قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة21%

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة مؤلف:
الناشر: المؤسّسة الإسلاميّة للبحوث والمعلومات
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 276

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة
  • البداية
  • السابق
  • 276 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 50539 / تحميل: 5976
الحجم الحجم الحجم
قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

مؤلف:
الناشر: المؤسّسة الإسلاميّة للبحوث والمعلومات
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (١) ، فقد علَّقت الآية حُبَّ الله لعبده على اتِّباعه للرسول في رسالته، فإذا قال الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله : (أحبَّ الله مَن أحبَّ حسيناً)، فإنَّ ذلك يعني أنَّ حُبَّ الحسين جزء مِن الرسالة الإلهيَّة، بلْ حُبُّه مع سائر أهل البيت هو روح الرسالة، وإلاَّ فماذا يعني قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : (مَن مات على حُبِّ آل محمد مات شهيداً، ألا ومَن مات على حُبِّ آل محمد مات مغفوراً له، ألا ومَن مات على حُبِّ آل محمد مات تائباً، ألا ومَن مات على حُبِّ آل محمد مات مؤمناً مُستكمل الإيمان، ألا ومَن مات على حُبِّ آل محمد بشَّره مَلك الموت بالجَنَّة ثمَّ مَنكر ونكير، ألا ومَن مات على حُبِّ آل محمد يُزفُّ إلى الجَنَّة كما تُزفُّ العروس إلى بيت زوجها، ألا ومَن مات على حُبِّ آل محمد فُتح في قبره بابان إلى الجَنَّة، ألا ومَن مات على حُبِّ آل محمد جُعل قبره مزار ملائكة الرحمة، ألا ومَن مات على حُبِّ آل محمد مات على السُّنَّة والجماعة، ألا ومَن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آيس مِن رحمة الله)(٢) .

يا تُرى، كيف تكون لهذا الحُبِّ هذه الآثار، ما لم يكن هو روح الإسلام وجوهر الإيمان، ليكون قائداً للإنسان المسلم إلى طاعة الله والالتزام برسالته، وحُبُّ الحسينعليه‌السلام شَطر مِن هذا الحُبِّ؟ فلاغَرْوَ أنْ يكون حُبُّه سبباً لحُبِّ الله تعالى.

وأمَّا وصف الرسول للحسينعليه‌السلام بقوله: (حسين سِبط مِن الأسباط) فقد أراد به أنَّه أُمَّة مِن الأُمم، قائم بذاته ومُستقلٌّ بنفسه، فهو أُمَّة مِن الأُمم في الخير، وأُمَّة مِن الشرف في جميع الأجيال والآباد(٣) .

____________________

(١) آل عمران: ٣١.

(٢) الـمُراجعات ص٤٩ - ٥١، تحقيق فضيلة الشيخ حسين الراضي.

(٣) حياة الإمام الحسين: ج١: ص٩٥.

١٢١

هذه هي النتيجة الطبيعيَّة والمعقولة لتلك التربية الرَّبَّانيَّة، التي عاشها سيِّد الشهداء في ظِلِّ تلك الأجواء الملائكيَّة، وهذا هو التفسير الـمُناسب لذلك الاهتمام الـمُنقطع النظير مِن ذلك الجَدِّ الأقدس بسبطه وقُرَّة عينه.

وقد أثار أبو عبد الله هذه المسألة في بعض بيانات ثورته الـمُقدَّسة، فأشار إلى علاقته بجَدِّه الرسول وبعض أقوال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في حَقِّه وحَقِّ أخيه وأهل بيتهعليهم‌السلام حينما قال:

(أيُّها الناس، انسبوني مَن أنا ثمَّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها وانظروا هلْ يَحلُّ لكم قَتلي وانتهاك حُرمتي؟ ألستُ ابن بنت نبيِّكم وابن وصيِّه وابن عَمِّه، وأوَّل المؤمنين بالله والـمُصدِّق لرسوله بما جاء مِن عند رَبِّه؟ أوَليس جعفر الطيَّار عَمِّي؟ أوَلم يبلغكم قول رسول الله فيَّ ولأخي: (هذان سيِّدا شباب أهل الجَنَّة)؟ فإنْ صدَّقتموني بما أقول وهو الحَقُّ، والله ما تعمَّدت الكَذب منذ علمت أنَّ الله يمقت عليه أهله ويُضرُّ به مَن اختلقه، وإنْ كذَّبتموني فإنَّ فيكم مَن إذا سألتموه أخبركم، سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري، وأبا سعيد الخِدري، وسهل بن سعد الساعدي، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك يخبروكم أنَّهم سمعوا هذه المقالة مِن رسول الله لي ولأخي، أما في هذا حاجز لكم عن سَفْك دَمْي)(١) .

____________________

(١) حياة الإمام الحسين: ج٣: ص١٨٥.

١٢٢

فجر الإمامة مِن جبينك يشرق

نوراً ومَهدك بالقَداسة ينطق

في يوم مولدك الأغرِّ ترادفت

زمر الملائك حول مهدك تحدِق

وبنفحةٍ مِن قُدس مَهدك فُرِّجتْ

كُرَبٌ ليونس كاد فيها يغرق

ما كان مَهدك غير قلب محمد

في كلِّ آنٍ بالحنان تطوق

بوركت مولوداً على قسماته

إشراقة بعبير أحمد تَعبق

ورضعت مِن ثدي القداسة والتُّقى

يسقيك مِن روح الجلال فيُغدق

ونشأت في حِجر الطهارة والهُدى

والحَقُّ دوماً في ضميرك مُشرق

ودرجت في بيت تُظلِّله السما

بالوحي حيث فناؤه يتألَّق(١)

* * *

٣ - الحسين في رِحاب القرآن

في النقطة السابقة استوحينا بعض تصريحات الرسول الأعظم في حَقِّ سِبطه الحسين، وما هي دلالات ذلك، وأمَّا في هذه النقطة فنستوحي القرآن الكريم في حديثه عن الحسينعليه‌السلام ، فإنَّه ربيب الوحي وقَرين القرآن، نستوحي ذلك مِن خلال وقفات قصيرة أمام نموذجين قرآنيَّين، مِن الآيات التي تتحدَّث عن أهل البيتعليهم‌السلام .

الآية الأُولى: قوله تعالى:( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (٢) .

تُمثِّل هذه الآية الكريمة الوسام الإلهي، الذي منحه الباري تعالى لأهل هذا البيت بإذهابه الرجس عنهم، وقد جاءت لفظة:( الرِّجْسَ ) هنا مُحلاَّة بالألف واللام؛ لتنفي

____________________

(١) مِن قصيدة للمؤلِّف في مولد الإمام الحسينعليه‌السلام .

(٢) الأحزاب: ٣٢.

١٢٣

مُطلق الرجس وهو كلُّ قذرٍ نَجَس، فإنَّ الله تعالى قد أذهب عن أهل البيت القذارة الفكريَّة، والقذارة القلبيَّة والقذارة الأخلاقيَّة والروحيَّة.

وما ورد في بعض الأحيان مِن تفسير (الرِّجْسَ) بالذَّبِّ، أو الإشراك، أو البُخل، أو الحسد، أو الاعتقاد الباطل وأمثال ذلك، فإنَّه في الحقيقة بيان لمصاديقه، وإلاّ فإنَّ مفهوم هذه الكلمة عامٌّ وشامل لكلِّ أنواع الحماقات بحُكم الألف واللام التي وردت هنا، والتي تُسمَّى بألف ولام الجنس(١) .

إنَّ (الرجس داء يُصيب الروح وينال مِن سلامتها، فالخمر والـمَيِسر كانا رِجساً لأنَّهما يسلُبان العقل ويملآن فراغه في الصدر بُغضاً وعداوة، فهما يُضيِّقان الخِناق على البعد الملكوتي في النفس الإنسانيَّة ويصدَّانها عن السموِّ والتكامل.

فالصدور الكَدِرَة الـمُتمثِّلة بالرذائل مُبتلاة بالرجس، ومثل هذه الصدور تفتقد الأرضيَّة لتلقِّي الفضائل واستقبال المحاسن، وتتقاعس عن السعي في طريق الكمال والأخذ بأسباب النجاة، وتجدها تقضي حياتها أسيرة في حبائل الشهوات مُتردِّية في مُستنقعات الحِقد والحَسد، وهذا التلوُّث بالرجس هو الذي يقود البشريَّة إلى الدمار، ويسوقها نحو مصيرٍ مؤسف ومُستقبَل مُظلمٍ.

وعلى أيَّة حال فإنَّ جميع الأمراض الروحيَّة والآفات الأخلاقية، التي تخفت أُوار الحَقِّ وبريق إشعاعه في ضمير الإنسان، وتُكدِّر صفاء الروح وتنال مِن عظمة النفس، وتقضي على الخير المودع فيها، والذي يتجلَّى في صور التسليم للحَقِّ والإذعان للحقيقة بعد السعي لها وللقيم المعنويَّة العالية(٢) .

كلُّ ذلك رجس وكلُّ ذلك قد أذهبه الله تعالى عن أهل البيتعليهم‌السلام ، ولا شكَّ أنَّ هذا الوسام الذي لا يُدانيه وسام لم يُعطَ لأهل البيت اعتباطاً وجُزافاً مِن دون أنْ يكون

____________________

(١) آية التطهير رؤية مُبتكَرة: ص١١٦.

(٢) آية التطهير رؤية مُبتكَرة: ص١١٦.

١٢٤

لديهم الاستعداد الذاتي لتقبُّل هذا الفيض الإلهي؛ لأنَّ الفيوضات الرَّبَّانيَّة إنَّما تصل إلى كلِّ مخلوقٍ بقدر قابليَّته واستعداده، كما ضرب القرآن الكريم مثالاً لذلك بقوله تعالى:( أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ) (١) .

حيث علم الله تعالى منهم - سابقاً - أنَّهم سوف يعملون بأمره، ويجتهدون في طاعته، ويسعون لتحقيق رضاه ويُسلِّمون له بالتسليم الـمُطلَق، وذلك بمحض إرادتهم واختيارهم، فمنحهم هذا الوسام الرفيع؛ فأذهب عنهم كلَّ ما يحول بينهم وبينه؛ لعلمه بأنَّهم يُريدون ذلك فأراده لهم، وهذه العصمة المانعة مِن كلِّ ذنبٍ.

والسؤال هنا: ماذا يُراد مِن هذا التأكيد القرآني على تطهير هؤلاء؟ فهل يعني ذلك مُجرَّد البيان فقط أنَّ هؤلاء يتمتَّعون بهذا المقام، مِن غير أنْ يكون وراء ذلك البيان أيُّ غرضٍ آخر وهدفٍ عمليٍّ؟

وهذا ما لا يجوز أنْ ننسبه إلى كتاب الله العزيز، الذي جاء ليفتح باب الهداية الرَّبَّانيَّة للإنسان، ويدلَّه على الطريق السويِّ والصراط الـمُستقيم، لكي لا يبقى يتخبَّط في متاهات الطريق.

فالـمُراد هنا الكشف عن الأشخاص الذين يملكون كلَّ مُقوُّمات الهداية؛ ليستطيع كلُّ مَن أراد السير نحو الله أنْ يأخذ بحُجْزتهم ويهتدي بهُداهم، وقد (أجمع الـمُفسِّرون وثقات الرُّواة أنَّ أهل البيت هُمْ الخمسة أصحاب الكساء، وهُمْ سيِّد الكائنات الرسول وصِنوه الجاري مجرى النفس أمير المؤمنين، وبِضعته الطاهرة عَديلة مريم بنت عمران سيِّدة النساء فاطمة الزهراء، التي يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها، وريحانتاه مِن الدنيا سِبطاه الشهيدان الحسن والحسين سيِّدا شباب أهل الجَنَّة، ولم يشاركهم أحد مِن الصحابة وغيرهم في هذه الآية)(٢) .

____________________

(١) الرعد: ١٧.

(٢) حياة الإمام الحسين: ج١: ص٥٨.

١٢٥

وأمَّا دعوى شمول الآية لنساء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقد ناقشها العلماء في العديد مِن البحوث في كُتب التفسير أو كتب خاصَّة أُلفت في هذا المجال.

ويبقى أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام آخر مَن بقي مِن الخمسة، فهو وارث لمقاماتهم وأدوارهم في حياة الأمَّة وهي القيادة الفكريَّة والسياسيَّة.

الآية الثانية: قوله تعالى:( فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (١) .

هذه الآية تُعرَف بآية الـمُباهلة، جاءت تحمل منطق التحدِّي الصارم للطرف الـمُقابل، وهو وفد نصارى نجران، وجاء هذا التحدِّي بعد فَشل أُسلوب الحوار العلمي فيما يتعلَّق بشأن النبي عيسىعليه‌السلام .

في (تفسير القُمِّي) عن الصادق: (إنَّ نصارى نجران لـمَّا وفدوا على رسول الله، وكان سيِّدهم الأهتم والعاقب والسيِّد، وحضرت صلاتهم فأقبلوا يضربون الناقوس وصلُّوا، فقال أصحاب رسول الله: يا رسول الله، هذا في مسجدك، فقال: دعوهم، فلـمَّا فرغوا دنوا مِن رسول الله فقالوا: إلى ما تدعو؟ فقال: إلى شهادة أنْ لا إله إلاَّ الله وأنِّي رسول الله، وأنَّ عيسى عبد مخلوق يأكل ويشرب ويُحدِث، قالوا: فمَن أبوه؟ فنزل الوحي على رسول الله، فقال: قُلْ لهم: ما تقولون في آدم أكان مَخلوقاً يأكل ويشرب ويُحدِث وينكح؟ فسألهم النبي، قالوا: نعم، قال فمَن أبوه؟ فبُهِتوا، فأنزل الله:( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ... ) (٢) الآية، وقوله:( فَمَنْ

____________________

(١) آل عمران: ٦١.

(٢) آل عمران: ٥٩.

١٢٦

حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (١) .

فقال رسول الله: فباهلوني، فإنْ كنتُ صادقاً أُنزِلت اللعنة عليكم، وإنْ كنت كاذباً أُنزِلت عليَّ، فقالوا: أنصفت، فتواعدوا للـمُباهلة، فلـمَّا رجعوا إلى منازلهم قال رؤساؤهم - السيِّد والعاقب والأهتم -: إنْ باهَلَنا بقومه باهَلَناه فإنَّه ليس نبيَّاً، وإنْ باهَلَنا بأهل بيته خاصَّة لم نُباهله؛ فإنَّه لا يقدم إلى أهل بيته إلاَّ وهو صادق. فلـمَّا أصبحوا جاؤوا إلى رسول الله ومعه أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام ، فقال النصارى: مَن هؤلاء؟ فقيل لهم: هذا ابن عمِّه ووصيُّه وخَتنه عليُّ بن أبي طالب، وهذه ابنته فاطمة، وهذان ابناه الحسن والحسين، ففَرَقُوا - أيْ خافوا - فقالوا لرسول الله: نُعطيك الرضا فأعفنا مِن الـمُباهلة، فصالحهم رسول الله على الجِزية وانصرفوا)(٢) .

هذه هي قِصَّة الـمُباهلة، والسبب في نزول الآية بعدما رفض النصارى نتيجة الحوار في كون عيسى بن مريمعليه‌السلام مِن البشر، وأصرُّوا على مقالتهم فيه وأنَّه هو ابن الله، تعالى عن ذلك، حوَّل القَرن الموقف إلى تحدِّي بإرجاع الأمر إلى الغيب، وأنَّ الله تعالى هو الذي يُحدِّد الـمُحقَّ مِن الـمُبطل عن طريق إهلاك الطرف الـمُبطل ومحوه مِن ساحة الحياة، بعد ابتهال الطرفين بالدعاء بأنْ يُهلك الله الـمُبطل منهم.

إلاَّ أنَّ وفد النصارى بعد خروج النبي بأهل بيته أعرضوا عن الـمُباهلة؛ وذلك لقناعتهم بصدق الرسول الأعظم، وقبلوا بالخيار الآخر وهو أداء الجزية إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وقد أجمع الـمُفسِّرون والمؤرِّخون على أنَّ النبي لم يخرج إلاَّ بعليٍّ وفاطمة والحسنينعليهم‌السلام .

____________________

(١) آل عمران: ٦١.

(٢) تفسير القُمِّي: ج١ ص١١٢.

١٢٧

وهنا لا بُدَّ لنا مِن أنْ نتساءل: ما هو السِّرُّ في أمر الله تعالى لنبيِّه بإخراج هؤلاء معه للـمُباهلة؟ ألا يكفي خروج النبي بمُفرده للدعاء فاحتاج الموقف إلى خروج أهل بيته؛ لأنَّ الأمر لا يخلو؛ إمّا أنَّ دعاء النبي (صلى لله عليه وآله) يكفي في تحقُّق نتيجة الـمُباهلة، فيكون خروج هؤلاء معه نوعاً مِن العَبث الذي لا غرض مِن ورائه، أو أنَّ خروج هؤلاء أمر لا بُدَّ منه في هذا المقام؟

والجواب: أنَّ الوجه الأخير هو الحَقُّ، فإنَّ خروج النبي بأهل بيته أمر حتميٌّ لا لنقصٍ في ذات الرسول في تحقُّق الدعاء، فإنَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله في اعتقادنا لا يَحجُب دعاه حاجب عن الله تعالى.

ولكنْ لـمَّا كان هذا الموقف يتعلَّق بشؤون الرسالة وتحدِّياتها لسائر الأفكار والأديان والأقوام، فلا بُدَّ مِن وقوف حَمَلَة الرسالة الذين يتمثَّل فيهم الامتداد الطبيعي لصاحب الرسالة مِن بعده، فهُمْ شركاؤه في تجسيد وتمثيل رسالة الله، فلا بُدَّ مِن وجودهم في هذا المقام، فأمر الله نبيَّه بإخراجهم ليتَّضح ارتباطهم بالرسالة ومواقفها.

حيث يُمكن أنْ نتصوَّر أنَّ الله تعالى قد جعل - هنا - دعاء الرسول هو الـمُقتضي لتحقُّق الهلاك وتأمين أهل بيته بمنزلة الشرط لتحقُّق ذلك، فإنَّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله قد قال لهم: (إذا دعوت فأمِّنوا) كما في بعض روايات المقام، إذ مِن المعلوم أنَّ الشيء لا يتحقَّق إلاَّ بوجود الـمُقتضي وتوفُّر الشرط وارتفاع المانع، ولا مانع في البين.

فتبيَّن أنَّ الغاية مِن إخراجهم ليكونوا جزءاً مِن موقف التحدِّي هذا مِن الإسلام للمسيحيَّة؛ لأنَّهم لُحمة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

والجدير بالـمُلاحظة - هنا - أنَّ الحسنينعليهما‌السلام كانا آنذاك في مرحلة الطفولة، حيث لم يمنع كونهم طفلين مِن أنْ يأمر الله الرسول بإخراجهم، وذلك لتميُّزهما على مَن سواهما مِن الأطفال.

١٢٨

مِن خلال ما تقدَّم أخذنا صورة واضحة - وإنْ كانت مُختصرة - عن الأجواء التي نشأ فيها سيِّد الشهداء الإمام الحسينعليه‌السلام ، وعن المقوُّمات الذاتيَّة التي توفَّرت في هذا الإمام، والتي تجعله نسخة أُخرى مِن شخصيَّة جَدِّه الرسول الأعظم، ليتحمَّل في عصره أعباء الإمامة وتتجسَّد فيه الرسالة؛ فيكون هو الأَوْلى بقيادة الأُمَّة.

٤ - نشأة يزيد ومقوَّمات شخصيَّته

أجمع المؤرِّخون أنَّ يزيد بن مُعاوية قد نشأ وتربَّى في البادية عند خؤولته بني كِلاب، وهذه القبيلة كانت نصرانيَّة الاتِّجاه، فترى تربية مزيجة مِن أفكار وعادات مسيحيَّة ومِن عادات وأهواء البادية. تلك الأجواء البعيدة عن منابع الفكر الإسلامي وثقافة القرآن والسُنَّة، (وكان مُرسَل العِنان مع شبانهم الماجنين، فتأثَّر بسلوكهم إلى حَدٍّ بعيد، فكان يشرب معهم الخمر ويلعب معهم بالكلاب)(١) .

يقول عبد الله العلايلي: إذا كان يقيناً أو يُشبه اليقين أنَّ تربية يزيد لم تكن إسلاميَّة خالصة، أو بعبارة أُخرى: كانت مسيحيَّة خالصة؛ فلم يبقَ ما يُستغرب معه أنْ يكون مُتجاوزاً مُستهتراً مُستخفَّاً بما عليه الجماعة الإسلاميَّة، لا يحسب لتقاليدها واعتقادها أيَّ حساب ولا يقيم لها وزناً، بلْ الذي يُستغرب أنْ يكون غير ذلك(٢) .

فإنَّ ذلك أمر طبيعي ونتيجة طبيعيَّة لتلك النشأة وتلك الأجواء الأعرابيَّة، التي تكوَّنت فيها المقوُّمات لشخصيَّة يزيد، فلم يستطع تجاوزها والتستُّر بها، وكان مُتجاهراً وولعاً باللعب بالقرود والكلاب ومُدْمناً على شرب الخمر.

يقول السيِّد مير علي الهندي: كان يزيد غدَّاراً كأبيه، ولكنَّه ليس داهية مثله، كانت

____________________

(١) حياة الإمام الحسين: ج٢: ص١٨٠.

(٢) سموُّ المعنى في سموِّ الذات: ص٥٩.

١٢٩

تنقصه القُدرة على تغليف تصرُّفاته القاسية بستار مِن اللباقة الدبلوماسيَّة الناعمة، وكانت طبيعته الـمُنحلَّة وخُلقه الـمُنحطُّ لا تتسرَّب إليهما شَفقة ولا عدل(١) .

وقد حاول مُعاوية بأنْ يُغيِّر ابنُه مظاهرَ سلوكه العلني؛ ليستطيع إقناع الناس بأنَّ ابنه مؤهَّل لأنْ يحُكم المسلمين مِن بعده، فقال له: (يا بُني، ما أقدرك على أنْ تصير إلى حاجتك مِن غير تهتُّك يذهب بمروءتك وقدرك، ثمَّ أنشده:

انصب نهاراً في طُلاَّب العُلى

واصبر على هَجر الحبيب القريب

حتَّى إذا الليل أتى بالدجا

واكتحلت بالغَمض عين الرقيب

فباشر الليل بما تشتهي

فإنَّما الليل نهار الأريب

كمْ فاسق تحسبه ناسكاً

قد باشر الليل بأمرٍ عجيب(٢)

هكذا أراد مُعاوية لولده بأنْ يلبس نهاراً لباس الفضل والنُّسك والتقوى، وإذا ما جَنَّ عليه الليل أطلق عنان شهواته وغرائزه في كُلِّ ميدان مِن ميادين الملذَّات، التي تحيى بها الليالي الحمراء في حياة أهل الفُسوق والـمُجون.

هذا هو السلوك الأمثل - في نظر مُعاوية - لوليِّ أمر المسلمين، إلاَّ أنَّ معاوية لم يُفلح في تغيير سلوك ابنه وتغليفه باللباس الخادع، بلْ استمرَّ يزيد في طريقة حياته المفضوحة واستهتاره المكشوف.

يا تُرى، إذا كان هكذا قادة الأُمَّة وولاة أُمورها فماذا ينتظر أنْ يكون وضع الأُمَّة ومُستقبل حياتها؟

قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام مُشيراً إلى تأثير سلوك القيادة على حياة الأُمَّة ومسيرتها: (وقد علمتم أنَّه لا ينبغي أنْ يكون الوالي على الفروج والدماء

____________________

(١) نقلاً عن حياة الإمام الحسين: ج٢: ص١٨٠.

(٢) البداية والنهاية ٨: ٢٢٨.

١٣٠

والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل؛ فتكون في أموالهم نَهمته، ولا الجاهل فيُضلَّهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول فيتخذ قوماً دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف عند المقاطع، ولا المعطّل للسُنَّة فيهلك الأُمَّة)(١) .

فلا يُنتظر بأُمَّة يكون أمرها بيد شخص مِثل يزيد بن مُعاوية إلاَّ الانحدار الـمُميت.

والعجب أنَّك ترى برغم هذه الحقائق التاريخيَّة، التي تُعرِّف شخصيَّة يزيد ترى مَن يُدافع عن هذا التاريخ الأسود تاريخ يزيد وسائر الأُمويِّين، ويُحاول أنْ يُصوِّر يزيد بن مُعاوية وكأنَّه ذلك الإنسان المثالي والحاكم الأمثل في تاريخ المسلمين.

فكأنَّما عقُمت الأُمَّة ليس فيها عُظماء وقادة تُقدِّمهم لسائر الأُمَم والشعوب، كنماذج إسلامية يُمثِّلون الواجهة الحضاريَّة للإسلام، وعَقم تاريخ المسلمين فلم يُنتج إلاَّ أمثال يزيد بن مُعاوية والحَجَّاج بن يوسف الثقفي، حتَّى تُدافع عنه مِن خلال الدفاع عن هؤلاء.

٥ - بيعة يزيد بن مُعاوية

البيعة مأخوذة مِن البيع، وكما أنَّ البيع لا يتحقَّق إلاَّ بطرفين، البائع والـمُشتري، كذلك البيعة لها طرفان، وهما المبايِع - بالكسر - وهُمْ أفراد الأُمَّة أو الشعب، والـمُبايَع - بالفتح - وهو القيادة أو الحاكم الذي يتولَّى شؤون الأُمَّة والشعب. فهي على هذا عقد وميثاق بين الطرفين، فالـمُبايع يتعهَّد بالطاعة التامَّة للقيادة، والقيادة بدورها تتعهَّد بالقيام بشؤون الأُمَّة وإدارة حياتها طِبق القوانين السماويَّة.

وتُعتبر هذه البيعة ميثاقاً مُقدَّساً في نظر القرآن الكريم، فإنَّ القرآن اعتبر مُبايعة

____________________

(١) نهج البلاغة قطعة رقم ١٣١ صُبحي الصالح.

١٣١

الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله مِن قِبَل المسلمين بيعة لله تعالى، كما في قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) (١) .

فعلى هذا لا بُدَّ أنْ تعرف الأُمَّة بعد الرسول القائد لـمَن تُعطي بيعتها، فلا بُدَّ أنْ تكون يده يداً تُمثِّل الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله لتكون بيعته بيعة لله تعالى، إلاَّ أنَّ الأُمَّة الإسلاميَّة مُنيت بتلك النكسة، وذلك الانحراف الخطير حتَّى بلغ بها الحال أنْ تُبايع لشخصٍ مِثل يزيد بن مُعاوية.

لقد فُرِضت عليها تلك البيعة بقوَّة السلاح والمال، ولكنْ ذلك لا يُخلِّي الأُمَّة مِن المسؤوليَّة، ولا يُبرِّر لها ذلك الاستسلام والخنوع والسكوت عن ذلك الانحراف.

وطِبق ما يذكره المؤرِّخون أنَّ أوَّل مَن تحرَّك لتحقيق بيعة يزيد هو الـمُغيرة بن شُعبة، وكان والياً على الكوفة مِن قبل مُعاوية، فأحسَّ بأنَّ مُعاوية يُريد عَزله عن ولايته ويولِّي سعيد بن العاص مكانه، فتحرَّك لهذه الـمُهمَّة - بيعة يزيد - وليُقدِّم استقالته مِن هذا المنصب؛ لكي لا تكون عليه حَزازة في عَزله، وسافر إلى الشام واجتمع بيزيد، فأبدى له الإكبار وأظهر له الحُبَّ، وقال له: قد ذهب أعيان صحابة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وكُبراء قريش وذوو أسنانهم، وإنَّما بقي أبناؤهم وأنت مِن أفضلهم وأحسنهم رأياً وأعلمهم بالسُّنَّة والسياسة، ولا أدري ما يمنع أمير المؤمنين أنْ يعقد لك البيعة.

وغزت هذه الكلمات قلب يزيد؛ فشكره وأثنى على عواطفه وقال له: (أترى ذلك يتمُّ)، فكأنَّ يزيد نفسه لم يَكد يُصدِّق أنْ يتمَّ ذلك وأنْ يرضى المسلمون به خليفة؛ لما يعرفه مِن نفسه مِن الصفات التي تُبعده كلَّ البُعد عن مظاهر الحاكم الإسلامي فَضلاً مِن أنْ يكون يحمل روح الإسلام وجوهره.

____________________

(١) الفتح: ١٠.

١٣٢

ولكنْ عندما وجد هذا الدجَّال خاطبه بخطاب التمجيد والتقديس، انطلق إلى أبيه ودخل عليه وأخبر بمقالة الـمُغيرة.

ولا شكَّ أنَّ مُعاوية كان يُفكِّر في الموضوع، ولكنْ كان يضرب أخماساً في أسداس، بأيِّ طريقة يطرح هذه البيعة على الناس، فوجد مَن يدفعه إلى التحرُّك نحو انجاز ما كان يُفكِّر فيه.

فأحضر الـمُغيرة فبادره الـمُغيرة بقوله: (يا أمير المؤمنين، قد رأيت ما كان مِن سفك الدماء والاختلاف بعد عثمان وفي يزيد منك خَلف، فأعقد له، فإنْ حدث بك حَدَث كان كهفاً للناس وخَلفاً منك، ولا تُسفك دماء ولا تكون فتنة، فقال مُعاوية: مَن لي بهذا؟

فقال الـمُغيرة: أنا أكفيك أهل الكوفة، ويكفي زياد أهل البصرة، وليس بعد هذين المصرين أحد يُخالفك؛ فأقرَّه مُعاوية على منصبه وأمره بالـمُبادر إلى الكوفة لتحقيق غايته، ولـمَّا خرج مِن عند مُعاوية قال لحاشيته: لقد وضعت رجل مُعاوية في غرز بعيد على أُمَّة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وفتقت عليه فَتْقاً لا يُرتق.

لَعمري، لقد شخَّص الـمُغيرة هذه البيعة قبل حدوثها بدِقَّة؛ لأنَّه يُدرك مدى آثار هذه المسألة على حياة أُمَّة محمد ومُستقبلها.

وسار الـمُغيرة إلى الكوفة يحمل الشَّرَّ والدمار لأهلها ولعموم المسلمين، وفورَ وصوله عقد اجتماعاً ضَمَّ عُملاء الأُمويِّين فعرض عليهم بيعة يزيد، فأجابوه إلى ذلك وأوفد جماعة منهم إلى دمشق، وجعل عليهم ولده موسى، فلـمَّا انتهوا إلى مُعاوية حفَّزوه على عقد البيعة ليزيد، فشكرهم على ذلك وأوصاهم بالكِتمان، والتفت إلى ابن الـمُغيرة فقال له:

- بكم اشترى أبوك مِن هؤلاء دينهم؟

- بثلاثين ألف درهم.

١٣٣

- لقد هان عليهم دينهم، ثمَّ وصلهم بثلاثين ألف درهم(١) .

وبدأ مُعاوية يُمهِّد لهذه البيعة بمُختلف الأساليب والطُّرق، فسخَّر المال في ذلك ببذله بكلِّ سَخاء للوجوه والأعيان مِن الـمُتاجرين بالضمائر والأديان.

يقول المؤرِّخون: إنَّ مُعاوية دفع إلى عبد الله بن عمر مائة ألف درهم فقَبِلها منه، وكان ابن عمر مِن أصلب الـمُدافعين عن بيعة يزيد(٢) .

كما سخَّر مُعاوية الشعر في الدعاية لبيعة يزيد، فهذا مسكين الدارمي يقول بعدما أوعَز إليه مُعاوية أنْ يحثَّه على بيعة يزيد أمام مَن كان حضر مجلسه مِن أعيان الأُمويِّين وأهل الشام:

ألا ليتَ شِعري ما يقول ابن

عامر ومروان أمْ ماذا يقول سعيد

بني خُلفاء الله مَهلاً فإنَّما

يبوؤها الرحمان حيث يريد

إذا المِنبر الغربي خلاه ربُّه

فإنَّ أمير المؤمنين يزيد

على الطائر الميمون والجِدِّ ساعد

لكلِّ أُناس طائر وجَدود

فلا زلتُ أعلى الناس كعباً ولم يزل

وفود تُساميها إليك وفود

ولا زال بيت الـمُلك فوقك عالياً

تشدُّك أطناب له وعمود(٣)

إضافة إلى ذلك أُسلوب التهديد بالقوَّة، حينما يحتمل وجود مُعارضة مِن أحد لهذه البيعة، فهذا أحد رجاله في جلسة مِن جلساته، التي دعا فيها إلى البيعة لابنه يزيد فعارضه بعض الحضور، فقام يزيد بن الـمُقفع فهدَّد الـمُعارضين باستعمال القوَّة قائلاً: (أمير المؤمنين هذا - وأشار إلى مُعاوية - فإنْ هلك فهذا - وأشار إلى يزيد - ومَن أبى

____________________

(١) حياة الإمام الحسين: ج٢: ص١٩٢.

(٢) حياة الإمام الحسين: ج٢: ص١٩٢.

(٣) حياة الإمام الحسين: ج٢: ص١٩٩ عن تاريخ ابن الأثير.

١٣٤

فهذا، وأشار إلى السيف؛ فاستحسن مُعاوية قوله وراح يقول له: (اجلس فأنت سيِّد الخِباء وأكرمهم)(١) .

وكان مقياس الكَفاءة للخلافة عند مُعاوية، الذي يؤهِّل ابنه لذلك هو حُبُّه لابنه ولا مقياس لديه غير ذلك، وهذا ما يتَّضح مِن كلمته التي ألقاها في مجلس في المدينة المنوَّرة، وقد جمع المجلس عدداً مِن الشخصيَّات: كعبد الله بن عباس، وعبد الله بن جعفر، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وقد عرض عليهم بيعة يزيد فرفضوا له ولم يستجيبوا لذلك، فقال في نهاية الاجتماع: وإنَّه قد ذهبت الآباء وبقيت الأبناء، فابني أحبُّ إليَّ مِن أبنائهم. وكان يُعرِّض بأمير المؤمنينعليه‌السلام ووَلديه الحسنين.

ومَن يدري لعلَّ مُعاوية قال ذلك مُقابل ما قاله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في حَقِّ الحسينينعليهما‌السلام في تعبيره عن حُبِّه لهما! وإنَّ مُعاوية ليُفسِّر كلمات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في سِبطيه الحسنينعليهما‌السلام بأنَّها بدافع العاطفة الـمُجرَّدة! فما الذي يمنعه هو أيضاً مِن حُبِّ وَلده ويجعل له الخلافة ميراثاً يُخلِّفه لولده المحبوب؟!

وعلى كلِّ حال، فلقد تمَّت بيعة يزيد تحت أجواء مِن الإرهاب مِن جِهة والإغراء بالأموال، والإعلام الـمُضلِّل مِن جهة أُخرى.

ولمْ يتمرَّد على هذه البيعة - فرفضَ الاعتراف بها وثار في وجه يزيد مُدلِّلاً على الخطر الذي يُمثِّله حُكم يزيد وآل أُميَّة على الإسلام - لم يَقُمْ بذلك إلاَّ أبو الأحرار الحسين بن عليعليهما‌السلام .

أعلن ذلك عند أوَّل مُحاولة مِن السلطات الأُمويَّة، بعد هَلاك مُعاوية لإخضاع الإمام للبيعة، فقال في مجلس الوليد بن عُتبة بن أبي سفيان:

____________________

(١) حياة الإمام الحسين: ج٢: ص٢٠٣.

١٣٥

(أيُّها الأمير، إنَّا أهل بيت النبوَّة، ومَعدن الرسالة، ومُختلف الملائكة، ومَحلُّ الرحمة، بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد رجلٌ فاسقٌ شاربُ الخمر، قاتل النفس الـمُحترمة مُعلِن بالفِسق، ومِثلي لا يُبايع مِثله، ولكنْ نُصبِح وتُصبِحون، وننظر وتنظرون أيَّنا أحقَّ بالخلافة والبيعة)(١) .

وعندما حاصروه وضيَّقوا عليه الخِناق؛ ليُذعن لهم ويعترف بسلطانهم، رفع أبو الأحرار صوته قائلاً:

(لا والله، لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفرَّ فِرار العبيد)(٢) .

____________________

(١) اللهوف: ص٧١، والفتوح لابن أعثم: ج٥: ص١٤، واللفظ للأوَّل.

(٢) مناقب آل أبي طالب: ج٣: ص٢٢٤، ط الحيدريَّة، وج٤: ص٧٥، ط آخر.

١٣٦

١٣٧

القراءة الثالثة

في البُعد الاجتماعي

أ - تمهيد

ب - دور الأُمويِّين في هَدْم ركائز الـمُجتمع الإسلامي

ج - جماهيريَّة الثورة الحسينيَّة

د - الـمُجتمع الكوفي واستجابة الإمام لرسائلهم

١٣٨

١٣٩

أ - تمهيد

يختلف الإسلام - كرسالة سماويَّة - عن سائر المدارس الاجتماعيَّة الأُخرى، في تحديد الهدف النهائي مِن حياة الإنسان الاجتماعيَّة، فإنَّ المدارس الاجتماعيَّة الأُخرى ترى أنَّ ضرورة الحياة الاجتماعيَّة للإنسان، نابعة مِن ضرورة سَدِّ جميع احتياجاته الحياتيَّة؛ حيث إنَّ الإنسان لن يستطيع في حياة مُنفردة أنْ يَسدَّ احتياجاته بنفسه، بما في ذلك الحاجات المادِّيَّة والنفسيَّة، فلا بُدَّ له مِن حياة اجتماعيَّة؛ ليتمكن مِن سَدِّ تلك الاحتياجات مِن خلال روابطه الاجتماعيَّة.

فهذا هو الهدف النهائي للحياة الاجتماعيَّة في نظر هذه المدارس - ولا سِيَّما المدارس المادِّيَّة منها - والإسلام أيضاً لا يُنكر هذه الضرورة - أعني: ضرورة سَدِّ احتياجات الإنسان - ولعلَّ القرآن الكريم يُشير إلى ذلك في قوله تعالى:( ... نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيَّاً... ) (١) .

فقوله تعالى:( ... لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيَّاً... ) إشارة إلى أنَّ أفراد الـمُجتمع كلٌّ مِن موقعه ودوره يقوم بخدمة الـمُجتمع، ويُشارك في سَدِّ احتياجات الـمُجتمع، فهو مُسخَّر لخدمة الكلِّ بطريقة وأُخرى، إلاَّ أنَّ الإسلام لا يعتبر هذه الضرورة هدفاً نهائيَّاً لحياة

____________________

(١) الزخرف: ٣٢.

١٤٠

أي فئتين من المؤمنين وقع القتال بينهما، وأنّه لا ينبغي لأحد أن يفضّل أي فئة منهما على الأُخرى، حتّى لا تحدث فتنة. (1)

2 - حرّمت الإباضيّة الزواج بين من ربطت بينهما علاقة إثم، وقد كانوا في تحريمهم لهذا الزواج يستندون إلى روح الإسلام الّذي يحارب الفاحشة. (2) وقد انفردوا به من بين سائر المذاهب.

3 - منعت الإباضيّة المسلم من إراقة ماء الوجه والتعرّض لمذلّة السؤال؛ فإذا هانت عليه كرامته، وذهب يسأل الناس الزكاة، حَرُم منها عقاباً له على هذا الهوان، وتعويداً له على الاستغناء عن الناس، والاعتماد على الكفاح. (3)

مؤسّس المذهب الإباضي ودعاته في العصور الأُولى:

قد تعرّفت على عقائد الإباضيّة، فحان البحث عن أئمّتهم ودعاتهم في العصور الأُولى.

1 - عبد الله بن إباض، مؤسّس المذهب:

هو عبد الله بن إباض، المقاعسي، المري، التميمي، ابن عبيد، ابن مقاعس، من دعاة الإباضيّة، بل هو مؤسّس المذهب.

____________________

(1) انظر: الإباضيّة في مصر والمغرب: 61.

(2) الإباضيّة في موكب التاريخ: 111 - 112.

(3) الإباضيّة في موكب التاريخ: 116.

١٤١

قد اشتهرت هذه الفِرقة بالإباضيّة من أوّل يوم، وهذا يدلُّ على أنّه كان لعبد الله بن إباض، دور في نشوء هذه الفِرقة وازدهارها.

2 - جابر بن زيد العماني، الأزدي:

جابر بن زيد، أبو الشعثاء، الأزدي، اليحمدي، البصري، مشهور بكنيته، فقيه الإباضيّة، مات سنة 93هـ، ويقال: مائة. يروي عن عبد الله بن عبّاس.

3 - أبو عبيدة، مسلم بن أبي كريمة (المتوفّى حوالي 158هـ):

مسلم بن أبي كريمة التميمي، توفّي في ولاية أبي جعفر المنصور المتوفّى سنة 158هـ، قال عنه ابن الجوزي: مجهول.

أخذ العلم عن جابر بن عبد الله، وجابر بن زيد، وضمار السعيدي، وجعفر السمّاك وغيرهم.

حمل العلم عنه الربيع بن حبيب الفراهيدي؛ صاحب المسند، وأبو الخطّاب المعافري، وعبد الرحمن بن رستم، وعاصم السدراتي، وغيرهم.

4 - أبو عمرو، ربيع بن حبيب الفراهيدي:

هو من أئمّة الإباضيّة، وهو صاحب المسند المطبوع، ولم نجد له ترجمة وافية في كتب الرجال لأهل السنّة، ويُعدّ في طليعة الجامعين للحديث والمصنّفين فيه.

١٤٢

5 - أبو يحيى عبد الله بن يحيى الكندي:

عبد الله بن يحيى بن عمر الكندي، من حضرموت، وكان قاضياً لإبراهيم بن جبلة؛ عامل القاسم بن عمر على حضرموت، وهو عامل مروان على اليمن، خرج بحضرموت والتفَّ حوله جماعة عام 128هـ، وبسط سيطرته على عُمان واليمن والحجاز، وفي عام 130هـ جهّز مروان بن محمد جيشاً بقيادة عبد الملك بن محمد بن عطيّة السعدي، فكانت بينهم حرب عظيمة، قُتل فيها عبد الله بن يحيى وأكثر من معه من الإباضيّة، ولحق بقيّة الخوارج ببلاد حضرموت.

دول الإباضيّة:

قد قام باسم الإباضيّة، عدد من الدول في أربعة مواضع من البلاد الإسلاميّة:

1 - دولة في عُمان، استقلّت عن الدولة العباسيّة في عهد أبي العباس السفّاح، سنة 132هـ، ولا تزال إلى اليوم.

2 - دولة في ليبيا، سنة 140هـ، ولم تعمّر طويلاً؛ فقد انتهت بعد ثلاث سنوات.

3 - دولة في الجزائر، قامت سنة 160هـ، وبقيت إلى حوالي 190هـ، ثُمَّ قضت عليها الدولة العبيديّة.

١٤٣

4 - دولة قامت في الأندلس، ولا سيّما في جزيرتي ميورقة ومينورقة، وقد انتهت يوم انتهت الأندلس.

هذه هي الإباضيّة، وهذا ماضيهم وحاضرهم، وقد قدّمنا إليك صورة موجزة من تاريخهم ونشأتهم وشخصيّاتهم وعقائدهم.

١٤٤

13

الشِّيعة الإماميّة

الشّيعة لغة واصطلاحاً:

الشيعة لغة هم: الجماعة المتعاونون على أمر واحد في قضاياهم، يقال تشايع القوم إذا تعاونوا، وربّما يطلق على مطلق التابع، قال سبحانه: ( فَاسْتَغَاثَهُ الّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الّذِي مِنْ عَدُوّه ) (1) ، وقال تعالى: ( وَإِنّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) (2) .

وأمّا اصطلاحاً، فلها إطلاقات عديدة، بملاكات مختلفة:

1 - الشيعة: من أحبَّ عليّاً وأولاده باعتبارهم أهل بيت النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الّذين فرض الله سبحانه مودّتهم، قال عزَّ وجلَّ: ( قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلّا الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبَى ) (3) . والشّيعة بهذا المعنى تعمّ كلّ المسلمين، إلاّ النواصب؛ بشهادة أنّهم يصلّون على نبيّهم وآله في صلواتهم وأدعيتهم، ويتلون الآيات النازلة في حقّهم صباحاً ومساءً، وهذا هو الإمام الشافعي يصفهم بقوله:

يـا أهل بيت رسول الله حبكم

فرض من الله في القرآن أنزله

____________________

(1) القصص: 15.

(2) الصافات: 83 - 84.

(3) الشورى: 23.

١٤٥

كـفاكم مـن عـظيم الشأن أنّكم

مَن لم يصلّ عليكم لا صلاة له (1)

2 - من يفضّل عليّاً على عثمان، أو على الخلفاء عامّة، مع اعتقاده بأنّه رابع الخلفاء، وإنّما يقدّم؛ لاستفاضة مناقبه وفضائله عن الرسول الأعظم، والّتي دوّنها أصحاب الحديث في صحاحهم ومسانيدهم.

3 - الشيعة من يشايع علياً وأولاده باعتبار أنّهم خلفاء الرسول وأئمة الناس بعده، نَصَبهم لهذا المقام بأمر من الله سبحانه، وذكر أسماءهم وخصوصيَّاتهم. والشيعة بهذا المعنى هو المبحوث عنه في المقام، وقد اشتُهر بأنّ عليّاً هو الوصيّ حتّى صار من ألقابه، وذكره الشعراء بهذا العنوان في قصائدهم، وهو يقول في بعض خطبه:

«لا يقاس بآل محمد من هذه الأُمّة أحد، ولا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً، هم أساس الدين، وعماد اليقين، إليهم يفيء الغالي، وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حقِّ الولاية، وفيهم الوصيّة والوراثة». (2)

ومُجمل القول: إنّ هذا اللفظ يشمل كلَّ من قال إنّ قيادة الأُمّة لعليّ بعد الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وإنّه يقوم مقامه في كلِّ ما يمتُّ إليه، سوى النبوّة ونزول الوحي عليه، كلّ ذلك بتنصيص من الرسول.

وعلى ذلك، فالمقوّم للتشيّع، وركنه الرّكين، هو القول بالوصاية والقيادة، بجميع شؤونها، للإمام (عليه السّلام)، فالتشيّع هو الاعتقاد بذلك، وأمّا ما سوى ذلك، فليس مقوّماً لمفهوم التشيّع، ولا يدور عليه إطلاق الشيعة.

____________________

(1) الصواعق: 148.

(2) نهج البلاغة: الخطبة 2.

١٤٦

الفصل الأوّل:

مبدأ التشيّع وتاريخ تكوّنه

زعم غير واحد من الكتّاب القدامى والجدد، أنّ التشيّع كسائر المذاهب الإسلاميّة، من إفرازات الصراعات السياسيّة، وذهب بعض آخر إلى القول إنّه نتيجة الجدال الكلامي والصراع الفكري، فأخذوا يبحثون عن تاريخ نشوئه وظهوره في الساحة الإسلاميّة، وكأنّهم يتلقّون التشيّع كظاهرة طارئة على المجتمع الإسلامي، ويظنّون أنّ القطاع الشيعي من جسم الأُمّة الإسلاميّة، باعتباره قطاعاً تكوّن على مرّ الزمن؛ لأحداث وتطورات سياسيّة أو اجتماعيّة أو فكريّة، أدَّت إلى تكوين ذلك المذهب كجزء من ذلك الجسم الكبير، ثُمَّ اتسع ذلك الجزء بالتدريج.

وبعد أن افترض هؤلاء أنّه أمر طارئ، أخذوا بالفحص والتفتيش عن علّته أو علله، فذهبوا في تعيين المبدأ إلى كونه ردّة فعل سياسيّة أو فكريّة، ولكنّهم لو كانوا عارفين أنّ التشيّع وُلِد منذ عهد النبيّ الأكرم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)؛ لَمَا تسرّعوا في إبداء الرأي في ذلك المجال، ولعلموا أنّ التشيّع والإسلام وجهان لعملة واحدة، وليس للتشيّع تاريخ ولا مبدأ، سوى تاريخ الإسلام ومبدئه، وانّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) هو الغارس لبذرة التشيّع في صميم الإسلام، من أوّل يوم أمَر بالصدع وإظهار الحقيقة، إلى أن لبىَّ دعوة ربه.

١٤٧

فالتشيّع ليس إلاّ عبارة عن استمرار قيادة النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بعد وفاته، عن طريق من نصبه إماماً للناس وقائداً للأُمّة، حتّى يرشدها إلى النهج الصحيح والهدف المنشود، وكان هذا المبدأ أمراً ركّز عليه النبيّ في غير واحد من المواقف الحاسمة، فإذا كانّ التشيع متبلوراً في استمرار القيادة بالوصيّ، فلا نجد له تاريخاً سوى تاريخ الاسلام، والنصوص الواردة عن رسوله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).

والشيعة هم المسلمون من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان في الأجيال اللاحقة، هم الّذين بقوا على ما كانوا عليه في عصر الرسول في أمر القيادة، ولم يغيّروه، ولم يتعدّوا عنه إلى غيره، ولم يأخذوا بالمصالح المزعومة في مقابل النصوص، وصاروا بذلك المصداق الأبرز لقوله سبحانه: ( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَرسُولِهِ وَاتّقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (1) .

ففزعوا في الأُصول والفروع إلى عليّ وعترته الطاهرة، وانحازوا عن الطائفة الأُخرى؛ الّذين لم يتعبدوا بنصوص الخلافة والولاية وزعامة العترة؛ حيث تركوا النصوص وأخذوا بالمصالح.

إنّ الآثار المرويّة في حق شيعة الإمام عن لسان النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ترفع اللّثام عن وجه الحقيقة، وتُعرب عن التفاف قسم من المهاجرين حول الوصيّ، فكانوا معروفين بشيعة عليّ في عصر الرسالة، وأنّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وصفهم في كلماته بأنّهم هم الفائزون، وإن كنت في شك من هذا الأمر، فسأتلو عليك بعض ما ورد من النصوص في المقام.

____________________

(1) الحجرات: 1.

١٤٨

1 - أخرج ابن مردويه، عن عائشة، قالت: قلت: يا رسول الله من أكرم الخلق على الله؟، قال: يا عائشة، أما تقرأين ( إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيّةِ ) (1) . (2)

2 - أخرج ابن عساكر، عن جابر بن عبد الله، قال: كنّا عند النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فأقبل عليّ، فقال النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «والّذي نفسي بيده، إنّ هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة»، ونزلت: ( إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيّةِ ) ، فكان أصحاب النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، إذا أقبل عليّ قالوا: جاء خير البريّة. (3)

3 - أخرج ابن عدي، عن ابن عبّاس، قال: لمّا نزلت ( إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيّةِ ) قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لعلي: «هو أنت وشيعتك يوم القيامة، راضين مرضيّين». (4)

4 - أخرج ابن مردويه، عن عليّ، قال: قال لي رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «ألم تسمع قول الله: ( إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيّةِ ) أنت وشيعتك، وموعدي وموعدكم الحوض، إذا جاءت الأُمم للحساب تدعون غرّاً محج<لين». (5)

5 - روى ابن حجر في صواعقه، عن أُم سلمة: كانت ليلتي، وكان النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عندي، فأتته فاطمة، فتبعها عليّ (رضي الله عنه)، فقال النبيّ: «يا عليّ أنت وأصحابك في الجنّة، أنت وشيعتك في الجنة». (6)

____________________

(1) البينة: 7.

(2 و3 و4 و5) الدر المنثور: 6/589.

(6) الصواعق: 161.

١٤٩

6 - روى أحمد في المناقب: إنّه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قال لعليّ: «أمَا ترضى أنّك معي في الجنّة، والحسن والحسين وذريّتنا خلف ظهورنا، وأزواجنا خلف ذريّتنا، وشيعتنا عن أيماننا وشمائلنا». (1)

7 - أخرج الديلمي: (يا عليّ، إنّ الله قد غفر لك ولذريّتك ولولدك ولأهلك ولشيعتك، فابشر إنّك الأنزع البطين). (2)

8 - روى المغازلي بسنده عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «يدخلون من أُمّتي الجنة سبعون ألفاً لا حساب عليهم»، ثُمَّ التفت إلى عليّ، فقال: «هم شيعتك وأنت أمامهم». (3)

إلى غير ذلك من الروايات الّتي تُعرب عن أنّ عليّاً (عليه السّلام) كان متميّزاً بين أصحاب النبيّ؛ بأنّ له شيعة وأتباعاً، ولهم مواصفات وسمات كانوا مشهورين بها، في حياة النبيّ وبعدها.

الشيعة في كلمات المؤرّخين وأصحاب الفِرق:

قد غلب استعمال الشيعة بعد عصر الرسول، تبعاً له فيمن يوالي عليّاً وأهل بيته، ويعتقد بإمامته ووصايته، ويَظهر ذلك من خلال كلمات المؤرّخين وأصحاب المقالات؛ نشير إلى بعضها:

1 - روى المسعودي في حوادث وفاة النبيّ: إنّ الإمام عليّاً أقام ومن

____________________

(1) الصواعق: 161.

(2) المصدر نفسه.

(3) مناقب المغازلي: 293.

١٥٠

معه من شيعته في منزله، بعد أن تمّت البيعة لأبي بكر. (1)

2 - وقال النوبختي (المتوفّى 313هـ): إنّ أوّل الفِرق، الشيعة؛ وهم فِرقة عليّ بن أبي طالب، المسمّون شيعة عليّ في زمان النبيّ وبعده، معروفون بانقطاعهم إليه، والقول بإمامته. (2)

3 - وقال أبو الحسن الأشعري: وإنّما قيل لهم: الشيعة، لأنّهم شايعوا عليّاً، ويقدّمونه على سائر أصحاب رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم). (3)

4 - ويقول الشهرستاني: الشيعة هم الّذين شايعوا عليّاً في الخصوص، وقالوا بإمامته وخلافته نصّاً ووصيّةً. (4)

5 - وقال ابن حزم: ومن وافق الشيعة في أنّ عليّاً أفضل الناس بعد رسول الله وأحقّهم بالإمامة، وولْده من بعده. (5)

هذا غيض من فيض، وقليل من كثير، ممّا جاء في كلمات المؤرّخين وأصحاب المقالات، تُعرب عن أنّ لفيفاً من الأُمّة في حياة الرسول وبعده، إلى عصر الخلفاء وبعدهم، كانوا مشهورين بالتشيّع لعليّ، وأنّ لفظة الشيعة ممّا نطق بها الرسول وتبعته الأُمّة عليه.

____________________

(1) الوصيّة: 121.

(2) فِرق الشيعة: 15.

(3) مقالات الإسلاميّين: 1/65.

(4) الملِل والنحل: 1/131.

(5) الفصل في الملِل والنحل: 2/113.

١٥١

رواد التشيع في عصر النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم):

وإليك أسماء لفيف من الصحابة الشيعة المعروفين بالتشيّع:

1 - عبد الله بن عبّاس. 2 - الفضل بن العبّاس. 3 - عبيد الله بن العبّاس. 4 - قثم بن العبّاس. 5 - عبد الرحمن بن العبّاس. 6 - تمام بن العبّاس. 7 - عقيل بن أبي طالب. 8 - أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب. 9 - نوفل بن الحرث. 10 - عبد الله بن جعفر بن أبي طالب. 11 - عون بن جعفر. 12 - محمد بن جعفر. 13 - ربيعة بن الحرث بن عبد المُطّلب. 14 - الطفيل بن الحرث. 15 - المغيرة بن نوفل بن الحارث. 16 - عبد الله بن الحرث بن نوفل. 17 - عبد الله بن أبي سفيان بن الحرث. 18 - العبّاس بن ربيعة بن الحرث. 19 - العبّاس بن عُتبة بن أبي لهب. 20 - عبد المُطّلب بن ربيعة بن الحرث. 21 - جعفر بن أبي سفيان بن الحرث.

هؤلاء من مشاهير بني هاشم، وأمّا غيرهم، فإليك أسماء لفيف منهم:

22 - سلمان المحمّدي. 23 - المقداد بن الأسود الكندي. 24 - أبوذر الغفاري. 25 - عمّار بن ياسر. 26 - حذيفة بن اليمان. 27 - خزيمة بن ثابت. 28 - أبو أيّوب الأنصاري. 29 - أبو الهيثم مالك بن التيهان. 30 - أُبي بن كعب. 31 - سعد بن عبادة. 32 - قيس بن سعد بن عبادة. 33 - عدي بن حاتم. 34 - عبادة بن الصامت. 35 - بلال بن رباح الحبشي. 36 - أبو رافع مولى رسول الله. 37 - هاشم بن عتبة. 38 - عثمان بن حُنيف. 39 - سهل بن حُنيف. 40 - حكيم بن جبلة العبدي. 41 - خالد بن سعيد بن العاص. 42 - أبو الحصيب الأسلمي. 43 - هند بن أبي هالة

١٥٢

التميمي. 44 - جعدة بن هبيرة. 45 - حجر بن عدي الكندي. 46 - عمرو بن الحمق الخزاعي. 47 - جابر بن عبد الله الأنصاري. 48 - محمّد بن أبي بكر. 49 - أبان بن سعيد بن العاص. 50 - زيد بن صوحان الزيدي.

هؤلاء خمسون صحابيّاً من الطبقة العليا للشيعة، فمن أراد التفصيل والوقوف على حياتهم وتشيّعهم، فليرجع إلى الكتب المؤلَّفة في الرجال.

١٥٣

الفصل الثاني:

شبهات حول تاريخ الشيعة

قد تعرّفت على تاريخ التشيع، وأنّه ليس وليد الجدال الكلامي، ولا إنتاج السياسات الزمنيّة؛ وإنّما هو وجه آخر للإسلام، وهما وجهان لعملة واحدة، إلاّ أنّ هناك جماعة من المؤرّخين وكتّاب المقالات، ظنّوا أنّ التشيّع أمر حادث وطارئ على المجتمع الإسلامي، فأخذوا يفتّشون عن مبدئه ومصدره، وراحوا يثيرون الشبهات حول تاريخه، وإليك استعراض هذه الشبهات نقداً وتحليلاً.

الشبهة الأُولى:

الشيعة ويوم السقيفة

إنّ مأساة السقيفة جديرة بالقراءة والتحليل، وقد تخيّل لبعض المؤرخين أنّ التشيّع ظهر بعدها.

يقول الطبري: اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة؛ ليبايعوا سعد بن عبادة، فبلغ ذلك أبا بكر، فأتاهم ومعه عمر وأبو عبيدة بن الجراح، فقال: ما هذا؟، فقالوا: منّا أمير ومنكم أمير، فقال أبو بكر: منّا الأمراء ومنكم الوزراء - إلى أن

١٥٤

قال: - فبايعه عمر، وبايعه الناس، فقالت الأنصار أو بعض الأنصار: لا نبايع إلاّ عليّاً، ثُمَّ قال: أتى عمر بن الخطاب منزل عليّ، وفيه طلحة والزّبير ورجال من المهاجرين، فقال: والله لأحرقنّ عليكم أو لتخرجنّ إلى البيعة، فخرج عليه الزبير مسلطاً بالسيف فعثر، فسقط السيف من يده، فوثبوا عليه فأخذوه.

وقال أيضاً: وتخلّف عليّ والزّبير، واخترط الزبير سيفه، وقال: لا أغمده حتّى يُبَايَع عليّ، فبلغ ذلك أبا بكر وعمر، فقالا: خذوا سيف الزبير. (1)

يُلاحظ عليه: أنّ هذه النصوص تدلّ على أنّ فكرة التشيّع لعليّ، كانت مختمرة في أذهانهم منذ عهد الرسول إلى وفاته، فلمّا رأت الجماعة أنّ الحق خرج عن محوره، عمدوا إلى التمسّك بالحق بالاجتماع في بيت عليّ، الّذي أوصّاهم النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) به طيلة حياته؛ إذ من البعيد جداً أن يجتمع رأيهم على عليّ في يوم واحد في ذلك اليوم العصيب، فالمعارضة كانت استمراراً لما كانوا يلتزمون به في حياة النبيّ، ولم تكن فكرة خلقتها الظروف والأحداث.

كان أبوذر وقت أخذ البيعة غائباً، ولمّا جاء، قال: أصبتم قناعة، وتركتم قرابة، لو جعلتم الأمر في أهل بيت نبيّكم، لَمَا اختلف عليكم اثنان. (2)

وقال سلمان: أصبتم ذا السن، وأخطأتم المعدن، أمّا لو جعلتموه فيهم، ما اختلف منكم اثنان، ولأكلتموها رغداً.

وروى الزبير بن بكار في الموفقيّات: إنّ عامّة المهاجرين، وجلّ الأنصار، كانوا لا يشكّون أنّ عليّاً هو صاحب الأمر.

____________________

(1) تاريخ الطبري: 2/443 - 444.

(2) تاريخ اليعقوبي: 2/103.

١٥٥

وروى الجوهري في كتاب السقيفة: إنّ سلمان والزبير وبعض الأنصار، كان هواهم أن يبايعوا عليّاً.

وروى أيضاً: إنّه لمّا بويع أبو بكر واستقرَّ أمره، ندم قوم كثير من الأنصار على بيعته، ولام بعضهم بعضاً، وهتفوا باسم الإمام عليّ، ولكنّه لم يوافقهم. (1)

ومن المستحيل عادة، اختمار تلك الفكرة بين هؤلاء، في يوم واحد، بل يُعرب ذلك عن وجود جذور لها، قبل رحلة النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، ويؤكد ذلك نداءاته الّتي ذكرها في حق عليّ وعترته، في مواقف متعدّدة، فامتناع الصحابة عن بيعة الخليفةن ومطالبتهم بتسليم الأمر إلى عليّ؛ إنّما هو لأجل مشايعتهم لعليّ زمن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وما هذا إلاّ إخلاصاً و وفاءاً منهم للنبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وأين هو من تكوّن التشيع يوم السقيفة؟!

الشبهة الثانية:

التشيّع صنيع عبد الله بن سبأ

كتب الطبري في تاريخه يقول:

كان عبد الله بن سبأ يهوديّاً من أهل صنعاء، أُمّه سوداء، فأسلم زمان عثمان، ثُمَّ تنقّل في بلدان المسلمين يحاول إضلالهم، فبدأ بالحجاز، ثُمَّ البصرة، ثُمَّ الكوفة، ثُمَّ الشام، فلم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشّام، فأخرجوه حتّى أتى

____________________

(1) شرح نهج البلاغة: 6/43 - 44.

١٥٦

مصر، فاعتمر فيهم، فقال لهم فيما يقول: لعجب ممّن يزعم أنّ عيسى يرجع، ويكذِّب بأنّ محمّداً يرجع، وقد قال الله عز وجل: ( إِنّ الّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادّكَ إِلَى‏ مَعَادٍ ) (1) ، فمحمّد أحق بالرجوع من عيسى، قال: فقُبل ذلك عنه، ووضع لهم الرجعة، فتكلّموا فيها، ثُمَّ قال لهم بعد ذلك: إنّه كان ألف نبيّ، ولكلّ نبيّ وصيّ، وكان عليّ وصيّ محمّد، ثُمَّ قال: محمّد خاتم الأنبياء، وعليّ خاتم الأوصياء، وإنّ عثمان غاصب حق هذا الوصيّ وظالمه، فيجب مناهضته لإرجاع الحق إلى أهله.

وقد بثّ عبد الله بن سبأ دُعاته في البلاد الإسلاميّة، وأشار عليهم أن يُظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والطعن في الأُمراء، فمال إليه وتبعه على ذلك جماعات من المسلمين، فيهم الصحابي الكبير، والتابعي الصالح، من أمثال: أبي ذر، وعمّار بن ياسر، ومحمّد بن حذيفة، وعبد الرحمن بن عديس، ومحمّد بن أبي بكر، وصعصعة بن صوحان العبدي، ومالك الأشتر، إلى غيرهم من أبرار المسلمين وأخيارهم، فكانت السبئيّة تثير الناس على ولاتهم، تنفيذاً لخطة زعيمها، وتضع كتباً في عيوب الأمراءن وترسل إلى غير مصرهم من الأمصار، فنتج عن ذلك قيام جماعات من المسلمين؛ بتحريض السبئيّين، وقدومهم إلى المدينة، وحصرهم عثمان في داره؛ حتّى قتل فيها، كلّ ذلك كان بقيادة السبئيّين ومباشرتهم.

إنّ المسلمين بعدما بايعوا علياً، ونكث طلحة والزبير بيعتهما، وخرجا إلى البصرة، رأى السبئيّون أنّ رؤساء الجيشين أخذوا يتفاهمون، وأنّه إن تمّ ذلك

____________________

(1) القصص: 85.

١٥٧

سيؤخذون بدم عثمان، فاجتمعوا ليلاً وقرروا أن يندسّوا بين الجيشين، ويثيروا الحرب بكرة، دون علم غيرهم، وإنّهم استطاعوا أن ينفّذوا هذا القرار الخطير في غلس الليل، قبل أن ينتبه الجيشان المتقاتلان، فناوش المندسّون من السبئيّين في جيش عليّ، من كان بإزائهم من جيش البصرة، ففزع الجيشان وفزع رؤساؤهما، وظنّ كلّ بخصمه شرّاً، ثُمَّ إنّ حرب البصرة وقعت بهذا الطريق، دون أن يكون لرؤساء الجيشين رأي أو علم. (1)

إلى هنا انتهت قصة السبئيّة؛ الّتي ذكرها الطبري في تاريخه.

نظرنا في الموضوع:

1 - إنّ ما جاء في تاريخ الطبري من القصة، لا يصحّ نسبته إلاّ إلى عفاريت الأساطير ومردة الجن؛ إذ كيف يصحّ لإنسان أن يصدّق أنّ يهوديّاً جاء من صنعاء، وأسلم في عصر عثمان، استطاع أنّ يُغري كبار الصحابة والتابعين ويخدعهم، ويطوف بين البلاد، واستطاع أن يكوّن خلايا ضدَّ عثمان، ويستقدمهم إلى المدينة، ويؤلّبهم على الخلافة الإسلاميّة، فيهاجموا داره ويقتلوه، بمرأى ومسمع من الصحابة العدول ومن تبعهم بإحسان، هذا شيء لا يحتمله العقل، وإن وطّن على قبول العجائب والغرائب!!

إنّ هذه القصّة تمسّ كرامة المسلمين والصحابة والتابعين، وتصوّرهم أُمّه ساذجة؛ يغترّون بفكر يهوديٍّ وفيهم السادة والقادة والعلماء والمفكرون.

2 - إنّ القراءة الموضوعيّة للسيرة والتاريخ، تُوقفنا على سيرة عثمان بن

____________________

(1) انظر تاريخ الطبري: 3/378، نقل بتصرف وتلخيص.

١٥٨

عفّان، ومعاوية بن أبي سفيان، فإنّهما كانا يعاقبان المعارضين لهم، وينفون المخالفين ويضربونهم، فهذا أبوذر الغفاري نفاه عثمان من المدينة إلى الربذة؛ لاعتراضه عليه في تقسيم الفيء وبيت المال بين أبناء بيته، كما أنّ غلمانه ضربوا عمّار بن ياسر؛ حتّى أنفتق له فتق في بطنه، وكسروا ضلعاً من أضلاعه. إلى غير ذلك من مواقفهم من مخالفيهم ومعارضيهم، ومع ذلك نرى أنّ رجال الخلافة وعمالها، يغضّون الطرف عمّن يؤلّب الصحابة والتابعين على إخماد حكمهم، وقتل خليفتهم في عقر داره، ويجر الويل والويلات على كيانهم!!

3 - إنّ رواية الطبري، نقلت عن أشخاص لا يصحّ الاحتجاج بهم؛ مثلاً: السري؛ الّذي يروي عنه الطبري، إنّما هو أحد رجلين:

أ - السري بن إسماعيل الهمداني؛ الّذي كذّبه يحيى بن سعيد، وضعّفه غير واحد من الحفّاظ. (1)

ب - السري بن عاصم بن سهل الهمداني؛ نزيل بغداد (المتوفّى عام 258هـ)، وقد أدرك ابن جرير الطبري شطراً من حياته؛ يربو على ثلاثين سنة، كذّبه ابن خراش، ووهّاه ابن عدي، وقال: يسرق الحديث، وزاد ابن حبان: ويرفع الموقوفات؛ لا يحلّ الاحتجاج به، فالاسم مشترك بين كذّابين، لا يهمّنا تعيين أحدهما.

4 - عبد الله بن سبأ، أسطورة تاريخيّة، لأنّ القرائن والشواهد والاختلاف الموجود في حق الرجل ومولده، وزمن إسلامه، ومحتوى دعوته، يُشرف

____________________

(1) ميزان الاعتدال: 2/117.

١٥٩

المحقّق على القول: بأنّ عبد الله بن سبأ، شخصيّة خرافيّة، وضعها القصّاصون، وأرباب السمر والمجون، في عصر الدولتين: الأُمويّة والعباسيّة.

وفي المقام كلام للكاتب المصري الدكتور طه حسين، يدعم كون الرجل أسطورة تاريخيّة، حاكها أعداء الشيعة، نكاية بالشيعة؛ حيث قال:

وأكبر الظنِّ أنّ عبد الله بن سبأ هذا، إنّما قال ودعا إلى ما دعا إليه بعد أن كانت الفتنة، وعظم الخلاف، فهو قد استغلَّ الفتنة ولم يثرها.

إنّ خصوم الشيعة أيّام الأُمويّين والعباسيّين، قد بالغوا في أمر عبد الله بن سبأ هذا، ليشكّكوا في بعض ما نسب من الأحداث إلى عثمان وولاته، من ناحية، وليشنعوا على عليّ وشيعته من، ناحية أُخرى، فيردوا بعض أُمور الشيعة إلى يهوديٍّ أسلم كيداً للمسلمين، وما أكثر ما شنّع خصوم الشيعة على الشيعة؟!، وما أكثر ما شنع الشيعة على خصومهم؛ في أمر عثمان، وفي غير أمر عثمان؟

فلنقف من هذا كلّه، موقف التحفّظ والتحرّج والاحتياط، ولنُكبر المسلمين في صدر الإسلام عن أن يعبث بدينهم وسياستهم وعقولهم ودولتهم، رجل أقبل من صنعاء وكان أبوه يهوديّاً وكانت أُمّه سوداء، وكان هو يهوديّاً ثُمَّ أسلم لا رغباً ولا رهباً، ولكن مكراً وكيداً وخداعاً، ثُمَّ أُتيح له من النجاح ما كان يبتغي، فحرّض المسلمين على خليفتهم حتّى قتلوه، وفرّقهم بعد ذلك أو قبل ذلك شيعاً وأحزاباً.

هذه كلّها أُمور لا تستقيم للعقل، ولا تثبت للنقد، ولا ينبغي أنّ تُقام عليها أُمور التاريخ. (1)

____________________

(1) الفتنة الكبرى: 134.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276