أُخرج مِن باب يُقال لها: باب الدين.

يبدو أنَّ عمر قد أدرك أنَّ الجدل في أفضليَّة مُعاوية كان خُطَّة جديدة للمُعاندين، وأنَّهم مِن هذا الطريق يُريدون أنْ ينالوا مِن مقام الإمام علي الشامخ، وأنْ يُسيئوا إليه ليُعيدوا السبَّ والشتم إلى الوجود بصورة أُخرى ويواصلوا أُسلوبهم الخبيث الظالم. إلاَّ أنَّ خليفة المسلمين أدرك سوء نيَّتهم هذه، فأحبط خُطَّتهم بأمره الصريح القاطع (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٥١

التغاضي عن سفاسف الأُمور

حُكي أنَّ بهرام الملك خرج يوماً للصيد فانفرد عن أصحابه، فرأى صيداً فتبعه طامعاً في لحاقه حتَّى بَعُد عن عسكره، فنظر إلى راعٍ تحت شجرة فنزل عن فرسه لحاجة، وقال للراعي: احفَظ عليَّ فرسي حتَّى أعود، فعَمد الراعي إلى العنان - وكان مُلبَّساً ذهباً كثيراً - وأخرج سكِّيناً فقطع أطراف اللجام وأخذ الذهب الذي عليه.

نظر بهرام نظرة إليه فرآه، فغضَّ بصره وأطرق برأسه إلى الأرض، وأطال الجلوس حتَّى أخذ الرجل حاجته.

ثمَّ قام بهرام فوضع يده على عينيه وقال للراعي: قَدِّم إليَّ فرسي، فإنَّه قد دخل في عيني مِن سافي الريح فلا أقدر على فتحهما، فقدَّمه إليه فركب وسار إلى أنْ وصل عسكره فقال لصاحب مراكبه: إنَّ أطراف اللجام قد وهبتها فلا تتَّهمَنَّ بها أحداً.

هذا الراعي لم يكن سارقاً مُحترفاً، كما أنَّ ذلك المقدار مِن الذهب لم يكن ذا قيمة عند بهرام، فلو أنَّه كان قد أظهر علمه بما فعل الرجل وأمر عند عودته بالقبض عليه، واسترجاع الذهب منه ومُعاقبته على السرقة؛ لكان في ذلك تصغير لشخصه بالإضافة إلى تحطيم كرامة الراعي. ولكنَّه بهذا التغافل والتغاضي أخفى سِرَّ الراعي كما رفع مِن قيمة نفسه الإنسانيَّة وكرم أخلاقه (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٥٢

مُديرٌ حكيم

قبل سنوات كان هناك شخص قدير، يُدير إحدى شركات التصدير الكُبرى ذات الفروع في عدد مِن المُدن، وكان كلُّ سنة في موسم الشراء يُحوِّل إلى كلِّ فرع ما يحتاجه مِن الأموال، أُخبر هذا المدير يوماً بأنَّ مُحاسب الفرع الفلاني قد استغلَّ مركزه واختلس بعض الأموال المُرسلة إليه لشراء البضاعة.

لم يكن ذلك الفرع يبعُد كثيراً عن المركز، فقرَّر المدير أنْ يزوره في اليوم التالي، وطلب مِن مدير مكتبه أنْ يصحبه، وفي اليوم التالي سافرا إلى تلك المدينة ووصلاها عند الضحى، ودخلا على مُحاسب فرع الشركة مُباشرة دون إخبار أحدٍ.

وعندما سأل المُدير المُحاسب عن الوضع المالي في فرعه، فتح هذا دفتره أمام المُدير فوجد المُدير أنَّ الموجود في المصرف يقرب مِن ٩٥% مِن المبلغ المُحوَّل إليه، بالإضافة إلى عدد مِن قوائم الشراء ومبلغٍ نقديٍّ في الصندوق.

عندما أخذ المُحاسب يحسب النقود في الصندوق قال له المُدير: هذا يكفي.

ثمَّ أثنى على نشاطه وصافحه وخرج مِن الشركة.

يقول مُدير المكتب الفرعي: في الطريق قلت للمُدير: إنَّ المبلغ الذي كان في الصندوق لم يكن يكفي لتسديد الحساب؛ فلو أنَّك تمهَّلت حتَّى يُنهي الحساب لعلمت أنَّ رصيد الصندوق ناقص.

قال المدير: لقد عرفت أنَّ ما في الصندوق لا يكفي لتسديد الرصيد، ولكنَّ سُمعة موظفٍ مُحترمٍ في الشركة أغلى بكثير مِن هذا المبلغ الزهيد. إنَّني أوقفت عَدَّ النقود؛ لئلا ينكشف أمر المُحاسب وتُهان كرامته. إنَّني ما سافرت إلاّ لأنَّي كنت قلقاً على مصير عِدَّة ملايين مِن أموال الشركة، فكنت أُريد أنْ أتحقَّق مِن الأمر بنفسي، وأتعرَّف على وضع الفرع المالي بأسرع ما يُمكن. وقد ظهر لي بمراجعة

٣٥٣

الحسابات أنَّ أموال الشركة لم يُصبها ضرر يُذكر. وهذا العجز البسيط في الصندوق ليس دليلاً على خيانة المُحاسب فلرُبَّما اضطرَّ إلى استقراضه ليُسدِّد مصاريف وضع حمل زوجه، أو لمرض ابنه، أو لدفع إيجار بيته. فكان لا بُدَّ مِن التغافل عن ذلك للمُحافظة على ماء وجهه، ولستُ أشكُّ في أنَّه سوف يُسدِّد ما عليه في أوَّل فُرصةٍ تُتاح له، ولن يعود لمِثلها بعد ذلك ولن يُخاطر بتشويه سُمعته (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٥٤

إذا أكرمت اللئيم تمرَّد

استعمال مكارم الأخلاق يكون مع الأشخاص الذين يستحقُّون ذلك، فالوضيعون الذين تزيدهم العِفَّة جُرأة على ارتكاب السيِّئات، ليسوا جديرين بالعفو مِن جانب الكُرماء ذوي النفوس الرفيعة.

كذلك التغافل والتغاضي مِثل مكارم الأخلاق، يجب أنْ يوضعا في محلِّهما عند مَن يستحقَّهما، فإذا أراد أحد إساءة استغلال ذلك وأوغل في ارتكاب أعماله السيِّئة؛ فلا يجوز التغافل عنه، بلْ يجب أنْ يُصارح بسوء عمله ويؤاخذ ويُعاقَب عليه. وهذا ما فعله الرسول الكريم بحقِّ الحَكم بن أبي العاص الذي كان مِن كبار المُنافقين:

في سنة فتح مَكَّة استسلم الحَكم بن أبي العاص بسبب قُدرة المسلمين في ذلك الوقت، ولكنَّه كان يؤذي الرسول بأساليب مُختلفة، فبعض الأحيان كان يتجسَّس على النبي ويُخبر بذلك أعداءه، حيث كان يتجسَّس على الأماكن التي كان يقطنها الرسول مع عائلته ويسمع ما يتكلَّمون به، ويُخبر به المُنافقين بصورة سُخريَّة واستهزاء. بعض الأحيان كان يمشي وراء الرسول الأكرم مع جماعة مِن المُنافقين، ويسخر مِن مشية الرسول بتحريك رأسه ويده. وكان الرسول عارفاً بأقوال وتصرُّفات الحَكم بن أبي العاص، وكان يغضُّ النظر عنه؛ وذلك أنَّ الرسول يأمل أنْ يأتي يوم يُغيِّر هذا الرجل فيه تصرُّفاته القبيحة، ولكنَّ الرسول رأى منه عكس ذلك؛ حيث ازدادت جسارته على الرسول فصمَّم الرسول على تغيير أُسلوبه معه.

في أحد الأيَّام كان الرسول عابراً، فلاحظ الحَكم بن أبي العاص خلفه يسخر منه بَحكَّة رأسه ويده، وفجأة التفت الرسول الأكرم إليه وقال:

(كذلك فلتكُن، يا حَكم)، فلم ينتبه الحَكم بن أبي العاص لكلام الرسول فأُصيب

٣٥٥

بضبَّة في روحه وأعصابه، اعترته الرعشة والحركات المُضحكة، وقد حَكم عليه بالإقامة الجبريَّة بالطائف وأُبعد عن المدينة (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٥٦

فِطنة أديب

كان يعيش في عصر الحَجَّاج بن يوسف رجل عالم وأديب اسمه (قبعثري) كان يوماً مع أصحاب له في جلسة أُنس في بعض البساتين خارج المدينة. وخلال تبادل الحديث جاء ذكر الحَجَّاج، فعرَّض به قبعثري في كلامه كناية مُظهراً عدم رضاه عنه، فوصل هذا إلى سمع الحَجَّاج؛ فعزم على مُعاقبته على التعريض به.

استحضره وقال له مُحتدَّاً: لأحملنك على الأدهم، أي: سأسجنك وأضع القيد في رجليك، (للأدهم في العربية معانٍ كثيرة، منها: تقييد الرجلين، ومنها الفرس الأسود).

أدرك قبعثري الأديب الأريب قصد الحَجَّاج، وعرف أنَّه يُهدِّده بالقيد والسجن، ولكنَّه لتجنُّب الخطر تغافل عن هذا المعنى ولم يُبدٍ أنَّه فهم المُراد، بلْ أظهر أنَّه فهم مِن (الأدهم) أنَّه يقصد الفرس الأسود، ولذلك قال له باسماً: مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب. أي أنَّ الأمير بما له مِن مقام كبير وقُدرة عظيمة قادر على أنْ يشمل الناس بعطفه وكرمه، فيرسلهم إلى أهليهم على الخيول السود والشهب.

فقال الحَجَّاج توضيحاً لقوله: أردت الحديد. وكان مِن باب المُصادفة أنَّ للحديد في العربيَّة معاني متعددة، منها: القيد، ومنها الذكاء والفطنة. فتغافل قبعثري مَرَّة أُخرى عن المقصود الحقيقي وقال: الحديد خير مِن البليد. قاصداً أنَّ الفرس الذكي خير مِن الفرس البليد.

لقد قلب قبعثري بهذا التغافل الأدبي الذي قلَّ نظيره - والذي مزجه بالتكريم والاحترام - الموقف رأساً على عقب؛ مِمَّا أطفأ نار غضب الحَجَّاج وأنقذه مِن السجن والحديد، بلْ استجلب رضى الحَجَّاج وعطفه؛ فلم يبخل عليه بعطيَّته (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٥٧

تغافل في مَحلِّه

كان هارون الرشيد يخرج إلى الصيد، وفي أحد المَرَّات وصل إلى بُستان معمور فسأل: لمَن هذا البُستان؟

قالوا: هو لرجل مجوسيٍّ.

فقال: أُريد هذا البستان، ولا بُدَّ مِن شرائه.

فقال الوزير: قد كلَّمناه في هذا الأمر عِدَّة مَرَّات فلم يوافق.

فقال هارون الرشيد: ما العمل حتَّى يصبح هذا البُستان مِن أملاكي؟

قال الوزير: نقول له: إنَّ الخليفة نزل في بُستانك، ونسأله لمَن هذا البستان؟

سوف يقول: إنَّه لحضرة الخليفة هارون الرشيد، وسوف نعتبر هذه الجُملة مُستمسكاً ونُعطيه المبلغ مع بعض جوائز.

وافق هارون على ذلك، ثمَّ نزل هارون في ذلك البُستان وبعد فترة جاء المجوسيُّ وأدَّى التحيَّة باحترام. وعندما سأله هارون: لمَن هذا البستان؟

قال: كان ملك أبي واليوم أصبح ملكي، ولا أعرف غداً لمَن يكون؛ فأثَّر كلام المجوسيِّ في نفس هارون الرشيد.

قال: إنَّك حفظت بُستانك بهذا الكلام وقد غلبتنا بالحيلة.

كان المجوسيُّ عارفاً بالآداب والأعراف، ويعلم أنَّه عندما يسأل هارون لمَن هذا البستان؟ يجب أنْ يُقال له: إنَّه لخليفة المسلمين. ولكنَّه تغافل عمَّا يعلم وأظهر أنَّه لا علم له بما جرت عليه العادة. وعلى أثر هذا التغافل المؤدَّب، الذي جاء في محلِّه أمكن حَلُّ المُشكلة، واستفاد المُتغافل مِن نتيجة تغافله الإيجابيِّ المُفيد (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج١.

٣٥٨

إنَّما الطاعة في المعروف ولا طاعة في معصية

جهَّز رسول الله جيشاً لإحدى حُروبه وعيَّن قائداً للجيش، وأمر الجنود بإطاعته وتنفيذ أوامره.

قام هذا القائد في بداية مسيره بتجربة غريبة، ربَّما لكي يعرف مدى طاعة جنوده له، أو ليعلم درجات إدراكهم، أو لأيِّ هدفٍ آخر حيث أمر بنار فأُضرمت، ثمَّ أمرهم أن يُلقوا بأنفسهم فيها.

راح بعض الجنود يتهيَّأون لتنفيذ الأمر، ورأى آخرون أنَّ هذا الأمر غير صحيح ورفضوا إطاعته فيه.

فقال لهم شابٌّ: لا تعجلوا حتَّى تأتوا رسول الله، فهو إنْ أمركم أنْ تدخلوها فادخلوها، فأتوا رسول الله فقال لهم: (لو دخلتموها ما خرجتم منها أبداً. إنَّما الطاعة في المعروف ولا طاعة لمخلوقٍ في معصيته للخالق) (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج٢.

٣٥٩

لا يستهوينَّكم الشيطان لعنه الله

يقول ابن شهر آشوب: بعد أنْ صمَّم مُعاوية على القيام ضِدَّ الإمام عليٍّ خطر له أنْ يختبر أهل الشام؛ ليعرف مدى طاعتهم لأوامره، فاقترح عليه عمرو بن العاص طريقة لإجراء هذا الاختبار قائلاً له: اصدر أمرك إلى الناس بأنَّ عليهم أنْ يذبحوا القَرع كما يذبحون الشاة، فيذكُّوه قبل أنْ يأكلوه، فإذا أطاعوك فثق بتأييدهم وإسنادهم لك، وإلاّ فلا.

أصدر مُعاوية أمره بذلك فأطاعه الناس دون أيِّ اعتراض، وانتشرت هذه البِدعة الأموي في أرجاء الشام.

وسُرعان ما وصل خبر تلك البِدعة إلى أسماع أهل العراق، وراح الناس يتساءلون عن ذلك. فسُئل أمير المؤمنين عن القرع يذبح؟

فقال: (القَرع ليس يُذكَّى؛ فكلوه ولا تذبحوه ولا يستهوينَّكم الشيطان لعنه الله).

إنَّ المسلمين الذين أطاعوا أمر مُعاوية غير المشروع يومئذٍ، ونفَّذوه على مُخالفته أمر الله، هُمْ أشبه بذلك الفئة مِن أهل الكتاب الذين حَرَّم عليهم أحبارهم ورُهبانهم ما أحلَّ الله، وحلَّلوا لهم ما حرَّم الله، فكانوا يُطيعونهم إطاعة عمياء فيُشركون وهُمْ جاهلون (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج٢.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421