قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة21%

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة مؤلف:
الناشر: المؤسّسة الإسلاميّة للبحوث والمعلومات
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 276

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة
  • البداية
  • السابق
  • 276 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 50526 / تحميل: 5974
الحجم الحجم الحجم
قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

قراءات في بيانات الثورة الحسينية وابعادها الرئيسة

مؤلف:
الناشر: المؤسّسة الإسلاميّة للبحوث والمعلومات
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

والآخر: باعث سياسي، وهو ما كان لفرعون والملأ مِن قومه مِن تسلُّط واستعلاء على أقوامهم، فأنكروا المعاد؛ لئلا تتزعزع عروش سُلطتهم بانتشار العقيدة بين أتباعهم ومرؤوسيهم، فكانوا يدعون الناس إلى إنكار المعاد بقولهم:( هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ ) ، ولفظة( ... هَيْهَاتَ... ) تعني: بَعُدَاً، وجاء الاستبعاد هنا مؤكَّداً مِن هؤلاء، بمعنى أنَّه بعيد كلَّ البُعْد أنْ تُبعثوا بعد موتكم، وليس هناك حياة إلاَّ هذه الحياة الدنيا التي تعيشونها.

فهذه بعض الدوافع التي دفعت الـمُنكرين إلى إنكارهم للآخرة والمعاد؛ اتِّباعاً للشهوات وعبادةً للهوى.

أمَّا إذا تحرَّر الإنسان مِن هذه الأُمور، ورجع إلى عقله وفطرته؛ فإنَّه سيُدرك أنَّ الصانع الـمُبدع لذي ابتدعه في النشأة الأُولى، غير عاجز عن إعادته مَرَّة أُخرى في النشأة الثانية، كما جاء في الذكر الحكيم قوله تعالى:( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) (١) .

بلْ لو رجع الإنسان إلى مقاييسه العقليَّة؛ فإنَّه سيُدرك - أيضاً - بأنَّ الإعادة للمخلوق مَرَّة أُخرى أسهل على الصانع مِن الإبداع في الـمَرَّة الأُولى.

وقد طرح القرآن الكريم - أيضاً - المسألة بهذا المقياس في قوله تعالى:( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (٢) .

____________________

(١) يس: ٧٨ - ٧٩.

(٢) الروم: ٢٧.

٤١

فهنا تقول الآية: إنَّكم تعتقدون أنَّ بداية الخَلْق مِن قبل الله، فعود الخَلْق مَرَّة أُخرى أيسر وأهون مِن بداية الخلق.

والدليل على أنَّ عودة الخَلْق أهون مِن البداية، هو أنَّه في البداية لم يكن شيئاً ولكنَّ الله هو الذي أبدعه، أمّا في الإعادة، فعلى الأقلِّ توجد الموادُّ الأصليَّة، فبعضها في طيَّات التراب، وبعضها مُتناثر في الفضاء، وإنَّما تحتاج إلى نَظم وإلى إعطائها صورتها الأُولى فحسب، فهي أهون.

ولكنْ مِن الضروري أنْ نلتفت إلى هذه اللطيفة، وهي أنَّ التعبير بالهيِّن والصعب هو مِن خلال نافذتنا الفكريَّة، وأمَّا بالنسبة لـمَن ليس لوجوده بداية ولا نهاية، فلا فرق عنده بين الصعب والسهل(١) .

ولعلَّ في قوله تعالى:( ... وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى... ) إشارة إلى هذه اللطيفة، فإنَّه يتساوى أمام قدرته تعالى البدء والختام الخطير والحقير والقليل والكثير، قال تعالى:( مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) (٢) .

والمعنى ليس خلقكم معاشر الناس على كثرتكم ولا بعثكم إلاَّ كخلق نفس واحدة وبعثه، فأنتم على كثرتكم والنفس الواحدة سواء(٣) .

ولكنَّ الـمُنكرين للمعاد؛ لسيطرة الأهواء والشهوات على نفوسهم، وانشدادهم إلى الحياة المادِّيَّة؛ قد تنكَّروا لعقولهم وفطرتهم، ولا شكَّ أنَّ رؤيتهم هذه سوف يكون لها التأثير الواضح على سلوكهم وتعاملهم مع الحياة، فلا يُنتظر مِن هؤلاء إلاَّ سلوك الانحراف، وحياة الظلم والفسوق والفساد في الأرض، وعدم الرحمة وما إلى ذلك مِن

____________________

(١) التفسير الأمثل: ج١٢: ص٤٦٧.

(٢) لقمان: ٢٨.

(٣) الميزان: ج١٦: ص٢٣٣.

٤٢

السلوك اللا إنساني؛ لأنَّهم لا يشعرون بأيَّة مسؤوليَّة تِجاه ما يعملون، فيتساوى عندهم العدل والظلم والإحسان والإساءة والقسوة والرحمة.

فإذا ما تظاهروا ببعض الأخلاق الإنسانيَّة، فإنًّ دافعهم إلى ذلك دافع مصلحي صِرف، فمتى ما تعارضت تلك الأخلاق والقيم مع أهدافهم ومصالحهم، فإنَّك لا تجد لتلك القيم وجوداً في قاموس حياتهم. ولا أحسبني في حاجة إلى إقامة دليل على ذلك؛ لأنَّ المسألة وجدانيَّة وشواهدها واضحة كلُّ الوضوح في حياة البشريَّة في كلِّ عصرٍ مِن عصوره.

قال تعالى:( لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (١) .

فعدم الإيمان بالآخرة واستخفاف أمر الحساب والجزاء هو مصدر عمل كلِّ سوءٍ ومورده، وبالـمُقابل الإيمان بالآخرة هو منشأ كلِّ حسنة، ومنبع كلِّ خيرٍ وبركة. فكلُّ مَثل سوءٍ وصفةِ قُبحٍ يلزم الإنسان ويلحقه، فإنَّما يأتيه مِن قبل نسيان الآخرة، كما أنَّ كلَّ مَثل حُسْنٍ وصِفةِ حمدٍ بالعكس مِن ذلك... فالذين لا يؤمنون بالآخرة هم الأصل في عروض كلِّ مَثل سوءٍ وصفةِ قبحٍ، فإنَّ ملاكه وهو إنكار الآخرة نعتهم اللازم(٢) .

٢ - الـمُدَّعون للإيمان بالـمَعاد

ونعني بهم الفئة التي تدَّعي أنَّها مؤمنة بالمعاد والآخرة، إلاَّ أنَّ سيرتهم في حياتهم العمليَّة تتناقض مع هذا الاعتقاد، فهم يعيشون الانفصال بين هذه الدعوة وبين أعمالهم وما يقومون به مِن إجرام ويعيشونه مِن انحراف وفساد. فهم وإنْ حملوا اسم الإسلام

____________________

(١) النحل: ٦٠.

(٢) الميزان: ج١٢ ص٢٧٨.

٤٣

ولكنَّ الذي تمكَّن مِن قلوبهم ويعيش في نفوسهم، هو حُبُّ الدنيا والمصالح الشخصيَّة والشهوات النفسيَّة، مِن حُبِّ السلطان والمال والجاه والجنس، والتمتُّع بالملذَّات بأيِّ وسيلة ومِن أيِّ طريق، غير آبهين ولا مُبالين بالعواقب والنتائج.

ولو رجعنا إلى التاريخ لرأيناه مملوءاً مِن هذه النماذج الكثيرة لهذا الصنف مِن الناس، وكذا في كلِّ عصر سواء كان ذلك على مُستوى الحُكَّام أم على مُستوى المحكومين.

أمَّا على مُستوى الحُكَّام، فإنَّ مَن يصل إلى كرسيِّ الحُكم مِن هذا الصنف لم يعد يُفكِّر إلاَّ في الحفاظ على كرسيِّه وبقاء حُكمه، فهو مُستعدٌّ لأنْ يُضحِّي بكلِّ شيء في سبيل ذلك. ولسنا في صدد السرد التاريخي لسيرة هذه النوعيَّة مِن الحُكام، وإنَّما نُشير بإشارات خاطفة إلى بعض النماذج مِن تاريخ المسلمين.

أ - لـمَّا وقعت الأُمَّة فريسة لأنياب مُعاوية بن أبي سفيان، بعد الهُدنة التي كانت بينه وبين الإمام الحسنعليه‌السلام خطب في النُّخيلة خطاباً جاء فيه: (والله، إنِّي ما قاتلتكم لتصلُّوا، ولا لتصوموا، ولا لتحجُّوا ولا لتزكُّوا، إنَّكم لتفعلون ذلك، إنَّما قاتلتكم لأتأمَّر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون)(١) .

فالهدف الـمُقدَّس عند مُعاوية هو الحُكم والحُكم فقط، بينما الإسلام يعتبر الحُكم وسيلة وطريقاً لإقامة العدل في بلاد الله وبين عباده، وليس الحُكم هدفاً بذاته. ولكنْ لـمَّا كان الحُكم هو الغاية في نظر هؤلاء؛ فإنَّهم لا يتورَّعون عن اتٍِّخاذ أيِّ وسيلة في سبيل الوصول إليه وبقائه في أيديهم، وأيِّ شخصٍ أو جماعة تقف في طريقهم أو تُنكر عليهم أعمالهم؛ فسوف تكون حياته أرخص الأشياء، وسفك دمائهم أسهل مِن السهل.

____________________

(١) حياة الإمام الحسين: ج٢ ص٢٥٤.

٤٤

فلا قيمة لحياة الإنسان ولا قُدسيَّة لدمه ولا وزن لكرامته، فكمْ مِن عظيم قُتِل بسيوفهم، وكمْ دمٍ مُقدَّس أُهرق على أيديهم، ومِن العلماء الذين أبادهم سيف مُعاوية حِجر بن عَديِّ الكندي ومجموعة مِن أصحابه في مرج عذراء وغيرهم مِن الأبرياء، مِن الذين لا ذنب لهم إلاَّ أنَّهم يُعارضون مُعاوية في ظُلمه وجوره.

هذا إلى جانب حرب العصابات التي استخدمها مُعاوية، فقد أرسل بسر بن أرطاة على رأس جيش؛ ليشنَّ الهجمات الـمُباغتة على الـمُدن والقُرى، التي تخضع لحُكم أمير المؤمنينعليه‌السلام ؛ وذلك ليقوم بالقتل والسلب والنهب، ونشر الرُّعب والإرهاب بين المسلمين في تلك البلدان.

فإنَّ حُكم مُعاوية لم يقم إلاَّ على قاعدة الغاية تبرُّر الوسيلة.

ب - قال المؤرِّخون: إنَّ عبد الملك بن مروان كان قبل أنْ يتقلَّد الخلافة يُظهر النُسك والعبادة، فلـمَّا بُشِّر بالـمُلك بعد هلاك أبيه مروان كان بيده المِصحف الكريم، فأطبقه وقال: هذا آخر العهد بك، أو قال: هذا فِراق بيني وبينك. وقد صدق فيما قال، فقد فارق كتاب الله وسُنَّة نبيِّه مُنذ اللحظة الأُولى التي تقلَّد فيها الحُكم، فقد أثرت عنه مِن الأعمال ما باعدت بينه وبين الإسلام والقرآن(١) .

وقد قال في خُطبته بعد قتله لابن الزبير: (لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلاَّ ضربت عنقه)(٢) .

ج - ذكر المؤرِّخون أنَّ الحَجَّاج بن يوسف الثقفي - وهو إحدى سيِّئات هذا التاريخ - مات في حبسه خمسون ألف رجل وثلاثون ألف امرأة، منهنَّ سِتَّة عشر ألفاً مُجرَّدات، وكان يحبس الرجال والنساء في موضع واحد(٣) .

____________________

(١) حياة الإمام الباقر: ج٢ ص١٧.

(٢) تاريخ الخُلفاء: ص٢١٨.

(٣) حياة الإمام الحسين: ج٢: ص١٤٨، نقلاً عن أنساب الأشراف.

٤٥

فهل يَشمُّ الإنسان مِن هذه السيرة رائحة الإيمان بالمعاد والحساب، وقد عرف التاريخ الكثير مِن هذه النماذج، بلْ هي موجودة في كلِّ عصر.

أمَّا في عصر الإمام الحسينعليه‌السلام ، فنأخذ منه سيرة حُكَّام عصره وواقعهم، قالعليه‌السلام :

(ألا وإنَّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمان، وأظهروا الفساد، وعطَّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلُّوا حرام الله وحرَّموا حلاله، وأنا أحقُّ مَن غيِّر)(١) .

هذا على مُستوى الحُكَّام، أمَّا على مُستوى المحكومين، فإنَّ الحُكَّام الجائرين لم يستطيعوا أنْ يفعلوا ما فعلوا إلاَّ عندما وجدوا مَن يُنفِّذ لهم أوامرهم ويقوِّي شوكتهم، فإنَّ الجماعات مِن هذا الصنف مِن الناس هم الأداة الطبيعيَّة والقوَّة الضاربة في أيدي الظالمين، وإنَّما صارت تلك الجماعات على هذا الـمُستوى؛ لأنَّهم قد استعبدتهم الدنيا ولم يكونوا يعيشون الإسلام، بلْ هم يعيشون حالة الانفصال بين دعواهم للإسلام والإيمان بالمبدأ والمعاد، وبين واقعهم العملي والحياتي، كما وصفهم أبو الأحرار الإمام الحسينعليه‌السلام :

(الناس عبيد الدنيا، والدين لَعْقٌ على ألسنتهم يحوطونه ما درَّت معائشهم، فإذا مُحِّصوا بالبلاء قلَّ الديَّانون)(٢) .

فنجد هذا الخبير العظيم بأُمور الناس وأحوالهم كيف يُشخِّص واقعهم، ولا شكَّ أنَّه إنَّما يعني بالناس هنا مَن يحمل دعوى التديُّن بالإسلام، فإنَّ هؤلاء الناس يُحيطون

____________________

(١) تقدَّمت مصادره في: ص٢٧: هامش ١.

(٢) بحار الأنوار: ج٤٤: ص٣٨٣ وج٧٥: ص١١٧. وتحف العقول: ص٢٤٥. والعوالم: ص٢٣٤. ومقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي: ج١: ص٢٣٧.

٤٦

الدين ما دام في ذلك مكاسب دنيويَّة ومصالح شخصيَّة، وإنَّما تتكشَّف حقائقهم عند الاصطدام بواجب شرعي أو موقف يجعلهم بين خيارين ومُفترق طريقين، وهو الموقف الذي يتعارض مع دنياهم ومصالحهم المادِّيَّة، عند ذلك لا ترى للدين أيَّ وجود في حياتهم.

وقال سيِّد الشهداءعليه‌السلام في خطابه لتلك الجماعة، التي باعت نفسها على الأُمويِّين في سبيل دنياً تافهة زائلة مُحاولاً إنقاذهم مِمَّا هم فيه مِن السقوط في بؤرة الشيطان، قالعليه‌السلام :

(الحمد لله الذي خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال، مُتصرِّفة بأهلها حالاً بعد حال، فالمغرور مَن غرَّته والشقيُّ مَن فتنته، فلا تغرَّنكم هذه الدنيا؛ فإنَّها تقطع رجاء مَن ركن إليها، وتُخيِّب طمع مَن طمع فيها. وأراكم قد أجمعتم على أمرٍ أسخطتم الله فيه عليكم، وأعرض بوجهه الكريم عنكم، وأحلَّ بكم نقمته، وجنَّبكم رحمته، فنعم الربُّ ربُّنا وبئس العبيدُ أنتم، أقررتم بالطاعة وآمنتم بالرسول محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ثمَّ إنَّكم زحفتم إلى ذُرِّيته وعِترته تُريدون قتلهم، لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم، فتبَّاً لكم ولما تُريدون، إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم فبُعداً للقوم الظالمين)(١) .

فقد أعطى أبو الأحرار في هذا البيان صورة واضحة للتناقض الذي يعيشه أُولئك

____________________

(١) بحار الأنوار: ج٤٥: ص٥ - ٦، والعوالم: ص٢٤٩، ومقتل الحسين للخوارزمي: ج١: ص٢٥٢.

٤٧

في دعواهم بالإيمان بالمبدأ والـمَعاد والرسالة، وبين موقفهم منه في إقدامهم وتصميمهم على ارتكاب تلك الجريمة الكُبرى التي هي مِن أبشع ما عرفه التاريخ مِن الجرائم.

وفي بيان آخر خاطبهمعليه‌السلام بقوله:

(فقُبحاً لكم، فإنَّما أنتم مِن طواغيت الاُمَّة وشُذَّاذ الأحزاب، ونَبذة الكتاب، ونفثة الشيطان وعُصبة الآثام، ومُحرِّف الكتاب، ومُطفئ السُّنَن، وقتلة أولاد الأنبياء، ومُبيري عِترة الأوصياء)(١) .

فهذه الأوصاف التي وصفهم الإمام الحسينعليه‌السلام بها صفاتٌ، تجعلهم أُناساً لا عهد لهم بالله ولا صِلة لها بالإيمان بالمبدأ والمعاد، مع أنَّهم يدَّعون أنَّهم مسلمون ومؤمنون بما نزل على محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فما أبعد الشِّقَّة بين الدعوى والموقف.

فهذا عمر بن سعد - وهو قائد ذلك الجيش - يجتمع به الحسينعليه‌السلام قبل الواقعة ليلاً اجتماعاً مُغلَقاً لم يحضره إلاَّ العباس وعليُّ الأكبر مِن جانب الحسين، ومع ابن سعد ابنه حفص وغلام لابن سعد، فقال الإمام: (يا بن سعد، أتُقاتلني أما تتَّقي الله الذي إليه معادك، فإنِّي ابن مَن قد علمت، ألا تكون معي وتدع هؤلاء القوم فإنَّه أقرب إلى الله تعالى).

وألقى ابن سعد معاذيره الواهية قائلاً: أخاف أنْ تُهدم داري.

- (أنا ابنيها).

- أخاف أنْ تؤخَذ ضيعتي.

- (أنا أُخلِف عليك خيراً منها في الحِجاز).

____________________

(١) بحار الأنوار: ج٤٥: ص٨. والعوالم (الإمام الحسين) ص٢٥٢. واللهوف لابن طاوس: ص٥٨.

٤٨

- إنَّ لي بالكوفة عيالاً وأخاف عليهم مِن ابن زياد القتل.

ولم يجد منه الإمامعليه‌السلام أيَّ تجاوبٍ، وإنَّما رأى منه إصراراً على الغيِّ والعُدوان، فاندفع يدعو عليه: (ما لك ذبحك الله على فراشك عاجلاً! ولا غفر الله لك يوم حشرك، فو الله، إنِّي لأرجو ألاَّ تأكل مِن بُرِّ العراق إلاَّ يسيراً).

وولَّى ابن سعد وهو يقول للإمام سُخريَّةً: إنَّ في الشعير كفاية(١) .

فنرى منطق ابن سعد منطقاً دنيويَّاً صِرفاً، لا يُشمُّ منه رائحة الإيمان، فلا نجد في كلامه ذكراً للدين، فهو لا يتحدَّث إلاَّ عن داره وضيعته وما إلى ذلك. فلم يعد يُفكِّر إلاَّ في الدنيا ومظاهرها وملذَّاتها ولم يعد للآخرة والإيمان بها شيء مِن تفكير هذا الرجل الخاسر.

٣ - الـمُتيقِّنون بالـمَعاد

أمَّا الفئة الثالثة، فهم الذين يؤمنون بالمعاد إيماناً جازماً لا يشوبه شكٌّ أو شُبهة، فتكون هذه العقيدة إحدى الركائز الأساسيَّة للرؤية الكَونيَّة التي يحملها هؤلاء.

فهم قد وعوا وجودهم وغاية خَلقهم وعياً تامَّاً، فهم على النقيض مِن الفئة الأُولى الذين يعيشون مَحدوديَّة المادَّة، فلا تتجاوز نظرتهم هذه الحياة الضيِّقة.

بينما المؤمنون يعيشون الأُفق الأوسع، والنظرة الشاملة للحياة الدنيا والحياة الآخرة، فتشمل رؤيتهم عالـمَي الغَيْب والشهادة، فهم يعتقدون اعتقاداً جازماً وفاعلاً: بأنَّ الإنسان إنَّما جاء إلى هذه الحياة ليقوم بدوره الحضاري، الذي كُلِّف به مِن قبل خالقه تعالى، هذا الدور الذي يُطلِق عليه القرآن عنوان الخِلافة مَرَّة، وعنوان الأمانة مَرَّة

____________________

(١) حياة الإمام الحسين: ج٣: ص١٣٣ - ١٣٤.

٤٩

أُخرى، فمَرَّة يقول تعالى:( ... إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً... ) (١) ، وتارة يقول:( إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ) (٢) .

فهذه المسؤوليَّة الحضاريَّة تُوصَف بكونها خلافة إذا نُظر إليها مِن زاوية الـمُكلِّف - بالكسر - وهو الله تعالى، فهي خِلافة عن الله تعالى، وتُوصَف بكونها أمانة إذا نُظر إليها مِن زاوية الـمُكلَّف - بالفتح - فالإنسان هو الـمُتحمِّل لهذه الأمانة، فهو مُلزَم بكلِّ حدود وشروط هذه الخلافة وتَحمُّل هذه الأمانة، ومتى تجاوز الإنسان تلك الحدود ولم يلتزم بتلك الشروط؛ فإنَّه محكوم عليه بالخيانة التي تؤدِّي إلى الشَّقاء الأبديِّ.

هذا مُجمل الرؤية الكونيَّة التي يحملها ويعيشها المؤمنون الصادقون بالمبدأ والمعاد، ولا شكَّ أنَّ (هذا اللون مِن التفكير يبعث في نفس حامله الهدوء والسكينة، ويجعله يتحمَّل أعباء المسؤوليَّة ومَشاقَّها بصدرٍ رحبٍ، ويقف أمام الحوادث كالطود الأشمِّ ويرفض الخضوع للظلم.

وهذا التفكير يملأ الإنسان ثِقة بأنَّ الأعمال - صالحها وطالحها - لها جزاء وعقاب، وبأنَّه ينتقل بعد الموت إلى عالم أرحب، خالٍ مِن كلِّ ألوان الظلم يتمتَّع فيه برحمة الله الواسعة وألطافه الغزيرة.

الإيمان بالآخرة يعني اختراق حاجز عالم المادَّة، والدخول إلى عالم أسمى، ويعني أنَّ عالمنا هذا مزرعة لذلك العالم الأسمى، ومدرسة إعداديَّة له، وإنَّ الحياة في هذا العالم ليست هدفاً نهائيَّاً، بلْ تمهيد وإعداد للعالم الآخر. الحياة في هذا العالم شبيهة بحياة المرحلة الجنينيَّة، فهي ليست هدفاً لخلقة الإنسان، بلْ مرحلة تكامليَّة مِن أجل حياة

____________________

(١) البقرة: ٣٠.

(٢) الأحزاب: ٧٢.

٥٠

أُخرى، وما لم يولَد الجنين سالماً خالياً مِن العيوب، لا يستطيع أنْ يعيش سعيداً في الحياة التالية.

الإيمان بيوم القيامة له أثر عميق في تربية الإنسان يهبه الشجاعة والشهامة)(١) .

ولـمَّا تحدَّث القرآن الكريم عن ركائز الإيمان عند الـمُتَّقين عدَّ منها اليقين بالآخرة، قال تعالى:( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) (٢) .

و (إنَّما ذكر الإيمان بالغيب ابتداءً؛ لأنَّه أصل كلِّ إيمان وأساس كلِّ اعتقاد وعمل... ثمَّ أعقبه تعالى بالصلاة؛ لأنَّها أهمُّ أركان الدين، وأنَّها الرابطة بين العبد ومعبوده، ثمَّ ذكر الإنفاق؛ لأنَّه أعظم صلة بين أفراد الإنسان، وبه يحصل التعاون بينهم وتطهر أموالهم. فالآية باختصارها جمعت بين الأُصول الاعتقاديَّة وأهمِّ الأعمال الجوارحيَّة وأعظم الأُمور الاجتماعيَّة...

ثمَّ إنَّه تعالى ذكر:( ... وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) مع أنَّ الآخرة مِن أفراد الغيب الذي ذُكِر في أوَّل الآية؛ وذلك لأجل التأكيد والأهميَّة بالنسبة إلى الآخرة؛ فإنَّ عماد النشأتين - الدنيا والآخرة - هو الإيمان بالمعاد بعد الإيمان بالله تعالى، وبه تنتظم حياة الإنسان الفرديَّة والاجتماعيَّة(٣) .

وقد وصف أمير المؤمنين عليٌّعليه‌السلام هذا الصنف مِن الناس بقولهعليه‌السلام : (اعلموا أنَّ الـمُتَّقين ذهبوا بعاجل الدنيا وآجل الآخرة، سكنوا الدنيا بأفضل ما سُكِنت، وأكلوها بأفضل ما أُكلت، ثمَّ انقلبوا عنها بالزاد المبلَّغ والـمُتَّجر الرابح، وتيقَّنوا أنَّهم جيران الله في آخرتهم لا تُردُّ لهم دعوة ولا ينقص عليهم نصيب مِن لذَّة)(٤) .

____________________

(١) التفسير الأمثل: ج١: ص٧٥.

(٢) البقرة ٣ - ٤.

(٣) مواهب الرحمان: ج١: ص٨٥ - ٨٦.

(٤) نهج البلاغة خُطبة الـمُتَّقين رقم الخُطبة ١٩٣: ص٤٤٤.

٥١

فهؤلاء إنَّما ربحوا الدارين؛ لأنَّهم عاشوا وعملوا مِن أجل الآخرة، وقد أشار أمير المؤمنينعليه‌السلام في هذه الخُطبة إلى مُستوى اليقين الذي يعيشه هؤلاء، فقالعليه‌السلام : (فهم والجَنَّة كمَن قد رآها فهم فيها مُنعَّمون، وهم والنار كمَن قد رآها فهم فيها مُعذَّبون)(١) .

هكذا يؤثِّر اليقين بالآخرة أثره في حياة الإنسان، ويصوغها بالصيغة الرَّبَّانيَّة الخاصَّة، ويجعل الإنسان يعيش حالة مِن الشوق إلى لقاء الله تعالى، لا سِيَّما حينما يعيش الإنسان الرَّبَّاني في وسط مليء بالانحرافات، وبيئة اجتماعيَّة قد سادها الفساد والظلم والفسوق، مع عدم قدرته على التغيير، فهو يُفضِّل الموت على الحياة، كما عبَّر عن هذه الحقيقة الإمام الحسينعليه‌السلام عن موقفه مِن مظاهر الانحراف والضلال في عصره، فقالعليه‌السلام :

(وإنَّ الدنيا قد تغيَّرت وتنكَّرت وأدبر معروفها، ولم يبقَ منها إلاَّ صُبابة كصُبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل، ألا ترون إلى الحَقِّ لا يُعمل به وإلى الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله، فإنِّي لا أرى الموت إلاَّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاَّ برماً)(٢) .

فهذا الداعية الرَّبَّاني أصبح لا يرى لبقاء الإنسان المؤمن في هذه الحياة، وفي ظل تلك الظروف أيَّ قيمة، حيث لا يتمكَّن مِن تحقيق الهدف الأسمى مِن وجوده، فأصبح الانتقال إلى عالم الآخرة وإلى جوار الله تعالى هو الأوْلى له والأحرى به، فرفع الإمام

____________________

(١) نهج البلاغة: رقم الخُطبة ١٩٣: ص٤٤٤.

(٢) بحار الأنوار: ج٤٤: ص٣٨١. واللهوف لابن طاوس: ص٤٨.

٥٢

علم التمرُّد والثورة على تلك الأوضاع اللاَّ إسلاميَّة، فاستجاب له مَن استجاب مِن أبدال الأُمَّة الذين اقتبسوا أشعَّة مِن تلك الروح الـمُقدَّسة فتعلَّقوا به وربطوا مصيرهم بمصيره، حيث وصلوا إلى القناعة التامَّة بأنَّ الحياة أصبحت أتفه مِن أنْ يُفكَّر فيها أو يُلتفت إليها، فمثَّلت لهم الآخرة فرأوها ببصائرهم وقلوبهم؛ فأقبلوا عليها بكلِّ عشقٍ، وقدَّموا أرواحهم قرابين على مذبح الشهادة.

فهذا قائدهم يقول - مُعبِّراً عن شوقه وولهه إلى لقاء الله والآخرة، ذلك اللقاء الذي يجمعه بأسلافه السابقين -:

(وما أولهني إلى أسلافي، اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخْيِر لي مصرع أنا لاقيه...)(١) .

وقد ذكر المؤرِّخون عن هذه الصفوة أُموراً تُحيِّر العقول، عن حالة العشق التي كانوا عليها للقاء الله والانتقال إلى الآخرة.:

(لقد كان بعضهم يُداعب أصحابه ويُمازحهم في الليلة العاشرة، فقد هازل بُرير عبد الرحمان الأنصاري رحمه الله، فقال له عبد الرحمان: (ما هذه ساعة باطلٍ!)، فقال بُرير: (لقد علم قومي ما أحببت الباطل كَهلاً ولا شابَّاً، ولكنِّي مُستبشر بما نحن لاقون. والله، ما بينا وبين الحور العين إلاَّ أنْ يَميل علينا هؤلاء القوم بأسيافهم، ولوددت أنَّهم مالوا علينا الساعة)(٢) .

(وهذا حبيب بن مظاهر خرج إلى أصحابه وهو يَضحك قد غمرته الأفراح، فأنكر عليه يزيد بن الحصين التميمي قائلاً: (ما هذه ساعة ضَحك!)، فأجابه حبيب عن إيمانه

____________________

(١) شرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي: ص١٤٦. مُثير الأحزان لابن نما: ص٢٩. وبحار الأنوار: ج٤٤: ص٣٦٦. والعوالم (الإمام الحسين): ص٢١٦. واللهوف: ص٣٨ طبع الأعلمي.

(٢) في رحاب عاشوراء: ص٢٢٩.

٥٣

العميق قائلاً: (أيُّ موضعٍ أحقُّ مِن هذا بالسرور! والله، ما هو إلاَّ أنْ تميل علينا هذه الطُّغاة بسيوفهم، فنُعانق الحور العين)(١) .

(وليس في أُسرة شهداء العالم مِثل هذا الإيمان، الذي تفجَّر عن براكينَ هائلةٍ مِن اليقين والمعرفة وصدق النيَّة عظيم الإخلاص.. لقد استبشروا بالفوز في جِنان الخُلد مع النبيِّين والصديقين والشهداء، وأيقنوا أنَّهم يموتون أهنأ موتةٍ وأعظمها في تاريخ البشريَّة في جميع الأجيال والآباد)(٢) .

____________________

(١) حياة الإمام الحسين: ج٣ ص١٧٥.

(٢) حياة الإمام الحسين: ج٣ ص١٧٦.

٥٤

٥٥

أهل البيت عليهم‌السلام في بيانات الثورة

تُمثِّل الثورة الحسينيَّة قِمَّة الصراع بين مبادئ أهل البيتعليهم‌السلام ومبادئ خصومهم، على الـمُستوى الفكري والسياسي والعسكري؛ لذلك لا بُدَّ لسيِّد الثوَّار مِن أنْ يؤكِّد في بياناته الثوريَّة على مكانة أهل البيتعليهم‌السلام وعلاقتهم بالرسالة الإسلاميَّة وصلتهم بالأُمَّة، فلم تكن علاقتهم بالرسالة علاقة إيمان وحسب، بلْ علاقة التمازج والتفاعل التامِّ، فهم يُمثِّلون الوجهة الشخصيَّة للرسالة، في فكرهم وأخلاقهم، وأفعالهم وأقوالهم، ويُمثِّلون في الأُمَّة موقع القيادة والريادة.

وبيان هذه الحقيقة مِن أهمِّ الأهداف الـمُقدَّسة لثورة أبي الأحرار، إنْ لم تكن الأهمَّ على الإطلاق، فأبانعليه‌السلام أنَّه لم يتحرَّك ولم ينطلق في ثورته مِن فراغ، بلْ انطلق مِن قاعدة ربَّانيَّة متينة، وهي تلك المكانة الـمُقدَّسة التي تُجسِّد روح الرسالة ومحور الإسلام؛ لأنَّها راجعة إلى الاصطفاء والاختيار الرَّبَّاني لأهل هذا البيتعليهم‌السلام ؛ ليكونوا قادة البشريَّة وروَّادها في هدايتهم إلى الله تعالى، ولتحقيق الأهداف الإلهيَّة على الأرض.

وقد أشار سيِّد الشهداءعليه‌السلام إلى ذلك المقام في أوَّل مواجهة له مع السُّلطات الأُمويَّة الحاكمة، لـمَّا دُعِي إلى مُبايعة يزيد بن معاوية على لسان أمير المدينة المنوَّرة، الوليد بن عتبة بن أبي سفيان.

وبعد شيء مِن الحوار الحادِّ بينه وبين الوليد ومروان بن الحَكم - وكان حاضراً - قالعليه‌السلام :

٥٦

(أيُّها الأمير، إنَّا أهل بيت النبوَّة ومَعدن الرسالة ومُختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق، شارب الخمر، وقاتل النفس الـمُحرَّمة مُعلِن بالفِسق، ومِثلي لا يُبايع مِثله، ولكنْ نُصبح وتُصبحون وننظر وتنظرون أيَّنا أحَقَّ بالخلافة والبيعة)(١) .

هذا هو الإعلان الأوَّل لأبي الأحرار في مواجهة النظام الأُموي، حيث أعلن رفضه الـمُطلق للاعتراف بذلك النظام؛ مُستنداً إلى المبادئ الرساليَّة التي كان يُمثِّلها هو وأهل بيتهعليهم‌السلام ، والتي تُحتِّم عليه هذا الموقف.

وقد أشارعليه‌السلام هنا إلى عدد مِن خصائص أهل البيتعليهم‌السلام التي تُشير إلى منزلتهم في الإسلام، والتي تجعلهم الأكفَّأ والأوْلى مِمَّن سواهم بولاية أمر الأُمَّة وقيادتها.

ولا بُدَّ مِن وقفة - ولو قصيرة - عند هذه الخصائص التي ذكرها سيِّد الشهداءعليه‌السلام .

١ - (إنَّا أهل بيت النبوَّة)

لا شكَّ أنَّ الـمُراد بأهل بيت النبوَّة هُمْ أهل بيت النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومتى أُطلق اصطلاح - أهل البيت - فإنَّما يُراد به أهل بيتهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد حَدَّد الرسول الأعظم - وبكلِّ وضوح - الـمُراد مِن أهل البيت، وذلك مِن خلال النصوص الواردة عن طريق الفريقين أنَّ أهل البيت هُمْ: عليٌّ، وفاطمة الزهراء، وولدهما - المعصومون -.

ولكنْ برغم وضوح ذلك، فقد أُثير حول هذا الاصطلاح الكثير مِن الضبابيَّة، ومُحاولة التعتيم لحَرْفِه عن الـمُراد منه، فتارة يزعمون أنَّ الـمُراد بأهل البيت نساء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو ما يشمل نساءه، وتارة أُخرى يُدَّعى أنَّه يشمل كافَّة بني هاشم.

____________________

(١) اللهوف لابن طاووس: ص١٧. الفتوح لابن أعثم: ج٥: ص١٤، واللفظ للأوَّل.

٥٧

وبقول ثالث زعموا أنَّ الـمُراد به عموم الأُمَّة، كما يظهر مِن الحوار التالي الذي يرويه الشيخ الصدوق في أماليه، كما روي أيضاً في عيون أخبار الرضاعليه‌السلام : الريَّان بن الصلت حضر مجلس المأمون بمروْ، وقد اجتمع في مجلسه جماعة مِن أهل العراق وخراسان - إلى أنْ قال -: فقال المأمون: مَنْ العِترة الطاهرة؟ فقال الرضاعليه‌السلام : (الذين وصفهم الله في كتابه، فقال جَلَّ وعَزَّ:( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِير ) (١) .

وهُمْ الذين قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (إنِّي مُخلِّف فيكم الثقلين: كتاب الله، وعِترتي أهل بيتي، وإنَّهما لن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض، وانظروا كيف تخلفوني فيهما. أيُّها الناس، لا تُعلِّموهم؛ فإنَّهم أعلم منكم).

قالت العلماء: أخبرنا - يا أبا الحسن - عن العِترة، أهُمْ الآل أو غير الآل؟

فقال الرضاعليه‌السلام : (هُمْ الآل).

فقالت العلماء: فهذا رسول الله يؤثَر عنه أنَّه قال:(أُمَّتي آلي) ، وهؤلاء أصحابه يقولن بالخبر الـمُستفاض، الذي لا يُمكن دفعه: آل محمد أُمَّته.

فقال أبو الحسنعليه‌السلام : (أخبروني، هل تحرم الصدقة على الآل؟).

قالوا: نعم.

قال: (فتحرم على الأُمَّة؟).

قالوا: لا.

قال: (هذا فَرقٌ بين الآل والأُمَّة)(٢) .

فنجد الـمُحاورين للإمامعليه‌السلام قد طرحوا هذه الدعوى، ونسبوها إلى الصحابة، وزعموا أنَّ ذلك مُستفيض عنهم، مِمَّا يُشير إلى أنَّ هذه الـمُحاولات وِجِدت مِن الصدر الأوَّل؛ لإثارة التعتيم على هذا الـمُصطلح ومَن ينطبق عليهم.

وقد استُغِلَّ هذا الـمُصطلح استغلالاً سيِّئاً مِن قِبَل الحُكَّام الأُمويِّين والعباسيِّين، فقد طرح الأُمويُّون أنفسهم بأنَّهم آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وسخَّروا إعلامهم في سبيل هذا التضليل

____________________

(١) الأحزاب: ٣٣.

(٢) عيون أخبار الرضا: ص١٨٠.

٥٨

لا سِيَّما في وسط الـمُجتمع الشامي، وقد ذكر المؤرِّخون: أنَّ عشرة مِن قوَّاد أهل الشام وأصحاب النِّعم والرئاسة فيها، حلفوا للسفَّاح على أنَّهم لم يكونوا يعرفون إلى أنْ قتل مروان بن محمد - آخر حُكَّام بني أُميَّة - أقرباء للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ولا أهل بيت يرثونه غير بَني أُميَّة(١) .

هذا كلُّه نتائج الإعلام الأُموي في تضليل الأُمَّة، ومُحاربة الحَقِّ وأهله والـمُتمثِّل في عِترة الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقد سخَّر مُعاوية إمكانيَّات دولته في هذا السبيل؛ مِن أجل إبراز نفسه وسائر الأُمويِّين بهالَةٍ مُقدَّسة مِن جِهة، وتشويه ساحة أهل البيتعليهم‌السلام مِن جِهة أُخرى، وإخفاء - بلْ مَحو - ما لهم مِن فضائل تُميِّزهم عن غيرهم على سائر الأُمَّة، وتُشير إلى مقامهم ومنزلتهم السامية، لا سِيَّما عميد بيت النبوَّة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فقد بذل مُعاوية جُهده في طمس كلِّ ما يُميِّزه على سواه، مِن الفضائل النفسيَّة والمواقف الجهاديَّة، التي تؤكِّد على أنَّ عليَّاًعليه‌السلام هو الذي يحتلُّ الموقع القياديِّ لأُمَّة محمد بعد نبيِّهاصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فمنع مِن ذِكر كلِّ ما يتعلَّق بفضله وفضل أهل بيتهعليهم‌السلام .

يقول المؤرخون: إنَّه بعد عامِ الصلح حَجَّ (مُعاوية) بيت الله الحرام، فاجتاز على جماعة، فقاموا إليه تكريماً ولم يقم ابن عباس، فبادره مُعاوية قائلاً: يا بن عباس، ما منعك مِن القيام كما قام أصحابك إلاَّ لـمَوجدة عليَّ بقتالي إيَّاكم يوم صِفِّين ?! يا بن عباس، إنَّ ابن عَمِّي عثمان قُتِل مظلوماً.

فرَدَّ عليه ابن عباس ببليغ منطقه قائلاً: فعمر بن الخطاب قد قُتِل مظلوماً، فسلَّم الأمر إلى ولده وهذا ابنه. فأشار إلى عبد الله بن عمر.

- إنَّ عمر قتله مُشرِك.

فانبرى ابن عباس قائلاً: فمَن قتل عثمان؟!

____________________

(١) حياة الإمام الرضا للعاملي: ص٥٤ الهامش.

٥٩

- قتله المسلمون.

فأمسك ابن عباس بزمامه، فقال: فذاك أدحض لحُجَّتك، إنْ كان المسلمون قتلوه وخذلوه فليس إلاَّ بحَقٍّ.

ولم يجد مُعاوية مجالاً للرَّدِّ عليه، فسلك حديثاً آخر أهمُّ عنده مِن دَمِ عثمان، فقال له: إنَّا كتبنا إلى الآفاق ننهى عن ذَرِّ مناقب عليٍّ وأهل بيته؛ فكُفَّ لسانك يا بن عباس.

فانبرى ابن عباس يُفيض مِن مَنطقه، وبليغ حُجَّته، ويُسدِّد سِهاماً لمًعاوية قائلاً: فتنهانا عن قراءة القرآن؟!

- لا.

- فتنهانا عن تأويله؟!

- نعم.

- فأيُّهما أوجب علينا قراءته أو العمل به؟

- العمل به.

- فكيف نعمل به حتَّى نعلم ما عَنى الله بما أنزل إلينا؟

- سَلْ عن ذلك مِمَّن يتأوَّله على غير ما تأوَّلْته أنت وأهل بيتك.

- إنَّما أُنزل القرآن على أهل بيتي، فاسأل عنه آل أبي سفيان وآل أبي معيط.

- فاقرؤوا القرآن ولا ترووا شيئاً مِمَّا أنزل الله فيكم، وما قاله رسول الله فيكم وارووا ما سِوى ذلك.

وسِخر منه ابن عباس وتلا قوله تعالى:( يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (١) .

____________________

(١) التوبة: ٣٢.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

(الأغناء المترفين) وتقريبه للمجموعة الثّانية (الفقراء المؤمنين) شكّل مجتمعا توحيديا بمعنى الكلمة ، مجتمعا تفجّرت فيه الطاقات الكامنة ، وأصبحت فيه معايير الشخصية والقيم والنبوغ ، هي التقوى والعلم والإيمان والجهاد والعمل الصالح.

واليوم ما لم نسع لبناء مثل هذا المجتمع والاقتداء بالنموذج الإسلامي الذي شيّده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عهده ، وبدون نبذ الفكر الطبقي من العقول عن طريق التعليم والتربية وتدوين القوانين الصحيحة والسهر على تنفيذها بدقّة ـ بالرغم من رفض الاستكبار العالمي وتعويقه لذلك ـ فسوف لن نملك مجتمعا إنسانيا سليما أبدا.

2 ـ المقارنة بين الحياة في هذا العالم وعالم الآخرة :

لقد قلنا مرارا : إنّ تجسّد الأعمال هو من أهم القضايا المرتبطة بالمعاد. يجب أن نعلم أنّ ما هو موجود في ذلك العالم هو انعكاس واسع ومتكامل لهذا العالم ، فأعمالنا وأفكارنا وأساليبنا الاجتماعية وصفاتنا الأخلاقية المختلفة سوف تتجسّم وتتجسّد أمامنا في ذلك العالم وستبقى قرينة لنا دائما.

الآيات ـ أعلاه ـ دليل حي على هذه الحقيقة ، فالمترفون الظالمون الذين كانوا يعيشون في هذه الدنيا في ظل سرادق عالية ، وكانوا سكارى بهواهم ، وسعوا إلى فصل كل شيء يخصّهم عن المؤمنين الفقراء ، هؤلاء يملكون في ذلك العالم أيضا (سرادق) ولكنّها من النار الحارقة ، لأنّ الظلم في حقيقته نار حارقة تحرق الحياة وتذروا آمال المستضعفين المظلومين.

هناك يشربون من شراب يجسّد باطن شراب الدنيا ، وهو بالنسبة للظالمين الطغاة شراب من دماء قلوب المحرومين ، ومثل هذا الشراب يقدّم للظالمين في ذلك العالم ، وهو لا يحرق أمعاءهم وأحشاءهم فحسب ، بل يكون كالمعدن

٢٦١

المذاب الذي يشوي الوجوه قبل شربه من شدّة حرارته.

وعلى العكس من ذلك أولئك الذين تركوا الشهوات في سبيل حفظ طهارة وجودهم ورعاية أصول العدالة ، والذين اقتنعوا بحياة بسيطة ، وتحمّلوا كل الصعوبات والمنغصات في هذه الدنيا من أجل تنفيذ أصول العدالة هؤلاء تنتظرهم هناك بساتين الجنّة مع الأنهار الجارية ، وأفضل أنواع الزينة وأفخر الألبسة ، وأحبّ المجالس. وهذا في الواقع تجسيد لنياتهم النزيهة حيث كانوا يريدون كل الخير لجميع عباد الله.

3 ـ العلاقة بين عبادة الهوى والغفلة عن الله

الروح الإنسانية تخضع إمّا لله تعالى أو للأهواء ، حيث لا يمكن الجمع بين الإثنين ، فعبادة الأهواء أساس الغفلة عن الله وعبادة الله ، عبادة الهوى هي سبب الابتعاد عن جميع الأصول الأخلاقية ؛ وأخيرا فإنّ عبادة الهوى تدخل الإنسان في ذاته وتبعده عن جميع حقائق العالم.

إنّ الإنسان الذي يعبد هواه لا يفكّر إلّا في إشباع شهواته ، ولا يوجد لديه معنى للفتوّة والعفو والإيثار والتضحية والشيم المعنوية الأخرى.

وقد أوضحت الآيات محل البحت الربط والعلاقة بين الإثنين بشكل جلي في قوله تعالى :( وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ) .

لقد طرحت الآية أوّلا (الغفلة) عن الله تعالى ، ثمّ ذكرت بعدها (أتباع الهوى) ، والطريف أنّ نتيجة هذا الأمر هو الإفراط وبالشكل المطلق الذي ذكرته الآية.

لماذا يكون عابد الهوى مصابا بالإفراط دائما؟

قد يكون السبب أنّ الطبيعة الإنسانية تتجه في الملذات المادية نحو الزيادة دوما ، فالذي كان يشعر بالنشوة بمقدار معين من المخدرات ، لا يكفيه نفس

٢٦٢

المقدار في اليوم التالي لبلوغ نفس درجة النشوة ، بل عليه زيادة الكمية بالتدريج ، والشخص الذي كان يكفيه في السابق قصر واحد مجهّز بجميع الإمكانات وبمساحه عدة آلاف بين الأمتار ، يصبح اليوم إحساسه بهذا القصر عاديا ، فينشد الزيادة. وهكذا في جميع مصاديق الهوى والشهوة حيث أنّها دائما تنشد الزيادة حتى تهلك الإنسان نفسه.

4 ـ ملابس الزينة في العالم الآخر

قد يطرح البعض هذا السؤال : لقد ذمّ الله تعالى الزينة والتزيّن في القرآن بالنسبة لهذه الحياة ، إلّا أنّه يعد المؤمنين بمثل هذه الأمور في ذلك العالم ، إذ تنص الآيات على الذهب وملابس الحرير والإستبرق والسرر المساند الجميلة؟

قبل الإجابة على هذا السؤال ينبغي أن نوضّح بأنّنا لا نوافق على توجيه هذه الكلمات على أنّها كناية عن مفاهيم معنوية ويفسّرون الآيات على هذا الأساس ، لقد تعلمنا من القرآن الكريم أنّ المعاد ذو جانبين : معاد روحاني ومعاد جسماني.

وعلى هذا الأساس ، فإنّ لذات ذلك العالم يجب أن تكون موجودة في المجالين ، واللذات الروحية ـ طبعا ـ لا يمكن مقايستها باللذات الجسمية. ولكن لا بدّ من الاعتراف بأنّنا لا نعرف من نعم ذلك العالم سوى أشباح بعيدة ، ونسمع كلاما يشير إليها.

لماذا؟ لأنّ نسبة ذلك العالم إلى عالمنا هذا كنسبة عالمنا إلى عالم الجنين في بطن الأم ، فإذا قدّر للأم أن تقيم رابطة بينها وبين الجنين ، فلا يسعها إلّا أن توضح للجنين بالإشارات جمال هذه الدنيا بشمسها الساطعة وقمرها المنير ، والعيون الفوّارة ، والبساتين والورود وما شابهها ، حيث لا توجد ألفاظ كافية لتبيان كل هذه المفاهيم للجنين في رحم الأم كي يفهمها ويستوعبها.

كذلك فإنّ النعم المادية والمعنوية لعالم الآخرة لا يمكن توضيحها لنا بشكل

٢٦٣

كامل ونحن محاصرون في أبعاد رحم هذه الدنيا.

ومع وضوح هذه المقدمة نجيب على السؤال ونقول : إن ذم الله عز اسمه لحياة الزينة والترف في هذه الدنيا يعود إلى أن محدودية هذا العالم تسبب أن تقترن الزينة والترف مع أنواع الظلم والانحراف الذي يكون بدوره سببا للغفلة والانقطاع عن الله.

إنّ الاختلافات التي تبرز خلال هذا الطريق ستكون سببا للحقد والحسد والعداوة والبغضاء ، وأخيرا إراقة الدماء والحروب.

أمّا في ذلك العالم اللامحدود من جميع الجهات ، فإنّ الحصول على هذه الزينة لا يسبّب مشكلة ولا يكون سببا للتمييز والحرمان ، ولا للحقد والنفرة ، ولا يبعد الإنسان عن الله في ذلك المحيط المملوء بالمعنويات حيث لا حسد ولا تنافس ولا كبر ولا غرور تؤدي ابتعاد خلق الله عن الله ، كما في زينة الحياة الدنيا.

فإذا كان الحال كذلك فلما ذا يحرم أهل الجنة من هذه المواهب والعطايا الإلهية التي هي لذّات جسمية إلى جانب كونها مواهب معنوية كبيرة!

5 ـ الاقتراب من الأثرياء بسبب ثروتهم :

الدرس الآخر الذي نتعلمه من الآيات الآنفة ، هو أنّه يجب علينا أن لا نمتنع عن إرشاد وتوجيه هذه المجموعة ـ أو تلك ـ بسبب كونها ثرية أو ذات حياة مرّفهة ، بل إنّ الشيء المذموم هو أن نذهب لهؤلاء لأجل ثروتهم ودنياهم المادية ، ونصبح مصداقا لقوله تعالى :( تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا ) أمّا إذا كان الهدف هو الهداية والإرشاد ، أو حتى الاستفادة من إمكانياتهم من أجل تنفيذ النشاطات الإيجابية والمهمّة اجتماعيا ، فانّ مثل هذا الهدف لا يعتبر غير مذموم وحسب ، بل هو واجب.

* * *

٢٦٤

الآيات

( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36) )

التّفسير

تجسيد لموقف المستكبرين من المستضعفين :

في الآيات السابقة رأينا كيف أنّ عبيد الدنيا كانوا يحاولون الابتعاد في كل شيء عن رجال الحق وأهله المستضعفين ، ثمّ عرّفتنا الآيات جزاءهم في الحياة الأخرى.

الآيات التي نبحثها تشير إلى حادثة اثنين من الأصدقاء أو الإخوة الذين

٢٦٥

يعتبر كل واحد منهم نموذجا لإحدى المجموعتين ، ويوضحان طريقة تفكير وقول وعمل هاتين المجموعتين.

في البداية تخاطب الآيات الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتقول :( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً ) .

البستان والمزرعة كان فيهما كل شيء : العنب والتمر والحنطة وباقي الحبوب ، لقد كانت مزرعة كاملة ومكفية من كل شيء :( كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً ) .

والأهم من ذلك هو توفّر الماء الذي يعتبر سر الحياة ، وأمرا مهمّا لا غنى للبستان والمزرعة عنه ، وقد كان الماء بقدر كاف :( وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً ) .

على هذا الأساس كانت لصاحب البستان كل أنواع الثمار :( وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ ) .

ولأنّ الدنيا قد استهوته فقد أصيب بالغرور لضعف شخصيته ورأي أن الإحساس العميق بالأفضلية والتعالي على الآخرين ، حيث التفت وهو بهذه الحالة إلى صاحبه :( فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً ) .

بناء على هذا فأنا أملك قوّة إنسانية كبيرة وعندي مال وثروة ، وأنا أملك ـ أيضا ـ نفوذا وموقعا اجتماعيا ، أمّا أنت (والخطاب لصاحبه) فما ذا تستطيع أن تقول ، وهل لديك ما تتكلم عنه؟!

لقد تضخّم هذا الإحساس ونما تدريجيا ـ كما هو حاله ـ ووصل صاحب البستان إلى حالة بدأ يظن معها أنّ هذه الثروة والمال والجاه والنفوذ إنّما هي أمور أبديّة ، فدخل بغرور إلى بستانه (في حين أنّه لا يعلم بأنّه يظلم نفسه) ونظر إلى أشجاره الخضراء التي كادت أغصانها أن تنحني من شدّة ثقل الثمر ، وسمع صوت الماء الذي يجري في النهر القريب من البستان والذي كان يسقي أشجاره ، وبغفلة قال : لا أظن أن يفنى هذا البستان ، وبلسان الآية وتصوير القرآن الكريم :( وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً ) .

٢٦٦

بل عمد إلى ما هو أكثر من هذا ، إذ بما أنّ الخلود في هذا العالم بتعارض مع البعث والمعاد ، لذا فقد فكّر في إنكار القيامة وقال :( وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً ) وهذا كلام يعكس وهم قائلة وتمنياته!

ثمّ أضاف! حتى لو فرضنا وجود القيامة فإنّي بموقعي ووجاهتي سأحصل عند ربّي ـ إذا ذهبت إليه ـ على مقام وموقع أفضل. لقد كان غارقا في أوهامه( وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً ) .

لقد أخذ صاحب البستان ضمن الحالة النفسية التي يعيشها والتي صورها القرآن الكريم ، يضيف إلى نفسه في كل فترة وهما بعد آخر من أمثال ما حكت عنه الآيات آنفا ، وعند هذا الحد انبرى له صديقه المؤمن وأجابه بكلمات يشرحهما لنا القرآن الكريم.

* * *

٢٦٧

الآيات

( قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (39) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41) )

التّفسير

جواب المؤمن :

هذه الآيات هي ردّ على ما نسجه من أوهام ذلك الغني المغرور العديم الإيمان ، نسمعها تجري على لسان صاحبه المؤمن.

لقد بدأ الكلام بعد أن ظلّ صامتا يستمع إلى كلام ذلك الرجل ذي الأفق الضيق والفكر المحدود ، حتى ينتهي من كلامه ، ثمّ قال له :( قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ

٢٦٨

يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً ) .

وهنا قد يثار هذا السؤال ، وهو : إنّ كلام ذلك الرجل المغرور المتكبر الذي مرّ ذكره في الآيات الآنفة ، لم يصرّح فيه بإنكار الحق جلّ وعلا ، في حين أنّ جواب الإنسان المؤمن ركزّ فيه أوّلا على إنكاره للخالق!؟ لذلك فإنّه وجّه نظره أوّلا إلى قضية خلق الإنسان التي هي من أبرز أدلة التوحيد والتوجّه نحو الخالق العالم القادر. الله الذي خلق الإنسان من تراب ، حيث امتصت جذور الأشجار المواد الغذائية الموجودة في الأرض ، والأشجار بدورها أصبحت طعاما للحيوانات ، والإنسان استفاد من هذا النبات ولحم الحيوان ، وانعقدت نطفته من هذه المواد ، ثمّ سلكت النطفة طريق التكامل في رحم الأم حتى تحوّلت إلى إنسان كامل ، الإنسان الذي هو أفضل من جميع موجودات الأرض ، فهو يفكّر ويصمّم ويسخّر كلّ شيء لأجله.

نعم ، إنّ هذا التراب عديم الأهمية يتحوّل إلى هذا الموجود العجيب ، مع هذه الأجهزة المعقدة الموجودة في جسم الإنسان وروحه ، وهذا من الدلائل العظيمة على التوحيد.

وفي الجواب على السؤال المثار ذكر المفسّرون تفاسير معتدّدة نجملها فيما يلي :

1 ـ قالت مجموعة منهم : بما أنّ هذا الرجل المغرور أنكر بصراحة المعاد والبعث أو شكك فيه ، فإنّه يلزم من ذلك إنكار الخالق ، لأنّ منكر المعاد الجسماني ينكر في الواقع قدرة الله ، ولا يصدّق بأنّ هذا التراب المتلاشي سوف تعود له الحياة مرّة أخرى ، لذا فإنّ الرجل المؤمن مع ذكره للخلق الأوّل من تراب ، ثمّ من نطفة ، ثمّ بإشارته للمراحل الأخرى ـ أراد أن يلفت نظره إلى القدرة غير المتناهية للخالق حتى يعلم بأنّ قضية المعاد يمكن مشاهدتها هنا وتمثّلها بأعيننا في واقع هذه الأرض.

٢٦٩

2 ـ وقال آخرون : إنّ شركه وكفره كانا بسبب ما رآه لنفسه من استقلال في المالكية وما تصوره من دوام وأبدية هذه الملكية.

3 ـ الاحتمال الثّالث أنّه لا يبعد أن يكون الرجل قد أنكر الخالق في بعض كلامه ولم يذكر القرآن هذا المقطع من كلامه. وقد يتوضح الأمر بقرينة جواب الرجل المؤمن ، لذا نرى في الآية التي بعدها أنّ الرجل المؤمن قال لصاحب البستان ما مضمونه : إن كنت أنكرت وجود خالقك وسلكت طريق الشرك ، إلّا أنّني لا أفعل ذلك أبدا.

على أي حال ، ثمّة علاقة واضحة تربط بين الاحتمالات الثلاثة ، ويمكن أن يكون كلام الرجل المؤمن الموحّد إشارة الى هذه الاحتمالات جميعا.

ثمّ عمد الرجل الموحّد المؤمن إلى تحطيم كفر وغرور ذلك الرجل (صاحب البستان) فقال :( لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي ) (1) . وإنّي أفتخر بهذا الإعتقاد وأتباهى به ، إنّك تفتخر بأنّك تملك بستانا ومزرعة وفواكه وماءا كثيرا ؛ إلّا أنّني أفتخر بأنّ الله ربّي ، إنّه خالقي ورازقي؛إنّك تتباهى بدنياك وأنا أفتخر بعقيدتي وإيماني وتوحيدي :( وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً ) .

وبعد أن أشار إلى قضية التوحيد والشرك اللذين يعتبران من أهم المسائل المصيرية ، جدّد لومه لصاحبه قائلا :( وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ ) (2) .

فلما ذا لا تعتبر كل هذه النعم من الخالق جلّ وعلا ، ولماذا لم تشكره عليها. ولماذا لم تقل :( لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ ) .

فإذا كنت قد هيّأت الأرض وبذرت البذور وزرعت الغرس وربيت الأشجار ، وفعلت كلّ شيء في وقته المناسب حتى وصل الأمر إلى ما وصل إليه ؛

__________________

(1) كلمة (لكنّا) في الأصل كانت (لكن إنّ) ثمّ دمجت وأصبحت هكذا.

(2) جمله( ما شاءَ اللهُ ) لها محذوف إذ تكون مع التقدير : ما شاء الله كان ، أو : ما شاء الله ، فإنّ هذا هو الشيء الذي يريده الله.

٢٧٠

فإنّ كل هذه الأمور هي من قدرة الخالق جلّ وعلا ، وقد وضع سبحانه وتعالى الوسائل والإمكانات تحت تصرفك ، حيث أنّك لا تملك شيئا من عندك ، وبدونه تكون لا شيء!

ثمّ يقول له : ليس من المهم أن أكون أقل منك مالا وولدا :( إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً ) .

( فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ ) .

وليس فقط أن يعطيني أفضل ممّا عندك ، بل ويرسل صاعقة من السماء على بستانك، فتصبح الأرض الخضراء أرض محروقة جرداء :( وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً ) .

أو أنّه سبحانه وتعالى يعطي أوامره إلى الأرض كي تمنعك الماء :( أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً ) .

«حسبان» على وزن «لقمان» وهي في الأصل مأخوذة من كلمة «حساب» ، ثمّ وردت بعد ذلك بمعنى السهام التي تحسب عند رميها ، وتأتي أيضا بمعنى الجزاء المرتبط بحساب الأشخاص ، وهذا هو ما تشير إليه الآية أعلاه.

«صعيد» تعني القشرة التي فوق الأرض. وهي في الأصل مأخوذة من كلمة صعود.

«زلق» بمعنى الأرض الملساء بدون أي نباتات بحيث أنّ قدم الإنسان تنزلق عليها (الطريف ما يقوم به الإنسان اليوم حيث تتمّ عملية تثبيت الأرض والرمال المتحركة ، ومنع القرى من الاندثار تحت هذه الرمال عند هبوب العواصف الرملية ، وذلك من خلال زراعتها بالنباتات والأشجار ، أو ـ كما يصطلح عليه ـ إخراجها من حال الزلق والانزلاق).

في الواقع ، إنّ الرجل المؤمن والموحّد حذّر صديقه المغرور أن لا يطمأن لهذه النعم ، لأنّها جميعا في طريقها إلى الزوال وهي غير قابلة للاعتماد.

٢٧١

إنّه أراد أن يقول لصاحبه : لقد رأيت بعينيك ـ أو على الأقل سمعت بأذنك ـ كيف أنّ الصواعق السماوية جعلت من البساتين والبيوت والمزروعات ـ وخلال لحظة واحدة ـ تلّا من التراب والدمار وأصبحت أرضهم يابسة عديمة الماء والكلأ.

وأيضا سمعت أو رأيت بقيام هزة أرضية تطمس الأنهار وتجفّف العيون ، بحيث تكون غير قابلة للإصلاح والترميم.

وبمعرفتك لكل هذ الأمور فلم هذا الغرور؟!

أنت الذي شاهدت أو سمعت كل هذا، فلم هذا الانشداد للأرض والهوى؟

ثمّ لماذا تقول : لا أعتقد أن تزول هذه النعم وأنّها باقية وخالدة ؛ فلما ذا هذا الجهل والبلاهة!!!؟

* * *

٢٧٢

الآيات

( وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (43) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44) )

التّفسير

العاقبة السوداء :

أخيرا انتهى الحوار بين الرجلين دون أن يؤثر الشخص الموحّد المؤمن في أعماق الغني المغرور ، الذين رجع إلى بيته وهو يعيش نفس الحالة الروحية والفكرية ، وغافل أنّ الأوامر الإلهية قد صدرت بإبادة بساتينه ومزروعاته الخضراء ، وأنّه وجب أن ينال جزاء غروره وشركه في هذه الدنيا ، لتكون عاقبته عبرة للآخرين.

ويحتمل أنّ العذاب الإلهي قد نزل في تلك اللحظة من الليل عند ما خيّم الظلام ، على شكل صاعقة مميتة أو عاصفة هو جاء مخيفة ، أو على شكل زلزال مخرّب ومدمّر. وأيّا كان فقد دمّرت هذه البساتين الجميلة والأشجار العالية

٢٧٣

والزرع المثمر ، حيث أحاط العذاب الإلهي بتلك المحصولات من كل جانب :( وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ ) .

«أحيط» مشتقّة من «إحاطة» وهي في هذه الموارد تأتي بمعنى (العذاب الشامل) الذي تكون نتيجته الإبادة الكاملة.

وعند الصباح جاء صاحب البستان وتدور في رأسه الأحلام العديدة ليتفقد ويستفيد من محصولات البستان ، ولكنّه قبل أن يقترب منه واجهه منظر مدهش وموحش ، بحيث أنّ فمه بقي مفتوحا من شدة التعجّب ، وعيناه توقفتا عن الحركة والاستدارة.

لم يكن يعلم بأنّ هذا المنظر يشاهده في النوم أم في اليقظة! الأشجار جميعها ساقطة على التراب ، النباتات مدمّرة ، وليس ثمّة أي أثر للحياة هناك!

كان الأمر بشكل وكأنّه لم يكن هناك بستان ولا أراضي مزروعة ، كانت أصوات (البوم) ـ فقط ـ تدوي في هذه الخرائب ، قلبه بدأ ينبض بقوّة ، بهت لونه ، يبس الماء في فمه ، وتحطّم الكبرياء والغرور اللذان كانا يثقلان نفسه وعقله.

كأنّه صحا من نوم عميق :( فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها ) .

وفي هذه اللحظة ندم على أقواله وأفكاره الباطلة :( وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً ) .

والأكثر حزنا وأسفا بالنسبة له هو ما أصبح عليه من الوحدة في مقابل كل هذه المصائب والابتلاءات :( وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ ) .

ولأنّه فقد ما كان يملكه من رأس المال ولم يبقي لديه شيء آخر ، فإنّ مصيره :( وَما كانَ مُنْتَصِراً ) .

لقد انهارت جميع آماله وظنونه الممزوجة بالغرور ، لقد أدت الحادثة إلى انتهاء كل شيء ، فهو من جانب كان يقول : إنّي لا أصدق بأنّ هذه الثروة العظيمة

٢٧٤

من الممكن أن تفنى ، إلّا أنّني رأيت فناءها بعيني!

ومن جانب آخر فقد كان يتعامل مع رفيقه المؤمن بكبر ويقول : إنّني أقوى منك وأكثر أنصارا ومالا ، ولكنّه بعد هذه الحادثة اكتشف أن لا أحد ينصره!

ومن جانب ثالث فإنّه كان يعتمد على قوته وقدرته الذاتية ، ويعتقد بأنّ غير قدرته محدودة ، لكنّه بعد هذه الحادثة ، وبعد أن لم يكن بمقدوره الحصول على شيء ، انتبه إلى خطئه الكبير ، لأنّه لم يعد يتملك شيئا يعوضه جانبا من تلك الخسارة الكبرى.

وعادة ، فإنّ الأصدقاء الذين يلتفون حول الإنسان لأجل المال والثروة مثلهم كمثل الذباب حول الحلوى ، وقد يفكّر الإنسان أحيانا بالاعتماد عليهم في الأيّام الصعبة ، ولكن عند ما يصاب فيما يملك يتفرق هؤلاء الخلّان من حوله ، لأنّ صداقتهم له لم تكن لرابط معنوي ، بل كانت لأسباب مادية ، فإذا زالت هذه الأسباب انتفت الرفقة!

وهكذا انتهي كل شيء ولا ينفع الندم ، لأنّ مثل هذه اليقظة الإجبارية التي تحدث عند نزول الابتلاءات العظيمة يمكن ملاحظتها حتى عند أمثال فرعون ونمرود ، وهي بلا قيمة ، لهذا فإنّها لا تؤثّر على حال من ينتبه.

صحيح أنّه ذكر عبارة( لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً ) وهي نفس الجملة التي كان قد قالها له صديقه المؤمن ، إلّا أنّ المؤمن قالها في حالة السلامة وعدم الابتلاء ، بينما ردّدها صاحب البستان في وقت الضيق والبلاء.

( هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِ ) نعم ، لقد اتضح أنّ جميع النعم منه تعالى ، وأنّ كل ما يريده تعالى يكون طوع إرادته ، وأنّه بدون الاعتماد على لطفه لا يمكن إنجاز عمل :( هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً ) .

إذن ، لو أراد الإنسان أن يحب أحدا ويعتمد على شيء ما ، أو يأمل بهديه من

٢٧٥

شخص ما ، فمن الأفضل أن يكون الله سبحانه محط أنظاره ، وموقع آماله ، ومن الأفضل أن يتعلق بلطفه تعالى وإحسانه.

* * *

بحثان

1 ـ غرور الثروة

في هذه القصّة نشاهد تجسيدا حيا لما نطلق عليه اسم غرور الثروة ، وقد عرفنا أنّ هذا الغرور ينتهي أخيرا إلى الشرك والكفر. فعند ما يصل الأفراد الذين يعيشون حياتهم بلا غاية وهدف إيماني إلى منزلة معينة من القدرة المالية أو الوجاهة الاجتماعية ، فإنّهم في الغالب يصابون بالغرور. وفي البداية يسعون إلى التفاخر بإمكاناتهم على الآخرين ويعتبرونها وسيلة تفوّق ، ويرون من التفاف أصحاب المصالح حولهم دليلا على محبوبيتهم ، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك بقوله :( أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً ) .

ويتبدّل حبّ هؤلاء للدنيا تدريجيا بفكرة الخلود فيها :( ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً ) .

إنّ ظنّهم بخلود ثرواتهم المادية يجعلهم ينكرون المعاد للتضاد الواضح بين ما هم فيه وبين مبدأ البعث والمعاد ، فيكون لسان حالهم :( وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً ) .

والأنكى من ذلك هو أنّهم يعتبرون مقامهم ووجاهتهم في هذه الدنيا دليلا على قرب مقامهم من محضر القدس الإلهي ، فيقولون :( وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً ) .

هذه المراحل الأربع نجدها واضحة في حياة أصحاب القدرة من عبيد الدنيا ، مع فوارق نسبية فيما بينهم ، فيبدأ مسيرهم الانحرافي من الاغترار بما

٢٧٦