القصص التربوية

القصص التربوية18%

القصص التربوية مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 421

القصص التربوية
  • البداية
  • السابق
  • 421 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 347783 / تحميل: 10131
الحجم الحجم الحجم
القصص التربوية

القصص التربوية

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

والمستفاد من خبر الحسين بن أبي حمزة الثمالي ثابت بن دينار عند ما قصد زيارة الحسين (عليه السّلام) قادماً من الكوفة لأواخر عهد الدولة الاُمويّة ذكر باب الحائر وكرّر لفظه، بينما ابن اُخته الحسين اقتصر على ذكر القبر دون إيراد لفظ الباب(1) .

ومن الممكن إن لم يكن يقصد بالباب حدود حومة الحائر وجود بناء على سبيل الإجمال على التربة الطاهرة، وكلاهما يصرّخان إنّهما كانا على خوف ووجل من القتل، وصرح ابن الثمالي بوجود المسلحة المطوّقة للحفرة الطاهرة من الجند الاُموي للحيلولة دون مَنْ يؤم قصده.

كان لحركة الشيعة في استعراضهم لجند الشام بعين الوردة بزعامة سليمان بن صرد الخزاعي واستماتتهم بطلب ثأر الحسين (عليه السّلام)، وإعادتهم الكرّة تحت لواء إبراهيم الأشتر، واستقصائهم للجندي الاُموي مع زعيمهم ابن زياد، مستهونين غير محتفين بكلّ ما سامهم معاوية من خطوب وخسف، وما أذاقهم من مرّ العذاب وصنوف التنكيل بغارات بسر بن أرطأة، وصلب وقتل وسمل في ولاية زياد بن أبيه وسمرة بن جندب وابن زياد، ممّا خلف أثراً عميقاً سيئاً في نفوس آل مروان ودويّاً هائلاً.

فبعد أن تسنّى لعبد الملك بن مروان وصل حلقات فترة الحكم الذي دهم دور حكم آل أمية بموت يزيد بإقصائه آل الزبير عن منصّة الحكم والإمرة، أراد أن يستأصل الثورة من جذورها؛ لذلك اتّبع سياسة القسوة والشدّة تجاه أهل العراق، وضغط ما لا مزيد عليه لمستزيد، خصوصاً في ولاية الحجاج بن يوسف.

ونهج خلفاؤه عين خططه دون أيّ شذوذ مع تصلّب بالغ؛ كابن هبيرة،

____________________

(1) يقول في خبر طويل بعد أن نزل الغاضرية وقد أدركه الليل، وهدأت العيون ونامت، أقبل بعد أن اغتسل يريد القبر الشريف يقول: حتّى إذا كنت على باب الحير... وساق في خبره وقد كرّر لفظ الباب حيث يقول بعد ذلك: فلمّا انتهيت إلى باب الحائر... (إقبال الأعمال - لابن طاووس / 28)، ومجلد المزار من بحار الأنوار 22 / 120.

٦١

وخالد بن عبد الله القسري، ويوسف بن عمر.

فترى ممّا تقدّم أنّ من المستحيل إفساحهم المجال بأن يُشيّد بناء على قبر الحسين (عليه السّلام)، ويكون موضعاً للتعظيم والتقدير؛ ممّا يتنافى وسياستهم المبنية على الكراهية لآل البيت (عليهم السّلام) والتنكيل بشيعتهم.

وإن سلّمنا بتحقق خبر الحسين بن أبي حمزة الثمالي على سبيل استدراك الورود لفظ الباب، من الممكن أن نقول: أي وجود بناء في الفترة بين سنة أربع وستين لإحدى وسبعين، ونلتزم بتغاضي المروانيين من التعرّض لهم، وبقائه ليوم ورود الحسين ابن بنت أبي حمزة الثمالي لزيارة الضريح الأقدس.

وورد خبر لا يوثق به ولا يعوّل عليه من أنّ المختار بن أبي عبيدة الثقفي بنى على القبر الشريف وأقام حوله قرية(2) .

وقيل: إنّ سكينة بنت الحسين (عليه السّلام) أقامت بناء على الرمس الأقدس أمد اقترانها بمصعب في ولايته للكوفة، ففي أمد الفترة لسنة ست وستين عندما أمَّ التوّابون (عند مسيرهم للتلاقي مع جند عين الوردة) التربة الزاكية، وازدحموا على القبر

____________________

(1) جاء في مزار بحار الأنوار - للمولى محمّد باقر المجلسي / 120 ما نصه: (عن الحسين ابن بنت أبي حمزة الثمالي قال: خرجت في آخر زمان بني مروان إلى قبر الحسين (عليه السّلام) مستخفياً من أهل الشام حتّى انتهيت إلى كربلاء، فاختفيت في ناحية القرية، حتّى إذا ذهب من الليل نصفه أقبلت نحو القبر، فلمّا دنوت منه... حتّى كاد يطلع الفجر أقبلت... فقلت له عافاك الله، وأنا أخاف أن أصبح فيقتلوني أهل الشام إن أدركوني ها هنا... وصلّيت الصبح وأقبلت مسرعاً مخافة أهل الشام.

(2) ذكر هذا القبر صاحب كنز المصائب دون إسناد، وفضلاً عن ذلك فإنّ هذا الكتاب لا يُعتمد عليه كثيراً؛ لِما حُشي متنه من الأخبار الغير واردة.

وقد ذكر هذا الخبر عند سرده لما دار بين المختار ومصعب بن الزبير، وعدد المواقع التي دارت بينهم والتي انتصر في جميعها المختار، =

٦٢

كازدحام الناس على الحجر الأسود(1) .

لم يكن حينذاك ما يظلل قبره الشريف أيّ ساتر، واستقصوا أمد البقية من الفترة، المختار بن أبي عبيدة الثقفي، ومصعب، وابن أخيه حمزة؛ فالأخبار الواردة في زيارة الحسين (عليه السّلام) عن السجّاد علي، والباقر(2) محمّد بن علي (عليه السّلام) (لكونهما قضيا حياتهما في الدولة المروانية) يشفان عن خوف ووجل.

وممّا يؤيد وجود بناء بسيط (بل له بعض الشأن) على القبر الشريف في زمن ورود الحسين ابن بنت أبي حمزة للزيارة، ما جاء من الألفاظ في الزيارات الواردة عن الصادق (سلام الله عليه) لجدّه الحسين (عليه السّلام)(3) ، حيث يقول في خبر: «... بعد الغسل بحيال قبره الشريف في الفرات، فتتوجه إلى القبر حتّى تدخل الحير من جانبه الشرقي، وتقول:...، ثمّ إذا استقبلت القبر...، ثمّ اجلس عند رأسه الشريف...، ثمّ تحوّل عند رجليه...، ثمّ تحوّل عند رأس علي بن الحسين...، ثمّ تأتي قبور الشهداء»(4) .

وفي خبر المفضل بن عمر عن الصادق (سلام الله عليه): «إذا أتيت باب الحير

____________________

= وهزيمة مصعب، إلى أن تمكّن مصعب من المختار آخر الأمر.

وإذ لم ترد مثل هذه الأخبار في الكتب التأريخية - والمعروف بل المحقّق أنّه لم يكن بين المختار ومصعب من مواقف سوى ما كان بالمذار، ثمّ تحصّن المختار بقصر إمارة الكوفة إلى أن قُتل -؛ لذا قلّ الاعتماد على ما ورد في هذا الكتاب من قيام المختار بتشييد قبر الحسين (عليه السّلام)، وإن كان المحلّ مناسب لإعطاء مثل هذه النسبة له.

كيف لا وقد قام المختار بأخذ ثأر الحسين (عليه السّلام)، وقتل قاتليه وصلبهم، وأحرق بعضهم بالنار؟ فلا يبعد من أن يقوم بتشييد قبره الشريف، إلاّ أنّنا نحكم بوقوع مثل هذا الأمر وجداناً لا استناداً على ما ورد في هذا الكتاب؛ للأسباب السالفة.

(1) تاريخ الطبري 7 / 70، وكان ذلك سنة 65 هـ.

(2) مجلد المزار 22 / 110.

(3) فقد توفي الصادق (عليه السّلام) سنة 148، والثمالي توفي في زمن المنصور.

(4) مجلد المزار / 145.

٦٣

فكبر الله أربعاً، وقل:...»(1) .

وفي خبر ابن مروان عن الثمالي عند آخر فصول الزيارة يقول: ثمّ تخرج من السقيفة وتقف بحذاء قبور الشهداء وتومئ إليهم، وتقول:...(2) .

وفي خبر صفوان الجمّال عن الصادق (عليه السّلام) يقول: «فإذا أتيت باب الحائر فقف... وقل:... ثمّ تأتي باب القبة وقف من حيث يلي الرأس، وقل:...، ثمّ اخرج من الباب الذي عند رجلي علي بن الحسين (عليه السّلام) وقل:...، ثمّ توجه إلى الشهداء وقل:...»(3) .

وفي خبر آخر عن صفوان يقول: «فإذا أتيت الباب فقف خارج القبة وارم بطرفك نحو القبر وقل:...، ثمّ ادخل رجلك اليمنى القبر وأخّر اليسرى، ثم ادخل الحائر وقم بحذائه وقل:...»(4) . وهذا ما يدلّك على أنّ له باباً شرقيّاً وغربيّاً.

فخلاصة القول: إنّ المستفاد من هذه الزيارات هو وجود بناء ذو شأن على قبره في عصر الصادق (سلام الله عليه).

ومع هذا فقد كان الاُمويّون يقيمون على قبره المسالح لمنع الوافدين إليه من زيارته، ولم يزل القبر بعد سقوط بني اُميّة وهو بعيد عن كلّ انتهاك؛ وذلك لانشغال الخلفاء العباسيِّين بإدارة شؤون الملك، ولظهورهم بادئ الأمر مظهر القائم بإرجاع سلطة الهاشميِّين، وهو غير خفي أنّ القائمين بالدعوة كانوا من أهل خراسان، وأكثر هؤلاء إن لم نقل كلّهم كانوا من أنصار آل البيت (عليهم السّلام).

ولمّا رسخت قدم العباسيِّين في البلاد، وقمعوا الثورات جاهروا بمعاداة شيعة علي (عليه السّلام)، ولكنّها كانت خفيفة الوطأة أيام السفّاح، فتوارد الزائرون

____________________

(1) المصدر نفسه / 148.

(2) المصدر نفسه / 105.

(3) المصدر نفسه / 159.

(4) المصدر نفسه / 179.

٦٤

لقبر الحسين (عليه السّلام) من شيعته عند سنوح هذه الفرصة جهاراً، واشتدّت الوطأة أيام المنصور بوقيعته بوجوه آل الحسن(1) ، وخفّت ثانية في أيام المهدي والهادي.

فلمّا كانت أيام الرشيد(2) ، وكانت قد استقرّت الأوضاع، وثبتت دعائم الحكم، وقضت على ثورات العلويِّين بما دبّرته من طرق الغدر والخيانة، فأرغمت أنوفهم الحمية، وأخمدت نفوسهم الطاهرة، فأرادت القضاء عليهم في محو قبور أسلافهم، فسلكوا سلوك بني اُميّة؛ إذ أمر الرشيد بهدم قبره الشريف ومحو أثره، فأخذت الشيعة الوسائط بالاهتداء إلى تعيين موضع القبر، وتعيين محلّ الحفرة منها السدرة، فبلغ الرشيد ذلك فأمر بقطعها(3) ، ثمّ وضع المسالح على حدوده إلى أن انتقل إلى طوس ومات فيها.

فلم يتتبع الأمين ذلك لِما كان منشغلاً باللهو والطرب وصنوف المجون والبذل، فاغتنموا الحال وبادروا إلى تشييد قبره الشريف، وقد اتخذوا عليه بناءً عالياً.

ولمّا جاء دور المأمون وتمكّن من سرير الخلافة تنفس الشيعة الصعداء، واستنشقوا ريح الحرية، ولم يتعرّض لذلك، وكان المأمون يتظاهر بحبّه لآل البيت (عليهم السّلام) حبّاً جمّاً حتّى إنّه استعاض بلبس السواد - وهو شعار العباسيِّين - بلبس الخضرة - وهو شعار العلويِّين -، وأوصى بالخلافة من بعده لعلي الرضا

____________________

(1) مروج الذهب - للمسعودي 2 / 171.

(2) الظاهر إنّ الرشيد لم يتعرّض لقبر الحسين (عليه السّلام) إلاّ في اُخريات أيامه، ولعل سبب ذلك غضبه ممّا كان يشاهد من إقبال الناس لزيارة الحسين (عليه السّلام) وتعظيمه والسكنى بجواره، وكان قبل ذلك يجري ما أجرته أمّ موسى من الأموال على الذين يخدمون قبر الحسين في الحير. انظر الطبري 10 / 118. (عادل)

(3) روى ذلك محمّد بن الحسن الطوسي في أماليه / 206 طبع إيران، بسنده إلى جرير بن عبد الحميد، وذكر أنّه عندما سمع جرير بالخبر رفع يديه قائلاً: الله أكبر! جاءنا فيه حديث عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: «لعن الله قاطع السدرة» ثلاثاً. فلم نقف على معناه حتّى الآن.

٦٥

ابن موسى الكاظم (عليه السّلام)، ولعل ذلك كيد منه، وكان هذا الوقوع بعد قتل أخيه الأمين، واسترضاء لمناصريه الخراسانيين.

وقد زعم البعض أنّه هو الذي شيّد قبره الشريف، وبنى عليه لهذه الفترة(1) ، وفي ورود أبي السرايا بن السري بن المنصور إلى قبر الحسين (عليه السّلام) أيام المأمون عام تسعة وتسعين بعد المئة حين قام ببيعة محمّد بن إبراهيم بن إسماعيل طباطبا بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن السبط، دليل على تشييد قبر الحسين(2) بعد مضي الرشيد إلى طوس.

وبقي الحال على هذا المنوال والشيعة في حالة حسنة حتّى قام حول قبره الشريف سوقاً، واتخذت دوراً حوله، وأخذ الشيعة بالتوافد إلى قبره للسكنى بجواره، إلى أن كان من المغنّية الشهيرة التي قصدت من سامراء في شعبان زيارة قبره الشريف، وكانت تبعث بجواريها إلى المتوكّل قبل أن يلي الخلافة يغنين له إذا شرب، وقد بعث إليها بعد استخلافه فأخبر بغيبتها، فأسرعت بالرجوع عندما أبلغها الخبر بطلب المتوكّل لها، فبعثت إليه بجارية وكان يألفها، فقال لها: أين كنتم؟

قالت: خرجت مولاتي إلى الحج وأخرجتنا معها.

فقال: إلى أين حججتم في شعبان؟

قالت: إلى قبر الحسين (عليه السّلام).

فاستطير غضباً(3) ، وفيه من بغض آل أبي طالب ما هو غني عن البيان، فبعث بالديزج بعد أن استصفى أملاك المغنّية - وكان الديزج يهودياً قد أسلم - إلى قبر الحسين (عليه السّلام)، وأمره بحرث قبره الشريف ومحوه، وهدم كلّ ما حوله من الدور والأسواق، فمضى لذلك وعمل بما أمر به، وقد حرث نحو مئتي جريب من جهات القبر، فلمّا بلغ الحفرة لم يتقدّم

____________________

(1) نزهة الحرمين - للعلاّمة السيد حسن الصدر (مخطوط) نقلاً عن تسلية المجالس.

(2) انظر مقاتل الطالبيِّين - لأبي الفرج الإصبهاني / 341 ط النجف.

(3) المصدر نفسه / 386.

٦٦

إليه أحد، فأحضر قوماً من اليهود فكربوه، وأجرى الماء عليه(1) ، فحار الماء عند حدود قبره الشريف(2) ، ثمّ وكّل به المسالح بين كلّ مسلحتين ميل، ولا يزوره أحد إلاّ وأخذوه ووجهوا به إلى المتوكّل(3) ، فحصل للشيعة من ذلك كرب عظيم لِما طرأ على قبره من الجور، ولم يعهد مثله إلى هذا الحد.

فضاق بمحمد بن الحسين الأشناني بعد طول عهده بالزيارة، فوطّن نفسه على المخاطر، وساعده رجل من العطّارين، فخرجا يمكثان النهار ويسيران الليل حتّى بلغا الغاضرية، وخرجا منها نصف الليل، فسارا بين مسلحتين وقد ناموا حتّى دنا من القبر الشريف، فخفى عليهما موضعه، فجعلا يتحرّيان موضع القبر حتّى أتياه وقد قُلع الصندوق الذي كان عليه واُحرق، وفي الموضع اللبن قد خُسف وصار الخندق، فزاراه وانكبّا عليه، وقد شمّا من القبر رائحة ما شمّا مثلها قطّ من الطيب.

فقال الأشناني للعطّار: أي رائحة هذه؟

فقال: والله ما شممت مثلها بشيء من العطر.

فودّعاه وجعلا حوله علامات في عدّة مواضع، وبعد قتل المتوكّل حضر مع بعض الطالبيِّين والشيعة فأخرجوا العلامات وأعادوا القبر إلى ما كان عليه أوّلاً.

وقد نالت الشيعة شيء من الحرية على عهد المنتصر، وكان هذا محبّاً لآل البيت (عليهم السّلام)، مقرّباً لهم، رافعاً مكانتهم، معظّماً قدرهم، ومن حسناته إليهم أنّه شيّد قبر الحسين (عليه السّلام)، ووضع ميلاً عالياً يرشد الناس إليه(4) ، وذلك في عام السابع والأربعين بعد المئتين.

ولم يُهدم بناء المنتصر ظلماً؛ لعدم تعرّض أخلافه له؛ لِما ظهر من الوهن في دولتهم، وانحلال أمرهم، وتسلّط الأتراك عليهم، وانشغالهم بأنفسهم.

وفي خلافة المسترشد ضاقت الأرض على رحبها على الشيعة؛ وذلك عندما أمر بأخذ جميع ما اجتمع من هدايا

____________________

(1) المصدر نفسه / 386.

(2) المصدر نفسه / 386.

(3) المصدر نفسه / 387.

(4) فرحة الغري - لعبد الكريم بن طاووس.

٦٧

الملوك والأمراء والوزراء والأشراف من وجوه الشيعة من الأموال والمجوهرات في خزانة الروضة المطهّرة، وأنفقه على العسكر، واعتذر بأنّ القبر لا يحتاج إلى الخزانة(1) ، إلاّ أنّه لم يتعرّض للبناء ولم يمسّه؛ لقصور يده، وضعف شأنه لا لشيء آخر.

وكان البناء الذي شيّد في عهد المنتصر قد سقط في ذي الحجة سنة ثلاث وسبعين ومئتين(2) ، فقام إلى تجديده محمّد بن زيد القائم بطبرستان في خلافة المعتضد بالله العباسي(3) لسنة ثلاث وثمانين ومئتين(4) ، وقد أخذ حال القبر الشريف منذ تشييد المنتصر إيّاه بالعروج إلى مدارج العمران يوماً بعد يوم حيث أمن الناس من إتيانه واتخاذ الدور عند رمسه.

وقد زار القبر عضد الدولة بن بويه سنة (370 هـ) بعد أن بالغ في تشييد الأبنية حول الضريح وزخرفتها(5) ، وكان آل بويه يناصرون الشيعة.

وقد استحفل التشيّع على عهدهم حتّى إنّ معزّ الدولة أمر سنة 352 بإقامة المآتم في عاشوراء، وكان ذلك أوّل مأتم أُقيم في بغداد.

____________________

(1) المناقب - لابن شهر آشوب، وكان ذلك سنة 511 هـ.

(2) فرحة الغري / 61.

(3) جاء في بحر الأنساب (العائد لخزانة المرحوم الشيخ عبد الحسين شيخ العراقيين الطهراني) عند ذكره لنسب المعتضد بالله العباسي بقوله: وأمر بعمارة مشهد الغري بالكوفة ومشهد كربلاء، وافتقد الخزائن بدار الخلافة، فأخرج منها ما وجده من نهب الواثق من مال مشهد الحسين بن علي (عليه السّلام) وأعاده إليه.

(4) فرحة الغري، وكان محمّد بن زيد هذا دائم التصدّق على العلويِّين في المشاهد؛ فقد بعث في خلافة المعتضد بالله اثنين وثلاثين ألف دينار لمحمد بن ورد ليفرّقها على العلويِّين. (انظر الكامل 6 / 80، والطبري 12 / 346).

(5) تسلية المجالس - لمحمد المجدي (بالفارسية)، طبع حجر.

٦٨

(وعندما عفا عضد الدولة عن عمران بن شاهين البطائحي بنى الرواق المشهور برواق عمران بن شاهين في المشهدين الشريفين الغروي والحائري (على مشرفهما السّلام»(1) .

وفي سنة سبع وأربعمئة هجـ احترق الحرم الشريف إثر اندلاع حريق عظيم كان سببه إشعال شمعتين كبيرتين سقطتا في الليل على التأزير واحترق، وتعدّت النار بعد الحرق القبة إلى الأروقة(2) ، فكان البناء على القبر الشريف بعد وقوع هذا الحريق ما وصفه الطنجي في رحلته، إلاّ أنّي لم أقف على خبر مَنْ شيّد هذا البناء، وفي أيّ تاريخ كان ذلك(3) ، ولعله كان قد تبقى شيء من البناء الذي

____________________

(1) فرحة الغري / 67.

(2) الكامل - لابن الأثير 9 / 110 ط ليدن، و7 / 295 من ط القاهرة، والمنتظم - لابن الجوزي 7 / 283، البداية - لابن كثير 12 / 4، والنجوم الزاهرة - لابن تغري بردى 4 / 241.

(3) ذكر كلّ من العلاّمة السيد حسن الصدر الكاظمي في نزهة الحرمين / 35، والعلامة السيد محسن الأمين العاملي في أعيان الشيعة 4 / 302، ومن أخذ عنهما، أنّ أبا محمّد الحسن بن الفضل بن سهلان وزير سلطان الدولة البويهي هو الذي جدّد بناء الحائر بعد وقوع هذا الحريق، لكن المصادر التي عوّلوا عليها لم تنسب إلى ابن سهلان هذا سوى بناء سور الحائر وليس تجديد بنائه، كما في المنتظم 7 / 283، والبداية والنهاية 12 / 16، ومجالس المؤمنين / 211، والنجوم الزاهرة 4 / 259.

هذا فضلاً عن أنّ ابن سهلان بدأ ببناء سور الحائر في سنة 400 هـ، أيّ قبل وقوع الحريق بسبعة أعوام، وهي نفس السنة التي أمر ببناء سور على مشهد أمير المؤمنين(عليه السّلام). (الكامل 7 / 249. ط القاهرة).

فقد ورد في المنتظم 7 / 246: وفي جمادى الأولى (سنة 400 هجـ) بدأ ببناء السور على المشهد بالحائر، وكان أبو محمّد الحسن بن الفضل بن سهلان قد زار هذا المشهد، وأحبّ أن يؤثر فيه مؤثراً، ثمّ ما نذر لأجله أن يعمل عليه سوراً حصيناً مانعاً؛ لكثرة مَنْ يطرق الموضع من العرب، وشرع في قضاء هذا النذر، ففعل وعمل السور، وأحكم وعرض، ونصبت عليه أبواب وثيقة وبعضها حديد، وتمّم وفرغ منه، وتحسّن المشهد به، وحسن الأثر فيه. (عادل).

٦٩

شيّده عضد الدولة، إلى أن شيّد عليه البناء الموجود اليوم على القبر الشريف، أو إنّه قد جدّده بعد الحريق أخلاف عضد الدولة؛ إذ كانت دولتهم قائمة عند وقوع الحريق.

هذا وكان إكمال بناء الحرم في سنة سبع وستين وسبعمئة، وقد أمر بتشييده السلطان أويس الإيلكاني، وأتمّه وأكمله ولده السلطان حسين(1) .

____________________

(1) زينة المجالس - لمحمد المجدي (مخطوط) باللغة الفارسية / 84، والمجدي من معاصري الشيخ البهائي، وقد صنّف كتابه هذا سنة 1004 هجـ، فقد جاء فيه: إلى أن أمر السلطان أويس الإيلكاني، وابنه السلطان حسين ببناء عمارة عالية.

وللسيد المؤلّف (عبد الحسين) ملاحظة مهمة في هذا الخصوص، خطر لي أن أثبتها هنا، يقول: ذكر سماحة السيد محسن الأمين العاملي في المجلد 3 / 593، من أعيان الشيعة، قال فضيلته عن آخر كتاب الأماقي في شرح الإيلاقي لعبد الرحمن العتايقي الحلّي المجاور بالنجف الأشرف، في نسخته المخطوطة في خزانة العلوية الذي تمّت كتابته في محرّم سنة 755 هجـ، قال: (في هذه السنة احترقت الحضرة الغروية (صلوات الله على مشرّفها)، وعادت العمارة وأحسن منها في سنة 760 سبعمئة وستون). انتهى.

أقول: هذا الحريق هو الذي ذكره ابن مهنا الداودي في العمدة / 5، ولكنّه لم يذكر اسم المجدّد للبناء الذي شيّد على الروضة المطهّرة الحيدرية، حيث المدّة تقارب زمن البناء الذي قام به السلطان أويس، وولده السلطان حسين الإيلكانية في سنة (767) على قبر الحسين (سلام الله عليه) الموجود اليوم على الروضة الطاهرة.

من المقتضي أن يكون السلطان حسين الإيلكاني هو منفرداً أقام البناء على الروضة الطاهرة الحيدرية، وبالخاصة لموقع قبورهم التي ظهرت في سنة الخامس عشر بعد الثلاثمئة والألف هـ وسط الصحن الشريف ما يلي باب الطوسي، أحد أبواب الصحن الشريف، في القسم الشمالي من الروضة الزاكية؛ إذ ظهر سرب فيه ثلاثة قبور على أحدهم في القاشاني مرقوم (توفي الشاهزاده الأعظم معزّ الدين عبد الواسع في 15 جمادى الأوّل سنة 790)، وعلى لوح القبر الثاني (هذا ضريح الطفل الصغير سلالة السلاطين الشاهزادة ابن الشيخ أويس (طاب ثراه). توفي يوم الأربعاء حادي عشر محرّم الحرام سنة إحدى وثلاثين وثمانمئة).

وعلى لوح القبر الثالث (هذا قبر الشاهزادة سلطان بايزيد (طاب ثراه). توفي في جمادى الأولى سنة إحدى وثلاثين وثمانمئة هلالية)، وعلى قبر آخر (هذا قبر المرحومة السعيدة بايندة السلطان).

وقد ابتدأ حكم الأسرة الإيلكانية الجلائرية في بغداد وآذربايجان بعد موت أبي سعيد بن أولجياتو محمّد خدابنده بقليل بالشيخ حسن الكبير، تقريباً بين سنة تسع وثلاثين وسبعمئة، أو سنة الأربعون، وكانت وفاته سنة 757 هـ، ثمّ تلاه في الحكم ولده السلطان أويس سنة 757 هـ، وتوفي سنة 776 هـ، ثمّ تلاه ولده السلطان حسين من سنة 776 هـ، إلى أن توفي في سنة 784 هـ، ثمّ تلا السلطان حسين أخوه السلطان أحمد الجلائري ابن أويس، إلى أن قُتل في تبريز بين سنة ثلاث عشرة وثمانمئة وأربع عشرة، وبه تقريباً انتهت أيامهم.

٧٠

وكان تاريخ هذا البناء موجوداً فوق المحراب الذي موضعه اليوم الرخام المنعوت بنخل مريم(1) فيما يلي الرأس الشريف، وقد شاهد ذلك التأريخ بنفسه محمّد بن سليمان بن زوير السليماني، وذكره في كتابه المسمّى بـ (الكشكول).

وقد كان إنزال هذا التاريخ سنة السادس عشر بعد المئتين والألف (1216)، ومن موضعه، عند عمل المرايا والتزيينات للحرم الشريف بأمر محمّد علي خان القواينلو كما تشير إلى ذلك الكتابة

____________________

(1) جاء في كتاب (دلائل الدين) تأليف عبد الله ابن الحاج هادي ما ترجمته: روى عن السجّاد (عليه السّلام): أنّ الله تعالى ذكر في القرآن أنّ السيدة مريم (عليها السّلام) عندما أرادت أن تلد ابنها المسيح ابتعدت عن قومها، وذهبت إلى كربلاء - بصورة معجزة - بجنب نهر الفرات، وقد ولد المسيح قرب مكان ضريح الحسين (عليه السّلام)، وفي نفس الليلة عادت السيدة مريم إلى دمشق.

ومصداق هذا الخبر ما ورد عن الباقر (عليه السّلام) - على ما أتذكر - أنّ صخرة على مقربة من قبر الحسين نُصبت في الحائط قد أجمع ساكنوا هذا المقام على أنّ الرأس الشريف قد حزّ على هذه الصخرة، ويقولون أنّ المسيح قد ولد على نفس تلك الصخرة أيضاً.

٧١

الموجودة في أعلى الباب الثالث من أبواب الحرّم المقابل للشبكة المباركة: (واقفه محمّد علي خان القواينلو سنة 1216) هـ.

وكذلك هذا التأريخ موجود بعينه في الكُتيبة القرآنية داخل القبّة على الضريح المقدّس، وفي سنة 920 هـ أهدى الشاه إسماعيل الصفوي صندوقاً(1) إلى القبر الشريف،

____________________

(1) عندما دخل الشاه إسماعيل الصفوي الأوّل - مؤسس الدولة الصفوية في إيران والذي يرتقي نسبه إلى الإمام السابع موسى بن جعفر (عليه السّلام) - بغداد فاتحاً سنة 914 هـ كان همّه الأول هو التبرّك بزيارة أجداده الأئمّة المعصومين (عليهم السّلام)، فقصد زيارة مرقد الحسين (عليه السّلام)، وعمل ثوباً حريرياً لقبره الشريف، وعلّق اثنى عشر قنديلاً من الذهب أطراف القبر، وفرش تلك الحضيرة القدسية بالبسط، وجلّله بأنواع الحرير والإستبرق، وبذل الأموال الكثيرة لللائذين بقبره الشريف، ثمّ خرج قاصداً النجف الأشرف. (وقد ترجم النص المتقدّم العلاّمة المؤلّف عن (حبيب السير) لخواند مير بالفارسية - مخطوط في 3 مجلدات في مكتبة المؤلّف سنة 1008 هـ).

وقد جاء أيضاً في (عالم آراى عباسي) لإسكندر منشي جـ 2 عن زيارة هذا الشاه ما ترجمته: توجه الشاه من بغداد إلى تربة كربلاء بعد إخلاص النيّة، وتشرّف بزيارة مرقد الحسين المنوّر وشهداء كربلاء، وقد زيّن الروضة وأنعم على المجاورين، ثمّ توجه من هناك إلى زيارة علي المرتضى (عليه السّلام) عن طريق الحلّة. راجع أيضاً فارسنامه ناصري 1 / 93.

وزار كربلاء أيضاً الشاه عباس الأول الصفوي، فقد جاء في فارسنامه ناصري ما ترجمته: غادر الشاه عباس الأول الصفوي أصفهان في سنة 1033 هجري متجهاً نحو بغداد، وفي غرّة ربيع الأوّل من نفس السنة دخل بغداد فاتحاً...، ثمّ توجه إلى النجف الأشرف في محرّم الحرام، وعلى بعد (30) كيلو متر ترجّل عن فرسه وخلع نعله، وأنعم على كافة سكنة النجف، وتوجه بعد ذلك مسروراً فرحاً إلى زيارة كربلاء وطاف بالبقعة الطاهرة، ثمّ أقفل راجعاً إلى بغداد وزار الإمامين الكاظمين وسامراء.

وفي ربيع هذه السنة أعاد الكرّة لزيارة كربلاء والنجف الأشرف، وقبل أعتاب هاتين الحضرتين أدّى لوازم الزيارة، وأهدى من الصناديق القيمة والطنافس الحريرية المطرّزة والديباج الشيء الكثير، ورجع مقفلاً إلى بغداد، وأعاد الزيارة مرّة أخرى إلى الروضة الحسينيّة.

وانظر أيضاً =

٧٢

ولم يرد ما يهمّ خبره من أخلافه الصفوية إلاّ الإقدام بأمور طفيفة لا مجال لذكرها، إلاّ أنّه بلغني - ولم أتثبّت من ذلك أنّ الشاه سليمان الصفوي قام ببناء القسم الشمالي من الصحن المطهّر، والإيوان الكبير الذي فيه المسمّى (بصافي صفا) نسبة إلى الصفويِّين، وليس اليوم في هذا الإيوان دليل على ذلك سوى إنّ الكاشي المعرّق الموجود في سقف هذا الإيوان، والزخارف المعمولة من البورق فيه يستدل منها أنّ بناء هذه الجهة أقدم بناء من الجهات الثلاث للصحن الشريف، فضلاً عن أنّ نقوش الكاشي المعرّق وصنعتها تشبه إلى حدّ كبير نقوش الكاشي المعرّق الموجود في روضة الجوادين (سلام الله عليهما)، وحرم حضرة الرضا (عليه السّلام)، ومقبرة خواجه ربيع، والقدم كاه.

وقد كان في حواشي الكاشي المعرّق الموجود في جنبتي هذا الإيوان - الشرقي والغربي - كُتيبة تنص على اسم الباني وتأريخ بنائه، ولكن مع مرور الزمن تلف واندرس أثره، ومع شديد الأسف لم يسعَ أحد بعد

____________________

= عالم آراي عباسي، وهناك مصدر لا بدّ من الإشارة إليه في هذا الخصوص هو (تاريخ دهامر الألماني) الذي تُرجم من اللغة الفرنسية إلى الفارسية باسم: سلطان التواريخ، في تاريخ سلاطين آل عثمان، يقع في ثلاث مجلدات ضخام، تحتوي على 72 باباً، ينتهي به مؤلفه إلى آخر عهد عبد الحميد الأول العثماني، بعد حرب الروس والأتراك وعقد معاهدة (كنارجة).

وفي سنة 1034 هـ أعاد السلطان مراد الرابع العثماني العراق إلى حوزة دولته، وفي 27 جمادى الأولى سنة 1039 هـ احتل بغداد مرّة أخرى الشاه صفي حفيد الشاه عباس الأول، وزار كربلاء في سنة 1048 هـ في يوم عيد، فقبّل أعتاب ضريح سيد الشهداء وأخيه العباس بعد أن أنذر النذور، وأكرم ذوي الحاجة. (روضة الصفاي ناصري المجلد الثامن).

وفي سنة 1156 هـ توجه نادر شاه من النجف الأشرف إلى تقبيل أعتاب الحسين (عليه السّلام) الذي حرمه مطاف ملائكة الرحمن، وقدّمت زوجته رضية سلطان بيكم كريمة الشاه سلطان حسين الصفوي عشرين ألف نادري لتعمير جامع الحرم الشريف (التاريخ النادري).

٧٣

ذلك لإرجاع هذا النص التأريخي المهم إلى موضعه.

وعندما أرادوا دفن ميرزا موسى الوزير فيه(1) عملوا موضعية الكُتيبة

____________________

(1) وقد شيّد هذا الإيوان الكبير في سنة 1281 هـ من قبل المرحوم ميرزا موسى وزير طهران، لتكون مقبرة له ولعائلته، وقد جدّد المرايا والكُتيبة القرآنية، وزوّق جدرانها الداخلية بالكاشي النفيس.

وقد نظم الشاعر (قلزم) الذي كان من الشعراء الشهيرين في تلك الفترة، هذه القصيدة بالمناسبة:

اي نمودار حريمت حرم عرش برين

ظـل دركـاهت خـركه زده بر عليين

قـدسيان بسته بفرمان تو از عرش كمر

آسمان سوده در ايوان تو بر فرش جبين

بـوده دارلـت شـاهنشه اقـليم شهود

بـيشكا رانـت فـرمان ده سرحد يقين

ظل خركاه تو را قبله كند روح القدس

خاك دركاه تو را سجده برد حور العين

از ازل تـاج شـهادة جه نهادي بر سر

شـد ترا ملك شفاعت همه در زير نكين

از بـهاي كـهر باك تو اين توده خاك

كعبه دين شود وشد سجده كه أهل زمين

إلى أن يقول:

قـصة طـور كـليم الله فاخلع نعليك

هـمه از خاك درت مظهر آيات مبين

عكس از شمسه ايوان تو شد شمس فلك

بر تو اوبر همه كون مكان كشت مكين

سـاكـنان حـرم وجـلال مـلكوت

هـه بـرخاك رهـت بايد خاك نشين

=

٧٤

الموجودة اليوم من المرايا، رُقمت بهذه الآية:( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً

____________________

=

بـهر فـراشي حجابت هر شام وسحر

قيصر أز روم كمر بندى وفقفور أز جين

إلى أن يقول:

اين هـمان وادى دوروا تـش شـوق

صـه جـه موسى باميد قبسي خاك نشين

انـدرين عـهد هـمايون از فـو ظـفر

رايـت دولـت اسـلام بر از جرخ برين

شـاه شـاهان جهان ظل خدا كهف زمان

خـسرو مـلك مـلل بـادشاه دولت ودين

شـهـر بـازيكه زأواز كـوي سـخطش

تـااب درشـده در جـحمه كـوه طـنين

مـير فـرخنده نـزادى زد راوكـه بـود

افـتـاب فـلك ورفـعت كـوه وتـمكين

داشـت جـون كوهري آراسته نور صفا

كـرد ايـن صـفه ايـوان صفارا ترين

دولت نـاصرى وسـعى امـام مـلت

أنـدرين عـهد بـود مـحيي آثار جنين

افـتـخار فـضلا قـبله أربـاب فـلاح

بـيشواى دو جـهان بـادشاه شرع مبين

انـكه از بـندكي صـاحب روضـه باك

شـده بـرخا جـكي علم ازل صدر تشين

جون زفيض كف موسى شد اين طور صفا

..........................................

كـلك قـلزم بي تاريخ سخنور شده وكفت

بـا كـف مـوسى آراسـته طـور سنين

٧٥

وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ... ) .

هذا وقام السلطان مراد الرابع العثماني سنة ثمان وأربعين وألف بتعمير وتجديد القبّة السامية، وجصّصها من الخارج(1) .

وفي سنة 1135 هـ نهضت زوجة نادر شاه وكريمة حسين الصفوي إلى تعمير المسجد المطهّر، وأنفقت على ذلك عشرين ألف نادري.

وقام أغا محمّد خان (الخصي) مؤسس الدولة القاجارية في إيران بتذهيب القبّة السامية للسنة السابعة بعد المئتين والألف الهجرية(2) .

وقد نظم بهذه المناسبة الميرزا سليمان خان المشهور بصباحي الشاعر، مؤرّخاً هذا التذهيب بقوله:

كلك صباحي از اين تاريخ أونوشت

در كبند حسين علي زيب بافت زر

1207 هـ

____________________

(1) لم نعثر على مصدر هذا الخبر، ولكنّه قد جاء في كلشن خلفاء (ص 102 وجه) لنظمي زاده بالتركية: أنّ الوالي علي باشا الوند زادة، بأمر من السلطان مراد الثالث العثماني قد جدّد بناء جامع الحسين وقبّته المنوّرة، وذلك سنة 984 هـ.

وقد أرّخ هذا البناء أحد الشعراء المشهورين بأبيات مطلعها:

بـحمد الله كه از عون الهي

نـموده خـدمت شاه شهيدان

شه كشور ستان خاقان اعظم

مـراد بن سليم ابن سليمان

وقد وهم الأستاذ حسن الكليدار في كتابه (مدينة الحسين / 38) إذ ذكر أنّ هذه الأبيات قد قيلت بمناسبة تشييد القبّة من قبل مراد الرابع العثماني، إلاّ أنّ الصحيح ما ذكرناه. (عادل)

(2) مجلد القاجارية من ناسخ التواريخ - للسان الملك سبيهر / 33 سنة 1206 هـ.

٧٦

وفي أوائل القرن التاسع عشر (1214هـ) أهدى فتح علي شاه القاجاري - أحد ملوك إيران - شبكة فضية(1) ، وهي إلى اليوم موجودة على القبر الشريف، وحوالي هذا التاريخ أمرت زوجته بتذهيب المأذنتين حتّى حدّ الحوض.

وفي سنة 1259 هـ قام محمّد علي شاه - ملك أود - سلطان الهند بتذهيب الإيوان الشريف وصياغة بابه بالفضة.

ويوجد اليوم على الفردة اليمنى من باب الفضة في إيوان الذهب: (هو الله الموفّق المستعان، قد أمر بصنع هذا الباب المفتوح لرحمة الملك المنان، وبإتمام تذهب هذا الإيوان الذي هو مختلف ملائكة الرحمن، وبحفر الحسينيّة وبناء قناطرها التي هي معبر أهل الجنان).

وعلى الفردة الثانية، الجانب الأيسر تتمته: (وتعمير بقعة قدوة الناس مولانا وسيدنا أبو الفضل العباس، السلطان ابن السلطان، والخاقان ابن الخاقان، السلطان الأعظم والخاقان الأكرم، سلطان الهند، محمّد على شاه (تغمّده الله بغفرانه، وأسكنه فسيح جناته)، وكان ذلك في سنة 1259 هـ ألف ومئتين وتسعة وخمسين).

وقام بعد ذلك أمراء الأكراد البختيارية إلى تزيين المسجد والأروقة، وقد وسع الضلع الغربي من الصحن الشريف، وجدّد بناءه المتغمّد برحمته المرحوم الشيخ عبد الحسين الطهراني(2) (شيخ العراقين) من قبل شاه

____________________

(1) مجلد القاجارية من ناسخ التواريخ / 63.

(2) جاء في مستدرك الوسائل - للعلاّمة النوري 3 / 397 في ترجمة الشيخ عبد الحسين الطهراني: (شيخي وأستاذي ومَنْ إليه في العلوم الشرعية استنادي، أفقه الفقهاء، وأفضل العلماء، العالم الرباني، الشيخ عبد الحسين الطهراني... حتّى يقول: وجاهد في الله في محو صولة المبتدعين، وأقام أعلام الشعائر في العتبات العاليات، وبالغ مجهوده في عمارة القباب الساميات).

وقد توفي في الكاظمية في 22 شهر رمضان سنة 1286 هـ، ونُقل إلى كربلاء، ودُفن في إحدى حجرات الصحن الحسيني.

٧٧

إيران ناصر الدين شاه القاجاري سنة 1275 هـ، وشيّد إيوانه الكبير وحجر جهتيه.

وقد أنشد الشيخ جابر الكاظمي الشاعر الكبير مؤرّخاً لهذا البناء بالفارسية يقول:

بـنائي ناصر الدين شاه بنا كرد

زخـاك أوست بائين كاخ خضرا

نه صحن وكنبدي جرخي مكوكب

زنـور أو مـنور روي غـبرا

بـراي كـشوار عـرش يـعني

حـسين بـن عـلي دلبند زهرا

بـناي سـال أو جابر همي كوي

أز ايوان شـكست كـسرى

بكو تأريخ ايوانش مؤرخ 1275 هـ

وله تأريخ بالعربية:

لـله إيوانٌ سما رفعةً

فطاول العرشَ به الفرشُ

قال لسانُ الغيب تأريخه

أنت لأملاك السما عرشُ

ولم يحدث بعد ذلك ما يهمّ ذكره سوى ما جدّدت إنشاءه إدارة الأوقاف في العهد الأخير، في القسم الغربي من الصحن؛ لظهور الصدع فيه.

وفي المشهد الحسيني عدّة نقوش وكتابات تدلّ على تواريخ إصلاحه والزيارات فيه؛ ففي أعلى عمود وسط الضلع الجنوبي من شبكة الفولاد المنصوبة على قبر الحسين (عليه السّلام) ما يقابل الوجه الشريف، هذه العبارة: (مَنْ بكى وتباكى على الحسين فله الجنّة صدق الله ورسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سنة 1185 هـ).

وما يقابل الزوايا الأربعة من القبر الشريف عبارة: (واقفه الموفّق بتوفيقات الدارين، ابن محمّد تقي خان اليزدي محمّد حسين سنة 1222 هـ).

٧٨

ويوجد في الإيوان الخارج من جدار الرواق الغربي المقابل للشبكة المباركة في الكاشي، فوق الشباك: (عمل أوسته أحمد المعمار سنة 1296 هـ).

ويستفاد من أبيات منظومة بالفارسية فوق شباك المقبرة الشمالية المقابلة للضريح أنّه بمباشرة الحاج عبد الله ابن القوام على نفقة الحاج محمّد صادق التاجر الشيرازي الأصفهاني الأصل، قد قام بتكميل تعمير سرداب الصحن الحسيني، وتطبيق الأروقة الثلاثة الشرقي والشمالي والغربي بالكاشي في سنة ألف وثلاثمئة الهجرية.

إيضاح ما يوجد في خارطة كربلاء من المواقع

أنهار كربلاء

(النهرين): فرعان يشتقان من عمود الفرات، ويتصلان ببعضهما في قرية نينوى في جوار الحاير الحسيني، ويتجهان إلى الشمال الشرقي إلى الكوفة معاً على سبيل توحيد وتفرد؛ وللفارق يعرفان بنهري كربلاء، يتوضّح على ضوء ما سرده أبو الفرج في المقاتل(1) ، ونورد بين قوسين ما تفرّد بإيراده صاحب الدرّ النظيم(2) :

قال أبو الفرج: لمّا قُتل زيد بن علي دفنه ابنه يحيى، تفرّق عنه الناس ولم يبقَ معه إلاّ عشرة نفر. قال سلمة بن ثابت: قلت له: أين تريد؟

قال: أريد النهرين. ومعه الصياد العبدي.

قلت: إن كنت تريد النهرين فقاتل ها هنا حتّى تُقتل.

قال: اُريد نهري كربلاء (وظننت أنّه يريد أن يتشطط الفرات)، فقلت له: النجاء قبل الصبح. فخرجنا فلمّا

____________________

(1) مقاتل الطالبيِّين / 61 ط القاهرة.

(2) الدرّ النظيم في مناقب الأئمّة اللهاميم - لجمال الدين الشامي جـ 2 خط.

٧٩

جاوزنا الأبيات سمعنا الأذان، فخرجنا مسرعين، فكلّما استقبلني قوم استطعمتهم فيطعموني الأرغفة، فأطعمه إيّاها وأصحابي حتّى أتينا نينوى، فدعوت سابقاً فخرج من منزله ودخله يحيى، ومضى سابق إلى الفيوم فأقام به.

(فلمّا خرجنا من الكوفة سمعنا أذان المؤذنين فصلّينا الغداة بالنخيلة، ثمّ توجهنا سراعاً قبل نينوى، فقال: اُريد سابقاً مولى بشر بن عبد الملك. فأسرع السير إلى أن انتهينا إلى نينوى وقد أظلمتنا، فأتينا منزل سابق فاستخففت الباب فخرج إلينا).

وذكر ابن كثير في البداية(1) عن محمّد بن عمرو بن الحسن قال: كنّا مع الحسين بنهري كربلاء. وأورد ابن شهر آشوب في المناقب: مضى الحسين قتيلاً يوم عاشوراء بطفّ كربلاء بين نينوى والغاضرية من قرى النهرين(2) .

قال الطبري(3) بعد مهادنة أهل الحيرة لخالد بن الوليد في مفتتح الفتح، وخضوع الدهاقين لأداء جزية وضريبة، وزع بينهم العمال؛ ولتمهيد الأمن أقام مخافر عهد بعمالة النهرين إلى بشر بن الخصاصية، فاتخذ بشر الكويفة ببابنورا قاعدة لعمالته.

وذكر عند حوادث سنة 278 هـ(4) ابتداء أمر القرامطة: وردت الأخبار بحركة قوم يعرفون بالقرامطة بسواد الكوفة، فكان ابتداء أمرهم قدوم رجل من خوزستان، ومقامه بموضع يُقال له: النهرين، يظهر الزهد والتقشّف، ويسفّ الخوص ويأكل من كسبه، ويكثر الصلاة.

إذا قعد إليه إنسان ذكّره أمر الدين، وزهده في الدنيا، وأعلمه أنّ الصلاة المفروضة

____________________

(1) ج 8 / 188.

(2) المناقب 4 / 83، ط بمبي.

(3) ج 4 / 17، ط ليدن.

(4) ج 8 / 159، ط الاستقامة.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

لا تَعمى الأبصار ولكنْ تَعمى القلوب

كان أحد جنود الكوفة قد حضر حرب صِفِّين على بعيره، فقرَّر عند رجوعه أنْ يُعرِّج على الشام؛ ليطَّلع عن كثب على نظام حكومة مُعاوية. وعند دخوله دمشق قابل جنديَّاً مِن جنود مُعاوية كان قد رآه في الحرب، ويعرف أنَّه مِن جنود الإمام علي (عليه السلام).

تقدَّم هذا نحوه وأخذ بخناقه زاعماً أنَّ الناقة التي يركبها له، وأنَّه قد انتزعها منه في حرب صِفِّين. فتجمَّع الناس واشتدَّ الكلام بينهما، حتَّى وصل بهما الأمر إلى الرجوع إلى مُعاوية.

عرض الشامي دعواه واستشهد خمسين شاهداً شهدوا جميعاً: بأنَّ الناقة له. فحكم مُعاوية له وأمر الكوفي بتسليمه الناقة.

عندئذ قال الكوفي لمُعاوية: ولكنَّ هذا جمل وليس ناقة، مع أنَّ الدمشقي كان مُنذ البداية قد زعم أنَّ الجمل ناقة وشهد له بذلك خمسون شاهداً.

في الحقيقة كان الكوفيُّ يُريد بهذا أنْ يُلفت نظر مُعاوية إلى أنَّ كلَّ تلك الضجَّة كانت فارغة، وأنَّ الحُكم الذي أصدره كان باطلاً ومُخالفاً للحَقِّ.

غير أنَّ مُعاوية لم يلتفت إليه، وقال: إنَّ الحُكم قد صدر ويجب تنفيذه.

انتهى مجلس القضاء وتفرَّق طرفا الدعوى والشهود، فأرسل مُعاوية سِرَّاً يستدعي الكوفي وسأله عن ثمن الجمل وأعطاه له وأكرمه.

وقال له: أبلغ عليَّاً أنِّي أُقابله بمئة ألف ما فيهم مَن يُفرِّق بين الناقة والجمل.

لقد كان الدمشقي والشهود الخمسون مِثل سائر أهل الشام يؤيِّدون مُعاوية

٣٦١

ويُطيعونه مِن دون قيد ولا شرط. ما كان فيهم مَن يُفكِّر في الحَقِّ والباطل، ولا في الحلال والحرام، ولا في رضى الله وسخطه. كلُّ ما كان يُهمُّهم هو أنْ يفعلوا ما يرضي مُعاوية وأصحابه، ويُصيب بالضرر عليَّاً (عليه السلام) وأصحابه (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج٢.

٣٦٢

باع آخرته بدنيا غيره

كان أبو العلاء (يزيد بن أبي مسلم) أخاً في الرضاعة للحَجَّاج بن يوسف، ويُدير له ديوان المكاتيب لقاء مرتَّب شهريٍّ قدره ثلاثمئة درهم ما كانت تكفيه معيشته. ومع ذلك فقد كان يقتل الناس مِن أجل الحَجَّاج.

مَرِض الرجل يوماً فعاده الحَجَّاج في بيته، فرآه قد وضع أمامه كانوناً مِن طين وسراجاً مِن خشب.

قال له: يا أبا العلاء، لا أرى رزقك يكفيك.

فردَّ عليه قائلاً: لئن لم تكفني ثلاثمئه درهم فلن تكفيني ثلاثمئة ألف درهم.

يزيد بن أبي مسلم لم يكن رجل حَقٍّ وحقيقة، ولم يكن يتحمَّل ضنك العيش على سبيل الزُّهد والتقوى في مرضاة الله، بلْ كان هذا الإنسان ذو الحظ المنكود والمعيشة الشقيَّة عبداً مِن عبيد الحَجَّاج، يُريق دماء الأبرياء في سبيل توطيد أركان حُكمه الظالم الجائر. فهو قد اشترى رضى المخلوق بسخط الخالق، وداس بقدمه الكرامة الإنسانيَّة لتنفيذ أغراض غير مشروعة لشخص جبَّار. إنَّه - كما قال رسول الله: ـقد باع آخرته بدنيا غيره فلحق بركب أشقى الناس وأرذلهم (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج٢.

٣٦٣

اشترى مرضاة المخلوق بسخط الخالق

بعد واقعة كربلاء الدمويَّة، وفي الوقت الذي كان فيه أهل بيت الإمام الحسين (عليه السلام) في الشام اجتمع الناس في يوم جمعة لأداء الصلاة، وكان قد حضره الإمام السجاد (عليه السلام).

دخل يزيد المسجد ليؤمَّ المُصلِّين، فأمر الخطيب أنْ يرقى المنبر. حمد الخطيب الله وأثنى عليه ثمَّ راح يسبُّ علي بن أبي طالب والحسين (عليه السلام)، وتجرَّأ في كلامه على مقاميهما الإلهيَّين.

ثمَّ أخذ يمدح مُعاوية ويزيد ويُمجِّدهما، ونسب إليهما الكثير مِن الصفات الحميدة والخصال المجيدة، فصاح به السجاد (عليه السلام): (ويلك أيُّها الخاطب! اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق) (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج٢.

٣٦٤

ثِقْ بحُسن صِنع الله مِن حيث لا تدري

قال محمد بن أبي العتاهية حدَّثني أبي:

لمَّا امتنعت مِن قول الشعر وتركته، أمر المهدي بحبسي في سجن الجرائم، فأُخرجت مِن بين يديه إلى السجن، فلمَّا أُدخلته دُهشت وذهل عقلي ورأيت منظراً هالني، فرميت بطرفي أطلب موضعاً آوي إليه، أو رجلاً آنس بمجالسته، فإذا أنا بكهل هالني فرميت بطرفي أطلب موضعاً آوي إليه أو رجلاً آنس بمُجالسته، فإذا أنا بكهل حَسن السمت نظيف الثوب يُبيَّن عليه سيماء الخير فقصدته، فجلست إليه مِن غير أنْ أُسلِّم عليه أو أسأله عن شيء مِن أمره؛ لما أنا فيه مِن الجزع والحيرة، فمكثت كذلك مليَّاً وأنا مُطرق مُفكِّر في حالي، فأنشد هذا الرجل هذين البيتين. فقال:

تـعوَّدت مَـسَّ الضَّرَّ حتَّى ألفته

أسـلمني حُسن العزاء إلى الصبر

وحـيَّرني يـأسٌ مِن الناس واثقا

بحُسن صُنع الله مِن حيث لا أدري

فاستحسنت هذين البيتين وتبرَّكت بهما وثاب إليَّ عقلي، فأقبلت على الرجل فقلت له: تفضَّل - أعزَّك - الله بإعادة هذين البيتين.

فقال لي: ويحك يا إسماعيل! - ولم يُكنِّني - ما أسوأ أدبك وأقلَّ عقلك ومروءتك، دخلت إليَّ ولم تُسلِّم عليَّ بتسليم المسلم على المسلم، ولا توجَّعت لي توجُّع المُبتلى للمُبتلى، ولا سألتني مسألة الوارد على المُقيم، حتَّى إذا سمعت مِنِّي بيتين مِن الشعر الذي لم يجعل الله فيك خيراً ولا أدباً، ولا جعل لك معاشاً غيره لم تتذكَّر ما سلف منك فتتلافاه، ولا اعتذرت مِمَّا قَدَّمته وفرَّطت فيه مِن الحَقِّ حتَّى استنشدتني مُبتدئاً كأنَّ بيننا أُنساً قديماً ومعرفة شافية وصُحبة تَبسط المنقبض.

فقلت له: اعذرني مُتفضِّلاً؛ فإنَّ دون ما أنا فيه مُدهش.

قال: وفي أيِّ شيءٍ أنت؟! إنَّما تركت قول الشعر الذي كان جاهك عندهم وسبيلك إليهم، فحبسوك حتَّى تقوله، وأنت لا بُدَّ مِن أنْ تقوله فتُطلق، وأنا يُدعى بي الساعة فأُطالب بإحضار عيسى بن زيد ابن رسول الله، فإنْ دللت عليه فسوف يُقتل

٣٦٥

وبذلك ألقى الله بدمه، وكان رسول الله خصمي فيه وإلاَّ قُتلت فأنا أولى بالحيرة منك وأنت ترى احتسابي وصبري.

فقلت: يكفيك الله، وأطرقت خَجلاً منه.

فقال لي: لا أجمع عليك التوبيخ والمنع، اسمع البيتين واحفظهما. فأعادهما عليَّ مِراراً حتَّى حفظتهما ثمَّ دُعي به وبيَّ، فلمَّا قُمنا قلت: مَن أنت أعزَّك الله؟

قال: أنا حاضر صاحب عيسى بن زيد.

فأُدخلنا على المهدي فلمَّا وقف بين يديه قال له: أين عيسى بن زيد؟

قال ما يُدريني أين عيسى، طلبته وأخفته فهرب منك في البلاد، وأخذتني فحبستني فمِن أين أقف على موضع هارب منك وأنا محبوس؟!

فقال له: فأين كان مُتوارياً؟ ومتى آخر عهدك به؟ وعند مَن لقيته؟

فقال: ما لقيته مُنذ توارى ولا أعرف له خبراً.

قال: والله، لتدُلَّني عليه أو لأضربَنَّ عُنقك الساعة.

قال: اصنع ما بدا لك! أنا أدلُّك على ابن رسول الله لتقتله فألقى الله ورسوله يُطالباني بدمه. والله، لو كان بين ثوبي وجلدي ما كشفت عنه.

ثمَّ دعاني فقال: أتقول الشعر أو ألحقك به.

فقلت: بلْ أقول الشعر.

فقال: أطلقوه.

تُجيز التعليمات الإسلاميَّة للمسلمين لكي يُحافظوا على حياتهم وعند الضرورة أنْ يرتكبوا بعض المُحرَّمات بقدر الضرورة، ولكنْ ما مِن مسلم يجوز له أنْ يُضحِّي بحياة أخيه في الدين مِن أجل نفسه هو، كأنْ يقتله أو يدفع به للقتل لينجو هو بحياته (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج٢.

٣٦٦

المُسلم لا يمكر بالمُسلم

في أيَّام خلافة عبد الله بن الزبير في الحِجاز، ذهب حامل ختم الخليفة عبد الملك بن مروان مِن الشام إلى زيارة بيت الله الحرام، وهناك التقى مع أحد خواصِّ عبد الله بن الزبير ومِن خلال البحث والجدال تنازع الرجلان وافترقا.

وبعد دخول الحَجَّاج بن يوسف مَكَّة وقتل ابن الزبير، ثم القبض على أصحاب ابن الزبير وإلقائهم في السجن بعد إرسالهم إلى الكوفة، كان أحد الأشخاص الذين أُلقي القبض عليهم هو الشخص الذي تنازع مع حامل ختم الخليفة.

وكتب الحَجَّاج مِن العراق برسالة إلى عبد الملك حول مصير السُّجناء، فأمر عبد الملك حاجبه بالرَّدِّ على الرسالة، وذلك بتعيين عددهم وكتابة أسمائهم، فكانت العبارة: أحصهم واكتب أسماءهم. وبعد كتابة الرسالة وتوقيعها مِن قِبَل الخليفة أُعطيت لحامل ختم الخليفة لتدقيقها وختمها.

وكان حامل ختم الخليفة قد عرف أنَّ أحد السُّجناء المذكورين في الرسالة، هو الشخص الذي تنازع معه عند زيارته لبيت الله، فأراد انتهاز الفرصة والانتقام منه؛ ولذلك فكَّر بفكرة شيطانيَّة عجيبة. فقال بصوت عالٍ: لقد نسيت أنْ أضع نقطة على إحدى الكلمات، فهل لي الإذن بوضعها؟ فأُذن له فوضع نقطة على (ح) مِن كلمة أحصهم فأصبحت (أخصهم)، وبعد ذلك أُغلقت الرسالة وهيِّئت للتوشيح مع بقيَّة الرسائل.

وبذلك تغيَّر أمر الخليفة إلى خَصي خواصِّ عبد الله بن الزبير. وعند وصول الرسالة إلى الحَجَّاج تمَّ العمل الهَمجيِّ، وذلك بخصي السُّجناء وحرمانهم مِن الحياة الطبيعيَّة (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج٢.

٣٦٧

مَن حَفر حُفرة لغيره وقع فيها

المنصور الدوانيقي (ثاني خُلفاء بني العباس) طرد خالداً البرمكي مِن منصبه في أعمال الديوان، ونصب أبا أيُّوب مكانه، وأرسل خالداً إلى ولاية فارس حيث ظَلَّ والياً عليها سنتين. إلاّ أنَّ أبا أيُّوب - الذي كان عارفاً بفضل خالد وعلمه - كان دائم القَلق مِن أنْ يُعيده الخليفة إلى منصبه السابق، ويُجرَّد هو مِن مقامه الرفيع. فخامرته فكرة الدسّ لخالد كي يحط من قدره عند الخليفة ويحافظ هو على مركزه بأي شكل من الأشكال.

نَجح أبو أيُّوب في دسائسه الخفيَّة وخُططه اللا إنسانيَّة، وأثار سوء ظنِّ المنصور في خالد، فعزله عن ولاية فارس وطالبه بدفع ثلاثة آلاف ألف درهم، فأطلع خالد المنصور على أنَّ كلَّ ما يملكه لا يتجاوز السبعمئة ألف درهم، غير أنَّ هذا رفض قبول ذلك وأمر باستحصال مبلغ الثلاثة ملايين منه.

فتقدَّم لإعانته صاحب المصر بمبلغ خمسين ألف دينار، والتركي بمبلغ ألف ألف درهم. كما أنَّ (الخيزران) أرسلت له عِقداً مِن الجواهر تصل قيمته إلى ألف ألف ومئتي ألف درهم؛ وذلك رعاية لأخوَّة (الفضل) ابن خالد بالرضاعة مع ابنها (هارون) وإذ عرف منصور بالأمر ووثق مِن صحة قول خالد عن مُقدار ما يملك تخلَّى عن مُطالبته بالمبلغ. فصعب ذلك على أبي أيَّوب استدعى صرَّافاً مسيحيَّاً وأعطاه بعض المال، وطلب إليه أنْ يعترف بأنَّ ذلك المال يخصُّ خالداً، ثمَّ أوصل إلى المنصور أنَّ خالداً يحتفظ ببعض المال عند فلان، فاستدعى المنصور الصرَّاف وسأله عن المال، فادَّعى الصرَّاف بأنَّ لخالد عنده بعض المال، فاستدعى المنصور خالداً وسأله عن ذلك المال، فأقسم خالد أنَّه لم يدَّخر مالاً وأنَّه لم يرَ ذلك الصرَّاف مِن قبل.

٣٦٨

أمر المنصور خالداً بالبقاء في مجلسه، وطلب إحضار الصرَّاف وسأله عمّا إذا كان يعرف خالداً إذا رآه فردَّ هذا بالإيجاب قائلاً: إنَّه يعرفه إذا رآه، عندئذ التفت المنصور إلى خالد وقال لقد أظهر الله براءتك، وقال للنصراني هذا هو خالد، فكيف لم تعرفه؟

فقال الصرَّاف: يا أمير المؤمنين، أعطني الأمان لأذكر لك الحقيقة، فآمنه المنصور، فسرد له الحكاية كما حدثت، فتغيَّرت نظرة المنصور نحو أبي أيُّوب، وساء الظنُّ به ولم يعد يثق بأقواله (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج٢.

٣٦٩

عند الامتحان يُكرم المرء أو يُهان

وصل هارون الرشيد إلى مَكَّة، فقضى حَجَّه وشهد مناسكه ومشاعره ثمَّ انصرف قافلاً إلى بغداد، وذلك في آخر شهر ذي الحجة من سنة ثمانين ومئة، فلمَّا همَّ بالانصراف وذكر القفول إلى العراق. رفع إليه أهل مَكَّة كتاباً يسألونه فيه أنْ يولِّي عليهم قاضياً عادلاً، فأدخلهم على نفسه فقال: إنْ شئتم فاختاروا منكم رجلاً صالحاً أولِّيه قضاءكم، وإنْ أحببتم بعثت إليكم مِن العراق رجلاً لا آلوكم فيه إلاَّ خيراً، فخرجوا فاختاروا رجلاً فاختلفوا فيه، فاختارت طائفة منهم رجلاً واختارت أُخرى رجلاً آخر.

فلمَّا اختلفوا ارتفعوا إلى الرشيد يذكرون اختلافهم، فقال لهم هارون: أدخلوا عليَّ هذين الرجلين اللذين اختلفتم فيهما، فإذا برجلين أحدهما شيخ مِن قريش والآخر غُلام حديث مِن الموالي.

فلمَّا نظر إليهما الرشيد قال للشيخ: ادْنِ منِّي فدنا منه، فقال له الرشيد: أيُّها القاضي، إنَّ بيني وبين وزيري هذا خصومة ونزاعاً فاقض بيننا بالحَقِّ.

فقال الشيخ: قصَّا عليَّ قصَّتكما فقصَّا عليه.

فقال الشيخ: تُقيم البيِّنة - يا أمير المؤمنين - على ما ذكرته، أو يحلف وزيرك هذا.

فقال له هارون: إنَّ أخي لا يُدافعني ما أقول ولا يُنكر إلاَّ قليلاً مِمَّا أدَّعي، فلم يزالا يُردِّدان القول بيهما ويتنازعان حتَّى قضى القاضي لأمير المؤمنين على الوزير.

فقال له: قُمْ. فقام عنه.

ثمَّ دعا بالغُلام الحَدَث الذي دعته الطائفة الأُخرى فدخل عليه، فقال له: ادْن منِّي فدنا منه.

٣٧٠

فقال له هارون: إنَّ بيني وبين وزيري تنازعاً وخصومة، فاسمع منَّا قولنا، ثمَّ اقض بيننا بالحَقِّ.

فقال لهما: إنَّ مقعدكما مُختلف ومجلسكما مُتنائي، وأخشى إذا اختلف مجلسكما أنْ يختلف قولكما، فإذا تفاضل مجلس الخصوم اختلف بينهما القول، وكان صاحب المجلس الأرفع ألحن بحُجَّته وأدحض لحُجَّة صاحبه، وكان إصغاء الحاكم إلى صاحب المجلس الأرفع أكثر إليه وأميل، ولكن تقومان مِن مَجلسكما هذا الذي قد استعليتما فيه فتجلسا بين يديَّ، ثمَّ أسمع منكما قولكما وأقضي لمَن رأيت الحقَّ له، ثمَّ لا أُبالي على مَن دار منكم.

فقال الرشيد: صدقت وبررت في قولك.

فقام الرشيد وقام عمرو بن مسعدة حتَّى صارا بين يديه جالسين، فلمَّا جلسا بين يديه ذهب الرشيد ليتكلَّم، فقال له القاضي: لو تركت هذا يتكلَّم؛ فإنَّه أسنُّ منك. فقال الرشيد: إنَّ الحقَّ أسنُّ منه.

فقال القاضي: بلى، ولكنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لحويصة ومحيصة كبر كبر، يُريد: ليتكلَّم عَمُّكما؛ لأنَّه أسنُّ منكما وأكبر، فتكلَّم عمرو بن سعدة ثمَّ تكلَّم الرشيد وتنازعا الخصومة وترافعا الحُجَّة بينهما، حتَّى رأى القاضي أنَّ الحقَّ لعمروٍ، وقضى لهبه على الرشيد فلمَّا قضى عليه قال لهما: عودا إلى مجلسكما.

فعادا، فعُجب الرشيد مِن قضائه وعدله، واحتفاظه وقِلَّة ميله، فالتفت إلى عمرو فقال: إنَّ هذا أحقُّ بقضاء القضاة مِن الذي استقضيناه.

فقال عمرو: بلى والله، ولكنَّ القوم أحقُّ بقاضيهم، إلاَّ أنْ يأذنوا فيه.

فدعا الرشيد برجال مَكَّة، فأدخلهم على نفسه وأجزل لهم العطاء، وأحسن على قاضيهم الثناء، ثمَّ قال لهم: هل لكم أنْ تأذنوا أولِّيه قضاء القُضاة فيسير إلى العراق يقضي بينهم؟

فقالوا: نعم يا أمير المؤمنين، أنت أحقُّ به نؤثرك على أنفسنا.

فأرسل إليه الرشيد فقال: إنِّي قد ولَّيتك قضاء القُضاة، فسر إلى العراق لتقضي

٣٧١

بينهم وتولِّي القُضاة في البُلدان والأمصار مِن تحت يدك، وتوليتهم إليك وعزلهم عليك.

فقال القاضي: إنْ يُجبرني أمير المؤمنين على ذلك فسمعاً وطاعة، وإنْ يُخيِّرني في نفسي اخترت العافية وجوار هذا البيت الحرام.

ـ خذ على نفسك، فإنِّي مُصبِح على ظهر إنْ شاء الله.

فخرج الرشيد ومعه الفتى حتَّى قَدِم العراق فولاَّه القضاء، وجعل إليه قضاء القُضاة، فلم يزل بها قاضياً حتَّى توفِّي، وذلك بعد ثلاثة أعوام مِن توليته، فلمَّا توفِّي اغتمَّ الرشيد وشَقَّ عليه، فجعل الناس يعزوُّنه فيه علماً منهم بما بلغ منه الغَمِّ عليه.

فسأل عن قاضٍ يولِّيه قاضي القُضاة والعراق بعد ذلك، فرُفعت إليه تسمية عشرة رجال مِن خِيار الناس وعلمائهم وأشرافهم.

فلمَّا دُفِعت إليه التسمية أمر بهم فأُدخلوا عليه رجلاً رجلاً، يتفرَّس فيهم مَن يولِّيه القَضاء، فنظر إلى رجل منهم توسَّم فيه الخير والعلم فأمر به فقُدِّم إليه، فلمَّا صار بين يديه قال له ما اسمك؟

قال: معشوق.

قال: فما كنيتك؟

قال: (أبو الهوى).

قال: فما نقشُ خاتمك؟

قال: دام الحُبُّ دام، وعلى الله التمام.

فقال له: قُمْ لا قُمْت.

ثمَّ دعا بالآخر وكان قد تفرَّس فيه ما تفرَّس في صاحبه، فقال له: ما نقشُ خاتمك؟

فقال: ما لي لا أرى الهدهد؟ أم كان مِن الغائبين؟

٣٧٢

فقال: له اخرُج.

فدعا الرشيد بيحيى بن خالد بن برمك، وكان مِمَّن رَفَع إليه أسماءهم، فعنَّفه بهم وقال: رفعت إليَّ أسماء المجانين.

قال له: والله، ما في العراقييِّن أعقل مِن الرجلين اللذين سألت ولا أفضل منهم.

فقال: ويحك! إنِّي اختبرت منهما جُنوناً.

قال يحيى: إنَّهما - والله - كانا كارهين لما دعوتهما إليه، وإنَّما أرادا التخلُّص منك.

قال: ويحك! أعدهما عليَّ، فطُلبا فلم يوجدا (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج٢.

٣٧٣

الرياء مُفسد للعمل

وقد حدَّثني أوثق مشايخي أنَّ رجلاً كان لا يقدر على الإخلاص في العمل وترك الرياء، فاحتال وقال: إنَّ في طرف البلد مسجداً مهجوراً لا يدخله أحد، فأمضي إليه ليلاً وأعبد الله فيه.

مضى إليه في ليلة مُظلمة، وكانت ذات رعد وبرق ومطر، فشرع في العبادة، فبينما هو في الصلاة إذ دخل عليه داخل، فأحسَّ به، فدخله السرور برؤية ذلك الداخل له، وهو على حالة العبادة في الليلة الظلماء، فأخذ في الجَدِّ والاجتهاد في عبادته إلى أنْ جاء النهار، فنظر إلى ذلك فإذا هو كلب أسود قد دخل المسجد مِمَّا أصابه مِن المَطر.

تندَّم الرجل على ما دخله حال دخوله وقال:

يا نفس، إنِّي فررت مِن أنْ أُشرك بعبادة ربِّي أحداً مِن الناس، فوقعت في أنْ أشركت معه في العبادة كلباً أسود يا أسفاه! ويا ويلاه على ذلك ! (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج٢.

٣٧٤

أنا عبد لله أوَّلاً

كان أبو منصور وزير السلطان طغرل رجلاً عالماً وخائفاً مِن الله، وكان بعد كلِّ فريضة يجلس على السجَّادة، ويشتغل بالتسبيح والدعاء حتَّى طلوع الشمس، ثمَّ كان يذهب بعدها إلى السلطان طغرل.

في أحد الأيَّام اتَّفقت حادثة مُهمَّة للسلطان قبل طلوع الشمس، فطلب الوزير فذهبت الخدم إلى منزله، فشاهده جالساً على السجَّادة مشغولاً بالذِّكر، فأبلغوه أمر السلطان العاجل بالحضور بين يديه، فلم ينتبه لهم.

كرَّروا له الأمر مَرَّتين وثلاث فلم ينتبه، فعزموا على الرجوع وقالوا للسلطان: بأنَّه رجل مغرور ومُتمرِّد لم يستجب لأمر السلطان وقوله.

وبهذا الكلام اشتعلت نيران غضب السلطان. وبعد طلوع الشمس وإتمام الوزير قراءة الأدعية ذهب إلى السلطان.

صرخ السلطان في وجهه وقال: لماذا أتيت متأخِّراً؟

أجاب الوزير: أيُّها السلطان، أنا عبد لله وخادم للسلطان طغرل: يجب عليَّ أوَّلاً أداء وظيفة العبودية لله، ثمَّ خدمتك.

خرج هذا الكلام مِن أعماق قلب الوزير بنيَّة خالصة، فأثَّر بشكل عميق بقلب السلطان وضميره ودمعت عيناه. وقام السلطان بمدح الوزير وقال: عبادة الله مُقدَّمة وببركة هذا العمل تنتظم أعمالنا وتُحرَس المَملكة (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج٢.

٣٧٥

وضع جرَّة ماءٍ مسكورة وبرقع

كان الأصمعي مِن شُعراء العصر العباسي المشهورين، وكان أيضاً مُقتدراً وذو استعداد في قصصه المُضحكة والمزاح. وكان يُلقي القصائد في مجالس رجال الدولة، وأحياناً يحكي القصص الفكاهيَّة فيُضحك الحاضرين.

في أحد الأيَّام قال جعفر البرمكي رئيس وزراء هارون الرشيد لأحد خُدَّامه: اجلب لي ألف دينار، أُريد أنْ أذهب إلى منزل الأصمعي، فإذا حكى لي قصَّة وأضحكني سأضع كيس الذهب في حاشية قميصه.

دخل جعفر البرمكي ومعه أنس بن شيخ بيت الأصمعي، حيث حكى الأصمعي قَصصاً مُختلفة وكانت، كلُّ قصَّة تحكي جانباً مِن الحياة.

وبعد الخروج مِن البيت قال أنس لجعفر: لقد سعى الأصمعي لإضحاكك ولكنْ لم تضحك فلم يكن هدفك ذلك (إعطاء كيس الذهب للأصمعي)، قال جعفر: أُفٍّ لك! أرسلت له خمسمائة درهم قبل وصولنا إلى بيته لتهيئة الطعام، ولكنَّك شاهدته كيف وضع جرَّة ماء مسكورة وبرقع، وفرش سجَّادة قذرة.

حيث لاحظت وجود النعمة والإحسان والمدح على لسانه، ولكن لم أُلاحِظ ظهور الإحسان شكراً للنعمة، فلماذا نُعطيه المال؟

على الرغم مِن أنَّ الأصمعي كان مُوسراً، إلاَّ أنَّه أظهر نفسه وكأنَّه مِن أفقر الفُقراء. فهل كان هدفه مِن ذلك هو أنْ يَظهر بمظهر الزاهد الراغب عن الدنيا ليُلفت انتباه الآخرين إلى صلاحه وتقواه؟ أم أنَّ أنَّه كان يُريد أنْ يبدو في نظر القادمين فقيراً مسكيناً؛ لكي ينال شيئاً مِن عطاءاتهم السخيَّة، أمْ كان هناك ثَمَّة هدف آخر حمله على أنْ يفعل ما فعل؟

على كلِّ حال كان انطباع البرمكي عن الوضع الداخلي للأصمعي ومعيشته

٣٧٦

انطباع مَن يرى شخصاً مُنافقاً ذا وجهين، فأساء به الظنَّ وبمُشاهدة ذلك المشهد المُصطنع انقبضت نفسه، وتألَّم أشدَّ الألم، بحيث إنَّ قصصه الفَكهة لم تستطع أنْ تنتزع منه ابتسامة، وغادر المنزل في النهاية بمرارة وتأثُّر (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج٢.

٣٧٧

الرياء هو الشِّرك كلُّه

قال ابن أوس:

دخلت على رسول الله فرأيت في وجهه ما ساءني، فقلت: ما الذي أرى بك؟!

فقال: (أخاف على أُمَّتي الشِّرك).

فقلت: أيُشركون مِن بعدك.

فقال: (أما إنَّهم لا يعبدون شمساً ولا قمراً ولا وثناً ولا حجراً، ولكنَّهم يُراؤون بأعمالهم والرِّياء هو الشِّرك كلُّه).

فمَن يرجو لقاء ربِّه فليعمل عملاً صالحاً، ولا يُشرك بعبادة ربِّه أحداً) (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج٢.

٣٧٨

النفاق أشدُّ مِن الكُفر

في الأيَّام التي كان فيها مسلم بن عقيل (عليه السلام) في الكوفة مبعوثاً مِن قِبَل الإمام الحسين لأخذ البيعة له من الناس، وصل الكوفة عبيد الله بن زياد والياً عليها مِن قِبَل يزيد بن مُعاوية، وهدَّد الناس بالقتل إنْ هُمْ خالفوا أوامره، وأخذ العُرفاء أخذاً شديداً مُعِدَّاً نفسه لقمع حركة التشيُّع والقضاء عليها.

ولمَّا سمع مسلم بمجيء عبيد الله إلى الكوفة ومقالته التي قالها، وما أخذ به العُرفاء والناس قرَّر أنْ يترك دار المُختار - التي كان قد اتَّخذها مَقرَّاً لنشاطه - وينتقل إلى دار هاني بن عروة، فدخلها فأخذت الشيعة تختلف إليه في دار هاني على تستُّر واستخفاء مِن عبيد الله بن زياد وتواصوا بالكتمان.

دعا ابن زياد مولى له يُقال له: (معقل) وقال له: خُذْ ثلاثة آلاف درهم واطلب مسلم (عليه السلام) والتمس أصحابه، فإذا ظفرت بواحد منهم أو جماعة فأعطهم هذه الثلاثة آلاف درهم، وقُلْ لهم: استعينوا بها على حرب عدوِّكم، وأعلمهم أنَّك منهم، فإنَّك لو أعطيتهم إيَّاها لاطمأنُّوا إليك ووثقوا بك، ولم يكتموك شيئاً مِن أخبارهم، ثمَّ أغدُ عليهم وراوح، حتَّى تعرف مُستقرَّ مسلم (عليه السلام) وتدخل عليه.

ففعل ذلك وجاء حتَّى جلس على مسلم (عليه السلام) ابن عوسجة الأسدي في المسجد الأعظم وهو يُصلّي، فسمع قوماً يقولون هذا يُبايع للحسين (عليه السلام).

فجاء وجلس إلى جنبه حتَّى فرغ مِن صلاته، ثمَّ قال: يا عبد الله، إنِّي امرؤٌ مِن أهل الشام أنعم الله عليَّ بُحبِّ أهل البيت وحُبِّ مَن أحبَّهم وتباكى له، وقال:

معي ثلاثة آلاف درهم أردت بها لقاء رجل منهم بلغني أنَّه قَدِم الكوفة، رجل يُبايع لابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكنت أُريد لقاءه فلم أجد أحداً يدلُّني عليه ولا أعرف مكانه. وإنِّي لجالس في المسجد الآن إذ سمعت نفراً مِن المؤمنين يقولون

٣٧٩

: هذا رجل له علم بأهل هذا البيت، وإنِّي أتيتك لتقبض منِّي هذا المال وتُدخلني على صاحبك، فإنِّي أخٌ مِن إخوانك وثقة عليك، وإنْ شئت أخذت بيعتي له قبل لقائه.

فقال له ابن عوسجة:

أحمد الله على لقائك إيَّاي، فقد سرَّني ذلك لتنال الذي تُحبُّ ولينصر الله بك أهل بيت نبيِّه (عليه وعليهم السلام) ولقد ساءني معرفة الناس إيَّاي بهذا الأمر قبل أنْ يتمَّ مَخافة هذا (يعني ابن زياد).

وأخذ عليه المواثيق المُغلَّظة ليُناصحنَّ وليكتمنَّ، فأعطاه مِن ذلك ما رضي به، ثمَّ قال له: اختلفْ إليَّ أيَّاماً في منزلي، فإنِّي طالب لك الإذن على صاحبك.

وأخذ يختلف مع الناس فطلب له الإذن فأذن له، فأخذ مسلم (عليه السلام) بيعته وأمر أبا ثمامة الصائدي يقبض المال منه، وهو الذي كان يقبض أموالهم وما يُعين به بعضهم بعضاً، ويشري لهم السلاح وكان بصيراً وفارساً مِن فُرسان العرب ووجوه الشيعة.

وأقبل ذلك الرجل يختلف إليهم، فهو أوَّل داخل وآخر خارج، حتَّى فَهم ما احتاج إليه ابن زياد مِن أمرهم فكان يُخبر به أوَّلاً بأول.

إنَّ نفاق هذا المُنافق قد أدَّى إلى مفاسد كبيرة ما كان بالإمكان جبرها، كمَقتل مسلم (عليه السلام) وهاني بن عروة، والتمهيد لواقعة كربلاء الدامية التي قُتِل فيها الحسين (عليه السلام) وأصحابه العظام، وهُمْ مِن أكرم أبناء الإسلام، وبذلك مَكَّن لتوطيد سُلطان يزيد وأعماله الفاسدة (١) .

____________________

(١) الأخلاق، ج٢.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421