القصص التربوية

القصص التربوية13%

القصص التربوية مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 421

القصص التربوية
  • البداية
  • السابق
  • 421 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 347759 / تحميل: 10130
الحجم الحجم الحجم
القصص التربوية

القصص التربوية

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

مَن كان مع الله فليس في غُربة!

يوسف الصِّدِّيق ابن النبي يعقوب، هذا الطفل المحبوب، تلقَّى درس الإيمان بالله مِن أبيه العظيم، ونشأ طفلاً مؤمناً في حِجر يعقوب... ولقد نقم إخوته الكِبار منه، وصمَّموا على إيذائه؛ فأخذوا الطفل معهم إلى الصحراء، وبعد أساليب مؤلمة ووحشيَّة فكَّروا في قتله، ثمَّ انصرفوا عن هذه الفكرة إلى إلقائه في البئر...

وكانت النتيجة أنْ بيع الطفل في مِصر بثمنٍ بخسٍ.

ولمعرفة عمره عندما ألقي في البئر يقول أبو حمزة: قلت لعليِّ بن الحسين (عليهما السلام): ابنُ كمْ كان يوسف، يوم ألقوه في الجُبِّ؟

فقال: (ابن تِسع سنين).

ماذا يُتوقَّع مِن طفل، لا يتجاوز عمره التِّسع سنوات، في مِثل هذه الظروف الحَرِجة والمؤلمة؟!

أليس الجواب هو الجَزع والاضطراب؟! في حين أنَّ قوَّة الإيمان، كانت قد منحت يوسف حينذاك مَقدرةً عجيبةً، وتطامناً فائقاً، ففي الحديث: (لمَّا أُخرج يوسف مِن الجُبِّ واشتري، قال لهم قائل: استوصوا بهذا الغريب خيراً.

قال لهم يوسف: مَن كان مع الله فليس في غُربة).

٦١

كهذا...

عاش الجاحظ في القَرن الثالث الهِجري، وله كتب وآثار كثيرة، وقد كان قبيح المنظر جِدَّاً، مُقرَّباً عند الخلفاء العباسيِّين؛ لعداوته لعليِّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وقد قال يوماً لتلاميذه: إنَّه لم يُخجلني طيلة عمري أحد، كما فعلت امرأة ثريَّة، فقد لقيت امرأة في بعض الطُّرق، وسألتني أنْ أصحبها ففعلت، حتَّى أتت بي إلى مَحلِّ صانع للتماثيل وقالت له - مُشيرة إليَّ ـ: كهذا... فبقيتُ حائراً مِن أمرها، ولمَّا انصرفت سألت الصائغ عن القِصَّة، فقال: لقد سألتني هذه المرأة أنْ أصوغ لها تِمثالاً للشيطان، فقلت لها: إنِّي لم أرَ الشيطان؛ كي أصوغ تِمثاله، فطلبت مِنِّي أنْ أنتظر حتَّى تجيء بتِمثاله... واليوم جاءت بك إليَّ وأمرتني أنْ أصوغه شبيهاً لمنظرك (١) .

____________________

(١) الطفل، ج٢.

٦٢

... لَتركت القاضي يأكلك!

ونموذج آخر مِن السُّخرية بالأشخاص المُصابين ببعض العيوب الظاهريَّة، نجده في قِصَّة القاضي المصري، رشيد بن الزبير، فقد كان مِن القُضاة الماهرين والكتَّاب العِظام في عصره، وكان ذا خُبرة كافية في علوم الفِقه، والمنطق، والنحو، والتاريخ... عاش في القَرن السادس الهِجري، وقد كان ذا قامة قصيرة، أسود اللون، ذا شفتين غليظتين، وأنفٍ كبيرٍ، ومَنظرٍ قبيحٍ جِدَّاً، كان يعيش في شبابه في القاهرة، ويسكن مع عبد العزيز الإدريسي، وسليمان الديلمي في بيتٍ واحد.

فخرج يوماً وتأخَّر في العودة إلى منزله، وعندما عاد سأله زُملاؤه عن سبب تأخُّره، فأبى أنْ يُجيبهم حتَّى ألحوا عليه، فقال: كنت أعبر مِن المحلِّ الفلاني، فصادفت امرأة ذكيَّةً، كانت تنظر إليَّ بعين الإعجاب، فذهلت مِن شِدَّة الفرح وبتُّ أرقب سَيرها، فأشارت إليَّ بطرف عينها؛ فتبعتها في السِّكَك الواحدة بعد الأُخرى، حتَّى انتهينا إلى دار، ففتحت الباب ودخلت، وأشارت إليَّ بالدخول فدخلت، فكشفت النقاب عن وجهها، وإذا به قِطعة مِن القمر... لم تمضِ فترة طويلة، حتَّى صفقت بيدها، ونادت باسم فتاة، فإذا بطفلة في غاية الجمال نزلت مِن الطاق العُلوي، فخاطبتها المرأة قائلة: لو تبوَّلت في فِراشك هذه المَرَّة؛ فسأُعطيك إلى هذا القاضي ليأكلك؛ فبلغ الخوف والهَلع مِن الطفلة مبلغه، وبلغ الارتباك والاضطراب مِنِّي مبلغه أيضاً. ثمَّ التفتت إليَّ قائلة: لا أعدمني الله إحسانه بفضل سيِّدنا القاضي أدام الله عِزَّه... فخرجتُ مِن الدار مُطأطئاً رأسي خَجلاً؛ ولفَرط ما أصابني مِن خَجلٍ وذهولٍ؛ ولشِدَّة تأثري تِهتُ الطريق إلى البيت، وبقيت أجوب الأزقَّة... ولهذا تأخَّرت في العَودة (١) .

____________________

(١) الطفل، ج٢.

٦٣

سَعد وحِلم

فقد النبي محمد (صلى الله عليه وآله) أمَّه يوم كان رضيعاً، ولم يقبل ثدي مُرضعة قَطُّ، وكان هذا مَبعث حزن وألم في البيت الهاشمي... إلى أنْ جاءت حليمة السعديَّة فعرضت ثديها عليه فقبله، وتكفَّلت برضاعه. عندئذٍ عَمَّ البيت السرور والفرح إلى أقصى حَدٍّ، فقال عبد المُطلَّب مُخاطباً إيَّاها:

ـ مِن أين أنتِ؟

ـ مِن بني سعد.

ـ ما اسمُك؟

ـ حليمة.

ـ بَخٍ بَخٍ، خلقان حسنان... سَعدٌ وحِلم ٌ (١) .

____________________

(١) الطفل، ج٢.

٦٤

مُعاوية اسم للأُثنى مِن الكِلاب

كان أحد رؤساء عشائر الشام يُسمَّى: (جارية) وكان رجلاً قويَّاً صريح اللَّهجة، وكان يُبطِن لمُعاوية حِقداً وعداءً. فسمع مُعاوية بذلك، فأراد أنْ يحتقره أمام مَلأٍ مِن الناس، ويجعل مِن اسمه وسيلة للاستهزاء به والسُّخرية منه، وصادف أنْ التقيا في بعض المجالس، فقال له مُعاوية:

ـ ما كان أهونك على قومك؛ أنْ سمّوك جارية؟

ـ وما كان أهونك على قومك؛ إذ سمّوك مُعاوية، وهي الأُنثى مِن الكِلاب.

ـ اسكُت لا أُمَّ لك!

ـ لي أُمٌّ ولدتني! أمَّا والله، إنَّ القلوب التي أبغضناك بها لبين جوانحنا، والسيوف التي قاتلناك بها لفي أيدينا، وإنَّك لم تُهلكنا قسوة ولم تملكنا عَنوة... ولكنَّك أعطيتنا عهداً وميثاقاً، وأعطيناك سَمعاً وطاعة، فإنْ وَفَيت لنا وفَينا لك، وإنْ نزعت إلى غير ذلك فإنَّا تركنا وراءنا رجالاً شِداداً وأسنَّة حِداداً.

ـ لا كثر الله في الناس مِثلك، يا جارية (١) .

____________________

(١) الطفل، ج٢.

٦٥

أُميَّة تصغير أمَة

كان شريك بن الأعور سيِّداً في قومه وكبيراً لهم، عاصر مُعاوية... وفي أحد الأيَّام دخل مجلس مُعاوية، فأراد هذا أنْ يحتقره ويسخر به؛ لقُبح اسمه واسم أبيه وللنقص الذي فيه، فقال له:

والله إنَّك لشريك، وليس لله مِن شريك، وإنَّك ابن الأعور، والصحيح خيرٌ مِن الأعور، وإنَّك لدميم والوسيم خيرٌ مِن الدميم، فبم سوَّدك قومك؟!

فقال له شريك: والله، إنَّك لمُعاوية، وليست مُعاوية إلاَّ كَلبة عوت فاستعوت فسُمِّيت مُعاوية، وإنَّك ابن حرب، والسلم خيرٌ مِن الحرب، وإنَّك ابن صَخر، والسهل خيرٌ مِن الصخر، وإنَّك ابن أُميَّة، وما أُميَّة إلاَّ أمة صُغِّرت فسُمِّيت أُميَّة، فكيف صرت أمير المؤمنين؟!

فقال له مُعاوية: أقسمت عليك إلاَّ ما خرجت عنِّي (١) .

____________________

(١) الطفل، ج٢.

٦٦

مُقوُّم الناقة

ربَّما تقع قضايا طيِّبة أو سيِّئة للأشخاص، في أيَّام عمرهم؛ فتترك أثراً حَسناً أو قَبيحاً في الأذهان، ثمَّ يُلخِّص الناس ذلك الأثر في كلمة أو جملة، ويجعلون منها لَقباً لصاحبه. ومِن هذا القبيل ما نُلاحظه في قِصَّة عبيد الله بن الزبير، حيث كان والياً على المدينة مِن قِبَل أخيه عبد الله بن الزبير، وقد شغل هذا المنصب بكلِّ قوَّة وكفاءة... وفي يوم مِن الأيَّام أخطأ في كلامه، أمام جمع غفير مِن الناس، وهو على المنبر، فبينما كان يعظ الناس تطرَّق لقِصَّة ناقة صالح، وظُلْمِ قومه لها، فقال لهم: قد ترون ما صنع الله بقوم في ناقة قيمتها خمسة دراهم؛ فسُمِّي (مُقوُّم الناقة) . لقد كانت الموعظة بذاتها صحيحة، إلاَّ أنَّ تقويمه للناقة كان خطأً؛ فلقَّبه الناس بـ: مُقوُّم الناقة، وشاع هذا اللقب، ولهج به الناس وأورد نقصاً عظيماً في شخصيَّته، فخلعه عبد الله بن الزبير وولَّى مكانه مصعباً. في هذا المثال، نجد أنَّ والي المدينة يسقط مِن الأنظار إثر سَبق لسان بسيط، ولقَّبه الناس بمُقوِّم الناقة؛ مستهزئين به، وذاكرين ذلك في كلِّ مُنتدى ومَجلس.

إنَّ الوالي الذي يتعرَّض لتحقير الناس وإهانتهم، ويشعر في نفسه بالحَقارة؛ لا يتمكَّن مِن مُمارسة السُّلطة والحُكم مَهْما كان ذا سَطوة وقوَّة (١) .

____________________

(١) الطفل، ج٢.

٦٧

في أوائل القَرن الثالث الهِجري، كان هناك رجل في العراق، يُكنَّى بـ: (أبي حفص) ، ولبعض أعماله لقَّبه الناس بـ (اللُّوطي) ، فكانوا يُحقِّرونه بهذا اللقب في غيابه. وقد أدَّت شُهرته هذه بين الناس إلى تأثُّره الشديد، وأوردت على شخصيَّته نقصاً غير قابل للتدارك، فمرض جارٌ له، فعاده أبو حفص والمريض في غاية الضعف، فسأله أبو حفص عن صِحَّته، وقال له: أتعرفني؟

فأجاب المريض بصوت خافت جِدَّاً: ولِمَ لا أعرفك؟ أنت أبو حفص اللُّوطي!

فدهش أبو حفص مِن هذا اللَّقب؛ ومُصارحة المريض له به.

فقال له: لقد جاوزت حَدَّ المعرفة، أرجو أنْ لا تقوم مِن مرضك هذا أبداً...

ثمَّ قام مِن عنده وخرج (١) .

____________________

(١) الطفل، ج٢.

٦٨

قيمة كلِّ امرئ ما يُحسنه

ما أكثر الرجال العلماء والمُثقَّفين، الذين كانت لهم الكفاءة لتسلُّم مناصب عالية في الدولة، والحصول على مقامات شامخة في المُجتمع، لكنَّهم فقدوا جميع قيمهم الاجتماعيَّة؛ إثر لَقبٍ قبيح، أو شُهرة سَيِّئة، وأخذ الناس ينظرون إليهم بعين الانتقاص والاحتقار... وبالتالي لم يستفيدوا مِن المواهب التي كانت تُميِّزهم، بلْ لم يستطيعوا الاستمرار في الحياة كأفراد عاديِّين، فكابدوا الضغط الروحي دائماً، وقضوا حياتهم في حِرمان وشعور بالحَقارة والدناءة.

وكمثال على ذلك، نذكر ما جرى لابن النديم بهذا الصدد، فقد كان إسحاق بن إبراهيم، المعروف بابن النديم، مِن العلماء الذين قَلَّ نظيرهم في عصره، وكان قد أجهد نفسه في علوم كثيرة: كالكلام، والفقه، والنحو، والتاريخ، واللغة، والشعر، وبرع في جميع ذلك بَراعةً تامَّةً، وكان عِملاقاً عظيماً في المُناظرات العلميَّة، وكثيراً ما كان يتغلَّب على فُضلاء عصره، وله في مُختلَف العلوم ما يقرب مِن أربعين مُجلَّداً وآثاره المُهمَّة باقية حتَّى اليوم.

كان ابن النديم ذا صوتٍ جميلٍ، ورغبةٍ شديدةٍ بالغناء، وكثيراً ما كان يشترك في مجالس طربِ الخُلفاء ورجال الدولة، ويؤنس الحاضرين بغنائه المُطرِب، ويجذب قلوبهم نحوه... ولاستمراره في هذا العمل تضاءلت قيمة ثقافته العلميَّة شيئاً فشيئاً؛ حتَّى عُرف في المُجتمع بهذه الصِفة، ولقبه الأساس بـ: (المُغنِّي) و (المُطرِب) .

لقد أوردت هذه الشُّهرة ضربة قاصمة على شخصيَّته، ولم يتمكَّن فيما بعد، أنْ يَعُدَّ نفسه في المُجتمع كرجل عالمٍ مُطلع، وأنْ يُظهر كفاءته العلميَّة... وبالرغم مِن قُربه مِن الخُلفاء والوجهاء، فإنَّهم لم يعهدوا إليه بمُهمَّة أو عمل خطير في الدولة؛ وذلك حَذراً مِن اضطراب الرأي العامّ.

٦٩

فكان المأمون العبَّاسي يقول: لو لم يشتهر ابن النديم بالطَّرب والغِناء، لولَّيته القَضاء؛ لأنَّه يفوق قُضاة الدولة، بالفضل، والعلم، وهو أكثرهم استحقاقاً لهذا المنصب (١) .

____________________

(١) الطفل، ج٢.

٧٠

أهل الكَرَم والجُود

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لمَّا حضر محمد بن أُسامة الموت، دخلت عليه بنو هاشم.

فقال لهم: قد عرفتم قَرابتي ومَنزلتي منكم، وعليَّ دَيْنٌ، فأُحبُّ أنْ تضمنوه عنِّي.

فقال عليُّ بن الحسين (عليه السلام): أما والله، ثُلُثُ دَيْنك عليَّ.

ثمَّ سكت فسكتوا.

فقال عليُّ بن الحسين (عليه السلام): عليَّ دَيْنك كلُّه.

ثمَّ قال عليُّ بن الحسين: أما إنَّه لم يمنعني أنْ أضمنه أوَّلاً، إلاَّ كراهيَّة أنْ يقولوا: سبقنا) (١) .

____________________

(١) الطفل، ج٢.

٧١

إمَّا المَنُّ وإمَّا القتل

غَضب عبد الملك بن مروان، على عبَّاد بن أسلم البكري يوماً، فكتب إلى واليه على العراق الحَجَّاج بن يوسف الثقفي أنْ يقتله، ويبعث برأسه إلى الشام، فأرسل الحَجَّاج إلى عبَّاد، يطلب حضوره؛ لتنفيذ ما أمر عبد الملك بشأنه.

تألَّم عبَّاد مِن معرفة الخبر، واضطرب كثيراً، وأقسم على الحَجَّاج أنْ يتخلَّى عن قتله؛ لأنَّه يُعيل أربعاً وعشرين امرأة وطفلاً؛ وبقتله سوف تَختلُّ شؤونهم وتضطرب حياتهم؛ فرقَّ الحَجَّاج لكلامه، وأمر بإحضار عائلته إلى دار الإمارة، وعندما حضر أولئك إلى دار الإمارة، واطَّلعوا على ما عزم عليه الحَجَّاج، وشاهدوا الحالة المُزْرية، التي كان عليها وليُّهم بدأوا بالبكاء والعويل... وفجأة قامت طفلة صغيرة مِن بينهم، كانت في غاية الجَمال، وأرادت أنْ تتكلَّم، فقال لها الحَجَّاج: ما هي صِلتك بعبَّاد؟!

قالت: أنا ابنته.

ثمَّ قالت له بكلِّ جُرأة:

يا أمير اسمع ما أقول... وأنشأت تقول:

أحَـجَّاجُ إمَّا أنْ تَمنُّ بتركه

عـلنيا وإمَّـا أنْ تُقتِّلنا معاً

أحَجَّاجُ لا تفجع به إنَّ قتلته

ثماناً وعشراً واثنتين وأربعاً

أحَجَّاجُ لا تترك عليه بناته

وخالاته يندُبنه الدهر أجمعاً

هذه الكلمات الصريحة والقويَّة، مِن هذه الطفلة الجريئة، أبكت حَجَّاجاً القاسي، وجعلته ينصرف عن قتل عبَّاد، ويُكاتب عبد الملك بشأنه، حتَّى حصل له على عفو الخليفة عنه (١) .

____________________

(١) الطفل، ج٢.

٧٢

بَلاغة صَبيٍّ

لمَّا آلت الخلافة إلى عمر بن عبد العزيز، أخذت الوفود تتقاطر عليه مِن أنحاء البلاد لتهنئته... وكان مِن تلك الوفود وفد الحِجاز. وكان في ذلك الوفد صبيٌّ صغير، قام في مجلس الخليفة ليتكلَّم، فقال له الخليفة: ليتكلَّم مَن هو أكبر مِنك سِنَّاً.

فقال الطفل: أيُّها الخليفة، إنْ كان المقياس للكفاءة كِبَر السِّنِّ؛ ففي مجلسك مَن هو أحَقُّ بالخلافة مِنك.

تعجَّب عمر بن عبد العزيز مِن هذا الكلام، ثمَّ أذِنَ له بالكلام، فقال:

لقد قصدناك مِن بلدٍ بعيد، وليس مَجيئنا لطمع فيك، أو خوف مِنك... لأنَّنا مُتنعِّمون بعدلك، ومُستقرُّون في بيوتنا بأمن واطمئنان... ولا نخاف منك؛ لأنَّنا نجد أنفسنا في أمن مِن ظلمك، وإنَّ مجيئنا إليك إنَّما هو لغرض التقدير والشكر.

فقال له عمر بن عبد العزيز: عِظْني.

قال الصبي: لقد أُصيب بعضٌ بالغرور؛ لنعم الله عليهم، وأُصيب آخرون بذلك؛ لمدح الناس إيَّاهم؛ فاحذر مِن أنْ يبعث هذان الأمران الغُرور فيك؛ فتنحرف في تدبير شؤون الدولة.

سُرَّ عمر بن عبد العزيز لهذا الكلام كثيراً، وسأل عن عمر الصبي.

فقيل له: هو ابن اثنتي عشرة سنة (١) .

____________________

(١) الطفل، ج٢.

٧٣

تضرُّع الأعرابي

رأى النبي (صلى الله عليه وآله) أعرابيَّاً يدعو في صلاته، ويتضرَّع إلى الله تعالى بعبارات عميقة ومضامين عالية. فأثَّرت كلماته المتينة، وعباراته المُشيرة إلى وعي صاحبها، والكاشفة عن درجة الإيمان والكمال التي هو عليها في النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ فعيَّن شخصاً لانتظار الأعرابي، حتَّى يفرغ مِن صلاته، فيأتي به إليه. وما أنْ فرغ الأعرابي حتَّى مَثُل بين يديه، فأهداه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قطعة مِن الذهب، ثمَّ سأله مِن أين أنت؟

ـ مِن بني عامر بن صَعصعة.

ـ هل عرفت لماذا أعطيتك الذهب؟! إنَّ للرحم حَقَّاً، ولكنْ وهبته لك لحُسن شأنك على الله عَزَّ وجَلَّ.

يبعث استحسان النبي وتشجيعه، الرغبة في عمل الخير في نفس الأعرابي، أكثر مِن السابق هذا مِن جِهةٍ، ومِن جِهة أُخرى يؤدِّي إلى أنْ يُقتدي الآخرون به (١) .

____________________

(١) الطفل، ج٢.

٧٤

عقل العباس وزينب

كان الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) جالساً يوماً في بيته، وقد جلس إلى جانبيه طِفلان صغيران: العباس، وزينب.

قال علي ٌّ(عليه السلام) للعباس: (قُلْ: واحد).

ـ واحد.

ـ (قُلْ: اثنان).

ـ أستحيي أنْ أقول باللسان الذي قُلت به: واحد، أنْ أقول اثنان!

ـ فقبَّل عليٌّ (عليه السلام) عينيه... ثمَّ التفت إلى زينب، وكانت على يساره فقالت: يا أبتا، أتُحبُّنا؟

ـ (نعم يا بُنيَّتي، أولادُنا أكبادُنا!).

ـ يا أبتاه، حُبَّان لا يجتمعان في قلب المؤمن: حُبُّ الله، وحُبُّ الأولاد، وإنْ كان لا بُدَّ، فالشَّفقة لنا والحُبُّ لله خالصاً.

فازداد عليٌّ (عليه السلام) بهما حُبَّاً.

إنَّ تقبيل الإمام (عليه السلام) عيني طفله الصغير، على صراحته واستقامته، وازدياد حُبِّه له ولأُخته الصغيرة، مُكافأة جميلة لهما؛ على ما صدر منهما. وفي الواقع فإنَّ بيت عليٍّ (عليه السلام) كان طافحاً بالتوحيد والإيمان، مليئاً بالحُبِّ الإلهيِّ والفَناء في ذاته... ولذلك؛ فإنَّ الأطفال قد تلقُّوا تربيةً سليمة، وطفحت قلوبهم كأبيهم - بحُبِّ الله وتوحيده (١) .

____________________

(١) الطفل، ج٢.

٧٥

عِزُّ الإسلام

لقد أنقذ الإسلام كثيراً مِن المسلمين، الذين كانوا ينتمون إلى عوائل وضيعة، بمنعه مِن ذَمِّ بعضهم البعض، وهكذا نجد أنَّ هؤلاء يتواصلون مع الناس، ويُعاشرونهم دون شعور بالخَجل والانحطاط، وإذا كان أحدٌ مِن المسلمين يوجِّه الذَّمَّ نحوهم، فإنَّ الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يمنعه مِن ذلك بصراحة.

كلُّنا نعلم ما كان يقوم به أبو جهل في صدر الإسلام، مِن مُعارضة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في نشر دعوته، وقد اشتهر بسبب ما أضمر، وفظاعة الجرائم التي قام بها، بالخيانة والدنس بين المسلمين.

وقد حضر ابنه عكرمة بعد موت أبيه، بين يدي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واعتنق الإسلام، فقبل النبي إسلامه، واحتضنه وأثنى عليه، لكنْ لمَّا كان عكرمة ينتمي إلى أُسرة أصرَّت على الكُفر، واشتهرت بسوء السُّمعة بين المسلمين، فإنَّ ذلك كان داعياً إلى احتقاره مِن قبل المسلمين، وفي رواية أنَّ المسلمين كانوا يقولون: (هذا ابن عدوِّ الله أبي جهل؛ فشكا ذلك إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فمنعم مِن ذلك، ثمَّ استعمله على صدقات هوازن) (١) .

____________________

(١) الطفل، ج٢.

٧٦

أستحيي أنْ تَغلب مسألته جودي

كان أبو هريرة مِن المُعارضين لحكومة الإمام (عليه السلام)، وقد كان في الأسابيع الأُولى مِن خلافة الإمام، يجلس على مَقربة مِن أمير المؤمنين (عليه السلام)، ويتكلَّم مع أصحابه بكلمات يشوبها الطعن، وكان يُصرُّ على الكلام بصوت عالٍ جِدَّاً، بحيث يسمع الإمام تلك الكلمات.

كان أصحاب الإمام يُشاهدون هذا المنظر ويتألَّمون، وفي يوم مِن الأيَّام جاء أبو هريرة إلى الإمام طالباً بعض الحوائج، فلبَّى الإمام جميع حوائجه.

عند ذلك عاتب أصحاب أمير المؤمنين على ذلك، فقال:

(إنِّي لأستحيي أنْ يغلب جَهله عِلمي، وذنبه عفوي ومسألته جودي).

إنَّ عليَّاً (عليه السلام) أعظم مِن أنْ يتغلَّب عليه أمثال أبي هريرة، بالكلمات المشوبة بالطعن والسُّخرية.. (١) .

____________________

(١) الطفل، ج٢.

٧٧

قيمة مُعاوية عند علقمة بن وائل

توجَّه علقمة بن وائل إلى المدينة المنوَّرة؛ للقاء النبي (صلى الله عليه وآله)، فتشرَّف بحضرته، وعرض عليه حاجته، ثمَّ قصد الذهاب إلى دار أحد كبار الأنصار في المدينة، ولكنَّه لم يكن يعرف الدار، وكان مُعاوية بن أبي سفيان حاضراً في المجلس، فأمره النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بإرشاد علقمة إلى دار الأنصاري.

يقول مُعاوية: خرجت بصحبة علقمة مِن عند النبي، فركب ناقته، وأخذت أسير بقدمين حافيتين على شِدَّة الحَرِّ، فقلت له في أثناء الطريق: لقد احترقت قدماي مِن شِدَّة الحَرِّ؛ فأردفني خلفك.

قال علقمة: إنَّك لا تليق بأنْ تركب رِدف السلاطين والعُظماء.

قلت: أنا ابن أبي سفيان.

قال علقمة: أعلم ذلك. لقد ذكر لي النبي هذا الأمر مُسبقاً.

ـ إذا كنت لا تسمح لي بالركوب خلفك، فانزع خُفَّيك لألبسهما وأتَّقي وَهَج الأرض.

قال علقمة: إنَّ خُفَّي أكبر مِن قدميك... ولكنْ أسمح لك بالسير في ظِلِّ ناقتي، وفي هذا تسامح كبير مِنِّي تِجاهَك، وفي نفس الوقت مُدعاة للفخر والاعتزاز لك، فتستطيع التباهي أمام الناس، أنَّك سِرت في ظِلِّ ناقتي (١) .

____________________

(١) الطفل، ج٢.

٧٨

الفَرق بين المجنون والمُبتلى

روي عن جابر بن عبد الله الأنصاري، أنَّه قال: مَرَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) برجل مصروع، وقد اجتمع عليه الناس ينظرون إليه، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (علامَ اجتمع هؤلاء؟).

فقيل: على مجنون يُصرع.

فنظر إليه فقال: (ما هذا بمجنون، ألاْ أُخبركم بالمجنون حَقَّ الجنون!).

قالوا: بلى يا رسول الله.

قال: (إنَّ المجنون حَقَّ الجنون، المُتبختر في مشيه، الناظر في عِطفيه، المُحرِّك جنبيه بمنكبيه، فذاك المجنون، وهذا المُبتلى) (١) .

____________________

(١) الطفل، ج٢.

٧٩

الذُّباب يذلُّ الجَبابرة

كان المنصور الدوانيقي، مِن الخُلفاء المُتجبِّرين في الأُسرة العباسيَّة، وقد جعلت ذُبابة يوماً وجهه مَسْرَحاً لنشاطها وتنقُّلها، فأخذت تطير مِن شَفته إلى عينيه، ومِن عينيه إلى أنفه، ومِن أنفه إلى جَبهته، حتَّى ضاق بها ذَرعاً، وتألَّم كثيراً؛ فقال لخَدمه: انظروا مَن ينتظرنا بالباب؟

فقالوا له: مُقاتل بن سلمان.

كان مُقاتل هذا، مِن كبار المُحدِّثين والمُفسِّرين في ذلك العصر، فأمر المنصور بالسَّماح له في الدخول. وما أنْ دخل حتَّى وجَّه له المنصور السؤال التالي:

هل تعلم لماذا خَلق الله الذباب؟!

قال: نعم؛ لُيذلَّ الجبابرة!

... فسكت المنصور.. (١) .

____________________

(١) الطفل، ج٢.

٨٠

الوجود ليس علّة تامّة في الرؤية

قال المصنّف ـ عطّر الله ضريحه ـ(١) :

المبحث الخامس

في أنّ الوجود ليس علّة تامّة في الرؤية

خالفت الأشاعرة كافّة العقلاء ها هنا ، وحكموا بنقيض المعلوم بالضرورة ، فقالوا : إنّ الوجود علّة [ في ] كون الشيء مرئيا ، فجوّزوا رؤية كلّ شيء موجود ، سواء كان في حيّز أم لا ، وسواء كان مقابلا أم لا!

فجوّزوا إدراك الكيفيات النفسانية ـ كالعلم ، [ وإلإرادة ، ] والقدرة ، والشهوة ، واللذّة ـ ، وغير النفسانية ممّا لا يناله البصر ـ كالروائح ، والطعوم ، والأصوات ، والحرارة ، والبرودة ، وغيرها من الكيفيات الملموسة ـ(٢) .

ولا شكّ أنّ هذا مكابرة للضروريّات ، فإنّ كلّ عاقل يحكم بأنّ الطعم إنّما يدرك بالذوق لا بالبصر ، والروائح إنّما تدرك بالشمّ لا بالبصر(٣) ، والحرارة ـ وغيرها من الكيفيات الملموسة ـ إنّما تدرك باللمس لا بالبصر ،

__________________

(١) نهج الحقّ : ٤٤ ـ ٤٥.

(٢) انظر : اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ٦١ ـ ٦٣ ، تمهيد الأوائل : ٣٠٢ ، شرح المقاصد ٤ / ١٨٨ ـ ١٨٩ ، شرح العقائد النسفية : ١٢٦ ، شرح المواقف ٨ / ١٢٣.

(٣) كان في الأصل : « بالإبصار » ، وما أثبتناه من المصدر ليناسب وحدة السياق.

٨١

والصوت إنّما يدرك بالسمع لا بالبصر

[ ولهذا فإنّ فاقد البصر يدرك هذه الأعراض ؛ ولو كانت مدركة بالبصر لاختلّ الإدراك باختلاله ].

وبالجملة : فالعلم بهذا الحكم لا يقبل التشكيك ، وإنّ من شكّ فيه فهو سوفسطائي.

ومن أعجب الأشياء : تجويزهم عدم رؤية الجبل الشاهق في الهواء ، مع عدم الساتر! وثبوت رؤية هذه الأعراض التي لا تشاهد ولا تدرك بالبصر!

وهل هذا إلّا عدم تعقّل من قائله؟!(١) .

__________________

(١) اختلفت النسخ في إيراد هذه الجملة ؛ ففي المخطوط وطبعة طهران : « وهل هذا الأمر يغفل قائله؟! » وفي طبعة القاهرة وإحقاق الحقّ : « وهل هذا إلّا من تغفّل قائله؟! » ؛ ولا شكّ أنّ التصحيف قد طرأ عليها على أثر سقوط كلمة « عدم » ؛ وما أثبتناه من المصدر هو المناسب للسياق.

٨٢

وقال الفضل(١) :

إعلم أنّ الشيخ أبا الحسن الأشعري استدلّ بالوجود على إثبات جواز رؤية الله تعالى(٢) .

وتقرير الدليل ـ كما ذكر في « المواقف » وشرحه ـ : أنّا نرى الأعراض كالألوان والأضواء وغيرها ، من الحركة والسكون ، والاجتماع والافتراق ؛ وهذا ظاهر.

ونرى الجوهر أيضا ؛ لأنّا نرى الطول والعرض في الجسم ، وليس الطول والعرض عرضين قائمين بالجسم ، لما تقرّر من أنّه مركّب من الجواهر الفردة.

فالطول مثلا ، إن قام بجزء واحد ، فذلك الجزء يكون أكثر حجما من جزء آخر ، فيقبل القسمة ؛ هذا خلف.

وإن قام بأكثر من جزء واحد ، لزم قيام العرض [ الواحد ] بمحلّين ؛ وهو محال.

فرؤية الطول والعرض هي رؤية الجواهر التي تركّب منها الجسم.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ١١٨ ـ ١٢٢.

(٢) انظر : الإبانة عن أصول الديانة : ٦٦ الدليل ٨١ ، الملل والنحل ١ / ٨٧ ، نهاية الإقدام في علم الكلام : ٣٥٧ ؛ وقال به الباقلّاني أيضا في تمهيد الأوائل : ٣٠١ ، وفخر الدين الرازي في الأربعين في أصول الدين ١ / ٢٦٨ والمسائل الخمسون : ٥٦ الوجه الأوّل ، والتفتازاني في شرح العقائد النسفية : ١٢٦.

٨٣

فقد ثبت أنّ صحّة الرؤية مشتركة بين الجوهر والعرض ، وهذه الصحّة لها علّة مختصّة بحال وجودهما ؛ وذلك لتحقّقها عند الوجود ، وانتفائها عند العدم ، ولو لا تحقّق أمر يصحّح حال الوجود غير [ متحقّق ] حال العدم لكان ذلك ترجيحا بلا مرجّح.

وهذه العلّة لا بدّ أن تكون مشتركة بين الجوهر والعرض ، وإلّا لزم تعليل الأمر الواحد بالعلل المختلفة ، وهو غير جائز.

ثمّ نقول : هذه العلّة المشتركة إمّا الوجود أو الحدوث ، إذ لا مشترك بين الجوهر والعرض سواهما ، لكنّ الحدوث عدمي لا يصلح للعلّة ، فإذا العلّة المشتركة : الوجود ، فإنّه مشترك بينها وبين الواجب ، فعلّة صحّة الرؤية متحقّقة في حقّ الله تعالى ، فتتحقّق صحّة الرؤية ؛ وهو المطلوب.

ثمّ إنّ هذا الدليل يوجب أن تصحّ رؤية كلّ موجود : كالأصوات ، والروائح ، والملموسات ، والطعوم ـ كما ذكره هذا الرجل ـ ، والشيخ الأشعري يلتزم هذا ويقول : لا يلزم من صحّة الرؤية لشيء تحقّق الرؤية له.

وإنّا لا نرى هذه الأشياء التي ذكرناها بجري العادة من الله تعالى بذلك ـ أي بعدم رؤيتها ـ فإنّ الله تعالى جرت عادته بعدم خلق رؤيتها فينا ، ولا يمتنع أن يخلق الله فينا رؤيتها كما خلق رؤية غيرها.

والخصوم يشدّدون عليه الإنكار ويقولون : هذه مكابرة محضة ، وخروج عن حيّز العقل بالكلّيّة.

ونحن نقول : ليس هذا الإنكار إلّا استبعادا ناشئا عمّا هو معتاد في الرؤية ؛ والحقائق ، والأحكام الثابتة المطابقة للواقع ، لا تؤخذ من العادات ،

٨٤

بل ممّا تحكم به العقول الخالصة من الأهواء وشوائب التقليدات(١) .

ثمّ من الواجب في هذا المقام أن تذكر حقيقة الرؤية حتّى يبعد الاستبعاد عن الطبائع السليمة ، فنقول :

إذا نظرنا إلى الشمس فرأيناها ، ثمّ غمضنا العين ، فعند التغميض نعلم الشمس علما جليّا.

وهذه الحالة مغايرة للحالة الأولى التي هي الرؤية بالضرورة ، وهذه الحالة المغايرة الزائدة ليست هي تأثّر الحاسّة فقط ـ كما حقّق في محلّه ـ ، بل هي حالة أخرى يخلقها الله تعالى في العبد ، شبيهة بالبصيرة في إدراك المعقولات.

وكما إنّ البصيرة في الإنسان تدرك الأشياء ، ومحلّها القلب ؛ كذلك البصر يدرك الأشياء ، ومحلّها الحدقة في الإنسان.

ويجوز عقلا أن تكون تلك الحالة تدرك الأشياء من غير شرط ومحلّ ، وإن كان يستحيل أن ( يدرك الإنسان بلا مقابلة )(٢) وباقي الشروط عادة.

فالتجويز عقلي ، والاستحالة عاديّة ؛ كما ذكرنا مرارا.

فأين الاستبعاد إذا تأمّله المنصف؟!

ومآل هذا يرجع إلى كلام واحد قدّمناه.

* * *

__________________

(١) المواقف : ٣٠٢ ـ ٣٠٣ ، شرح المواقف ٨ / ١٢٢ ـ ١٢٤ ملخّصا.

(٢) في المصدر : تدرك الأشياء إلّا بالمقابلة.

٨٥

وأقول :

لا يخفى أنّ دليل الأشعري قد تكرّر ذكره في كتبهم ، واستفرغ القوم وسعهم في تصحيحه ، فلم ينفعهم ، حتّى أقرّ محقّقوهم بعدم تمامه.

فهذا شارح « المواقف » بعد ترويجه بما أمكن ، والإيراد عليه ببعض الأمور ، قال : « وفي هذا الترويج تكلّفات أخر يطلعك عليها أدنى تأمّل ، فإذا الأولى ما قد قيل من أنّ التعويل في هذه المسألة على الدليل العقلي متعذّر »(١) .

وقال التفتازاني في « شرح المقاصد »(٢) بعد ما أطال الكلام في إصلاحه : « والإنصاف أنّ ضعف هذا الدليل جليّ »(٣) .

وأقرّ القوشجي في « شرح التجريد » بورود بعض الأمور عليه ممّا

__________________

(١) شرح المواقف ٨ / ١٢٩.

(٢) كان في الأصل : « شرح المطالع » وهو سهو ، بل هو « شرح المقاصد » ، فلم يعهد للتفتازاني كتاب بذاك الاسم ؛ انظر : هديّة العارفين ٦ / ٤٢٩ ـ ٤٣٠ ، معجم المؤلّفين ٣ / ٨٤٩ رقم ١٦٨٥٦.

و« مطالع الأنوار » في المنطق ، للقاضي سراج الدين محمود بن أبي بكر الأرموي ـ المتوفّى سنة ٦٨٢ ه‍ ـ ، ولكتابه شرح اسمه « لوامع الأسرار » لقطب الدين محمّد ابن محمّد الرازي ـ المتوفّى سنة ٧٦٦ ه‍ ـ أحد تلامذة العلّامة الحلّي ، وعلى شرحه هذا حواش عديدة ، منها : حاشية لسيف الدين أحمد بن محمّد ـ حفيد سعد الدين التفتازاني ، المتوفّى سنة ٨٤٢ ه‍ ـ ؛ ومن هنا حصل اللبس في نسبة الكتاب ؛ فلاحظ!

انظر : كشف الظنون ٢ / ١٧١٥ ـ ١٧١٧ ، أمل الآمل ٢ / ٣٠٠ ـ ٣٠١ رقم ٩٠٨ ، رياض العلماء ٥ / ١٧٠ ، لؤلؤة البحرين : ١٩٤ ـ ١٩٨ رقم ٧٤.

(٣) شرح المقاصد ٤ / ١٩١.

٨٦

لا يمكن دفعها(١) .

وكذلك الرازي في كتاب « الأربعين » على ما نقله عنه السيّد السعيد ;(٢) .

فحينئذ يكون ذكر الفضل له ـ بدون إشارة إلى ذلك ـ تلبيسا موهما لاعتباره عند أصحابه ، بل يكون نقصا فيهم ، إذ يعتمدون على ما لا يصلح أن يسطر ، فضلا أن يعتبر!

ولنشر إلى بعض ما يرد عليه ، فنقول : يرد عليه :

أوّلا : إنّ دعوى رؤية الجواهر الفردة ، التي هي الأجزاء التي لا تتجزّأ ، مبنيّة على ثبوتها وعلى تركّب الجسم منها ، لا من الهيولى والصورة ، وهو باطل ؛ لأنّ الجزء الواقع في وسط التركيب إمّا أن يحجب الأطراف عن التماس أو لا.

فعلى الأوّل : لا بدّ أن يلاقي كلّا منها بعضه ، فتلزم التجزئة.

وعلى الثاني : يلزم التداخل ، وهو محال ؛ وعدم زيادة الحجم ، وهو خلاف المطلوب.

وبعبارة أخرى : إنّ الوسط إمّا أن يلاقي الأطراف بكلّه

أو ببعضه

أو لا يلاقي شيئا منها

أو يلاقي بعضا دون بعض.

__________________

(١) انظر : شرح التجريد : ٤٣٣ و ٤٣٧ ـ ٤٣٨.

(٢) كتاب الأربعين ١ / ٢٦٨ ـ ٢٧٧ ، وانظر : إحقاق الحقّ ١ / ١٢٢.

٨٧

فالأوّل يقتضي التداخل وعدم زيادة الحجم.

والثاني يقتضي التجزئة.

والأخيران ينافيان التأليف من الوسط والأطراف.

وإن شئت قلت : لو وضع جزء على جزء ، فإن لاقاه بكلّه لزم التداخل وعدم زيادة الحجم ، وإن لاقاه ببعضه لزمت التجزئة.

وقد ذكر شيخنا المدقّق نصير الدين ١ وغيره من العلماء وجوها كثيرة لإبطال الجوهر الفرد ، فلتراجع(١) .

ويرد عليه ثانيا : إنّه لو سلّم ثبوت الجواهر الفردة والتركيب منها ، فإثبات رؤيتها ـ كما صرّح به الدليل ـ موقوف على بطلان كون الطول والعرض عرضين قائمين بأكثر من جزء واحد ؛ لاستلزامه قيام العرض الواحد بمحلّين.

وأنت تعلم أنّه إن أريد لزوم قيام العرض بتمامه ، في كلّ واحد من المحلّين ، فهو ممنوع.

وإن أريد لزوم قيامه بمجموع المحلّين ، فمسلّم ولا بأس به.

وثالثا : إنّه لو سلّم رؤية الجواهر كالأعراض ، فتخصيص العلّة بحال الوجود محلّ نظر ، بناء على مذهبهم من إحالة كلّ شيء إلى إرادة الفاعل المختار ، فتصحّ رؤية المعدوم كالموجود!

ودعوى ضرورة امتناع رؤية المعدوم عقلا ، فلا تصلح لأن تتعلّق بها

__________________

(١) انظر : تجريد الاعتقاد : ١٤٥ ، أوائل المقالات : ٩٦ ـ ٩٧ رقم ٨٧ ، النكت الاعتقادية : ٢٨ ، الذخيرة في علم الكلام : ١٤٦ وما بعدها ، المنقذ من التقليد ١ / ٣٤ و ٤٣ ـ ٤٨ ، كشف المراد : ١٤٥ ـ ١٤٦ المسألة ٦.

٨٨

إرادة الله تعالى وقدرته ، صحيحة ؛ لكن عندنا دونهم.

إذ ليس امتناع رؤية المعدوم بأظهر من امتناع رؤية العلم ، والإرادة ، والروائح ، والطعوم ، ونحوها من الكيفيات الموجودة ، وقد أنكروا امتناع رؤيتها.

ورابعا : إنّه لو سلّم أنّ العلّة هي الوجود ، فلا نسلّم أنّه بإطلاقه هو العلّة ، بل يمكن أن تكون العلّة هي الوجود المقيّد بالحدوث الذاتي ، أو الزماني ، أو بالإمكان ، أو بما يثبت معه شروط الرؤية ، وإن قلنا : إنّ بعض هذه الأمور عدميّ ؛ لأنّها قيود ، والقيد خارج.

ويمكن ـ أيضا ـ أن تكون علّة رؤية العرض هي وجوده الخاصّ به لا المطلق ، وكذا بالنسبة إلى رؤية الجوهر.

فلا يلزم صحّة رؤية الباري سبحانه.

ودعوى أنّا قد نرى البعيد وندرك له هويّة من غير أن ندرك أنّه جوهر أو عرض ، فيلزم أن يكون المرئي هو المشترك بينهما لا نفسهما ، وأن تكون العلّة مشتركة أيضا بينهما ، باطلة ؛ لمنع ما ذكره من لزوم كون المرئي هو المشترك.

وذلك لاحتمال تعلّق الرؤية بنفس المرئي بخصوصه ، إلّا أنّ إدراكه في البعد إجماليّ.

ولو سلّم تعلّقها بالمشترك ، فهو لا يستلزم أن تكون العلّة المشتركة هي الوجود المطلق ، بل يحتمل أن تكون هي المقيّد بالإمكان والحدوث أو نحوهما ، كما عرفت.

ولو أعرضنا عن هذا كلّه وعن سائر ما يورد على هذا الدليل ،

٨٩

فلا ريب ببطلانه ، لمخالفته للضرورة القاضية بامتناع رؤية بعض الموجودات ، كالكيفيات النفسانية والروائح والطعوم ، فليس هو إلّا تشكيكا في البديهيّ!

وأمّا ما ذكره من حقيقة الرؤية ، ففيه :

إنّ تلك الحالة الحاصلة عند التغميض إنّما هي صورة المرئي ، ومحلّها الحسّ المشترك أو الخيال ، لا الباصرة ، وهي موقوفة على سبق الرؤية.

فحينئذ إن كانت رؤية الله سبحانه ممتنعة ، فقد امتنعت هذه الحالة ، وإلّا فلا حاجة إلى تكلّف إثبات هذه الحالة وجعلها هي محلّ النزاع.

ولو سلّم أنّها غير موقوفة عليها ، بناء على إنّه أراد ما يشبه تلك الحالة الحاصلة عند التغميض لا نفسها ، فنحن لا نحكم عليها بالامتناع عادة بدون الشرائط كما حكم هو عليها ؛ لأنّها ـ كما زعم ـ شبيهة بالبصيرة في إدراك المعقولات ، فكيف تمتنع بدون الشرائط؟!

مع إنّها ليست محلّ النزاع ألبتّة ، بل محلّه الرؤية المعروفة ، كما يرشد إليه دليل الأشعري السابق ، فإنّ من تأمّله عرف أنّه أراد الرؤية المعروفة.

ولذا احتاج إلى جعل العلّة للرؤية هي الوجود ، ليتسنّى له دعوى إمكان رؤية الله تعالى ، وإلّا فلو أراد رؤية أخرى غيرها ، لم يكن لإثبات كون الوجود علّة للرؤية المعروفة دخل في تجويز رؤية أخرى عليه سبحانه.

٩٠

لكنّ القوم لمّا رأوا بطلان دليل الأشعري بالبداهة ، وفساد مذهبه بالضرورة ، التجأوا ـ في خصوص المقام ـ إلى ذكر معنى للرؤية لا يعرفون حقيقته! وإلى جعله محلّا للنزاع من دون أن يخطر ـ في الصدر الأوّل ـ ببال المتنازعين ، فشوّشوا كلماتهم ، وشوّهوا وجه الحقيقة!

* * *

٩١
٩٢

هل يحصل الإدراك لمعنى في المدرك؟

قال المصنّف ـ طيّب الله مثواه ـ(١) :

المبحث السادس

في أنّ الإدراك ليس لمعنى

والأشاعرة خالفت العقلاء في ذلك ، وذهبوا مذهبا غريبا عجيبا ، لزمهم بواسطته إنكار الضروريّات.

فإنّ العقلاء بأسرهم قالوا : إنّ صفة الإدراك تصدر عن كون الواحد منّا حيّا لا آفة فيه.

والأشاعرة قالوا : إنّ الإدراك إنّما يحصل لمعنى حصل في المدرك ، فإن حصل ذلك المعنى في المدرك ، حصل الإدراك وإن فقدت جميع الشرائط ؛ وإن لم يحصل ، لم يحصل الإدراك وإن وجدت جميع الشرائط!(٢) .

وجاز عندهم بسبب ذلك إدراك المعدومات ؛ لأنّ من شأن الإدراك أن يتعلّق بالمدرك(٣) على ما هو عليه في نفسه ، وذلك يحصل في حال

__________________

(١) نهج الحقّ : ٤٥ ـ ٤٦.

(٢) انظر مؤدّاه في : تمهيد الأوائل : ٣٠٢ ، الإرشاد ـ للجويني ـ : ١٥٧ ـ ١٥٨ ، شرح المقاصد ٤ / ١٩٧.

(٣) في المصدر : بالمرئي.

٩٣

عدمه كما يحصل حال وجوده ، فإنّ الواحد منّا يدرك جميع الموجودات بإدراك يجري مجرى العلم في عموم التعلّق.

وحينئذ يلزم تعلّق الإدراك بالمعدوم ، وبأنّ الشيء سيوجد ، وبأنّ الشيء قد كان موجودا ، وأن يدرك ذلك بجميع الحواسّ ، من الذوق والشمّ واللمس والسمع ؛ لأنّه لا فرق بين رؤية الطعوم والروائح ، وبين رؤية المعدوم!

وكما إنّ العلم باستحالة رؤية المعدوم ضروريّ ، كذا العلم باستحالة رؤية الطعوم والروائح.

وأيضا : يلزم أن يكون الواحد منّا رائيا مع الساتر العظيم البقّة ، ولا يرى الفيل العظيم ولا الجبل الشاهق مع عدم الساتر ، على تقدير أن يكون المعنى قد وجد في الأوّل وانتفى في الثاني! وكان يصحّ منّا أن نرى ذلك المعنى ؛ لأنّه موجود!

وعندهم أنّ كلّ موجود يصحّ رؤيته ، ويتسلسل ؛ لأنّ رؤية المعنى(١) إنّما تكون بمعنى آخر.

وأيّ عاقل يرضى لنفسه تقليد من يذهب إلى جواز رؤية الطعم والرائحة والبرودة والحرارة والصوت بالعين ، وجواز لمس العلم والقدرة والطعم والرائحة والصوت باليد ، وذوقها باللسان ، وشمّها بالأنف ، وسماعها بالأذن؟!

وهل هذا إلّا مجرّد سفسطة وإنكار المحسوسات؟! ولم يبالغ السوفسطائية في مقالاتهم هذه المبالغة!

__________________

(١) في المصدر : الشيء.

٩٤

وقال الفضل(١) :

الظاهر أنّه استعمل الإدراك وأراد به الرؤية ، وحاصل كلامه أنّ الأشاعرة يقولون : إنّ الرؤية معنى يحصل في المدرك ، ولا يتوقّف حصوله على شرط من الشرائط.

وهذا ما قدّمنا ذكره غير مرّة ، وبيّنّا ما هو مرادهم من هذا الكلام.

ثم إنّ قوله : « وجاز عندهم بسبب ذلك إدراك المعدومات ؛ لأنّ من شأن الإدراك أن يتعلّق بالمدرك(٢) على ما هو عليه في نفسه ، وذلك يحصل في حال عدمه كما يحصل حال وجوده » استدلال باطل على معنى(٣) مخترع له.

فإنّ كون الرؤية معنى يحصل في الرائي لا يوجب جواز تعلّقها بالمعدوم ، بل المدّعى أنّه يتعلّق بكلّ موجود كما ذكر هو في الفصل السابق.

وأمّا تعلّقه بالمعدوم فليس بمذهب الأشاعرة ، ولا يلزم من أقوالهم في الرؤية.

ثمّ ما ذكره من أنّ العلم باستحالة رؤية الطعوم والروائح ضروريّ ، مثل العلم باستحالة رؤية المعدوم

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ١٢٤ ـ ١٢٥.

(٢) في المصدر : بالمرئي.

(٣) في المصدر : مدّعى.

٩٥

فقد ذكرنا أنّه إن أراد ـ بهذه ـ الاستحالة العقليّة ، فممنوع ؛ وإن أراد العاديّة ، فمسلّم والاستبعاد لا يقدح في الحقائق الثابتة بالبرهان.

ثمّ ما ذكر من أنّه على تقدير كون المعنى موجودا ، كان يصحّ منّا أن نرى ذلك المعنى ، لأنّه موجود ، وكلّ موجود يصحّ رؤيته ويتسلسل ؛ لأنّ رؤية المعنى إنّما تكون لمعنى آخر.

فالجواب : إنّ العقل يجوّز رؤية كلّ موجود وإن استحال عادة ، فالرؤية إذا كانت موجودة [ به ] يصحّ أن ترى نفسها ، لا برؤية أخرى ، فانقطع التسلسل ، كما ذكر في الوجود على تقدير كونه موجودا ، فلا استحالة فيه ، ولا مصادمة للضرورة.

ثمّ ما ذكره من باقي التشنيعات والاستبعادات قد مرّ جوابه غير مرّة ، ونزيد جوابه في هذه المرّة بهذين البيتين(١) :

وذي سفه يواجهني بجهل

وأكره أن أكون له مجيبا

يزيد سفاهة وأزيد حلما

كعود زاده الإحراق طيبا

* * *

__________________

(١) ينسب البيتان إلى أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب ٧ ، كما نسبا إلى الشافعي باختلاف يسير في صدر البيت الأوّل ؛ انظر : ديوان الإمام عليّ ٧ : ٢٨ ، ديوان الشافعي : ١٤٤.

٩٦

وأقول :

لا ريب أنّ بحث المصنّف ; هنا عامّ لجميع الإحساسات الظاهريّة ولا يخصّ الرؤية ، كما يشهد له قوله : « وأن يدرك ذلك بجميع الحواسّ من الذوق والشمّ واللمس والسمع ».

وقوله : « وجواز لمس العلم والقدرة » وهو أيضا لم يستعمل في هذا المبحث لفظ الإدراك إلّا بالمعنى المطلق.

فالمصنّف قصد بهذين القولين التنصيص على غير الرؤية ، دفعا لتوهّم اختصاص البحث بها ؛ ومع ذلك وقع الفضل بالوهم!

كما توهّم أيضا أنّه أراد أنّ الإدراك معنى يحصل في المدرك ؛ والحال أنّه أراد أنّ الإدراك يحصل لأجل معنى في المدرك.

وحاصل مقصوده أنّهم قالوا : إنّ الإدراك يحصل في الحيوان لأجل معنى فيه ، كالحياة ، ولا ريب أنّ من شأن الإدراك أن يتعلّق بالشيء على ما هو عليه في نفسه ، ولا يتقيّد الشيء ـ بالوجود ونحوه ـ إلّا لأجل تلك الشروط السابقة ، وهم لا يعتبرونها ، فيجري الإحساس بمقتضى مذهبهم مجرى العلم في عموم التعلّق.

فإذا حصل المعنى في الشخص ، لزم صحّة تعلّق الرؤية ونحوها بالمعدوم ، وبأنّ الشيء سيوجد إلى غير ذلك.

مع إنّه بمقتضى مذهبهم ـ من إحالة كلّ شيء إلى إرادة الفاعل المختار ـ يلزم أيضا جواز إدراك المعدوم بجميع الحواسّ الظاهريّة ، كما

٩٧

جاز رؤية العلم والقدرة ونحوهما.

فظهر أنّ ما نسبه المصنّف إليهم من جواز إدراك المعدومات ، لازم لهم من أقوالهم ، وأراد بالنسبة إليهم النسبة بحسب ما يلزمهم ، وإن لم يقولوا به ظاهرا.

ثمّ إنّه أراد بقوله : « لا فرق بين رؤية الطعوم والروائح ، وبين رؤية المعدوم ، وكما إنّ العلم باستحالة رؤية المعدوم ضروريّ » إلى آخره

دفع استبعاد نسبة جواز رؤية المعدوم إليهم.

وحاصله : إنّ رؤية الطعوم والروائح مستحيلة عقلا بالضرورة كرؤية المعدوم بلا فرق ، فإذا التزموا بجواز رؤية الطعوم ونحوها ، مكابرة ومخالفة لضرورة العقل والعقلاء ، لم يستبعد منهم القول بجواز رؤية المعدوم.

وبهذا تعرف أنّ ما ذكره الفضل في جوابه بقوله : « قد ذكرنا أنّه إن أراد ـ بهذه ـ الاستحالة العقلية ، فممنوع » إلى آخره لا ربط له بكلامه ، اللهمّ إلّا أن يريد الجواب بدعوى الفرق بين الاستحالتين ، بأنّ استحالة رؤية الطعوم عاديّة ، واستحالة رؤية المعدوم عقلية!

فيكون قد كابر ضرورة العقل من جهتين : من جهة : دعوى الفرق ، ومن جهة : أصل القول ، بأنّ استحالة رؤية الطعوم ونحوها عاديّة.

وأمّا ما أجاب به عن التسلسل :

فمع عدم ارتباطه بمراد المصنّف ، غير دافع للتسلسل

أمّا عدم ارتباطه به ؛ فلأنّه فهم تسلسل الرؤية بأن تتعلّق الرؤية برؤية أخرى ، إلى ما لا نهاية له ، بناء منه على إنّه أراد بالمعنى : الرؤية

٩٨

ـ كما سبق ـ وقد عرفت بطلانه ؛ وأنّ مراده بالمعنى : هو الأمر الذي لأجله يحصل الإدراك ، فيكون مراده بالتسلسل ـ بناء على هذا ـ هو تسلسل هذه المعاني ، لا الرؤية ـ كما هو واضح من كلامه ـ.

وأمّا أنّه غير دافع له ؛ فلأنّ التسلسل الواقع في الرؤية إنّما هو من حيث صحّة تعلّق رؤية برؤية ، لا من حيث وجوب التعلّق ، فلا يندفع إلّا بإنكار هذه الصحّة ، لا بإثبات صحّة رؤية الرؤية بنفسها ، التي لا تنافي التسلسل في الرؤية المختلفة.

على إنّه لا معنى لصحّة رؤية الرؤية بنفسها ، للزوم المغايرة بين الرؤية الحقيقية والمرئيّ ؛ لأنّ تعلّق أمر بآخر يستدعي الاثنينيّة بالضرورة.

وأمّا ما نسبه إلى القوم ، من أنّهم دفعوا التسلسل في الوجود ، بأنّ الوجود موجود بنفسه لا بوجود آخر ، فلا ربط له بالمقام ؛ لأنّهم أرادوا به عدم حاجة الوجود إلى وجود آخر حتّى يتسلسل ، فكيف يقاس عليه رؤية الرؤية بنفسها؟!

نعم ، يمكن الجواب عن إشكال هذا التسلسل ، بأنّ اللازم هو التسلسل في صحّة تعلّق الرؤية برؤية أخرى إلى ما لا نهاية له ، والصحّة أمر اعتباري ، والتسلسل في الاعتباريات ليس بباطل ؛ لأنّه ينقطع بانقطاع الاعتبار ، لكنّ القول بصحّة رؤية الرؤية مكابرة لضرورة العقل!

وأمّا ما استشهد به من البيتين ، فلا يليق بذي الفضل إلّا الإعراض عن معارضته!

٩٩
١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421