قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة14%

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة مؤلف:
الناشر: المؤسّسة الإسلاميّة للبحوث والمعلومات
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 276

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة
  • البداية
  • السابق
  • 276 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 50542 / تحميل: 5978
الحجم الحجم الحجم
قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

مؤلف:
الناشر: المؤسّسة الإسلاميّة للبحوث والمعلومات
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

ب - عن أُمِّ سلمة زوج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قالت: كان عندي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ومعي الحسين، فدنا مِن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فأخذتُه فبكى فتركته، فدنا منه فأخذتُه فبكى، فقال له جبريل: (أتُحبُّه يا محمد؟)، قال: (نعم)، قال: (أما إنَّ أُمَّتك ستقتله، وإنْ شِئت أريتك مِن تُربة الأرض التي يُقتل بها)، فبسط جَناحه فأراه منها، فبكى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

ج - عن أُمِّ سلمة: قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : (إنَّ جبرئيل أخبرني أنَّ ابني هذا يُقتل، وأنَّه يَشتدُّ غضب الله على مَن يقتله)(٢) .

د - عن ابن عباس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (إنَّ جبرئيل أخبرني أنَّ الله عَزَّ وجَلَّ قَتَل بدم يحيى بن زكريَّا سبعين ألفاً، وهو قاتل بدَم وَلَدك الحسين سبعين ألفاً)(٣) .

ثانياً: التصريحات التي صدرت مِن الإمام الحسينعليه‌السلام في أثناء مسيرته الثوريَّة بأنَّه في طريقه إلى الشهادة والتضحية، كالنصوص التالية:

أ - خُطبته في مَكَّة حينما قال:

(كأنِّي بأوصالي تُقطِّعها عُسلان الفَلوات بين النواويس وكربلاء، فيمْلأن مِنِّي أكرُشاً جَوفاً وأجرِبة سُغباً، لا مَحيص مِن يوم خُطَّ بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه فيوفِّينا أجور الصابرين... ألا ومَن كان باذلاً فينا مُهجته موطِّناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا، فإنِّي راحل مُصبِّحاً إنْ شاء الله)(٤) .

____________________

(١) العِقد الفريد ٥: ١٢٤.

(٢) تاريخ بغداد ٣: ٣٢٨.

(٣) ذخائر العُقبى وكنز العمَّال: ص١٢٧.

(٤) تقدَّمت مصادره في: ص٥٤: هامش ١.

١٠١

ب - رَدُّه على استفسار أخيه محمد بن الحنفيَّة عن سبب تصميمه على الخروج، قال محمد: يا أخي، ألم تَعدِني النظر فيما سألتك؟ قال: (بلى)، قال: فما حداك على الخروج عاجلاً؟ فقال: (أتاني رسول الله بعدما فارقتك فقال: يا حسين، أخرج فإنَّ الله قد شاء أنْ يراك قتيلاً). فقال ابن الحنفيَّة: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، فما معنى حَملك هؤلاء وأنت تَخرج على مِثل هذا الحال؟! فقال: (قد قال لي - النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله -: إنَّ الله شاء أنْ يراهنَّ سبايا)(١) .

ج - رسالته إلى بني هاشم، والتي رواها ابن قولويه وغيره بسند صحيح، وهي:

(بسم الله الرحمن الرحيم: مِن الحسين بن علي إلى محمد بن علي ومَن قِبَلَهُ مِن بني هاشم، أمَّا بعد: فإنَّ مَن لَحِقَ بي استُشهِد، ومَن لم يلْحَق بي لم يُدرك الفتح، والسلام)(٢) .

د - رَدُّه على ابن عباس عند خروجه إلى العراق، فأشار عليه ابن عباس بألاَّ يخرج إلى العراق، فقال: (يا بن عباس، أما علمت أنْ منعتني مِن هناك فإنَّ مصارع أصحابي هناك). قال له: فأنَّى لك ذلك، فقال: قال: (بسِرٍّ سُرَّ إليَّ وعلمٍ أُعطيتُه)(٣) .

ه - قولهعليه‌السلام في إحدى خُطبه في الطريق:

(ألا ترون إلى الحَقِّ لا يُعمل به، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربِّه حَقَّاً حَقَّاً، فإنِّي لا أرى الموت إلاَّ

____________________

(١) موسوعة كلمات الإمام الحسين: ص٣٢٩.

(٢) كامل الزيارات: ص١٥٧: حديث ١٩٥، وبصائر الدرجات للصفَّار: ص٥٠١، والبحار: ج٤٢:: ص٨١ وج٤٥: ص٨٤.

(٣) موسوعة كلمات الإمام الحسين: ص٣٢١.

١٠٢

سعادة، والحياة مع الظالمين إلاَّ بَرَماً)(١) .

هذه بعضٌ مِن التصريحات لأبي الأحرار، التي تدلُّ دلالة واضحة على أنَّ الإمامعليه‌السلام يعلم بأنَّه في طريقه إلى الشهادة، وأنَّ هذا الهدف هدف واضح عندهعليه‌السلام ، فهلْ مِن الصحيح إغفال تلك النصوص الواردة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وهذه التصريحات مِن الإمامعليه‌السلام ؛ لأنَّها لا تجتمع مع التفسير السابق للثورة، أعني: القول: إنَّ الإمامعليه‌السلام لم ينهض إلاَّ مِن أجل أنْ يتسلَّم السُّلطة؛ ولأنَّها لا تجتمع مع بعض التصريحات والبيانات، التي يُفهم منها هذا التفسير كما سبق؟ أم أنَّ الإمام كان مُتناقضاً في بياناته وتصريحاته - وهو غير وارد في حَقِّ سيِّد الشهداءعليه‌السلام ، أم لكلِّ نوع مِن هذه التصريحات والبيانات وجهه وهدفه الذي لا يتناقض مع النوع الآخر، وأنَّ كلَّ واحد منها يُمثِّل بُعْداً مِن أبعاد الثورة الـمُقدَّسة.. حيث يمكن الجمع بينهما؟

وهذا ما نُحاول مُعالجته هنا مِن خِلال ما يلي:

أمَّا الإخبارات النبويَّة، الواردة عن الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله بقتل وشهادة الإمام الحسينعليه‌السلام والتصريحات الصادرة مِن الإمامعليه‌السلام في هذا المقام، فلا بُدَّ مِن تفسيرها بالتفسير الذي يتناسب مع حقيقة الثورة: بأنًَّها ثورة تغييريَّة جرت طِبق السُّنن التاريخيَّة وحركة الإنسان الطبيعيَّة في الحياة، بعيداً عن التفسير الغيبي الصِّرْف، الذي يجعل دافع الثورة أمراً غَيبيَّاً غامضاً غير قابل للـمُناقشة أو للفَهْم، وكما فسَّرتها بعض القراءات، فـ (إنَّ تفسير قضيَّة الحسين بهذا الشكل - أيْ: التفسير الغيبي الصِّرْف - يتنافى مع الطبيعة البشريَّة لعمل الأنبياء والأوصياء، نحن وإنْ كنَّا نعتقد بأنَّ الأنبياء والأئمَّة هُمْ ثِقْل الله في الأرض، وهُمْ ثِقل عالم الغَيب وهُمْ الحبل الممدود إلى عالم

____________________

(١) بحار الأنوار: ج٤٤: ص٣٨١، واللهوف: ص٤٨.

١٠٣

الشهادة، وهُمْ أحد الثقلين في الأرض، وهُمْ الواسطة بين العباد وبين الله، كلُّ هذه المعاني صحيحة إلاَّ أنَّنا في نفس الوقت نعتقد بأنَّ الأنبياء والأئمَّة كانوا بشراً في أعمالهم في الحياة وبالأخصِّ الأعمال التي ترتبط بالجانب الاجتماعي مِن حياة الناس)(١) .

نحن لا ينبغي أنْ ننظر إلى النبي والإمام بنظرة غيبيَّة صِرْفة معزولة عن حياته الطبيعيَّة؛ فإنَّ الأنبياء والأئمَّةعليهم‌السلام يتعاملون مع الحياة تعامُلاً طبيعيَّاً كغيرهم مِن الناس، لا سِيَّما في الجوانب التي تتعلَّق بقضايا الناس في هدايتهم وتعليمهم وتوعيتهم وتغيير واقعهم، وإذا ما وجدنا في حياة النبي أو الإمام موقفاً غيبيَّاً، فإنَّ ذلك يُمثِّل حالة استثنائيَّة، وقليل ما كان يحدث ذلك في حياة الأنبياء والأئمَّةعليهم‌السلام .

فلا بُدَّ مِن توجيه هذه النصوص النبويَّة والتصريحات الحسينيَّة بالتوجيه الذي يتناسب مع القاعدة، التي يسير عليها الأنبياء والأئمَّةعليهم‌السلام في حركاتهم التغييريَّة الاجتماعيَّة.

والتفسير الذي يُمكن أنْ توجَّه به تلك النصوص والتصريحات الغيبيَّة هو كما يلي: إنَّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أراد بهذه النبوءات أنْ يُبيِّن - بياناً سابقاً - أنَّ هذه الثورة وهذه التضحية، التي سوف يقوم بها سِبطه الحسينعليه‌السلام هي حركة ربَّانيَّة مِن أجل الله والإسلام؛ والدليل أنَّ الوحي اهتمَّ بها اهتماماً لافتاً للنظر؛ لأنَّه أخبر عنها قبل حدوثها؛ إذ لا تفسير لذلك الاهتمام إلاَّ هذا. وإنَّ الخصم الذي يرتكب هذه الجريمة بعيد عن الله والإسلام.

ومِن ثَمَّ يُقيم الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله الحُجَّة على الأُمَّة، ويضعها أمام المسؤوليَّة الشرعيَّة تجاه هذه الثورة وهذا الثائر العظيم؛ فيكون حال هذه الإخبارات كحال سائر النبوءات التي صدرت مِن قِبَل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله كإخباراته عن فتنة بني أُميَّة وتحذير

____________________

(١) الثورة الحسينيَّة وأسبابها، السيِّد محمود الهاشمي.

١٠٤

الأُمَّة منها، فإنَّ الرسول لم يُخبر بذلك لـمُجرَّد الإخبار، وإنَّما كان ذلك تنبيهاً للأُمَّة على مسؤوليَّتها الشرعيَّة.

لقد عَلِم الرسول - كما ورد إلينا بالروايات الموثَّقة الـمُسندة - أنَّ الانحراف سيبلغ مداه بعد نِصف قَرن على يد أبعد الناس عن الإسلام، وعلم أنَّ أحد أولاده - وهو الحسينعليه‌السلام - سيواجه أكبر زخم لهذا الانحراف، وأنَّ مُهمَّته لن تكون سَهلة؛ إذ لن يتخلَّى الحاكم الـمُنحرف حينذاك عن سُلطته ومَملكته لـمُجرَّد صيحة أو دعوة يسمعها منه، ولا بُدَّ أنْ يُبدي شراسته أمام مِثل تلك الدعوة(١) .

فأدلى رسول الله بذلك العدد مِن الإخبارات، عن الدور الـمُقدَّس الذي سوف يقوم سِبطه الحسينعليه‌السلام مِن التضحية والشهادة، وكذلك حال التصريحات الحسينيَّة في المقام، فقد أراد أبو الأحرار التأكيد على أنَّ نهضته هذه إنَّما جاءت ضمن مُخطَّطٍ إلهيٍّ سابق، تلقَّاه مِن جَدِّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فهو سائر في تنفيذ هذا الـمُخطَّط.

لقد كان الحسينعليه‌السلام يعلم بأنَّه مقتول علماً تفصيليَّاً، وبكلِّ ما سيجري عليه وعلى آل بيته وحريمه، عهداً عهده إليه جَدُّه رسول الله وأبوه عليٌّ أمير المؤمنينعليه‌السلام (٢) ، فأعلن ذلك ليضع الأُمَّة أمام مسؤوليَّتها تِجاه ثورته الإصلاحيَّة.

فاتَّضح أنَّ هذه الإخبارات النبويَّة، والتصريحات الحسينيَّة لا تنسجم مع التفسير القائل: إنَّ الحسين كان هدفه الأوَّل والأساس هو تسلُّم السُّلطة، فلا بُدَّ أنْ يكون هدفه هدفاً آخر.

وأمَّا الهدف الذي يتناسب مع هذه النصوص، ويتَّفق مع الظروف الموضوعيَّة التي تعيشها الأُمَّة آنذاك، فهو أنَّ الإمام أراد أنْ يقوم بهذه التضحية مِن أجل إرجاع الروح

____________________

(١) وتنفَّس صُبح الحسين: ج٢: ص٣١.

(٢) وتنفَّس صُبح الحسين: ج٢: ص٣١.

١٠٥

الجهاديَّة، التي فقدتها الأُمَّة تدريجيَّاً مِن أجل تأصيل خَطِّ الشهادة في حياة المسلمين، هذه الروح التي كانت في عهد الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله في أعلى الـمُستويات، وكانت عاملاً أساسيَّاً في تحقيق الانتصارات في عهد الرسالة؛ لأنَّ الأُمَّة كانت تعشق الموت في سبيل دينها ورضا ربِّها.

ولكنْ لـمَّا حدثت النَّكْسة الحضاريَّة في حياة الأُمَّة، وبدأت الأُمَّة تنحدر مِن سيِّئٍ إلى أسوأ، حتَّى بلغت في التدهور مُستوىً يُهدِّد وجودها كأُمَّة مسلمة ويُهدِّد رسالتها السماويَّة؛ فاحتاجت إلى هزَّة عنيفة تُعيد لها تلك الجذوة مِن روح الجهاد والتضحية، ولا طريق إلى ذلك إلاَّ الثورة التي تتضمَّن التضحية بكلِّ ما يملك الإنسان: مِن المال والجاه، والأهل والوِلْد، والأُخوة والنفس، في مواجهة الطُّغيان والفَساد، وبالكيفيَّة التي تَهزُّ الضمائر وتُثير العواطف الإنسانيَّة بقوَّة لا نظير لها.

وهذا هو الهدف الأساس لأبي الأحرار؛ لذلك أصبحت ثورته الـمُقدَّسة مُستمرَّة العطاء ودائمة التأثير في أجيال الأُمَّة اللاَّحقة، فلا نجد موقفاً مِن مواقف التضحية والجهاد في تاريخ المسلمين، مِن أجل الدفاع عن الرسالة وكرامة الأُمَّة، إلاَّ ولتضحية الإمام الحسينعليه‌السلام وثورته أثر عليها، سواء وعت أجيال الأُمَّة ذلك أم لا، فهي صدى لثورة أبي الأحرار وعطاء مِن عَطاءاته.

وإذا رأينا الأُمَّة الإسلاميَّة، برغم الضربات والهجمات الموجَّهة إليها الـمُختلفة الأساليب، نجدها رغم ذلك مُستعصية أمام عدوِّها على الذوبان والانهزام التامِّ، فإنَّ لثورة الحسين أكبر الأثر في وجود هذه الروح في مسيرة الأُمَّة.

هذا ما يتعلَّق بالقسم الأوَّل مِن البيانات، وهي التي يُصرِّح فيها أبو الأحرار بألاَّ هدف إلاَّ التضحية والشهادة.

وأمَّا القِسم الآخر مِن تلك البيانات والتصريحات، وهي التي يتحدَّث فيها الإمام الحسينعليه‌السلام عن شؤون الحُكم والسُّلطة، ومَن الذي يجب أنْ يحكم المسلمين، فإنَّها - أيْ:

١٠٦

البيانات - لا تدلُّ بالضرورة على أنَّ الإمامعليه‌السلام كان يُخطِّط للوصول إلى الحُكم، حيث بالإمكان أنْ يكون لها تفسير وهدف آخر لا يتنافى مع الهدف الأساسي - أعني: هدف التضحية والشهادة - وهو كما يلي:

أوَّلاً: لا تعدو هذه التصريحات كونها بيانات للرؤية السياسيَّة، التي يعتمدها الإمام ويدعو إليها هو وسائر الأئمَّة الطاهرينعليهم‌السلام ؛ إذ لا بُدَّ للإمام أنْ يؤكِّد على هذه الرؤية ويوضِّحها؛ لأنَّها هي القاعدة لانطلاقته الثوريَّة مُقابل الرؤية السياسيَّة، الـمُسيطرة على الذهنيَّة عند المسلمين آنذاك مِن جرَّاء الإعلام التضليلي للنظام الأُموي.

قالعليه‌السلام في كتابه إلى أهل الكوفة:

(فلَعمري، ما الإمام إلاَّ العامل بالكتاب، والآخذ بالقسط، والدائن بالحَقِّ، والحابس نفسه على ذات الله)(١) .

في هذه الجُمْل القصيرة جمع الإمامعليه‌السلام مواصفات إمام الحَقِّ الذي يجب أنْ تكون قيادة الأُمَّة بيده:

أ - العامل بكتاب الله العزيز، والساعي لتطبيق أحكامه؛ لذا لا بُدَّ أنْ يكون مُستوعباً لكلِّ مفاهيم القرآن وأحكامه كما نزلت مِن قِبَل الله تعالى ليُمكِّنه العمل بها.

ب - السائر بالعدل في حُكمه البعيد عن الظلم والجور؛ لأنَّه يُمثِّل عدل الله التشريعي في الأرض.

ج - الدائن بالحَقِّ الجاعل الحَقَّ هدفه وغايته مِن كلِّ مُمارساته، فدينه هو الحَقُّ ولا تأخذه في الحَقِّ لومة لائم.

____________________

(١) موسوعة كلمات الإمام الحسين: ص٣١٣.

١٠٧

د - الحابس نفسه على ذات الله؛ حيث لا يغفل عن الله في حالة مِن حالاته، ولعلَّ هذه إشارة إلى اشتراط العصمة في الإمام.

فهذه الصِّفات هي التي تؤكِّد عليها مدرسة أهل البيت في نظريَّة الإمامة وشروطها.

وقالعليه‌السلام :

(أمَّا بعد، أيُّها الناس، فإنَّكم إنْ تتَّقوا الله وتعرفوا الحَقَّ لأهله يكن أرضى لله، ونحن أهل بيت محمد وأوْلى بولاية هذا الأمر عليكم مِن هؤلاء الـمُدَّعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجور والعدوان)(١) .

فهنا يؤكِّد أبو الأحرار على حَقِّهم في قيادة الأُمَّة، وأنَّ الحاكمين للأُمَّة مِن بَني أُميَّة إنَّما هم غاصبون للحَقِّ الإلهيِّ المجعول لأهل البيتعليهم‌السلام .

ثانياً: أراد أبو عبد اللهعليه‌السلام بهذه التصريحات أنْ يُشخِّص للأُمَّة أساس الـمُشكلة والـمُعاناة التي تُعانيها في حياتها، سواء في جانبها الفكري أم الاقتصادي أم الأخلاقي أم الاجتماعي؛ فإنَّ عِلَّة ذلك وأساسه هو الانحراف والفساد السياسي؛ حيث كانت شؤون الأُمَّة بأيدي عناصر لا يحملون هموم الأُمَّة والإسلام، بلْ هُمْ يُخطِّطون للقضاء على روح الإسلام وإبعاده عن ساحة الحياة.

قالعليه‌السلام :

(إنِّي لم أخرج أشراً ولا بَطِراً، ولا مُفسداً ولا ظالماً، وإنَّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمَّة جَدِّي رسول الله، أُريد أنْ آمر بالمعروف

____________________

(١) موسوعة كلمات الإمام الحسين: ص٣٥٦.

١٠٨

وأنهى عن الـمُنكر، وأسير بسيرة جَدِّي وأبي علي بن أبي طالب، فمَن قَبِلَني بقَبول الحَقِّ فالله أوْلى بالحَقِّ، ومَن رَدَّ عليَّ هذا أصبر حتَّى يحكم الله بيني وبين القوم بالحقّ وهو خير الحاكمين)(١) .

في هذا البيان أوضح أبو الأحرار خَطَّه الرئيسي في حركته الثوريَّة، وهو إصلاح أُمَّة جَدِّه، لا يُريد بذلك الاستكبار أو الفساد أو الظلم، ولعلَّه أراد بهذا التنبيه: أنَّ الأُمَّة أصبحت في حال تحتاج إلى إصلاح شامل؛ والسبب الرئيسي في ذلك هو تعطيل جانب الأمر بالمعروف والنهي عن الـمُنكر، وانحسار مظاهر السيرة التي تكون امتداداً لسيرة الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأشارعليه‌السلام أنَّهم - أهل البيت - هُمْ الذين تُمثِّل سيرتهم سيرة جَدِّهم الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

والجَدير بالـمُلاحظة - في هذا البيان - قولهعليه‌السلام : (فمَن قَبِلَني بقبول الحَقِّ فالله أوْلى بالحَقِّ، ومَن رَدَّ عليَّ هذا أصبر حتَّى يحكم الله بيني وبين القوم بالحَقِّ وهو خير الحاكمين)، حيث يُمكن أنْ تكون هذه إشارة منهعليه‌السلام إلى أنَّه لن يستطيع أنْ يُغيِّر التغيير الفعلي العاجل، وأنَّه سوف يُرَدُّ ويُصَدُّ عن الوصول إلى ذلك، وتبقى المسؤوليَّة مسؤوليَّة الأُمَّة في مواصلة الطريق مِن أجل الإصلاح الشامل، فعلى هذا يكون هذا البيان جُزءاً مِن تشخيص أساس الـمُشكلة التي تُعانيها الأُمَّة.

وإذا ما أرادت الأُمَّة حَلَّ الـمُشكلة مِن جذورها ورفع مُعاناتها، فإنَّ الطريق إلى ذلك هو حَلُّ الـمُشكلة السياسيَّة، بأنْ يكون حكم المسلمين بيد قادتهم الحقيقيِّين، الذين لا هَمَّ لهم إلاَّ الحِفاظ على الرسالة، والحِفاظ على وجود الأُمَّة وعِزَّتها؛ لأنَّهم هُمْ الذين يُمثِّلون الامتداد الطبيعي لصاحب الرسالة، وهُمْ أهل بيتهعليهم‌السلام .

____________________

(١) تقدَّمت مصادره في: ص١٨ هامش ١، وفي: ص٣٦ هامش ١.

١٠٩

فهوعليه‌السلام إنَّما أراد تشخيص الـمُشكلة وطرح حَلِّها، مِن خِلال هذه التصريحات التي يتحدَّث فيها عن شؤون الحُكم والقيادة، مِن خلال ما تقدَّم نُخلِّص إلى أنَّ الإمام الحسينعليه‌السلام قد حقَّق كلَّ ما يُريد الوصول إليه وأنجز الهدف الذي مِن أجله قام بهذه الثورة الـمُقدَّسة، وهو بَعْثُ روح الجهاد والتضحية في أُمَّة جَدِّه؛ مِن أجل الحِفاظ على الرسالة وبقائها وعِزَّة الأُمَّة وكرامتها، ومِن أجل تأصيل الخَطِّ الذي يُمثِّل منهج أهل البيتعليهم‌السلام في تجسيدهم لرسالة الإسلام.

* * *

يومان قد شَهِد الزمان عجائباً

لك فيهما آياتُ مجدِك تشرِق

يوم وِلدت به ويوم سجَّلت

فيه الملاحم إذ دماؤك تُهرَق

قد أنقذتْ تلك الدماء رسالة

كادت صحائف شرعها تتمزَّق

وتجدَّدت روح الجهاد لأُمَّة

لولاك عاد الروح فيها يُخنق

علَّمتها أنَّ الـمَمات سعادة

في ظِلِّ دائرة الجهاد وأشوق

ساموك أنْ تَرِد الهوان فقلتها

هيهات والعضب الـمُصمَّم يَبرق

وإلى القيام صَليل سيفك لم تزل

أصداؤه ولواء حَمْدك يَخفق

ورفعت صوتاً كلَّما رام العِدى

إسكاته في جنب مَجدك أخفقوا

أخرستَ ألسنة الضَّلال بمَنطق

الأحرار مَهْما في الضلالة أغرقوا(١)

____________________

(١) مِن قصيدة للمؤلِّف، بمُناسبة مولد الحسينعليه‌السلام .

١١٠

١١١

ب - بين الحسين عليه‌السلام ويزيد

البحث في هذا المجال يدور حول عدة نقاط وهي كالتالي:

١ - الخلفيَّة التاريخيَّة للأُسرتين: بني هاشم، وبني أُميَّة

مِن لوازم هذه الـمُقارنة بين شخصيَّة الحسينعليه‌السلام وشخصيَّة يزيد بن معاوية أنْ نأخذ فِكرة - ولو موجزة - عن الخلفيَّة التاريخيَّة لكلٍّ مِن الأُسرتين، وما بينهما مِن الـمُنافسة التاريخيَّة فيما قبل الإسلام، وإذا ما رجعنا إلى تلك الفترة مِن التاريخ، نَجِد الأُسرة الهاشميَّة قد تميَّزت بخصائصها التي اشتهرت بها في الـمُجتمع الـمَكِّي، بلْ الـمُجتمع العربي، وذلك ما جعلها تحتلُّ مَكانة مرموقة مِن بين سائر القبائل الأُخرى، مِمَّا يدعو إلى احترامها، وأنْ تحتل موقع السيادة والقيادة الدينيَّة والاجتماعيَّة.

هذه الـمُميِّزات الذاتيَّة التي دَعَت بعض القبائل إلى مُنافسة الأُسرة الهاشميَّة، وأنْ تقف منها موقف الضِّديَّة والـمُنافسة الغير الشريفة، واضح مِمَّا يذكره المؤرِّخون مِن عَلاقة بني هاشم مع أُسرة بني أُميَّة.

وإنَّ مِن دواعي هذه الـمُنافسة الشديدة دافع الحَسَد، فإنَّ (مِن لوازم النعمة الكاملة، وبالأخصِّ الشرف العظيم والـمُلك الجسيم، حصول الحَسد والبغي مِن العاجزين مِن نيل تلك المرتبة السامية، والساقطين عن درجة الاعتبار بالنسبة إلى ذلك المحسود، وإن كانوا بالإضافة إلى مَن عَدْاه أنبل عند أنفسهم، وفيما يختلج في أذهانهم.

١١٢

وأكثر ما يقع حَسد النعمة وتمنِّي زوالها مِمَّن يدَّعي أنَّه شريك في النسب وقريب في الـمُنتمى، فلا تصدر الـمُنافسة غالباً إلاَّ مِن ذوي الرَحم والوشيجة القريبة؛ وسبب ذلك عجزهم عن مُكافاة المحسود وإعياؤهم عن اللحوق به، وكلُّ مَن عَجز عن تحصيل مَكرمة كانت في غيره وضعف عن مُقاومته والتشفِّي منه، داخله الغيظ والحسد عليه وسعى حَثيثاً جاهداً فيما يسوؤه)(١) .

وأقوى ما كان مِن هذه الحسَّاسيَّة ما حصل بين بني هاشم وبني أُميَّة، وتاريخ الأُسرتين مليءٌ بالشواهد على ذلك بِدْءَاً مِن هاشم وأُميَّة.

واستمرَّت تلك الـمُنافسة بين الأُسرتين، حتَّى تُوجَّهت الأُسرة الهاشميَّة بالشرف الذي لا يُجارى، والمجد الذي لا يُدانى، وذلك ببعثة الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله بالرسالة، حيث اختاره الله مِن الأُسرة الهاشميَّة، وبدأ الصراع بين الإسلام والوثنيَّة؛ فكان في مُقدِّمة مَن تزعَّم مُحاربة الإسلام عميد الأُسرة الأُمويَّة أبو سفيان بن حرب.

وتتابعت الانتصارات للدعوة الإسلاميَّة، بقيادة الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله حتَّى وَجَد أبو سفيان نفسه مُضطَّراً إلى التظاهر بكلمة التوحيد، عندما وجد الإسلام يخطو الخُطوات السريعة نحو القوَّة والانتشار.

وكان أبو سفيان يُفسِّر دعوة الرسول بأنَّها: حركة مِن أجل الـمُلك والسُّلطان، وهذا ما طفح على لسانه يوم فتح مَكَّة عندما رأى جيش المسلمين بقيادة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يدخل مَكَّة الـمُكرَّمة فاتحاً، وهالته تلك القوَّة التي وصل إليها الإسلام، وكان واقفاً إلى جانب العبَّاس بن عبد الـمُطَّلب، الذي قد أجاره ذلك اليوم يستعرضان كتائب الجيش الإسلامي في دخوله مَكَّة الـمُكرَّمة، هذا بعد ما قال الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله : (ويحك يا أبا سفيان، أما آن لك أنْ تعلم أنْ لا إله إلاَّ الله؟).

قال: بلى، أنت ما أحلمك وأكرمك وأعظم

____________________

(١) بطل العَلْقمي: ج١: ص٥٩.

١١٣

عفوك، قد كان يقع في نفسي أنْ لو كان مع الله إله آخر لأغنى.

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : (يا أبا سفيان، أما آن لك أنْ تعلم أنِّي رسول الله).

قال: بأبي أنت وأُمِّي، ما أحلمك وأكرمك وأعظم عفوك، أمَّا هذه، فو الله، إنَّ في النفس منها لشيئاً بَعدُ.

قال العباس: فقلت: ويحَك! تشهَّد وقل: لا إله إلاَّ الله محمد رسول الله قبل أنْ تقتل، فتشهَّد(١) .

وأمر الرسول عمَّه العباس، أنْ يقف بأبي سفيان بمضيق الوادي؛ ليمرَّ أمام عينيه قطاعات الجيش الإسلامي؛ فهزَّ ذلك المشهد نفس أبي سفيان، والتفت إلى العباس قائلاً: لقد أصبح مُلك ابن أخيك - يا عباس - عظيماً، قال: فقلت: ويحَك! إنَّه ليس بمُلك، وإنَّها النبوّة.

قال: نعم.

فأبو سفيان لم يُسلِم نتيجة قناعة بصحَّة الرسالة، وإنَّما القوَّة ألجأته إلى ذلك.

وبدأ هو وأُسرته يُفكِّرون ويُخطِّطون لإيجاد الفُرصة؛ مِن أجل الوصول إلى مواقع قياديَّة؛ ومِن ثمَّ يتوصَّلون إلى كرسيِّ الحُكم، وقد ساعدتهم أحداث ما بعد وفاة الرسول للوصول إلى أهدافهم، وذلك بوصول مُعاوية إلى موقعٍ قياديٍّ؛ حيث أصبح والياً على الشام مِن قِبَل الخليفة الثاني والثالث، وفُتِح الطريق أمام مُعاوية بقتل عثمان، فوقف في وجه أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالب؛ ليعود الصراع بين الأُسرتين مُتمثِّلتين في عليٍّ ومُعاوية بأُسلوب آخر، وتحت شعار لا يختلف في جوهره عن الشعار الذي كان في ظِلِّ الصِّراع الأوَّل في عهد الرسالة، فإنَّ الأُسرتين لا زالتا تختلفان في الـمُقوِّمات الذاتيَّة، والأهداف التي تدفع كلَّاً منهما لـمُقاومة الأُخرى في الصراع على قيادة الأُمَّة.

ومِن خلال الـمُراسلات التي كانت بين عليِّعليه‌السلام ومُعاوية، يُحاول مُعاوية أنْ يرجع إلى الخلفيَّة التاريخيَّة إلى ما قبل الإسلام مُدَّعياً: أنَّ الأُسرتين كانتا على قدم الـمُساواة

____________________

(١) شرح نهج البلاغة للحديدي، الـمُجلَّد الرابع: ص٢٠٨، ط مصر.

١١٤

ليقول: إنَّ بني هاشم ليسوا بأَوْلى مِن بني أُميَّة بقيادة الأُمَّة، مُلْغياً كلَّ ما طرحه الإسلام مِن قِيَم جديدة، مِن خلالها يعرف المقياس لتشخيص القيادة في نظر الإسلام، فيردُّ عليه أمير المؤمنينعليه‌السلام بما يبطل دعواه، ويوضِّح الفوارق الذاتيَّة والأساسيَّة بين الأُسرتين، وبأنَّ كلَّاً منهما يحمل نوعاً خاصَّاً مِن القِيم والأهداف يتناقض مع نوع القِيم التي تحملها الأُخرى.

قالعليه‌السلام في جواب على كتابة لـمُعاوية: (وأمَّا قولك: إنَّا بنو عبد مُناف، فكذلك نحن، ولكنْ ليس أُميَّة كهاشم، ولا حرب كعبد الـمُطَّلب، ولا أبو سفيان كأبي طالب، ولا الـمُهاجر كالطليق، ولا الصريح كاللصيق، ولا الـمُحقّ كالـمُبطل والمؤمن كالـمُدغل، وبِئْسَ الخلفُ خَلفٌ يَتْبَع سَلَفاً هو في نار جهنَّم)(١) .

فنجد أمير المؤمنينعليه‌السلام يُقارن بين أعيان الأُسرتين، ويوضِّح أهمَّ الصفات التي يختلف فيها الهاشميُّون عن الأُمويِّين، ويُعرِّض بالأُمويِّين بأنَّهم لم يكونوا يحملون قناعة بصحَّة الرسالة وبعثة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل كانوا مُضطرِّين لإعلان الإسلام.

ولـمَّا تهيَّأت الظروف لـمُعاوية للوصول إلى السُّلطة الـمُطلقة على المسلمين، بدأ يُفكِّر في مصير تلك السلطة مِن بعده؛ فاشتغل مِن أجل أنْ يجعلها لابنه يزيد؛ وأنْ يحصرها في البيت الأُمويّ.

وهكذا تنتقل تلك الموروثات التاريخيَّة مِن الصراع بين الأُسرتين، لتنحصر بين الحسينعليه‌السلام ويزيد بن مُعاوية، فإنَّ الإمام الحسينعليه‌السلام قد وَرِث تلك العناصر الذاتيَّة العريقة للأُسرة الهاشميَّة، بالإضافة إلى كونه مِن العِترة التي اصطفاها الله، فجمع فيه عناصر الكمال التي تُميِّزها على مَن سواها مِن الناس.

____________________

(١) نهج البلاغة كتاب رقم ١٧: ص٥٣٧.

١١٥

وقد أشار سيِّد الشهداء إلى هذه الخصائص، التي اجتمعت لأهل هذا البيتعليهم‌السلام ، فقال:

(ألاْ وإنَّ الدعيَّ ابن الدعيِّ قد ركز بين اثنتين: بين السِّلَّة، والذِّلَّة وهيهات مِن الذِّلَّة، يأبى لنا الله ذلك ورسوله والمؤمنون، وحُجور طابت وطهُرت، وأُنوف حَميَّة ونفوس أبيَّة مِن أنْ نؤثر طاعة اللئام على مَصارع الكرام)(١) .

ولا يعني هذا الكلام أنَّ الحسينعليه‌السلام إنَّما ثار وقاتل بدافع العصبيَّة والروح القبليَّة، كما يحلو لبعض التفسيرات الـمُغرضة أنْ تُفسِّر الثورة الحسينيَّة؛ لأنَّ بواعثها واضحة كلَّ الوضوح مِن خلال تصريحات الثائر العظيم ومواقفه، وليس فيها ما يُشير إلى عصبيَّة، بلْ كلُّ شعاراته رساليَّة إنسانيَّة.

قال في بيانه الأوَّل:

(إنِّي لم أخرج أشراً ولا بَطِراً، ولا مُفسداً ولا ظالماً، وإنَّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمَّة جَدِّي رسول الله، أُريد أنْ آمر بالمعروف وأنهى عن الـمُنكر)(٢) .

في هذا البيان وضَّح أبو الأحرار هدفه الـمُقدَّس، وهو هدف رساليٌّ لا هدف عشائريٌّ، كيف لا وأبو الأحرار هو حامل مبادئ الإسلام السماويَّة، التي جاءت تُحارب أيَّ نوعٍ مِن أنواع العصبيَّة، مِن قوميَّة أو قبليَّة أو غير ذلك.

____________________

(١) اللهوف: ص٥٨، والبحار: ج٤٥: ص٩، والعوالم (الإمام الحسين) ص٢٥٢.

(٢) تقدَّمت مصادره في: ص١٨: هامش ١، وفي ص٣٦ هامش ١.

١١٦

ولو كانت بواعث الثورة عشائريَّة لكان مِن المفترض أنْ ينهض الإمام بعشيرته - الهاشميِّين - وفي موطن عشيرته؛ فإنَّ مِن المعلوم أنَّ موطن بني هاشم في الحِجاز لا في العراق، ولا معنى لدعوته للأبعدين ليضحُّوا بأرواحهم في سبيل أمجاد قبيلته، ولو عرفتْ تلك الثُّلَّة التي كانت مع الحسينعليه‌السلام بأنَّ أهدافه أهداف عشائريَّة لَمَا وقفوا معه ولَمَا عرَّضوا أنفسهم للهَلاك، ولكنَّهم فهموا الثورة وأهدافها بفَهمٍ آخر؛ لذلك نرى هذه الثورة قد جمعت بين مُختلف العناصر والطبقات والقبائل، وكان الأجانب يُمثِّلون الأغلبيَّة مِمَّن كانوا حول أبي الأحرار، وما أروع تعبير الإمام عن تلك الجماعة حينما قالعليه‌السلام :

(ألاْ وإنِّي زاحف بهذه الأُسرة على قِلَّة العَدَد وخِذلان الناصر)(١) .

نعم، في أُسرة لم تجمعها آصرة النسب، بلْ جمعتها رابطة الإيمان ووحدة الموقف والهدف الـمُقدَّس، هذه الأُسرة التي جمعت بين أبي الفضل العباس وعليِّ الأكبر مِن بني هاشم، وبين حبيب بن مُظاهر الأسدي ومسلم بن عوسجة، وبين غلام حبيب وجون مولى أبي ذَرْ والحُرّ الرياحي، فما أعظمها مِن أُسرة لم ترَ عين الدهر مَثيلاً لها!

وإذا ما أشار أبو الأحرار في بياناته إلى أسلافه، لا يعني هذا أنَّ مَنطقه مَنطق قِبَلي، وشعاره شعار عشائريِّ، وإنَّما هذه الإشارات يُريد منها التأكيد على أنَّه هو وأهل بيته، هُمْ الذين يُمثِّلون الامتداد الطبيعي لصاحب الرسالة.

٢ - عامل النشأة والتربية في شخصيَّة الإمام الحسين عليه‌السلام .

مِن أوضح الأُمور لدى خُبراء التربية، أنَّ الجوَّ التربوي الذي يعيشه الإنسان في

____________________

(١) تقدَّمت المصادر في: ص١١٧ هامش ١.

١١٧

طفولته له بالغ الأثر في بناء شخصيَّته مِن الناحية الفكريَّة والسلوكيَّة، وأنَّ ما يسمعه ويتلقَّاه مِن الأبوين أو الـمُربِّي في تلك الفترة سيترك آثاره عليه في مُستقبَل عمره.

وإذا درسنا حياة الإمام الحسينعليه‌السلام وحياة يزيد بن مُعاوية، فإنَّا نجد الفَرْق شاسعاً بين الأجواء التي عاش الإمام في رحابها، وبين التربية التي تربَّاها يزيد بن مُعاوية.

لقد عاش الإمام الحسينعليه‌السلام هو وأخوه الإمام الحسنعليه‌السلام طفولة فريدة مِن نوعها؛ حيث توفَّر فيها مِن المقوُّمات الخاصَّة، والعوامل التربويَّة التي تُميِّز هذه الطفولة عن أيِّ طفولة عاشها مُعاصروهم، ويتَّضح ذلك مِن خلال دور الرسول الأعظم في حياة الحسنين وعلاقته بهما.

لقد تربَّى الحسنان في ظِلِّ تلك الأجواء الـمُقدَّسة التي كان الوحي يَظلُّلها، ويحوطها الرسول الأعظم بالحُبِّ العميق والعاطفة الـمُتأجِّجة.

ومِمَّا يُلفِت نظر القارئ لعلاقة الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله بالحسنينعليهما‌السلام بلْ بأولاد فاطمةعليهم‌السلام أنْ يرى جميع أُمورهم وشؤون حياتهم راجعة إلى الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ فمنذ ولادة أحدهم تبرز اهتمامات الرسول بهم، لا سِيَّما الحسنينعليهما‌السلام إلى الحَدِّ الذي يُثير التساؤلات، لماذا هذا الاهتمام الكبير مِن صاحب الرسالة؟

إنَّ تلك السُنَّيات السبع التي عاشها الإمام الحسينعليه‌السلام في رحاب جَدِّه الرسول، والجَدُّ يُغذِّيه بفيض روحه الـمُقدَّسة مِن الحُبِّ الذي لا نظير له، تلك السُنَّيات كانت هي القاعدة التربويَّة، التي بُنيت عليها شخصيَّة هذا الإمام العظيم.

وهناك التصريحات والـمُمارسات الكثيرة مِن الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله التي حفلت بها المصادر، والتي كان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يجمع فيما بين الحسين مَرَّة، ومَرَّة أُخرى يُفرد الإمام الحسينعليه‌السلام ، والتي تُصوِّر تلك الأجواء التربويَّة التي عاشها الحسنانعليهما‌السلام في رِحاب جَدِّهما الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله تُعرِب عن تلك العَلاقة بين الجَدِّ العظيم وسبطيه الكريمين، تلك

١١٨

التصريحات والـمُمارَسات، التي ليس مِن اللائق بصاحب الرسالة أنْ تُفسَّر تفسيراً عاديَّاً، كأيِّ علاقة بين الجَدِّ وأحفاده(١) .

وإليك مثالاً واحداً مِمَّا يتعلَّق بالحسينعليه‌السلام : فقد روى ابن قولويه وغيره بسندهم، عن يعلى العامري: أنّه خرج مِن عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى طعام دُعي إليه، فإذا هو بحسينعليه‌السلام يلعب مع الصبيان، فاستقبل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أمام القوم، ثمَّ بسط يديه فطفر الصبي هاهنا مَرَّة وهاهنا مَرَّة، وجعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يُضاحكه حتَّى أخذه، فجعل إحدى يديه تحت ذِقنه والأُخرى تحت قَفاه، ووضع فاه على فيه وقبَّله، ثمَّ قال: (حسين مِنِّي وأنا مِن حسين، أحبَّ الله مَن أحبَّ حسيناً، حسين سِبط مِن الأسباط)(٢) .

هذا حديث اتَّفقت الأُمَّة الإسلاميَّة على روايته، فقد روى هذه الحادثة البخاري في(الأدب الـمُفرد) و(التاريخ الكبير) والحاكم في(مُستدركه) ، وقال: (هذا حديث صحيح الإسناد). وأخرجه أيضاً ابن ماجة في(سُننه) .

ولا أحسب أنَّ هناك كلمة أروع مِن هذه الكلمة - أعني: (حسين مِنِّي وأنا مِن حسين) - تُعبِّر عن عَلاقة الإمام بجَدِّه وعَلاقة جَدِّه به؛ لذا فهي تستدعي الوقوف عندها لاستجلاء ما يُريده الرسول مِن هذه الكلمة.

(فأمَّا أنَّ الحسين مِن الرسول فأمر واضح واقع، فهو سِبطه ابن بنته، ولدته الزهراء وحيدة الرسول مِن زوجها عليِّ ابن عمِّ الرسول، ومع وضوح هذه المعلوم، فلماذا يُعلنها الرسول؟ وماذا يُريد أنْ يُعلن بها؟ هل هذا تأكيد منهصلى‌الله‌عليه‌وآله على أنَّ عليَّاً والد

____________________

(١) راجع في المقام: فضائل الخمسة في الصحاح السِّتَّة: ج٣ ص١٦٨ - ٢٢٩، وص٢٥٧ - ٣٢٣.

(٢) كامل الزيارات لابن قولويه: ص١١٧: حديث ١٢٧، ومُستدرك الصحيحين للحاكم: ج٣: ص١٩٤ حديث ٤٨١٩ باب أوَّل فضائل أبي عبد الله الحسين بن علي الشهيد، وفي طبع آخر: ج٣: ص١٧٧، وسُنن ابن ماجة: ج١: ص٥١: حديث ١٤٤، وصحَّحه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (١٢٢٧). وأمَّا حديث: (حسين مِنِّي وأنا مِن حسين) فقد رواه أعلام الحديث مِن الطرفين، كالترمذي في سُننه: ج٥: ص٦١٧: حديث ٣٧٧٥.

١١٩

الحسينعليهما‌السلام هو نفس الرسول؟ تلك الحقيقة التي أعلنتها آية الـمُباهلة... أو أنَّ الرسول يُريد أنْ يُمهِّد بهذه الجُملة (حسين مِنّي) لما يَليها مِن قوله: (وأنا مِن حسين)؟ تلك الجملة الـمُثيرة للتساؤل، كيف يكون الرسول مِن الحسينعليه‌السلام ؟

والجواب: أنَّ الرسول لم يعد بعد الرسالة شخصاً، بلْ أصبح مِثالاً ورمزاً وأُنموذجاً تتمثَّل فيه الرسالة بكلِّ أبعادها وأمجادها، فحياته هي رسالته ورسالته هي حياته، ومِن الواضح أنَّ أيَّ والد إنَّما يسعى في الحياة ليكون له ولد، كي يَخلفه ويُحافظ على وجوده ليكون استمراراً له، فهو يُدافع عنه حتَّى الموت ويحرص على سلامته وراحته؛ لأنَّه يعتبره وجوداً آخر لنفسه.

إذا كانت هذه رابطة الوالد والولد في الحياة المادِّيَّة، فإنَّ الحسينعليه‌السلام قد سعى مِن أجل حياة الرسالة المحمديَّة بأكبر مِن ذلك، وأعطاها أكثر مِمَّا يُعطي والد لولده، بلْ قدَّم الحسينعليه‌السلام في سبيل الحِفاظ على الرسالة كلَّ ما يملِك مِن غالٍ حتَّى فلذات أكباده، أولاده الصغار والكبار، وروى جُذورها بدمه ودمائهم، فقد قدَّم الحسينعليه‌السلام للرسالة أكثر مِمَّا يقدِّم الوالد لولده. فهي - إذنْ - أعزُّ مِن وِلْده، فلاغروا أنْ تكون منه...

فالرسالة المحمديَّة التي مثَّلت وجود الرسول، كانت في العصر الذي كادت الأيدي الأُمويَّة الأثيمة أنْ تقضي على وجودها، فقد عادت مِن الحسين؛ ولذلك قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : (... وأنا مِن حسين)(١) .

ومِن الطبيعي أنْ يُحبَّ الوالد ولده، أمَّا أنْ يربط حَبَّ ذلك الولد بحُبِّ الله تعالى، فهذا يعني أمراً خطيراً، ويُشير إلى أنَّ هذا الولد له شأن خاصٌّ عند الله تعالى، ونحن نعلم أنَّ حُبَّ الله تعالى يُمثِّل روح الرسالة، ونتيجة طبيعيَّة لتطبيق المسلم لقوانين الرسالة الإلهيَّة، وهذا نفهمه مِن قوله تعالى:( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ

____________________

(١) الحسين سِماته وسيرته: ص٤١ - ٤٢.

١٢٠

وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (1) ، فقد علَّقت الآية حُبَّ الله لعبده على اتِّباعه للرسول في رسالته، فإذا قال الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله : (أحبَّ الله مَن أحبَّ حسيناً)، فإنَّ ذلك يعني أنَّ حُبَّ الحسين جزء مِن الرسالة الإلهيَّة، بلْ حُبُّه مع سائر أهل البيت هو روح الرسالة، وإلاَّ فماذا يعني قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : (مَن مات على حُبِّ آل محمد مات شهيداً، ألا ومَن مات على حُبِّ آل محمد مات مغفوراً له، ألا ومَن مات على حُبِّ آل محمد مات تائباً، ألا ومَن مات على حُبِّ آل محمد مات مؤمناً مُستكمل الإيمان، ألا ومَن مات على حُبِّ آل محمد بشَّره مَلك الموت بالجَنَّة ثمَّ مَنكر ونكير، ألا ومَن مات على حُبِّ آل محمد يُزفُّ إلى الجَنَّة كما تُزفُّ العروس إلى بيت زوجها، ألا ومَن مات على حُبِّ آل محمد فُتح في قبره بابان إلى الجَنَّة، ألا ومَن مات على حُبِّ آل محمد جُعل قبره مزار ملائكة الرحمة، ألا ومَن مات على حُبِّ آل محمد مات على السُّنَّة والجماعة، ألا ومَن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آيس مِن رحمة الله)(2) .

يا تُرى، كيف تكون لهذا الحُبِّ هذه الآثار، ما لم يكن هو روح الإسلام وجوهر الإيمان، ليكون قائداً للإنسان المسلم إلى طاعة الله والالتزام برسالته، وحُبُّ الحسينعليه‌السلام شَطر مِن هذا الحُبِّ؟ فلاغَرْوَ أنْ يكون حُبُّه سبباً لحُبِّ الله تعالى.

وأمَّا وصف الرسول للحسينعليه‌السلام بقوله: (حسين سِبط مِن الأسباط) فقد أراد به أنَّه أُمَّة مِن الأُمم، قائم بذاته ومُستقلٌّ بنفسه، فهو أُمَّة مِن الأُمم في الخير، وأُمَّة مِن الشرف في جميع الأجيال والآباد(3) .

____________________

(1) آل عمران: 31.

(2) الـمُراجعات ص49 - 51، تحقيق فضيلة الشيخ حسين الراضي.

(3) حياة الإمام الحسين: ج1: ص95.

١٢١

هذه هي النتيجة الطبيعيَّة والمعقولة لتلك التربية الرَّبَّانيَّة، التي عاشها سيِّد الشهداء في ظِلِّ تلك الأجواء الملائكيَّة، وهذا هو التفسير الـمُناسب لذلك الاهتمام الـمُنقطع النظير مِن ذلك الجَدِّ الأقدس بسبطه وقُرَّة عينه.

وقد أثار أبو عبد الله هذه المسألة في بعض بيانات ثورته الـمُقدَّسة، فأشار إلى علاقته بجَدِّه الرسول وبعض أقوال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في حَقِّه وحَقِّ أخيه وأهل بيتهعليهم‌السلام حينما قال:

(أيُّها الناس، انسبوني مَن أنا ثمَّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها وانظروا هلْ يَحلُّ لكم قَتلي وانتهاك حُرمتي؟ ألستُ ابن بنت نبيِّكم وابن وصيِّه وابن عَمِّه، وأوَّل المؤمنين بالله والـمُصدِّق لرسوله بما جاء مِن عند رَبِّه؟ أوَليس جعفر الطيَّار عَمِّي؟ أوَلم يبلغكم قول رسول الله فيَّ ولأخي: (هذان سيِّدا شباب أهل الجَنَّة)؟ فإنْ صدَّقتموني بما أقول وهو الحَقُّ، والله ما تعمَّدت الكَذب منذ علمت أنَّ الله يمقت عليه أهله ويُضرُّ به مَن اختلقه، وإنْ كذَّبتموني فإنَّ فيكم مَن إذا سألتموه أخبركم، سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري، وأبا سعيد الخِدري، وسهل بن سعد الساعدي، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك يخبروكم أنَّهم سمعوا هذه المقالة مِن رسول الله لي ولأخي، أما في هذا حاجز لكم عن سَفْك دَمْي)(1) .

____________________

(1) حياة الإمام الحسين: ج3: ص185.

١٢٢

فجر الإمامة مِن جبينك يشرق

نوراً ومَهدك بالقَداسة ينطق

في يوم مولدك الأغرِّ ترادفت

زمر الملائك حول مهدك تحدِق

وبنفحةٍ مِن قُدس مَهدك فُرِّجتْ

كُرَبٌ ليونس كاد فيها يغرق

ما كان مَهدك غير قلب محمد

في كلِّ آنٍ بالحنان تطوق

بوركت مولوداً على قسماته

إشراقة بعبير أحمد تَعبق

ورضعت مِن ثدي القداسة والتُّقى

يسقيك مِن روح الجلال فيُغدق

ونشأت في حِجر الطهارة والهُدى

والحَقُّ دوماً في ضميرك مُشرق

ودرجت في بيت تُظلِّله السما

بالوحي حيث فناؤه يتألَّق(1)

* * *

3 - الحسين في رِحاب القرآن

في النقطة السابقة استوحينا بعض تصريحات الرسول الأعظم في حَقِّ سِبطه الحسين، وما هي دلالات ذلك، وأمَّا في هذه النقطة فنستوحي القرآن الكريم في حديثه عن الحسينعليه‌السلام ، فإنَّه ربيب الوحي وقَرين القرآن، نستوحي ذلك مِن خلال وقفات قصيرة أمام نموذجين قرآنيَّين، مِن الآيات التي تتحدَّث عن أهل البيتعليهم‌السلام .

الآية الأُولى: قوله تعالى:( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (2) .

تُمثِّل هذه الآية الكريمة الوسام الإلهي، الذي منحه الباري تعالى لأهل هذا البيت بإذهابه الرجس عنهم، وقد جاءت لفظة:( الرِّجْسَ ) هنا مُحلاَّة بالألف واللام؛ لتنفي

____________________

(1) مِن قصيدة للمؤلِّف في مولد الإمام الحسينعليه‌السلام .

(2) الأحزاب: 32.

١٢٣

مُطلق الرجس وهو كلُّ قذرٍ نَجَس، فإنَّ الله تعالى قد أذهب عن أهل البيت القذارة الفكريَّة، والقذارة القلبيَّة والقذارة الأخلاقيَّة والروحيَّة.

وما ورد في بعض الأحيان مِن تفسير (الرِّجْسَ) بالذَّبِّ، أو الإشراك، أو البُخل، أو الحسد، أو الاعتقاد الباطل وأمثال ذلك، فإنَّه في الحقيقة بيان لمصاديقه، وإلاّ فإنَّ مفهوم هذه الكلمة عامٌّ وشامل لكلِّ أنواع الحماقات بحُكم الألف واللام التي وردت هنا، والتي تُسمَّى بألف ولام الجنس(1) .

إنَّ (الرجس داء يُصيب الروح وينال مِن سلامتها، فالخمر والـمَيِسر كانا رِجساً لأنَّهما يسلُبان العقل ويملآن فراغه في الصدر بُغضاً وعداوة، فهما يُضيِّقان الخِناق على البعد الملكوتي في النفس الإنسانيَّة ويصدَّانها عن السموِّ والتكامل.

فالصدور الكَدِرَة الـمُتمثِّلة بالرذائل مُبتلاة بالرجس، ومثل هذه الصدور تفتقد الأرضيَّة لتلقِّي الفضائل واستقبال المحاسن، وتتقاعس عن السعي في طريق الكمال والأخذ بأسباب النجاة، وتجدها تقضي حياتها أسيرة في حبائل الشهوات مُتردِّية في مُستنقعات الحِقد والحَسد، وهذا التلوُّث بالرجس هو الذي يقود البشريَّة إلى الدمار، ويسوقها نحو مصيرٍ مؤسف ومُستقبَل مُظلمٍ.

وعلى أيَّة حال فإنَّ جميع الأمراض الروحيَّة والآفات الأخلاقية، التي تخفت أُوار الحَقِّ وبريق إشعاعه في ضمير الإنسان، وتُكدِّر صفاء الروح وتنال مِن عظمة النفس، وتقضي على الخير المودع فيها، والذي يتجلَّى في صور التسليم للحَقِّ والإذعان للحقيقة بعد السعي لها وللقيم المعنويَّة العالية(2) .

كلُّ ذلك رجس وكلُّ ذلك قد أذهبه الله تعالى عن أهل البيتعليهم‌السلام ، ولا شكَّ أنَّ هذا الوسام الذي لا يُدانيه وسام لم يُعطَ لأهل البيت اعتباطاً وجُزافاً مِن دون أنْ يكون

____________________

(1) آية التطهير رؤية مُبتكَرة: ص116.

(2) آية التطهير رؤية مُبتكَرة: ص116.

١٢٤

لديهم الاستعداد الذاتي لتقبُّل هذا الفيض الإلهي؛ لأنَّ الفيوضات الرَّبَّانيَّة إنَّما تصل إلى كلِّ مخلوقٍ بقدر قابليَّته واستعداده، كما ضرب القرآن الكريم مثالاً لذلك بقوله تعالى:( أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ) (1) .

حيث علم الله تعالى منهم - سابقاً - أنَّهم سوف يعملون بأمره، ويجتهدون في طاعته، ويسعون لتحقيق رضاه ويُسلِّمون له بالتسليم الـمُطلَق، وذلك بمحض إرادتهم واختيارهم، فمنحهم هذا الوسام الرفيع؛ فأذهب عنهم كلَّ ما يحول بينهم وبينه؛ لعلمه بأنَّهم يُريدون ذلك فأراده لهم، وهذه العصمة المانعة مِن كلِّ ذنبٍ.

والسؤال هنا: ماذا يُراد مِن هذا التأكيد القرآني على تطهير هؤلاء؟ فهل يعني ذلك مُجرَّد البيان فقط أنَّ هؤلاء يتمتَّعون بهذا المقام، مِن غير أنْ يكون وراء ذلك البيان أيُّ غرضٍ آخر وهدفٍ عمليٍّ؟

وهذا ما لا يجوز أنْ ننسبه إلى كتاب الله العزيز، الذي جاء ليفتح باب الهداية الرَّبَّانيَّة للإنسان، ويدلَّه على الطريق السويِّ والصراط الـمُستقيم، لكي لا يبقى يتخبَّط في متاهات الطريق.

فالـمُراد هنا الكشف عن الأشخاص الذين يملكون كلَّ مُقوُّمات الهداية؛ ليستطيع كلُّ مَن أراد السير نحو الله أنْ يأخذ بحُجْزتهم ويهتدي بهُداهم، وقد (أجمع الـمُفسِّرون وثقات الرُّواة أنَّ أهل البيت هُمْ الخمسة أصحاب الكساء، وهُمْ سيِّد الكائنات الرسول وصِنوه الجاري مجرى النفس أمير المؤمنين، وبِضعته الطاهرة عَديلة مريم بنت عمران سيِّدة النساء فاطمة الزهراء، التي يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها، وريحانتاه مِن الدنيا سِبطاه الشهيدان الحسن والحسين سيِّدا شباب أهل الجَنَّة، ولم يشاركهم أحد مِن الصحابة وغيرهم في هذه الآية)(2) .

____________________

(1) الرعد: 17.

(2) حياة الإمام الحسين: ج1: ص58.

١٢٥

وأمَّا دعوى شمول الآية لنساء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقد ناقشها العلماء في العديد مِن البحوث في كُتب التفسير أو كتب خاصَّة أُلفت في هذا المجال.

ويبقى أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام آخر مَن بقي مِن الخمسة، فهو وارث لمقاماتهم وأدوارهم في حياة الأمَّة وهي القيادة الفكريَّة والسياسيَّة.

الآية الثانية: قوله تعالى:( فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (1) .

هذه الآية تُعرَف بآية الـمُباهلة، جاءت تحمل منطق التحدِّي الصارم للطرف الـمُقابل، وهو وفد نصارى نجران، وجاء هذا التحدِّي بعد فَشل أُسلوب الحوار العلمي فيما يتعلَّق بشأن النبي عيسىعليه‌السلام .

في (تفسير القُمِّي) عن الصادق: (إنَّ نصارى نجران لـمَّا وفدوا على رسول الله، وكان سيِّدهم الأهتم والعاقب والسيِّد، وحضرت صلاتهم فأقبلوا يضربون الناقوس وصلُّوا، فقال أصحاب رسول الله: يا رسول الله، هذا في مسجدك، فقال: دعوهم، فلـمَّا فرغوا دنوا مِن رسول الله فقالوا: إلى ما تدعو؟ فقال: إلى شهادة أنْ لا إله إلاَّ الله وأنِّي رسول الله، وأنَّ عيسى عبد مخلوق يأكل ويشرب ويُحدِث، قالوا: فمَن أبوه؟ فنزل الوحي على رسول الله، فقال: قُلْ لهم: ما تقولون في آدم أكان مَخلوقاً يأكل ويشرب ويُحدِث وينكح؟ فسألهم النبي، قالوا: نعم، قال فمَن أبوه؟ فبُهِتوا، فأنزل الله:( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ... ) (2) الآية، وقوله:( فَمَنْ

____________________

(1) آل عمران: 61.

(2) آل عمران: 59.

١٢٦

حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (1) .

فقال رسول الله: فباهلوني، فإنْ كنتُ صادقاً أُنزِلت اللعنة عليكم، وإنْ كنت كاذباً أُنزِلت عليَّ، فقالوا: أنصفت، فتواعدوا للـمُباهلة، فلـمَّا رجعوا إلى منازلهم قال رؤساؤهم - السيِّد والعاقب والأهتم -: إنْ باهَلَنا بقومه باهَلَناه فإنَّه ليس نبيَّاً، وإنْ باهَلَنا بأهل بيته خاصَّة لم نُباهله؛ فإنَّه لا يقدم إلى أهل بيته إلاَّ وهو صادق. فلـمَّا أصبحوا جاؤوا إلى رسول الله ومعه أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام ، فقال النصارى: مَن هؤلاء؟ فقيل لهم: هذا ابن عمِّه ووصيُّه وخَتنه عليُّ بن أبي طالب، وهذه ابنته فاطمة، وهذان ابناه الحسن والحسين، ففَرَقُوا - أيْ خافوا - فقالوا لرسول الله: نُعطيك الرضا فأعفنا مِن الـمُباهلة، فصالحهم رسول الله على الجِزية وانصرفوا)(2) .

هذه هي قِصَّة الـمُباهلة، والسبب في نزول الآية بعدما رفض النصارى نتيجة الحوار في كون عيسى بن مريمعليه‌السلام مِن البشر، وأصرُّوا على مقالتهم فيه وأنَّه هو ابن الله، تعالى عن ذلك، حوَّل القَرن الموقف إلى تحدِّي بإرجاع الأمر إلى الغيب، وأنَّ الله تعالى هو الذي يُحدِّد الـمُحقَّ مِن الـمُبطل عن طريق إهلاك الطرف الـمُبطل ومحوه مِن ساحة الحياة، بعد ابتهال الطرفين بالدعاء بأنْ يُهلك الله الـمُبطل منهم.

إلاَّ أنَّ وفد النصارى بعد خروج النبي بأهل بيته أعرضوا عن الـمُباهلة؛ وذلك لقناعتهم بصدق الرسول الأعظم، وقبلوا بالخيار الآخر وهو أداء الجزية إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وقد أجمع الـمُفسِّرون والمؤرِّخون على أنَّ النبي لم يخرج إلاَّ بعليٍّ وفاطمة والحسنينعليهم‌السلام .

____________________

(1) آل عمران: 61.

(2) تفسير القُمِّي: ج1 ص112.

١٢٧

وهنا لا بُدَّ لنا مِن أنْ نتساءل: ما هو السِّرُّ في أمر الله تعالى لنبيِّه بإخراج هؤلاء معه للـمُباهلة؟ ألا يكفي خروج النبي بمُفرده للدعاء فاحتاج الموقف إلى خروج أهل بيته؛ لأنَّ الأمر لا يخلو؛ إمّا أنَّ دعاء النبي (صلى لله عليه وآله) يكفي في تحقُّق نتيجة الـمُباهلة، فيكون خروج هؤلاء معه نوعاً مِن العَبث الذي لا غرض مِن ورائه، أو أنَّ خروج هؤلاء أمر لا بُدَّ منه في هذا المقام؟

والجواب: أنَّ الوجه الأخير هو الحَقُّ، فإنَّ خروج النبي بأهل بيته أمر حتميٌّ لا لنقصٍ في ذات الرسول في تحقُّق الدعاء، فإنَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله في اعتقادنا لا يَحجُب دعاه حاجب عن الله تعالى.

ولكنْ لـمَّا كان هذا الموقف يتعلَّق بشؤون الرسالة وتحدِّياتها لسائر الأفكار والأديان والأقوام، فلا بُدَّ مِن وقوف حَمَلَة الرسالة الذين يتمثَّل فيهم الامتداد الطبيعي لصاحب الرسالة مِن بعده، فهُمْ شركاؤه في تجسيد وتمثيل رسالة الله، فلا بُدَّ مِن وجودهم في هذا المقام، فأمر الله نبيَّه بإخراجهم ليتَّضح ارتباطهم بالرسالة ومواقفها.

حيث يُمكن أنْ نتصوَّر أنَّ الله تعالى قد جعل - هنا - دعاء الرسول هو الـمُقتضي لتحقُّق الهلاك وتأمين أهل بيته بمنزلة الشرط لتحقُّق ذلك، فإنَّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله قد قال لهم: (إذا دعوت فأمِّنوا) كما في بعض روايات المقام، إذ مِن المعلوم أنَّ الشيء لا يتحقَّق إلاَّ بوجود الـمُقتضي وتوفُّر الشرط وارتفاع المانع، ولا مانع في البين.

فتبيَّن أنَّ الغاية مِن إخراجهم ليكونوا جزءاً مِن موقف التحدِّي هذا مِن الإسلام للمسيحيَّة؛ لأنَّهم لُحمة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

والجدير بالـمُلاحظة - هنا - أنَّ الحسنينعليهما‌السلام كانا آنذاك في مرحلة الطفولة، حيث لم يمنع كونهم طفلين مِن أنْ يأمر الله الرسول بإخراجهم، وذلك لتميُّزهما على مَن سواهما مِن الأطفال.

١٢٨

مِن خلال ما تقدَّم أخذنا صورة واضحة - وإنْ كانت مُختصرة - عن الأجواء التي نشأ فيها سيِّد الشهداء الإمام الحسينعليه‌السلام ، وعن المقوُّمات الذاتيَّة التي توفَّرت في هذا الإمام، والتي تجعله نسخة أُخرى مِن شخصيَّة جَدِّه الرسول الأعظم، ليتحمَّل في عصره أعباء الإمامة وتتجسَّد فيه الرسالة؛ فيكون هو الأَوْلى بقيادة الأُمَّة.

4 - نشأة يزيد ومقوَّمات شخصيَّته

أجمع المؤرِّخون أنَّ يزيد بن مُعاوية قد نشأ وتربَّى في البادية عند خؤولته بني كِلاب، وهذه القبيلة كانت نصرانيَّة الاتِّجاه، فترى تربية مزيجة مِن أفكار وعادات مسيحيَّة ومِن عادات وأهواء البادية. تلك الأجواء البعيدة عن منابع الفكر الإسلامي وثقافة القرآن والسُنَّة، (وكان مُرسَل العِنان مع شبانهم الماجنين، فتأثَّر بسلوكهم إلى حَدٍّ بعيد، فكان يشرب معهم الخمر ويلعب معهم بالكلاب)(1) .

يقول عبد الله العلايلي: إذا كان يقيناً أو يُشبه اليقين أنَّ تربية يزيد لم تكن إسلاميَّة خالصة، أو بعبارة أُخرى: كانت مسيحيَّة خالصة؛ فلم يبقَ ما يُستغرب معه أنْ يكون مُتجاوزاً مُستهتراً مُستخفَّاً بما عليه الجماعة الإسلاميَّة، لا يحسب لتقاليدها واعتقادها أيَّ حساب ولا يقيم لها وزناً، بلْ الذي يُستغرب أنْ يكون غير ذلك(2) .

فإنَّ ذلك أمر طبيعي ونتيجة طبيعيَّة لتلك النشأة وتلك الأجواء الأعرابيَّة، التي تكوَّنت فيها المقوُّمات لشخصيَّة يزيد، فلم يستطع تجاوزها والتستُّر بها، وكان مُتجاهراً وولعاً باللعب بالقرود والكلاب ومُدْمناً على شرب الخمر.

يقول السيِّد مير علي الهندي: كان يزيد غدَّاراً كأبيه، ولكنَّه ليس داهية مثله، كانت

____________________

(1) حياة الإمام الحسين: ج2: ص180.

(2) سموُّ المعنى في سموِّ الذات: ص59.

١٢٩

تنقصه القُدرة على تغليف تصرُّفاته القاسية بستار مِن اللباقة الدبلوماسيَّة الناعمة، وكانت طبيعته الـمُنحلَّة وخُلقه الـمُنحطُّ لا تتسرَّب إليهما شَفقة ولا عدل(1) .

وقد حاول مُعاوية بأنْ يُغيِّر ابنُه مظاهرَ سلوكه العلني؛ ليستطيع إقناع الناس بأنَّ ابنه مؤهَّل لأنْ يحُكم المسلمين مِن بعده، فقال له: (يا بُني، ما أقدرك على أنْ تصير إلى حاجتك مِن غير تهتُّك يذهب بمروءتك وقدرك، ثمَّ أنشده:

انصب نهاراً في طُلاَّب العُلى

واصبر على هَجر الحبيب القريب

حتَّى إذا الليل أتى بالدجا

واكتحلت بالغَمض عين الرقيب

فباشر الليل بما تشتهي

فإنَّما الليل نهار الأريب

كمْ فاسق تحسبه ناسكاً

قد باشر الليل بأمرٍ عجيب(2)

هكذا أراد مُعاوية لولده بأنْ يلبس نهاراً لباس الفضل والنُّسك والتقوى، وإذا ما جَنَّ عليه الليل أطلق عنان شهواته وغرائزه في كُلِّ ميدان مِن ميادين الملذَّات، التي تحيى بها الليالي الحمراء في حياة أهل الفُسوق والـمُجون.

هذا هو السلوك الأمثل - في نظر مُعاوية - لوليِّ أمر المسلمين، إلاَّ أنَّ معاوية لم يُفلح في تغيير سلوك ابنه وتغليفه باللباس الخادع، بلْ استمرَّ يزيد في طريقة حياته المفضوحة واستهتاره المكشوف.

يا تُرى، إذا كان هكذا قادة الأُمَّة وولاة أُمورها فماذا ينتظر أنْ يكون وضع الأُمَّة ومُستقبل حياتها؟

قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام مُشيراً إلى تأثير سلوك القيادة على حياة الأُمَّة ومسيرتها: (وقد علمتم أنَّه لا ينبغي أنْ يكون الوالي على الفروج والدماء

____________________

(1) نقلاً عن حياة الإمام الحسين: ج2: ص180.

(2) البداية والنهاية 8: 228.

١٣٠

والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل؛ فتكون في أموالهم نَهمته، ولا الجاهل فيُضلَّهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول فيتخذ قوماً دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف عند المقاطع، ولا المعطّل للسُنَّة فيهلك الأُمَّة)(1) .

فلا يُنتظر بأُمَّة يكون أمرها بيد شخص مِثل يزيد بن مُعاوية إلاَّ الانحدار الـمُميت.

والعجب أنَّك ترى برغم هذه الحقائق التاريخيَّة، التي تُعرِّف شخصيَّة يزيد ترى مَن يُدافع عن هذا التاريخ الأسود تاريخ يزيد وسائر الأُمويِّين، ويُحاول أنْ يُصوِّر يزيد بن مُعاوية وكأنَّه ذلك الإنسان المثالي والحاكم الأمثل في تاريخ المسلمين.

فكأنَّما عقُمت الأُمَّة ليس فيها عُظماء وقادة تُقدِّمهم لسائر الأُمَم والشعوب، كنماذج إسلامية يُمثِّلون الواجهة الحضاريَّة للإسلام، وعَقم تاريخ المسلمين فلم يُنتج إلاَّ أمثال يزيد بن مُعاوية والحَجَّاج بن يوسف الثقفي، حتَّى تُدافع عنه مِن خلال الدفاع عن هؤلاء.

5 - بيعة يزيد بن مُعاوية

البيعة مأخوذة مِن البيع، وكما أنَّ البيع لا يتحقَّق إلاَّ بطرفين، البائع والـمُشتري، كذلك البيعة لها طرفان، وهما المبايِع - بالكسر - وهُمْ أفراد الأُمَّة أو الشعب، والـمُبايَع - بالفتح - وهو القيادة أو الحاكم الذي يتولَّى شؤون الأُمَّة والشعب. فهي على هذا عقد وميثاق بين الطرفين، فالـمُبايع يتعهَّد بالطاعة التامَّة للقيادة، والقيادة بدورها تتعهَّد بالقيام بشؤون الأُمَّة وإدارة حياتها طِبق القوانين السماويَّة.

وتُعتبر هذه البيعة ميثاقاً مُقدَّساً في نظر القرآن الكريم، فإنَّ القرآن اعتبر مُبايعة

____________________

(1) نهج البلاغة قطعة رقم 131 صُبحي الصالح.

١٣١

الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله مِن قِبَل المسلمين بيعة لله تعالى، كما في قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) (1) .

فعلى هذا لا بُدَّ أنْ تعرف الأُمَّة بعد الرسول القائد لـمَن تُعطي بيعتها، فلا بُدَّ أنْ تكون يده يداً تُمثِّل الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله لتكون بيعته بيعة لله تعالى، إلاَّ أنَّ الأُمَّة الإسلاميَّة مُنيت بتلك النكسة، وذلك الانحراف الخطير حتَّى بلغ بها الحال أنْ تُبايع لشخصٍ مِثل يزيد بن مُعاوية.

لقد فُرِضت عليها تلك البيعة بقوَّة السلاح والمال، ولكنْ ذلك لا يُخلِّي الأُمَّة مِن المسؤوليَّة، ولا يُبرِّر لها ذلك الاستسلام والخنوع والسكوت عن ذلك الانحراف.

وطِبق ما يذكره المؤرِّخون أنَّ أوَّل مَن تحرَّك لتحقيق بيعة يزيد هو الـمُغيرة بن شُعبة، وكان والياً على الكوفة مِن قبل مُعاوية، فأحسَّ بأنَّ مُعاوية يُريد عَزله عن ولايته ويولِّي سعيد بن العاص مكانه، فتحرَّك لهذه الـمُهمَّة - بيعة يزيد - وليُقدِّم استقالته مِن هذا المنصب؛ لكي لا تكون عليه حَزازة في عَزله، وسافر إلى الشام واجتمع بيزيد، فأبدى له الإكبار وأظهر له الحُبَّ، وقال له: قد ذهب أعيان صحابة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وكُبراء قريش وذوو أسنانهم، وإنَّما بقي أبناؤهم وأنت مِن أفضلهم وأحسنهم رأياً وأعلمهم بالسُّنَّة والسياسة، ولا أدري ما يمنع أمير المؤمنين أنْ يعقد لك البيعة.

وغزت هذه الكلمات قلب يزيد؛ فشكره وأثنى على عواطفه وقال له: (أترى ذلك يتمُّ)، فكأنَّ يزيد نفسه لم يَكد يُصدِّق أنْ يتمَّ ذلك وأنْ يرضى المسلمون به خليفة؛ لما يعرفه مِن نفسه مِن الصفات التي تُبعده كلَّ البُعد عن مظاهر الحاكم الإسلامي فَضلاً مِن أنْ يكون يحمل روح الإسلام وجوهره.

____________________

(1) الفتح: 10.

١٣٢

ولكنْ عندما وجد هذا الدجَّال خاطبه بخطاب التمجيد والتقديس، انطلق إلى أبيه ودخل عليه وأخبر بمقالة الـمُغيرة.

ولا شكَّ أنَّ مُعاوية كان يُفكِّر في الموضوع، ولكنْ كان يضرب أخماساً في أسداس، بأيِّ طريقة يطرح هذه البيعة على الناس، فوجد مَن يدفعه إلى التحرُّك نحو انجاز ما كان يُفكِّر فيه.

فأحضر الـمُغيرة فبادره الـمُغيرة بقوله: (يا أمير المؤمنين، قد رأيت ما كان مِن سفك الدماء والاختلاف بعد عثمان وفي يزيد منك خَلف، فأعقد له، فإنْ حدث بك حَدَث كان كهفاً للناس وخَلفاً منك، ولا تُسفك دماء ولا تكون فتنة، فقال مُعاوية: مَن لي بهذا؟

فقال الـمُغيرة: أنا أكفيك أهل الكوفة، ويكفي زياد أهل البصرة، وليس بعد هذين المصرين أحد يُخالفك؛ فأقرَّه مُعاوية على منصبه وأمره بالـمُبادر إلى الكوفة لتحقيق غايته، ولـمَّا خرج مِن عند مُعاوية قال لحاشيته: لقد وضعت رجل مُعاوية في غرز بعيد على أُمَّة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وفتقت عليه فَتْقاً لا يُرتق.

لَعمري، لقد شخَّص الـمُغيرة هذه البيعة قبل حدوثها بدِقَّة؛ لأنَّه يُدرك مدى آثار هذه المسألة على حياة أُمَّة محمد ومُستقبلها.

وسار الـمُغيرة إلى الكوفة يحمل الشَّرَّ والدمار لأهلها ولعموم المسلمين، وفورَ وصوله عقد اجتماعاً ضَمَّ عُملاء الأُمويِّين فعرض عليهم بيعة يزيد، فأجابوه إلى ذلك وأوفد جماعة منهم إلى دمشق، وجعل عليهم ولده موسى، فلـمَّا انتهوا إلى مُعاوية حفَّزوه على عقد البيعة ليزيد، فشكرهم على ذلك وأوصاهم بالكِتمان، والتفت إلى ابن الـمُغيرة فقال له:

- بكم اشترى أبوك مِن هؤلاء دينهم؟

- بثلاثين ألف درهم.

١٣٣

- لقد هان عليهم دينهم، ثمَّ وصلهم بثلاثين ألف درهم(1) .

وبدأ مُعاوية يُمهِّد لهذه البيعة بمُختلف الأساليب والطُّرق، فسخَّر المال في ذلك ببذله بكلِّ سَخاء للوجوه والأعيان مِن الـمُتاجرين بالضمائر والأديان.

يقول المؤرِّخون: إنَّ مُعاوية دفع إلى عبد الله بن عمر مائة ألف درهم فقَبِلها منه، وكان ابن عمر مِن أصلب الـمُدافعين عن بيعة يزيد(2) .

كما سخَّر مُعاوية الشعر في الدعاية لبيعة يزيد، فهذا مسكين الدارمي يقول بعدما أوعَز إليه مُعاوية أنْ يحثَّه على بيعة يزيد أمام مَن كان حضر مجلسه مِن أعيان الأُمويِّين وأهل الشام:

ألا ليتَ شِعري ما يقول ابن

عامر ومروان أمْ ماذا يقول سعيد

بني خُلفاء الله مَهلاً فإنَّما

يبوؤها الرحمان حيث يريد

إذا المِنبر الغربي خلاه ربُّه

فإنَّ أمير المؤمنين يزيد

على الطائر الميمون والجِدِّ ساعد

لكلِّ أُناس طائر وجَدود

فلا زلتُ أعلى الناس كعباً ولم يزل

وفود تُساميها إليك وفود

ولا زال بيت الـمُلك فوقك عالياً

تشدُّك أطناب له وعمود(3)

إضافة إلى ذلك أُسلوب التهديد بالقوَّة، حينما يحتمل وجود مُعارضة مِن أحد لهذه البيعة، فهذا أحد رجاله في جلسة مِن جلساته، التي دعا فيها إلى البيعة لابنه يزيد فعارضه بعض الحضور، فقام يزيد بن الـمُقفع فهدَّد الـمُعارضين باستعمال القوَّة قائلاً: (أمير المؤمنين هذا - وأشار إلى مُعاوية - فإنْ هلك فهذا - وأشار إلى يزيد - ومَن أبى

____________________

(1) حياة الإمام الحسين: ج2: ص192.

(2) حياة الإمام الحسين: ج2: ص192.

(3) حياة الإمام الحسين: ج2: ص199 عن تاريخ ابن الأثير.

١٣٤

فهذا، وأشار إلى السيف؛ فاستحسن مُعاوية قوله وراح يقول له: (اجلس فأنت سيِّد الخِباء وأكرمهم)(1) .

وكان مقياس الكَفاءة للخلافة عند مُعاوية، الذي يؤهِّل ابنه لذلك هو حُبُّه لابنه ولا مقياس لديه غير ذلك، وهذا ما يتَّضح مِن كلمته التي ألقاها في مجلس في المدينة المنوَّرة، وقد جمع المجلس عدداً مِن الشخصيَّات: كعبد الله بن عباس، وعبد الله بن جعفر، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وقد عرض عليهم بيعة يزيد فرفضوا له ولم يستجيبوا لذلك، فقال في نهاية الاجتماع: وإنَّه قد ذهبت الآباء وبقيت الأبناء، فابني أحبُّ إليَّ مِن أبنائهم. وكان يُعرِّض بأمير المؤمنينعليه‌السلام ووَلديه الحسنين.

ومَن يدري لعلَّ مُعاوية قال ذلك مُقابل ما قاله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في حَقِّ الحسينينعليهما‌السلام في تعبيره عن حُبِّه لهما! وإنَّ مُعاوية ليُفسِّر كلمات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في سِبطيه الحسنينعليهما‌السلام بأنَّها بدافع العاطفة الـمُجرَّدة! فما الذي يمنعه هو أيضاً مِن حُبِّ وَلده ويجعل له الخلافة ميراثاً يُخلِّفه لولده المحبوب؟!

وعلى كلِّ حال، فلقد تمَّت بيعة يزيد تحت أجواء مِن الإرهاب مِن جِهة والإغراء بالأموال، والإعلام الـمُضلِّل مِن جهة أُخرى.

ولمْ يتمرَّد على هذه البيعة - فرفضَ الاعتراف بها وثار في وجه يزيد مُدلِّلاً على الخطر الذي يُمثِّله حُكم يزيد وآل أُميَّة على الإسلام - لم يَقُمْ بذلك إلاَّ أبو الأحرار الحسين بن عليعليهما‌السلام .

أعلن ذلك عند أوَّل مُحاولة مِن السلطات الأُمويَّة، بعد هَلاك مُعاوية لإخضاع الإمام للبيعة، فقال في مجلس الوليد بن عُتبة بن أبي سفيان:

____________________

(1) حياة الإمام الحسين: ج2: ص203.

١٣٥

(أيُّها الأمير، إنَّا أهل بيت النبوَّة، ومَعدن الرسالة، ومُختلف الملائكة، ومَحلُّ الرحمة، بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد رجلٌ فاسقٌ شاربُ الخمر، قاتل النفس الـمُحترمة مُعلِن بالفِسق، ومِثلي لا يُبايع مِثله، ولكنْ نُصبِح وتُصبِحون، وننظر وتنظرون أيَّنا أحقَّ بالخلافة والبيعة)(1) .

وعندما حاصروه وضيَّقوا عليه الخِناق؛ ليُذعن لهم ويعترف بسلطانهم، رفع أبو الأحرار صوته قائلاً:

(لا والله، لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفرَّ فِرار العبيد)(2) .

____________________

(1) اللهوف: ص71، والفتوح لابن أعثم: ج5: ص14، واللفظ للأوَّل.

(2) مناقب آل أبي طالب: ج3: ص224، ط الحيدريَّة، وج4: ص75، ط آخر.

١٣٦

١٣٧

القراءة الثالثة

في البُعد الاجتماعي

أ - تمهيد

ب - دور الأُمويِّين في هَدْم ركائز الـمُجتمع الإسلامي

ج - جماهيريَّة الثورة الحسينيَّة

د - الـمُجتمع الكوفي واستجابة الإمام لرسائلهم

١٣٨

١٣٩

أ - تمهيد

يختلف الإسلام - كرسالة سماويَّة - عن سائر المدارس الاجتماعيَّة الأُخرى، في تحديد الهدف النهائي مِن حياة الإنسان الاجتماعيَّة، فإنَّ المدارس الاجتماعيَّة الأُخرى ترى أنَّ ضرورة الحياة الاجتماعيَّة للإنسان، نابعة مِن ضرورة سَدِّ جميع احتياجاته الحياتيَّة؛ حيث إنَّ الإنسان لن يستطيع في حياة مُنفردة أنْ يَسدَّ احتياجاته بنفسه، بما في ذلك الحاجات المادِّيَّة والنفسيَّة، فلا بُدَّ له مِن حياة اجتماعيَّة؛ ليتمكن مِن سَدِّ تلك الاحتياجات مِن خلال روابطه الاجتماعيَّة.

فهذا هو الهدف النهائي للحياة الاجتماعيَّة في نظر هذه المدارس - ولا سِيَّما المدارس المادِّيَّة منها - والإسلام أيضاً لا يُنكر هذه الضرورة - أعني: ضرورة سَدِّ احتياجات الإنسان - ولعلَّ القرآن الكريم يُشير إلى ذلك في قوله تعالى:( ... نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيَّاً... ) (1) .

فقوله تعالى:( ... لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيَّاً... ) إشارة إلى أنَّ أفراد الـمُجتمع كلٌّ مِن موقعه ودوره يقوم بخدمة الـمُجتمع، ويُشارك في سَدِّ احتياجات الـمُجتمع، فهو مُسخَّر لخدمة الكلِّ بطريقة وأُخرى، إلاَّ أنَّ الإسلام لا يعتبر هذه الضرورة هدفاً نهائيَّاً لحياة

____________________

(1) الزخرف: 32.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276