قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة21%

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة مؤلف:
الناشر: المؤسّسة الإسلاميّة للبحوث والمعلومات
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 276

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة
  • البداية
  • السابق
  • 276 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 50546 / تحميل: 5979
الحجم الحجم الحجم
قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

مؤلف:
الناشر: المؤسّسة الإسلاميّة للبحوث والمعلومات
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

ثمّ يضيف :( وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ) ،( وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ ) .(١)

في الحقيقة أنّ هذه الأقسام الثلاثة مرتبطة بعضها بالآخر ومكملة للآخر ، وكذلك لأنّنا كما نعلم أنّ القمر يتجلى في الليل ، ويختفي نوره في النهار لتأثير الشمس عليه ، والليل وإن كان باعثا على الهدوء والظلام وعنده سرّ عشاق الليل ، ولكن الليل المظلم يكون جميلا عند ما يدبر ويتجه العالم نحو الصبح المضيء وآخر السحر ، وطلوع الصبح المنهي الليل المظلم أصفى وأجمل من كل شيء حيث يثير في الإنسان إلى النشاط ويجعله غارقا في النور الصفاء.

هذه الأقسام الثلاثة تتناسب ضمنيا مع نور الهداية (القرآن) واستدبار الظلمات (الشرك) وعبادة (الأصنام) وطلوع بياض الصباح (التوحيد) ، ثمّ ينتهي إلى تبيان ما أقسم من أجله فيقول تعالى :( إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ ) .(٢)

إنّ الضمير في (إنّها) إمّا يرجع إلى «سقر» ، وإمّا يرجع إلى الجنود ، أو إلى مجموعة الحوادث في يوم القيامة ، وأيّا كانت فإنّ عظمتها واضحة.

ثمّ يضيف تعالى :( نَذِيراً لِلْبَشَرِ ) .(٣)

لينذر الجميع ويحذرهم من العذاب الموحش الذي ينتظر الكفّار والمذنبين وأعداء الحق.

وفي النهاية يؤكّد مضيفا أنّ هذا العذاب لا يخص جماعة دون جماعة ، بل :( لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ) فهنيئا لمن يتقدم ، وتعسا وترحا لمن يتأخر.

واحتمل البعض كون التقدم إلى الجحيم والتأخر عنه ، وقيل هو تقدم النفس

__________________

(١) «أسفر» من مادة (سفر) على وزن (قفر) ويعني انجلاء الملابس وانكشاف الحجاب ، ولذا يقال للنساء المتبرجات (سافرات) وهذا التعبير يشمل تشبيها جميلا لطلوع الشمس.

(٢) «كبر» : جمع كبرى وهي كبيرة ، وقيل المراد بكون سقر إحدى الطبقات الكبيرة لجهنّم ، هذا المعنى لا يتفق مع ما أشرنا إليه من قبل وكذا مع الآيات.

(٣) «نذيرا» : حال للضمير في «أنّها» الذي يرجع إلى سقر ، وقيل هو تمييز ، ولكنه يصح فيما لو كان النذير مصدرا يأتي بمعنى (الإنذار) ، والمعنى الأوّل أوجه.

١٨١

الإنسانية وتكاملها أو تأخرها وانحطاطها ، والمعنى الأوّل والثّالث هما المناسبان ، دون الثّاني.

* * *

١٨٢

الآيات

( كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (٤٧) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨) )

التّفسير

لم صرتم من أصحاب الجحيم؟

إكمالا للبحث الذي ورد حول النّار وأهلها في الآيات السابقة ، يضيف تعالى في هذه الآيات :( كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) .

«رهينة» : من مادة (رهن) وهي وثيقة تعطى عادة مقابل القرض ، وكأن نفس الإنسان محبوسة حتى تؤدي وظائفها وتكاليفها ، فإن أدت ما عليها فكت وأطلقت ، وإلّا فهي باقية رهينة ومحبوسة دائما ، ونقل عن أهل اللغة أنّ أحد

١٨٣

معانيها الملازمة والمصاحبة(١) ، فيكون المعنى : الكلّ مقترنون بمعية أعمالهم سواء الصالحون أم المسيئون.

لذا يضيف مباشرة :( إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ ) .

إنّهم حطموا أغلال وسلاسل الحبس بشعاع الإيمان والعمل الصالح ويدخلون الجنّة بدون حساب.(٢)

وهناك أقوال كثيرة حول المقصود من أصحاب اليمين :

فقيل هم الذين يحملون كتبهم بيمينهم ، وقيل هم المؤمنون الذين لم يرتكبوا ذنبا أبدا ، وقيل هم الملائكة ، وقيل غير ذلك والمعنى الأوّل يطابق ظاهر الآيات القرآنية المختلفة ، وما له شواهد قرآنية ، فهم ذو وإيمان وعمل صالح ، وإذا كانت لهم ذنوب صغيرة فإنّها تمحى بالحسنات وذلك بحكم( إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ) (٣) .

فحينئذ تغطّي حسناتهم سيئاتهم أو يدخلون الجنّة بلا حساب ، وإذا وقفوا للحساب فسيخفف عليهم ذلك ويسهل ، كما جاء في سورة الإنشقاق آية (٧) :( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً ) .

ونقل المفسّر المشهور «القرطبي» وهو من أهل السنة تفسير هذه الآية عن الإمام الباقرعليه‌السلام فقال : «نحن وشيعتنا أصحاب اليمين وكل من أبغضنا أهل البيت فهم مرتهنون».(٤)

وأورد هذا الحديث مفسّرون آخرون منهم صاحب مجمع البيان ونور

__________________

(١) لسان العرب مادة : رهن.

(٢) قال الشّيخ الطوسي في التبيان أن الاستثناء هنا هو منقطع وقال آخرون كصاحب (روح البيان) أنّه متصل ، وهذا الاختلاف يرتبط كما ذكرنا بالتفسيرات المختلفة لمعنى الرهينة ، وما يطابق ما اخترناه من التّفسير هو أن الاستثناء هنا منقطع وعلى التفسير الثّاني يكون متصلا.

(٣) سورة هود ، الآية ١١٤.

(٤) تفسير القرطبي ، ج ١٠ ، ص ٦٨٧٨.

١٨٤

الثقلين والبعض الآخر أورده تذييلا لهذه الآيات.

ثمّ يضيف مبيّنا جانبا من أصحاب اليمين والجماعة المقابلة لهم :

( فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ ) (١) ( عَنِ الْمُجْرِمِينَ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ) .

يستفاد من هذه الآيات أن الرابطة غير منقطعة بين أهل الجنان وأهل النّار ، فيمكنهم مشاهدة أحوال أهل النّار والتحدث معهم ، ولكن ماذا سيجيب المجرمون عن سؤال أصحاب اليمين؟ إنّهم يعترفون بأربع خطايا كبيرة كانوا قد ارتكبوها :

الاولى :( قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ) .

لو كنّا مصلّين لذكّرتنا الصلاة بالله تعالى ، ونهتنا عن الفحشاء والمنكر ودعتنا إلى صراط الله المستقيم.

والأخرى :( وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ) .

وهذه الجملة وإن كانت تعطي معنى إطعام المحتاجين ، ولكن الظاهر أنه يراد بها المساعدة والإعانة الضرورية للمحتاجين عموما بما ترتفع بها حوائجهم كالمأكل والملبس والمسكن وغير ذلك.

وصرّح المفسّرون أنّ المراد بها الزكاة المفروضة ، لأنّ ترك الإنفاق المستحب لا يكون سببا في دخول النّار ، وهذه الآية تؤكّد مرّة أخرى على أنّ الزّكاة كانت قد فرضت بمكّة بصورة إجمالية ، وإن كان التشريع بجزئياتها وتعيين خصوصياتها وتمركزها في بيت المال كان في المدينة.

والثّالثة :( وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ ) .

كنّا نؤيد ما يصدر ضدّ الحقّ في مجالس الباطل. نقوم بالترويج لها ، وكنّا معهم

__________________

(١) «يتساءلون» : وهو وإن كان من باب (تفاعل) الذي يأتي عادة في الأعمال المشتركة بين اثنين أو أكثر ، ولكنه فقد هذا المعنى هنا كما في بعض الموارد الأخرى ، ولمعنى يسألون ، وتنكير الجنات هو لتبيان عظمتها و (في جنات) خبر لمبتدأ محذوف تقديره : هو في جنات.

١٨٥

أين ما كانوا ، وكيف ما كانوا ، وكنّا نصدق أقوالهم ، ونضفي الصحة على ما ينكرون ويكذبون ونلتذ باستهزائهم الحقّ.

«نخوض» : من مادة (خوض) على وزن (حوض) ، وتعني في الأصل الغور والحركة في الماء ، ويطلق على الدخول والتلوث بالأمور ، والقرآن غالبا ما يستعمل هذه اللفظة في الإشتغال بالباطل والغور فيه.

(الخوض في الباطل) له معان واسعة فهو يشمل الدخول في المجالس التي تتعرض فيها آيات الله للاستهزاء أو ما تروج فيها البدع ، أو المزاح الواقح ، أو التحدث عن المحارم المرتكبة بعنوان الافتخار والتلذذ بذكرها ، وكذلك المشاركة في مجالس الغيبة والاتهام واللهو واللعب وأمثال ذلك ، ولكن المعنى الذي انصرفت إليه الآية هو الخوض في مجالس الاستهزاء بالدين والمقدسات وتضعيفها وترويج الكفر والشرك.

وأخيرا يضيف :( وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ ) .

من الواضح أنّ إنكار المعاد ويوم الحساب والجزاء يزلزل جميع القيم الإلهية والأخلاقية ، ويشجع الإنسان على ارتكاب المحارم ، ويرفع كلّ مانع هذا الطريق ، خصوصا إذا استمر إلى آخر العمر ، على كل حال فإنّ ما يستفاد من هذه الآيات أنّ الكفار هم مكلّفون بفروع الدين ، كما هم مكلّفون بالأصول ، وكذلك تشير إلى أن الأركان الاربعة ، أي الصلاة والزّكاة وترك مجالس أهل الباطل ، والإيمان بالقيامة لها الأثر البالغ في تربية وهداية الإنسان ، وبهذا لا يمكن أن يكون الجحيم مكانا للمصلين الواقعيين ، والمؤتين الزّكاة ، والتاركين الباطل والمؤمنين بالقيامة.

بالطبع فإنّ الصلاة هي عبادة الله ، ولكنّها لا تنفع إذا لم يمتلك الإنسان الإيمان به تعالى ، ولهذا فإنّ أداءها رمز للإيمان والإعتقاد بالله والتسليم لأوامره ، ويمكن القول إنّ هذه الأمور الأربعة تبدأ بالتوحيد ينتهي بالمعاد ، وتحقق العلاقة والرابطة بين الإنسان والخالق ، وكذا بين المخلوقين أنفسهم.

١٨٦

والمشهور بين المفسّرين أنّ المراد من (اليقين) هنا هو الموت ، لأنّه يعتبر أمر يقيني للمؤمن والكافر ، وإذا شك الإنسان في شيء ما فلا يستطيع أن يشك بالموت ونقرأ أيضا في الآية (٩٩) من سورة الحجر :( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) .

ولكن ذهب البعض إلى أنّ اليقين هنا يعني المعرفة الحاصلة بعد موت الإنسان وهي التي تختص بمسائل البرزخ والقيامة ، وهذا ما يتفق نوعا ما مع التّفسير الأوّل.

وفي الآية الأخيرة محل البحث إشارة إلى العاقبة السيئة لهذه الجماعة فيقول تعالى :( فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ ) .

فلا تنفعهم شفاعة الأنبياء ورسل الله والائمّة ، ولا الملائكة والصديقين والشهداء والصالحين ، ولأنّها تحتاج إلى عوامل مساعدة وهؤلاء أبادوا كل هذه العوامل ، فالشفاعة كالماء الزلال الذي تسقى به النبتة الفتية ، وبديهي إذا ماتت النبتة الفتية ، لا يكن للماء الزلال أن يحييها ، وبعبارة أخرى كما قلنا في بحث الشفاعة ، فإنّ الشفاعة من (الشفع) وتعني ضم الشيء إلى آخر ، ومعنى هذا الحديث هو أنّ المشفّع له يكون قد قطع قسطا من الطريق وهو متأخر عن الركب في مآزق المسير ، فتضم إليه شفاعة الشافع لتعينه على قطع بقية الطريق(١) .

وهذه الآية تؤكّد مرّة أخرى مسألة الشفاعة وتنوع وتعدد الشفعاء عند الله ، وهي جواب قاطع لمن ينكر الشفاعة ، وكذلك توكّد على أنّ للشفاعة شروطا وأنّها لا تعني إعطاء الضوء الأخضر لارتكاب الذنوب ، بل هي عامل مساعد لتربية الإنسان وإيصاله على الأقل إلى مرحلة تكون له القابلية على التشفع ، بحيث لا تنقطع وشائج العلاقة بينه وبين الله تعالى والأولياء.

* * *

__________________

(١) التّفسير الأمثل ، المجلد الأوّل ، ذيل الآية (٤٨) من سورة البقرة.

١٨٧

ملاحظة :

شفعاء يوم القيامة :

نستفيد من هذه الآيات والآيات القرآنية الأخرى أنّ الشفعاء كثيرون في يوم القيامة (مع اختلاف دائرة شفاعتهم) ويستفاد من مجموع الرّوايات الكثيرة والمنقولة من الخاصّة والعامّة أنّ الشفعاء يشفعون للمذنبين لمن فيه مؤهلات الشفاعة :

١ ـ الشفيع الأوّل هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كما نقرأ في حديث حيث قال : «أنا أوّل شافع في الجنّة»(١) .

٢ ـ الأنبياء من شفعاء يوم القيامة ، كما ورد في حديث آخر عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال : «يشفع الأنبياء في كلّ من يشهد أن لا إله إلّا الله مخلصا فيخرجونهم منها»(٢) .

٣ ـ الملائكة من شفعاء يوم المحشر ، كما نقل عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال : «يؤذن للملائكة والنّبيين والشّهداء أن يشفعوا»(٣) .

٤ ، ٥ ـ الأئمّة المعصومين وشيعتهم كما قال في ذلك أمير المؤمنينعليه‌السلام حيث قال : «لنا شفاعة ولأهل مودتنا شفاعة»(٤)

٦ ، ٧ ـ العلماء والشّهداء كما ورد في حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال : «يشفع يوم القيامة الأنبياء ثمّ العلماء ثمّ الشّهداء»(٥) .

وورد في حديث آخر عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «يشفع الشّهيد في سبعين إنسانا

__________________

(١) صحيح مسلم ، ج ٢ ، ص ١٣٠.

(٢) مسند أحمد ، ج ٣ ، ص ١٢.

(٣) مسند أحمد ، ج ٥ ، ص ٤٣.

(٤) الخصال للصدوقرحمه‌الله ، ص ٦٢٤.

(٥) سنن ابن ماجة ، ج ٢ ، ص ١٤٤٣.

١٨٨

من أهل بيته»(١) .

وفي حديث آخر نقله المجلسي في بحار الأنوار : «إنّ شفاعتهم تقبل في سبعين ألف نفر»(٢) .

ولا منافاة بين الرّوايتين إذ أنّ عدد السبعين والسبعين ألف هي من أعداد الكثرة.

٨ ـ القرآن كذلك من الشفعاء في يوم القيامة كما قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : «واعلموا أنّه (القرآن) شافع مشفع»(٣) .

٩ ـ من مات على الإسلام فقد ورد عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا بلغ الرجل التسعين غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر وشفّع في أهله»(٤) .

١٠ ـ العبادة : كما جاء في حديث عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الصّيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة»(٥) .

١١ ـ ورد في بعض الرّوايات أنّ العمل الصالح كأداء الأمانة يكون شافعا في يوم القيامة.(٦)

١٢ ـ والطريف هو ما يستفاد من بعض الرّوايات من أنّ الله تعالى أيضا يكون شافعا للمذنبين في يوم القيامة ، كما ورد في الحديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يشفع النّبيون والملائكة والمؤمنون فيقول الجبار بقيت شفاعتي»(٧) .

والرّوايات كثيرة في هذه الباب وما ذكرناه هو جانب منها.(٨)

__________________

(١) سنن أبي داود ، ج ٢ ، ص ١٥.

(٢) بحار الأنوار ، ج ١٠٠ ، ص ١٤.

(٣) نهج البلاغة الخطبة ، ١٧٦.

(٤) مسند أحمد ، ج ٢ ، ص ٨٩.

(٥) مسند أحمد ، ج ٢ ، ص ١٧٤.

(٦) مناقب ابن شهر آشوب ، ج ٢ ، ص ١٤.

(٧) صحيح البخاري ، ج ٩ ، ص ١٤٩.

(٨) للاستيضاح يمكن مراجعة كتاب مفاهيم القرآن ، ج ٤ ، ص ٢٨٨ ـ ٣١١.

١٨٩

ونكرر أنّ للشفاعة شروطا لا يمكن بدونها التشفع وهذا ما جاء في الآيات التي بحثناها والتي تشير بصراحة الى عدم تأثير شفاعة الشفعاء في المجرمين ، فالمهم أن تكون هناك قابلية للتشفع ، لأنّ فاعلية الفاعل لوحدها ليست كافية (أوردنا شرحا مفصلا في هذا الباب في المجلد الأوّل في بحث الشفاعة)

* * *

١٩٠

الآيات

( فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (٥٢) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣)كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (٥٦) )

التّفسير

يفرّون من الحق كما تفرّ الحمر من الأسد :

تتابع هذه الآيات ما ورد في الآيات السابقة من البحث حول مصير المجرمين وأهل النّار ، وتعكس أوضح تصوير في خوف هذه الجماعة المعاندة ورعبها من سماع حديث الحقّ والحقيقة.

فيقول الله تعالى أوّلا :( فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ) (١) لم يفرّون من دواء

__________________

(١) «ما» مبتدأ و (لهم) خبر و (معرضين) حال الضمير لهم (وعن التذكرة) جار ومجرور ومتعلق بالمعرضين ، وقيل تقديم (عن التذكرة) على (معرضين) دلالة على الحصر أي أنّهم أعرضوا عن التذكرة المفيدة فقط ، على كل حال فإنّ المراد من التذكرة هنا كلّ ما هو نافع ومفيد وعلى رأسها القرآن المجيد.

١٩١

القرآن الشافي؟ لم يطعنون في صدر الطبيب الحريص عليهم؟ حقّا إنّه مثير( كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ) .

«حمر» : جمع (حمار) والمراد هنا الحمار الوحشي ، بقرينة فرارهم من قبضة الأسد والصياد ، وبعبارة أخرى أنّ هذه الكلمة ذات مفهوم عام يشمل الحمار الوحشي والأهلي.

«قسورة» : من مادة (قسر) أي القهر والغلبة ، وهي أحد أسماء الأسد ، وقيل هو السهم ، وقيل الصيد ، ولكن المعنى الأوّل أنسب.

والمشهور أنّ الحمار الوحشي يخاف جدّا من الأسد ، حتى أنّه عند ما يسمع صوته يستولي عليه الرعب فيركض إلى كلّ الجهات كالمجنون ، خصوصا إذا ما حمل الأسد على فصيل منها ، فإنّها تتفرق في كل الجهات بحيث يعجب الناظر من رؤيتها.

وهذا الحيوان وحشي ويخاف من كل شيء ، فكيف به إذا رأى الأسد المفترس؟!

على كل حال فإنّ هذه الآية تعبير بالغ عن خوف المشركين وفرارهم من الآيات القرآنية المربية للروح ، فشبههم بالحمار الوحشي لأنّهم عديمو العقل والشعور ، وكذلك لتوحشّهم من كل شيء ، في حين أنّه ليس مقابلهم سوى التذكرة.

( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) (١) ، وذلك لتكبّرهم وغرورهم الفارغ بحيث يتوقعون من الله تعالى أن ينزل على كلّ واحد منهم كتابا.

وهذا نظير ما جاء في الآية (٩٣) من سورة الإسراء :( وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى

__________________

(١) «صحف» : جمع صحيفة ، وهي الورقة التي لها وجهان ، وتطلق كذلك على الرسالة والكتاب.

١٩٢

تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ ) .

وكذا في الآية (١٢٤) من سورة الأنعام حيث يقول :( قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ ) .

وعلى هذا فإنّ كلّا منهم يتنظر أن يكون نبيّا من اولي العزم! وينزل عليه كتابا خاصّا من الله بأسمائهم ، ومع كل هذا فليس هناك من ضمان في أن يؤمنوا بعد كل ذلك.

وجاء في بعض الرّوايات أنّ أبا جهل وجماعة من قريش قالوا للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا نؤمن بك حتى تأتينا بصحف من السماء عليها فلان ابن فلان من ربّ العالمين ، ويأتي الأمر علنا باتباعك والإيمان بك.(١)

ولذا يضيف في الآية الأخرى :( كَلَّا ) ليس كما يقولون ويزعمون ، فإنّ طلب نزول مثل لهذا الكتاب وغيره هي من الحجج الواهية ، والحقيقة( بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ ) .

إذا كانوا يخافون الآخرة فما كانوا يتذرعون بكل هذه الذرائع ، ما كانوا ليكذبوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما كانوا ليستهزئوا بآيات الله تعالى ، ولا بعدد ملائكته ، ومن هنا يتّضح أثر الإيمان بالمعاد في التقوى والطهارة من المعاصي والذنوب الكبيرة ، والحقّ يقال إن الإيمان بعالم البعث والجزاء وعذاب القيامة يهب للإنسان شخصية جديدة يمكنه أن يغير إنسانا متكبرا ومغرورا وظالما إلى إنسان مؤمن متواضع ومتق عادل.

ثمّ يؤكّد القرآن على أنّ ما يفكرون به فيما يخصّ القرآن هو تفكّر خاطئ :( كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) .

إنّ القرآن الكريم قد أوضح الطريق ، ودعانا إلى التبصر فيه ، وأنار لنا السبيل

__________________

(١) تفسير القرطبي ، والمراغي ، وتفاسير اخرى.

١٩٣

ليرى الإنسان موضع أقدامه ، وفي الوقت نفسه لا يمكن ذلك إلّا بتوفيق من الله وبمشيئته تعالى ، وما يذكرون إلّا ما يشاء الله.

ولهذا الآية عدّة تفاسير :

إحداها : كما ذكرناه سابقا ، وهو أن الإنسان لا يمكنه الحصول على طريق الهداية إلّا بالتوسل بالله تعالى وطلب الموفقية منه.

وطبيعي أن هذا الإمداد والتوفيق الإلهي لا يتمّ إلّا بوجود أرضية مساعدة لنزوله.

والتّفسير الآخر : ما جاء في الآية السابقة :( فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) يمكن أن يوجد وهما وأنّ كل شيء مرتبط بإرادة الإنسان نفسه ، وأنّ إرادته مستقلة في كل الأحوال ، وتقول هذه الآية رافعة بذلك هذا الاشتباه ، إنّ الإنسان مرتبط بالمشيئة الإلهية ، وإن هذه الآية مختارا حرّا وهذه المشيئة هي الحاكمة على كل هذا العالم الموجود ، وبعبارة اخرى : إنّ هذا الاختبار والحرية والمعطاة للإنسان في بمشيئته تعالى وإرادته ، ويمكن سلبها أنّى شاء.

وأمّا التّفسير الثّالث فإنّه يقول : إنّهم لا يمكنهم الإيمان إلّا أن يشاء الله ذلك ويجبرهم ، ونعلم أنّ الله لا يجبر أحدا على الإيمان أو الكفر ، والتّفسير الأوّل والثّاني أنسب وأفضل.

وفي النهاية يقول :( هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) .

فهو أهل لأن يخافوا من عقابه وأن يتقوا في اتّخاذهم شريكا له تعالى شأنه ، وأن يأملوا مغفرته ، وفي الحقيقة ، أنّ هذه الآية إشارة إلى الخوف والرجاء والعذاب والمغفرة الإلهية ، وهي تعليل لما جاء في الآية السابقة ، لذا نقرأ

في حديث ورد عن الإمام الصّادقعليه‌السلام في تفسير هذه الآية أنّه قال : «قال الله : أنا أهل

١٩٤

أن اتقى ولا يشرك بي عبدي شيئا وأنا أهل إن لم يشرك بي شيئا أن ادخله الجنّة»(١) .

وبالرغم من أنّ المفسّرين ـ كما رأينا ـ قد أخذوا التقوى هنا بمعناها المفعولي ، وقالوا إنّ الله تعالى أهل لأن يتّقى من الشرك والمعصية ، ولكن هناك احتمالا آخر ، وهو أنّ تؤخذ بمعناها الفاعلي ، أي أن الله أهل للتقوى من كلّ أنواع الظلم والقبح ومن كل ما يخاف الحكمة ، وما عند العباد من التقوى هو قبس ضعيف من ما عند الله ، وإنّ كان التعبير بالتقوى بمعناه الفاعلي والذي يقصد به الله تعالى قليل الاستعمال ، على كل حال فإنّ الآية قد بدأت بالإنذار والتكليف ، وانتهت بالدعوة إلى التقوى والوعد بالمغفرة.

ونتعرض هنا بالدعاء إليه خاضعين متضرعين تعالى :

ربّنا! اجعلنا من أهل التقوى والمغفرة.

اللهم! إن لم تشملنا ألطافك فإنّنا لا نصل إلى مرادنا ، فامنن علينا بعنايتك.

اللهم! أعنّا على طريق مليء بالمنعطفات والهموم والمصائد الشيطانية الصعبة ، وأعنا على الشيطان المتهيئ لإغوائنا ، فبغير عونك لا يمكننا المسير في هذا الطريق.

آمين يا ربّ العالمين.

نهاية سورة المدّثّر

* * *

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ٤ ، ص ٤٠٥.

١٩٥
١٩٦

سورة

القيامة

مكيّة

وعدد آياتها أربعون آية

١٩٧
١٩٨

«سورة القيامة»

محتوى السورة :

كما هو واضح من اسم السورة فإنّ مباحثها تدور حول مسائل ترتبط بالمعاد ويوم القيامة إلّا بعض الآيات التي تتحدث حول القرآن والمكذبين ، وأمّا الآيات المرتبطة بيوم القيامة فإنّها تجتمع في أربعة محاور :

١ ـ المسائل المرتبطة بأشراط الساعة.

٢ ـ المسائل المتعلقة بأحوال الصالحين والطالحين في ذلك اليوم.

٣ ـ المسائل المتعلقة باللحظات العسيرة للموت والانتقال إلى العالم الآخر.

٤ ـ الأبحاث المتعلقة بالهدف من خلق الإنسان ورابطة ذلك بمسألة المعاد.

فضيلة السورة :

في حديث روي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من قرأ سورة القيامة شهدت أنا وجبرائيل له يوم القيامة أنّه كا مؤمنا بيوم القيامة ، وجاء ووجهه مسفر على وجوه الخلائق يوم القيامة»(١) .

ونقرأ في حديث ورد عن الإمام الصّادقعليه‌السلام قال : «من أدمن قراءة( لا أُقْسِمُ ) وكان يعمل بها ، بعثها الله يوم القيامة معه في قبره ، في أحسن صورة

__________________

(١) مجمع البيان ، ١٠ ـ ، ص ٣٩٣.

١٩٩

تبشّره وتضحك في وجهه ، حتى يجوز الصراط والميزان»(١) .

والجدير بالملاحظة أنّ ما كنّا نستفيد منه في القرائن التي في فضائل تلاوة السور القرآنية قد صرّح بها الإمام هنا في هذه الرّواية حيث يقول : «من أدمن قراءة لا اقسم وكان يعمل بها» ولذا فإنّ كل ذلك هو مقدمة لتطبيق المضمون.

* * *

__________________

(١) المصدر السّابق.

٢٠٠

ووضع يديه تحت الجرح فلـمَّا امتلأت دماً رمى به نحو السماء، وقال:

(هوَّن عليَّ ما نزل بي أنَّه بعين الله).

فلم يسقط مِن ذلك الدم قطرة إلى الأرض. ثمَّ مَدَّ يديه ثانياً، فلـمَّا امتلأت لطَّخ به رأسه ووجهه، وقال:

(هكذا أكون حتَّى ألقى الله وجَدِّي رسول الله، وأنا مُخضَّب بدمي)(١) .

وهكذا تبقى يا أبا الأحرار، مدرسة الأجيال في كلِّ ميدان مِن ميادين العظمة والنُّبل والفضيلة، وتبقى مصباحاً للهدى تُضيء للأُمَّة طريقها وتُعلِّم الأحرار كيف يعيشون أو كيف يموتون.

* * *

عفواً أبا الشهداء

عفواً أبا الشهداء الغُرِّ إنْ قصرت

قريحتي عن مديح ذكره عطر

فأيُّ يوميك أحرى أنْ نُشيد له

ذكراً لعُلياك كي يسمو به الذكر

يوم الولادة أم يوم كتبت به

سطر الشهادة فيه يُكتب النصر

رتَّلت للدهر آياً للفداء وفي

جبينه سجَّلتها البيض والسمر

كشفت فيها مِن الطاغين واقعهم

وصنت بالموت حَقَّاً غاله الجور

____________________

(١) مقتل الحسين للـمُقرَّم: ص٢٧٩.

٢٠١

فنفسك الطُّهر تأبى أنْ تُساومهم

إذ لا حياة إذا ما اسُتعبد الحُرُّ

سننت فيها طريقاً للدُّعاة فما

سواه يُجدي إذا ما قتَّم الكفر

أدركت أنَّ شهيد الحَقِّ مولده

يوم الشهادة فيه يُذبَح الـمَكر

أثبتَّ أنَّ دم الأحرار صاعقة

على عروش بناها الجور والغدر

لولا جهادك والتاريخ شاهده

لأصبح الدين طَيَّاً ماله نشر

جددَّته بعدما كادت معالمه

تذوب كالمِلح إذ يطغى به النهر

بُشراك هذي ثمار الفتح ترفعها

منابر الحَقِّ فيها يُفضح الشرُّ

صبرت في موقف تعنو الجباه له

وموقف الحَقِّ فيه يُحمد الصبر

هيهات هيهات لن يُنسى دمٌ كتبت

به الملاحم فيها يفخر الدهر

وحَقِّ صَدرِك والأعداء تحطمه

الله أعلم ماذا يحمل الصدر

وحَقِّ نحرك حيث السيف يقطعه

في ذِمَّة الله يُفرى ذلك النحر

لن تنمحي أسطر سجَّلتها فغدت

طوفان نوح لحتَّى ينقضي الأمر(١)

____________________

(١) مِن قصيدة للمؤلِّف بمُناسبة ذكرى مولد الإمام الحسين سنة ١٤٠٥ هـ.

٢٠٢

٢٠٣

القراءة الخامسة

في البيانات الإعلاميَّة فيما بعد الثورة

أ - الوسيلة الإعلاميَّة للثورة

ب - البيانات الإعلاميَّة في الكوفة

ج - البيانات الإعلاميَّة في الشام

د - البيان الإعلاميِّ في المدينة المنوَّرة

٢٠٤

٢٠٥

أ - الوسيلة الإعلاميَّة للثورة

كلُّ ثورة في العالم لا بُدَّ لها مِن حملة إعلاميَّة لإيصال صوتها إلى أسماع الناس، وذلك مِن خلال الوسائل الإعلاميَّة الـمُتاحة في عصر تلك الثورة، وكانت الوسيلة الإعلاميَّة للثورة الحسينيَّة الـمُقدَّسة فريدة مِن نوعها، لم تُستخدَم في أيِّ ثورة في العالم، ويتمثَّل ذلك في مسيرة السبي التي تعرَّضت لها عائلة الإمام الحسينعليه‌السلام مِن أطفال ونساء مِن بعد الواقعة.

ففي تلك المسيرة استطاع سبايا أهل البيت أنْ يُعطوا الثورة بُعدها الإعلاميِّ، والقوَّة التأثيريَّة في نفوس الجماهير؛ بحيث لولا هذا الدور لاستطاع النظام الأُمويِّ أنْ يُشوِّه الثورة، ويقوم بعمليَّة التعتيم على أهدافها والقضاء على نتائجها، كما يحصل للكثير مِن الحركات الإصلاحيَّة في العالم، حينما يُقضى عليها في مهدها، وبما أنَّ الطرف الـمُضادَّ هو الذي يملك وسائل القوَّة بما في ذلك القوَّة الإعلاميَّة؛ فإنَّه يستطيع أنْ يُشوِّه صورة تلك الحركة في ذهنيَّة الرأي العامِّ، إلى الحَدِّ الذي يُصبح الناس فيه ناقمين على تلك الحركة الإصلاحيَّة ويقفون منها موقف المواجهة، مع أنَّ تلك الحركة قد تكون في حقيقتها في صالح الناس، ولكنْ بسبب التعتيم الإعلامي تُشوَّه الصورة.

هكذا سوف يكون مصير الثورة الحسينيَّة، لولا الدور الذي قام به سبايا آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولذهبت تلك الدماء الزكيَّة هَدْراً دون أنْ يكون لها هذا الأثر وهذا العطاء الذي نُشاهده ونعيشه.

٢٠٦

وهذا مغزى كلمة الإمام الحسينعليه‌السلام حينما سُئل عن سبب حمله للنسوة والعائلة، مع أنَّه ماضٍ إلى مواجهة النظام الأُموي، فقالعليه‌السلام :

(إنَّ الله شاء أنْ يراهُنَّ سباياً)(١) .

يعني: أنَّ الله تعالى أراد لهنَّ أنْ يقُمن بهذا الدور، الذي لا يُمكن لأحد مِن الرجال أنْ يقوم به في ظرف ما بعد الثورة، نظراً ما للمرأة وكلامها مِن التأثير العاطفي على النفوس، في إثارة المشاعر والعواطف، ولا سِيَّما إذا كانت المرأة تمتلك مقاليد البيان وتتحلَّى بالشجاعة الأدبيَّة، كحرائر بيت النبوَّة وعلى رأسهنَّ الحوراء زينب بنت عليعليها‌السلام . وكذلك ما للمرأة مِن مكانة خاصَّة في النفوس لا سِيَّما عند العرب آنذاك، تلك المكانة التي تكسب المرأة حماية اجتماعيَّة خاصَّة عن التعدِّي على حياتها.

مِن هنا استطاع سبايا أهل البيت أنْ يفضحوا النظام الأُمويِّ بكلِّ قوَّة ووضوح.

وهذا ما لا يستطيع أحد مِن الرجال أنْ يقوم به في تلك الظروف التي كُمَّتْ فيها الأفواه، فمَن تحدَّث عمَّا جرى على آل محمد فإنَّه يُعرِّض نفسه للموت.

وحتَّى الإمام زين العابدينعليه‌السلام قد تعرَّضت حياته للخطر، لولا دفاع عَمَّته الحوراءعليها‌السلام ، وذلك حينما رَدَّ على الطاغية ابن زياد كلامه في مجلسه، عندما التفت الطاغية فرأى الإمام فسأله:

مَن أنت؟ فأجابه الإمام: (أنا علي بن الحسين)، فقال الطاغية، أوَلم يَقتل الله علي بن الحسين؟

فأجابه الإمام بأناة: (كان لي أخٌ يُسمَّى عليَّاً فقتلوه، وإنَّ له منكم مُطالباً يوم القيامة).

____________________

(١) اللهوف: ص٤٠ طبع الأعلمي، والبحار: ج٤٤: ص٣٦٤.

٢٠٧

فثار ابن زياد في وَقاحة وصُلف وصاح بالإمام: الله قتله.

فأجابه الإمام بكلِّ شجاعة وثبات:( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) ،( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله ) .

ودارت الأرض بابن زياد وأخذته عِزَّة الإثم، فقد غاظه أنْ يتكلَّم هذا الغُلام الأسير بهذه الطلاقة، وقوَّة الحُجَّة والاستشهاد بالقرآن فصاح به: وبكَ جُرأة على رَدِّ جوابي، وفيك بقية للرَّدِّ عليَّ. وصاح الرجس الخبيث بأحد جلاَّديه وقال: خُذْ هذا الغُلام واضرب عُنقه. وطاشت أحلام السيِّدة زينب وانبرت بشجاعة لا يرهبها سلطان، فأخذت الإمام فاعتنقته وقالت لابن مرجانة: حَسْبُك - يا بن زياد - مِن دمائنا ما سفكت، وهل أبقيت أحداً غير هذا؟! فإنْ أردت قتله فاقتُلني معه.

وانخذل الطاغية وقال مُتعجِّباً: دعوه لها، يا للرَّحم! ودَّت أنَّها تقتل معه!(١) .

فنُلاحظ - هنا - لولا موقف العقيلة زينبعليها‌السلام لقُتِل الإمام زين العابدينعليه‌السلام .

فـ (مَن الذي يستطيع أنْ يتكلَّم والجوُّ مُلبَّد بالمخاوف، فرأس زعيم الأُمَّة وقائدها الأعلى على الحراب، وعقائل الرسالة سبايا في المصر، فلم يعد في مقدور أيِّ أحد أنْ يتلفَّظ بحرفٍ واحد، فكُمَّتِ الأفواه وأُخرست الألسن ومُلئت السجون بالرؤوس والضروس، واستسلم الجميع لحُكم ابن مرجانة)(٢) .

إلاَّ أنَّ الساحة لم تَخْلُ مِن الغيارى، الذين يحملون روح الـمُعارضة للنظام، ولكنْ أيُّ فردٍ يجرؤ على رفع صوته مُنكِراً ومُعارضاً فإنَّ مصيره القتل، كما كان مصير عبد الله بن عفيف الأزدي، عندما وقف في وجه ابن زياد، حينما صعد الطاغية المنبر وهو في نشوة

____________________

(١) حياة الإمام الحسين: ج٣: ص٣٤٦.

(٢) حياة الإمام الحسين: ج٣: ص٣٤٧.

٢٠٨

الظفر والانتصار، وقال: الحمد لله الذي أظهر الحَقَّ وأهله، ونصر أمير المؤمنين يزيد وحِزبه، وقتل الكذَّاب ابن الكذَّاب الحسين بن علي وشيعته.

نعم، هكذا بلغ الحال بأُمَّة الإسلام والقرآن، بأنْ يصعد مَنابرها مثل ابن مَرجانة، ويتكلَّم بهذا المنطق الذي يقلب الموازين فيجعل الحَقَّ باطلاً والباطل حَقَّاً، ويجعل الصادق كاذباً والكاذب صادقاً.

فمَن هو الحسين؟! ومَن أبوه؟! حتَّى يوصَف بهذه الأوصاف على منابر أُمَّة جَدِّه وعلى رؤوس المسلمين، ومَن هو يزيد؟! ومَن أبوه؟! حتَّى يجعلا أهلاً للحَقِّ وأنصاراً له، ولكنَّها النكسة والارتداد اللذين أُصيبت بهما هذه الأُمَّة، ولكنْ مَهْما تعملق الباطل والطغيان، فإنَّ كلمة الحَقِّ لا تموت، وإنْ أُسكتت دهراً ما فلا بُدَّ لها أنْ تعلو في وجه الباطل.

فلـمَّا نطق ابن زياد بقول الباطل، قام في مجلسه عبد الله بن عفيف الأزدي - وكان ضريراً ذهبت إحدى عينيه يوم الجمل، والأُخرى بصِفِّين مع الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وكان لا يفارق المسجد يتعبَّد فيه - فصاح: يا بن مرجانة، الكذَّاب ابن الكذَّاب أنت وأبوك، والذي ولاَّك وأبوه. يا بن مرجانة، أتقتلون أولاد الأنبياء وتتكلَّمون بكلام الصِّدِّيق؟!

فصاح ابن زياد: مَن هذا الـمُتكلِّم؟ فقال ابن عفيف: أنا الـمُتكلِّم يا عدوَّ الله، أتقتلون الذُّرِّيَّة الطاهرة، التي أذهب الله عنهم الرجس وتزعم أنَّك على دين الإسلام. واغوثاه! أين أولاد الـمُهاجرين والأنصار؟ لينتقموا مِن طاغيتك اللعين ابن اللعين على لسان محمد رسول الله رَبِّ العالمين.

... وصاح ابن زياد وقد امتلأ غيضاً: عليَّ به.

فبادرت إليه الجلاوزة لتختطفه، فنادى ابن عفيف بشعار أُسرته: يا مبرور.

٢٠٩

وكان في المجلس مِن الأزد سبعمئة، فوثبوا إليه وأنقذوه مِن أيدي الجلاوزة وجاءوا به إلى منزله.

إلاَّ أنَّ الطاغية حينما رأى هذا الموقف مِن ابن عفيف وعشيرته، أخذه القَلق خوفاً مِن أنْ يتَّسع نطاق الـمُعارضة والنقمة؛ فقرَّر أنْ يُسكت ذلك الصوت، فأصدر أمره باعتقال عبد الله بن عفيف، فجاءت القوَّة نحو بيته وقام الأزد للدفاع عن عفيف، ووقع القتال بين الطرفين، إلاَّ أنَّ قوَّات ابن زياد سيطرت على الموقف واستطاعت أنْ تقتحم على ابن عفيف داره، فناولته ابنته سيفاً فجعل يذبُّ به عن نفسه وهو يرتجز ويقول:

أنا ابن ذي الفضل العفيف الطاهر

عفيف شيخي وابن أُمِّ عامر

كمْ دارعٍ مِن جمعكم وحاسر

وبطلٍ جندلته مُغاور

وأخذت ابنته تدلُّ على الـمُحاربين له، فتقول له: يا أبتِ، أتاك القوم مِن جِهة كذا.

وتكاثروا عليه وأحاطوا به مِن كلِّ جانب، فألقوا القبض عليه وانطلقوا به إلى ابن زياد، وهو يقول في طريقه:

أُقسِم لو يُفسَح لي عن بصري

شقَّ عليكم مَوردي ومصدري(١)

ومَثُل ابن عفيف بين يدي الطاغية، وبعد حوار بينهما أمر ابن زياد بقتله؛ ليخمد هذا الصوت في نظره، ولم يعلم ابن مرجانة أنَّ صوت ابن عفيف لا يُمكن أنْ يسكت؛ لأنَّه صدىً لصوت الحَقِّ الذي ارتفع مِن أرض كربلاء، وسوف يبقى عالياً في وجه الطغيان والانحراف.

وانبرى ابن عفيف إلى ابن زياد قائلاً: (الحمد لله رَبِّ العالمين، أما إنِّي كنت أسأل رَبِّي أنْ يرزُقني الشهادة مِن قبل أنْ تلدك أُمُّك، وسألت الله أنْ يجعلها على يدي ألعن

____________________

(١) انظر: الفتوح لابن أعثم: ج٥: ص١٢٤.

٢١٠

خلقه وأبغضهم إليه، ولـمَّا كُفَّ بصري يئست مِن الشهادة، أمَّا الآنْ والحمد لله الذي رزقنيها بعد اليأس وعرَّفني الإجابة في قديم دعائي)(١) . ثمَّ رُزِق ابن عفيف وسام الشهادة.

ولا شكَّ أنَّ لهذا الموقف وأمثاله أثراً كبيراً، في تأجيج النقمة في النفوس على النظام الأُموي، إلاَّ أنَّ الثورة لا زالت في حاجة إلى مواقف إعلاميَّة أقوى وأعظم تأثيراً، فهي تحتاج إلى مواقف المرأة الإيمانيَّة والجهاديَّة وصوتها الذي لا يقدر النظام على إسكاته. ويتمثَّل هذا الدور في مواقف حرائر بيت النبوَّة بزعامة عقيلة البيت الهاشمي زينب ابنة عليعليه‌السلام . وقد أعدَّ الحسينعليه‌السلام النساء للقيام بذلك الدور الإعلاميِّ فيما بعد المعركة، وجعل كلُّ أصحابه وكلُّ شخصٍ في قافلته - بما فيهم النساء - يُدرك الهدف مِن مسيرته، ويستعدُّ لتقبُّل كلِّ التضحيات والمصاعب، ولا يتوقَّف عن مُمارسة مسؤوليَّاته تِجاه التغيير الذي أراده الإمام(٢) .

لا سِيَّما زعيمة الركب الحسيني زينبعليها‌السلام ، التي لم تُبدي أيَّ انكسار أمام ما واجهته في مسيرة السبي، مِن المواقف التي أراد منها النظام إذلال العائلة الحسينيَّة، ولكنَّ العقيلة زينبعليها‌السلام دافعت وبقوَّة عن كرامة أهل البيتعليهم‌السلام ، ووقفت أمام طُغيان يزيد وابن زياد مُبرهنة على أنَّ المرأة المسلمة، إذا ما تسلَّحت بالوعي والقوَّة في الإيمان؛ فإنَّ بإمكانها أنْ تؤدِّي الأدوار الرساليَّة والجهاديَّة، التي لا تقلُّ أهميَّة عن الأدوار التي يقوم بها الرجل.

فحينما أُدخِل سبايا آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله على الطاغية ابن زياد، انحازت الحوراء في ناحية مِن المجلس ومعها نساؤها، فقال الطاغية: (مَن هذه التي انحازت ناحية ومعها نساؤها؟

____________________

(١) المصدر السابق.

(٢) وتنفَّس صُبح الحسين: ص٤٣١.

٢١١

ولم تلتفت إليه الحوراء، فانبرت إحدى السيِّدات فقالت له: هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول الله.

فقال: الحمد لله الذي فَضحكم وقتلكم وأبطل أحدوثتكم!

فثارت حَفيدة الرسول بشجاعة - مُحتقرةً لذلك الوَضر الخبيث - وصاحت به:

(الحمد لله الذي أكرمنا بمحمَّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وطهَّرنا تطهيراً، إنَّما يفتضح الفاسق ويُكذَّب الفاجر وهو غيرنا).

فقال: كيف رأيت صنع الله بأهل بيتك؟ فأجابته الحوراء بقولها:

(ما رأيت إلاَّ جَميلاً، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتُحاجَّ وتُخاصم، فانظر لـمَن الفَلَج، هبلتك أُمُّك يا ابن مرجانة) (١) .

وفقد الحقير إهابه مِن هذا التبكيت الموجع، والتعريض الـمُقذع وتميَّز غيظاً وغضباً، وهَمَّ بأنْ يُنزل بها عقوبته فنهاه عمرو بن حُريث، وقال له: إنَّها امرأة لا تؤخذ بشيء مِن منطقها. فالتفت إليها قائلاً: لقد شفى الله قلبي مِن طاغيتك والعُصاة الـمَردة مِن أهل بيتك.

فأجابته الحوراء قائلة:(لَعمري، لقد قتلت كَهلي، وأبدت أهلي، وقطعت فرعي، واجتثثت أصلي، فإنْ يُشِفك هذا فقد اشتفيت) (٢) .

____________________

(١) مُثير الأحزان لابن نما الحلِّي: ص٧١ طبع الحيدريَّة، واللهوف: ص٩٣، والأمالي للصدوق: ص٢٢٩، وبحار الأنوار: ج٤٥: ص١١٥، والعوالم (الإمام الحسين): ص٣٧٥ وص٣٨٣ وص٣٨٤، والفتوح لابن أعثم: ج٥: ص١٢٢، واللفظ للأوَّل.

(٢) حياة الإمام الحسين: ج٣: ص٣٤٢ إلى ص٣٤٥.

٢١٢

فنُلاحظ هنا أنَّ الطاغية لـمَّا فقد صوابه، همَّ بأنْ ينتقم مِن الحوراء باستخدام القوَّة؛ لأنَّه عجز عن مواجهتها بالمنطق والبيان، إلاَّ أنَّ عمرو بن حريث تدارك الموقف؛ لأنَّ هذا التصرُّف لو أقدم عليه ابن زياد مِن شأنه أنْ يَجرَّ عليه رَدَّة فعل مِن قِبَل الحضور في المجلس؛ لأنَّ الـمُجتمع آنذاك يعتبر مواجهة المرأة بهذا الأُسلوب أمراً يَجرُّ على صاحبه نِقمةً لدى الناس، فكيف والمرأة المواجهة لابن زياد هي بنت أمير المؤمنينعليه‌السلام ، الذي لا يخلو المجلس مِن الموالين له، فخشي عمرو بن حريث مِن رَدَّة الفعل عند الحاضرين، لا سِيَّما أنَّ النفوس تعيش حالة الغليان بسبب تلك الفاجعة الكُبرى.

فمِن هنا يتَّضح أنَّ الفرصة مُتاحة للنساء أكثر مِمَّا هي مُتاحة للرجال في تلك الظروف المملوءة بالإرهاب وكَمِّ الأفواه.

٢١٣

ب - البيانات الإعلاميَّة في الكوفة

إنَّ الخُطب التي أدلى بها سبايا آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله في مسيرة السبي، لَتُعتبر مِن أقوى البيانات الإعلاميَّة للثورة الحسينيَّة، سواء كان ذلك في الكوفة أمْ في الشام، إلاَّ أنَّ الـمُلاحظ هو وجود تفاوت بين خُطب الكوفة وبين خُطب الشام، فإنَّ لكلِّ قِسم مَحاور خاصَّة؛ نظراً لاختلاف الأجواء الاجتماعيَّة التي يعشها مُجتمع الكوفة عن الأجواء السائدة في مُجتمع الشام.

وبيانات الكوفة تتمثل في التالي:

١ - خُطبة عقيلة البيت الهاشمي، زينب ابنة عليٍّ أمير المؤمنينعليهما‌السلام .

٢ - خُطبة الإمام زين العابدينعليه‌السلام .

٣ - خُطبة فاطمة الصُّغرى بنت الحسينعليهما‌السلام .

٤ - خُطبة أُمِّ كلثوم بنت عليٍّعليهما‌السلام .

وقد أكَّدت هذه البيانات (الخُطب) على محاور مُهمَّة وخطيرة، هي مِن أهمِّ أهداف الثورة الـمُقدَّسة، مِن أبرز تلك المحاور:

أ - الحديث عن فاجعة الطَّفِّ وما فيها مِن بشاعة الجريمة، التي تدلُّ على خِسَّة ولؤم مُرتكبيه، وأنَّهم بعيدون عن روح الإنسانيَّة - فَضلاً عن الروح الإسلاميَّة - وأنَّ هذه الفاجعة ليست كأيِّ كارثة تحدث في التاريخ.

٢١٤

نظراً للأساليب الانتقاميَّة، التي قام بها القتلة الـمُجرمون تِجاه القتلى الشهداء والعائلة الكريمة: مِن القتل والتمثيل، وحمل الرؤوس على الحراب، وحرق الـمُخيَّمات ونهب كلِّ ما فيها، والتعدِّي على العائلة بالضرب والإهانات، وتسيير النساء والأطفال سبايا وكأنَّهم مِن سبايا الروم والدَّيْلم.

ومِمَّا يزيد الموقف فَداحة وخِسَّة، أنَّ الـمُرتكبين لهذه الجريمة الكُبرى هُمْ الذين بعثوا رسائلهم إلى الإمام الحسينعليه‌السلام يدعونه للمسير إليهم، وقد أعطوه العهد والميثاق وبايعوه على السَّمع والطاعة على يد سفيره مسلم بن عقيل، وبعد ذلك خانوا عُهودهم ونقضوا بيعتهم، وخرجوا على مَن بايعوه وعاهدوه فارتكبوا في حَقِّه أبشع جريمة عرفها التاريخ؛ حيث إنَّهم قتلوه هو وأصحابه وأهل بيته بأُسلوب يُدمي القلوب، ويذهل الأفكار لبُعْده عن الرحمة الإنسانيَّة.

وبعد ارتكاب هذه الفاجعة عادوا يبكون وينتحبون، ويُعلنون ندمهم على ما ارتبكوا، إلاَّ أنَّ الندم سوف يُلازمهم إلى الأبد، وسوف يبقى ذلك الـمُجتمع وما ارتكبه مِن جُرم في حَقِّ العِترة الطاهرة.. سيبقى وصمة عار في جبين هذه الأُمَّة وصفحة سوداء في تاريخها.

فقد خطب الإمام زين العابدينعليه‌السلام فيهم بعد أنْ أومأ إلى الناس أنْ اسكتوا، فلـمَّا سكتوا حمد الله وأثنى عليه، وذكر النبي فصلَّى عليه، ثمَّ قال:

(أيُّها الناس، مَن عَرفني فقد عَرفني، ومَن لم يعرفني فأنا عليُّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أنا ابن مَن انتُهكت حُرمته، وسُلبت نعمته، وانتُهب ماله، وسُبي عياله، أنا ابن المذبوح بشطِّ الفرات مِن غير ذَحْل ولا تِرات، أنا ابن مَن قُتل صبراً وكفى

٢١٥

بذلك فخراً. أيُّها الناس، فأُنشدكم الله، هل تعلمون أنَّكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه، وأعطيتموه مِن أنفسكم العهود والميثاق والبيعة وقاتلتموه؛ فتبَّاً لكم لما قدَّمتم لأنفسكم وسوأة لرأيكم، بأيَّة عين تنظرون إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ يقول لكم قتلتم عِترتي وانتهكتم حُرمتي فلستم مِن أُمَّتي).

وعلت الأصوات بالبُكاء ونادى منادٍ منهم: هلكْتُم وما تعلمون.

واستمرَّ الإمام في خطابه فقال:

(رحم الله امرأً قَبِل نصيحتي، وحفظ وصيَّتي في الله وفي رسوله وأهل بيته، فإنَّ لنا في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أُسوة حَسَنة).

فهتفوا جميعاً قائلين بلسانٍ واحدٍ: نحن يا بن رسول الله، سامعون مُطيعون حافظون لذِمامك، غير زاهدين فيك ولا راغبين عنك، فمُرنا بأمرك يرحمك الله، فإنَّا حرب لحربك وسِلْم لسِلْمك مِمَّن ظلمك وظلمنا.

فردَّ لإمام عليهم هذا الولاء الكاذب قائلاً:

(هيهات هيهات! أيُّها الغَدَرة الـمَكَرة! حيل بينكم وبين شهوات أنفسكم، أتُريدون أنْ تأتوا إليَّ كما أتيتم إلى أبي مِن قَبْل؟! كلاَّ وربِّ الراقصات، فإنَّ الجرح لـمَّا يندمل، قُتِل أبي - صلوات الله عليه - بالأمس وأهل بيته ولم يُنسني ثَكل رسول الله وثَكل أبي

٢١٦

وبني أبي، ووَجْدُه بين لهاتي، ومرارته بين حناجري وحَلقي، وغِصَّته تجري في فراش صَدري)(١) .

أشعرهم الإمامعليه‌السلام بأنَّ ما أبدوه له، مِن استعداد للامتثال لأمره والوقوف معه، وبأنَّهم سوف يكونون له أنصاراً، يُحاربون مَن يُحارب، ويُسالمون مَن يُسالم.. أشعرهم بأنَّهم غير صادقين في ما يدَّعون، وهيهات هيهات أنْ ينخدع بهم وبذَلاقة ألسنتهم! وبالأمس جرى منهم ما جرى على صعيد كربلاء، ولا يُمكن أنْ تزول تلك الصور الـمُفجعة عن عينيه أو تُبارح مُخيَّلته، فلا زالت ولن تزول مرارتها وغِصَّتها في صدره تقضُّ عليه مضاجعه، فكيف ينسى وقد رأى بأُمِّ عينيه ما جرى على أبيه وإخوته، وعمومته وبني عمومته، والأصحاب مِن الأحداث الجِسام، والمصائب العِظام التي سوف تبقى مدى الدهر تتذكَّرها الأجيال؟!

وأمَّا الحوراء زينب بنت عليٍّعليهما‌السلام ، فقد أومأت إلى الناس فسكنت الأنفاس والأجراس، فاندفعت عقيلة البيت الهاشمي، فقالت:

(الحمد لله، والصلاة على أبي محمد وآله الطيِّبين الأخيار، أمَّا بعد: يا أهل الكوفة، يا أهل الخَتْل والغدر، أتبكون فلا رقأت الدمعة ولا هدأت الرنَّة؟! إنَّما مَثلكم كمَثل التي نقضت غزلها مِن بعد قوَّة أنكاثاً، تتَّخذون أيمانكم دخلاً بينكم. ألا وهل فيكم إلاَّ الصَّلِف والنَّطِف، والعُجب والكَذب، والشَّنِف ومَلِق الإماء وغمز الأعداء، أو كمرعى على دِمنة أو كقصَّة (كفِضَّة) على مَلحودة؟!

____________________

(١) نقلنا نصَّ الخُطبة مِن اللهوف: ص٩٢ - ٩٣، ومثير الأحزان لابن نما: ص٦٩ - ٧٠ طبع الحيدريَّة واللفظ للأوَّل.

٢١٧

ألا بِئْس ما قدَّمت لكم أنفسكم أنْ سَخط الله عليكم، وفي العذاب أنتم خالدون) (١) .

في هذا الجزء مِن بيانها، أعطت بطلة كربلاء صورة واضحة ودقيقة عن الـمُجتمع الكوفي وواقعه السيِّئ، فأشارت إلى مجموعة مِن الصفات السيِّئة والظواهر الانحرافيَّة البارزة في حياة ذلك الـمُجتمع، تلك الصفات التي جعلته مِن أحطِّ الـمُجتمعات أخلاقاً وسُلوكاً.

وهي كما يلي:

الخَتْل: وهو الخِداع والـمُراوغة.

الغَدْر: وهو ترك الوفاء ونقض العهد.

وهنا ضربت لهم الحوراء مَثلاً قرآنيَّاً، حيث كان ينطبق عليهم تمام الانطباق، وهو قوله تعالى:( وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ... ) (٢) .

قال الـمُفسِّرون: إنَّ (الآية تُشير إلى (رايطة) تلك المرأة التي عاشت في قريش زمن الجاهليَّة، وكانت هي وعاملاته يعملنَ مِن الصباح حتَّى مُنتصف النهار في غزل ما عندهنَّ مِن الصوف والشَّعر، وبعد أنْ ينتهين مِن عملهنَّ تأمرهنَّ بنقض ما غزلنَ، وبهذا عُرفت بين قومها بالحَمقاء، فما كانت تقوم به رايطة لا يُمثِّل عملاً بلا ثمر فحسب، بلْ هو الحَماقة بعينها، وكذا الحال بالنسبة لـمَن يبرم عهداً مع الله وباسمه ثمَّ يعمل على نقضه، فهو ليس بعابث فقط، وإنَّما هذا دليل على انحطاطه وسقوط شخصيَّته،( ... تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ... ) ، أي لا

____________________

(١) مقتل الـمُقرَّم: ص٢٠٣.

(٢) النحل: ٩٢.

٢١٨

تنقضوا عهودكم مع الله؛ بسبب أنَّ تلك المجموعة أكبر مِن هذه فتقعوا في الخيانة والفساد(١) .

وهذا مُنطبق على مواقف أهل الكوفة مِن الإمام الحسين الشهيدعليه‌السلام ؛ حيث أعطوه عهودهم ومواثيقهم، ثمَّ خانوا تلك العهود ونقضوا تلك المواثيق، وانظمُّوا إلى أعداء أهل البيت وأعداء الأُمَّة؛ لأنَّ القوَّة والكثرة إلى جانب الأُمويّين، فكان الختل والغدر والخيانة من أبرز المساوئ الأخلاقية لذلك المجتمع إلى جانب بقية الصفات التالية وهي:

الصَّلِف: وهو ادِّعاء الإنسان بما ليس فيه تكبُّراً.

والنَّطِف: وهو القذف بالفُجور.

والعُجب: وهو الزهوّ، ورجل مُعجَب مَزهو بما يكون منه حَسناً أو قبيحاً.

والكَذِب: وهو عدم الصدق في القول والعمل.

والشَّنِف: وهو البُّغْض بغير حَقٍّ.

ومَلق الإماء: والـمَلق هو أنْ يُعطي الإنسان بلسانه ما ليس في قلبه، وهو نوع مِن النفاق الاجتماعي.

وغمز الأعداء: والغَمز هو الطعن والعيب، وأشدُّ ما يكون الطعن إذا كان عن عداوة.

أو كمرعى على دِمنة: وهو النبت الجميل المنظر، الذي ينبت على دِمنة وهي الـمَزبلة.

أو كقصَّة (كفضة) على ملحودة: والقِصَّة الجِصُّ والملحودة القبر.

وفي هاتين الصفتين (كمرعى على دِمنة أو كقصة على ملحودة) شبَّهتهم الحوراء:

____________________

(١) تفسير الأمثل: ج٨: ص٢٧٥.

٢١٩

أوّلاً: بالنبات الأخضر الجميل، الذي يكون منبته في وسط المزابل، تعبيراً عمَّا يتظاهرون به مِن صفات خارجيَّة خادعة، إلاَّ أنَّ جذورها في مَنابت السوء والخَبَث.

ثانياً: بالقبر الـمُجصَّص فهو جميل في ظاهره، إلاَّ أنَّه قد انطوى على جيفة منتنة، لو كشف عن باطنه لبرزت الرائحة النتنة، وبدا المظهر الذي تشمئزُّ منه النفوس، فقد كان أهل الكوفة يُبرزون أنفسهم بمظاهر تخدع الآخرين إلاَّ أنَّ بواطنهم كالجِيف.

هذه هي أبرز مساوئ الـمُجتمع الكوفيِّ في تشخيص الحوراءعليها‌السلام ، وهي أُمَّهات الرذائل ومساوئ الأخلاق، التي تَهدم حياة الـمُجتمعات، فأيُّ مُجتمعٍ تسوده هذه الصفات، فإنَّه سوف يُصبح مُجتمعاً ضعيفاً مُتقلِّباً في مواقفه وسلوكه ويبتعد عن الفضائل الإنسانيَّة، وتسهل السيطرة عليه مِن قِبَل أعدائه وتسخيره لأهدافهم، كما كان عليه مجتمع الكوفة.

وإذا أُصيب القوم في أخلاقهم فأقِمْ عليهم مأتماً وعويلاً.

والعامل الرئيس في وجود هذه الأمراض الاجتماعيَّة، هو ضعف الروح الدينيَّة والإيمانيَّة الواعية، التي متى أصبحت قويَّة وثابتة في نفس الإنسان؛ فإنَّها تُعطيه القوَّة والثبات في مواقفه ويعيش بعيداً عن التذبذب والتأرجح في قراراته، فتسود الـمُجتمع مظاهر الفضيلة.

وهذا ما يفتقر إليه الـمُجتمع الذي تحدَّثت عنه العقيلة زينبعليها‌السلام ، وفي ظَنَّي لو أنَّ عدداً مِن الخُبراء الاجتماعيِّين والنفسانيِّين قاموا بدراسة شاملة لأوضاع ذلك الـمُجتمع، وتحليل الظواهر الاجتماعيَّة السائدة فيه، فإنَّهم لن يُعطوا وصفاً دقيقاً - في تشخيص ما فيه مِن أمراض اجتماعيَّة - أدقَّ وأشمل مِمَّا أعطته زينب الحوراءعليها‌السلام مِن دِقَّة الوصف والتشخيص في بيانها القصير.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276