المجتمع والتاريخ

المجتمع والتاريخ0%

المجتمع والتاريخ مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: كتب
الصفحات: 433

المجتمع والتاريخ

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ مرتضى المطهري
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الصفحات: 433
المشاهدات: 71543
تحميل: 16693

توضيحات:

المجتمع والتاريخ
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 433 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 71543 / تحميل: 16693
الحجم الحجم الحجم
المجتمع والتاريخ

المجتمع والتاريخ

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ ) وقال تعالى:( وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ ) ونحو ذلك(١) وشرطاً ثالثاً، وهو بقاء فطرة الإنسان نابضة بالحياة قال تعالى:( لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً ) (٢) فالإسلام يعتبر من شروط قبول الدعوة لدى الإنسان طهارته الأصلية، والشعور بالمسؤولية تجاه الكون، والبقاء على حياته الفطرية، كما أنّه يعتبر موانع قبول الدعوة من قبل الإنسان الفساد الروحي والخلقي وإثم القلب(٣) ، ورين القلب(٤) ، والختم على القلب(٥) ، وعمى البصيرة(٦) ، صمم أذن القلب(٧) ، والتحريف في الكتاب النفسي(٨) ، ومتابعة تقاليد الآباء(٩) ، ومتابعة الكبراء والشخصيات(١٠) ، ومتابعة الظن والأهواء(١١) ، ونظائرها. وأمّا الإسراف والترف وشدّة العلاقة بالتنعّم، فهي إنّما تعد مانعاً من جهة أنّها تنمّي في الإنسان الخصال الحيوانية وتبدله إلى بهيمة أو سَبُع، فهذه الأُمور من وجهة نظر القرآن موانع توقف حركة المجتمع نحو الخير والصلاح والتكامل.

____________________

(١) راجع سورة طه ٣ والأنبياء ٤٩ وفاطر ١٨ ويس١١.

(٢) يس ٧٠.

(٣) البقرة ٢٨٣.

(٤) المطففين ١٤.

(٥) البقرة ٧.

(٦) الحج ٤٦.

(٧) حم السجدة ٤٤.

(٨) الشمس ١٠.

(٩) الزخرف ٢٣.

(١٠) الأحزاب ٦٧.

(١١) الأنعام ١١٦.

٢٠١

ويستفاد من التعاليم الدينية أن الشباب أقرب إلى قبول الدعوة من الشيوخ، والفقراء اقرب من الأغنياء ؛ لأنّ فطرة الشباب بسبب صغر سنّهم أبعد من المدنّسات الروحية، وكذلك فطرة الفقراء بسبب بعدهم عن الثروة والتنعّمات.

وسرد هذه الشروط والموانع - حسبما ذكرناه - يؤيّد أنّ ميكانيكية التطوّر الاجتماعي والتاريخي في القرآن روحية أكثر ممّا هي اقتصادية ومادية.

٤ - العلو والانحطاط في المجتمعات:

كل مدرسة اجتماعية لا بد لها من إبداء رأيها في أسباب علو المجتمعات وانحطاطها ويتبين من كيفية إبداء رأيها في ذلك وجهة نظرها حول المجتمع والتاريخ، وحركات التكامل والسقوط فيها وقد ورد في القرآن التنبيه على هذا الأمر، وخصوصاً في ضمن بيان القصص والقضايا التاريخية وهنا نلاحظ أنّ رأي القرآن في هذا الموضوع هل يتركّز على الأساس أو البناء العلوي، كما يُقال، وبتعبير صحيح: نلاحظ ما يجعله القرآن أساساً وما يجعله بناءاً علوياً، وأنّ العامل الأساس من وجهة نظر القرآن هل هو الاقتصاد أو الشؤون العقائدية والخلقية، أم أنّه ينظر إلى كل من الجهتين على حد سواء ؟ ونجد أنّ القرآن يشير إلى أربعة عوامل هامة في العلو والانحطاط الاجتماعي، نذكرها فيما يلي باختصار:

أ - العدل والظلم:

وقد تعرّض القرآن لذلك في كثير من الآيات: منها الآية الثانية من سورة القصص، وقد مرّ الكلام حولها:( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأرض وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي

٢٠٢

نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) ففي هذه الآية الكريمة ورد - أولاً - ذكر استعلاء فرعون، وادعائه للإلوهية، واستعباده الآخرين، وإلقاء التفرقة بين الناس بأنحاء التمييز فيما بين طوائفهم، وإلقاء العداوة بينهم، واحتقار طائفة خاصة من المواطنين، وقتل أبنائهم وإبقاء نسائهم بغية استخدامهن ثم أعلنت الآية أنّ فرعون من المفسدين ومن الواضح أنّ ذلك إشارة إلى أنّ هذه المظالم الاجتماعية تهدم أساس المجتمع وتفسده.

ب - الوحدة والتشتّت: قال تعالى في سورة آل عمران / ١٠٣:( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ) ثمّ قال بعد آية فاصلة:( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ) (١) وقريبة من هذا المضمون آية ١٥٣ من الأنعام وقال تعالى في سورة الأنعام / ٦٥:( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ) وفي سورة الأنفال / ٦٤:( وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ) .

ج - التقيّد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإهمالهما: لقد أكّد القرآن كثيراً على ضرورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويستنبط بوضوح من إحدى الآيات أن ترك هاتين الفريضتين عامل مؤثّر في انهدام أركان المجتمع حيث ذكر فيها من علل بعد الكفار من

____________________

(١) آل عمران - ١٠٥.

٢٠٣

بني إسرائيل عن رحمة الله تعالى عدم التناهي عن المنكرات قال تعالى في سورة المائدة / ٧٩:( كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) والروايات المعتبرة الإسلامية أكّدت كثيراً على الدور الهام للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتركهما ولا مجال لذكرها.

د - الفسق والفجور والفساد الخلقي:

والآيات في هذا الموضوع كثيرة أيضاً فمنها التي اعتبرت عمل المترفين سبباً للهلاك(١) ومنها أكثر الآيات المشتملة على عنوان الظلم والظلم في مصطلح القرآن لا يختص باعتداء فرد أو جماعة على حقوق فرد أو جماعة آخرين، بل يشمل ظلم الفرد على نفسه، وظلم المجتمع على نفسه فكل فسق أو فجور أو خروج عن الطريقة الإنسانية المستقيمة يعد ظلماً فالظلم في القرآن مفهوم عام يشمل الظلم على الغير والفسق والفجور والأعمال المنافية للأخلاق، بل الغالب من استعمال هذه الكلمة في القرآن هو المصداق الثاني والآيات القرآنية التي اعتبرت الظلم بالمعنى العام سبباً لهلاك مجتمع خاص كثيراً جدّاً، لا مجال لذكرها.

وتستفاد من مجموع هذه المقاييس وجهة نظر القرآن حول أساس المجتمع والتاريخ ويتبين أنّ كثيراً من الأُمور تعتبر في نظر القرآن ذات دور هام أساسي في المجتمع مع أنّ بعضها يعد في الاصطلاح من شؤون البناء العلوي.

____________________

(١) راجع سورة هود ١١٦ والأنبياء ١٣ والمؤمنون ٢٣ و ٦٤.

٢٠٤

تطوّر التاريخ وتكامله:

إنّ الأبحاث السابقة كانت تدور حول أحد الموضوعين المهمّين للتاريخ، أي ماهيته، والكلام في أنّها مادية أو غير مادية والموضوع المهم الآخر تطوّر التاريخ الإنساني.

من المعلوم أنّ الحياة الاجتماعية لا تختص بالإنسان، فهناك بعض الحيوانات الأُخرى تعيش عيشة اجتماعية نوعا ما، فحياتها تبتني على التعاون وتقسيم الأعمال والمسؤوليات تحت مجموعة من القوانين المنظمة فالنحل - مثلاً - من هذا القبيل، ولكن هناك فرق أساسي بين الحياة الاجتماعية للإنسان والحياة الاجتماعية لتلك الحيوانات، وهي أنّ حياتها الاجتماعية ثابتة لا تتغير، فلا يطرأ التطوّر والتكامل على نظامها المعيشي، أو كما يقول: ( موريس مترلنيك ) على تمدّنها، إن صحّ التعبير وهذا بخلاف الحياة الاجتماعية لدى البشر، فإنّها متطوّرة متكاملة بل لها نوع من السرعة، وهذه السرعة تزداد تدريجياً ؛ ولذلك فإنّ تاريخ الحياة الاجتماعية للإنسان ينقسم إلى أدوار تختلف حسب اختلاف الجهات الملحوظة فمثلاً ينقسم من حيث وسائل الحياة إلى مرحلة الصيد ومرحلة الزراعة ومرحلة الصناعة ومن حيث النظام الاقتصادي إلى المرحلة الاشتراكية الحديثة ومن حيث النظام السياسي إلى المرحلة العشائرية، ومرحلة الاستبداد والديكتاتورية، والمرحلة الارستقراطية، والمرحلة الديمقراطية ومن حيث الجنس إلى مرحلة زعامة المرأة ومرحلة زعامة الرجل، وهكذا من سائر الحيثيات.

لماذا لا يلاحظ هذا التطور في الحياة الاجتماعية لسائر الحيوانات ؟

٢٠٥

وما هو السر والعامل الأساس لتطور حياة الإنسان وانتقالها من مرحلة إلى أُخرى ؟ وبعبارة أُخرى ما هو الأمر المختص بالإنسان الذي يسير بحياته الاجتماعية قُدماً إلى الأمام ؟ وكيف يتحقق هذا الانتقال والتقدم وما هو النظام الذي يسير طبقاً له، وبتعبير آخر ما هي ميكانيكيته ؟

وهنا سؤال آخر يُثار من قبل فلاسفة التاريخ، وهو أنّ هذا التقدّم والتكامل المدّعى هل هو أمر واقعي أم لا ؟ فالتغييرات الحاصلة في الحياة الاجتماعية للبشر أمر قطعي إنّما السؤال في أنّها هل هي في سبيل التقدم والتكامل واقعاً أم لا ؟ وما هو مناط التكامل ومقياسه ؟ وقد أظهر بعضهم الشك في ذلك، وهو مذكور في الكتب الموضوعة لهذا البحث(١) وذهب بعضهم إلى أنّ مسير التاريخ دائري، بمعنى أنّه يبدأ من نقطة ويعود في مسيره المرحلي إليها مرة أُخرى، وأنّ شعار التاريخ هو ( عود على بدء ) فمثلاً يؤسس النظام العشائري بواسطة جماعة من أهل البادية ذوي الشجاعة والعزم القوي، ولكن هذه الحكومة تنجرّ بطبيعتها إلى الارستقراطية، ويؤدّي حصر القدرة والحكومة في طبقة الأشراف إلى ثورة جماعية، وينهي الأمر إلى الحكومة الديمقراطية، ثم تسود الفوضى في المجتمع والإفراط في الحرية، وهذا يستوجب عودة الديكتاتورية والاستبداد القاسي بواسطة الروح العشائرية.

ولكنّنا نترك هذا البحث، ونقبل كأصل موضوعي أنّ حركة التاريخ وسيره على وجه العموم نحو التقدم والتكامل والجدير بالذكر أنّ كل أولئك القائلين بأنّ التاريخ يتوجّه نحو التقدم لا يعتقدون بأنّ مستقبل

____________________

(١) راجع كتاب ( ما هو التاريخ ؟ ) تأليف: ام اش كار ودروس في التاريخ تأليف ويل دورانت، وكتاب لذات الفلسفة.

٢٠٦

جميع المجتمعات خير من ماضيها وأنّها جميعاً تسير نحو العلو والتكامل بدون توقّف وركود، أو عود إلى الوراء، فلا شك أنّ المجتمعات قد تتوقف عن التقدم، بل قد ترجع إلى الوراء وقد تتمايل يميناً ويساراً، وقد ينتهي أمرها إلى السقوط والفناء فالمراد أنّ المجتمعات البشرية من حيث المجموع تسير نحو التقدم والعلو.

وقد ذكر في كتب فلسفة التاريخ عوامل التطور الاجتماعي ومحركات التاريخ، بوجه يتبيّن عدم صحته بعد تأمّل يسير فالنظريات في هذه المسألة المذكورة عادة كالتالي:

١ - النظرية العنصرية:

فالعامل الأساس الموجب لتقدم التاريخ طبقاً لهذه النظرية، بعض العناصر من البشر التي تملك قابلية خلق الحضارة والثقافة، الأمر الذي تفقده سائر العناصر فبعض الطوائف من البشر يستطيعون إنتاج العلم والفلسفة والصناعة والفن والأخلاق، وبعض آخر يستفيدون فقط والنتيجة أنّه لا بد من إجراء نوع من تقسيم الأعمال بين الطوائف المختلفة على أساس الاختلاف العنصري، فالعنصر القابل لإجراء السياسة والتعليم والتربية وإنتاج الثقافة والفن والأدب والصناعة يلتزم مسؤولية هذه الشؤون الإنسانية اللطيفة والراقية وأمّا الطوائف التي لا تمتلك هذه القابلية، فهي معفيّة عن هذه الوظائف فيحال إليها الأعمال الشاقّة الجسمية، نظير أعمال الحيوانات حيث لا تحتاج إلى فكر قوي وذوق رفيع وممّن قال بهذه النظرية أرسطو، ولذلك كان يعتقد بأنّ بعض العناصر تستحق السيادة وتملك العبيد، وبعضها تستحق أن تكون عبيداً.

ويعتقد بعضهم أنّ سبب تكامل التاريخ هو خصوصية بعض

٢٠٧

العناصر فمثلاً العنصر الشمالي أفضل من العنصر الجنوبي، وهو الذي خلق الحضارات وممّن كان يعتقد بهذه النظرية ( كنت كوبينو ) الفيلسوف المعروف الفرنسي الذي كان قبل مئة سنة تقريباً وزيراً مختاراً لفرنسا في إيران لمدة ثلاث سنين.

٢ - النظرية الجغرافية:

هذه النظرية تقول: إنّ خالق الحضارات، وموجد الثقافات، ومنتج الصناعات هو البيئة الطبيعية الخاصة ففي المناطق المعتدلة تتواجد الأمزجة المعتدلة والأفكار القوية الخلاّقة وقد ذكر ابن سينا في أوائل كتاب القانون شرحاً مبسّطاً حول تأثير الطبيعة في صنع الشخصية الفكرية والذوقية والعاطفية فالعامل الذي يهيّئ الإنسان للتقدم في التاريخ ليس هو العنصر والدم، أي العامل الوراثي، فيكون ذلك العنصر صانعاً للتاريخ أينما كان، وفي أيّة بيئة، والعنصر الآخر لا يستطيع ذلك أينما كانت عيشته بل إنّ اختلاف العناصر ناشئ من اختلاف البيئات، ومع هجرة الطوائف المختلفة تنتقل القابليات فالواقع أنّ الأقاليم والمناطق الخاصة تؤثّر في تقدم التاريخ، وتجدد معالم الحضارة وممّن قبل هذه النظرية ( مونتسكيو ) العالم الاجتماعي الفرنسي في القرن السابع عشر في كتابه المعروف ( روح القوانين ).

٣ - النطرية البطولية:

طبقاً لهذه النظرية لا يصنع التاريخ وتكامله من الجوانب العلمية والسياسية والاقتصادية والفنية والخلقية إلاّ النوابغ والفرق بين الإنسان وسائر الحيوانات أنّها لا تتفاوت في القابليات الطبيعية البيولوجية، فهي في درجة واحدة، أو أنّ اختلافها

٢٠٨

يسير غير ملحوظ، بخلاف أفراد الإنسان التي تختلف كثيراً من حيث القابليات والنوابغ هم خواص المجتمع الذين يتمتعون بقدرة فائقة من حيث العقل أو الذوق أو العزم والابتكار، فهؤلاء أينما وُجدوا أثّروا في تقدّم المجتمع من الجانب العلمي أو الأدبي أو الخلقي أو السياسي أو العسكري وأكثر أفراد البشر طبقاً لهذه النظرية يفقدون هذا الابتكار، فهم تبع لغيرهم يستفيدون ممّا ينتجون من علم وصناعة ولكن هناك دائماً في كل مجتمع أقلية فذّة يتكرون ويخترعون، يتقدمون ويبدعون الأفكار، وينتجون الصناعات وهم الذين يحركون التاريخ قدماً إلى الأمام ليدخل مرحلة جديدة وممّن قال بهذه النظرية الفيلسوف الانجليزي المعروف ( كارلايل )، مؤلّف كتاب الأبطال الذي بدأه بالحديث عن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فمن وجهة نظر كارلايل في كل قوم شخصية أو شخصيات تاريخية هم مظاهر تاريخ ذلك القوم وبعبارة أصح: تاريخ كل قوم مظهر لشخصية بطل أو أبطالٍ ونبوغهم فتاريخ الإسلام مثلاً مظهر شخصية الرسول الأكرم، وتاريخ فرنسا المعاصرة مظهر شخصية نابليون وبعض آخرين، وتاريخ الاتحاد السوفيتي في ما يقارب ستين سنة حتى اليوم مظهر شخصية لينين.

٤ - النظرية الاقتصادية:

هذه النظرية تقول: إنّ الاقتصاد هو العامل المحرك للتاريخ فجميع الشؤون الاجتماعية والتاريخية لكل قوم وشعب، سواء كان في المجال الثقافي أو الديني أو السياسي أو العسكري أو الاجتماعي، مظاهر لطريقة الإنتاج وعلاقاته في المجتمع فالتغيير والتطور في المجال الاقتصادي للمجتمع هو الذي يؤثر في تقدمه وتغيّره رأساً على عقب والنوابغ في هذه النظرية ليسوا إلا مظاهر

٢٠٩

للحاجة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للمجتمع، وتلك الحاجات معلولة للتغيير في وسائل الإنتاج ولعلّ هذه النظرية أشهر النظريات في عصرنا الحاضر، وهي نظرية الماركسيين تبعاً لماركس، وقد يقول بها غيرهم أيضاً.

٥ - النظرية الإلهيّة:

وهي القائلة بأنّ كل حادثة في الأرض تنشأ من أمر سماوي نازل إليها وفقاً للحكمة الإلهية البالغة فالتطور والتكامل في التاريخ مظهر الإرادة الحكيمة، والحكمة البالغة الإلهية والعامل الوحيد الذي يؤثّر في تغيّر التاريخ وتقدمه هو إرادة الله تعالى، والتاريخ مسرح إرادته المقدسة ويقول بهذه النظرية ( بوسوئه ) المؤرّخ والأسقف المعروف الذي كان معلّماً ومربّياً ل- ( لويس الخامس عشر ).

هذه هي النظريات المتعارفة في كتب فلسفة التاريخ تحت عنوان العلل المحركة للتاريخ ونحن نعتقد أنّ البحث قد اختلط في هذا المقام على مؤلّفي الكتب، والغالب في هذه النظريات أنّها لا ترتبط بالعلّة المحرّكة للتاريخ، التي نحن الآن بصدد الكشف عنها، فالنظرية العنصرية مثلاً نظرية في علم الاجتماع، وموردها السؤال عن أنّ العناصر البشرية المختلفة هل هي على مستوى واحد من حيث العوامل الوراثية، وواجدة لدرجة واحدة من القابلية، أم أنّها تختلف في ذلك ؟

فإذا كانوا على مستوى واحد، فجميع العناصر مشتركة في حركة التاريخ بنسبة واحدة، أو تستطيع أن تكون مشتركة كذلك وإذا كانوا على مستويات مختلفة فالمؤثّر في حركة التاريخ، والذي يمكن أن يؤثر عناصر خاصة من البشر فهذه المسألة يصح أن يبحث عنها من هذه الجهة، ولكنّ سر تقدم التاريخ يبقى

٢١٠

مجهولاً فلو افترضنا أنّ عنصراً خاصاً من البشر هو المؤثر في تطوّر التاريخ، فهذا الافتراض لا يختلف عن افتراض مشاركة جميع العناصر فيه من جهة حل المشكلة، إذ يبقى السؤال عن سر تطوّر الحياة الاجتماعية للإنسان دون سائر الحيوانات بلا جواب.

وكذلك النظرية الجغرافية، فهي أيضاً ترتبط بمسألة اجتماعية مفيدة، وهي تأثير البيئات في النمو العقلي والفكري والذوقي والجسمي للبشر، فبعضها تنزّل من شأن الإنسان إلى درجة الحيوانية أو قريباً منها ولكن بعضها الآخر تبعد الإنسان عن الخصائص الحيوانية وطبقاً لهذه النظرية فالتاريخ لا يتحرك إلاّ في أقاليم ومناطق خاصة، وهو راكد وثابت في بيئات ومناطق أُخرى، ويشبه هناك حياة الحيوانات ولكن يبقى السؤال الأول على حاله وهو أنّ النحل وسائر الحيوانات الاجتماعية تفقد حركة التاريخ حتى في المناطق الخاصة المذكورة فما هو العامل الأساس الذي هو سبب اختلاف هذين النوعين من الحيوان، حيث يبقى أحدهما ثابتاً والآخر متنقّلاً من مرحلة إلى أُخرى ؟.

وأسوأ من الجميع النظرية الإلهية فإنّ العالم كلّه من البدو إلى الختام بجميع أسبابه وعلله ومقتضياته وموانعه مظهر لإرادة الله تعالى، ولا يختصّ ذلك بالتاريخ ونسبة الإرادة الإلهية إلى جميع الأسباب والعلل في العالم على سواء فكما أنّ الحياة المتطورة المتكاملة للإنسان مظهر لمشيئة الله تعالى، كذلك الحياة الجامدة الثابتة للنحل مثلاً إنّما البحث في مشيئة الله حينما تعلقت بإيجاد الحياة البشرية، بأيّ نظام جعلتها متطورة متكاملة ؟ وما هو ذلك السر الفارق بين حياة الإنسان وحياة سائر الحيوانات ؟

٢١١

وأمّا النظرية الاقتصادية، فهي فاقدة للجانب الغني والأُصولي، بمعنى أنّها لم تُعرض بصورة أُصولية، فهي بهذا العرض لا تبيّن إلاّ ماهية التاريخ وهويّته، وأنّها مادية واقتصادية، وأنّ سائر الشؤون بمنزلة الأعراض لهذا الجوهر التاريخي، وأنّ الجانب الاقتصادي للمجتمع إذا تعرض للتغير والتحوّل فإن ذلك يطرأ على جميع جوانب المجتمع بالضرورة ولكن هذا مجرد افتراض، والسؤال الأول باقٍ على حاله فلو افترضنا صحة هذه النظرية وأنّ الاقتصاد أساس المجتمع فإذا تغيّر تغيّر المجتمع بكامله، بقي السؤال عن العامل أو العوامل التي تغيّر الأساس، وبتبعه أو بتبعها تتغيّر سائر الجوانب وبعبارة أُخرى: إنّ كون الاقتصاد أساساً للمجتمع لا يكفي في تفسير حركة التاريخ به نعم لو بدّل أصحاب النظرية عرضها، فبدلاً من القول بأنّ كون الاقتصاد أساس المجتمع - كما يقولون - هو محرّك التاريخ، وأنّ مادية التاريخ تكفي لإيجاد الحركة فيه لو عرضوا النظرية على أساس أنّ التناقض الداخلي في المجتمع بين الأساس والبناء العلوي هو محرّك التاريخ، أو أنّ تناقض عوامل الإنتاج وعلاقاته - وهما وجهتان مختلفتان من العامل الأساس ( الاقتصاد ) - هو محرّك التاريخ، ( ولو فعلوا كذلك ) لكان عرض النظرية بوجه صحيح ولا شك أنّ المراد لعارضها هو ما ذكرناه، ولكن الكلام في حسن العرض وسوئه وان صح المراد الواقعي لمن عرضها.

وأمّا النظرية البطولية - سواء كانت صحيحة أم خاطئة - فهي ترتبط رأساً بموضوع البحث، أي العامل المحرّك للتاريخ.

إذن فقد حصل لدينا حتى الآن نظريتان حول العامل المحرّك للتاريخ:

٢١٢

١ - النظرية البطولية: التي تقول بأنّ التاريخ مصنوع بيد النوابغ، وأنّ أكثر أفراد المجتمع يفقدون الابتكار والقدرة على التقدم ولو كان الجميع من هذا القسم من الأفراد لم يحصل أي تحول في التاريخ أبداً، إلاّ أنّ النادر من الأفراد يملكون الموهبة الطبيعية للابتكار فيخططون ويعزمون ويقاومون بشدّة، ويجرّون وراءهم الأناس العاديين، وهكذا يخلقون تغييراً في التاريخ وشخصية البطل إنّما تنشأ من الشؤون الطبيعية الموروثة بصورة استثنائية وأمّا الأحوال الاجتماعية والحاجات المادية للمجتمع فليس لها دور في تنشئة هذه الشخصيات.

٢- نظرية التضاد بين الأساس والبناء العلوي للمجتمع: هو التعبير الصحيح عن النظرية الاقتصادية السابقة.

٢ - وهنا نظرية ثالثة، وهي النظرية الفطرية: فالإنسان يملك خصائص بموجبها تتكامل حياته الاجتماعية: فمن تلك الخصائص والقابليات المحافظة على تجارب الآخرين وجمعها ؛ فكل ما يحصل عليه بتجربة يحفظه ويستخدمه كأساس لتجاربه الآتية.

ومن تلك الخصائص قابلية التعلّم عن طريق البيان والكتابة فيضيف إلى معلوماته تجارب الآخرين ومكتسباتهم عن طريق البيان، وفي مرحلة أعلى عن طريق الخط وهي تجارب كل جيل للجيل الآخر عن هذين الطريقين وتتراكم التجارب ومن هنا اهتمّ القرآن بذكر نعمتي البيان والقلم أو الكتابة بوجهٍ خاص، قال تعالى:( الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآَنَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ) فاهتم بذكر البيان ؛ لأنّه سبب الاستفادة من مكنونات ضمائر الآخرين.

وقال تعالى:( اقْرَأْ

٢١٣

بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكرم * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ) .

والخصيصة الثالثة للإنسان تمتّعه بقدرة العقل والابتكار فهو بهذه القوة العجيبة يستطيع الإبداع والخلق، وهو بذلك مظهر لخالقية الله تعالى وإبداعه وخصيصته الرابعة تمايله بالطبع نحو الأحداث والتجديد فالإنسان ليس حائزاً لمجرد القدرة على الإبداع فيستعملها عند الحاجة، بل هو حائز على الميل إليه بالذات حسب فطرته.

إذن فقابلية حفظ التجارب وجمعها، مضافاً إلى قابلية نقلها واكتسابها، ومضافاً إلى القدرة على الإبداع والميل إليه بالذات قوة تحرّك الإنسان إلى الأمام والحيوانات لا تملك قابلية حفظ التجارب، ولا القدرة على نقل المكتسبات وانتقالها(١) ، ولا قابلية الخلق والإبداع التي هي من خواص القوة العاقلة، ولا الميل الشديد إلى الأحداث فهذا هو السبب في ركود الحيوانات وبقائها في مرحلة واحدة وتقدم الإنسان وحركته.

والآن نتعرّض لنقد هذه النظريات:

دور الشخصية في التاريخ:

ربّما يقال: ( إنّ التاريخ هو الصراع بين النوابغ والأُناس العاديين ) فالأشخاص العاديون يؤيّدون دائماً الوضع الموجود الذي

____________________

(١) ربّما يكون في بعض الحيوانات نوع من النقل والانتقال في المعلومات، ولكن ذلك على مستوى الحوادث اليومية دون التجارب العلمية، كما يقال ذلك في حالات النمل، وقد أُشير إليه في القرآن الكريم، قال تعالى:( قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) ( النمل ١٨ ).

٢١٤

أنسوا به والإنسان النابغة يحاول تغيير الوضع إلى وضع أحسن ومرحلة أعلى وقد ادعى كارليل أنّ التاريخ يبتدئ من النوابغ والأبطال، وهذه النظرية في الواقع تبتني على فرضيتين:

١ - إنّ المجتمع فاقد لطبيعة وشخصية خاصة به، وليس تركيباً حقيقياً من الأفراد، بل الأفراد كل مستقل عن الآخر، ولا يحدث من التأثير المتقابل بينهم روح الجماعة، ومركّب واقعي له شخصيته وطبيعته وقوانينه الخاصة فالمجتمع ليس إلاّ الأفراد ونفسيات الأفراد فقط، وعلاقة أفراد الإنسان في المجتمع من حيث الاستقلال نظير علاقة الأشجار في الغابة والحوادث الاجتماعية ليست إلاّ مجموعة من الحوادث الفردية ومن هنا فالمجتمع مسرح للاتفاقات والصدف التي هي نتائج للعلل والأسباب الجزئية دون العلل الكليّة والعامة.

٢ - إنّ أفراد الإنسان يختلفون اختلافاً فاحشاً من حيث الخلقة الأصلية فمع أنّ أبناء آدم كلهم موجودات ثقافية وحضارية، وبتعبير الفلاسفة حيوانات ناطقة ولكن أكثر الأفراد ممّا يقارب المجموع يفقدون قدرة الإبداع والخلق، فهم يستفيدون من الثقافة والحضارة ولا ينتجونهما وهذا هو الذي يميّزهم عن الحيوانات التي لا تستفيد من الثقافة والحضارة فالروح الغالبة على هؤلاء الأكثرين روح التقليد والتبعية وتكريم الأبطال هذا ولكنّ النادر المعدود من البشر هم أبطال ونوابغ، وهم فوق المستوى المتوسّط والعادي يستقلون في التفكير ويبدعون ويبتكرون، ولهم العزيمة القوية وبذلك يمتازون عن الأكثرين، فكأنهم من طينة وطبيعة أُخرى، أو من عالم آخر، فلو لم يبرز إلى الوجود النوابغ والأبطال في العلم والفلسفة والذوق والسياسة

٢١٥

والاجتماع والأخلاق والفن والأدب لبقيت البشرية على حالها الأول، ولم تتقدم خطوة واحدة.

ولكن الفرضيتين كليهما مخدوشتان: أمّا الفرضية الأُولى فلما ذكرنا سابقاً في مباحث المجتمع من أنّه مستقل في شخصيته وطبيعته وقانونه وسننه، وأنّه يستمر في مسيره طبقاً لتلك القوانين الكليّة، وهذه السنن في ذاتها تقدمية وتكاملية إذن فلا بد من رفض هذه الفرضية، والبحث على افتراض استقلال المجتمع في شخصيته وطبيعته وسننه ومسيره، طبقاً لها لنجد أنّ شخصية الفرد على هذا الفرض هل يمكن أن يكون لها دور في حركة المجتمع أم لا ؟ وسيأتي البحث عن هذا الموضوع.

وأمّا الفرضية الثانية، فلأنّه وإن لم يمكن إنكار اختلاف الأفراد من حيث الخلقة، إلاّ أنّ هذا الرأي القائل بأنّ الأبطال والنوابغ قد استأثروا بالقدرة على الإبداع، وأنّ الأكثرية القريبة من المجموع يستفيدون من ثقافتهم وحضارتهم فقط غير صحيح فجميع أفراد الإنسان يملكون قابلية الخلق والإبداع على اختلاف المستويات ؛ إذن فجميع الأفراد أو أكثرهم يشاركون في الخلق والإنتاج والإبداع، وإن كان دورهم أقل من دور النوابغ.

وفي قبال هذه النظرية التي تدّعي أنّ الشخصيات يخلقون التاريخ نظرية أُخرى تقول: إنّ التاريخ يخلق الشخصيات، بمعنى أنّ الحاجات العينية في المجتمع هي التي تصنع الشخصيات البارزة وقد حكي عن مونتسكيو أنّه قال: ( إنّ أعاظم الرجال وعظائم الحوادث آثار ونتائج لقضايا أوسع مجالاً، وأطول زماناً ) وعن هيجل قوله: ( إنّ الرجال

٢١٦

الأعاظم لم يخلقوا التاريخ بل هم كالقوابل ) إذن فالشخصيات البارزة علائم لا عوامل وبموجب المنطق القائل بأصالة الجماعة - كما يقول به دور كايم - وأنّ أفراد الإنسان لا يملكون بذاتهم شخصية، وإنّما يكتسبون الشخصية من مجتمعهم، فالأفراد والشخصيات ليسوا إلاّ مظاهر للروح الجماعية، أو كما يقول محمود الشبستري: ليسوا إلاّ مشابك لمشكاة الروح الجماعية.

أمّا ماركس ومَن تبعه حيث يعتبرون أساس اجتماعية الإنسان وعمله الاجتماعي، بل يعتبرونه مقدّماً على شعوره الاجتماعي، بمعنى أنّ شعور الأفراد ليس إلاّ مظاهر للحاجات الاقتصادية في المجتمع فالشخصيات البارزة بموجب هذه النظرية مظاهر للحاجات المادية والاقتصادية في المجتمعات(١) .

____________________

(١) إلى هنا انتهى - مع الأسف الشديد - ما كتبه الأُستاذ الشهيد بخطّه حول هذا الموضوع ومن الواضح أنّ هناك مطالب كثيرة في نظر الأُستاذ كان يريد تدوينها فلم يمهله الأجل ووُفّق لأُمنيته وهي الشهادة في سبيل الله، رضوان الله عليه ولعلّنا نوفّق في المستقبل استناداً إلى مذكّراته المتفرقة أن نكمل هذا المبحث ونضيفه في الطبعات الآتية.

٢١٧

٢١٨

المجتمع والتاريخ

المفكر الإسلامي الكبير

الشهيد

الشيخ مرتضى المطهري

الجزء الثاني

٢١٩

٢٢٠