• البداية
  • السابق
  • 49 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 14736 / تحميل: 6270
الحجم الحجم الحجم
حجر بن عدي

حجر بن عدي

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

حجر بن عدي

محمد فوزي

١

بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ

( إِنّ الله اشْتَرَى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنّ لَهُمُ الْجَنّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ) (التوبة: ١١١).

في البدء كانت الكلمة..

وكانت وسيلة الرسول الأعظم الأولى، هي الكلمة..

وكان إعلان موقف الإنسان من جبهة، أو تحوّله إلى جبهة أخرى يتمّ عن طريق الكلمة في البداية.

وكان السند الرئيسي للمصلحين والمفكرين الذين رفعوا مجتمعهم إلى أعلى، هو الكلمة.

ولكن..

أية كلمة تلك التي تستخدم من قبل الأنبياء والرسل والمصلحين؟.

لم تكن كلمة الرسل والأنبياء، كلمة خارجة عن نطاق هذا العالم.. ولم تكن كلمة المصلحين في كل أنحاء الأرض إلاّ من أجل إصلاح المجتمع الذي كانوا يعيشون فيه.. كلمة الرسل والأنبياء

٢

والمصلحين كانت من أجل وضع الإنسان في محله، ومن أجل بعث روح التطلّع، والنظر إلى أعلى في داخل الإنسان، ولم يكن ذلك إلاّ عن طريق معارضة واقعه الفكري والاجتماعي الفاسد، الذي كان يعيشه، ومعارضة الأفكار التي تخدّر تطلّعه، وتقتل طموحه، والوقوف موقف الرفض من هذه الأفكار، ومحاربة ذلك المجتمع الذي يقتل (الإنسان) في الإنسان.

ومن هنا كانت كلمة الله:( وَلَقَدْ كَرّمْنَا بَنِي آدَمَ وَفَضّلْنَاهُمْ عَلَى‏ كَثِيرٍ مِمّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ) .

وكانت كلمة الإسلام بالنسبة للإنسان:

أتحسب أنك جرم صغير

وفيك انطوى العالم الأكبر؟

ومن هنا أيضاً كانت الكلمة الأولى، التي جاء بها الرسول الأعظم: (لا للآلهة)؛ لأنّها ستكون على حساب الإنسان، ومن ذات المنطلق كانت كلمة الإمام عليعليه‌السلام ، وأبو ذر، وعمار، وحِجر: (لا للخليفة المزيّف)؛ لأنّه سيمتهن كرامة الإنسان، ولأنّه سينحرف عن نهج الله، وكانت كلمة كل المؤمنين بالله: (لا للطواغيت).

وعن طريق هذه الكلمة التي كانت تعني الالتزام بخطٍّ معيّنٍ، والصمود على ذلك الخط، استطاع الرسول الأعظم تغيير مجتمع كامل بجميع أجهزته التي تسيّره وتقوده.

٣

وكان ذلك المجتمع مجتمع مكة والجزيرة.

وحيث كانت الأوضاع لا تتناسب مع إِنسانية الإنسان، وكرامته، وحيث الفساد والانحراف عن مناهج الله التي خطّها.. وهكذا امتُهِنتْ كرامة الإنسان، وصودرت حريّته؛ لأنّه ابتعد عن مناهج الله، وتعوّد الناس على الذل، حتى أصبحوا لا يستطيعون العيش بدونه بسهولة.

هكذا كانت تعيش الطبقات الضعيفة وجموع الفقراء والعبيد والأرقّاء.

ويأتي النور، حينما يأتي الرسول، ويفجّر تلك الكلمة، عندما تنزل عليه رسالة السماء:

(لا إله إلاّ الله).

رفضاً لذلك الواقع الفاسد، الممتهن لكرامة الناس، وبعد أن عرف الناس لماذا جاء الرسول.. جاؤوا لكي يستمدّوا منه ما يروي ظمأهم، ويعيد إليهم كرامتهم، وسرعان ما تنتشر كلمة الله في تلك الفئة المستضعفة، فيأتي ياسر وعمار وبلال وصهيب وغيرهم.

واستطاعت كلمة الله أن تغرس في هؤلاء حبّ التطلع، والعودة إلى (الإنسان) الذي نسوه منذ زمن بعيد، وخلّفوه وحيداً.

وللمرة الثانية..

٤

الرسول يرفض، لقد كانت المرة الأُولى بمثابة صفعة أيقظت زعماء قريش من أحلامهم.

ولكن المرة الثانية كانت أعنف، كانت صدمة قاسية وعنيفة بالنسبة لهم.

لقد عرضوا عليه كل شيء: المال، الجاه والزعامة، النساء، ولكنّه مع ذلك يرفض، لقد قال لهم:

«لا.. لا والله، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي، ما تركت هذا الأمر، حتى يظهره الله أو أهلك دونه» .. لأنّي جئت من أجل معارضة هذا الواقع البعيد عن الله، والبعيد جدّاً عن كرامة الإنسان وحريته، ولذلك فإنّي لم آتِ إلاّ لكي أُغيّر الواقع، وأضع كل شيء في محلّه المناسب، وأضع أيضاً كل واحد في محله المناسب، وفق خطّة إصلاحية شاملة لهذا المجتمع.

وكان - ولذا جاء - أن غيّر مجتمعاً كاملاً، لا بل أمّة كاملة، بصوت معارضته في البداية، ووضع خطّة إصلاحية تتفق مع إنسانية الإنسان، وتتماشى مع إرادة الله في الأرض، بل وتمثل إرادة الله في الأرض.

ومن هنا كان صوت المعارضة الذي أطلقه الرسول.. هذا الصوت هو الذي خلق الإمام علياً وأبا ذرٍّ وسلمان وعمار وغيرهم، وكانت المعادلة التي صنعها ذلك الصوت: صوت الرفض (في مواجهة الواقع الفاسد) + خطّة إصلاحية (تتفق مع كرامة الإنسان) = تغيير المجتمع وإعادة صياغته من جديد.

٥

ولكن مع ذلك..

لم تكن مهمّة الرسول - فقط - أن يتحمل عبء الرفض، ومسؤولية المعارضة، وتطبيق كرامة الإنسان، وإِرادة الله على الأرض، لم يكن هذا فقط، وإنما كان عليه أن يتحمّل أيضاً مسؤولية الاستمرارية، مسؤولية الاستقامة في طريق الحقّ.

ولذلك كانت فاطمة.. فاطمة: الاستمرار المعارض، الذي خلّفه الرسول الأعظم.

فبعد أن قبض الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانزاح العبء الثقيل عن كاهل المنافقين، والذين أسلموا خوف السيف، عند ذلك كانت الردّة، وكان الانحراف، وكان الابتعاد الكبير عن الرسالة، بعد أن أُبعد الناس عن القائد الذي يمثّل الرسالة، وعندئذ بدأ الناس يسيرون إلى الوراء، ويحاولون العودة إلى عهد الاستغلال والاحتكار والاستعباد، والعودة إلى عهد ما قبل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وهناك كان على الصوت أن يرتفع.. صوت الرفض يجب أن يعلو؛ لكي يحطّم كل مَنْ يحاول كنس أهداف محمّد، كان على فاطمة أن تعارض، وأن ترفض الوضع الدخيل على الإسلام والمسلمين، وأن تطالبهم بالعودة إلى محمّد الذي كان بالأمس موجوداً، وتطبيق أهدافه، والرجوع إلى قيادة الله وتطبيق إرادته.. هذا الصوت هو الذي عرفه الناس أثناء خطبتها في المسجد، وهذا الصوت هو الذي دعا (الخليفة) الحاكم أن يقول: (أيها الناس، وُليّت عليكم ولست بخيركم).

٦

وهكذا وبهذه الطريقة بيّنت للمسلمين الواقع الذي كانوا يعيشون فيه، وطرحت الطريق الأفضل الذي لا يمكن تطبيق إرادة الله إلاّ بالسير عليه، وكان ذلك الطريق هو: العودة للقيادة الشرعية للمسلمين.. ليس هذا فقط، بل استطاعت أن تخلق في نفوس المسلمين روح التحرر من خوف السيف، الذي رُفع يوم السقيفة.

وبهذا ضربت الزهراء المثل الأعلى، في مسؤولية المرأة المسلمة، في المعارضة المبدئية لكل انحراف عن رسالة الإسلام.

* * *

وكان لابدّ للمسيرة أن تستمر ما دام هناك ظالم، وما دام هناك انحراف عن نهج الله، كان لابدّ لها أن تنمو وتكبر؛ لأنّ الزمن لا يخلو من طاغية يتمرّد على إرادة الله، ويسحق كرامة الإنسان.

ولكن كيف يمكن أن تستمر المعارضة هذه، والرسول المؤسّس قد التحق بربّه، والزهراء قائدة المسيرة بعد الرسول قد لحقت بأبيها أيضاً، بعد أن أطلقت الصوت الرافض، وأعلنت المعارضة.

صحيح أنّ صوت الزهراء قد بعث في الناس روح التمرّد من الخوف، وروح المعارضة عند وجود الانحراف عن رسالة الله،

٧

وصحيح أيضاً أنّ نتيجة ذلك الصوت كان تحرّك أبي ذرٍّ تحركاً علنياً صارخاً، وكذلك غير أبي ذر.

وماذا بعد هؤلاء؟ ماذا بعد أبي ذر، وأصحاب أبي ذر؟ أتبقى المسيرة معطلّة؟ بالطبع.. لا؛ لأنّ الأوضاع كلّها كانت تتطلب معارضة حازمة. الأوضاع كانت فاسدة؛ لأنّ إرادة الله قد غُطّيت، وكرامة الإنسان - بالتالي - قد امتهنت؛ لذلك فالمعارضة يجب أن تبقى، وأن تتحرّك، وتواصل التحرّك.

ولكن كيف يمكن ذلك؟

لم تكن مسيرة المعارضة لتتوقف، ولم يكن ذلك الصوت المعارض ليضيع.. كلا!

لأنّ هناك القطب الرئيسي في القضية، وحامي صوت المعارضة، والسند الخلفيّ للصوت الرافض، لقد كان هناك الإمام عليعليه‌السلام ، والمهم كيف يعارض؟

لقد لبّى الناس نداء المعارضة.. وكلمات أبي ذرٍّ الرافضة، أعادت للناس صوت محمّد والزهراء، ولذلك تحوّلت إلى ثورة شعبية عارمة، وعلى رأس هذه الثورة الشعبية يأتي الإمام عليعليه‌السلام ، وتتوقف المعارضة الداخلية.. لتقوم في مواجهة حكمه الرسالي العادل فلول الانتهازيين والمنافقين، الذين ضربت الثورة مصالحهم ومراكزهم، ودمرت كل ما شيّدوه من مجدٍ زائفٍ على حساب الجماهير المحرومة.

٨

غير أنّ من المحتمل جداً أن لا يستمر هذا الحكم، فلا زالت القوى الانتهازية والمنافقة، تعمل لإرجاع الوضع برِمّته إلى العهد البائد؛ لتستمر في نهب ثروات الأمّة، من هنا كان لابدّ من توفّر (فئة رسالية مجاهدة) تستمرّ في الدفاع عن رسالة الإسلام، حتى بعد سقوط الحكم العلوي، من هنا اهتمّ الإمام عليعليه‌السلام بتربية جيل من الطلائع الرسالية المجاهدة؛ لتستمر في حمل مشعل الثورة إلى الأجيال القادمة.

وهكذا كان ميثم، وكان أبو ذر، وكان غيرهم.. وكان على الطريق (حِجْر بن عَدِي الكندي).

وكان حِجْر منذ البداية مع الحقّ، وعلى طريق الحقّ، ولأنّه من الأفراد الذين تخرّجوا من مدرسة الإمام عليعليه‌السلام ، لذا كان الحقّ هو هدفه الأول والأخير، ولذا أيضاً سخّر حياته من أجل معارضة الظلم، ووقف عمره لكي تستمر مسيرة المعارضة للظلم، والمناصرة للحق.. ولقد ضحّى بدمه، ودم أصحابه؛ ليسقيَ شجرةً غرسها الرسول الأعظم، من أجل أن( تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبّهَا ) ، رجالاً يغيّرون على الظالم مقاييسه، ويفسدون عليه خططه.

ونستطيع أن نعرف أهمية الرفض، وضرورة المعارضة لكلّ ظالمٍ، ولكلّ ما هو ظلم.. إذا عرفنا أنّ«أفضل الجهاد عند الله، كلمةُ حقٍّ عند إِمام جائر» (١) . وعرفت أنّ (الإسلام يطالب

____________________

(١) الإمام الحسينعليه‌السلام : تحف العقول.

٩

معتنقيه أن يرفعوا شعارات المعارضة والرفض الحازم، بوجه كل المجرمين والطغاة، سارقي قوت البشر وحريتهم وكرامتهم، لأنّ الإسلام رفع هذا الشعار النيّر: كونوا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً ).

وأيضاً لكي:« يستريح برّ، ويُستراح من فاجر » (١) ، من أجل إيقاف الظالمين عند حدهم، والاعتراض على استغلالهم للشعوب، بالإضافة إلى إعادة كرامة الإنسان، التي ستهدر عندما يسكت الشعب.. هذا بالنسبة لمن يعارض ولمن يرفض الظلم، أمّا من يسكت.. مَنْ لا يعارض، ومَنْ يخنع، مَنْ لا يرفع صوته ضدّ الحاكم الجائر، فماذا سيكون مصيره؟.

الإمام الحسينعليه‌السلام يخبرنا عن هذا فيقول:

«سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: من رأى منكم سلطاناً جائراً، مستحلاً لحُرم الله، عاملاً في عباده بالإثم والعدوان، فلم يغيّر ما عليه بفعل ولا بقول، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله - أي مدخل السلطان الجائر-» (٢) .

هذا ما ستكون نهايته الأخيرة.

____________________

(١) نهج البلاغة.

(٢) الإمام الحسينعليه‌السلام : تحف العقول.

١٠

أمّا عيشه وحياته، في ظل ذلك الحكم، فلن يكون إلاّ شقاءً وعذاباً وجحيماً، والتاريخ مليء بالشواهد على ذلك، وهكذا أيضاً حال الجماعة والأمة المتخاذلة.

ليس هذا فحسب.. ليس على صعيد الواقع الخارجي والنتائج، بالنسبة للمعارضة التي تحمل هدف: تحقيق إرادة الله، وإنّما الدرب الذي سار عليه حِجْر، كان ضمن المسيرة الثوريّة الرساليّة التي كان فيها محطات استشهاد الثائرين العقائديين، والتي أخبر عنها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينما قال:«سيقتل في عذراء سبعة نفر يغضب الله لهم وأهل السماء» (ومرج عذراء تمثل إحدى محطات المسيرة).

بالطبع لن يغضب الله لسبعة قتلوا وفقط، إنّما لأنّهم كانوا على منهج الحقّ، وكانوا يمثّلون العناصر التي تسير على درب الله، من أجل أن تتمّ هدفها الثلاثي: الله، والحقّ، والحرية.

ولكي تستمرّ المعارضة لكلِّ نظامٍ جائرٍ، ومن أجل أن نأخذ موقف المعارضة من كلّ حكم جائر، وكل سلطة مزيّفة.. علينا أن نعرف كيف كان موقف المعارضة، التي كان من زعمائها حِجْر بن عَدِي، وأن نعرف ما هو الطريق الأفضل للعمل، وكيف كانت تعمل؟.

وهذا ما يتكفل به هذا الكتاب.

محمّد فوزي       

٣/٣/١٩٧٧    

الجزيرة العربية- القطيف

١١

جنين الثورة

يتكوّن في رحم الأحداث

من أجل معرفة بداية المعارضة، وبالتالي فهم الطريق الذي سلكته، يجب علينا أن نتعرف على البيئة التي عاشت فيها حركة حِجْر... علينا أن نعرف الظروف السياسية والاجتماعية والدينية أيضاً، لنعرفَ بالتالي العوامل الرئيسية التي دفعت حِجْرَاً لكي يصبحَ ثائراً، وليس مجرد رجل معارضة... إِنّ تحوّل معارضته إلى ثورة ساخنة هزّت الحكم الأموي حتى بعد القضاء عليها، هذا لا يمكن تفسيره ووعيه إلاّ عندما نعرف كافة الظروف والعوامل، التي أثّرت في المجتمع آنذاك.

فكيف كانت الأوضاع؟ وكيف عاش الناس؟

وبعد ذلك كيف تحوّلت المعارضة إلى (ثورة الدم)؟.

١٢

لأنّ مجتمع الكوفة كان مجتمعاً إسلامياً شيعياً، لذلك فإنّ أيّ دراسة تهمل هذه النقطة، هي دراسة سطحيّة وغير شاملة، لأنّ كل الأحداث، وكلّ النتائج كانت تسير ضمن المطابقة لهذه السمة، وهي كونه إسلامياً، موالياً للأمام علي، وأهل بيت الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكيف كانت حالة ذلك المجتمع من الناحية الدينية؟.

أ- الإرهاب الفكري والسياسي:

لم تكن الأحداث التي تجري داخل الكوفة، فقط هي التي تؤثّر على الحياة الطبيعية لمجتمع الكوفة، ولم تكن الإعدامات وغيرها في الكوفة - وما حولها فقط - تؤثّر على تحرّك الناس، وعلى الرأي العام، إنّما كانت الأحداث الخارجية - أيضاً - تؤثّر أكبر تأثير على المجتمع.

ولأنّ المجتمع الإسلامي في العهد الأموي - خاصة في زمن معاوية - كان يعيش (أزمة انتهاكات)، من قبل الولاة والحكّام الأمويين، وكانت الانتهاكات الأمويّة للمقدسات الإسلامية على أشدّها.

فبعد أن أغار بسر بن أرطاة، القائد الأموي على مكّة المكرّمة، واستباحها، وقتل شيوخها وأطفالها ونساءها، عرج على مدينة الرسول، مهبط الوحي، وقاعدة البناء الإسلامي، وقتل من بها من الشيوخ والنساء وحملة القرآن وحفّاظ الحديث.

١٣

وتصل الأنباء إلى الكوفة.. ويخيّم على الناس ذهول عميق.. أترى تكون هي البداية؟ البداية التي تهدم كل ما بنى المسلمون وبهذا الشكل المريع!

وقبل أن يفيق الناس من ذهول (كارثة الانتهاك الأموي للحرمين)، حتى يستيقظون على أثر الصدمة العنيفة بعد القرار الذي أصدره معاوية: شتم الإمامعليه‌السلام على كل منبر.. يستيقظون على قرار الاعتداء العلني على الرسالة، ويتذكرون قول رسول الله:«من سبّ علياً فقد سبّني، ومن سبّني فقد سبّ الله، ومن سبّ الله أكبّه الله في نار جهنم» .

هكذا وللمرة الثانية يعتدي معاوية فيها على الرسول الأعظم، لقد كانت المرة الأولى عندما قال لأحد أصحابه:

(إن أخا هاشم يصرخ به في كل يوم خمس مرات، أشهد أن محمداً رسول الله، فأيّ عمل يبقى بعد هذا لا أم لك، لا والله إلاّ دفناً دفنا)(١) .

وهذه هي المرة الثانية التي يعتدي فيها على الرسول الأعظم، عندما يعتدي على الإمام عليٍّعليه‌السلام ؛ لأنّ الإمام علي هو نفس رسول الله، كما في الحديث السابق، وكما ينصّ القرآن في آية المباهلة حيث يقول:( فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ) .

____________________

(١) مروج الذهب ج٣ ص٤٥٤.

١٤

وبالطبع ليس شتم الإمام عليعليه‌السلام هو المهم؛ لأنّ«السبُّ لي زكاةٌ ولكم نجاةٌ» (١) ، ولكن ليست كل القضية هنا إنّما القضية هي: الهدف من وراء سبّ الإمام عليّعليه‌السلام ماذا كان؟ وما هي غاية تلك الحملة؟.

لم يكن الهدف من شتم الإمام على المنابر إلاّ إيجاد الفاصل الطبيعي، والحاجز القلبي بين الإمام وبين المسلمين، وبالتالي - كنتيجة طبيعية لهذا - إيجاد الفاصل الكبير بين مبادئ الإمام، أهداف الإمام، تعاليمه، وبين المسلمين، في الوقت الذي كان فيه المسلمون بأمسّ الحاجة إلى أفكار الإمام، ومبادئه، وتعاليمه؛ لكي يعرفوا الحقّ بعد أن عاشوا زمناً طويلاً في ظلّ الباطل، وليذوقوا مع مبادئ الإمام لذّة العيش بحريّة، في ظلّ سجن الاستعباد الأموي، أي بصورة موجزة:

خلق الفاصل بين الإمام والجماهير، وبالتالي بين مبادئ الإمام وحركة الجماهير.

ب- تصفية العناصر الثورية:

في ذات الوقت الذي كان الشيعة يعيشون في الكوفة، حيث محاولة (خنق الرابطة الحية) التي تربط الجماهير بالإمام عليعليه‌السلام ، كانت السلطة تشدّد ضغطها من الجانب الآخر، الذي كان امتداداً للإجراءات الأمويّة، وتكميلاً للصورة التي كانت

____________________

(١) نهج البلاغة.

١٥

ناقصة، ووضع لمسات الإرهاب، والتلوين بالدم الشيعي؛ لكي يصنعوا من الصورةِ تلكَ صورةً واضحةَ الملامح، محدّدة الصفات.

وتنظر السلطة الأمويّة إلى الإمام الحسن كخطّ استمراري، يغذّي الروح الثوريّة، التي غرسها والده الإمام عليعليه‌السلام ، وترى أنّ وجوده يعني وجود الإمام علي، وإنّ الجذر وإنْ قلعت الفروع من الأعلى، فلابد أن يعوّض باستمرار بأغصان جديدة؛ لأنّ الجذر ينمو باضطراد.

وضمن الخطّة الأمويّة لإبعاد (شبح) الإمام علي يُغتال الإمام الحسنعليه‌السلام .

ولكن هل ينقطع المدد؟ بالطبع كلاّ.. فالإمام الحسين حيٌّ، وأصحاب الإمام علي لا زالوا يتحرّكون.

وفي المقابل هل تسكت السلطة؟ إنّ الجواب معروف سلفاً، ليس ذلك فحسب، وإِنّما قامت بالمرحلة الثانية من الخطّة، وهي تصفية العناصر الشيعية المؤمنة، التي تُمَثْل القوى المعارضة، فكان الذبح، وكان الصلب وتعليق الرؤوس، وكان هدم البيوت على أصحابها، فتفرق كثير من الشيعة، وهاجروا إلى مناطق أخرى، خوفاً على أنفسهم، وحفاظاً على عقيدتهم، وهروباً من العبودية إلى الحرية، ومن الذلّ إلى الحياة الكريمة.

وفي طريق تلك المرحلة كانت المدينة وكان القتل، وأيضاً

١٦

كانت اليمن وذبح الأطفال الصغار، كما فعل بسر بن أرطاة مع طفلين صغيرين لعبد الله بن العباس (الوالي على اليمن).

وكذلك أيضاً ولأول مرّة في التاريخ الإسلامي، سُبِيَتْ بعض النساء المسلمات، ووقفن في السوق للبيع! وفعل ذلك بسر مع نساء همدان بعد أن قتل كلَّ الرجال الذين كانوا معهم.

وهذان ليسا إلاّ شاهدين فقط(١) ، من ألوف الجرائم التي ارتُكِبَت بحقّ الشعب المسلم في العهد الأموي.

هكذا كانت التصفية عامة، ولكن من يقول أنّه شيعيّ (رافضيّ)، على الأخص بالنسبة للعناصر المعروفة، حيث كان العمل التصفوي لهذا الفرد لا يقلّ عن القتل، وتشريد العائلة، أو هدم البيت عليها!.. كل ذلك من أجل جعل الجوّ المسيطر على الكوفة، جو الإرهاب والخوف؛ حتى لا تفكر الكوفة بالثورة وإلى الأبد.

وتبع هذه الحملات التصفويّة المحمومة، سلسلة من القرارات، كانت تمثل تكميلاً ومرحلة متطورة في القمع والإرهاب في الصفوف الشيعية، فجاءت لتكون تتويجاً، وقمّة لذلك النضال(؟) من أجل إخماد صوت الحقّ والحرية، الذي يتطلّع إليه كل الناس.

وكانت بداية تلك القرارات:

____________________

(١) للمزيد راجع الغدير ج١١ ص١٧.

١٧

(انظروا إلى من قامت عليه البيّنة أنّه يحبّ علياً وأهل بيته، فامحوه من الديوان، وأسقطوا عطاءه ورزقه)(١) .

كانت البداية: قيام البيّنة.

والنتيجة ستكون: المحاربة الاقتصادية فقط.

وتطوّر الأمر.. وصل إلى كلِّ والٍ الكتاب الثاني، الذي وضّح القرار الأوّل وعمّمه، فكان الكتاب كالتالي:

(من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكّلوا به وإهدموا داره)(٢) .

في هذا القرار مجرد التهمة هو سبب كافٍ، ومبرر معقول للتنكيل بمن يُتَهم أنّه موالٍ لعليعليه‌السلام .

وكان في الأخير: (خذوهم بالتهمة، واقتلوهم بالظِنّة).

وهذه القرارات لم تكن لشيء آخر، إلاّ لتبرير التصفية فقط، ففي ذات مرّة أراد زياد عرض أهل الكوفة على البراءة من الإمام عليعليه‌السلام في ساحة المسجد، وعرف منذ البدء أنّهم سيمتنعون عن ذلك، ومن هنا يستطيع أن يستأصلهم، وحتى لو استلزم ذلك قتلهم كلّهم، ولكنّ أسباباً معينةً حالت دون ذلك.

____________________

(١) العقد الفريد ج٤ ص٣٦٦.

(٢) العقد الفريد ج٤ ص٣٦٦.

١٨

ولكي تأخذ القرارات موضعها من التنفيذ بعد أن فشلت عمليات الاستفزاز الأمويّة، لجأ زياد إلى تصعيد الحملة الاستفزازية في شتم الإمام عليعليه‌السلام ، هذا الأمر الذي دعا الشيعة من أهل الكوفة إلى أن يعترضوا عليه ويرموه بحصى المسجد.

وكانت هذه فرصته التي ينتظرها.. أنّه - فقط - يريد دليلاً صغيراً، ومستمسكاً واحداً للقتل، ولسفك الدماء، ووجد في ردّ أهل الكوفة عليه فرصة سانحة لكي يشبع نهمه، ونظره من رؤية الدماء (ترقرق بين العمائم واللحى).

فنزل من المنبر باتجاه القصر، ليعيد حمامات الدم من جديد، فقطع أيدي ثمانين رجلاً ممن رموه، وممن لم يفعلوا، كل ذلك من أجل فرض سيطرة جوّ الإرهاب والقمع السياسي، لمقاومة أي تحرّك، وقبر أيِّ نداء.

ولذلك عاشت الكوفة قمعاً سياسياً.. وأيّ قمع! وإرهاباً بالسيف.. وأيّ إرهاب!.

هكذا كانت الحالة السياسية:

التصفية + الصلب + هدم البيوت وتشريد العوائل.

هل كان في صالح الشعب؟

إنّ أيّ قرار، أو خطوة سياسية وفي أيّ مجتمع سوف تأتي:

أمّا في صالح الشعب..

١٩

أو في غير صالحه - أي ضد الشعب - ولذلك فإِنّ القرارات السياسية التي تفرض على مجتمع ما، فإنّها تفرض على ذلك المجتمع سلوكاً معيّناً، وتطرح فيه حالة تأتي كنتيجة لتلك القرارات.

ولأنّ الإجراءات الأمويّة التي بدأت باغتيال الإمام الحسنعليه‌السلام وانتهاءً بالحملات التصفويّة للعناصر الشيعية المؤمنة... لأنّ هذه الإجراءات كانت موجّهة ضدّ الشعب، لذلك فإِنّ الشعب قد كفّ عن المطالبة بحقوقه الجزئية، أو بالتظلم من بعض الولاة الجائرين، لدى الخليفة (الحاكم)، كما كان يفعل في زمن عثمان بن عفان، لأنّه وجد نفسه أمام السلطة الأمويّة وهو يواجه الحياة أو الموت، بالإضافة إلى أنّه لم يعترف بشرعيّة حكم معاوية وخلافته. ومن هنا فإنّه وجد في السلطة القائمة عدوه الرئيسي الشرس الذي لابدّ أن يسقط.

لقد كان عثمان يغلّف بعض تصرفاته (المرفوضة) من قبل الشعب بغطاء شرعي، يبرر به انتهاكات بعض ولاته، إلاّ أنّ الأمويين ما كانوا بحاجة إلى التمرير والتغطية، وإنما كانوا حكّاماً تسلطوا على الناس بقوة السيف، ويجب أن ينهبوا ما يشاءون ما دام السيف بيدهم.

ومن هنا فقد كان (الحكّام الأمويون يغتصبون المقاطعات من أهلها الشرعيين، في الفتوحات الإسلامية، ويضعون نِسَباً عالية في أخذ الخراج من المسلمين، بالإضافة إلى الضرائب، والأتاوات

٢٠