قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة14%

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة مؤلف:
الناشر: المؤسّسة الإسلاميّة للبحوث والمعلومات
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 276

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة
  • البداية
  • السابق
  • 276 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 50406 / تحميل: 5944
الحجم الحجم الحجم
قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

مؤلف:
الناشر: المؤسّسة الإسلاميّة للبحوث والمعلومات
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (١) ، فقد علَّقت الآية حُبَّ الله لعبده على اتِّباعه للرسول في رسالته، فإذا قال الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله : (أحبَّ الله مَن أحبَّ حسيناً)، فإنَّ ذلك يعني أنَّ حُبَّ الحسين جزء مِن الرسالة الإلهيَّة، بلْ حُبُّه مع سائر أهل البيت هو روح الرسالة، وإلاَّ فماذا يعني قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : (مَن مات على حُبِّ آل محمد مات شهيداً، ألا ومَن مات على حُبِّ آل محمد مات مغفوراً له، ألا ومَن مات على حُبِّ آل محمد مات تائباً، ألا ومَن مات على حُبِّ آل محمد مات مؤمناً مُستكمل الإيمان، ألا ومَن مات على حُبِّ آل محمد بشَّره مَلك الموت بالجَنَّة ثمَّ مَنكر ونكير، ألا ومَن مات على حُبِّ آل محمد يُزفُّ إلى الجَنَّة كما تُزفُّ العروس إلى بيت زوجها، ألا ومَن مات على حُبِّ آل محمد فُتح في قبره بابان إلى الجَنَّة، ألا ومَن مات على حُبِّ آل محمد جُعل قبره مزار ملائكة الرحمة، ألا ومَن مات على حُبِّ آل محمد مات على السُّنَّة والجماعة، ألا ومَن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آيس مِن رحمة الله)(٢) .

يا تُرى، كيف تكون لهذا الحُبِّ هذه الآثار، ما لم يكن هو روح الإسلام وجوهر الإيمان، ليكون قائداً للإنسان المسلم إلى طاعة الله والالتزام برسالته، وحُبُّ الحسينعليه‌السلام شَطر مِن هذا الحُبِّ؟ فلاغَرْوَ أنْ يكون حُبُّه سبباً لحُبِّ الله تعالى.

وأمَّا وصف الرسول للحسينعليه‌السلام بقوله: (حسين سِبط مِن الأسباط) فقد أراد به أنَّه أُمَّة مِن الأُمم، قائم بذاته ومُستقلٌّ بنفسه، فهو أُمَّة مِن الأُمم في الخير، وأُمَّة مِن الشرف في جميع الأجيال والآباد(٣) .

____________________

(١) آل عمران: ٣١.

(٢) الـمُراجعات ص٤٩ - ٥١، تحقيق فضيلة الشيخ حسين الراضي.

(٣) حياة الإمام الحسين: ج١: ص٩٥.

١٢١

هذه هي النتيجة الطبيعيَّة والمعقولة لتلك التربية الرَّبَّانيَّة، التي عاشها سيِّد الشهداء في ظِلِّ تلك الأجواء الملائكيَّة، وهذا هو التفسير الـمُناسب لذلك الاهتمام الـمُنقطع النظير مِن ذلك الجَدِّ الأقدس بسبطه وقُرَّة عينه.

وقد أثار أبو عبد الله هذه المسألة في بعض بيانات ثورته الـمُقدَّسة، فأشار إلى علاقته بجَدِّه الرسول وبعض أقوال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في حَقِّه وحَقِّ أخيه وأهل بيتهعليهم‌السلام حينما قال:

(أيُّها الناس، انسبوني مَن أنا ثمَّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها وانظروا هلْ يَحلُّ لكم قَتلي وانتهاك حُرمتي؟ ألستُ ابن بنت نبيِّكم وابن وصيِّه وابن عَمِّه، وأوَّل المؤمنين بالله والـمُصدِّق لرسوله بما جاء مِن عند رَبِّه؟ أوَليس جعفر الطيَّار عَمِّي؟ أوَلم يبلغكم قول رسول الله فيَّ ولأخي: (هذان سيِّدا شباب أهل الجَنَّة)؟ فإنْ صدَّقتموني بما أقول وهو الحَقُّ، والله ما تعمَّدت الكَذب منذ علمت أنَّ الله يمقت عليه أهله ويُضرُّ به مَن اختلقه، وإنْ كذَّبتموني فإنَّ فيكم مَن إذا سألتموه أخبركم، سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري، وأبا سعيد الخِدري، وسهل بن سعد الساعدي، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك يخبروكم أنَّهم سمعوا هذه المقالة مِن رسول الله لي ولأخي، أما في هذا حاجز لكم عن سَفْك دَمْي)(١) .

____________________

(١) حياة الإمام الحسين: ج٣: ص١٨٥.

١٢٢

فجر الإمامة مِن جبينك يشرق

نوراً ومَهدك بالقَداسة ينطق

في يوم مولدك الأغرِّ ترادفت

زمر الملائك حول مهدك تحدِق

وبنفحةٍ مِن قُدس مَهدك فُرِّجتْ

كُرَبٌ ليونس كاد فيها يغرق

ما كان مَهدك غير قلب محمد

في كلِّ آنٍ بالحنان تطوق

بوركت مولوداً على قسماته

إشراقة بعبير أحمد تَعبق

ورضعت مِن ثدي القداسة والتُّقى

يسقيك مِن روح الجلال فيُغدق

ونشأت في حِجر الطهارة والهُدى

والحَقُّ دوماً في ضميرك مُشرق

ودرجت في بيت تُظلِّله السما

بالوحي حيث فناؤه يتألَّق(١)

* * *

٣ - الحسين في رِحاب القرآن

في النقطة السابقة استوحينا بعض تصريحات الرسول الأعظم في حَقِّ سِبطه الحسين، وما هي دلالات ذلك، وأمَّا في هذه النقطة فنستوحي القرآن الكريم في حديثه عن الحسينعليه‌السلام ، فإنَّه ربيب الوحي وقَرين القرآن، نستوحي ذلك مِن خلال وقفات قصيرة أمام نموذجين قرآنيَّين، مِن الآيات التي تتحدَّث عن أهل البيتعليهم‌السلام .

الآية الأُولى: قوله تعالى:( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (٢) .

تُمثِّل هذه الآية الكريمة الوسام الإلهي، الذي منحه الباري تعالى لأهل هذا البيت بإذهابه الرجس عنهم، وقد جاءت لفظة:( الرِّجْسَ ) هنا مُحلاَّة بالألف واللام؛ لتنفي

____________________

(١) مِن قصيدة للمؤلِّف في مولد الإمام الحسينعليه‌السلام .

(٢) الأحزاب: ٣٢.

١٢٣

مُطلق الرجس وهو كلُّ قذرٍ نَجَس، فإنَّ الله تعالى قد أذهب عن أهل البيت القذارة الفكريَّة، والقذارة القلبيَّة والقذارة الأخلاقيَّة والروحيَّة.

وما ورد في بعض الأحيان مِن تفسير (الرِّجْسَ) بالذَّبِّ، أو الإشراك، أو البُخل، أو الحسد، أو الاعتقاد الباطل وأمثال ذلك، فإنَّه في الحقيقة بيان لمصاديقه، وإلاّ فإنَّ مفهوم هذه الكلمة عامٌّ وشامل لكلِّ أنواع الحماقات بحُكم الألف واللام التي وردت هنا، والتي تُسمَّى بألف ولام الجنس(١) .

إنَّ (الرجس داء يُصيب الروح وينال مِن سلامتها، فالخمر والـمَيِسر كانا رِجساً لأنَّهما يسلُبان العقل ويملآن فراغه في الصدر بُغضاً وعداوة، فهما يُضيِّقان الخِناق على البعد الملكوتي في النفس الإنسانيَّة ويصدَّانها عن السموِّ والتكامل.

فالصدور الكَدِرَة الـمُتمثِّلة بالرذائل مُبتلاة بالرجس، ومثل هذه الصدور تفتقد الأرضيَّة لتلقِّي الفضائل واستقبال المحاسن، وتتقاعس عن السعي في طريق الكمال والأخذ بأسباب النجاة، وتجدها تقضي حياتها أسيرة في حبائل الشهوات مُتردِّية في مُستنقعات الحِقد والحَسد، وهذا التلوُّث بالرجس هو الذي يقود البشريَّة إلى الدمار، ويسوقها نحو مصيرٍ مؤسف ومُستقبَل مُظلمٍ.

وعلى أيَّة حال فإنَّ جميع الأمراض الروحيَّة والآفات الأخلاقية، التي تخفت أُوار الحَقِّ وبريق إشعاعه في ضمير الإنسان، وتُكدِّر صفاء الروح وتنال مِن عظمة النفس، وتقضي على الخير المودع فيها، والذي يتجلَّى في صور التسليم للحَقِّ والإذعان للحقيقة بعد السعي لها وللقيم المعنويَّة العالية(٢) .

كلُّ ذلك رجس وكلُّ ذلك قد أذهبه الله تعالى عن أهل البيتعليهم‌السلام ، ولا شكَّ أنَّ هذا الوسام الذي لا يُدانيه وسام لم يُعطَ لأهل البيت اعتباطاً وجُزافاً مِن دون أنْ يكون

____________________

(١) آية التطهير رؤية مُبتكَرة: ص١١٦.

(٢) آية التطهير رؤية مُبتكَرة: ص١١٦.

١٢٤

لديهم الاستعداد الذاتي لتقبُّل هذا الفيض الإلهي؛ لأنَّ الفيوضات الرَّبَّانيَّة إنَّما تصل إلى كلِّ مخلوقٍ بقدر قابليَّته واستعداده، كما ضرب القرآن الكريم مثالاً لذلك بقوله تعالى:( أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ) (١) .

حيث علم الله تعالى منهم - سابقاً - أنَّهم سوف يعملون بأمره، ويجتهدون في طاعته، ويسعون لتحقيق رضاه ويُسلِّمون له بالتسليم الـمُطلَق، وذلك بمحض إرادتهم واختيارهم، فمنحهم هذا الوسام الرفيع؛ فأذهب عنهم كلَّ ما يحول بينهم وبينه؛ لعلمه بأنَّهم يُريدون ذلك فأراده لهم، وهذه العصمة المانعة مِن كلِّ ذنبٍ.

والسؤال هنا: ماذا يُراد مِن هذا التأكيد القرآني على تطهير هؤلاء؟ فهل يعني ذلك مُجرَّد البيان فقط أنَّ هؤلاء يتمتَّعون بهذا المقام، مِن غير أنْ يكون وراء ذلك البيان أيُّ غرضٍ آخر وهدفٍ عمليٍّ؟

وهذا ما لا يجوز أنْ ننسبه إلى كتاب الله العزيز، الذي جاء ليفتح باب الهداية الرَّبَّانيَّة للإنسان، ويدلَّه على الطريق السويِّ والصراط الـمُستقيم، لكي لا يبقى يتخبَّط في متاهات الطريق.

فالـمُراد هنا الكشف عن الأشخاص الذين يملكون كلَّ مُقوُّمات الهداية؛ ليستطيع كلُّ مَن أراد السير نحو الله أنْ يأخذ بحُجْزتهم ويهتدي بهُداهم، وقد (أجمع الـمُفسِّرون وثقات الرُّواة أنَّ أهل البيت هُمْ الخمسة أصحاب الكساء، وهُمْ سيِّد الكائنات الرسول وصِنوه الجاري مجرى النفس أمير المؤمنين، وبِضعته الطاهرة عَديلة مريم بنت عمران سيِّدة النساء فاطمة الزهراء، التي يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها، وريحانتاه مِن الدنيا سِبطاه الشهيدان الحسن والحسين سيِّدا شباب أهل الجَنَّة، ولم يشاركهم أحد مِن الصحابة وغيرهم في هذه الآية)(٢) .

____________________

(١) الرعد: ١٧.

(٢) حياة الإمام الحسين: ج١: ص٥٨.

١٢٥

وأمَّا دعوى شمول الآية لنساء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقد ناقشها العلماء في العديد مِن البحوث في كُتب التفسير أو كتب خاصَّة أُلفت في هذا المجال.

ويبقى أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام آخر مَن بقي مِن الخمسة، فهو وارث لمقاماتهم وأدوارهم في حياة الأمَّة وهي القيادة الفكريَّة والسياسيَّة.

الآية الثانية: قوله تعالى:( فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (١) .

هذه الآية تُعرَف بآية الـمُباهلة، جاءت تحمل منطق التحدِّي الصارم للطرف الـمُقابل، وهو وفد نصارى نجران، وجاء هذا التحدِّي بعد فَشل أُسلوب الحوار العلمي فيما يتعلَّق بشأن النبي عيسىعليه‌السلام .

في (تفسير القُمِّي) عن الصادق: (إنَّ نصارى نجران لـمَّا وفدوا على رسول الله، وكان سيِّدهم الأهتم والعاقب والسيِّد، وحضرت صلاتهم فأقبلوا يضربون الناقوس وصلُّوا، فقال أصحاب رسول الله: يا رسول الله، هذا في مسجدك، فقال: دعوهم، فلـمَّا فرغوا دنوا مِن رسول الله فقالوا: إلى ما تدعو؟ فقال: إلى شهادة أنْ لا إله إلاَّ الله وأنِّي رسول الله، وأنَّ عيسى عبد مخلوق يأكل ويشرب ويُحدِث، قالوا: فمَن أبوه؟ فنزل الوحي على رسول الله، فقال: قُلْ لهم: ما تقولون في آدم أكان مَخلوقاً يأكل ويشرب ويُحدِث وينكح؟ فسألهم النبي، قالوا: نعم، قال فمَن أبوه؟ فبُهِتوا، فأنزل الله:( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ... ) (٢) الآية، وقوله:( فَمَنْ

____________________

(١) آل عمران: ٦١.

(٢) آل عمران: ٥٩.

١٢٦

حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (١) .

فقال رسول الله: فباهلوني، فإنْ كنتُ صادقاً أُنزِلت اللعنة عليكم، وإنْ كنت كاذباً أُنزِلت عليَّ، فقالوا: أنصفت، فتواعدوا للـمُباهلة، فلـمَّا رجعوا إلى منازلهم قال رؤساؤهم - السيِّد والعاقب والأهتم -: إنْ باهَلَنا بقومه باهَلَناه فإنَّه ليس نبيَّاً، وإنْ باهَلَنا بأهل بيته خاصَّة لم نُباهله؛ فإنَّه لا يقدم إلى أهل بيته إلاَّ وهو صادق. فلـمَّا أصبحوا جاؤوا إلى رسول الله ومعه أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام ، فقال النصارى: مَن هؤلاء؟ فقيل لهم: هذا ابن عمِّه ووصيُّه وخَتنه عليُّ بن أبي طالب، وهذه ابنته فاطمة، وهذان ابناه الحسن والحسين، ففَرَقُوا - أيْ خافوا - فقالوا لرسول الله: نُعطيك الرضا فأعفنا مِن الـمُباهلة، فصالحهم رسول الله على الجِزية وانصرفوا)(٢) .

هذه هي قِصَّة الـمُباهلة، والسبب في نزول الآية بعدما رفض النصارى نتيجة الحوار في كون عيسى بن مريمعليه‌السلام مِن البشر، وأصرُّوا على مقالتهم فيه وأنَّه هو ابن الله، تعالى عن ذلك، حوَّل القَرن الموقف إلى تحدِّي بإرجاع الأمر إلى الغيب، وأنَّ الله تعالى هو الذي يُحدِّد الـمُحقَّ مِن الـمُبطل عن طريق إهلاك الطرف الـمُبطل ومحوه مِن ساحة الحياة، بعد ابتهال الطرفين بالدعاء بأنْ يُهلك الله الـمُبطل منهم.

إلاَّ أنَّ وفد النصارى بعد خروج النبي بأهل بيته أعرضوا عن الـمُباهلة؛ وذلك لقناعتهم بصدق الرسول الأعظم، وقبلوا بالخيار الآخر وهو أداء الجزية إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وقد أجمع الـمُفسِّرون والمؤرِّخون على أنَّ النبي لم يخرج إلاَّ بعليٍّ وفاطمة والحسنينعليهم‌السلام .

____________________

(١) آل عمران: ٦١.

(٢) تفسير القُمِّي: ج١ ص١١٢.

١٢٧

وهنا لا بُدَّ لنا مِن أنْ نتساءل: ما هو السِّرُّ في أمر الله تعالى لنبيِّه بإخراج هؤلاء معه للـمُباهلة؟ ألا يكفي خروج النبي بمُفرده للدعاء فاحتاج الموقف إلى خروج أهل بيته؛ لأنَّ الأمر لا يخلو؛ إمّا أنَّ دعاء النبي (صلى لله عليه وآله) يكفي في تحقُّق نتيجة الـمُباهلة، فيكون خروج هؤلاء معه نوعاً مِن العَبث الذي لا غرض مِن ورائه، أو أنَّ خروج هؤلاء أمر لا بُدَّ منه في هذا المقام؟

والجواب: أنَّ الوجه الأخير هو الحَقُّ، فإنَّ خروج النبي بأهل بيته أمر حتميٌّ لا لنقصٍ في ذات الرسول في تحقُّق الدعاء، فإنَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله في اعتقادنا لا يَحجُب دعاه حاجب عن الله تعالى.

ولكنْ لـمَّا كان هذا الموقف يتعلَّق بشؤون الرسالة وتحدِّياتها لسائر الأفكار والأديان والأقوام، فلا بُدَّ مِن وقوف حَمَلَة الرسالة الذين يتمثَّل فيهم الامتداد الطبيعي لصاحب الرسالة مِن بعده، فهُمْ شركاؤه في تجسيد وتمثيل رسالة الله، فلا بُدَّ مِن وجودهم في هذا المقام، فأمر الله نبيَّه بإخراجهم ليتَّضح ارتباطهم بالرسالة ومواقفها.

حيث يُمكن أنْ نتصوَّر أنَّ الله تعالى قد جعل - هنا - دعاء الرسول هو الـمُقتضي لتحقُّق الهلاك وتأمين أهل بيته بمنزلة الشرط لتحقُّق ذلك، فإنَّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله قد قال لهم: (إذا دعوت فأمِّنوا) كما في بعض روايات المقام، إذ مِن المعلوم أنَّ الشيء لا يتحقَّق إلاَّ بوجود الـمُقتضي وتوفُّر الشرط وارتفاع المانع، ولا مانع في البين.

فتبيَّن أنَّ الغاية مِن إخراجهم ليكونوا جزءاً مِن موقف التحدِّي هذا مِن الإسلام للمسيحيَّة؛ لأنَّهم لُحمة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

والجدير بالـمُلاحظة - هنا - أنَّ الحسنينعليهما‌السلام كانا آنذاك في مرحلة الطفولة، حيث لم يمنع كونهم طفلين مِن أنْ يأمر الله الرسول بإخراجهم، وذلك لتميُّزهما على مَن سواهما مِن الأطفال.

١٢٨

مِن خلال ما تقدَّم أخذنا صورة واضحة - وإنْ كانت مُختصرة - عن الأجواء التي نشأ فيها سيِّد الشهداء الإمام الحسينعليه‌السلام ، وعن المقوُّمات الذاتيَّة التي توفَّرت في هذا الإمام، والتي تجعله نسخة أُخرى مِن شخصيَّة جَدِّه الرسول الأعظم، ليتحمَّل في عصره أعباء الإمامة وتتجسَّد فيه الرسالة؛ فيكون هو الأَوْلى بقيادة الأُمَّة.

٤ - نشأة يزيد ومقوَّمات شخصيَّته

أجمع المؤرِّخون أنَّ يزيد بن مُعاوية قد نشأ وتربَّى في البادية عند خؤولته بني كِلاب، وهذه القبيلة كانت نصرانيَّة الاتِّجاه، فترى تربية مزيجة مِن أفكار وعادات مسيحيَّة ومِن عادات وأهواء البادية. تلك الأجواء البعيدة عن منابع الفكر الإسلامي وثقافة القرآن والسُنَّة، (وكان مُرسَل العِنان مع شبانهم الماجنين، فتأثَّر بسلوكهم إلى حَدٍّ بعيد، فكان يشرب معهم الخمر ويلعب معهم بالكلاب)(١) .

يقول عبد الله العلايلي: إذا كان يقيناً أو يُشبه اليقين أنَّ تربية يزيد لم تكن إسلاميَّة خالصة، أو بعبارة أُخرى: كانت مسيحيَّة خالصة؛ فلم يبقَ ما يُستغرب معه أنْ يكون مُتجاوزاً مُستهتراً مُستخفَّاً بما عليه الجماعة الإسلاميَّة، لا يحسب لتقاليدها واعتقادها أيَّ حساب ولا يقيم لها وزناً، بلْ الذي يُستغرب أنْ يكون غير ذلك(٢) .

فإنَّ ذلك أمر طبيعي ونتيجة طبيعيَّة لتلك النشأة وتلك الأجواء الأعرابيَّة، التي تكوَّنت فيها المقوُّمات لشخصيَّة يزيد، فلم يستطع تجاوزها والتستُّر بها، وكان مُتجاهراً وولعاً باللعب بالقرود والكلاب ومُدْمناً على شرب الخمر.

يقول السيِّد مير علي الهندي: كان يزيد غدَّاراً كأبيه، ولكنَّه ليس داهية مثله، كانت

____________________

(١) حياة الإمام الحسين: ج٢: ص١٨٠.

(٢) سموُّ المعنى في سموِّ الذات: ص٥٩.

١٢٩

تنقصه القُدرة على تغليف تصرُّفاته القاسية بستار مِن اللباقة الدبلوماسيَّة الناعمة، وكانت طبيعته الـمُنحلَّة وخُلقه الـمُنحطُّ لا تتسرَّب إليهما شَفقة ولا عدل(١) .

وقد حاول مُعاوية بأنْ يُغيِّر ابنُه مظاهرَ سلوكه العلني؛ ليستطيع إقناع الناس بأنَّ ابنه مؤهَّل لأنْ يحُكم المسلمين مِن بعده، فقال له: (يا بُني، ما أقدرك على أنْ تصير إلى حاجتك مِن غير تهتُّك يذهب بمروءتك وقدرك، ثمَّ أنشده:

انصب نهاراً في طُلاَّب العُلى

واصبر على هَجر الحبيب القريب

حتَّى إذا الليل أتى بالدجا

واكتحلت بالغَمض عين الرقيب

فباشر الليل بما تشتهي

فإنَّما الليل نهار الأريب

كمْ فاسق تحسبه ناسكاً

قد باشر الليل بأمرٍ عجيب(٢)

هكذا أراد مُعاوية لولده بأنْ يلبس نهاراً لباس الفضل والنُّسك والتقوى، وإذا ما جَنَّ عليه الليل أطلق عنان شهواته وغرائزه في كُلِّ ميدان مِن ميادين الملذَّات، التي تحيى بها الليالي الحمراء في حياة أهل الفُسوق والـمُجون.

هذا هو السلوك الأمثل - في نظر مُعاوية - لوليِّ أمر المسلمين، إلاَّ أنَّ معاوية لم يُفلح في تغيير سلوك ابنه وتغليفه باللباس الخادع، بلْ استمرَّ يزيد في طريقة حياته المفضوحة واستهتاره المكشوف.

يا تُرى، إذا كان هكذا قادة الأُمَّة وولاة أُمورها فماذا ينتظر أنْ يكون وضع الأُمَّة ومُستقبل حياتها؟

قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام مُشيراً إلى تأثير سلوك القيادة على حياة الأُمَّة ومسيرتها: (وقد علمتم أنَّه لا ينبغي أنْ يكون الوالي على الفروج والدماء

____________________

(١) نقلاً عن حياة الإمام الحسين: ج٢: ص١٨٠.

(٢) البداية والنهاية ٨: ٢٢٨.

١٣٠

والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل؛ فتكون في أموالهم نَهمته، ولا الجاهل فيُضلَّهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول فيتخذ قوماً دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف عند المقاطع، ولا المعطّل للسُنَّة فيهلك الأُمَّة)(١) .

فلا يُنتظر بأُمَّة يكون أمرها بيد شخص مِثل يزيد بن مُعاوية إلاَّ الانحدار الـمُميت.

والعجب أنَّك ترى برغم هذه الحقائق التاريخيَّة، التي تُعرِّف شخصيَّة يزيد ترى مَن يُدافع عن هذا التاريخ الأسود تاريخ يزيد وسائر الأُمويِّين، ويُحاول أنْ يُصوِّر يزيد بن مُعاوية وكأنَّه ذلك الإنسان المثالي والحاكم الأمثل في تاريخ المسلمين.

فكأنَّما عقُمت الأُمَّة ليس فيها عُظماء وقادة تُقدِّمهم لسائر الأُمَم والشعوب، كنماذج إسلامية يُمثِّلون الواجهة الحضاريَّة للإسلام، وعَقم تاريخ المسلمين فلم يُنتج إلاَّ أمثال يزيد بن مُعاوية والحَجَّاج بن يوسف الثقفي، حتَّى تُدافع عنه مِن خلال الدفاع عن هؤلاء.

٥ - بيعة يزيد بن مُعاوية

البيعة مأخوذة مِن البيع، وكما أنَّ البيع لا يتحقَّق إلاَّ بطرفين، البائع والـمُشتري، كذلك البيعة لها طرفان، وهما المبايِع - بالكسر - وهُمْ أفراد الأُمَّة أو الشعب، والـمُبايَع - بالفتح - وهو القيادة أو الحاكم الذي يتولَّى شؤون الأُمَّة والشعب. فهي على هذا عقد وميثاق بين الطرفين، فالـمُبايع يتعهَّد بالطاعة التامَّة للقيادة، والقيادة بدورها تتعهَّد بالقيام بشؤون الأُمَّة وإدارة حياتها طِبق القوانين السماويَّة.

وتُعتبر هذه البيعة ميثاقاً مُقدَّساً في نظر القرآن الكريم، فإنَّ القرآن اعتبر مُبايعة

____________________

(١) نهج البلاغة قطعة رقم ١٣١ صُبحي الصالح.

١٣١

الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله مِن قِبَل المسلمين بيعة لله تعالى، كما في قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) (١) .

فعلى هذا لا بُدَّ أنْ تعرف الأُمَّة بعد الرسول القائد لـمَن تُعطي بيعتها، فلا بُدَّ أنْ تكون يده يداً تُمثِّل الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله لتكون بيعته بيعة لله تعالى، إلاَّ أنَّ الأُمَّة الإسلاميَّة مُنيت بتلك النكسة، وذلك الانحراف الخطير حتَّى بلغ بها الحال أنْ تُبايع لشخصٍ مِثل يزيد بن مُعاوية.

لقد فُرِضت عليها تلك البيعة بقوَّة السلاح والمال، ولكنْ ذلك لا يُخلِّي الأُمَّة مِن المسؤوليَّة، ولا يُبرِّر لها ذلك الاستسلام والخنوع والسكوت عن ذلك الانحراف.

وطِبق ما يذكره المؤرِّخون أنَّ أوَّل مَن تحرَّك لتحقيق بيعة يزيد هو الـمُغيرة بن شُعبة، وكان والياً على الكوفة مِن قبل مُعاوية، فأحسَّ بأنَّ مُعاوية يُريد عَزله عن ولايته ويولِّي سعيد بن العاص مكانه، فتحرَّك لهذه الـمُهمَّة - بيعة يزيد - وليُقدِّم استقالته مِن هذا المنصب؛ لكي لا تكون عليه حَزازة في عَزله، وسافر إلى الشام واجتمع بيزيد، فأبدى له الإكبار وأظهر له الحُبَّ، وقال له: قد ذهب أعيان صحابة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وكُبراء قريش وذوو أسنانهم، وإنَّما بقي أبناؤهم وأنت مِن أفضلهم وأحسنهم رأياً وأعلمهم بالسُّنَّة والسياسة، ولا أدري ما يمنع أمير المؤمنين أنْ يعقد لك البيعة.

وغزت هذه الكلمات قلب يزيد؛ فشكره وأثنى على عواطفه وقال له: (أترى ذلك يتمُّ)، فكأنَّ يزيد نفسه لم يَكد يُصدِّق أنْ يتمَّ ذلك وأنْ يرضى المسلمون به خليفة؛ لما يعرفه مِن نفسه مِن الصفات التي تُبعده كلَّ البُعد عن مظاهر الحاكم الإسلامي فَضلاً مِن أنْ يكون يحمل روح الإسلام وجوهره.

____________________

(١) الفتح: ١٠.

١٣٢

ولكنْ عندما وجد هذا الدجَّال خاطبه بخطاب التمجيد والتقديس، انطلق إلى أبيه ودخل عليه وأخبر بمقالة الـمُغيرة.

ولا شكَّ أنَّ مُعاوية كان يُفكِّر في الموضوع، ولكنْ كان يضرب أخماساً في أسداس، بأيِّ طريقة يطرح هذه البيعة على الناس، فوجد مَن يدفعه إلى التحرُّك نحو انجاز ما كان يُفكِّر فيه.

فأحضر الـمُغيرة فبادره الـمُغيرة بقوله: (يا أمير المؤمنين، قد رأيت ما كان مِن سفك الدماء والاختلاف بعد عثمان وفي يزيد منك خَلف، فأعقد له، فإنْ حدث بك حَدَث كان كهفاً للناس وخَلفاً منك، ولا تُسفك دماء ولا تكون فتنة، فقال مُعاوية: مَن لي بهذا؟

فقال الـمُغيرة: أنا أكفيك أهل الكوفة، ويكفي زياد أهل البصرة، وليس بعد هذين المصرين أحد يُخالفك؛ فأقرَّه مُعاوية على منصبه وأمره بالـمُبادر إلى الكوفة لتحقيق غايته، ولـمَّا خرج مِن عند مُعاوية قال لحاشيته: لقد وضعت رجل مُعاوية في غرز بعيد على أُمَّة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وفتقت عليه فَتْقاً لا يُرتق.

لَعمري، لقد شخَّص الـمُغيرة هذه البيعة قبل حدوثها بدِقَّة؛ لأنَّه يُدرك مدى آثار هذه المسألة على حياة أُمَّة محمد ومُستقبلها.

وسار الـمُغيرة إلى الكوفة يحمل الشَّرَّ والدمار لأهلها ولعموم المسلمين، وفورَ وصوله عقد اجتماعاً ضَمَّ عُملاء الأُمويِّين فعرض عليهم بيعة يزيد، فأجابوه إلى ذلك وأوفد جماعة منهم إلى دمشق، وجعل عليهم ولده موسى، فلـمَّا انتهوا إلى مُعاوية حفَّزوه على عقد البيعة ليزيد، فشكرهم على ذلك وأوصاهم بالكِتمان، والتفت إلى ابن الـمُغيرة فقال له:

- بكم اشترى أبوك مِن هؤلاء دينهم؟

- بثلاثين ألف درهم.

١٣٣

- لقد هان عليهم دينهم، ثمَّ وصلهم بثلاثين ألف درهم(١) .

وبدأ مُعاوية يُمهِّد لهذه البيعة بمُختلف الأساليب والطُّرق، فسخَّر المال في ذلك ببذله بكلِّ سَخاء للوجوه والأعيان مِن الـمُتاجرين بالضمائر والأديان.

يقول المؤرِّخون: إنَّ مُعاوية دفع إلى عبد الله بن عمر مائة ألف درهم فقَبِلها منه، وكان ابن عمر مِن أصلب الـمُدافعين عن بيعة يزيد(٢) .

كما سخَّر مُعاوية الشعر في الدعاية لبيعة يزيد، فهذا مسكين الدارمي يقول بعدما أوعَز إليه مُعاوية أنْ يحثَّه على بيعة يزيد أمام مَن كان حضر مجلسه مِن أعيان الأُمويِّين وأهل الشام:

ألا ليتَ شِعري ما يقول ابن

عامر ومروان أمْ ماذا يقول سعيد

بني خُلفاء الله مَهلاً فإنَّما

يبوؤها الرحمان حيث يريد

إذا المِنبر الغربي خلاه ربُّه

فإنَّ أمير المؤمنين يزيد

على الطائر الميمون والجِدِّ ساعد

لكلِّ أُناس طائر وجَدود

فلا زلتُ أعلى الناس كعباً ولم يزل

وفود تُساميها إليك وفود

ولا زال بيت الـمُلك فوقك عالياً

تشدُّك أطناب له وعمود(٣)

إضافة إلى ذلك أُسلوب التهديد بالقوَّة، حينما يحتمل وجود مُعارضة مِن أحد لهذه البيعة، فهذا أحد رجاله في جلسة مِن جلساته، التي دعا فيها إلى البيعة لابنه يزيد فعارضه بعض الحضور، فقام يزيد بن الـمُقفع فهدَّد الـمُعارضين باستعمال القوَّة قائلاً: (أمير المؤمنين هذا - وأشار إلى مُعاوية - فإنْ هلك فهذا - وأشار إلى يزيد - ومَن أبى

____________________

(١) حياة الإمام الحسين: ج٢: ص١٩٢.

(٢) حياة الإمام الحسين: ج٢: ص١٩٢.

(٣) حياة الإمام الحسين: ج٢: ص١٩٩ عن تاريخ ابن الأثير.

١٣٤

فهذا، وأشار إلى السيف؛ فاستحسن مُعاوية قوله وراح يقول له: (اجلس فأنت سيِّد الخِباء وأكرمهم)(١) .

وكان مقياس الكَفاءة للخلافة عند مُعاوية، الذي يؤهِّل ابنه لذلك هو حُبُّه لابنه ولا مقياس لديه غير ذلك، وهذا ما يتَّضح مِن كلمته التي ألقاها في مجلس في المدينة المنوَّرة، وقد جمع المجلس عدداً مِن الشخصيَّات: كعبد الله بن عباس، وعبد الله بن جعفر، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وقد عرض عليهم بيعة يزيد فرفضوا له ولم يستجيبوا لذلك، فقال في نهاية الاجتماع: وإنَّه قد ذهبت الآباء وبقيت الأبناء، فابني أحبُّ إليَّ مِن أبنائهم. وكان يُعرِّض بأمير المؤمنينعليه‌السلام ووَلديه الحسنين.

ومَن يدري لعلَّ مُعاوية قال ذلك مُقابل ما قاله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في حَقِّ الحسينينعليهما‌السلام في تعبيره عن حُبِّه لهما! وإنَّ مُعاوية ليُفسِّر كلمات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في سِبطيه الحسنينعليهما‌السلام بأنَّها بدافع العاطفة الـمُجرَّدة! فما الذي يمنعه هو أيضاً مِن حُبِّ وَلده ويجعل له الخلافة ميراثاً يُخلِّفه لولده المحبوب؟!

وعلى كلِّ حال، فلقد تمَّت بيعة يزيد تحت أجواء مِن الإرهاب مِن جِهة والإغراء بالأموال، والإعلام الـمُضلِّل مِن جهة أُخرى.

ولمْ يتمرَّد على هذه البيعة - فرفضَ الاعتراف بها وثار في وجه يزيد مُدلِّلاً على الخطر الذي يُمثِّله حُكم يزيد وآل أُميَّة على الإسلام - لم يَقُمْ بذلك إلاَّ أبو الأحرار الحسين بن عليعليهما‌السلام .

أعلن ذلك عند أوَّل مُحاولة مِن السلطات الأُمويَّة، بعد هَلاك مُعاوية لإخضاع الإمام للبيعة، فقال في مجلس الوليد بن عُتبة بن أبي سفيان:

____________________

(١) حياة الإمام الحسين: ج٢: ص٢٠٣.

١٣٥

(أيُّها الأمير، إنَّا أهل بيت النبوَّة، ومَعدن الرسالة، ومُختلف الملائكة، ومَحلُّ الرحمة، بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد رجلٌ فاسقٌ شاربُ الخمر، قاتل النفس الـمُحترمة مُعلِن بالفِسق، ومِثلي لا يُبايع مِثله، ولكنْ نُصبِح وتُصبِحون، وننظر وتنظرون أيَّنا أحقَّ بالخلافة والبيعة)(١) .

وعندما حاصروه وضيَّقوا عليه الخِناق؛ ليُذعن لهم ويعترف بسلطانهم، رفع أبو الأحرار صوته قائلاً:

(لا والله، لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفرَّ فِرار العبيد)(٢) .

____________________

(١) اللهوف: ص٧١، والفتوح لابن أعثم: ج٥: ص١٤، واللفظ للأوَّل.

(٢) مناقب آل أبي طالب: ج٣: ص٢٢٤، ط الحيدريَّة، وج٤: ص٧٥، ط آخر.

١٣٦

١٣٧

القراءة الثالثة

في البُعد الاجتماعي

أ - تمهيد

ب - دور الأُمويِّين في هَدْم ركائز الـمُجتمع الإسلامي

ج - جماهيريَّة الثورة الحسينيَّة

د - الـمُجتمع الكوفي واستجابة الإمام لرسائلهم

١٣٨

١٣٩

أ - تمهيد

يختلف الإسلام - كرسالة سماويَّة - عن سائر المدارس الاجتماعيَّة الأُخرى، في تحديد الهدف النهائي مِن حياة الإنسان الاجتماعيَّة، فإنَّ المدارس الاجتماعيَّة الأُخرى ترى أنَّ ضرورة الحياة الاجتماعيَّة للإنسان، نابعة مِن ضرورة سَدِّ جميع احتياجاته الحياتيَّة؛ حيث إنَّ الإنسان لن يستطيع في حياة مُنفردة أنْ يَسدَّ احتياجاته بنفسه، بما في ذلك الحاجات المادِّيَّة والنفسيَّة، فلا بُدَّ له مِن حياة اجتماعيَّة؛ ليتمكن مِن سَدِّ تلك الاحتياجات مِن خلال روابطه الاجتماعيَّة.

فهذا هو الهدف النهائي للحياة الاجتماعيَّة في نظر هذه المدارس - ولا سِيَّما المدارس المادِّيَّة منها - والإسلام أيضاً لا يُنكر هذه الضرورة - أعني: ضرورة سَدِّ احتياجات الإنسان - ولعلَّ القرآن الكريم يُشير إلى ذلك في قوله تعالى:( ... نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيَّاً... ) (١) .

فقوله تعالى:( ... لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيَّاً... ) إشارة إلى أنَّ أفراد الـمُجتمع كلٌّ مِن موقعه ودوره يقوم بخدمة الـمُجتمع، ويُشارك في سَدِّ احتياجات الـمُجتمع، فهو مُسخَّر لخدمة الكلِّ بطريقة وأُخرى، إلاَّ أنَّ الإسلام لا يعتبر هذه الضرورة هدفاً نهائيَّاً لحياة

____________________

(١) الزخرف: ٣٢.

١٤٠

الإنسان الاجتماعيَّة، ويُمكن أنْ نُسمِّي هذا الهدف بالهدف الـمُتوسِّط، وأمَّا الهدف النهائي لذلك فهو أبعد مِن هذا الهدف.

والواقع أنَّ الغاية القُصوى للحياة الاجتماعيَّة، هي الاستزادة مِن التكامُل الروحي والمعنوي لكلِّ واحد مِن أفراد البشر، وهو ما يحصل عن طريق معرفة الله وعبادته ونيل رضاه والقُرب منه تعالى.

وبعبارة أُخرى: فإنَّ الحياة الاجتماعيَّة وتأمين الحاجات المادِّيَّة والدنيويَّة - كلَّها - مُقدَّمة مِن أجل أنْ يُصبح أكبر عدد مِن الناس عابدين لله، وأنْ يتقدَّم عباد الله مَهْما أمكن في مسيرة العبادة والخضوع للباري، يقول عَزَّ وجلَّ:( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شيئاً ) (1) .

حيث تدلُّ على أنَّ الحكومة واستقرار الدين والنظام والأمن والهدوء - كلُّها - مُقدِّمة لتوسيع وتعميق عبادة الله والإيمان به وتوحيده كمَّاً وكيفاً(2) .

ومِن جِهة أُخرى يختلف الإسلام أيضاً عمَّا يراه أغلب الـمُفكِّرين الاجتماعيِّين في نظرتهم للدين؛ فإنَّهم اعتبروا الدين إحدى الركائز التي تقوم عليها الحياة الاجتماعيَّة، إلى جانب سائر الركائز الأُخرى الـمُتمثِّلة في:

1 - الأُسرة.

2 - الاقتصاد.

3 - التربية والتعليم.

____________________

(1) النور: 55.

(2) النظرة القرآنيَّة للـمُجتمع والتاريخ: ص37.

١٤١

4 - الحُقوق.

5 - الحُكومة.

فهُمْ يرون الدين ركيزةً كسائر الركائز الأُخرى المذكورة، التي يقوم عليها الكيان الاجتماعي لحياة الإنسان، بينما يرى الإسلام غير ذلك؛ إذ لا بُدَّ مِن القول: بأنَّ الدين لو كان بمعنى ارتباط الإنسان بالله في إطار العبادات - بالمعنى الخاص - لأمكن عَدُّه مِن جُملة الركائز الاجتماعيَّة.

إلاَّ أنَّ هذا المعنى الضيِّق - الـمُنسجم مع رؤية الثقافة الغربيَّة للدين - ليس مورد قبولنا، فمِن وجهة نظرنا يكون الدين هو المنهج الصحيح والمطلوب للحياة الإنسانيَّة، بحيث يشمل جميع أبعاد ووجوه الحياة للفرد والـمُجتمع. وبالإضافة إلى العقائد والأخلاق والعبادات بالمعنى الخاص، فإنَّه يشتمل على أنواع الحقوق وأقسامها، ومِن جُملته الحقوق السياسيَّة والحقوق الفضائيَّة والحقوق المدنيَّة (مِثل حُقوق الأُسرة)، وبناءً على هذا فهو - إذاً - يضمُّ تحت مَظلَّته جميع الركائز الاجتماعيَّة ويُهيمن ويُشرف عليها ويُسيِّرها(1) .

ومتى ما انحرفت إحدى تلك الركائز عن توجيهات الدين وقيمومته؛ لم تعد ركيزة اجتماعيَّة إسلامية بالمعنى الصحيح، وهناك أمر ثالث أيضاً تختلف فيه وجهة نظر الإسلام عن بقيَّة المدارس الاجتماعيَّة، وهو تحديد أهمِّ الركائز الاجتماعيَّة وأعظمها تأثيراً على مسيرة الحياة الاجتماعيَّة، حيث يرى الإسلام أنَّ أهمَّ الركائز تأثيراً هي ركيزة التربية والتعليم، وليس ركيزة الاقتصاد - مَثلاً - كما ترى المدرسة الماركسيَّة.

قال بعض الـمُفكِّرين والباحثين الإسلاميِّين: إنَّه بفضل ركيزة التربية والتعليم يمكننا ترسيخ أو تقوية أو إصلاح سائر الركائز بحيث تقرّب المجتمع إلى أهدافه

____________________

(1) المصدر السابق: ص368.

١٤٢

المتوسطة، ومِن ثمَّ إلى هدفه النهائي؛ ولهذا فإنَّ ركيزة التربية والتعليم إذا لم تَسِر سيرة صحيحة، فإنَّ سائر الركائز سوف تُمنى - عاجلاً أمْ آجلاً - بالاختلال وعدم النظام، وتتعرَّض جميع شؤون الحياة الاجتماعيَّة لخطر الفَساد والتدمير.

إنَّ ركيزة التربية والتعليم تُيسِّر أمر توعية الناس بالأحكام والقوانين الاجتماعيَّة والحقوقية، وترغيبهم في تطبيق القوانين والـمُقرَّرات، وفي التعاون مع المؤسَّسات الاجتماعيَّة والحكوميَّة.

وبهذه الصورة يَسهل علينا تبنِّي وتبرير هذا الأمر، وهو أنَّ الله تعالى جعل مُهمَّة النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله مقصورة على تِلاوة آيات الله للناس وتربيتهم، وتعليمهم الكتاب والحِكمة، بمعنى أنَّها تتلخَّص في التربية والتعليم.

فالتربية والتعليم هي التي تُعرِّف الناس الهدف الأعلى للحياة الفرديَّة والاجتماعيَّة، وتُربِّيهم وتجعلهم يَخطون نحو ذلك الهدف بسهولة ويُسر وسرعة، وأمَّا سائر الركائز: كالعائلة، والاقتصاد، والحقوق، والحُكومة فهي ليست سِوى مُقدِّمة ووسيلة لتهيئة الأرضيَّة لسير الناس وسلوكهم المعنوي.

والفائدة العمليَّة التي يُمكن استنتاجها مِن هذا الحديث، هي أنَّ الخُطوة الأُولى لتحسين الأوضاع والأحوال الـمُختلفة للـمُجتمع الفاسد الـمُضطرب وغير الـمُتوازن، هي إصلاح نظام التربية والتعليم فيه، كما أنَّ الخُطوة الأُولى التي تجرُّ الـمُجتمع نحو الفَساد هي إفساد نظام تربيته وتعليمه(1) .

إذاً، فركيزة التربية والتعليم مُهمَّة وخطيرة جِدَّاً في الـمُجتمع الإسلامي، وهي أخطر وأهمُّ مِن ركيزة التربية والتعليم في سائر الـمُجتمعات، التي هي: إمَّا أنْ تكون غير مُهتمَّة

____________________

(1) النظرة القرآنيَّة للـمُجتمع والتاريخ: ص370 وص371.

١٤٣

بالدين، وإمَّا أنْ تكون مُعتبرة إيَّاه ركيزة إلى جانب الركائز الأُخرى، بحيث تَعدُّ حدوده مُنفصلة عن حدود الأُسرة والاقتصاد والحقوق والحكومة.

ومِن الواضح أنَّ المقصود مِن ركيزة التربية والتعليم ما هو أعمُّ مِن النشاطات، التي تنهض بها مُنظَّمات مِن قِبَل المدارس الابتدائيَّة والـمُتوسِّطة والثانويَّة والجامعات، بحيث يشمُل أيَّ جُهدٍ يُبذَل في مضمار تثقيف الـمُجتمع وتعليمه وتربيته، وبناءً على هذا تُصبح النشاطات التي تقوم بها الإذاعة والتلفزيون والصُّحف والـمَجلاَّت، والكتب والرسائل، والسينما والـمَسْرح، وخُطب صلاة الجمعة، والمراسيم القوميَّة والشعائر، والـمَناسك الدينيَّة والـمُحاضرات والـمُظاهرات السياسيَّة والنشاطات الفنيَّة و... كلُّها داخلة ضمن إطار التربية والتعليم(1) .

____________________

(1) النظرة القرآنيَّة للـمُجتمع والتاريخ: ص373.

١٤٤

١٤٥

ب - دور الأُمويِّين في هَدْم ركائز الـمُجتمع الإسلامي

لا شكَّ أنَّ الإسلام له مُخطَّط ومنهج خاصٌّ لبناء الـمُجتمع المثالي، الذي يتناسب مع رسالة السماء، وذلك مِن خلال إخضاع الركائز الخَمس الاجتماعيَّة السالفة الذِكر لقيمومة وتوجيهات الوحي الإلهي(الدين) ؛ لتسير الحياة الاجتماعيَّة بخُطى ثابتة على طريق تكامل الإنسان في سيره نحو الله تعالى:( يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ ) (1) ، ولا يُمكن للـمُجتمع الإسلامي أنْ يتكامل ليُصبح مُجتمعاً مِثاليَّاً فاضلاً، إلاَّ بإخضاع جميع ركائزه لتوجيهات الرسالة الإلهيَّة.

ولكنْ عندما استولى الأُمويُّون على مقاليد السُّلطة، سعوا بكلِّ جُهدهم إلى خَلخلة كلِّ الركائز للـمُجتمع الإسلامي؛ لأنَّ مُخطَّط الإسلام ومنهجه لبناء مُجتمعه، لا يسمح للحُكَّام الأُمويِّين بأنْ يتلاعبوا في مُقدَّرات الأُمَّة والـمُجتمع، فهم على طرفي نقيض مُخطَّط الإسلام الصحيح؛ فعمدوا إلى نقض القواعد الأساسيَّة لبناء الـمُجتمع الإسلامي، وبما أنَّ أهمَّ الركائز الاجتماعيَّة وأعظمها تأثيراً في حياة الـمُجتمع سَلباً وإيجاباً هي ركيزة التربية والتعليم - كما سبق - فقد اجتهد الأُمويُّون في تغيير مسار هذه الركيزة.

أوَّلاً: عن طريق إيجاد ثقافة مُصطنعة مكذوبة كبديل عن الثقافة الإسلاميَّة الأصيلة، وسخَّروا وسائل التربية والتعليم الـمُتاحة آنذاك لتربية أجيال الأُمَّة على هذه الثقافة.

____________________

(1) الانشقاق: 16.

١٤٦

قال العلاَّمة الشيخ القرشي: ووضعت الحكومة لِجان الوضع، ورصدت لها الأموال الهائلة لتضع الأحاديث على لسان الـمُنقذ العظيم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لتكون مِن بنود التشريع وتلحق بقافلة السُّنَّة التي هي مِن مدارك الأحكام، وقد راح الوضَّاعون يُلفِّقون الأكاذيب وينسبونها للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكثير مِمَّا وضعوه يتنافى مع منطق العقل ويتجافى مع سُنَّة الحياة، ومِن المؤسِف أنَّها دُوِّنت في كُتب السُّنَّة وأُدرجت في كُتب الأخبار، مِمَّا اضطرَّ بعض الغيارى مِن علماء المسلمين أنْ يُألِّفوا بعض الكتب التي تدلُّ على بعض تلك الموضوعات.

وفيما أحسب أنَّ هذا الـمُخطَّط الرهيب مِن أفجع ما رُزي به المسلمون، فإنَّه لم يكن الابتلاء به آناً مِن الزمن، وإنَّما ظَلَّ مُستمرَّاً مع امتداد التاريخ، فقد تفاعلت تلك الموضوعات مع حياة الكثير مِن المسلمين، وظلُّوا مُتمسِّكين بها على أنَّها جزء مِن دينهم، وقد وضِعت الحواجز في نموِّ المواهب وانطلاق الفكر، كما بقيت حَجر عثرة في طريق التطوُّر والإبداع الذي يُريده الإسلام لأبنائه(1) .

ومِن الطبيعي أنَّه إذا تمَّت خَلخلة هذه الركيزة الأهمِّ مِن بين الركائز الاجتماعيَّة - أعني: ركيزة التربية والتعليم - تسهل السيطرة على أفكاره وثقافته، ولم يعد يتوجَّه إلاَّ إلى حيث تُوجِّهه تلك الأفكار وتلك الثقافات؛ لذا كانت جهود الأُمويِّين مُنصبَّة على بعث القِيم الجاهليَّة مِن جديد، وضرب القِيم والثقافة التي جاءت لتُربِّي الإنسان المسلم تربية تكامليَّة على ضوء تعاليم السماء، ولقد رفض الإسلام العصبيَّة بكلِّ أشكالها: مِن عنصريَّة، وقبليَّة، وطبقيَّة ووضع القرآن الكريم المقياس الإلهي لكرامة الإنسان وقيمته عند الله تعالى، فقال:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى

____________________

(1) حياة الإمام الحسين: ج2: ص12.

١٤٧

وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) (1) ، وعَمِل الإسلام على كَسر الحواجز والسدود مِن بين فئات الـمُجتمع، وقد كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يؤكِّد على المسلمين في ترك العصبيَّة الجاهليَّة، إلاَّ أنَّ الأُمويِّين قد حاربوا هذه القِيم وبكلِّ ما لديهم مِن إمكانيَّات.

قال العلاَّمة الشيخ القَرشي: وبنى مُعاوية سياسته على تفريق كلمة المسلمين، وتشتيت شملهم وبثِّ روح التفرقة والبغضاء بينهم؛ إيماناً منه بأنَّ الحُكم لا يُمكن أنْ يستقرَّ له إلاَّ في تفكُّك وحدة الأُمَّة، وإشاعة العداء بين أبنائها، يقول العقَّاد: (وكانت له - أيْ مُعاوية - حيلته التي كرَّرها وأتقنها، وبرع فيها واستخدمها مع خصومه في الدولة مِن المسلمين وغير المسلمين، وكأنَّ قوام تلك الحيلة العمل الدائب على التفرقة والتخذيل بين خصومه لإلقاء الشُّبهات بينهم وإثارة الإحن فيهم، ومنهم مَن كان مِن أهل بيته وذوي قُرباه كان لا يُطيق أنْ يرى رجُلين ذوي خطر على وفاق. وكان التنافس الفطري بين ذوي الأخطار مِمّا يُعينه على الإيقاع بهم).

لقد شتَّت كلمة المسلمين وفصم عُرى الأُخوَّة الإسلاميَّة، التي عقد أواصرها الرسول الكريم وبنى عليها مُجتمعه(2) .

وإذا أضفنا إلى ذلك المظاهر الأُخرى لسياسة الأُمويِّين، الـمُتعلِّقة بسائر الركائز الاجتماعيَّة كسياستهم الماليَّة والاقتصادية، فإنَّهم قد اتَّبعوا مع الأُمَّة سياسة التجويع والحِرمان مِن جِهة، وسياسة شِراء الضمائر والأديان مِن جِهة أُخرى، فإنَّ مِن الضروري أنْ تكون نتيجة كلِّ ذلك أنْ تنحرف الأفكار، وتفسد الضمائر والأخلاق

____________________

(1) سورة الحُجرات: 13.

(2) حياة الإمام الحسين: ج2: ص134 - 135.

١٤٨

وتضعف روح التديُّن في القلوب، وتُباع الأديان والقيم بالأموال، وبهذا يفسد الـمُجتمع بفساد جميع فئاته وطبقاته، وبذلك تسهل السيطرة عليه واستعباده.

ذكر المؤرِّخون أنَّ جماعة مِن أشراف العرب وفدوا على مُعاوية، فأعطى كلَّ واحد منهم مائة ألف وأعطى الحتات عَمَّ الفرزدق سبعين ألفاً، فلـمَّا علم الحتات بذلك رجع مُغضباً إلى مُعاوية فقال:

قضمتني في بني تميم، أمَّا حَسَبي فصحيح، أوَ لستُ ذا سنٍ؟ ألستُ مُطاعاً في عشيرتي؟

قال: بلى.

قال: فما بالك خسست بي دون القوم؛ أعطيت مَن كان عليك أكثر مِمَّن كان لك؟!

فقال مُعاوية بلا حياء أو خجل: إنِّي اشتريت مِن القوم دينهم ووكلتك إلى دينك.

فقال: انا اشترِ منِّي ديني، فأمر له بإتمام الجائزة(1) .

وقد عايش سيِّد الشهداء الإمام الحسينعليه‌السلام هذه المظاهر وهذه النتائج، وشاهدها عن كَثْب وقلبه يعتصَّر ألماً، وهو يرى ذلك الـمُجتمع يبتعد عن منابع الإسلام وروافد الرسالة، ويسير نحو مُنحدر خطير.

وقد شخَّص الإمام جوانب الأوضاع الاجتماعيَّة الـمُتدهورة آنذاك في المؤتمر الشعبي الذي عقده في مِنى، وقد ذكرنا شَطراً منه في القِسم الثاني مِن هذه القراءات، قالعليه‌السلام مُخاطباً تلك النُّخبة الـمُجتمعة في ذلك المؤتمر مُشيراً إلى بعض الأمراض الاجتماعيَّة الـمُتفشِّية في وسط هذه الطبقة، التي تُعتبر نُخبة الـمُجتمع، قالعليه‌السلام :

(قد خشيتُ عليكم - أيُّها الـمُتمنُّون على الله - أنْ تحلَّ بكم نقمة مِن نقماته؛ لأنَّكم بلغتم مِن كرامة الله منزلة فُضِّلتم بها ومَن يُعرَف بالله لا تُكرِمون، وأنتم بالله في عباده تُكرَمون، وقد ترون عهود الله منقوضة فلا تفزعون، وأنتم لبعض ذِمم آبائكم تفزعون وذِمَّة

____________________

(1) حياة الإمام الحسين: ج2: ص128.

١٤٩

رسول الله مَحقورة، والعُمي والبُكَّم والزُّمَّن في المدائن مُهملة لا ترحمون، ولا في منزلتكم تعملون، ولا مَن عَمِل فيها تعنون، وبالادِّهان والـمُصانعة عند الظلمة تأمنون، وأنتم أعظم الناس مُصيبة لِمَا غلبتم عليه مِن منازل العلماء لو كنتم تسمعون)(1) .

هذا على مُستوى النُّخبة مِن فئات الـمُجتمع، فكيف يكون الحال على الـمُستوى العامِّ للساحة الاجتماعيَّة، وقد أشار الإمام في أحد بياناته إلى الوضع العامِّ الذي يعيشه الـمُجتمع الإسلامي، فقالعليه‌السلام :

(وإنَّ الدنيا قد تغيَّرت وتنكَّرت وأدبر معروفها، ولم يبقَ منها إلاَّ صَبابة كصَبابة الإناء، وخسيس عيش كالـمَرعى الوَبيل، ألا ترون إلى الحَقِّ لا يُعمل به وإلى الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء رَبِّه مُحقَّاً)(2) .

ومِن الواضح أنَّ الإمامعليه‌السلام لا يُريد بالدنيا الحياة بما هي حياة بليلها ونهارها، وإنَّما يُريد بذلك الدنيا الاجتماعيَّة، حيث تغيَّرت أوضاع الـمُجتمع، وتنكر للإسلام في سلوكه ومظاهر حياته، ولم يبقَ مِن ظواهر الحَقِّ في الوسط الإسلامي، إلاَّ بقايا كالبقايا مِن الماء الـمُتخلفة في الإناء بعد شرب ما فيه، وهذه هي الصبابة، أو بقايا المرعى حينما تُداهمه الأنعام بالرعي فتقضي على نظارته وحياته، فلا تترك إلاَّ البقايا الـمُتناثرة هنا وهناك

____________________

(1) تحف العقول: ص172، والبحار: ج97: ص80.

(2) اللهوف: ص48، والبحار: ج44: ص381، واللفظ للأوّل.

١٥٠

وهذا هو المرعى الوبيل، وحينما يقولعليه‌السلام : (ألا ترون إلى الحَقِّ لا يُعمل به، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه)، لا يُريد بذلك فقط على مُستوى الحُكَّام، بلْ يُشير إلى أوضاع الـمُجتمع بكلِّ فئاته وطبقاته، حيث أصبح بعيداً عن الحَقِّ والعمل به؛ لأنَّ جميع ركائزه الاجتماعيَّة قد أُفسِدت فانحرفت المجُتمع عن مساره الذي يُريده له الإسلام الحَقُّ.

١٥١

جماهيريَّة الثورة الحسينيَّة

قد يوجد مَن يعتقد أو يظنُّ بأنَّ الثورة الـمُقدَّسة، التي قام بها أبو عبد الله الإمام الحسينعليه‌السلام إنَّما هي استجابة لتكليف شَخصي به لا يتعدَّاه إلى غيره مِن سائر الأُمَّة.

ولا شكَّ أنَّ هذا الاعتقاد أو الظنَّ واضح البطلان، فإنَّ التكليف بالوقوف في وجه الانحراف والفساد واجب يشمل كافَّة الأُمَّة، فهي مُكلَّفة بأنْ تنهض في وجه الظالم، الذي يسحقُّ كرامتها ويفسد حياتها، وإنَّما تحرَّك أبو الأحرار انطلاقاً مِن موقعه القيادي كإمام للأُمَّة، فهو المسؤول الأوَّل في عصره، أو كما قالعليه‌السلام : (... وأنا أحقُّ مَن غيَّر...).

(لذا فقد كانت خطابات الحسين كلُّها تستحثُّ الهِمم للالتحاق به وبمسيرته، لم يقل لأحد: إنَّها مُهمَّة خاصَّة بي أنا وحدي، وعليك أنْ تلتحق بي؛ لأنِّي بحاجة شخصيَّة إليك، إنَّما قال: إنَّ الإسلام بحاجة لنا جميعاً، وعلنيا ألاَّ نتردَّد ببذل الغالي مِن التضحيات حتَّى وإنْ كانت أنفسنا ودماءنا.

وهكذا التحق به أصحابه، بعد أنْ أدركوا أنَّهم مُكلَّفون مثله بهذه الـمُهمَّة، وأنَّ أمرها غير مُقتصر عليه وحده، ولم يقل أحد منهم: ما شأني أنا؟ وهذه الـمُهمَّة صعبة لا يقدر عليها إلاَّ الحسين ومَن هُمْ مِن أمثاله... فهل رأينا في مسار الثورة كلِّها، وفي حركة الحسينعليه‌السلام خلال حوالي أربعة أشهر ما يُشير إلى أنًّه قال: إنَّ كلَّ ما كان يقوم به إنَّما

١٥٢

هو تكليف خاصٌّ به هو لا غيره، وإنَّه سيذهب دون اهتمام بالنتائج بعمليَّة انتحاريَّة ليس ورائها هدف؟

لقد كانت ثورة الحسين استجابة لأوامر مِن عالم الغيب، أعلمه بها جَدُّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، هذا صحيح ولكنَّ الأوامر الإلهيَّة كانت موجَّهة لكلِّ الأُمَّة وليس للحسين وحده، وكانت استجابته وأصحابه لها استجابة واعية؛ فإنَّ قضية الحسين هنا لن تكون مفهومة أمام الجماهير، ولن يتسارع أحد للـمُشاركة فيها، وإنَّما عنه لو كان التكليف الإلهي تكليفاً خاصَّاً به هو شَخصيَّاً، وإلاَّ ما هي الآثار التي يُمكن أنْ تتركها حركته لو كانت شخصيَّة على الأجيال فيما بعد)(1) .

ولذلك حرص أبو عبد الله على أنْ تكون ثورته جماهيريَّة التأثير والاستمرار، برغم أنَّه كان عارفاً بالظروف الموضوعيَّة، التي يعيشها الـمُجتمع الإسلامي آنذاك، ويعلم أنَّ الأُمَّة لن تستجيب لصوته استجابة سريعة، إلاّ أنَّه أصرَّ إلاَّ أنْ يوصِل أنباء نهضته إلى سائر البلاد الإسلاميَّة لإيجاد جمهور لثورته، سواء ذلك على مُستوى الاستجابة العاجلة الـمُتمثِّلة في النُّخبة التي ضحَّت معه، أمْ على مُستوى مِن يَنضمُّ إلى جمهور الثورة فيما بعد الواقعة، وهذا الحُرص مِن الإمام يُمكن مُلاحظته فيما يلي:

أ - إعلانه عن عزمه على الثورة في البيت الحرام وفي موسم الحَجِّ، حيث التجمُّع السنوي للمسلمين مِن مُختلف البُّلدان الإسلاميَّة، وتصريحه بالدعوة إلى الشهادة والتضحية، فقالعليه‌السلام :

(ألا ومَن كان باذلاً فينا مُهجته، موطِّناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا؛ فإنِّي راحل مُصبِّحاً إنْ شاء الله)(2) .

____________________

(1) وتنفَّس صُبح الحسين: ص51 وص53.

(2) تقدَّمت مصادره في: ص 54: هامش 2.

١٥٣

ب - دعوته لبعض مَن يلقاه في طريقه إلى الشهادة، فمنهم مَن يستجيب لدعوته كزهير بن القين، لـمَّا جمعته ظروف الطريق مع الحسين في منزل مِن المنازل، وكان زهير عثمانيَّ الهوى - كما يقول المؤرِّخون - ولكنْ لـمَّا دعاه الحسينعليه‌السلام إلى نُصرته استجاب إلى ذلك، فكان مِن الشهداء مع الإمام الحسينعليه‌السلام .

ومنهم مَن لم يُجب الدعوة، كعبيد الله بن الحُرِّ، حيث اجتمع معه الإمام في قصر بني مُقاتل، فدعاه إلى النُّصرة قائلاً:

(يا ابن الحُرِّ، فاعلم أنَّ الله عَزَّ وجَلَّ مؤاخذك بما كسبت وأسلفت مِن الذنوب في الأيَّام الخالية، وأنا أدعوك في وقتي هذا إلى توبةٍ تغسل بها ما عليك مِن الذنوب، وأدعوك إلى نُصرتنا أهل البيت)(1) .

ألقى ابن الحُرِّ معاذيره الواهية، فحرم نفسه السعادة والفوز بنُصرة سِبط الرسول قائلاً: والله، إنِّي لأعلم أنَّ مَن شايعك كان السعيد في الآخرة، ولكنْ ما سعى أنْ أُغني عنك ولم أُخلِّف لك بالكوفة ناصراً. فأُنشدك الله أنْ تحملني على هذه الخُطة فإنَّ نفسي لا تسمع بالموت، ولكنْ فرسي هذه (الـمُلحِقة) والله ما طلبتُ عليها شيئاً إلاّ لحقته، ولا طلبني أحد عليها إلاَّ سبقته فهي لك.

- وما قيمة فرسه عند الإمام؟ -

فردَّ عليه قائلاً:

(يا ابن الحُرِّ، ما جئناك لفرسك وسيفك، إنَّما أتيناك لنسألك النُّصرة، فإنْ كنت قد بخلت علنيا بنفسك فلا حاجة لنا في شيءٍ

____________________

(1) الفتوح لابن أعثم: ج5: ص47.

١٥٤

مِن مالك، ولم أكن بالذي اتَّخذ الـمُضلِّين عَضُداً، وإنِّي أنصحك كما نصحتني إنْ استطعت ألاَّ تسمع صُراخنا ولا تشهد وقعتنا فافعل؛ لأنِّي سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يقول: مَن سمع داعية أهل بيتي ولم ينصرهم على حَقِّهم إلاَّ أكبَّه الله على وجهه في النار)(1) .

فاطرق ابن الحُرِّ برأسه إلى الأرض وقال بصوت خافت حياءً مِن الإمام: أمَّا هذا فلا يكون أبداً إنْ شاء الله تعالى(2) .

إلاَّ أنَّ عبد الله بن الحُرِّ كان بعد مقتل الحسينعليه‌السلام مِن أشدِّ النادمين على تفويته الفُرصة، وقد نَظَمَ حُزنه وأساه في هذه الأبيات:

فيا لك حسرة ما دُمْت حيَّاً

تُردَّد بين صدري والتراقي

غُداة يقول لي بالقصر قولاً

أتتركنا وتزمع بالفِراق

حسين حين يطلب بذل نصري

على أهل العداوة والشِّقاق

فلو فلق التلهُّف قلبَ حُرٍّ

لهمَّ اليوم قلبي بانفلاق

ولو واسيته يوماً بنفسي

لنلت كرامةً يوم التلاق

مع ابن محمد تفديه نفسي

فودَّع ثمَّ أسرع بانطلاق

لقد فاز الأُوْلى نصروا حسيناً

وخاب الآخرون ذوو النِّفاق(3)

فهذا الشعر ينمُّ عن حَسرةٍ وندمٍ عميقين صادقين، كان يعيشهما ابن الحُرِّ على

____________________

(1) الفتوح (ابن أعثم) 5: 47.

(2) حياة الإمام الحسين: ج3: ص87 وص88.

(3) حياة الإمام الحسين 3: 313.

١٥٥

تفويته الفرصة، وقد رثى ابن الحُرِّ شُهداء الثورة في أبيات له، لـمَّا أرسل عليه ابن زياد وأبلغه الشرطة بطلبه أجابهم قائلاً: أبلغوه عنِّي أنِّي لا آتيه طائعاً أبداً.

ثمَّ اجتمع حوله رجاله فخرج بهم نحو كربلاء، فألقى نظرة على بطحاء الطَّفِّ، حيث رثى ريحانة الحبيب محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وصفوة أهل البيت وأعظم الرجال الأنصار، فقال الأبيات التالية، حيث ما برح النَّدم يُلازمه أبداً:

يقول أميرٌ غادرٌ وابنُ غادر

ألا كنتً قاتلت الحسين بن فاطمة

فيا ندمي ألاَّ أكون نصرته

ألاْ كلُّ نفسٍ لا تُسدَّد نادمة

وإنِّي لأنِّي لم أكُنْ مِن حُماته

لذو حَسرة ما إنْ تُفارق لازمة

سقى الله أرواح الذين تآزروا

على نُصرة سقياً مِن الغيث دائمة

وقفت على أجداثهم ومحالهم

فكاد الحشى ينقضُّ والعين ساجمة

لعمري لقد كانوا مصاليت في الوغى

سُراعاً إلى الهيجاء حُماةً ضراغمة

فإن يقتلوهم كلُّ نفسٍ تقية

على الأرض قد أضحت لذلك واجمة

وما إنْ رأى الراؤون أفضل منهم

لدى الموت سادات وزهر قَماقمة

أتقتلهم ظُلماً وترجو وِدادنا

فدع خُطَّةً ليستْ لنا بمُلائمة

لعمري لقد راغمتمونا بقتلهم

فكم ناقمٍ مِنَّا عليكم وناقمة

أهِمُّ مِراراً أن أسير بجَحفل

إلى فئة زاغت عن الحَقِّ ظالمة

فكفُّوا وإلاَّ زدتكم في كتائب

أشدُّ عليكم مِن زحوف الديالمة(1)

وقد كشفت هذه الأبيات عن رَدَّة الفعل التي تركتها الواقعة في نفس هذا الرجل، حيث أصبح يعيش حالة مِن النِّقمة الـمُتأجِّجة على النظام الحاكم، فهو يَهمُّ بالنهوض في وجه مِن ارتكبوا هذا الـمَجزرة الدامية، ومِن المؤكَّد أنَّ هذه الحالة لا يعيشها ابن الحُرِّ

____________________

(1) التسيير الذاتي لأنصار الحسين: ص189.

١٥٦

فقط، بلْ إنَّ هناك العديد مِن النادمين مِن أهل الكوفة على فوات الفُرصة عليهم، ومَن كانوا في حالة الغليان على النظام الأُموي، وكلُّ هؤلاء جزء مِن جمهور الثورة فيما بعد الواقعة.

ج - مِن الأُمور التي تُشير إلى حرص أبي الأحرار على جعل ثورته ثورة جماهيريَّة، بمعنى أنْ يكون لها بُعدٌ اجتماعيٌّ مُستمرٌّ، ومِن المؤشِّرات إلى ذلك إرساله لعدد مِن الرسائل، إلى بعض الأعيان والشخصيَّات مِن أهل الكوفة والبصرة، ومِن جُملة مَن كتب إليهم الإمام مِن أهل البصرة: مالك بن مسمع البكري، والأحنف بن قيس، وقيس بن الهيثم، والزعيم المجاهد يزيد بن مسعود النهشلي، الذي قام بجمع بني تميم وبني حَنظلة وبني سعد، وقام فيهم خطيباً وعرض عليهم ما هو عازم عليه، وقد جاء في خطابه قوله: إنَّ مُعاوية مات فأهون به - والله - هالكاً ومفقوداً، ألا وإنَّه قد أنكر باب الجور والإثم وتضعضعت أركان الظلم، وكان قد أحدث بيعة، عقد بها أمراً ظنَّ أنْ قد أحكمه، وهيهات الذي أراد، اجتهد والله ففشل، وشاور فخذل، ويزيد شارب الخمور ورأس الفجور، يدَّعي الخلافة على المسلمين ويتأمَّر عليهم مع قُصْر حِلمٍ وقِلَّة علمٍ، لا يعرف مِن الحَقِّ موطئ قدمه.

فأُقسم بالله قسماً مبروراً، لَجِهاده على الدين أفضل مِن جهاد الـمُشركين.

وهذا الحسين بن علي بن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ذو الشرف الأصيل والرأي الأثيل، له فضل لا يوصف، وعلم لا ينزف، وهو أوْلى بهذا الأمر لسابقته وسِنِّه وقِدَمه وقَرابته، يعطف على الصغير ويحنو على الكبير، فأكرِمْ به راعي رعيَّة، وإمام قوم وجبت لله به الحُجَّة، وبلغت به الموعظة، فلا تعشوا عن نور الحَقِّ ولا تسكعوا في وَهدة الباطل... وها أنا قد لبست للحرب لامتها وادَّرعت لها بدرعها، مَن لم يُقتل يَمْت، ومَن يهرب لم يفت(1) .

____________________

(1) بحار الأنوار: ج44: ص338.

١٥٧

ونلمس النتيجة التي خرج بها هذا الزعيم مِن موقفه، نلمس ذلك مِن رسالته إلى الإمام الحسين، حيث كتب للإمامعليه‌السلام رسالته التالية: (بسم الله الرحمن الرحيم: أمَّا بعد، فقد وصل إليَّ كتابك، وفهمت ما ندبْتني إليه ودعوتني له مِن الأخذ بحظِّي مِن طاعتك، والفوز بنصيبي مِن نُصرتك، إنَّ الله لم يُخلِ الأرض قطُّ مِن عامل عليها بخير، أو دليل على سبيل نجاة، وأنتم حُجَّة الله على خلقه، ووديعته في أرضه، تفرَّعتم مِن زيتونة أحمديَّة هو أصلها وأنتم فرعها، فأقدِم سعدتَ بأسعد طائر، وقد ذلَّلت لك أعناق بني تميم، وتركتهم أشدَّ تثابتاً في طاعتك مِن الإبل الظِّماء لورود الماء يوم خمسها، وقد ذللَّت لك رقاب بني سعد وغسلت دَرن صدورها بماء سحابة مُزنٍ حين استحلَّ برقها فلمع)(1) .

إلاَّ أنَّ رسالة النهشلي لم تصل إلى الإمام إلاَّ في وقت مُتأخِّر، حيث وصلت إليه العاشر مِن الـمُحرَّم، وقد نشبت الحرب بين الطرفين، فلـمَّا قرأها الإمام قالعليه‌السلام :

(مالك، آمنك الله مِن الخوف وأعزَّك وأرواك يوم العطش)(2) .

والذي يبدو واضحاً أنَّ سعي النهشلي ما كان يتناسب وسرعة سعي الثورة، وإذا كان سعيه بطيئاً فهو نتيجة طبيعيَّة لضغط الظروف عليه، ولربَّما كان بطيئاً قياساً لسرعة الثورة الحسينيَّة المجيدة.

فقد تحرَّك وهو يقود رجاله فساروا مسافة، ثمَّ ما لبثوا أنْ وافاهم نبأ انتهاء الصراع بمقتل الإمام السبط ومَن معه، فصُدِم النهشلي صدمةً عظيمة أودت بحياته - كما روي أو كما عبَّر التاريخ بالقول: - فجزع مِن انقطاعه عنه(3) .

____________________

(1) بحار الأنوار: ج44: ص339.

(2) البحار: ج44: ص339.

(3) البحار: ج44: 339.

١٥٨

إنَّ هذا الزعيم النشهلي ومَن معه لم يُكتب لهم الاشتراك في المعركة، إلاَّ أنَّه مِمَّا لا شكَّ في أنَّ هؤلاء سوف يُصبحون جُزءاً مِن جمهور الثورة، الذي بدأ يتَّسع نِطاقه بعد حادثة الطَّفِّ مُباشرة.

بينما هناك مجموعة مِن جماهير الثورة مِن أهل البصرة، استطاعوا أنْ ينضمُّوا إلى قافلة الشهداء مِن رجال الثورة، مع أنَّ هؤلاء لم تصل إليهم رسائل مِن الإمام الحسينعليه‌السلام بصورة خاصَّة، بلْ اندفعوا للخروج لينضمُّوا إلى المسيرة الثوريَّة، بوحي تلك الرسائل التي بعثها الإمام إلى عددٍ مِن الشخصيَّات في البصرة، فعند سَماعهم بوصول الرسائل مِن الإمام اكتفوا بذلك، فقرَّروا الخروج مِن البصرة نحو مَكَّة الـمُكرَّمة للانضمام إلى ركب الإمام، رغم صعوبة الظرف الذي تعيشه البصرة آنذاك وقد أُغلقت حدودها.

وعلى رأس هؤلاء يزيد بن نبيط العبدي، وانظم إليه عامر بن مسلم العبدي، ومولى عامر، وسيف بن مالك العبدي، والأدهم بن أُميَّة العبدي، فكانت عِدَّتهم سبعة مع ابن نبيط نفسه وولديه، فاستطاع هؤلاء أنْ يتجاوزوا تلك المخاطر التي تعيشها البصرة، فأدركوا الركب الحسيني في الأبطح مِن مَكَّة(1) .

واستمرَّ الإمام في دعوته إلى الوقوف معه في جهاده الـمُقدَّس إلى آخر أيَّام المسيرة الجهاديَّة، فقبل الواقعة بقليل اقترح حبيب بن مُظاهر الأسدي على الإمام قائلاً: إنَّ هاهنا حيَّاً مِن بني أسد أعراباً ينزلون بالنهرين، وليس بيننا وبينهم إلاَّ دواحة، أفتأذن لي في إتيانهم ودعائهم لعلَّ الله أنْ يجد بهم إليك نفعاً ويدفع عنك مكروهاً؟.

فأذن له الإمام فانطلق مُسرعاً إليهم، ولـمَّا مَثُل عندهم قال: إنِّي أدعوكم إلى شرف الآخرة وفضائلها وجسيم ثوابها، أنا أدعوكم إلى نُصرة ابن بنت رسول الله نبيِّكمصلى‌الله‌عليه‌وآله ،

____________________

(1) حياة الإمام الحسين: ج3: ص147.

١٥٩

فقد أصبح مظلوماً، دعاه أهل الكوفة لينصروه فلـمَّا أتاهم خذلوه وعدوا عليه ليقتلوه.

فاستجاب سبعون شخصاً... وخفُّوا إلى نُصرة الإمام، إلاَّ أنَّه كان في المجلس عين لابن سعد فأسرع إليه وأخبره بذلك؛ فجهَّز مفرزةً مِن جيشه بقيادة جبلة بن عمرو، فحالوا بينهم وبين الالتحاق بالحسين، فرجع حبيب حزيناً فأخبر الإمام بذلك فقال: (الحمد لله كثيراً)(1) .

فهؤلاء الجماعة الذين حيل بينهم وبين الوصول إلى الإمامعليه‌السلام لا شكَّ أنَّهم سوف ينضمُّون إلى جماهير الثورة فيما بعد الواقعة، هذا جزء مِن التخطيط الحسيني في توسيع القاعدة الجماهيريَّة للثورة الـمُقدَّسة، وإلاَّ فماذا تُفسَّر هذه الدعوات مِن هذا القائد، الذي يعلم علماً يقينيَّاً بأنَّه سوف يُقتل هو ومَن معه، وأنَّ أيَّ شخصٍ ينضمُّ إليه، فإنَّه ينضمُّ إلى قافلة الشهداء؟ فإنَّ انضمام أيَّ شخصٍ أو عدَّة أشخاص إلى الـمُعسكر الحسيني، سوف لا يُغيِّر ذلك مِن مُعادلات المعركة إلى مُستوى احتمال الانتصار العسكري لسيِّد الشهداء على أعدائه، ولم يكن الانتصار العسكري وارداً في حسابات هذا الثائر. فلم يبقَ إلاَّ مُحاولة تكوين جمهور يرتبط بالثورة الـمُقدَّسة إنْ عاجلاً أو آجلاً.

ولا شكَّ أنَّ تلك الصفوة التي وقفت معه واستشهدت بين يديه، تُمثِّل القِمَّة مِن بين جماهير الثورة.

(لم يكن أصحاب الحسين قليلين بنظره، فكلٌّ منهم يُشكِّل داعية كبيرة للإسلام، ويَشْخَص أمام الأُمَّة رسولاً مِن رُسُله الذين ساروا خلف الرسول محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، منذ أنْ بدأ دعوته وقريش كلُّها تُناجزه وتناصبه العداء، وإذ لم يرَ الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله في عليٍّ طفلاً، وفي خديجة مُجرَّد امرأة ضعيفة، وفي ياسر وسميَّة شيخين عاجزين، وفي بلال عبداً

____________________

(1) حياة الإمام الحسين: ج3: ص143.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276