المجتمع والتاريخ

المجتمع والتاريخ0%

المجتمع والتاريخ مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: كتب
الصفحات: 433

المجتمع والتاريخ

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ مرتضى المطهري
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الصفحات: 433
المشاهدات: 71550
تحميل: 16693

توضيحات:

المجتمع والتاريخ
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 433 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 71550 / تحميل: 16693
الحجم الحجم الحجم
المجتمع والتاريخ

المجتمع والتاريخ

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

المثل الأعلى من جديد بمستوى العصر الذي تعيشه الأُمّة.

أُمّتنا الإسلامية وقفت بعد دخولها عصر الاستعمار على مفترق طريقين أمام الإجراء الثاني والثالث كان هناك طريق يدعوها إلى الانصهار في مثل أعلى من الخارج هذا الطريق طبّقه جملة من حكام المسلمين في بلاد المسلمين مثل ( رضا خان ) في إيران ( وأتاتورك ) في تركيا هؤلاء حاولوا أن يجسّدوا المثل الأعلى للإنسان الأوروبي المنتصر، ويطبّقوا هذا المثل الأعلى، ويكسبوا ولاء المسلمين أنفسهم لهذا المثل الأعلى، بعد أن ضاع المثل الأعلى في داخل المسلمين أمّا روّاد الفكر الإسلامي والنهضة الإسلامية، فقد أطلقوا جهودهم في بدايات عصر الاستعمار وأواخر الفترة التي سبقت عصر الاستعمار في سبيل الإجراء الثالث، في سبيل إعادة الحياة إلى الإسلام من جديد , وفي سبيل انتشار هذا المثل الأعلى، وإعادة الحياة إليه وتقديمه بلغة العصر وبمستوى العصر، وبمستوى حاجات المسلمين.

ثانياً - المثل الأعلى المحدود:

إذا رجعنا خطوة إلى الوراء ( وهذا ما سأشرح معناه بعد قليل ) سوف نواجه هذا النوع الثاني من المثل العليا المشتق من طموح الأُمّة، ومن تطلّعها نحو المستقبل ليس هذا المثل الأعلى تعبيراً تكرارياً عن الواقع بل هو تطلّع إلى المستقبل، وتحفّز نحو الجديد والإبداع والتطوير لكن هذا المثل منتزع عن خطوة واحدة من المستقبل، منتزع عن جزء من هذا الطريق الطويل المستقبلي أي إنّ الطموح الذي انتزعت الأُمّة منه مَثَلها كان طموحاً محدوداً، لم يستطع أن يتجاوز المسافات الطويلة، وإنّما استطاع هذا الطموح أن يكوّن رؤية مستقبلية

٣٨١

محدودة، وهذه الرؤية المستقبلية المحدودة انتزع منها مثلها الأعلى.

في هذا المثل الأعلى جانب موضوعي صحيح، لكنه يحتوي على إمكانات خطر كبير أما الجانب الموضوعي الصحيح فهو إن الإنسان عبر مسيرته الطويلة لا يمكنه أن يستوعب المطلق، لأن الذهن البشري محدود والذهن المحدود لا يمكن أن يستوعب المطلق، وإنما يستوعب نفحة من المطلق، شيئاً من المطلق، يأخذ بيده قبضة من المطلق تنير له الطريق، فطبيعي وموضوعي وصحيح أن تكون دائرة الاستيعاب البشري محدودة.

لكن الخطير في هذه المسألة أنّ هذه القبضة التي يقبضها الإنسان من المطلق يحولّها إلى مثل أعلى ويحوّلها إلى مطلق ويحوّل هذه الومضة من النور التي يقبضها من هذا المطلق إلى نور السماوات والأرض هنا يكمن الخطر ؛ لأنّ مثل هذا المثل الأعلى سوف يخدم الإنسان في المرحلة الحاضرة، وسوف يهيّئ له إمكانية النمو بقدر طاقات هذا المثل، وبقدر إمكاناته المستقبلية، وسوف يحرّك هذا الإنسان وينشّطه، لكنّه سرعان ما يصل إلى حدوده القُصوى ؛ حينئذ سوف يتحوّل هذا المثل نفسه إلى قيد للمسيرة، والى عائق عن التطوّر والى مجمّد لحركة الإنسان ؛ لأنّه أصبح مثلاً وإلهاً وديناً وواقعاً قائماً، وحينئذ سيكون بنفسه عقبة أمام استمرار زحف الإنسان نحو كماله الحقيقي، وهذا المثل الذي يُعمّم خطأً يُحوّل من محدود إلى مطلق خطأ.

هناك تعميمان خاطئان لهذا المثل:

ألف - التعميم الأفقي الخاطئ: أن ينتزع الإنسان من تصوّره المستقبلي مثالاً، ويعتبر أنّ هذا المثل يضم كل قيم الإنسان التي يجاهد

٣٨٢

من أجلها ويناضل في سبيلها، بينما هذا المثل - على الرغم من صحّته - لا يمثّل إلاّ جزءاً من هذه القيم.

هذا التعميم تعميم أفقي خاطئ ؛ لأنّ هذا المثل يعبّر عن جزء من أُفق الحركة، بينما يخلو ممّا يملأ كل أُفق الحركة.

الإنسان الأوروبي الحديث في بدايات عصر النهضة جعل الحرية مثلاً أعلى، رأي أن الإنسان الغربي كان مغلولاً في كل ساحات الحياة، ومقيّداً في عقائده العلمية والدينية بحكم الكنيسة وتعنتها وكان مقيداً في قوته ورزقه بأنظمة الإقطاع، كان مقيّداً أينما يسير أراد الإنسان الأوروبي الرائد لعصر النهظة أن يحرّر هذا الإنسان من هذه القيود، قيود الكنيسة وقيود الإقطاع، أراد أن يجعل من الإنسان موجوداً مختاراً يفكر بعقله لا بعقل غيره، ويتصوّر ويتأمّل بذاته لا أن يستمد هذا التصوّر كصيغ ناجزة من الآخرين هذا شيء صحيح إلاّ أنّ الشيء الخاطئ في ذلك هو: التعميم الأفقي، فإنّ هذه الحرية التي تعني كسر القيود عن هذا الإنسان هي قيمة من القيم وإطار للقيم، لكنّها وحدها لا تصنع الإنسان أنت لا تستطيع أن تصنع الإنسان بأن تكسر قيوده وتقول له افعل ما شئت، هذا وحده لا يكفي، فإنّ كسر القيود إنّما يشكّل الإطار العام للتنمية البشرية الصالحة، ويبقى الإنسان بحاجة إلى المحتوى والمضمون لا يكفي أن تدَعَ الإنسان حُراً يمشي في الأسواق، بل لا بد من تعيين الهدف الذي من أجله يمشي في الأسواق المحتوى والمضمون هو الذي فات الإنسان الأوروبي.

الإنسان الأوروبي جعل الحرية هدفاً وهذا صحيح، لكنّه صيّر من هذا الهدف مثلاً أعلى، بينما هذا الهدف ليس في الواقع إلاّ إطاراً وهذا الإطار بحاجة إلى محتوى ومضمون وإذا جرّد هذا الإطار عن

٣٨٣

محتواه سوف يؤدّي إلى الويل والدمار، إلى الويل الذي تواجهه الحضارة الغربية اليوم، التي صنعت للبشرية كل وسائل الدمار ؛ لأنّ الإطار بقي حينئذ بلا محتوى ولا مضمون.

ب - التعميم الزمني الخاطئ: توجد على مرّ التاريخ خطوات ناجحة تاريخياً، ولكنّها لا يجوز أن تحوّل من حدودها كخطوة إلى مطلق، والى مثل أعلى، يجب أن تكون ممارسة تلك الخطوة ضمن المثل الأعلى، لا أن تحوّل هذه الخطوة إلى مثل أعلى.

حينما اجتمع في التاريخ مجموعة من الأُسر فشكّلوا القبيلة، ومجوعة من القبائل فشكّلت عشيرة ومجموعة من العشائر فشكّلت أُمّة، فهذه خطوات صحيحة لتقدّم البشرية وتوحيد البشرية لكن كل خطوة من الخطوات يجب أن لا تتحوّل إلى مثل أعلى، لا يجوز أن تتحوّل إلى مطلق , لا يجوز أن تكون العشيرة هي المطلق الذي يحارب من أجله هذا الإنسان، وإنّما المطلق الذي يحارب من أجله الإنسان يبقى هو ذلك المطلق الحقيقي، يبقى هو الله سبحانه وتعالى، والخطوة تبقى باعتبارها أُسلوباً.

حال الإنسان الذي يحوّل هذه الرؤية عبر الزمن إلى مطلق مثل حال الإنسان الذي يتطلّع إلى الأُفق فلا تساعده عينه إلاّ على النظر إلى مسافة محدودة، فيُخيّل إليه أنّ الدنيا تنتهي عند الأُفق الذي يراه، وأنّ السماء تنطبق على الأرض على مسافة قريبة منه، إلاّ أنّ هذا في الحقيقة ناشئ عن عجز عينيه عن متابعة المسافة الأرضية الطويلة الأمد.

الإنسان الذي يقف على طريق التاريخ الطويل، على المسيرة البشرية، له كذلك بحكم قصوره الذهني أفق محدود، مثل الأُفق الجغرافي لكنّ هذا الإنسان يجب أن يتعامل مع هذا الأُفق كأُفق لا

٣٨٤

كمطلق وكما أنّنا على الصعيد الجغرافي لا نتعامل مع هذا الأُفق الذي نراه على مقربة منّا على أنّه نهاية الأرض بل نتعامل معه بأنّه أُفق، كذلك يجب على الإنسان هنا أن يتعامل مع الأفق التاريخي على أنّه أُفق لا أن يحوّله إلى مَثل أعلى، وإلاّ كان من قبيل مَن يسير نحو سراب أنظر إلى هذا التمثيل الرائع في قوله سبحانه وتعالى:

( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إذا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) (١) .

مراحل مسيرة الأُمّة عبر المثل المصطنعة: يعبّر القرآن الكريم عن كل هذه المثل المصطنعة من دون الله سبحانه وتعالى بأنّها كبيت العنكبوت ؛ حيث يقول:

( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) (٢) .

إذا قارنّا بين هذين النوعين من المُثُل العليا: المشتقّة من الواقع ( المنخفضة ) والمشتقّة من طُموح محدود ( المحدودة ) للاحظنا أنّ المثل العليا المنخفضة كثيراً ما تكون قد مرّت بمرحلة المثل المحدودة أي كثيراً ما تكون المثل من النوع الأول امتداداً للمثل من النوع الثاني.

يبدأ هذا المثل الأعلى مشتقّاً من طموح، وحينما يتحقق هذا الطموح المحدود ؛ تصل المجموعة البشرية إلى النقطة التي أثارت فيها هذا

____________________

(١) النور: ٣٩.

(٢) العنكبوت: ٤١.

٣٨٥

المثل، فيتحوّل هذا المثل إلى واقع محدود بحسب الخارج حينئذ يصبح مثلاً تكرارياً.

من هنا قلنا - فيما سبق - لو رجعنا خطوة إلى الوراء بالنسبة إلى آلهة النوع الأول ومثل النوع الأول ؛ لوجدنا آلهة النوع الثاني.

فمسألة تبدأ في كثير من الأحيان بمثل أعلى له طموح مستقبلي محدود، ثم يتحوّل هذا المثل الأعلى إلى مثل تكراري، ثم يتمزّق هذا المثل التكراري كما قلنا وتتحوّل الأُمّة إلى شبح.

يمكننا تلخيص هذه الفترة الزمنية التي تمر بها الأُمّة في أربعة مراحل:

المرحلة الأُولى: مرحلة فاعلية ؛ لأنّ هذا المثل بدأ مشتقّاً من طموح مستقبلي، غير أنّ القرآن يسمّي عطاء هذه الفاعلية بالعاجل أي إنّ مكاسبها عاجلة وليست مكاسب على الخط الطويل إنّها عاجلة ؛ لأنّ عمر هذا المثل قصير وعطاءه محدود، ولأنّ هذا المثل سوف يتحوّل في لحظة من اللحظات إلى قوّة إبادة لكل ما أعطاه من مكاسب ؛ ولذلك يسمّى بالعاجل، يقول تعالى:

( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً * كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ) (١) .

الله سبحانه وتعالى يُمد هؤلاء وهؤلاء من عطائه ؛ لأنّه خير محض

____________________

(١) الإسراء: ١٨ - ٢٠.

٣٨٦

وعطاء محض وجُود كلّه يمد ّبقدر ما تتبنّى الأُمّة من مثل قابل للتحريك، لكنّه يعطي بقدّر قابلية هذا المثل، وحينما يكون المثل مشتقّاً من طمُوح مستقبلي محدود، يعطي شيئاً عاجلاً لا أكثر.

في حالة من هذا القبيل تكون السلطة التي تمثّل هذا المثل موجّهة للأُمّة في حدود هذا المثل، ويكون للأُمّة دور المشاركة في صنع هذا المثل وتحقيقه.

هذه المرحلة سوف تؤدّي إلى مكاسب، لكنّها في النظر القرآني العميق الطويل الأمد مكاسب عاجلة تعقبها جهنّم في الدنيا والآخرة هذه المرحلة الأُولى مرحلة الإبداع والتجديد.

المرحلة الثانية: هي مرحلة تمجّد هذا المثل الأعلى بعد أن يستنفذ طاقته وقدرته على العطاء، ويتحوّل هذا المثل حينئذ إلى تمثال، ويتحوّل القادة الذين كانوا يعطون ويوجّهون على أساسه إلى سادة وكبراء كما يتحوّل جمهور الأُمّة من مشاركين في الإبداع والتطوير إلى مطيعين منقادين.

والقرآن الكريم عبّر عن هذه المرحلة بقوله:( وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا ) (١) .

المرحلة الثالثة: مرحلة الامتداد التاريخي لهؤلاء فتلك تتحوّل إلى طبقة تتوارث بعد ذلك مقاعدها عائلياً أو طبقياً وراثياً بشكل من أشكال الوراثة، وتصبح هذه الطبقة حينئذ هي الطبقة المترفة المنعّمة الخالية من الأغراض الكبيرة، المشغولة بهمومها الصغيرة وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم:

____________________

(١) الأحزاب: ٦٧.

٣٨٧

( وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ) (١) .

فهؤلاء امتداد تاريخي لآبائهم، وهذا الامتداد التاريخي تحوّل من مستوى مثل وعطاء إلى مستوى طبقة مترفة، تتوارث هذا المقعد بشكل من أشكال التوارث.

المرحلة الرابعة: وهي أخطر المراحل، وتحين حين تتفتت الأُمّة وتتمزّق، وتفقد ولاءها لذلك المثل التكراري على ضوء ما قلناه وفيها يسيطر على الأُمّة مجرموها، يسيطر عليها أُناس لا يرعون لها إلاّ ولا ذمّة، وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم في قوله تعالى:

( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاّ بِأَنْفُسِهِمْ ) (٢) .

حينئذ يسيطر مجموعة من هؤلاء المجرمين يسيطر هتلر والنازية - مثلاً - في جزء من أوروبا ؛ لتحطيم كل ما في أوروبا من خير وإبداع، وللقضاء على كل مكاسب ذلك المثل الأعلى المحدود الذي تبنّاه الإنسان الأوروبي الحديث، وتحوّل بالتدريج إلى مثل تكراري، ثم تفسّح هذا المثل وبقيت مكاسبه في المجتمع الأوروبي، يأتي شخص كهتلر لكي يمزّق تلك المكاسب ويقضي عليها.

ثالثاً - المثل الأعلى المطلق ( الله )

واجهنا - فيما سبق - تناقضاً على خط المسيرة البشرية حاصلُه أنّ الوجودَ

____________________

(١) الزخرف: ٢٢.

(٢) الأنعام: ١٢٣.

٣٨٨

الذهني للإنسان محدود، والمثل الذي تتبنّاه المجموعة البشرية ينبغي أن يكون غير محدود، وكيف يمكن التنسيق بين المحدود وغير المحدود.

هذا التنسيق سوف نجده في هذا المثل الأعلى، وهو الله سبحانه وتعالى ؛ حيث سيحل التناقض الذي واجهناه بأروع صورة.

سبب هذا التنسيق يعود إلى أنّ هذا المثل الأعلى ليس من نتاج الإنسان، وليس إفرازاً ذهنياً للإنسان، بل هو مثل أعلى له واقع عيني، هو موجود مطلق في الخارج، له قدرته المطلقة وعلمه المطلق، وعدله المطلق.

هذا الوجود العيني بواقعه العيني يكون مثلاً أعلى ؛ لأنّه مطلق، لكنّ الإنسان حينما يريد أن يستلهم من هذا النور ويمسك بحزمة من هذا النور، لا يمسك إلاّ بالمقيّد طبعاً، لا يمسك إلاّ بقدر محدود من هذا النور، لكنّه يميّز بين ما يمسك به وبين مثله الأعلى هذا، الحزمة مقيّدة لكنّ المثل الأعلى مطلق.

ومن هنا حرص الإسلام دائماً على التمييز بين الوجود الذهني، وبين الله سبحانه وتعالى الذي هو المثل الأعلى فرّق حتى بين الاسم والمسمّى وأكّد أنّه لا يجوز عبادة الاسم، وإنّما تكون العبادة للمسمّى ؛ لأنّ الاسم ليس إلاّ وجوداً ذهنياً، وليس إلاّ واجهة ذهنية لله سبحانه وتعالى، والواجهات الذهنية محدودة دائماً، العبادة يجب أن تكون للمسمّى لا للاسم ؛ لأنّ المسمّى هو المطلق، أمّا الاسم فهو مقيد ومحدود والواجهات الذهنية تبقى كواجهات ذهنية محدودة مرحلية، وأمّا صفة المثل الأعلى فتبقى قائمة بالله سبحانه وتعالى.

٣٨٩

مسيرة الإنسانية نحو الله

قال سبحانه وتعالى:

( يَا أَيُّهَا الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ ) (١) .

هذه الآية تضع الله سبحانه وتعالى هدفاً أعلى للإنسان، والإنسان هنا بمعنى الإنسانية ككل فالإنسانية بمجموعها تكدح نحو الله سبحانه وتعالى، تسير سيراً مستمرّاً مقروناً بالمعاناة والجهد والمجاهدة ؛ لأنّ هذا السير ليس سيراً اعتيادياً، بل سيراً ارتقائياً إنّه تصاعد وتكامل، إنّه سير تسلّق، فهؤلاء الذين يتسلّقون الجبال ليصلوا إلى القمم يكدحون نحو هذه القمم، يسيرون سير معاناة وجهد وكذلك الإنسانية حينما تكدح نحو الله فإنّما تتسلق إلى قمم كمالها وتكاملها وتكوّرها، إلى الأفضل باستمرار.

هذا السير الذي يحتوي على المعاناة المستمرّة يفترض طريقاً لا محالة، فإنّ السير نحو هدف يفترض حتماً طريقاً ممتداً بين السائر وذلك الهدف وهذا الطريق هو الذي تحدّثت عنه الآيات الكريمة في مواضع متعدّدة تحت اسم: سبيل الله، والصراط، وصراط الله، وكلّها تتحدّث عن الطريق الذي يفترضه ذلك السير.

كما أنّ السير يفترض الطريق، كذلك الطريق يفترض السير أيضاً، والآية المذكورة تتحدّث عن حقيقة قائمة، عن واقع موضوعي ثابت، فهي ليست بصدد دعوة الناس إلى أن يسيروا في طريق الله سبحانه وتعالى، كما فعلت آيات قرآنية أُخرى لا تقول يا أيّها الإنسان اكدح في سبيل الله بل تقول:( يَا أَيُّهَا الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ

____________________

(١) الانشقاق: ٦.

٣٩٠

كَدْحاً فَمُلاقِيهِ ) لغة الآية لغة التحدّث عن واقع ثابت وحقيقة قائمة، وهي: أنّ كل سير وكل تقدّم للإنسان في مسيرته التاريخية الطويلة الأمد، إنّما هو سير وتقدّم نحو الله سبحانه وتعالى حتى الجماعات تلك التي تمسّكت بالمثل المنخفضة وبالآلهة المصطنعة، واستطاعت أن تحقّق لها سيراً ضمن خطوة على هذا الطريق الطويل، حتى هذه الجماعات التي يسمّيها القرآن بالمشركين، تسير هذه الخطوة نحو الله، وهذا التقدّم هو اقتراب نحو الله سبحانه وتعالى بقدر ما فيه من زخم وفاعلية.

وهناك طبعاً فرق بين تقدم مسئول وتقدّم غير مسئول ( على ما سيأتي شرحه إن شاء الله ) حينما تتقدّم الإنسانية في هذا المفاض واعية على المثل الأعلى وعياً موضوعياً، يكون التقدّم مسئولاً، ويكون عبادة بحسب لغة الفقه، لوناً من العبادة له امتداد على الخط الطويل، وانسجام مع الوضع العريض للكون أمّا حينما يكون التقدم منفصلاً عن الوعي على ذلك المثل، فهو تقدم على أي حال، ولكنّه تقدم غير مسئول على ما سيأتي تفصيله.

كل تقدم إذن هو تقدم نحو الله، حتى أُولئك الذين يركضون وراء سراب كما تحدّثت الآية الكريمة، فإنّهم يركضون وراء السراب الاجتماعي، وراء المثل المنخفضة، وحينما يصلون إلى هذا السراب لا يجدون شيئاً، ويجدون الله سبحانه وتعالى ؛ فيوفّيهم حسابهم كما تتحدّث الآية الكريمة والله سبحانه وتعالى هو نهاية هذا الطريق، ولكنّه ليس نهاية جغرافية على نمط النهايات الجغرافية للطرق الممتدة مكانياً، كربلاء - مثلاً - نهاية طريق ممتّد بين النجف وكربلاء، كربلاء بمعناها المكاني نهاية جغرافية، أي إنّها موجودة في آخر الطريق، وليست موجودة على طول الطريق، لكنّ الله سبحانه وتعالى ليس نهاية على نمط النهايات

٣٩١

الجغرافية، الله سبحانه وتعالى هو المطلق، هو المثل الأعلى أي المطلق الحقيقي العيني وبحكم كونه هو المطلق فهو موجود على طول الطريق أيضاً، ليس هناك فراغ منه، وليس هناك انحسار عنه، وليس هناك حدّ له.

الله سبحانه وتعالى هو نهاية الطريق، ولكنّه موجود أيضاً على طول الطريق ومَن وصل إلى نصف الطريق، بل مَن وصل إلى سراب هذا الطريق، فتوقّف واكتشف أنّه سراب، وجد الله عنده - حسب الآية - فوفّاه حسابه ؛ لأنّ المطلق موجود على طول الطريق.

والإنسان يجد مثله الأعلى، ويلقى الله سبحانه وتعالى أينما توقّف بحجم سيره وبحجم تقدّمه على هذا الطريق.

وبحكم أن الله سبحانه وتعالى هو المطلق، فالطريق لا ينتهي أيضاً طريق الإنسان نحو الله هو اقتراب مستمر بقدر التقدّم الحقيقي نحو الله لكنّ هذا الاقتراب يبقى نسبياً، ويبقى مجرّد خطوات على الطريق دون أن يجتاز هذا الطريق، لأن المحدود لا يصل إلى المطلق، والكائن المتناهي لا يمكن أن يصل إلى اللامتناهي، فالفسحة الممتدة بين الإنسان والمثل الأعلى هي فسحة لا متناهية، أي إنّ مجال الإبداع والتطوّر التكاملي متروك للإنسان إلى اللانهاية، باعتبار أنّ الطريق الممتد طريق لا نهائي.

مسيرة الإنسانية الواعية نحو الله

المسيرة الإنسانية، حين توفّق بين وعيها على المسيرة، وبين الواقع الكوني لهذه المسيرة بوصفها سائرة ومتّجهه نحو الله، سوف يحدث عليها تغيير كمّي وكيفي.

٣٩٢

أمّا التغيير الكمّي: على هذه الحركة فهو باعتبار ما أشرنا إليه إذ قلنا أنّ الطريق، حين يكون متجّهاً إلى المثل الأعلى الحق، هو طريق غير متناه، أي مجال التطوّر والإبداع والنمو قائم أبداً ودائماً ومفتوح للإنسان باستمرار دون توقّف.

المجموعة البشرية، حين تتبنّى هذا المثل الأعلى سوف تمسح من الطريق كلّ الآلهة المزوّرة، وكلّ الأصنام والأقزام المتصنّمة التي تقف عقبة بين الإنسان وبين وصوله إلى الله سبحانه وتعالى.

من هنا كان دين التوحيد صراعاً مستمرّاً مع مختلف أشكال الآلهة والمثل المنخفضة والمحدودة، التي حاولت أن تحدّد من كمّية الحركة هذه الآلهة التي أرادت أن تُوقف الإنسان في وسط الطريق وفي نقطة معيّنة كان دينُ التوحيد على مرّ التاريخ هو حامل لواء المعركة ضدها هذا المثل الأعلى سوف يحدث تغييراً كمّياً على الحركة إذن ؛ لأنّه يطلقها من عقالها من هذه الحدود المصطنعة لكي تسير باستمرار.

وأمّا التغيير الكيفي الذي يحدثه هذا المثل الأعلى على المسيرة، فيتمثّل في إعطاء الحل الموضوعي الوحيد للجدل الإنساني، للتناقض الإنساني، إعطاء الشعور بالمسؤولية الموضوعية لدى الإنسان.

الإنسان من خلال إيمانه بهذا المثل الأعلى ووعيه على الطريق بحدوده الكونية الواقعية، ينشأ لديه، بصورة موضوعية، شعور معمّق بالمسؤولية تجاه هذا المثل الأعلى، لأول مرة في تاريخ المثل البشرية التي حرّكت البشر على مرّ التاريخ.

السبب في ذلك يعود إلى أنّ هذا المثل الأعلى حقيقة وواقع عيني منفصل عن الإنسان، وبهذا يعطي للمسؤولية شرطها المنطقي.

٣٩٣

فالمسؤولية الحقيقية لا تقوم إلاّ بين جهتين: بين مسئول ومسئول لديه إذا لم تكن هناك جهة أعلى من هذا الكائن المسؤول، وإذا لم يكن هذا الكائن المسؤول مؤمناً بأنه بين يدي جهة أعلى، لا يمكن أن يكون شعوره بالمسؤولية شعوراً موضوعياً حقيقياً، لا يمكن للإنسان أن يستشعر حقيقة المسؤولية بصورة موضوعية تجاه ما يفرزه هو، وتجاه ما يصنعه هو من آلهة ومن أقزام متعملقة: ( إنْ هي إلاّ أسماء سمّيتمُوها ).

تلك المثل لا تصنع الشعور الموضوعي بالمسؤولية، بل قد تصنع قوانين وعادات وأخلاق، لكن كل ما تصنعه فهو عطاء ظاهري وكلّما وجد الإنسان مجالاً للتحلّل من هذه العادات والأخلاق والقوانين فسوف يتحلّل.

أمّا المثل الأعلى لدين التوحيد للأنبياء على مرّ التاريخ، فهو ليس إفرازاً بشرياً، وليس إنتاجاً إنسانياً ؛ لأنّه واقع عيني منفصل عن الإنسان، وجهة أعلى من الإنسان.

من هنا كان الأنبياء على مر التاريخ أصلب الثوار، وأنظف الثوّار على الساحة التاريخية ومن هنا كانوا فوق كل مهادنة ومساومة، وفوق كل تململ نحو يمنة أو يسرة عن الرسالة التي بيده وعن الكتاب الذي يحمله من السماء ؛ لأنّ المثل الأعلى المنفصل عنه، والذي فوقه هو الذي أعطاه نفحة موضوعية من الشعور بالمسؤولية، وهذا الشعور بالمسؤولية تجسّد في كل كيانه ومشاعره وأفكاره وعواطفه ؛ ومن هنا كان النبي معصوماً على مرّ التاريخ.

هذا المثل الأعلى إذن يحدث تغييراً كيفيّاً على المسيرة ؛ لأنّه يمنح الشعور

٣٩٤

بالمسؤولية وهذا الشعور بالمسؤولية ليس أمراً عرضياً، وليس أمراً ثانوياً في مسيرة الإنسان، بل هو شرط أساسي في إمكان نجاح هذه المسيرة، وتقديم الحل الموضوعي للتناقض الإنساني، للجدل الإنساني ؛ لأنّ الإنسان يعيش تناقضاً بحسب تركيبه وخلقته، ولأنّه تركيب من حفنة من تراب ونفحة من روح الله سبحانه وتعالى، كما وصفت ذلك الآيات الكريمة.

الآيات الكريمة قالت: إنّ الإنسان خُلق من تراب، وقالت إنّه نُفخ فيه من روحه سبحانه وتعالى إنّه إذن مجموع نقيضين اجتمعا والتحما في الإنسان: حفنة التراب تجرّه إلى كل ما ترمز إليه الأرض من انحدار وانحطاط، وروح الله سبحانه وتعالى التي نفخها فيه تجرّه إلى أعلى، تتسامى بإنسانيته إلى حيث صفات الله، والى حيث أخلاق الله، وإلى حيث العلم الذي لا حدّ له والقدرة التي لا حدّ لها والعدل الذي لا حدّ له، إلى حيث الجود والرحمة والانتقام إلى حيث هذه الأخلاق الإلهية هذا الإنسان واقع في تيّار هذا التناقض، وفي تيّار هذا الجدل بحسب محتواه النفسي وتركيبه الداخلي.

هذا الجدل وهذا التناقض الذي احتوته طبيعة الإنسان وشرحته قصّة آدم في القرآن الكريم - على ما سيأتي إن شاء الله تعالى - لا يمكن أن يحلّه الشعور المنبثق عن هذا الجدل، فإنّ الشعور المنبثق عن نفس هذا الجدل لا يُحلّ هذا الجدل بل هو يساهم في إفراز هذا التناقض وهذا الجدل الإنساني له حلّ واحد فقط هو الشعور بالمسؤولية وهذا الشعور الموضوعي بالمسؤولية لا يكلفه إلاّ المثل الأعلى الذي يكون جهة عليا، يحسّ الإنسان من خلالها بأنّه بين يدي ربّ قادر سميع بصير محاسب مجاز على الظلم مجازٍ على العدلِ هذا الشعور الموضوعي بالمسؤولية

٣٩٥

الذي هو التغيير الكيفي على المسيرة، هو إذن الحل الوحيد للتناقض والجدل الذي تستبطنه طبيعة الإنسان وتركيب الإنسان.

دور دين التوحيد في المسيرة البشرية

ممّا تقدّم نفهم أنّ دور دين التوحيد هو تعبيد هذا الطريق الطويل تعبيده وإزالة العوائق من خلال تنمية الحركة كميّاً وكيفيّاً، ومحاربة تلك المثل المصطنعة والتكرارية التي تريد أن تجمّد الحركة من ناحية، وأن تعرّيها من الشعور بالمسؤولية من ناحية أُخرى.

من هنا اتجهت حرب الأنبياء - كما أشرنا - إلى مقارعة الآلهة المصطنعة على مرّ التاريخ.

كل مَثَل من هذه المثل العليا التي تتحوّل إلى تمثال ضمن ظروف تطوّرها بالشكل الذي شرحناه، يجد في مجموعة من الناس مدافعين طبيعيين ؛ لارتباط مصالح هذه المجموعة، وترفها وكيانها المادي والدنيوي ببقاء هذا المثل الذي تحوّل إلى تمثال ؛ ولذلك تقف هذه المجموعة في وجه الأنبياء ليدافعوا عن مصالحهم ودنياهم وترفهم.

من هنا أبرز القرآن الكريم سنّة من سنن التاريخ، وهي أنّ الأنبياء كانوا دوماً يواجهون المترفين من مجتمعاتهم كقطب آخر من المعارضة مع هذا النبي ؛ لأنّ المترفين المنعّمين على حساب الناس يجعلون من المثال المتحوّل إلى تمثال، مبرراً لوجودهم ؛ ولذلك نجد هؤلاء المترفين المستفيدين في الخط المعارض للأنبياء دائماً:

( وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا

٣٩٦

وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ) (١) .

( سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ) (٢) .

( وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ) (٣) .

دين التوحيد إذن يستأصل مصالح هؤلاء المترفين بالقضاء على آلهتهم، وعلى مُثُلهم التي تحوّلت إلى تماثيل، ويقطع صلة البشرية بهذه المثل العليا المنخفضة، ولكنّه لا يقطع صلتها بهذه المثل العليا المنخفضة لكي يطأ برأس الإنسان في التراب.

دعاة دين التوحيد لا يستهدفون تحويل البشرية إلى كومة مادية محدودة الأشواق والطموحات والتطلّعات السامية، كما هو شأن الثوّار الماديين الذين يستلهمون من المادية التاريخية ومن الفهم المادي للتاريخ.

الثوّار الماديون يحاربون هذه الآلهة المصطنعة، ويسمّونها أفيون الشعوب ونحن أيضاً نحارب هذه الآلهة المصطنعة، ولكن لا لكي نحوّل الإنسان إلى حيوان، لا لكي نقطع صلة الإنسان بأشواقه العليا، لا لكي نحوّل مسار الإنسان من أعلى إلى أسفل ؛ بل نقطع صلة

____________________

(١) الزخرف: ٢٣.

(٢) الأعراف: ١٤٦.

(٣) المؤمنون: ٣٣.

٣٩٧

الإنسان بهذه المثل المنخفضة لكي نشدّه إلى المثل الأعلى، إلى الله سبحانه وتعالى.

شروط اتجاه المسيرة البشرية نحو الله:

تبنّي المسيرة البشرية لهذا المثل الأعلى الحق، الذي يحدث هذه التغييرات الكيفية والكمّية على اتجاه المسيرة وحجمها، يتوقّف على عدّة أُمور:

١ - على رؤية واضحة فكرياً وإيديولوجياً لهذا المثل الأعلى، وهذه الرؤية الواضحة لهذا المثل الأعلى هو الذي تقدّمه عقيدة التوحيد على مرّ التاريخ عقيدة التوحيد تعطينا رؤية واضحة عن هذا المثل الأعلى الذي تتوحّد فيه كل الطموحات وكل الغايات وكل التطلعات البشرية، باعتبار أنّ هذا المثل الأعلى علم كلّه وقدرة كلّه وعدل كلّه ورحمة، وكلّه انتقام من الجبّارين.

عقيدة التوحيد تعلّمنا على أن نتعامل مع صفات الله وأخلاق الله بوصفها حقائق عينية منفصلة عنّا، لا كما يتعامل فلاسفة الإغريق، وإنّما نتعامل مع هذه الصفات والأخلاق بوصفها هدفاً لمسيرتنا العلمية، ومؤشّرات على الطريق الطويل نحو الله سبحانه وتعالى.

٢ - لا بد من طاقة روحية مستمدّة من هذا المثل الأعلى، لكي تكون هذه الطاقة الروحية رصيداً ووقوداً للإرادة البشرية على مرّ التاريخ هذه الطاقة الروحية، وهذا الوقود المستمد من الله سبحانه وتعالى يتمثّل في يوم القيامة، وفي عقيدة الحشر والامتداد.

عقيدة يوم القيامة تعلّم الإنسان أنّ هذه الساحة التاريخية الصغيرة

٣٩٨

التي يتحرّك عليها الإنسان مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بساحات برزخية وبساحات حشرية في عالم البرزخ والحشر , وأنّ مصير الإنسان على تلك الساحات العظيمة الهائلة مرتبط بدوره على هذه الساحة التاريخية.

٣ - لا بد من صلة موضوعية تربط هذا الإنسان بذلك المثل الأعلى ؛ لأنّ هذا المثل منفصل عن الإنسان، وليس جزءاً من الإنسان، أي ليس من إفراز الإنسان إنّه واقع عيني قائم في كل مكان وليس جزءاً من الإنسان هذا الانفصال يفرض وجود صلة موضوعية بين الإنسان وهذا المثل الأعلى، بينما المثل الأُخرى كانت إفرازاً بشرياً تحتاج إلى افتراض صلة موضوعية.

نعم، هناك طواغيت وفراعنة على مرّ التاريخ، نصبوا من أنفسهم صلات موضوعية بين البشرية وبين آلهة الشمس وآلهة الكواكب، لكنّها صلة موضوعية مزيّفة ؛ لأنّ هذه الآلهة كانت موهومة، وكانت وجوداً ذهنياً وإفرازاً إنسانياً أمّا هنا فالمثل الأعلى منفصل عن الإنسان ؛ ولهذا كان لا بد من صلة موضوعية تربط الإنسان بذلك المثل الأعلى.

هذه الصلة الموضوعية تتجسّد في دور النبوّة، فالنبي هو ذلك الإنسان الذي يركّب بين الشوط الأول والشوط الثاني بأمر الله سبحانه وتعالى يركّب بين رؤية إيديولوجية واضحة للمثل الأعلى وطاقة روحية مستمدّة من الإيمان بيوم القيامة يركب بين هذين العنصرين ثم يجسّد بدور النبوّة الصلة بين المثل الأعلى والبشرية ؛ ليحمل هذا المركب إلى البشرية بشيراً ونذيراً.

٤ - بعد أن تدخل البشرية مرحلة الاختلاف - كما يسمّيها القرآن على ما يأتي شرحه إن شاء الله - سوف لا يكفي مجيء البشير النذير ؛ لأنّ مرحلة الاختلاف تعني مرحلة انتصاب تلك المثل المنخفضة أو

٣٩٩

التكرارية، تعني وجود تلك الآلهة المزورة على الطريق، وجود تلك الحواجز والعوائق عن الله سبحانه وتعالى، فلا بدّ للبشرية إذن أن تخوض معركة ضد الآلهة المصطنعة والطواغيت، والمثل المنخفضة التي تنصب نفسها قيماً على البشرية وتقف سدّاً أمام المسيرة التاريخية لا بد من معركة ضد هذه الآلهة، ولا بد من قيادة تتبنّى هذه المعركة، وهذه القيادة هي الإمامة.

الإمام هو القائد الذي يتولّى هذه المعركة دور الإمامة يندمج مع دور النبوّة في مرحلة من مراحل النبوّة، وهذه المرحلة بدأت في أكبر الظن مع نوح ( عليه الصلاة والسلام ) كما يتحدث القرآن وسنشرح ذلك إن شاء الله تعالى.

دور الإمامة يندمج مع دور النبوّة، ولكنّه يمتد حتى بعد النبي ؛ إذا ترك النبي الساحة والمعركة لا تزال قائمة، والرسالة لا تزال بحاجة إلى مواصلة هذه المعركة من أجل القضاء على تلك الآلهة حينئذ يمتد دور الإمامة بعد انتهاء النبيّ.

موقع أُصول الدين الخمسة من مسار الإنسان:

على ضوء ما سبق سوف نكوّن رؤية واضحة لما نسمّيه أُصول الدين الخمسة، وسوف تقع هذه الأُصول في موقعها الطبيعي الصحيح من مسار الإنسان.

أُصول الدين الخمسة:

التوحيد: هو الذي يعطي الرؤية الواضحة فكرياً وإيديولوجياً، وهو الذي يجمع ويعبّئ كل الطموحات والغايات في مثل أعلى وهو الله

٤٠٠