جمال الدين الحسيني حياته ونضاله

جمال الدين الحسيني حياته ونضاله0%

جمال الدين الحسيني حياته ونضاله مؤلف:
الناشر: مركز الثقافة الإسلاميّة في أوروبا
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 64

جمال الدين الحسيني حياته ونضاله

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: سيد هادي خسروشاهي
الناشر: مركز الثقافة الإسلاميّة في أوروبا
تصنيف: الصفحات: 64
المشاهدات: 9657
تحميل: 6508

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 64 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 9657 / تحميل: 6508
الحجم الحجم الحجم
جمال الدين الحسيني حياته ونضاله

جمال الدين الحسيني حياته ونضاله

مؤلف:
الناشر: مركز الثقافة الإسلاميّة في أوروبا
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

جمال الدين الحسيني حياته ونضاله

سيد هادي خسروشاهي

١

نشريّه شماره: ١٥٧

مركز الثقافة الإسلاميّة في أوروبا

روما - ايطاليا

الطبعة الثانية

١٤٠٦هـ - ١٩٨٥م

الطبعة الأولى مِنْ هذا الكتاب، نُشِرَتْ على سِتّ حلقاتٍ في مجلّة (العالَم) الأسبوعيّة

الصادِرة في لندن.

٢

المقدمة

٣

٤

بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ

المقدِّمَةُ

حين تغفوا بعضُ الأمم لفترةٍ مِنْ تأريخها، يعبثُ بمصيرها أبالسةُ جهنّم وَزَبَانِيَةُ سقر، ولا تستفيق حتّى يمنّ الله عليها برجالٍ يعرفون الحقّ، ويتّبعون سواء السبيل، حاملين في أعناقهم رسالةً تدعو إلى الإصلاح والتوحيد؛ للنهوض بهذه الأمّة من جديد، محاولين تخليصها مِنْ تسلّط العتاة وتحكّمهم وتجبّر المستكبرين واستعلائهم، معيدين لهذه الشعوب تصوّرها الصحيح للعقيدة، عبر صراعٍ شديدٍ وطويلٍ مع الفئات الباغية، كي تستوي كلمةُ الحقّ وتعلو بعد أنْ تنهار الممالك والعروش، التي قامتْ خلال هذه المدّة مِنَ الزمن.

وكلّما بعث اللهُ مبشِّراً ونذيراً، قام له مناوئون، وكلّما جاء رجل صالح، هبّت لمحاربته زَبَانِيَةٌ مِن عبدة الطاغوت، حتّى إذا اكتملت الصورة بدا الصراع بين الخير والشر واضحاً مجسَّداً برجلٍ بسيطٍ مؤمنٍ قد هداه الله الصراط المستقيم، وبين مؤسسات وأجهزة وسلطات وعروش، لا يهمّها سوى عَرَضَ الدنيا ولا تحسب للآخرة أيّ حسابٍ.

ولقد جاء التأريخ بأمثلةٍ كثيرةٍ، وأنْبَتَ رجالاً كثيري وشهد صراعاتٍ مريرةً لا تنتهي بين الخير والشر. لا تنتهي لأنّ الحملة المسعورة التي يشنّها الفجّار تبقى مستمرةً، حتّى بعد موت الصالحين، ويبقى هَمُّ المستكبرين تحطيم الصورة المُثْلى للقدوة الصالحة؛ كي لا يكون له أدنى تأثير على الأجيال التالية بعد موته، لذلك تعمد الفئة الباغية دائماً على تفتيت الأرضيّة الصلبة التي خلّفتها الدعوة لله وذلك من خلال التشكيك بصاحبها من جهة والافتراء والتزوير في أعماله وأقواله من جهة أخرى.

مِنْ هؤلاء واحدٌ تعرّض في حياته لِمَا تعرّض، ويتعرّض - بعد موته وفي الخمس سنوات الأخيرة من أيامنا إلى - حملة افتراءٍ منظّمةٍ تحاول النيل من تأريخه الجهادي وتراثه الفكري ومنهجه الإسلامي، بالاستناد إلى معلوماتٍ ملفّقةٍ ووثائق مزوَرةٍ مِنْ جِهة،ٍ وبالتشكيك في سلوكه السياسي وعلاقاته المتنوِّعة مِنْ جِهةٍ أخرى.

٥

لقد امتدّتْ يد الإثم مرةً أخرى إلى العالم المناضل السيّد جمال الدين الأفغانيّ، فحاولتْ أنْ تنسب إلى اسمه وأصله ومكان ولادته تشويهاتٍ، ما أنزل الله بها من سلطان إلى درجةِ إصدار كتابٍ عَنْه تحت عنوان (إيرانيٌّ غامضٌ في مصر)!!.

ونحن في هذه المقدِّمة لا يهمّنا على الإطلاق أنْ يكون الأفغاني من مواليد إيران أو أفغانستان، لأنّ الحكم على الرجل يأتي منْ خلال جهاده الطويل وفكره السليم، ودعوته المستمرّة؛ لتحقيق وحدة المسلمين.

ولكن يهمّنا أنْ نعلنَ وبصراحةٍ إسلاميّةٍ، بأنّ هذه الأقلام المحسوبة على الإسلام والمُمْعِنَة في نبش تأريخ أعلام الثورة الإسلاميّة - وخاصةً جمال الدين - لا تريد إلاّ ضربَ الصحوة الإسلاميّة قبل تبديلها بالثورة الإسلاميّة، وفي كل مكانٍ، ولكنْ كيف وبأيِّ وسيلةٍ؟

فالهجوم على شخصيّة السيّد جمال الدين الحسيني وجهاده، تحت سِتَار (الدراسة الأكاديميّة)! ثم تعريب ونشر أكاذيب الكاتبتين: الأميركية (نيكي كدى)، والإيرانية (هما ناطق) لا يأتي إلاّ لأجل تشويه سمعة السيّد، بين الشباب الثوريِّ المسلم، فهم لا يبغون إلاّ أَنْ يقولوا لشباب مصر، جيلِ الشهيد سيّد قطب وخالد الإسلامبولي، بأنّ خطّ الجهاد - الاستشهادي - الذي تسيرون عليه ضدّ نظام الحكم، ليس بأصيل، بل إنّه يمتدّ إلى جذور (ماسونيّة)!!

وَلِيَقُوْلُوا للمسلمين في الباكستان والهند وإفريقيا الشماليّة، بأنّ أطروحة السيّد، في الكفاح ضدّ المستعمِر، لا تمثِّل طموحاتكم في تحقيق العدالة الاجتماعيّة.

وَلِيَقُوْلُوا للمسلمين العرب والأفغان بأنّ السيّد كان شيعيّاً إيرانيّاً غامِضاً! وعلى مَنْ يريد انتهاج درب جمال الدين أنْ يفهم، أنّه يرتبط بحركةٍ إسلاميّةٍ غير سُنِّيَّةٍ!

ويقولوا للإيرانيين، بأنّ السيّد كان أفغانيّاً سُنيّاً! فما بالكم بالاهتمام به وبأفكاره؟... ولكنّ الأسئلة المتتالية، قد تبقى في ذهن الشباب، وفي كلّ مكانٍ: إذا كان السيّد ماسونيِّاً فلماذا كانتْ تطرُدُهُ الطواغيتُ ومِنْ كلّ بلدٍ؟ وإذا كان طائفيّاً فكيف كان مع الشيعة في إيران والعراق، ومع السنّة في أفغانستان والهند ومصر و..؟ وإذا كان إيرانيِّاً طائفيِّاً! غامِضاً، فلماذا كان يفكّرُ في وحدة المسلمين، وإذا كان أفغانيّاً

٦

سنيِّاً فكيف يحرِّض علماء الشيعة في إيران والعراق للقيام بالثورة ضدّ الطواغيتِ والاستعمار؟ وإذا...

والشباب، شباب الثورة الإسلاميّة يجيبون على هذه الأسئلة وغيرها بأنفسهم، رغم ما يكتبه (كُتّاب السلاطين):

فالسيّد الحسيني لم يكنْ لا إيرانيِّاً ولا أفغانيِّاً ولا مصريِّاً ولا عراقيِّاً، ولا... ولا... بل كان عالماً مجاهِداً أسدآباديّاً وكابوليّاً وإسلامبوليّاً... كما جاء في تواقيعه المتعددِّة؛ لأنّه وقف ضدّ الطغاة في كل مكانٍ، وطالب بإقامة الحكم الإسلاميّ والوحدة الإسلاميّة، ودعا لنصرة المسلمين في أفغانستان والهند ومصر والسودان.... وكان مصريّاً وسودانيّاً أيضاً؛ حيث واجه الاحتلال البريطاني لمصر والسودان (راجع مقالاته في العروة الوثقى)، وقبل وبعد هذا كلّه فهو كان حسينيّاً كربلائيّاً؛ لأنّه رفع راية الرفض، ورفرف علم الحريّة، وقد تسلّمها مِنْ جدّه الشهيد الإمام الحسين (عليه السلام). وبذلك كان السيّد الحسينيّ إسلاميّاً يدافع عن كلّ العالم الإسلامي، ولأجل هذا فهو حتّى في ضمائر الشباب في كلٍ مِنْ مصر والعراق وإيران وأفغانستان والهند وباكستان وتونس والمغرب وفلسطين... وفي كلّ خليّةٍ تنبض بالرفض لكلّ أنواع التبعيّة والاستعمار.

أجل، أيُّها الإخوة! سوف يبقى جمال الدين الحسينيّ الرمزَ الثائر بين الشباب، رغم الأقلام الفاسِدة التي تريد اغتيال فكره وجهاده بعد اغتياله جسديّاً بواسطة عملاء الطاغوت؛ لتنتزعه مِنْ قلوب الشباب الثائر، لأنّه كان يرجو المسلمين بأنْ: (يكونَ سلطانُ جميعهم القرآنَ، وَوِجْهَةِ وَحْدَتِهِم الدين) ولأنّه كان يُعَلِّمُ دائماً: (فلابدّ إذنْ مِنْ بعث القرآن وبعث تعاليمه الصحيحة بين الجمهور وشرحها على وجهها الثابِت، مِنْ حيث يأخذ بهم إلى ما فيه سعادتهم دنيا وآخرة..).

... يريدون اغتياله نهائيّاً، لأنّه قال:(خيرُ لونٍ لرايةِ الاستقلال دماءُ المجاهدين الأبطال) وهذا ما تخشاه الطواغيت! وتريد الأقلام المرتزِقة نفْيهُ على الإطلاق والى الأبد!..

.. وإذا كان السيّد الحسينيّ قد توفّي دون تحقيق حلم الوحدة بين المسلمين، وإقامة

٧

الحكم الإسلامي في البلاد، فإنّ الفكرة بَقِيَتْ حيّةً عند الضمائر الحيّة، وكان لها الصدى في قلوب الأُمّة، حتّى نجحتْ الثورةُ الإسلاميّة الكبرى في إيران، بقيادة الإمام الخميني، وكانتْ الضربة القاضية القاسية لعروش كلّ الطواغيت والسلاطين وعبدتهم، من الكُّتَّاب والوُعَّاظ الذين - كانوا ولا يزالون! - يعيشون في عالم الأضغاث والأحلام!.

***

واليوم وبعد مرور الذكرى المئوية لصدور جريدة (العروة الوثقى) وهي المجلّة الإسلاميّة العالميّة الأولى، التي أصدرها الأفغاني بالتعاون مع تلميذه وصديقه الشيخ محمّد عبده، وكَرَدٍّ على حملات التشويه والافتراء، نُعِيْدُ طباعةَ المجموعة الكاملة (١٨ عدداً) مع نبذةٍ صغيرةٍ عنْ حياة العالم المناضل وأفكاره، وذلك كهديّةٍ للعالَم الإسلامي، ودفاعاً عنْ الحقّ والعدل، وخدمةً للتأريخ.

سيد هادي خسروشاهي

روما - ايطاليا

محرم ١٤٠٦هـ أكتوبر ١٩٨٥

٨

حَيَاةُ الأَفْغَانِيّ وَنِضَالُهُ

٩

١٠

حَيَاةُ الأفْغَانِي وَنِضَالُهُ

في حياته كان مالئاً للدنيا وشاغلاً للنّاس، وبعد ما يَقْرُب مِنْ قرنٍ على وفاته، لم يزل بِقَلَقِهِ وتوهُّجه مالئاً للدنيا وشاغلاً للنّاس. في حياته، كان صديقاً للعامّة، للفقراء، وكان قريباً مِن الحكّام والوجهاء والقادة. وبعد قرنٍ على وفاته، لم يزل في صفِّ النّاس، عامّةَ النّاس، وإنْ اختلف حوله القومُ ومَنْ يمثّلهم.

عاش حياته القصيرة محلِّقاً كنِسْرٍ شرقيّ، يطوف بالبلاد والحواضِر، وطموحه يكاد يحيط بكلِّ البلاد والحواضِر، حمل هموم الأُمّة وكأنّها عائلته الصغيرة، وعمل لمشروع نهضتها وصعودها في كلّ دقيقةٍ مِنْ عُمُرِهِ، وكأنّ ما يعمل له كان قاب قوسين أو أدنى، ومات كأبطال الأساطير بعد أنْ أثقلتْه أحزانُ الإحباط والفشل والوحدة.

كان حرّاً شريفاً أبيّاً. وما يُثير الحزن، أنّه مات متألِّماً وحيداً ولمْ يكنْ يدري أنّ مشروعه ما كان ينتهي، بل كانتْ تلك بدايته فقط.. أو لعلّه كان يدري.

إنّ الرجل الذي يُدِيْنُ له كلُّ الإسلاميين اليوم، مِنْ (ارخبيل الملايو) إلى (وادي الذهب) بأنّه حامل بذرة البداية وحاضنها وناثرها على كلِّ البلاد. إنّه السيّد جمال الدين الأفغاني - الأسدآبادي.

الصقْرُ المحَلِّقُ

كان مولده في أسدآباد حوالي ١٨٣٨م، وفي السنين الأولى من عمره كان يجلس في النجف للدراسة، وبعد خمس سنوات يعود إلى بلدته وفي نيَّته الذهاب للهند؛ لإكمال دراسة العلوم والمعارف التي لم يستطِع دراستها في العراق، وقد سأله والدُه البقاء والاكتفاء بما تعلّم، ولكنّ طموحه العظيم كان يدفع به إلى

١١

قَدَرِهِ، قال: (إنَّني كصقرٍ محلِّقٍ، يرى فضاء هذا العالم الفسيح ضيّقاً لطيرانه، وإنّني أتعجّب منكم إذْ تريدون أنْ تحبسوني في هذا القفص الضيّق الصغير!).

كان القرن التاسع عشر قد بدأ في قطع سنوات نصفه الثاني حين بدأ جمال الدين رحلته الطويلة المرهِقة، وكانتْ أوروبا قد سارت شوطاً هائلاً في مشروعها التصنيعي الداخلي ومشروعها الاستعماري الخارجي، لقد زحف الغرب الاستعماري على العالم فاحتلّ معظم أجزاء أفريقيا والهند وشمال إفريقيا الإسلامي - ما عدا ليبيا - وكان يطمح إلى أنْ يدمِّر ما تبقَّى مِنْ الوطن الإسلامي بتدمير الدولة العثمانيّة. وبالتالي بسط هيمنته على كلّ العالم القديم. وفي( كلكتا) حيث قضى الأفغاني حوالي العام في العلم والدراسة، كان واقع الرحلة يحيط به من كلّ الجهات. وقد مضى مِنَ الهند إلى (جدة حاجا) وهو في حوالي التاسعة عشرة مِنْ عُمُرِهِ، ومنها إلى النجف وكربلاء، ثُمّ إلى بلدته أسدآباد، وإلى طهران ثُمّ خراسان، ومنها قرَّرَ التوجه إلى أفغانستان حيث استقر في كابول وبدأ حياته العامّة هناك - كما يقول محمّد عماره - ألّفَ أوَّل كتبه حول تأريخ أفغانستان وقد كتبه بالعربية وسمّاه (تتمّة البيان في تأريخ الأفغان).

كانتْ أفغانستان في ذلك الوقت ميداناً للدسائس الانكليزية، حيث كان الاستعمار البريطاني يأمل السيطرة عليها بإذكاء الصراع بين أُمرائها، وشحن أحدهما ضد الآخر، وقد دخل الأفغاني إلى حمى الصراع الذي كان طرفاه حينها الأمير دوست محمّد خان، وثيق الصلة بالاستعمار البريطاني، والأمير محمّد أعظم خان الذي كان معادِيَاً للانكليز، وقد انحاز الأفغاني للجانب المعادي للإنكليز وكان ذلك أوّل موقفٍ سياسيّ له وأوّل خيارٍ واعٍ لازَمَهُ حتّى نهاية حياته.

استمرّتْ حياةُ الأفغانيّ في أفغانستان حتى ١٨٦٨م، أثناءها تولّى منصب الوزير الأوّل - كما يُقال! - في حكومة الأمير محمد أعظم خان، وخاض حرب ١٨٦٢م ضدّ دوست محمّد خان وجماعته، وقد انتقل التأييد الانكليزي بعد

١٢

وفاته إلى شير علي خان، الذي استطاع أخيراً إيقاع الهزيمة في معسكر محمّد أعظم، وكان ذلك مقدّمة الشدّة على الأفغاني الذي عُزِلَ مِنْ كلّ مناصبه وعاش محاصَراً مراقَباً في كابول، إلى أنْ وافقتْ الحكومة على طلبه بمغادرة البلاد مشترِطةً عدم ذهابه إلى إيران؛ حتّى لا يَلْتَحِق بمحمّد أعظم الذي كان يعيش منفيّاً فيها.

ولمْ يكنْ أَمَامَهُ مِنْ طريقٍ إلاّ الهند، حيث كان الانكليز يحتلُّون البلاد، ويحتفظون له بملفِّ عدائه ومحاربته لنفوذهم في كابول. ورغم استقبال العلماء والوجهاء وقادة الرأي مِنَ المسلمين الهنود له، ورغبتهم في لقائه والالتفات حوله، وهو الذي سبقتْه أخبارُه إليهم، إلاّ أنّ حكومة الهند البريطانيّة لم تكنْ - مطلقاً - على استعداد لتحمّل بقائه، وبعد أشهرٍ فقط مِنْ وصوله إلى الهند كان الانكليز يُرْكِبُوْنَهُ إِحْدَى سُفُنِهِم المسافِرة إلى مصر سِرَّاً؛ حتّى لا يُثَار النّاس.

وفي العام ١٨٦٩م وصل السيّد جمال الدين الأفغاني إلى القاهرة، وكانتْ تموج يومها بالأحداث والتيّارات، ما بين أوروبا الزاحِفة ببريق مدنيّتها وصعودها المادِّي والآستانة حيث الانتماء التأريخي السياسي، وحلم بقاء الإسلام والمسلمين، وما بين أُمّةٍ تريد حقوقها في الحريّة الحقيقيّة والعدالة، وقصر الخديوي المتردد بين الخوف على السلطة وأحلام الإمبراطوريّة التي غذّتها جغرافيّاً مصرُ ومركزها العظيم.

وفي القاهرة التفّ حولَه الناس، مِنْ طلاّب الأزهر إلى كبار رجال الدولة والسياسة، ولكنّ مشروعه كان يتبلْوَر في ذهنه، والصقرُ المحلِّق - الساكن روحه - يدفعه إلى موقعٍ آخر، كان جمال الدين الأفغاني قد بدأ يدرك آفاق أزمة الأمّة وتخلّفها وتكالب دول الغرب عليها، ووجد أنّ الأمل في الإصلاح، إنْ كان ما يزال هناك وقت لذلك! لابدّ أنْ يبدأ مِنَ المركز مِنَ الآستانة.

وهكذا بعد أربعين يوماً فقط مِنَ الإقامة في القاهرة، كان السيّد جمال الدين يَحْمِلُ كُتُبَهُ التي رافقتْه إلى كلِّ محطّاتِ رحلته، ويُبْحِرُ إلى الآستانة عاصمة الدولة العثمانيّة. ولم يكنْ السلطان عبد الحميد قد تولّى الحكم بعد.

١٣

وقد استقبلتْه الآستانة في البداية استقبالاً حارّاً وعُيِّنَ هناك عضواً في (المجلس الأعلى للمعارف) وبدأ نشاطه الواسع ثقافياً بشكلٍ أساسي، وسياسياً بشكلٍ ثانوي. وكان في محاضراته وندواته وأحاديثه يركّز على تحرير الإسلام مِنَ التواكل، والفكر مِنَ الخُرافة، ويدعو إلى عقلانيّة الفكر الإسلامي وبرهانيّته. ولكنّ الأمور لمْ تجرِ مجرىً حسناً، فقد بدأ الوهج الذي أحاط به يُثير الحسد والغيرة في عاصمةٍ كانتْ تعيش آخر مراحلها، وقد تحوّلتْ مِنْ عاصمةٍ للقوّة والفتح إلى مركزٍ للتآمر والدسائس والأطماع منْ كلِّ جهةٍ.

وكانتْ محاضرته التي ألقاها في دار الفنون (مثل كلِّيَّة للتكنولوجيا في وقتنا الحاضر) والتي تحدّثَ فيها عن (الصناعات) موضِّحاً أفكاره حول النهضة، كانتْ تلك المحاضرة بدايةً لعاصفةٍ كبيرةٍ، كانتْ نذرها تتجمّع حوله منذ زمنٍ، وقد تطوّرتْ الأمور إلى أنْ انقسمتْ الآستانة إلى معسكرين، أحدهما مع الأفغانيّ، والثاني مع شيخ الإسلام الذي كان يمثِّل السلطة الرسميّة الدينيّة في الدولة، التي تسيطِر عليها المتصوِّفة والفكر الصوفي منْذُ زمنٍ بعيدٍ. ومع اشتداد الهجوم عليه، طلب منه السلطان مغادرة الآستانة لفترةٍ مؤقّتةٍ ريثما يهدأ الضجيج المُثار حوله، فغادرها ليصل القاهرة مرّةً أخرى في آذار (مارس) ١٨٧١م.

مؤازَرَةُ مُحَمَّد عَبْدَه

يقول الشيخُ محمّد عبده، صديقُ جمال الدين ورفيقه وتلميذه لفترةٍ طويلةٍ مِنَ الزمن، واصِفاً مصر في تلك الفترة ووصول الأفغاني إليها: (إنّ أهالي مصر قبل سنة ١٢٩٣هـ - ١٨٧٧م كانوا يَرَوْنَ شؤونهم العامّة بل والخاصة مُلْكَاً لحاكمهم الأعلى، ومَنْ يستنيبه عَنْهُ في تدبير أمورهم يتصرّف فيها حسب إرادته.. ولا يرى أحدٌ منهم لنفسه رأياً يَحقّ له أنْ يُبديه في إدارة بلاده.. أو إرادةٍ يتقدّمُ بها إلى عملٍ مِن الأعمال يرى فيه صلاحاً لأُمّته، ولا يعلمون مِنْ علاقةٍ بينهم وبين الحكومة سوى أنّهم محكومون مُصْرَفُوْنَ

١٤

فيما تُكَلِّفُهُمْ الحكومةُ به وتضرُّ به عليهم، وكانوا في غاية البُعد عنْ معرفة ما عليه الأُمم الأخرى، سواءً أكانتْ إسلاميّة أو أوروبيّة، ومع كثرةِ مَنْ ذَهَبَ مِنْهم إلى أوروبا، وتعلّم فيها مِنْ عهد محمّد علي إلى ذلك التأريخ الذي ذكرناه ١٨٧٧م، لم يشعر الأهالي بشيءٍ مِنْ ثمرات تلك الأسفار، ولا فوائد تلك المعارك التي اكتسبها، ومع إنّ إسماعيل باشا أبدع (مجلس الشورى) في مصر سنة ١٢٨٣هـ - ١٨٦٦م وكان من حقّه أن يُعلِم الأهالي أنّ لهم شأناً في مصالح بلادهم، وأنّ لهم رأياً يرجع إليه فيها، لم يحس أحدٌ منهم، ولا مِنْ أعضاء المجلس أنفسهم بأنّ لهم ذلك الحقّ الّذي يقتضيه تشكيل هذه الهيئة الشوريّة..

.. هل كان يمكن لأحدٍ أنْ يعمل على خلاف ما يُؤمَر به؟! هل كان يمكن الشخص أنْ يميل بفكره عن الطريق التي رُسِمَتْ له، أو الوِجْهَة التي يتوجّه إليها الحاكم! لو حدّثه الفكر السليم بأنّ هناك وِجْهَةً خيراً مِنْ ذلك، هل كان يمكنه أنْ ينطِق بما حدّثه به فكره؟! كلا، فإنّه كان بجانب كلّ لفظٍ نفيٌ عَنِ الوطن، أو إزهاق للروح، أو تجريد مِنَ المال..

.. وبينما الناس على هذا، لا كاتِبَ ينبِّههم ولا خطيبَ يَعِظُهُم، إذْ عُرِضَ أمرٌ قلَّما يلتفتْ إليه، وإنْ كان ممّا جرتْ به السنّة الإلهية في كلِّ زمانٍ.

جاء إلى هذه الديار في سنة ١٢٨٦هـ. رجلٌ غريبٌ بصيرٌ في الدين، عارفٌ بأحوال الأمم، واسعُ الاطلاع، جمُّ المعارف، جريء القلب، وهو المعروف بالسيّد جمال الدين الأفغاني، اشتغل بالتدريس لبعض العلوم العقليّة.. وكان طلبةُ العلم ينتقلون بما يكتبونه مِنْ تلك المعارف إلى بلادهم أيّام البطالة، والزائرون يذهبون بما ينالونه إلى أحيائهم، فاستيقظتْ مشاعرٌ، وانتبهتْ عقولٌ، وخفَّ حجابُ الغفلة).

١٥

أخْصَبُ السَنَوَاتِ

في مصر أمضى جمال الدين أخصب سنوات حياته وأكثرها إنتاجاً وأَثَراً، فقد اهتمّ بالإسلام عِلْمَاً وتُراثاً، وكَشَفَ أمَامَ مَنِ التفُّوا حوله واستمعوا له قيمةً، أنْ يبعث تراث الأُمّة في عصرنا المزدهر مِنْ جديدٍ، وقيمةً، أنْ تتمثّل الأمّة تأريخها وتراثها؛ لتنهض في مواجهة الاستعمار الغربي. وقد أدرك أنّ حالة الهبوط والانحطاط قد أصابتْ كلّ أدوات الحضارة، بما فيها اللُّغة وأسلوب الخِطاب. ومِنْ حولِ الأفغاني نشأتْ لغةٌ جديدةٌ وبلاغةٌ جديدةٌ، وفي فترةٍ قصيرةٍ أخذ أصدقاء وتلاميذ جمال الدين يُصْدِرون الصحفَ والمجلاتِ، التي أثّرتْ تأثيراً كبيراً في الحياة الفكريّة والسياسيّة في مصر في النصف الثاني مِن القرن التاسع عشر.

وقد بدأ العمل بإصدار صحيفة (مصر) التي ترأّس تحريرها أديب إسحق. ثم (التجارة) باسم إسحق وسليم النقّاش معاً. و(امرأة الشرق) التي أصدرها تلميذه إبراهيم اللقاني.

وكان الأفغاني يدرك أنّ حسم قضية مصر لن يكون في نهاية الأمر إلاّ باستنهاض شعب مصر، وفي كلِّ ندواته ومحاضراته كان يوجّه حديثه مباشرةً للمصريين، كلِّ المصريين، لأنْ يقفوا مِن أجل حقوقهم ضدّ طبقة المترفين من الشراكِسَة وباقي المماليك، وأنْ يَعُوا أطماعَ المستعمِر الأوروبّي التي كان يراها تهدِّدُ كلَّ مستقبل مصر. وبعد زمنٍ قليلٍ كان الأفغاني يؤسِّسُ أوّل وأهمّ أحزاب مصر الحديثة، (الحزب الوطني) الذي ضمّ معظم وجوه الرأي والفكر وأحرار السياسة والجيش في مصر. وقد كان هذا الحزب هو الأبُ الشرعيّ لثورة عرابي عام ١٨٨١م.

ولكنّ قنصلَي الدولتين الاستعماريّتين بريطانيا وفرنسا أدركا بعد زمنٍ قصيرٍ أيَّ عاصفةٍ تلك التي تتجمّع تحت عباءة السيِّد جمال الدين، وبدأتْ حملةً مِنَ الدسِّ والتحريض لدى الخديوي توفيق، الذي لم يكن بحاجةٍ إلى

١٦

كثيرٍ مِنَ التحريض. فالرجل - الأفغانيّ - كان خطراً على مصالح الاستعمار الأوروبي، بالدرجة نفسها التي كان يشكّل فيها خطراً على أدوات الاستعمار، ولم تكنْ تجربته في أفغانستان ببعيدة عن أذهان كلّ الأطراف.

وفي ليلٍ حارٍّ من ليالي القاهرة في ٢٤ آب (أغسطس) ١٨٧٩م اقْتِيْدَ الأفغانيّ وحيداً مِنْ أمام منزله إلى مركز الشرطة، ومع أوّل شعاع للفجر أُخِذَ إلى قطار السويس، وفي ميناء المدينة أُركب أوّل سفينةٍ مُغَادِرَةٍ بَرَّ مصر. في القاهرة كان الخديوي ورجاله يغطّون فِعْلَتَهُم بسيلٍ مِنَ الاتهامات والطعن في ظهر الرجل،الذي كان قبلها - بأيّامٍ قليلةٍ فقط - نجمُ مصر الفكر والسياسة. كان ما حدث في ذلك الصيف القاهري الحار، انقلاباً حقيقيّاً قامتْ به السفارات الأجنبية والقصر على قيادة الشعب المصري الجماهيرية؛ لإجهاض حركته المتوقّعة، ولكنّ الانقلاب لم يكنْ كامِلاً، فبعد عامَيْنِ فقط كان تلاميذُ الأفغانيّ يتصدّون لتوفيق، ويضيئون تأريخ مصر الحديثة في ثورة عرابي.

وصلتْ سفينة الأفغانيّ إلى بومباي التي قضى فيها حوالي العامين، عاملاً بجُهدٍ لا يُوْصَف؛ مِنْ أجل توثيق علاقاته بِكُلِّ القوى والفعاليات السياسية في البلاد، وعندما بدأتْ الحركة العرابية في مصر ضيّق عليه الانكليزُ الحصارَ خوفاً مِنْ أنْ تؤدِّي اتصالاته إلى تصعيدٍ في الحركة، وقد نُقِلَ مِنْ بومباي إلى( كلكتا) وعندما وصلتْه أخبارُ فشل العرابيين في مصر واحتلال الانكليز لأرض الكنانة، بدأ مشروع الأفغاني الكبير في النضوج، والذي تمثّل فيما بعد بتشكيلٍ إسلاميٍّ عَالَمِيٍّ تحت اسم (العروة الوثقى) ضمّ الكثير مِنْ قادةٍ ورجالِ الأُمّة الإسلاميّة في العالم.

الهِجْرَةُ إلَى بَارِيْسَ

اختار الأفغانيّ في تلك الفترة باريس مركزاً لنشاطاته السياسية؛ بسبب

١٧

عوائق وقفتْ في وجه نشاطه السياسي في غيرها. إذْ كانت مصر البلد الإسلامي الوحيد الذي يحظى بِحُرِّيَّةِ الصحافة، وتتركّز فيه النشاطات الثقافيّة والسياسيّة، فقد احتلّها الانكليزُ أبانَ الثورة العرابية العام ١٨٨٢م واعتقلوا المفكِّرِيْنَ والثوّار، وسَجنوا منهم بعضاً ونَفَوا البعضَ الآخر، وأغلقوا الجرائدَ والصحفَ وأوقفوا سياق الحرِّيَّات العامّة.

وأمّا الهند فقد كانتْ مستعمَرَةً بريطانيةً منذ العام ١٨٥٧م، وغير ملائمةٍ لأيّ حركةٍ موقِظَةٍ. وفي طهران لمْ يستطعْ الشاه أنْ يحتمل آراء جمال الدين الثوريّة. وأمّا إسطنبول وبالرغم مِنْ وجود أصدقاء ومريدين للأفغانيّ، كانتْ هنالك تيّاراتٌ وشخصيّاتٌ عديدةٌ لمْ تسمحْ له بحريَّةِ العمل. أمّا القسم الآخر فقد سقط تحت الحكم الاستبدادي، ولم يبقَ للأفغاني خيارٌ إلاّ أنْ يُسافِر إلى أوروبا؛ لكي يستأنف مِنْ هناك نشاطه. وكان طبيعيّاً أنْ يختار الأفغاني باريس، وليس لندن، حيث كان كفاحه السياسي الرئيسي موجَّهَاً ضدّ الانكليز واستبدادهم وجرائمهم في البلدان الإسلاميّة.

وصل الأفغاني إلى باريس بعد عام من فشل ثورة عرابي في مصر، والتحق به تلميذُه وصديقه محمّد عبده، الذي كان منفيّاً في بيروت. وفي غرفةٍ صغيرةٍ على سطوح إحدى عمارات شارع (مارتل) أصدر الأفغاني مع صديقه عبده الأعدادَ الأولى مِنَ الجريدة التي تَرَكَتْ بصماتها على كلِّ ذلك الجيل، والتي أخذتْ اسم الجمعيّة السريّة (العروة الوثقى) التي سبق للأفغاني أنْ أسّسها واختار أعضاءها من صفوة المفكرين الملتزمين، من مختلف البلدان الإسلامية ومِنْ أصدقائه ومريديه.

وقد أخذ اسم الجمعية مِنَ الآية القرآنية الكريمة:( فَمَن يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى‏ لاَ انفِصَامَ لَهَا ) . ويدل اسم الجمعيّة على أهدافها الوحدويّة الإسلاميّة، وعلى تمسّكها بالدين، ونضالها ضدّ الطواغيت. وكان اهتمام الجمعية موجَّهاً للدفاع عنْ

١٨

حقوق الشعوب المُسلِمَة وبصورةٍ خاصةٍ عَنِ المصريين، بعد أنْ احتل الانكليز بلدهم. يقول الأفغاني (إنّ الحالة السيِّئة التي أصبحتْ فيها الديارُ المصريّة لمْ يَسْهُل احتمالها على نفوسِ المسلمين عموماً. إنّ مصر تعتبر عندهم مِنَ الأراضي المقدّسة، ولها في قلوبهم منزلةٌ لا يحلّها سواها؛ نظراً لموقعها مِنَ الممالك الإسلاميّة، ولأنّها باب الحرمين الشريفين، فإنْ كان هذا الباب أميناً، كانتْ خواطرُ المسلمين مطمئنّةً على تلك البقاع). وحاولتْ الجمعيّة كذلك أنْ تَتَّصِلَ ببعض السياسيين الأوروبيين لحفظ حقوق المسلمين (إنّ الجمعيّة قد عقدتْ الروابط الأكيدة مع الذين يَتَمَلْمَلُوْنَ مِنْ مُصابهم، ويحبّون العدالةَ العامّة، ويحامُون عنها مِنْ أهل أوروبا). وأمّا سريّةُ الجمعيّةُ، فقد كانتْ أمراً فرضتْه عليها الظروفُ السياسيّة في الشرق حينذاك.

١٩

العُرْوَةُ الوُثْقَى: فَجْرُ الصَحَافَةِ الإسْلامِيّةِ

٢٠