المجتمع والتاريخ

المجتمع والتاريخ0%

المجتمع والتاريخ مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: كتب
الصفحات: 433

المجتمع والتاريخ

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ مرتضى المطهري
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الصفحات: 433
المشاهدات: 71629
تحميل: 16699

توضيحات:

المجتمع والتاريخ
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 433 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 71629 / تحميل: 16699
الحجم الحجم الحجم
المجتمع والتاريخ

المجتمع والتاريخ

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ففي المراتب السفلى من الطبيعة، أي في الجمادات والموجودات غير الحيّة، التي يحكم في كل منها نوع واحد من القوى البسيطة المحضة، وتعمل على وتيرة واحدة ( حسب المصطلح والتعبير الفلسفي ) تندمج الأجزاء والقوى بعضها في بعض اندماجاً كليّاً، وينحل وجودها تماماً في وجود الكل، كما في تركيب الماء من الأوكسجين والهيدروجين، ولكن كلّما كان التركيب في مستوى أعلى اكتسبت الأجزاء استقلالاً نسبياً أكثر بالنسبة إلى الكل، وتحقق نوع من الوحدة في الكثرة، والكثرة في الوحدة فنجد في الإنسان - مثلاً - أنّ القوى التابعة له لا تكتفي بالاحتفاظ على كثرتها فحسب، بلى نجد بين القوى الداخلية له تضاداً وتعارضاً دائمياً والمجتمع أرقى موجودات الطبيعة ؛ ولذلك فاستقلال الأجزاء نسبياً فيه أكثر من غيره.

إذن فالإنسان ( وهو الجزء الذي يتركّب منه المجتمع ) حيث إنّه يتمتّع بعقله وإرادته الفطرية في وجوده الفردي قبل وجوده الاجتماعي، وحيث إنّ الاستقلال النسبي للأجزاء في المراتب الراقية من الطبيعة محفوظة، ( فالإنسان ) أي روحه الفردية غير مجبر وغير مسلوب الاختيار تجاه الروح الجماعية.

التقسيمات والطبقات الاجتماعية:

المجتمع مع أنّه يتمتّع بنوع من الوحدة ينقسم في نفسه - على وجه العموم أو في بعض الموارد على الأقل - إلى طوائف وطبقات وأصناف مختلفة وقد تكون متضادّة ؛ إذن فالمجتمع له وحدة في عين الكثرة، وكثرة في عين الوحدة - حسب اصطلاح فلاسفة الإسلام - وقد بحثنا في

٤١

الفصول السابقة عن نوعيّة الوحدة في المجتمع وهنا نريد أن نبحث عن نوعيّة الكثرة فيه وفي ذلك نظريتان معروفتان:

الأُولى: النظرية المبتنية على المادّية التاريخية والتناقض الديالكتيكي وهذه النظرية - التي سنبحث عنها فيما سيأتي - تقول: إنّ الكثرة في المجتمع تتبع المِلكيّة الفردية، فالمجتمعات الفاقدة للملكية الفردية كالمجتمع الاشتراكي البدائي، والمجتمع الاشتراكي الموعود مجتمعات لا طبقيّة وأمّا المجتمعات التي تتحكّم فيها المِلكيّة الفردية فتنقسم إلى طبقتين بالضرورة ؛ إذن فالمجتمع إمّا أن يكون ذا طبقة واحدة أو ذا طبقتين، وليس هناك قسم ثالث والأفراد ينقسمون في المجتمع ذي طبقتين إلى أفراد مستثمرين وأفراد تحت الاستثمار، ولا يوجد سوى معسكرين: المعسكر الحاكم، والمعسكر المحكوم وتنقسم سائر الشؤون الاجتماعية بنفس التقسيم، كالفلسفة والأخلاق والدين والفن فيكون في المجتمع نوعان من كل منها، يطابق كل منهما التفكير الخاص لأحدى الطبقتين الاقتصاديتين ولو كان هناك نوع واحد من الفلسفة أو الأخلاق أو الدين، فهو يأخذ أيضاً صبغة التفكير الخاص للطبقة الحاكمة، التي استطاعت فرض آرائها وأفكارها على الطبقة الأُخرى ولا يمكن وجود فلسفة أو فن أو دين أو أخلاق خارج عن نطاق التفكير لطبقة اقتصادية.

الثانية: النظرية القائلة بأنّ وحدة الطبقة في المجتمع وتكثّرها لا يتبع أصل المِلكيّة الفردية فحسب، بل هناك عدّة عوامل يمكن أن تؤثّر في ذلك، كالعامل الثقافي أو الاجتماعي أو العنصري أو العقائدي، وخصوصاً العوامل الثقافية والعقائدية، فإنّ لها تأثيراً كبيراً في تقسيم المجتمع لا إلى طبقتين فحسب، بل إلى طبقات متضادّة، كما أنّ لها

٤٢

إمكانية التأثير في توحيد طبقات المجتمع، من دون أن تستلزم إلغاء المِلكيّة الفردية.

وهنا لا بد من مراجعة القرآن لنرى موقفه تجاه التكثّر في المجتمع، وإنّه على افتراض قبوله للتكثّر والاختلاف، فهل هو منحصر في الطبقتين على أساس المِلكيّة والاستثمار أم لا ؟ الظاهر أنّ من المستحسن في استنباط النظرية القرآنية هو استخراج المفردات الاجتماعية الواردة في القرآن، وتشخيص وجهة نظره في تفسيرها وتحديد مفاهيمها.

واللغات الاجتماعية في القرآن على قسمين:

١- ما يرتبط بظاهرة اجتماعية خاصة كالمِلّة والشريعة والشرعة والمنهاج والسنّة ونظائرها وهذا القسم خارج عن محل البحث.

٢- ما يحكى عن عنوان اجتماعي ينطبق على جميع أفراد البشر، أو طوائف منه وهذه المفردات هي التي يمكن أن تعين وجهة النظر القرآنية فيما نحن بصدده، نحو: قوم، أُمّة، ناس، شعوب، قبائل، رسول، نبي، إمام، ولي، مؤمن، كافر، منافق، مشرك، مذبذب، مهاجر، مجاهد، صديق، شهيد، متّقي، صالح، مصلح، مفسد، الآمر بالمعروف، الناهي عن المنكر، عالم، ناصح، ظالم، خليفة، ربّاني، ربِّي، كاهن، رهبان، أحبار، جبّار، عالي، مستعلي، مستكبر، مستضعف، مسرف، مترف، طاغوت، ملأ، ملوك، غني، فقير، مملوك، مالك، حر، عبد، رب، وغيرها.

وهناك بعض المفردات الشبيهة بهذا القسم من قبيل: مصلّي، مخلص، صادق، منفق، مستغفر، تائب، عابد، حامد ونظائرها ،

٤٣

ولكنّها تحكي عن أفعال الإنسان لا عن طوائف منه ومن هنا لا يحتمل فيها أن تكون حاكية عن التقسيمات الاجتماعية.

ولابد من ملاحظة الآيات التي ورد فيها القسم الثاني من المفردات السابقة، خصوصاً ما كانت مرتبطة باتخاذ الموقف الخاص تجاه المسائل الاجتماعية، ولابد من التعمّق فيها ليتضح أنّها هل توافق على تقسيم المجتمعات إلى طائفتين أم إلى طوائف ؟ ولو فرضنا تقسيم المجتمعات إلى طائفتين فما هي الخصّيصة الأصلية لهما ؟ فمثلاً هل يمكن درجهما في طائفتي المؤمن والكافر ليكون أساس التقسيم هو الفارق الاعتقادي، أو درجهما في طائفتي الغني والفقير على أساس الفارق الاقتصادي ؟.

وبعبارة أُخرى: لا بد من ملاحظة هذه التقسيمات لنرى أنّها هل ترجع إلى تقسيم أساس تتفرّع منه سائر التقسيمات أم لا ؟

ولو كان كذلك فما هو ذلك التقسيم الأساس ؟

هناك مَن يدّعي أنّ موقف القرآن من المجتمع يبتني على أساس انقسامه إلى طبقتين، وأنّ المجتمع، حسب النظرة القرآنية، ينقسم في المرتبة الأُولى إلى طبقة حاكمة مسيطرة مستثمرة، وطبقة محكومة تحت السلطة والاستثمار، وأنّ القرآن يعبّر عن الطبقة الحاكمة بالمستكبرين، وعن الطبقة المحكومة بالمستضعفين، وأنّ سائر الانقسامات كالانقسام إلى المؤمن والكافر، وإلى الموحّد والمشرك، والى الصالح والفاسد انقسامات فرعية فالاستكبار والاستثمار ينتهيان إلى الكفر والشرك والنفاق ونظائرها، والاستضعاف ينتهي إلى الإيمان والهجرة والجهاد والصلاح والإصلاح ونظائرها.

٤٤

وبعبارة أُخرى: أنّ منشأ ما يعدّه القرآن انحرافاً عقائدياً أو خلقياً أو عملياً هو الوضع الخاص الاقتصادي أي الاستثمار، ومنشأ ما يؤيّده القرآن من عقيدة أو خلق أو عمل هو الكون تحت الاستثمار والظلم.

والوجدان البشري يتبع بالطبع والضرورة حياته المادية الاقتصادية، ولا يمكن تغيير الوضع الروحي والنفسي والخلقي من دون تغيير في الحياة المادية ؛ ومن هنا يعد القرآن النضال الاجتماعي في صورة الصراع الطبقي صحيحاً وأساسياً والقرآن يرى أنّ الكفّار والمنافقين والمشركين والفاسدين والفاسقين والظالمين يبعثون من بين الطوائف، التي يعبّر عنها القرآن بالمترفين والمسرفين والملأ والملوك والمستكبرين ونظائرهم، ولا يمكن أن ينبعثوا من الطبقة المقابلة كما أنّ الأنبياء والرسل والأئمّة والصدّيقين والشهداء والمجاهدين والمهاجرين والمؤمنين يبعثون من بين الطبقة المقابلة ؛ فالاستكبار والاستضعاف هما يصنعان الوجدان الاجتماعي، ويبعثان على الاتجاهات المختلفة وكل الشؤون الأُخرى مظاهر وتجلّيات استضعاف الآخرين، أو الوقوع تحت استضعاف الآخرين.

والقرآن لم يكتف بعدّ الطوائف المذكورة من مظاهر الطبقة الأصلية ( الاستكبار والاستضعاف)، بل أشار إلى عدّة من الصفات والملكات الحسنة، من قبيل: الصدق والعفاف والإخلاص والعبادة والبصيرة والرأفة والرحمة والفتوّة والخشوع والإنفاق والإيثار والخشية والتواضع، واعتبرها جميعاً خصال المستضعفين.

وأشار إلى عدّة من الصفات والملكات السيّئة، من قبيل: الكذب والخيانة والفجور والرياء واتباع الهوى وعمى القلب والقساوة والبخل والتكبّر ونحوها، واعتبرها جميعاً من خصال المستكبرين.

٤٥

فالاستكبار والاستضعاف ليسا أساس الانقسام إلى الطوائف المختلفة والمتناقضة فحسب، بل هما أيضاً أساس الصفات والملكات الخلقية المتضادّة، وهما الأساس في جميع الاتجاهات والعقائد والمسالك، بل جميع الآثار الثقافية والحضارية فكل من الأخلاق والفلسفة والفن والأدب والدين، إذا كان ناشئاً من الطبقة المستكبرة كان حاكياً عن اتجاهها الاجتماعي وممثّلاً له ؛ ولذلك نراها كلها بصدد توجيه الوضع الموجود وعاملاً للتوقّف والركود والجمود، خلافاً للأخلاق أو الفلسفة أو الآداب أو الفن أو الدين المنبعث من الطبقة المستضعفة ؛ حيث يكون موجّهاً ومبعثاً للحركة والثورة فالطبقة المستكبرة حيث إنّها تستضعف الآخرين، وتستولي على حقوقهم الاجتماعية، تكون بالطبع متأخّرة الفكر رجعيّة طالبةً للعافية والسلم، خلافاً للطبقة المستضعفة حيث تكون بصيرةً مطّلعة، مخالفة للتقاليد، ثوريةً تقدميةً متحرّكةً.

والخلاصة: أنّ أصحاب هذه الدعوى يعتقدون أنّ القرآن يؤيّد النظرية القائلة، بأنّ كل ما يصنع شخصية الإنسان، ويشخّص الطائفة التي ينتمي إليها، والجهة التي يسير نحوها، ويعيّن قاعدته الفكرية والخلقية والدينية والعقائدية هو وضعه الاقتصادي وعلى هذا الأساس بنى القرآن تعاليمه القيّمة حسبما يستفاد من مجموع الآيات.

ومن هنا فإنّ المقياس لمعرفة صدق الدعاوى وكذبها، من قبيل دعوى الإيمان والإصلاح والقيادة، وحتى النبوّة والإمامة، هو الانتماء إلى الطبقة الخاصة، فهو ملاك كل شيء.

هذه النظرية - في الواقع - تبتني على التفسير المادي المحض للإنسان والمجتمع وممّا لا شك فيه أنّ القرآن يهتم كثيراً بالقاعدة الاجتماعية

٤٦

للإنسان، إلاّ أنّ هذا لا يعني أنّه يجعل ذلك مقياساً لجميع التقسيمات الطبقية ونحن نعتقد أنّ هذا النوع من التفسير الاجتماعي لا ينطبق مع وجهة النظر الإسلامية حول الإنسان والعالم والمجتمع، وأنّ منشأ ذلك هو النظرة السطحية للمباحث القرآنية إلى هنا نكتفي في البحث عن ذلك، وسيأتي تفصيله في مباحث التاريخ تحت عنوان ( هل التاريخ بطبعه مادي أم لا ؟ ).

إتحاد المجتمعات في الماهيّة واختلافها:

البحث عن هذا الموضوع - كما مرّت الإشارة إليه - ضروري لكل مدرسة اجتماعية ؛ إذ بذلك يتّضح أنّه هل يمكن افتراض إيديولوجية موحّدة لجميع المجتمعات البشرية، أو لا بد من تنوّع الأيديولوجيات حسب تنوّع المجتمعات، وأنّ كل قوم وكل شعب وكل حضارة وثقافة له إيديولوجية معيّنة ؟ وذلك لأنّ الإيديولوجية عبارة عن مجموعة من النظريات والطرق التي تسوق المجتمع إلى كماله وسعادته ومن جهة أُخرى نجد أنّ كل نوع من الموجودات الحيّة له خواصه وآثاره وإمكانيّاته المختصة به، ويسير نحو كماله وسعادته المختصين به، فلا يمكن أن يكون كمال الفرس وسعادته - مثلاً - بعينه كمال الإنسان وسعادته.

إذن فلو كانت المجتمعات - والمفروض أنّها أصيلة وواقعية - كلها من نوع واحد، وطبيعة وماهيّة واحدة أمكن أن تكون لها جميعاً إيديولوجية واحدة، حيث إنّ الاختلافات الموجودة فيها لا تتعدّى الاختلافات الفردية في النوع الواحد، وكل إيديولوجية يمكن تعميمها في حدود الاختلافات الفردية، وأمّا إذا كانت المجتمعات مختلفة في ماهيّتها وطبيعتها ونوعيّتها ؛ كانت بالطبع مختلفة في كمالها وسعادتها ونظامها

٤٧

وهدفها وقراراتها، ولا يمكن لإيديولوجية واحدة أن تتكفّل سعادة الجميع.

ومثل هذا السؤال بعينه يتوجّه إلى المجتمعات بلحاظ تطوّرها وتحوّلها في عمود الزمان فنقول: هل المجتمعات في مسير تحوّلها وتطوّرها تتغيّر من حيث الماهيّة والنوعيّة، فيشملها قانون تبدّل الأنواع - ولكن على مستوى المجتمعات - أم أنّ تحوّل المجتمع وتطوّره من قبيل تحوّل الفرد وتطوّره، حيث يحتفظ في جميع المراتب بنوعيّته وماهيّته ؟

والسؤال الأول يتعلّق بالمجتمع، والثاني بالتاريخ ونحن نتعرّض هنا للبحث عن السؤال الأول، ونترك الإجابة على السؤال الثاني لمباحث التاريخ:

إنّ بحوث علم الاجتماع يمكنها أن تبدي رأياً في هذه المسألة عن طريق البحث في أنّ المجتمعات هل تشترك في مجموعة من الخواص الذاتية أم لا ؟ وأنّ اختلاف المجتمعات هل هو في أمور سطحية ظاهرية معلولة لما هو خارج عن ذات المجتمع وطبيعته، وأنّ كل ما يتعلّق بذاته وطبيعته ليس فيه اختلاف، أم أنّها مختلفة، في ذاتها وطبيعتها، وحتى لو فرضنا أنّها متحدة من حيث الوضع الخارجي فهي مختلفة من حيث التأثير والعمل ؟ وهذه هي الطريقة التي تقترحها الفلسفة لتشخيص الوحدة النوعية وكثرتها عندما تكون مبهمة.

وفي المقام طريق أقرب وهو البحث عن الإنسان نفسه ؛ إذ لا اختلاف في أنّ الإنسان نوع واحد، وأنّه لم يتحوّل بيولوجياً منذ وُجد قال بعض العلماء: إنّ الطبيعة بعد أن أوصلت السير التكاملي في الأحياء إلى الإنسان بدلت التطوّر البيولوجي إلى التطوّر الاجتماعي

٤٨

وبدلت مسير التكامل من الجسم إلى الروح والمعنوية.

هذا وقد مرّ بنا في البحث عن سرّ كون الإنسان اجتماعياً أنّ الإنسان - وهو نوع واحد حسب الفرض - اجتماعي بمقتضى فطرته وطبيعته، بمعنى أنّ اجتماعيته وتشكيله للمجتمع وتقبّله للروح الجماعية ينبع من خصوصيته الذاتية والنوعية وهو من المميزات الفطرية للإنسان، فالنوع البشري إنّما يميل إلى التمدّن وإعداد الروح الجماعية ؛ كي يصل إلى الكمال المناسب الذي له قابلية الوصول إليه، والروح الجماعية كوسيلة لإيصال الإنسان إلى كماله النهائي وعليه فالنوع البشري هو الذي يعين مسيرة الروح الجماعية.

وبعبارة أُخرى: الروح الجماعية هي بدورها أيضاً في خدمة الفطرة الإنسانية، والفطرة الإنسانية تستمر في جهودها ما دام الإنسان باقياً.

إذن فالروح الجماعية تعتمد على الروح الفردية والفطرة الإنسانية، وحيث إنّ الإنسان نوع واحد فالمجتمعات الإنسانية أيضاً متحدة في طبيعتها وماهيتها ونوعيتها نعم، كما يمكن انحراف الفرد عن مسيره الفطري، وربّما يمسخ أخلاقياً، كذلك المجتمع، فالانحراف الموجود بين المجتمعات من قبيل اختلاف الأفراد أخلاقياً، الذي لا يؤثّر في خروجهم عن النوع البشري.

إذن فالمجتمعات والحضارات والثقافات والأرواح الجماعية الحاكمة على المجتمعات، بالرغم من الاختلاف في الوجهة والصبغة، لا تفقد صبغة النوعية الإنسانية، وماهيّتها إنسانية لا غير.

هذا، ولكن إذا قبلنا النظرية الرابعة في تركيب المجتمعات، وقلنا: إنّ الأفراد ليسوا إلاّ مواداً قابلة وظروفاً فارغة، وأنكرنا قانون

٤٩

الفطرة ؛ أمكن أن نفترض وجود الاختلاف النوعي والماهوي بين المجتمعات ولكنّ هذه النظرية التي أبداها ( دوركايم ) مردودة ؛ لأنّ أول سؤال يفقد جوابه - حسب هذه النظرية - هو: أنّ المادة الأُولى للروح الجماعية إذا لم تنبع من الفرد، والجانب الطبيعي والبيولوجي في الإنسان، فمن أين حصل ؟ هل الروح الجماعية وُجدت من العدم المحض ؟ أم يكفي في توجيهها أن نقول بأنّ المجتمع وُجد منذ وجود الإنسان ؟ أضيف إلى ذلك أنّ دوركايم نفسه يعتقد أنّ الأُمور الاجتماعية، التي ترتبط بالمجتمع وتخلقها الروح الجماعية، من قبيل الدين والأخلاق والفن ونحو ذلك، كانت في المجتمعات ولا تزال ولن تزول , ولها - حسب تعبيره - دوام زماني وانتشار مكاني وهذا يدل على أنّ دوركايم أيضاً يقول بوحدة الروح الجماعية من حيث الماهيّة والنوع.

أمّا التعاليم الإسلامية فتقول بوحدة الدين مطلقاً، من حيث النوعية، وان اختلاف الشرائع من قبيل الاختلاف في الفروع لا الاختلاف الماهوي، وحيث إنّ الدين ليس إلاّ النظام التكاملي للفرد والمجتمع، فهذا يعني أنّ التعاليم الإسلامية تبتني على الوحدة النوعية للمجتمعات ؛ إذ لو كانت متعدّدة النوعية لتكثّرت الأهداف الكمالية وطرق الوصول إليها، وبالطبع كان ذلك مؤدّياً إلى اختلاف الأديان في الماهيّة، والقرآن الكريم يصر ويؤكّد على أنّ الدين واحد في جميع المناطق والمجتمعات، وفي جميع العصور والأزمنة، فمن وجهة نظر القرآن ليست هناك أديان بل دين واحد منفرد، والأنبياء كلهم كانوا يدعون إلى دين واحد وطريقة واحدة وهدف واحد:( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى

٥٠

وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيه ) (١) والآيات الدالة على وحدة الدين في جميع الأقطار والأعصار وعلى ألسنة جميع الأنبياء، وإنّ اختلاف الشرايع من قبيل اختلاف الناقص والكامل كثيرة في القرآن الكريم.

والقول بوحدة الدين من حيث النوع يبتني على أساس القول بوحدة نوع الإنسان، ووحدة المجتمعات الإنسانية في النوع من حيث إنّها واقعيّات عينيّة.

المجتمعات في المستقبل:

لنفترض أنّ المجتمعات والحضارات والثقافات - كما قلنا - متحدة النوع والماهية، ولكنّها بلا ريب مختلفة في الكيفية والشكل والصبغة، فكيف يكون وضعها في المستقبل ؟ هل تستمر هذه الثقافات والمجتمعات والقوميات في وضعها الحالي، أم أنّ البشرية تسير نحو حضارة وثقافة موحّدة ومجتمع موحّد، فتنتفي كل هذه الألوان الخاصة، وتتلوّن كل هذه الأُمور بالصبغة الأصلية وهي صبغة الإنسانية ؟

هذه المسألة ترتبط أيضاً بالبحث عن ماهية المجتمع، ونوع الروابط بين الروح الجماعية والروح الفردية ومن الواضح أنّه بناءاً على نظرية أصالة الفطرة، وأنّ الوجود الاجتماعي للإنسان وحياته الاجتماعية والروح الجماعية للمجتمع وسائل انتخبتها الفطرة الإنسانية للوصول إلى كمالها النهائي، فلابد من القول بأنّ المجتمعات والحضارات والثقافات تسير نحو الاتحاد والاندماج، وأنّ مستقبل المجتمعات البشرية هو المجتمع العالمي الموحّد المتكامل الذي تصل فيه جميع القيم البشرية

____________________

(١) الشورى: ١٣.

٥١

الممكنة إلى حد الفعليّة، ويصل فيه الإنسان إلى كماله الحقيقي وسعادته الواقعية والإنسانية الأصيلة.

وممّا لا ريب فيه أنّ القرآن يرى بأنّ الحكومة النهائية هي حكومة الحق وفناء الباطل تماماً، والعاقبة للتقوى والمتقين.

قال في تفسير الميزان: ( إنّ البحث العميق في أحوال الموجودات الكونية يؤدّي إلى أنّ النوع الإنساني سيبلغ غايته وينال بغيته، وهي كمال ظهور الإسلام بحقيقته في الدنيا، وتولّيه التام أمر المجتمع الإنساني، وقد وعده الله تعالى - طبق هذه النظرية - في كتابه العزيز، قال:( فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ) (١) .

وقال:( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ) (٢) .

وقال:( أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) (٣) إلى غير ذلك من الآيات(٤) .

وقال فيه أيضاً تحت عنوان ( ثغر المملكة الإسلامية هو الاعتقاد دون الحدود الطبيعية أو الاصطلاحية ):

( ألغى الإسلام أصل الانشعاب القومي من أن يؤثّر في تكوّن

____________________

(١) المائدة: ٥٤.

(٢٩) النور: ٥٥.

(٣) الأنبياء: ١٠٥.

(٤) الميزان ج٤: ص١٠٠ ط بيروت.

٥٢

المجتمع أثره ذلك الانشعاب الذي عامله الأصلي البدوية، والعيش بعيشة القبائل والبطون، أو اختلاف منطقة الحياة والوطن الأرضي، وهذان - أعني البدوية واختلاف مناطق الأرض في طبائعها الثانوية من حرارة وبرودة وجدب وخصب وغيرها - هما العاملان الأصليان لانشعاب النوع الإنساني شعوباً وقبائل، واختلاف ألسنتهم وألوانهم على ما بيّن في محلّه ثم صارا عاملين لحيازة كل قوم قطعة من قطعات الأرض، على حسب مساعيهم في الحياة وبأسهم وشدّتهم وتخصيصها بأنفسهم، وتسميتها وطناً يألفونه ويذبون عنه بكل مساعيهم وهذا وإن كان أمراً ساقهم إلى ذلك الحوائج الطبيعية التي دفعتهم الفطرة إلى رفعها، غير أنّ فيه خاصة تنافي ما يستدعيه أصل الفطرة الإنسانية من حياة النوع في مجتمع واحد، فإنّ من الضروري أن الطبيعة تدعو إلى اجتماع القوى المتشتّتة وتألّفها وتقوّيها بالتراكم والتوحّد ؛ لتنال ما تطلبه من غايتها الصالحة بوجه أتم وأصلح ؛ وهذا أمر مشهود من حال المادة الأصلية حتى تصير عنصراً ثم ثم نباتاً ثم حيواناً ثم إنساناً.

والانشعاب بحسب الأوطان تسوق الأُمّة إلى توحّد في مجتمعهم يفصله عن المجتمعات الوطنية الأُخرى، فيصير واحداً منفصل الروح والجسم عن الآحاد الوطنية الأُخرى ؛ فتنعزل الإنسانية عن التوحّد والتجمّع وتبتلي من التفرّق والتشتّت بما كانت تفرّ منه، ويأخذ الواحد الحديث يعامل سائر الآحاد الحديثة ( أعني الآحاد الاجتماعية ) بما يعامل به الإنسان سائر الأشياء الكونية من استخدام واستثمار وغير ذلك والتجريب الممتد بامتداد الأعصار منذ أول الدنيا إلى يومنا هذا يشهد بذلك، وما نقلناه من الآيات في مطاوي الأبحاث السابقة يكفي في استفادة ذلك من القرآن الكريم.

٥٣

وهذا هو السبب في أن ألغى الإسلام هذه الانشعابات و التشتّتات والتميّزات، وبنى الاجتماع على العقيدة دون الجنسية والقومية والوطن ونحو ذلك حتى في مثل الزوجية والقرابة في الاستمتاع والميراث فإنّ المدار فيها على الاشتراك في التوحّد لا المنزل والوطن - مثلاً -(١) .

وقال أيضاً تحت عنوان: ( الدين الحق هو الغالب بالآخرة والعاقبة للتقوى ): فإنّ النوع الإنساني بالفطرة المودوعة فيه يطلب سعادته الحقيقية، وهو استوائه على عرش حياته الروحية والجسمية معاً، حياة اجتماعية بإعطاء نفسه حظّه من السلوك الدنيوي والأُخروي، وقد عرفت أنّ هذا هو الإسلام ودين التوحيد وأمّا الانحرافات الواقعة في سير الإنسانية نحو غايته وفي ارتقائه إلى أوج كماله ؛ فإنّما هو من جهة الخطأ في التطبيق لا من جهة بطلان حكم الفطرة والغاية التي يعقبها الصنع والإيجاد لا بد أن تقع يوماً معجلاً أو على مهل قال تعالى:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) (٢) ( يريد أنّهم لا يعلمون ذلك علماً تفصيلياً وإن علمته فطرتهم إجمالاً ) فهذه وأمثالها آيات تخبرنا أنّ الإسلام سيظهر ظهوره التام فيحكم على الدنيا قاطبة.

ولا تصغ إلى قول مَن يقول: إنّ الإسلام وإن ظهر ظهوراً ما وكانت أيامه حلقة من سلسلة التاريخ لكنّ ظهوره التام أعني

____________________

(١) الميزان ج٤ ص١٢٥ - ١٢٦ ط بيروت.

(٢) الروم / ٣٠.

٥٤

حكومة ما في فرضية الدين بجميع موادها وصورها وغاياتها، ممّا لا يقبله طبع النوع الإنساني، ولن يقبله أبداً

وذلك أنّك عرفت أنّ الإسلام، بالمعنى الذي نبحث فيه، غاية النوع الإنساني وكماله الذي هو بغريزته متوجّه إليه، شعر به تفصيلاً أو لم يشعر، والتجارب القطعية الحاصلة في أنواع المكوّنات يدل على أنّها متوجّهة إلى غايات لوجوداتها، يسوقها إليها نظام الخلقة، والإنسان غير مستثنى من هذه الكلّيّة(١) !.

ومع ذلك فهناك مَن يدّعي أنّ الإسلام لا يريد أبداً وحدة الثقافات والمجتمعات الإنسانية ولا اتحادها، بل يقول بتعدد الثقافات والمجتمعات، ويؤيّد تنوّعها ويقرّها على ذلك يقولون: إنّ شخصية كل شعب وهويّته وذاتيّته ليست إلاّ ثقافة ذلك الشعب وروحه الجماعية، وهي تصنع تاريخه الخاص بحيث لا يشاركه فيه غيره من الشعوب، كما تصنع طبيعة الإنسان ونوعيّته وتاريخ ثقافته، بل تصنع في الواقع شخصيته وذاته الواقعية كل شعب له ثقافته الخاصة بماهيّتها الخاصة، ومذاقها الخاص، وسائر خصائصها، وهذه الثقافة قوام شخصية الشعب، والدفاع عنها دفاع عن هوية الشعب، وكما أنّ هوية الفرد وشخصيته ترتبط به، ولا يمكن تركها وقبول هوية وشخصية أُخرى إلاّ بسلب نفسه عن نفسه ومسخها، كذلك ثقافة الشعب التي أصبحت قوامة في طول التاريخ، فلا يمكن تركها وتقبّل أي ثقافة أُخرى أجنبية.

ومن هنا نجد أنّ كل شعب يختص بنوع من الإحساس والفهم والذوق والاستحسان والتأثّر والأدب والموسيقى والتقاليد والسنن، فيستحسن

____________________

(١) نفس المصدر ص١٣١ - ١٣٢.

٥٥

أُموراً لا يستحسنها شعب آخر والسر في ذلك أنّ الشعب في طول تاريخه اكتسب ثقافة خاصة لأسباب مختلفة، وطروء عوارض مختلفة من نجاح وفشل ومكسب وحرمان، وتأثير البيئة والهجرات والارتباطات، والتمتّع بنوع من الشخصيات البارزة ونحو ذلك وهذه الثقافة الخاصة صنعت روحه القومية والجماعية بشكل خاص وحدود معينة فالفلسفة والعلم والفن والأدب والدين والأخلاق مجموعة عناصر تأخذ شكلها وتركيبها الخاص في طول التاريخ المشترك لطائفة معيّنة من الإنسان بحيث تميّزها عن سائر الطوائف، وتمنحها شخصيتها الخاصة ومن هذا التركيب الخاص تخلق الروح التي تجمع أفراد الطائفة، وتربط بينهم ربطاً حيوياً وكأنّهم أعضاء جسم واحد وهذه الروح هي التي تمنح هذا الجسم وجوده المستقل والمعيّن، بل تمنحه نوعاً من الحياة تميّزه عن سائر المجموعات الثقافية والمعنوية في طول التاريخ، فإنّها تظهر بوضوح وبوجه محسوس في الأعمال والأفكار والعادات الاجتماعية، وفي ردود الفعل، وتأثيرات الإنسان أمام الطبيعة والحياة والحوادث، وكذا في الأحاسيس والميول والأهداف والعقائد، بل في جميع ما يستجد من الاكتشافات العلمية والفنية، وبكلمة واحدة - في جميع المظاهر المادية والمعنوية في الحياة البشرية.

ويقولون: إنّ الدين نوع من العقيدة والأيديولوجية والعواطف والأعمال الخاصة التي تستوجبها هذه العقيدة، ولكنّ القومية هي التشخيص والخصائص الممتازة التي توجد الروح المشتركة لأفراد من البشر يجمعهم المصير المشترك وعليه فالعلاقة بين القومية والدين هي العلاقة بين الشخصية والعقيدة.

٥٦

ويقولون: إنّ الإسلام يمنع من التمييز العنصري والاستعلاء القومي، ولا يعني ذلك مخالفته لوجود القوميات المختلفة في المجتمع البشري فقانون التسوية في الإسلام لا يعني نفي القوميات، بل إنّ ذلك يعني أنّ الإسلام يعترف بوجود القوميات كأُمور واقعية طبيعية مسلّمة غير قابلة للإنكار قال تعالى:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) (١) وهذه الآية وإن استدل بها على نفي القوميات وإلغائها في الإسلام، إلاّ أنّها تدل على عكس ذلك وتؤيّد وتقر القوميات فإنّ الآية تتعرّض أولاً لانقسام البشر من حيث الجنس إلى ذكر وأُنثى بصورة طبيعية، ثم تتعرّض بعد ذلك مباشرة لانقسامهم إلى شعوب وقبائل.

وهذا يعني أنّ هذا التقسيم طبيعي وإلهي كالانقسام الأول ويستفاد من ذلك أنّ الإسلام كما يؤيّد العلاقة الخاصة بين الرجل والمرأة دون نفي الجنس وآثاره، كذلك يؤيّد علاقات الشعوب على أساس التساوي دون نفي القوميات، فجعل القرآن القوميات في عداد الاختلاف الجنسي، وإسنادهم معاً إلى الله تعالى يدل على أنّ وجود القوميات المختلفة واقع طبيعي في الخلق وما ورد في القرآن من جعل الغاية وحكمة الاختلاف القومي، ومعرفة الشعوب بعضها بعضاً ؛ يشير إلى أنّ كل شعب إنّما يعرف نفسه ويكتشف ذاته من خلال مواجهته لسائر الشعوب، وآنذاك تتبلور شخصيته وتقوى بنيته.

وعليه فالإسلام، خلافاً لما هو المشهور، يؤيّد القومية بمفهومها الثقافي، ولا يخالفها، وإنّما يخالف القومية بمفهومها العنصري.

____________________

(١) سورة الحجرات / ١٣.

٥٧

وهذه النظرية خاطئة من جهات:

١ - إنّها تبتني على نظريتين خاطئتين: أحدهما حول الإنسان، والأُخرى حول أُصول الثقافة الإنسانية، أي الفلسفة والعلم والفن والأخلاق وغيرها.

أمّا الأُولى فقد افترض فيها أنّ الإنسان لا يملك في ذاته - حتى بالقوّة والاستعداد - ما يهديه في نظرته إلى العالم وإدراكه من الناحية الفكرية، وفي إرادته وتشخيص الطريق التي يسلكها، والهدف الذي يبتغيه من الناحية العاطفية فنسبة الإنسان إلى جميع الأفكار والعواطف والطرق والأهداف سواء وهو إناء فارغ من المحتوى , فاقد للشكل واللون، وتابع في جميع ذلك لمظروفه، ويكسب منه شخصيته وذاتيته وطريقه وهدفه فالشكل والصبغة، والطريق والهدف، والشخصية التي يكتسبها من أول مظروف له، هي: شكله وصبغته، وطريقه وهدفه، وشخصيته الواقعية ؛ لأنّ ذاته تتقوّم بهذا المظروف وكلّما يمنح بعد ذلك في سبيل تغيير شخصيته ولونه وشكله يعتبر أجنبياً بالنسبة إليه ؛ لأنّه يعارض شخصيته الأُولى التي اكتسبها على سبيل الصدفة.

وبعبارة أُخرى: هذه النظرية ملهمة من النظرية الرابعة في أصالة الفرد والمجتمع، وهي التي تقول بأصالة المجتمع محضاً وقد مر نقدها.

وهذه النظرية حول الإنسان غير صحيحة، لا من وجهة النظر الفلسفية، ولا من وجهة النظر السلامية، فالإنسان بمقتضى خصوصيته الذاتية له شخصية معيّنة، وطريق وهدف معين - ولو بالقوّة والاستعداد - وهو قائم بالفطرة الإلهيّة، وهي التي تبلور ذاته الواقعية.

٥٨

ومسخ الإنسان وعدم مسخه إنّما يتبيّن بملاحظة المقاييس الفطرية والنوعية للإنسان، لا بالقياس إلى تاريخه القديم فكل دراسة وثقافة تطابق الفطرة الأصلية للإنسان وتنمّيها هي الثقافة الأصلية، وإن لم تكن أول ثقافة أجبره على اقتنائها التاريخ وكل ثقافة لا تطابق الفطرة الأصلية له أجنبية عنه، وتوجب مسخه وتغييره عن هويته الواقعية، وتبدل ذاته الأصلية إلى ذات أجنبية، وإن كانت وليدة التاريخ القومي له فمثلاً فكرة الثنوية وتقديس النار ؛ مسخ لإنسانية الإنسان الإيراني، وإن عُدّت وليدة تاريخه القديم ولكنّ فكرة التوحيد وعبادة الإله الواحد ونفي عبادة غير الله ؛ رجوع إلى الهوية الواقعية الإنسانية له، وإن كانت وليدة منطقة أُخرى.

وأمّا الثانية، فقد افترض فيها - خطأ - أنّ عناصر الثقافة الإنسانية كالمادة الأُولى ليس لها شكل وتعيّن خاص، وأنّ التاريخ هو الذي يصنع شكلها وكيفيّتها، بمعنى أنّ الفلسفة والعلم والدين والأخلاق والفن لا يؤثر في ماهيّتها الشكل الخاص والصبغة الخاصة، فالكيفية والشكل والصبغة في هذه العناصر أمور نسبيّة ترتبط بالتاريخ، فتاريخ كل قوم وثقافتهم يصنعان فلسفتهم وعلمهم ودينهم وأخلاقهم وفنّهم بوجهٍ خاص.

وبعبارة أُخرى: كما أنّ الإنسان في ذاته فاقد للهوية والشكل الخاص، والثقافة القومية هي التي تمنحه شكله وهويته، كذلك العناصر الأصلية في ثقافة الإنسان فهي أيضاً فاقدة في ذاتها للشكل والصبغة، وليس لها وجه خاص، والتاريخ هو الذي يمنحها كل ذلك ويسمها بطابعها الخاص، وهناك مَن أفرط في هذه النظرية حتى قال إنّ

٥٩

الفكر الرياضي أيضاً يتبع الاتجاه الثقافي الخاص(١) .

هذه النظرية هي بنفسها نظرية النسبية في ثقافة الإنسان وقد بحثنا في كتاب ( أُصول الفلسفة ) حول إطلاق التفكير البشري ونسبيّته، وأثبتنا أنّ النسبية إنّما هي في العلوم والمدركات الاعتبارية والعملية فهذه المدركات تختلف في الثقافات حسب اختلاف الأوضاع والأزمنة والأمكنة، وهي لا تحكي عن واقع موضوعي وراءها يكون مقياساً للحق والباطل، والصحيح والخطأ وأمّا العلوم والمدركات والأفكار النظرية التي تصنعها الفلسفة والعلوم النظرية، كأُصول النظرة الدينية للكون والأُصول الأوّلية في الأخلاق، فهي أُصول ثابتة مطلقة غير نسبية والمقام لا يسع إطالة البحث في ذلك.

٢ - ورد في هذه النظرية أنّ الدين هو العقيدة، وأنّ القومية قوام شخصية الإنسان، فعلاقة الدين بالقومية علاقة العقيدة بالشخصية.

والإسلام يقرّ الشخصيات القومية على وضعها ويعترف بها وهذا يعني نفي أكبر هدف أُرسل من أجله الدين، وخصوصاً الدين الإسلامي، وهو إعطاء فكرة عامة عن الكون على أساس المعرفة الصحيحة بالنظام العام المبتني على محور التوحيد، ومن ثمّ تربية الشخصية المعنوية والأخلاقية للإنسان على أساس تلك الفكرة الكونية العامة، وتنشئة الأفراد والمجتمع على هذا الأساس ؛ وذلك يستلزم تأسيس ثقافة جديدة وعامة لجميع البشر، لا ثقافة قومية والثقافة الإسلامية إذا كانت عالمية وقابلة للعرض على جميع الشعوب، فليس ذلك من جهة أنّ الدين

____________________

(١) مراحل أساسي أنديشه در جامعه شناسي ص١٠٧ تأليف ريمون آرون نقلاً عن العالم الاجتماعي اسبنجلر صاحب النظرية المعروفة في فلسفة التاريخ.

٦٠