قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة0%

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة مؤلف:
الناشر: المؤسّسة الإسلاميّة للبحوث والمعلومات
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 276

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: حبيب إبراهيم الهديبي
الناشر: المؤسّسة الإسلاميّة للبحوث والمعلومات
تصنيف: الصفحات: 276
المشاهدات: 48547
تحميل: 5500

توضيحات:

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 276 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 48547 / تحميل: 5500
الحجم الحجم الحجم
قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

مؤلف:
الناشر: المؤسّسة الإسلاميّة للبحوث والمعلومات
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

يعلم بما للشِّعر مِن أثره الخاصِّ على العاطفة الإنسانيَّة؛ لذلك أراد الإمام تسخير الشِّعر في خدمة قضيَّتهم في تأجيج المشاعر وتوجيهها نحو هذا الاتجاه، فإنَّ الشعر في القِدَم والحديث مِن أهمِّ الوسائل المؤثِّرة في توجيه الرأي العامِّ إلى أيِّ مَنحى يُراد توجيهه إليه؛ لذلك أكَّد أئمَّة أهل البيت على هذه الظاهرة، فدعوا إلى قول الشعر وإنشاده في رثائهم ومَدحهم.

قال بشير: فركبت فرسي حتَّى دخلت المدينة، فلـمَّا بلغت مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله رفعت صوتي بالبكاء وأنشأت:

يا أهل يثرب لا مقام لكم بها

قُتِل الحسين فأدمُعي مِدرار

الجسم منه بكربلاء مُضرَّج

والرأس منه على القَناة يُدار

وقلت: هذا علي بن الحسينعليه‌السلام مع عَمَّاته وأخواته قد حلَّوا بساحتكم، وأنا رسوله إليكم أُعرِّفكم مكانه.

فخرج الناس يهرعون ولم تبقَ مُخدَّرة إلاَّ برزت تدعو بالويل والثبور، وضجَّت المدينة بالبُكاء، فلم أرَ باكياً أكثر مِن ذلك اليوم، واجتمعوا على الإمام زين العابدينعليه‌السلام يعزُّونه(1) .

في هذا الجوِّ المملوء بالعواطف الجيَّاشة والمشاعر الـمُتأجِّجة مِن ذلك الجمهور، الذي خرج لاستقبال العائدين مِن أهل البيت، فإذا هُمْ يرون أنفسهم لا يستقبلون إلاَّ النساء والأطفال، أمَّا الرجال فقد أُبيدوا جميعاً لم يرجع منهم إلاَّ الإمام السجادعليه‌السلام ، فلك أنْ تتصوَّر إلى أيِّ مدى يكون تأثير المأساة في وجدان ذلك الجمهور، عند ما يستمع إلى الإمام يتحدَّث عمَّا جرى عليهم. وقد خرج مِن الفِسطاط، وبيده خِرقة يمسح بها دموعه، وخلفه مولى معه كرسيٌّ، فجلس عليه وهو لا يتمالك مِن العَبرة،

____________________

(1) مَقتل الـمُقرَّم: ص248.

٢٦١

وارتفعت الأصوات بالبُكاء والحنين، فأومأ إلى النساء أنْ اسكتوا، فلـمَّا سكتت فورتهم قالعليه‌السلام :

(الحمد لله رَبِّ العالمين، الرحمان الرحيم، مالك يوم الدين، بارئ الخلائق أجمعين، الذي بَعُدَ فارتفع في السماوات العُلى، وقرُب فشهد النجوى، نحمده على عظائم الأُمور، وفجائع الدهور، وألم الفجائع ومَضاضة اللواذع، وجليل الرزء وعظيم المصائب الفاظعة الكاظَّة الفادحة الجائحة. أيُّها القوم، إنَّ الله تعالى وله الحمد ابتلانا بمصائب جليلة، وثَلمة في الإسلام عظيمة، قُتِل أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام وعِترته، وسُبْيت نساؤه وصِبْيَته، وداروا برأسه في البُلدان مِن فوق عامل(1) السِّنان، وهذه الرزيَّة التي لا مثلها رزيَّة)(2) .

في هذا الجزء مِن هذا البيان، والذي يُمثِّل الـمُقدِّمة لخطاب الإمام، بدأ الإمام خطابه بحمد الله تعالى على كلِّ ما جرى عليهم مِن الفجائع العظيمة والـمُلـمَّات الجسيمة؛ ليُبيِّن أنَّ مواقفهم مِن هذه المصائب هو موقف الشُّكر لا موقف الصبر فقط؛ لأنَّ كلَّ ما حدث بهم وجرى عليهم، إنَّما هو مِن أجله تعالى، ومِن أجل دينه ورسالته، وهذا ما يُعظِّم شأنهم عنده تعالى ويزيدهم قُرباً منه ويُعلي مِن مراتبهم؛ لأنَّها ابتلاء مِن الله تعالى لهم، وخَطُّ الابتلاء هو خَطُّ الأنبياء والأولياء؛ فإنَّهم أشدُّ البشرية ابتلاءً

____________________

(1) في مثير الأحزان: (عالي).

(2) اللهوف: ص116 - 117، ومثير الأحزان لابن نما: ص91.

٢٦٢

وامتحاناً، وأهل البيتعليهم‌السلام هُمْ سادة هذا الطريق، فتكون هذه الرزايا في باطنها نِعمة يُشكَر الـمُنعِم عليها تبارك وتعالى، وإنْ كانت هذه الفاجعة ثَلمة في الدين؛ لأنَّ المقتول هو ذلك الإمام الذي تجسَّد فيه الإسلام بمفاهيمه وقيمه وأحكامه.

وتابع الإمام السجادعليه‌السلام خطابه، موجِّهاً كلامه إلى الحضور قائلاً:

(أيُّها الناس، فأيُّ رجالات منكم يُسرُّون بعد قتله؟! أمْ أيُّ فؤاد لا يحزن مِن أجله؟! أمْ أيَّة عين منكم تحبس دمعها وتَضَن عن انهمالها؟! فلقد بكت السبع الشداد لقتله، وبكت البحار بأمواجها، والسماوات بأركانها، والأرض بأرجائها، والأشجار بأغصانها، والحيتان ولُجج البحار، والملائكة الـمُقرَّبون وأهل السماوات أجمعون.

يا أيُّها الناس، أيُّ قلب لا ينصدع لقتله؟! أمْ أيُّ فؤاد لا يَحنُّ إليه؟! أمْ أيُّ سمع لا يسمع هذه الثلمة التي ثُلِمت في الإسلام ولا يَصمُّ)(1) .

في هذه الجُمل أشار الإمامعليه‌السلام إلى مسألة مُهمَّة، جديرة بأنْ نتوقَّف عندها قليلاً، وهي نسبة البُكاء إلى سائر المخلوقات غير الإنسان: مِن الملائكة، والسماوات والأرض، والنبات والحيوان، فماذا تعني هذه النسبة؟ وما حقيقة هذا البُكاء؟

ويُمكن أنْ تُوجَّه هذه النسبة بتوجيهين:

التوجيه الأوَّل: بأنْ تكون هذه النسبة نسبة تقديريَّة أو مجازيَّة، بمعنى أنَّ هذه

____________________

(1) اللهوف: ص117، ومثير الأحزان: ص91.

٢٦٣

الفاجعة المؤلمة والـمُصيبة العظيمة، هي على درجة مِن الفضاعة بأنْ تُدمي القلوب، وتُثير الشجون وتُجري الدموع مِن العيون، ونظراً إلى مقام مَن وقعت عليه هذه الكارثة، وما له مِن مقام عند الله تعالى؛ فمِن حَقِّه أنْ يبكي عليه كلُّ موجود بما في ذلك الحيوان والنبات والجماد، لو قُدِّر أنَّ لهذه الكائنات عقل وشعور لبكت لمصاب هذا الإمام العظيم، وما جرى عليه وعلى أهله مِن الرزايا والكوارث الـمُفجِعة، فكيف بالإنسان الذي يحمل العقل والشعور والإحساس والعاطفة؟! فمِن حَقِّ كلِّ مسلم، بلْ كلِّ إنسان أنْ يبكي ويتألَّم مِن أجل هذه الـمُصيبة التي لم يُحدِّث التاريخ بمثلها.

التوجيه الثاني: هو أنْ يُنظر إلى هذه المسألة مِن زاوية فلسفيَّة، بأنْ يُقال: إنَّ كلَّ وجود مُمكن له درجة مِن الشعور، تتناسب مع ما له مِن رُتبةٍ وجوديَّةٍ، وكلَّما كانت درجته الوجوديَّة أرفع وأكمل، كانت درجة شعوره أعلى وأوضح، وهذا ما يُشير إليه القرآن الكريم، حينما ينسب التسبيح لله تعالى إلى كلِّ شيء، كما في قوله تعالى:( تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ... ) (1) .

فكلُّ شيء - بناءً على هذا - له حَظٌّ مِن التسبيح يتناسب مع حَظِّه مِن الوجود، إلاَّ أنَّنا نحن البشر لا نُدرك حقيقة تسبيح الكائنات الأُخرى مِن حيوان ونبات وجماد.

قال في الميزان: (كلامه تعالى يُشعِر بأنَّ العلم سارٍ في الموجودات مع سريان الخلقة، فلكلٍّ منها حَظٌّ مِن العلم على مقدار حَظِّه مِن الوجود، وليس لازم ذلك أنْ يتساوى الجميع مِن حيث العلم، أو يتَّحدوا مِن حيث جِنسه ونوعه، أو يكون عند كلِّ ما عند الإنسان، مِن ذلك أو أنْ يفقه الإنسان بما عندها مِن العلم، قال تعالى حكايةً

____________________

(1) الإسراء: 44.

٢٦٤

عن أعضاء الإنسان:( ... قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ... ) (1) ، وقال:( ... فَقَالَ لَهَا وَللأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) (2) ، والآيات في هذا المعنى كثيرة)(3) .

(فالحَقُّ أنَّ التسبيح الذي تُثبته الآية لكلِّ شيء هو التسبيح بمعناه الحقيقي، وقد تكرَّر في كلامه تعالى إثباته للسماوات والأرض ومَن فيهنَّ وما فيهنَّ، وفيها موارد لا تَحتمل إلاَّ الحقيقة، كقوله تعالى:( ... وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ... ) (4) ، وقوله:( إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ ) (5) ويَقرب منه قوله:( ... يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ... ) (6) فلا معنى لحملها على التسبيح بلسان الحال(7) .

فانطلاقاً مِن هذا الفِكر القرآنيِّ؛ يُمكن أنْ يُنسب البكاء إلى سائر الموجودات غير الإنسان؛ فتكون النسبة حقيقيَّة، ويكون البكاء حقيقيَّاً على مُصيبة سيِّد الشهداء، وما حلَّ به وبأهل بيته مِن الرزايا الأليمة، وليس مِن اللازم أنْ يكون بُكاؤها كبُكاء الإنسان، وإنَّما هو درجة مِن درجات التأثُّر، تتناسب مع درجة الشعور الذي يملكها ذلك المخلوق.

روى زُرارة بن أعيُن، عن أبي عبد الله، أنَّه قال: (بكت السماء على يحيى بن زكريَّا والحسين بن عليعليهما‌السلام أربعين صباحاً).

قلت: فما بُكاؤها؟

قال: (كانت تطلع حمراء وتغيب حمراء))(8) .

____________________

(1) فُصِّلت: 21.

(2) فُصِّلت: 11.

(3) الميزان في تفسير القرآن: ج3: ص110.

(4) الأنبياء: 79.

(5) ص: 18.

(6) سبأ: 10.

(7) الميزان في تفسير القرآن: ج3: ص112.

(8) الميزان في تفسير القرآن: ج3: ص110.

٢٦٥

وفي (الدرّ المنثور): أخرج ابن أبي حاتم، عن عبدي المكتب، عن إبراهيم، قال: ما بكت السماء مُنذ كانت الدنيا إلاَّ على اثنين. قيل لعبيد: أليس السماء والأرض تبكي على المؤمن؟!

قال: ذاك مقامه وحيث يصعد علمه. قال: أتدري ما بكاء السماء؟ قال: لا، قال: تحمرُّ وتصير وردة كالدِّهان، إنَّ يحيى بن زكريَّا لـمَّا قُتِل احمرَّت السماء وقطرت دماً، وإنَّ الحسين بن علي يوم قُتِل احمرَّت السماء(1) .

لأنَّ ما جرى على نبيِّ الله يحيى وما جرى على سيِّد الشهداءعليهما‌السلام هو مِن أقبح وافجع ما يحدث مِن أشكال الظلم على الأرض، فهما إنَّما قُتِلا لأنَّهما يدعوان إلى الحَقِّ والعدل، وإقامة حُكم الله وتطبيقه في الأرض، فقتْلُهما بتلك الصورة المؤلمة والـمُفجعة للقلوب، بما لهما مِن منزلة عظيمة عند الله تعالى، فليس مُستحيلاً - بلْ ولا بعيداً - أنْ يؤثِّر قتلهما في الكون ذلك التأثير، الذي أطلقت عليه النصوص عنوان البُكاء وإنْ لم نستطع - نحن البشر - أنْ نُدرك حقيقة ذلك البُكاء وذلك التأثُّر، كما أنَّنا لا نستطيع أنْ نُدرك حقيقة تسبيح الأشياء لله تعالى في هذا الكون.

قال في الميزان: لو بُني في معنى بُكاء السماء والأرض على ما يظهر مِن هذه الروايات، لم يحتج إلى حمل بُكائهما على الكناية التخييليَّة(2) .

فلهذا؛ فإنَّ بالإمكان حمل الآية الكريمة على الحقيقة، وهي قوله تعالى:( فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ ) (3) ، فإنَّ الله تعالى ينفي البُكاء عن السماء والأرض على أُولئك الظلمة الـمُفسدين في الأرض؛ لأنَّهم ليس لهم قيمة وجوديَّة مُعتبرة؛ لذلك لا يؤثِّر فقدهم على وجود سائر الكائنات، وبالـمُقابل فإنَّ هناك مِن

____________________

(1) الميزان في تفسير القرآن: ج18: ص142.

(2) الميزان في تفسير القرآن: ج18: ص143.

(3) الدُّخان: 29.

٢٦٦

أولياء الله تعالى مَن يكون لفقده تأثير على سائر الموجودات، كما تقدَّم بالنسبة إلى نبيِّ الله يحيى والإمام الشهيد الحسين بن علي بن أبي طالبعليهما‌السلام .

وتابع الإمام السجادعليه‌السلام خطابه، مُشيراً إلى جوانب تلك الفاجعة، وما جرى عليهم في سفرهم هذا قائلاً:

(أيُّها الناس، أصبحنا مُشرَّدين مطرودين مَذودين وشاسعين عن الأمصار، كأنَّا أولاد تُركٍ وكابُل، مِن غير جُرمٍ اجترمناه، ولا مكروه ارتكبناه، ولا ثَلمة في الإسلام ثَلمناها:( ... وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ ) (1) ،( ... إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ ) (2) ، والله، لو أنَّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله تقدَّم إليهم في قتالنا كما تقدَّم إليهم في الوصاية بنا لما زادوا على ما فعلوا بنا، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون مِن مُصيبةٍ ما أعظمها وأوجعها، وأفجعها وأكظَّها، وأفظعها وأمرَّها وأفدحها، فعند الله نحتسب ما أصابنا وما بلغ بنا؛ فإنَّه عزيز ذو انتقام)(3) .

حَقَّاً إنَّ ما جرى على آل محمّد في هذه الكارثة مُثير للتساؤل، بماذا استحقَّ أهل البيت هذا كلَّه مِن الأُمَّة، حتَّى أُبيدوا وشرِّدوا وكأنَّهم مِن مِلَّة أو أُمَّة أُخرى، وكأنَّهم لم يكونوا عِترة نبيِّ هذه الأُمَّة ولُحمته، وكأنَّ النبي لم يوصِ ولم يأمر بمودَّتهم ومُراعاتهم؟! أمْ لأنَّهم قد ارتكبوا مِن الإثم في حَقِّ الله وحَقِّ الناس ما يستحقُّون عليه

____________________

(1) القَصص: 36.

(2) ص: 7.

(3) نقلنا نَصَّ الخُطبة مِن اللهوف لابن طاووس: ص116 وص117، ومُثير الأحزان لابن نما: ص91، واللفظ للأوَّل.

٢٦٧

أنْ يُفعل بهم ما فُعِل، إلى الحَدِّ الذي لو فُرض أنَّ الرسول الأعظم أمر بقتال وقتل أهل بيته لما فعلوا فيهم أكثر وأشنع مِمَّا فعلوه؟!

ويفرض هذا التساؤل نفسه على الإنسان حينما يطَّلع على الأحداث المؤلمة، والتحدِّيات التي واجهها أهل البيتعليهم‌السلام ، فيسأل نفسه: ما هو َنشأ هذا الحِقد الدفين، الذي عبَّر عنه أعداء آل محمد بتلك الطريقة، التي تدلُّ على أنَّ فاعلها لا عهد له بالدين أو الإنسانيَّة؟! وعسى أنْ يجد القارئ الكريم في هذه القراءات التي بين يديه شيئاً مِن الجواب على هذا التساؤل.

٢٦٨

٢٦٩

فلسفة البُكاء والتأكيد عليه

لقد أكَّد أئمَّة أهل البيتعليهم‌السلام - انطلاقاً مِن الإمام زين العابدينعليه‌السلام - على ظاهرة البُكاء والحُزن في عَلاقة الجماهير الإسلاميَّة بالثورة الحسينيَّة الـمُقدَّسة، فكانوا يحثُّون شيعتهم على عقد المجالس العزائيَّة وإقامة المآتم الحسينيَّة، فلماذا هذا التأكيد؟ وما هي فلسفة ذلك؟ فإنَّ هناك مَن يستهجن هذه المسألة ويعيب هذه الظاهرة، التي أكَّد عليها أئمَّة أهل البيتعليهم‌السلام والتزم بها شيعتهم في طول هذه الفترة التاريخيَّة مِن بعد فاجعة كربلاء، وإنَّ هؤلاء الناقدين لا تخلوا دوافعهم إلى هذا النقد مِن أحد أمرين:

إمَّا أنَّهم مُغرضون ومُجنَّدون لـمُحاربة بقاء الثورة الحسينيَّة في وجدان الأُمَّة؛ لأنَّهم رأوا مدى تأثيرها على الأجيال في الارتباط بأهل البيت ومبادئهم، وتوعية الأُمَّة في قضاياها المصيريَّة واستمراريَّة رفض الظُّلم والفساد والانحراف، فقاما بمُحاولة اليائسين لتشويه هذا الوجه وإضعاف هذه الروح في نفوس الأجيال.

أو أنَّهم جاهلون وغير مُدركين لأبعاد المسألة، يجهلون أنَّ فلسفة ذلك هو أنَّ الثورة الحسينيَّة لا بُدَّ أنْ تملأ على الإنسان المسلم كلَّ وجوده، وتعيش في وجدانه كما تعيش في فكره؛ لأنَّ الإنسان يوجَد له بُعْدان: البُعْد الفِكري والبُعْد الوجدانيِّ العاطفيِّ، فأراد أئمَّة أهل البيتعليهم‌السلام للثورة الحسينيَّة أنْ تعيش في كلا البُعدين مِن الإنسان، فلا يكفي أنْ يتأثَّر بها البُعد الفِكري فقط؛ لأنَّ ذلك يُهدِّدها بالضعف والتلاشي، فلا يكون لها ذلك التأثير المطلوب والـمُستمرُّ؛ لأنَّ الإنسان قد يصل إلى قناعة فكريَّة في عقيدة

٢٧٠

ما، إلاَّ أنَّه لا ينفعل بها وجدانيَّاً وعاطفيَّاً، فسوف لا يكون لها ذلك التأثير على حياته، بلْ ستتعرَّض للجفاف والضعف أمام التحدِّيات على المدى البعيد.

أمَّا إذا عاشها بوجدانه وعاطفته إلى جانب قناعته الفكريَّة، فسوف تبقى حيَّةً مُتجدِّدة وفاعلة في وجوده، فإنَّ (مِن الأُمور الواضحة اجتماعيَّاً ونفسيَّاً، أنَّ القناعة الفكريَّة وحدها لا تُقدِّم ضمانة كافية للثبات والصمود، أمام الأخطار العظيمة والاضطهاد العنيف، الذي يستمرُّ قَرناً بعد قَرن، إنَّ العُنف المدروس الـمُستمرَّ والاضطهاد الذي لا يتورَّع عن شيء - كالعُنف الذي واجهه شيعة أهل البيت - سُرعان ما يُحطِّم التماسك عند الجماهير حول العقيدة التي لا يُتاح لهذه الجماهير أنْ تتَّصل بقادتها بحُريَّة وأمان، ولا يُتاح لها دائماً أنْ تظلَّ على اتِّصال تامٍّ بأفكار العقيدة ومواقفها، ولا يُتاح لها أنْ تُمارس حياتها علناً وفقاً لعقيدته...

ومِن أجل أنْ يُضاف إلى القناعة الفكريَّة بالعقيدة، رباطٌ عاطفيٌّ يُضفي على القناعة الفكريَّة حرارة وقوَّة، ومَضَاءً في مواجهة الاضطهاد والصبر على الشدائد، ويُحافظ على التماسُك أمام ضربات العُنف، ويُحيط الموقف العقلي بوَهِجٍ عاطفيٍّ، يرتفع بالعقيدة مِن مرتبة الحالة العقليَّة إلى مرتبة الحالة الشعوريَّة)(1) .

مِن أجل ذلك كلِّه أكَّد أئمَّة أهل البيتعليهم‌السلام على ظاهرة البُكاء والتباكي، وإقامة مجالس العزاء لتجديد ذكرى واقعة الطَّفِّ، وأكَّدوا على نَظْم الشعر وإنشاده في هذا المجال.

(حتَّى جاء في ثواب مَن خرج مِن عينيه كجُناح الذباب أنَّه يُطفئ حَرَّ جَهنَّم، فإنَّ الغرض ليس إلاَّ أنَّ الدمعة لا تُفاض إلاَّ عند انفعال النفس وتأثُّرها مِمَّا يُصيب مَن

____________________

(1) الشيخ محمد مهدي شمس الدين مَجلَّة الموسم عدد 18: ص61.

٢٧١

تَمتُّ به بنحوٍ مِن أسباب الصلة، لا شكَّ أنَّ قِوى النفس عند تأثُّرها بذلك تكون مُتأثِّرة بشيءٍ آخر، وهو العِداء والبُغض لكلِّ مَن أوقع الفوادح والآلام.

فالأئمَّة - حيث إنَّهم أعرف الناس بمُقتضيات الأحوال والـمُلابسات التي تؤكِّد دعوتهم - كانوا يتحرَّون التوصُّل إلى أغراضهم بكلِّ صورة، وكان مِن الوسائل التي توجب انحراف الأُمَّة عن أعداء الله تعالى ورسوله، أمرهم بالبُكاء على مُصاب الحسينعليه‌السلام ، لِمَا فيه مِن استلزام تذكُّر تلك القساوة، الـمُستلزم لانفعال النفس وانصرافها عمَّا يُلائم خُطَّتهم، وهذا هو المغزى لقول الحسينعليه‌السلام : (أنا قتيل العَبرة، لا يذكرني مؤمن إلاَّ استعبر)، فالمؤمن حيث يَمتُّ بالحسين بالولاء والـمُشايعة، كان ذلك موجباً لتأثُّر نفسه واحتدام قلبه.

لقد راق أئمَّة الهُدىعليهم‌السلام أنْ تبقى تلك الذكريات الخالدة - مدى الدهر - تتحدَّث بها الأجيال الـمُتعاقبة، علماً منهم ببقاء الدين غَضَّاً طريَّاً ما دامت الأُمَّة تتذاكر تلك الفاجعة العُظمى، ولم يقتصروا على لازمها وهو البُكاء، حتَّى دعوا إلى التباكي وهو التشبُّه بالباكي مِن دون أنْ يخرج منه دمع، فيقول الإمام الصادق: (مَن تباكى فله الجَنَّة)، ومعلوم أنَّ التباكي إنَّما يُتصوَّر فيمَن تتعسَّر عليه الدمعة، لكنَّه لم يفقد التأثُّر لأجل الـمُصاب كما يُشاهد في كثيرين، فالتألُّم النفساني بتَصوُّر ما ورد على المحبوب مِن آلام وفوادح، يستلزم - قهراً - النُّفرة مِمَّن أورد ذلك العدوان)(1) .

وظاهرة البُكاء وإقامة مجالس العزاء، هي كأيِّ ظاهرة مِن الظواهر، بدأت في أوَّل انطلاقتها تتَّسم بالبساطة والعفويَّة، ولكنَّها ببركة رعاية الأئمَّة الطاهرينعليهم‌السلام قد تعمَّقت وتطوَّرت تدريجيَّاً، حتَّى أصبحت بالـمُستوى الذي هي عليه في العصر الراهن.

____________________

(1) مقتل الـمُقرَّم: ص26 - 27.

٢٧٢

قال سماحة الشيخ محمد مهدي شمس الدين (رحمه الله) - في معرض حديثه عن المأتم الحسيني الـمُعاصر وعناصره -: قد غدا المأتم الحسيني يشتمل - إلى جانب عُنصر المأساة - على العناصر التالية:

أوَّلاً: لم تَعدِ المأساة تُشكِّل عنصراً نهائيَّاً في المأتم، وإنْ كانت لا تزال عُنصراً رئيسيَّاً فيه.

ثانياً: غَدا المأتم يشتمل غالباً على عرضٍ تاريخيٍّ، يُحيط كربلاء بعواملها التاريخيَّة في حدود سِعة وعُمق الثقافة التاريخيَّة للخطيب.

ثالثاً: احتلَّت الدراسات الإسلاميَّة، والدعوة إلى الإسلام مركزاً مُهمَّاً جِدَّاً في المأتم الحسيني، بحيث غدت مقياساً تعتمد عليه الجماهير في الإقبال على المآتم وانكفائها عنه.

رابعاً: غدا المأتم الحُسيني مُناسبة مُهمَّة لمعالجة الأمراض الاجتماعيَّة، ومظاهر الانحطاط والدعوة إلى إصلاحها على ضوء التوجيه الديني.

إنَّ المأتم الحسيني الآن في أفضل حالاته، وحين يقوم به غير الجَهلة الـمُتطفِّلين عليه - والكلام للشيخ شمس الدين - يُعتبر في رأيي مُؤسَّسة مِن أعظم المؤسَّسات خيراً وبركة؛ بما يقوم به مِن دَور فعَّال في التثقيف والتوعية، وفي الكشف عن تُراثنا الفِكري والحضاري، وفي التوجيه الإسلامي الصحيح إزاء المشاكل الفِكريَّة والعقيديَّة الغريبة عن تُراثنا وعن حضارتنا)(1) .

ومع هذا كلِّه، فلا بُدَّ مِن الحِفاظ على البُعد الوجدانيِّ والعاطفيِّ للمأتم الحسيني، الـمُتمثِّل في الجانب المأساوي في الثورة الحسينيَّة والارتباط بها، ومتى ما ضَعُف هذا البُعد أو هذا العُنصر؛ فإنَّ المأتم الحسيني سوف يتعرَّض للضَعف والجَفاف، ولا يعود يؤدِّي دوره الـمُتكامل في الأجيال الإسلاميَّة الـمُرتبطة بهذا المأتم.

____________________

(1) مجلة الموسم عدد 18: ص59.

٢٧٣

وإذا كان ثَمَّة تطوير أكثر يحتاج إليه المأتم الحسيني لـمُسايرة العصر، فليكن في بقيَّة الجوانب أو العناصر الأُخرى للمأتم؛ ليبقى عُنصر المأساة أو الجانب العاطفي هو الرباط الذي يربط بين سائر العناصر الأُخرى، ويمدُّها بالحرارة والقوَّة.

وفي نظري: إنَّ كلَّ دعوة إلى فصل أو إلغاء هذا الجانب مِن المأتم الحسيني، فهي ليست في صالح المأتم واستمراريَّة تأثيره في نفوس الجماهير، ومتى تمَّ هذا الفصل أو هذا الإلغاء؛ فإنَّه لم يعد مأتماً حسينيَّاً وضيفته تعميق روح الثورة الحسينيَّة في وجدان جماهير الأُمَّة والحفاظ على تلك الروح؛ لأنَّ الإنسان هو الإنسان في كلِّ زمان ومكان في بُعْديه: الفكري، والعاطفي والوجداني، وقد كان المأتم الحسيني ولا يزال مُرتبطاً بِكلا البُعدين في وجود جماهيره، ولا بُدَّ أنْ يبقى كذلك يُغذِّي البُعدين معاً.

إلى هنا تمَّت قراءاتنا لبيانات ونصوص الثورة الحسينيَّة الـمُقدَّسة، سائلاً المولى تعالى أنْ يجعل ذلك في سِجِّلات تلك الثورة الـمُقدَّسة، والصلاة والسلام على أبي الأحرار وسيِّد الشهداء، أبي عبد الله الحسين، وعلى جَدِّه وأبيه وأُمِّه وأخيه التِّسعة المعصومين مِن بَنيه، والحمد لله أوَّلاً وآخر.

23 جمادى الأُولى 1422 هـ

٢٧٤

الفهرس

مُقدِّمة13

القراءة الأُولى: في البُعد العَقيدي 15

تمهيد:17

التوحيد 20

النبوَّة28

الـمَعاد38

1 - الـمُنكِرون:39

2 - الـمُدَّعون للإيمان بالـمَعاد43

3 - الـمُتيقِّنون بالـمَعاد49

أهل البيت عليهم‌السلام في بيانات الثورة56

القراءة الثانية: في البُعْد السياسي 78

مصير الخلافة بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله 80

تمهيد:80

الحسين في عهد مُعاوية89

الهَدَف الأساسي للثورة:97

بين الحسين عليه‌السلام ويزيد 112

1 - الخلفيَّة التاريخيَّة للأُسرتين: بني هاشم، وبني أُميَّة112

2 - عامل النشأة والتربية في شخصيَّة الإمام الحسين عليه‌السلام 117

3 - الحسين في رِحاب القرآن 123

4 - نشأة يزيد ومقوَّمات شخصيَّته129

5 - بيعة يزيد بن مُعاوية131

القراءة الثالثة: في البُعد الاجتماعي 138

تمهيد 140

دور الأُمويِّين في هَدْم ركائز الـمُجتمع الإسلامي 146

٢٧٥

جماهيريَّة الثورة الحسينيَّة152

الـمُجتمع الكوفيِّ واستجابة الإمام لرسائلهم162

القراءة الرابعة: في البُعد الروحي 176

تمهيد(البُعد الآخر في وجود الإنسان)178

الإنسان بين حُبِّ الله وحُبِّ الدنيا180

مظاهر الحُبِّ الإلهي في مُمارسات الثورة186

1 - الصلاة186

2 - الدعاء189

3 - الصبر 195

القراءة الخامسة: في البيانات الإعلاميَّة فيما بعد الثورة204

الوسيلة الإعلاميَّة للثورة206

البيانات الإعلاميَّة في الكوفة214

البيانات الإعلاميَّة في الشام232

البيان الزينبي:233

خطاب الإمام السجّاد عليه‌السلام:246

البيان الإعلامي في المدينة الـمُنوَّرة260

خطاب الإمام السجَّاد في المدينة:260

فلسفة البُكاء والتأكيد عليه270

٢٧٦