فلسفة الصلاة

فلسفة الصلاة0%

فلسفة الصلاة مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 257

فلسفة الصلاة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: علي الكوراني
تصنيف: الصفحات: 257
المشاهدات: 61864
تحميل: 8288

توضيحات:

فلسفة الصلاة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 257 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 61864 / تحميل: 8288
الحجم الحجم الحجم
فلسفة الصلاة

فلسفة الصلاة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ويؤكّد الإسلام في الامتزاج والترابط والتفاعل المستمرّ القائم في هذا الزوج الموحّد، الذي يشقى معاً ويسعد معاً.

ويؤكّدها في شجبه النظرة المنحطّة إلى الجسد، والنظرة المغالية في الروح، ويستبدلها بنظرة عالية للإنسان، بروحه وجسده، ومشفقة عليه في آنٍ.

ويؤكّدها في الخط السلوكي العام، إذ يرفض رهبانيّة الروح، كما يرفض مادّية الجسد.

ثمّ ينسجم مع هذه النظرة الموضوعيّة في تشريعاته كلّها، فتجيء تشريعات: لا للروح السارحة، ولا للجسد القابع، وإنّما للمزيج الإلهي الموحّد الإنسان.

وينسجم مع هذه النظرة في عمليّته التربويّة اليوميّة للصلاة، فيجعلها مزيجاً من التطهّر بالماء، والوقوف والركوع، والسجود والجلوس، والقراءة والنيّة، والتأمّل والخشوع... مزيجاً تربويّاً مركّباً من روح وجسد، لهذا المزيج الموحّد في روح وجسد.

إنّ إدراك الضرورة في أفعال الصلاة البدنيّة ليس على جانب من الصعوبة، فما على الذين يرتابون في هذه الضرورة إلاّ أن يلاحظوا مرّة واحدة أثر هذه الأفعال في أنفسهم، ثمّ ليحكموا عن حسّ وتجربة...

سيجدون أنّ نصيب الروح وتأثّرها الملموس بالأفعال البدنيّة للصلاة، من تطهّر، ووقوف، وركوع، وسجود، وجلوس بين يدي الله، لا يقلّ عن تأثّر البدن... وكذلك نصيب الجسد، وتأثّره بالخشوع، والتفكّر، والمثول في حضرة الله تعالى لا يقلّ عن تأثّر الروح ونصيبها...

اطمئن بأنّه لا توجد للإنسان حاجة جسديّة مشروعة، إلاّ وهي تنعكس تأثيراً نافعاً على روحه، ولا حاجة روحيّة مشروعة، إلاّ وهي تنعكس تأثيراً فسيولوجيّاً على جسده، وإن لم تصل إلى ذلك علوم فسلجة الإنسان؛ وما ذلك إلاّ لأنّ الامتزاج والتفاعل الحقيقي العميق بين الروح والجسد، يجعل حاجاتهما واحدة وتأثّرهما متبادلاً.

* * *

١٤١

والأمر الآخر الذي يتجلّى في شكل الصلاة هو: تذليل الإنسان وتحريره من كبريائه، ولا بدّ لنا أن ننظر إلى مسألة الكبرياء البشري نظرة موضوعيّة هادئة؛ لأنّها تمسّ كبريائنا.

في أحدنا - هذا المتر المكعب من التراب أو دون ذلك - قوى هائلة، وعمدتها القوى النفسيّة، في مقابل القوى الجسديّة المحدودة.

وفينا من الطموح ما لا يقلّ عن قوانا واستعدادنا، بل يفوقه.

وبنفس الوقت فينا من نقاط الضعف ما يمكن أن يحطّم قوانا الجسديّة، فيجعلنا في لحظة جسداً خائراً، أو يضعف بقوانا العقليّة فيجعلنا في لحظة موجوداً تافهاً.

هكذا بنى الله وجودنا الإنساني، وأسلمنا قياده، وهذه هي النظرة الموضوعيّة التي يجب أن ننظرها إلى أنفسنا...

لكن الذي يحدث كثيراً هو الانحراف عن هذه النظرة، فنصاب تارةً بالعُجب، وتارة بالكبر.

وقد ذكر صاحب كتاب جامع السعادات (رحمه الله)، أنّ الكبر ينتج عن العجب، قال:

(... إذ العجب مجرّد استعظام النفس، من دون اعتبار رؤيتها فوق الغير... فالعجب هو: سبب الكِبر، والكٍبر من نتائجه) ج1 ص300.

ولكنّ الذي يظهر من نصوص السنّة الشريفة، أنّ الكِبر والعُجب حالتان مختلفتان، وأنّ العُجب هو: استعظام الإنسان لعمله، وأنّ الكِبر هو: استعظام الإنسان لنفسه ذاتها، بقطع النظر عن العمل (راجع الكافي ج2 ص309 - 314).

وللكِبر عوامل كثيرة، يجمعها الشعور بالنقص، ففي الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (ما من أحدٍ يَتِيه، إلاّ من ذلّة يجدها في نفسه) الكافي ج2 ص312.

كما إنّه على درجات كثيرة، يجمعها أنّها: نظرة خاطئة ينظرها الإنسان إلى نفسه، فيستعظم قواه ومطامحه، ناسياً مصدر هذه القوى، وناسياً نقاط ضعفه...

١٤٢

وتبعاً لمدى الخطأ في هذه النظرة، تجيء النتائج التي وكلّها رهيبة نعوذ بالله...

النتائج هي : الحَجْب عن الرؤية الموضوعيّة، إمّا حجباً جزئيّاً، وإمّا حجباً كليّاً، حتى ليبلغ حالة الطبْع على القلب، والانكفاء في النفس، قال الله عزّ وجلّ: ( كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ) 35 - غافر.

والعمَى عن الرؤية، خطورةٌ على الإنسان ما فوقها خطورة... فما هو العلاج من هذا البلاء...؟

يرى الإسلام أنّ العلاج يتكّون من ثلاث مواد:

*الأُولى

الظروف التكوينيّة التي خلق الله الإنسان في وسطها، والتي من شأنها أن تبدّل شعور الكبرياء المقيت في نفس الإنسان، بشعور الاعتزاز الخاشع بين يدي الله، والاستعانة به على الضعف، من شأنها أن تُطأطئ رأس الإنسان، وتجعله يقبل الحقيقة الموضوعيّة عن نفسه، وطريقة تكامله.

عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال: (لولا ثلاثة، ما طأطأ رأس ابن آدم شيء، المرض، والفقر، والموت، وجميعهنّ فيه، وإنّه معهنّ لوثّاب).

*والمادّة الثانية

تركيز المفاهيم التي تشكّل النظرة الموضوعيّة لأنفسنا، كمفهوم صدورنا عن الله، ومملوكيّتنا له، واحتياجنا الدائم إليه، ومفهوم ارتباط حريّتنا بمدى تجسيد عبوديّتنا له عزّ وجلّ، ومفهوم التواضع المقابل لشعور الكبرياء الآنف الذكر.

*والمادّة الثالثة

المواقف التربويّة التي تمرِّسُ الإنسان عمليّاً على التحرّر من الكبرياء، وتضعه في موقعه السليم، وطريقه التكاملي الصحيح...

وأُولى هذه المواقف: الصلاة اليوميّة، التي يَفرض علينا شكلها البليغ، أن نقف بين يدي الواهب عزّ وجلّ، وقفة الجنود المؤدّبين أمام القائد، ثمّ ننحني إعظاماً، ثمّ نفترش الأرض بجباهنا، مؤدّين أقصى درجة من الخضوع، والاعتراف بالجميل والاحتياج، ثمّ نكرّر هذه التعبيرات إمعاناً في التحرّر من ذاتيّتنا، والانتصار على كبريائنا، وتأكيداً لتعلّقنا المطلق بالله عزّ وجلّ.

١٤٣

علينا أن نستبعد نظرة الكبر العمياء... الخضوع فينا ضرورة يميلها تكويننا واحتياجاتنا وظروفنا.

وليس منّا أحد فوق الظروف والاحتياجات... إنّنا مخلوقون ولسنا آلهة... وعلينا أن نختار بين الخضوع العزيز لمصدر وجودنا وحاجاتنا عزّ وجلّ، أو الخضوع الذليل لمن عداه... كما يفعل الذين يرفضون الخضوع لله، فيخضعون لأهوائهم ولبشرٍ مثلهم، ولشيطانٍ يغويهم، ويؤدّون لهم أكثر من ركوع وسجود.

يسعى أحدهم وراء الحريّة فيقع في عبوديّة مقيتة!، يرفض الانحناء أمام الله صاحب كلّ شيء!، ثمّ ينحني على أعتاب أيّ شيءٍ!، يرفض الخضوع المنفتح النافع الذي يهبه الحريّة والاعتزاز!، فيقع في الخضوع الباطل الضارّ الذي يهبه عمىً في الرؤية وانتكاسة في القلب!.

أفهدا الشطَطْ لا يحتاج إلى علاج...؟ إلى وقوف يعبّر عن مسؤوليّة الطفل بين يدي المربّي، وإلى انحناء ووضع للجبين على التراب، نذوق فيه روعة التذلّل لله، وحلاوة التحرّر من مهانة الأشياء...

ما دمنا مخلوقين مملوكين محتاجين، وما دام عِلْمنا بحاضرنا ومستقبلنا محدوداً، وما دمنا لا نملك لأنفسنا من الله شيئاً، لا ضرّاً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشورا، ما دام أمرنا بكلّه من الله وبالله وإلى الله... فلمَ لا نقف بين يديه وننحني إعظاماً، ونعفّر الجبين إجلالاً؟ لمَ لا نستعينه على ضعفنا، ونشكره على قوانا، ونعتزّ بعلاقتنا به وخضوعنا له...؟ وهل يحرمنا من ذلك إلاّ نظرة الكبرياء العمياء؟

ما أروع الانتصار على الكبرياء، وما أعذب الخضوع أمام الإله الأحد سبحانه، والانتظام بين يديه، والانحناء أمام عظمته، ثمّ يبلغ العبد ذروة القُرب والخشوع، في سجود مفعمٍ غامر...

في الحديث الشريف: (...أقرب ما يكون العبد إلى ربّه وهو ساجد...) الوسائل ج4 ص980.

١٤٤

تِلاواتُ الصَّلاة

القسم الثاني الذي يؤلّف الصلاة مع الأوضاع: التلاوات، التي ترافقك من بدء الصلاة إلى ختامها، في الوقوف، والركوع والسجود، والجلوس، وحتى في حالة النهوض إلى ركعة تالية.

وتنقسم تلاوات الصلاة إلى قسمين:

* تلاوات معيّنة شخصيّة

*وتلاوات مخيّرة نوعيّة

فالتلاوات الشخصيّة التي لا يجوز تبدليها بغيرها هي:

التكبير في افتتاح الصلاة، والفاتحة في حالة الوقوف للركعة الأُولى والثانية، والتشهد بعد كلّ ركعتين وفي ختام كلّ صلاة.

والتلاوات المخيرة، منها: ما تختار فيه أحد نوعين وهو: التلاوة في حالة الوقوف للركعة الثالثة والرابعة، المخيّرة بين فاتحة القرآن الكريم والتسبيحة الرباعيّة - سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاّ الله، والله أكبر -

والتلاوة في ختام الصلاة - التسليم - المخيّرة بين صيغة: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وصيغة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ومنها: ما تختار فيه أحد أنواعٍ عديدة، كتلاوة الركعتين الأوّليّتين بعد الفاتحة، المخيّرة بين سور القرآن الكريم.

وتلاوة الركوع والسجود المخيّرة بين أنواع الذكر لله عزّ وجلّ، من التكبير، والتحميد، والتهليل وما شابه.

* * *

وأوّل ما يُلفت أمر هذه التلاوات، التوزيع المتقن الحكيم، بين المخيّر منها والمعيّن.

١٤٥

تقفُ إلى الصلاة، فتفتتحها بصيغة رسميّة: (الله أكبر) ، ثمّ تقرأ تلاوة محدّدة، هي فاتحة القرآن، ثمّ يُفسح لك مجال الاختيار من مئةٍ وسبعِ سور من كتاب الله... ثمّ تنحني للركوع، فيقال لك: أذكر الله، وعبّر عن شعورك نحوه عزّ وجلّ بما شئت، بالتحميد، والتهليل، والتكبير، والتسبيح... ثمّ تهوي إلى السجود، فتُعطى نفس الحريّة، وتجلس للشهادة بالوحدانيّة والرسالة لتؤدّي صيغة الشهادة المحدّدة.

وهكذا تَجمع لك تلاوات الصلاة بين متانة الالتزام، وحيويّة الحريّة، انسجاماً مع خط الإسلام التربوي العام، الذي يريد أن يُخرج منك للحياة شخصيّةً ملتزمةً، حرّةً، منفتحةً، متفاعلةً في التزامها، وحريّتها، وما أيسر أن تلاحظ ذلك في صلاتك، وتعيشه بالتفصيل.

* * *

وممّا يُلفت في أمر التلاوات هذه، البلاغة الفائقة العمق في المحتوى، واليُسر، والمتانة في الصياغة...

ولا أحسبُني أستطيع الإحاطة بأبعاد هذه التلاوات، وجمالها التعبيري، إنّها معاني الحياة والوجود، وحقائق الشعور، صُبّت في عبارات قويّة نديّة، تُصلح لأن تنطلق معها، وتروي فكرك وعواطفك، لا لأن تحيط بها وتُخضعها للمقاسات... ثمّ هي كثيرة نسبيّاً، لا يناسب هذه الدراسة أن تستطرد في تفسيرها واستلهامها، لذا أختار منها نماذج وافية من المعين، والمخيّر والمستحبّ، وأسجلَ عنها ما يهدي إليه الله عزّ وجلّ.

*التكبير

مرّ معك في بحث الأذان شيءٌ عن صيغة ( الله أكبر ) التي يبدأ بها الأذان، عن صيغتها المطلقة، وصلاحيتها الشاملة، وجرسها الحاسم... وها أنت تجدها هنا الصيغة الرسميّة لافتتاح الصلاة؛ إذ تسمّى لذلك (تكبيرة الإحرام)، بمعنى أنّك بأدائها تدخل في حَرم الصلاة.

وأوّل ما يواجهك هنا في هذه العبارة ملاءمتها البالغة لافتتاح الصلاة حتى

١٤٦

كأنّها صِيغت خصّيصاً لهذا الغرض، ووفّت به أيّما وفاء.

فأنت في بدء الصلاة بحاجة لأن تتّعرف وتحسّ بمن تقف بين يديه، وليس شيءٌ يفي بهذا التعريف كعبارة: الله أكبر .

وفي بدء هذه الوقفة، أنت بحاجة لأن تنفض عنك المشاغل والهواجس، والعلاقات بالحطام، وليس شيءٌ يفي بهذا التطهير الفكري والشعوري كعبارة: الله أكبر .

وفي بدء الوقوف بين يدي الله، يُطلق ذهنك عمليّاته التخيّليّة، محاولاً أن يصور لك الله الذي تقف بين يديه... وما أن توافيك - الله أكبر - حتى يتناثر الخيال، وتتساقط الأوهام، ويتجلّى لك إيمانك بالله عزّ وجلّ، وجوداً لا يحويه الذهن البشري الذي صُنع خصّيصاً ليعمل داخل الزمان والمكان، والزمين والمكين.

وفي بدء الوقوف للصلاة، أنت بحاجة إلى دفعة من الجدّ والشعور بالمسؤوليّة، إلى دفعة من الحنان والرحمة، وإلى دفعة من التعقّل والحكمة، والشعور بالجلال... وكلّ ذلك وغيره تفيضه عليك عبارة: الله أكبر ... خاصّة إذا أدّيت الاستحباب الشرعي، فكبّرت ستّ تكبيرات أوّلاً، وجعلت تكبيرة الإحرام السابعة.

ثمّ لا يقف دور التكبير في الصلاة عند هذا الحدّ... إذ تجده يعاودك كلّما شرعت في جزء من الصلاة، فتكبير للركوع، وتكبيرتان للسجدتين، وتكبير للتشهد... وهكذا، حتى ليكون في الصلوات الخَمس اليوميّة، خَمس وتسعون تكبيرة، منها خَمس فرض، وتسعون مستحبّة - الوسائل ج4 ص719.

وفي هذا التكرار تجد عبارة - الله أكبر - تؤدّي أدواراً جديدة:

فهي تقوم بإرجاعك إلى - الله الأكبر - كلمّا سرحْت عن الصلاة، فكلمّا شدّتك علائق الدنيا وهواجسها، انتزعتك منها الله أكبر، وعادت بك إلى موقعك أمام الله، وعادت بمستواك إلى مستوى التربّي على يديه عزّ وجلّ.

وهي تقوم بتهيئتك لخضوع الركوع والسجود، فتقدّم لك قبل هذا الخضوع

١٤٧

منطقيّته وخشوعه.

وهي تقول لك بعد الركوع والسجود: لا تظن أنّك بانحنائك أمام عظمة الله، وبتعفيرك الجبين بين يديه، قد وفّيت حقّه، وأدّيت شكر نعمائه، كلا... فالله أكبر من أن يفي خضوعك - مهما كانت قيمته - بشيءٍ من عطائه وحنانه...

أو ليس هذا الخضوع النافع لك، الفاتح لبصيرتك، الواصلِ إيّاك بمصدر العطاء نعمة من نعمه عزّ وجلّ، فكيف تكون النعمة شكراً ووفاء...؟

وتقوم الله أكبر، بتكرارها في غضون الصلاة، بالتأكيد باستمرار على حقيقة أن الوجود الإلهي، لا يصحّ أن يقاس بشيء من وجود الطبيعة، وتنفي عن ذهنك ما ربّما يتوارد من التوّهم والتشبيه، والمقاسات الخاطئة، التي تتخيّل انطباقها على الله عزّ وجلّ.

أرأيت هذه الصلاحيّة الواسعة لهذه الصيغة العميقة الميسّرة...؟ فإذا أضفت إليها صلاحيتها لبدء الدعوة إلى الصلاة في الأذان، وصلاحيتها للتأمين من المخاوف، كلّ المخاوف، وصلاحيتها في الهتاف في مظاهرة، وفي معركة، وفي كربٍ عظيم، وصلاحيتها تعبيراً مريحاً للانبهار من جمال أو جلال، وصلاحيتها تسبيحاً خفيّاً يملئ العقل ويفيض الدموع، وصلاحيتها رايةً وشعاراً لمسيرة الإسلام في هذه الأرض...

وتفحّصت الأوجه العديدة في كلّ واحد من هذه المجالات... وأضفت إلى ذلك، متانة هذه العبارة ويسرها، ونداوتها وإيقاعها في أعماق الضمير في كلّ هذه المجالات... ألا ترى حينئذٍ أنّ عبارة (الله أكبر) في صيغتها ومحتواها، درّة مضيئة من كلّ صوب، أنّى نظرت تَقُلْ هذا وجهها، وهي بكلّها وجه.

أليست كما يقول الحديث الشريف عطاءً من الله لهذه الأمّة...

عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال: (لكلّ شيءٍ وجه، ووجه دينكم الصّلاة، فلا يَشِيننّ أحدكم وجه دينه، ولكلّ شيءٍ أنف، وأنف الصلاة التكبير) الوسائل ج4 ص715.

١٤٨

وعن علقمة بن وائل عن أبيه قال: (صلّيت خلف النبي صلّى الله عليه وآله، فكبّر حين افتتح الصلاة، ورفع يديه، وحين أراد الركوع، وبعد الركوع) الوسائل ج4 ص727.

وعن منصور بن حازم قال: (رأيت أبا عبد الله (عليه السلام)، افتتح الصلاة، فرفع يديه حِيال وجهه، واستقبل القبلة ببطن كفّيه) الوسائل ج4 ص726.

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (مرّ النبي صلّى الله عليه وآله برجل يصلّي، وقد رفع يديه فوق رأسه فقال: ما لي أرى قوماً يرفعون أيديهم فوق رؤوسهم، كأنّها آذان خيل شمس) الوسائل ج4 ص729.

وعن الإمام الرضا (عليه السلام)، وقد سُئل عن استحباب رفع اليدين في التكبير قال: (إنّما ترفع اليدان بالتكبير؛ لأنّ رفع اليدين ضربٌ من الابتهال، والتبتّل، والتضرّع.... ولأنّ في رفع اليدين إحضار النيّة، وإقبال القلب...) الوسائل ج4 ص727.

سورة الفاتحة

تتركّز السورة على ثلاثة أمور:

*الأوّل

تقرير أن الشكر والامتنان على كلّ ما في الوجود من عطاء، إنّما هو لصاحب هذا العطاء عزّ وجلّ، ثمّ تنطلق السورة في تسجيل ثلاثة أوصاف لصاحب الحمد تبارك وتعالى: صفة ربّ العالمين، وصفة الرحمن الرحيم، وصفة مالك يوم الدين، وهذه الصفات هي أعمق وأشمل الأُسس التي أوضحها الإسلام عن الخالق عزّ وجلّ.

فصفة ربّ العالمين ، تعني: تربية الله وإدارته لجميع العوالم والكائنات المشهودة لأعيننا والغائبة.

وصفة الرحمن الرحيم ، تكشف عن: طبيعة العلاقة بين الخالق الربّ، وبين كائنات العالمين، فهي علاقة رحمةٍ وعطاءٍ وتفضّل، علاقة مرحوم برحيم، وموهوب بواهب.

١٤٩

وصفة مالك يوم الدين ، تقرّر: الديْنونة والمسؤوليّة على الكائنات، أن تسير في طريق تكاملها الذي أراده لها الخالق تبارك وتعالى، وأنّ هذا السرّ سيعطي نتائجه لكلّ كائن في مرحلة قادمة من الوجود تسمّى: يوم الدين، ويوم لقاء المخلوقات بالله عزّ وجلّ.

*والأمر الثاني

الذي تتركّز عليه السورة: حصر العبادة والاستعانة بالله عزّ وجلّ، أمّا العبادة فهي: الإطاعة، وأمّا الاستعانة فهي: استمداد الطاقة الخيّرة في كلّ ما يحتاج إلى طاقة.

*والأمر الثالث

المنهج والطريق العملي في الحياة... فتقرّر السورة أنّ للبشريّة طُرق عيشٍ ثلاثاً لا رابعة لها: الطريق القويم، طريق الإيمان بالله ورسالته، وطريقان معوجان: أحدهما: طريق المعاندين الذين غضب الله عليهم، وثانيهما: طريق التائهين الضّالين عن جادّة الحقّ.

وها أنت ترى أنّّ الحقائق التي تتضمّنها هذه الأمور الثلاثة، هي القواعد الأساسيّة للبناء الإسلامي، جُمعت في هذه اللوحة البديعة.

* * *

إنّ الأسلوب الذي تقدّم به السورة هذه الحقائق الكبيرة ليس أسلوب العرض والتقرّير المجرّد، ولكنّه أسلوب القرآن العملي الحيوي، الذي يجعل القارئ يشارك بعقله ووجدانه في تملّي هذه الحقائق، والتعبير عنها بين يدي الله عزّ وجلّ...

إنّ سورة الفاتحة تأخذ بيدك في رحلة حافلة، دون أن تخطوَ بك قدماً، أو تنقلك في سيارة، بل تفتح عينيك على معاني الوجود في نفسك وما حولك.

وتبدأ معك (باسم الله) ، ثمّ تعرض لك مشاهد العطاء كلّ العطاء في نفسك وفي الوجود، والحنان الغامر لنفسك وللوجود، وتقول لك: سجّل الشكر والامتنان، واستشعر الرحمة والحنان، والمسؤوليّة للمستقبل... ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ...

ثمّ تنساب بك في حديث مع الواهب المعطي، المحاسب تبارك وتعالى، فتعلّمك كيف تسجّل على نفسك الالتزام بطاعته وحده والتحرُّر من مهانة

١٥٠

الأشياء، والالتزام بالاستعانة به وحده، والتحرّر من الفقر إلى الأشياء: ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )

ثم تحضر لك الأجيال البشريّة، منذ الأب الأوّل وحتى الأبوين الأخيرين، فتراهم ساربين في ثلاث طرق، يتميّز واحد منها بالجلال والإشراق، فتقول لك: أطلب من الله هذا الطريق، لتقطع به مسيرتك بجدارة وشرف، فتطلب من الله: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ... ) .

ثمّ ترجوا أن لا يكون أحد الطريقين الآخرين العاثرين: طريق المغضوب عليهم والضّالين، وكذلك تودّعك السورة وقد حدّدتْ موقعك في الجماعة البشريّة، وملئت قلبك بالإشفاق على خطواتك من طريق الغضب والتيْه.

* * *

أصحّ ما توصف به سورة الفاتحة أنّها: صورة كاملة للوجود والتعامل معه، وهذا ما يفسر لنا اختيارها مقدّمة القرآن الكريم، ومقابلتها به في قوله تعالى: ( وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ... ) ، فإنّ القرآن الكريم صُور تفصيليّة للوجود، والتعامل معه، فناسب أن يفتتح التفصيل بهذا الموجز المعبّر، وأن يُقابل به مقابلة المعنون بالعنوان.

أمّا طبيعة هذه الصورة التي تقدّمها الفاتحة للوجود فهي: الرحمة، الرحمة المؤكّدة المتنوّعة في التكوين، والتربية، والإعانة، والهداية... فيضٌ ذاتي لا يقف عند حدّ.

وأمّا طبيعة التعامل الذي تمليه السورة فهو: المسؤوليّة والإشفاق المغموران بالرحمة، مسؤوليّة يوم الدين الذي يملكه الرحمن الرحيم، ومسؤوليّة الاستقامة مع أحبّاء الرحمن الرحيم.

والإشفاق من طريق الذين حرموا أنفسهم من هذه الرحمة الميسّرة، الذين تحذّر منهم السورة وتستثنيهم بصيغة: (المغضوب عليهم ولا الضّالين)، لا بصيغة: الذين غضب الله عليهم وأضلّهم، وانسجاماً مع طبيعة الرحمة الغامرة في السورة، وإلفاتاً إلى أن الفعل الأساس لله عزّ وجلّ هو: الرحمة ثمّ الرحمة والعطاء، وأنّ هذا الغضب والضلال جاءا من فعل أيديهم وخُبث سرائرهم.

١٥١

إنّ التسلسل والترابط العقلي والشعوري، في الحقائق التي تتضمّنها سورة الفاتحة أمر مدهش

فمن ناحية عقليّة، تتدرج الحقائق كما يلي:

* الابتداء باسم الله المتّصف بالرحمة الذاتيّة الشاملة، أحقّ من يُبدأ باسمه على شيءٍ من أشياء كونه... الحمد على العطاء لصاحب هذا العطاء...

* الإلفات إلى عطاء التربية والإدارة والتنمية، إضافة إلى غطاء الخلق والتكوين.

* إنّ هذا العطاء الغامر في التكوين والتربية، ينبع بشكل طبيعي من الرحمة الذاتيّة الشاملة...

* ثمّ تأتي حقيقة يوم الدين، وملكيته لله عزّ وجلّ، ويوم الدين هو: مرحلة إثمار الوجود، ولقائه بالله عزّ وجلّ، فهو حقيقة متفرّعة من الرحمة الإلهيّة ومرتبطة بها.

* ثمّ يأتي دور الإنسان في الإفادة من هذه الرحمة السخيّة، ومسؤوليّته تجاه يوم الدين.

* ثمّ تتوالى التوجيهات العمليّة في إطاعة الله الرحمن الرحيم، والاستعانة به، والانسلاك في طريق نعمائه القويم، والاستعاذة من الطرق المنحرفة... فتجد أنّ كلّ حقيقة في السورة مرتبطة بالحقيقة التي قبلها، ومتسلسلة عنها...

بل يمكن أن تجد هذا الترابط والتسلسل بشكل أبلغ، تجد أنّ الحقيقة التالية مرتبطة بكافّة الحقائق المتقدّمة، ومتفرّعة عن كلّ واحدة منها: مثلاً، ملكيّة الله ليوم الدين، متفرّعة منطقيّاً عن رحمته، وعن ربوبيّته وعن تكوينه للوجود.

والاستعانة بالله متفرّعة منطقيّاً عن الالتزام بعبادته، وعن ملكيّته ليوم الدين، وعن رحمته وربوبيّته وتكوينه... وانحراف المغضوب عليهم والضالين، يرتبط ويتفرّع عن كلّ ما قبله؛ لأنّه انحراف عن الصراط المستقيم، وعن الاستعانة والإطاعة وعن مسؤوليّة يوم الدين، وعن الإفادة من الرحمة والتربية والتكوين الإلهي...!

ومن ناحية شعورية: تتدرج السورة بمشاعرك، وهي تحكي لك قصّة الله

١٥٢

عزّ وجلّ مع هذا الوجود الحيّ القائم، في تكوينه إيّاه، وإدارته له، وتخطيطه لمستقبله، ثمّ تجعلك تتجاوب مع هذا الوجود ومليكه عزّ وجلّ، وتحسّ بموقعك فيه وتحدّد موقفك منه... في ألوان لا توصف من الشعور العميق بالله، وبالوجود وبالحياة وبالمستقبل وبالمسؤوليّة.

* * *

لو تكلّم صوفي مع الله عزّ وجلّ، لكلّمه عن وجْدِه وعشقه، وأشواقه وسرحه، وهيامه وفنائه في الذات المقدّسة، أو عمّا شابه ذلك من ألوان العلاقات، التي تفترضها الاتجاهات الصوفية مع الله عزّ وجلّ...

بينما نرى التكلّم الذي تفرضه السورة مع الله عمليّاً بكلّه، فهو يتركّز على إطاعة الله، والاستعانة به، واستهدائه طريق الحياة القويم، واستبعاد طريقيْها المعوجّيْن، وهذا هو الفارق بين العلاقة العمليّة الحياتيّة التي يريدها الإسلام مع الله عزّ وجلّ، وبين العلاقة المعلّقة التائهة التي تريدها الصوفيّة.

* * *

يمكن وصف سورة الفاتحة بأنّها تعامل عقائدي، يتعامل به المسلم مع الله والوجود، من وجهة نظر الإسلام التي يؤمن بها. ولكنّ السورة مع ذلك تحمل قوّة الاستدلال العقائدي.

فهي تقدّم للوجود وللتعامل معه صورة مسنودة بقوّة اليقين، والبداهة والسير العملي، حتى لتهزّ أعماق غير المسلم، حينما يسمعها من المسلم في صلاته أو يقرؤها، ويتجيّش عقله وقلبه... وما ذلك إلاّ لأنّها بقوّتها وبداهتها تقول له: هذا هو الوجود، وهذا هو الموقف منه، والتعامل معه، هذي هي الفطرة البشريّة، وما سواها انحراف..

* * *

ثمّ ماذا أسجّل عن هذه السورة، عن بلاغة معانيها، وعذوبة تعبيرها، وإيقاع قوافيها، متنقلة من الميم إلى النون، وعن شمولها واستيعابها وحيويّتها؟

إنّما هي لوحة للوجود بأكمله، ولموقع الإنسان منه، ودربٌ هَدَاه فيه، صاغها من جوامع الكَلِم صائغ الوجود عزّ وجلّ، متدفّقة بالحياة حافلة بالعطاء.

عن النبي (صلّى الله عليه وآله) قال: (كلّ صلاة لا يُقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي

١٥٣

خداج) - أي منقوصة - الوسائل ج4 ص733.

وعن الإمام الرضا (عليه السلام) وقد سُئل، لماذا وجبت سورة الحمد في كلّ صلاة؟ قال: (لأنّه ليس شيءٌ من القرآن والكلام جُمع فيه، من جوامع الخير والحكمة، ما جُمع في سورة الحمد...) الوسائل ج4 ص733.

* * *

تلاوة الركوع والسجود

تدلّنا نصوص السنّة الشريفة على أنّ الواجب الأهمّ في الصلاة هو: نفس الركوع والسجود، أمّا التلاوة فيهما فهي واجبة على درجة ثانية من الأهمّية... لكنّ ذلك لا يخفّض من قيمة فكرة التلاوة في حالة هذين الخضوعين، ولا يُنقص من إبداعها وعطائها.

فعن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: (إنّما جُعل التسبيح في الركوع والسجود لعلل؛ منها: أن يكون العبد مع خضوعه وخشوعه، وتورّعه واستكانته، وتذلّله وتواضعه، وتقرّبه إلى ربّه مقدِّساً له، ممجّداً مسبّحاً، معظماً شاكراً لخالقه ورازقه، وليستعمل (ويستعمل) التسبيح والتحميد، كما استعمل التكبير والتهليل، وليشغل قلبه وذهنه بذكر الله، فلا يذهب به الفكر والأماني إلى غير الله) الوسائل ج4 ص924.

وقد عرفت أنّ تلاوة الركوع والسجود مفتوحة لمطلق التعبير عن ذكر الله عزّ وجلّ، لكنّي اختار صيغة: (سبحان ربّي العظيم وبحمده) ، وصيغة: (سبحان ربّي الأعلى وبحمده) ؛ لأنّهما أشهر الصيغ التي تفضّل الشريعة المقدّسة تلاوتها في خضوع الركوع والسجود - أنظر الوسائل ج4 ص923.

وأوّل ما ينبغي لهاتين الصيغتين، معرفة مفرداتهما:

تذكر مصادر اللغة أنّ معنى التسبيح: التنزيه، وأنّ لفظ (سبحان) مصدر، بمعنى التسبيح، وأنّه (علمُ جنسٍ على التسبيح، كبّره: علم للبر ونحوه من أعلام الأجناس الموضوعة للمعاني) - معجم تاج العروس.

١٥٤

والذي أرجّحه، أنّ (سبحان) : اسم مصدر، وليست مصدراً، وأهمّ الفروق بين المصدر واسمه؛ أنّ المصدر اسم للحدث - أي فِعْلُ الشيء - بما هو فعلٌ منسوب إلى الفاعل، أمّا اسم المصدر فهو: اسم لهذا الحدث المنسوب إلى الفاعل...

مثال ذلك: الاغتسال والغسل، والتطهير والطهارة، والإعطاء والعطاء... فإنّ التطهير: اسم لفعل التطهير ملحوظاً فيه فعل هذا الفعل، أمّا الطهارة فهي: اسم لعمليّة التطهير ملحوظاً فيه فعل هذا الفعل، أمّا الطهارة فهي: اسم لعمليّة التطهير بقطع النظر عن فعل التطهير.

وكذلك التسبيح: اسم لتنزيه الله عزّ وجلّ بما هو تنزيه صادر عنك، فهو بقوّة قولك: تنزيها لله، أمّا سبحان، فهو: اسم لتنزيه الله بقطع النظر عن صدوره عنك، فهو بقوّة قولك: تنزيه الله... والفرق بين التعبيرين؛ أنّ تنزيهاً لله وتسبيحاً لله إنشاء للتنزيه، أمّا تنزيه الله، وتسبيح الله، وسبحان الله فهو: إخبار عن التقديس يتّضمن الإنشاء... وهذا يتّفق تقريباً مع ما ذكره صاحب تاج العروس عن بعض اللغويين.

وأمّا لفظ (ربّ) فهو: (يطلق في اللغة على المالك، والسيّد، والمربّي، والمُتمّم) - تاج العروس.

وأنسب المعاني المقصودة من استعماله إسلاميّاً: اسماً لله عزّ وجلّ بمعنى التربية والتدبير، وإن أمكن القول بشموله للمعاني الأخر.

وأمّا لفظة (الحمد) فهي: مصدر - حمِد - بكسر الميم، وقد ذكر صاحب القاموس واللحْياني أنّ الحمد: بمعنى الشكر، وخالفهما في ذلك بقيّة علماء اللغة فقالوا: إنّ الحمد أعمّ من الشكر؛ لأنّ (الشكر لا يكون إلاّ ثناءً ليدٍ أولَيْتها، والحمد يكون شكراً للصنيعة، ويكون ابتداءً للثناء على الرجل).

فالحمد أشمل من الشكر، وكذلك هو أشمل من الثناء، والمديح، والامتنان؛ بدليل أنّك تستعمل كلمة الحمد في بعض الموارد، ولا تستعمل مكانها كلمة الثناء والمديح أو الامتنان، كما في تلاوة الركوع والسجود ذاتها، حيث تقول: (سبحان ربّي العظيم وبحمده)، ولا تقول: سبحان ربّي العظيم وبثنائه، أو بامتنانه.

وبدليل؛ أنّ فعل - سبحان - يتعدّى إلى متعلّقة بعلى، بينما تتعدّى أفعال هذه المصادر باللاّم، أو بعلى، التي بمعنى اللاّم، تقول: أحمد الله على نعمه، فيشمل ذلك كافّة النعم الصادرة عنه عزّ وجلّ، المستقرّة والحادثة، وربّما الآتية... بينما إذا قلت: أشكر الله على نعمه أو لنعمه، اختصّ ذلك بالنعم الماضية المتعلّقة بك، وكذلك

١٥٥

قولك: أمدح الله لنعمه، أو على نعمه، وأثني على الله لنعمه، وأمتنّ منه لنعمه.

وهكذا نجد لفظة الحمد بمعنى الثناء المطلق على كلّ أفعال المحمود، ولا أعرف لفظة غيرها في العربية تحمل هذا المعنى الشامل.

* * *

وها أنت تلاحظ في ألفاظ هذه التلاوة، النُدرة والتفرّد في الاشتقاق والتركيب، ولا تعجب فإنّها بلاغة الإسلام تنتقي في كثير من الأحيان ألفاظاً نادرة قليلة الاستعمال، متفرّدة في اشتقاقها أو تركيبها، عميقة في معانيها، خاصّة في إيقاعها... من أجل التركيز على مفهوم معيّن، أو شعور معين، وهل أعلم باللغة وبأُنفس البشر من الله عزّ وجلّ؟

لاحظ لفظة (سبحان) النادرة في اشتقاقها وإيقاعها، وعمق معناها، وقلّة استعمالها في إثبات التنزيه!.

ولفظة (وبحمده) في معناها الشامل وتركيبها المتفرّد: جارٌ ومجرور محذوف المتعلّق، ومعطوف على جملة مصدريّة! أرأيت هذا الابتكار في العبارة العربية؟!

ثمّ أرأيت اختيار هذه العبارة المتفرّدة لخضوعي الركوع والسجود المتفرّدين؟

* * *

ثمّ نلاحظ في صيغة التسبيح الإطلاق المقصود، الذي يعطي المعنى الامتداد والعمق... فبالإضافة إلى أنّ مفاهيم التسبيح والتربية والحمد التي تتضمّنها التلاوة، مفاهيم كليّة شاملة، تجد أنّ كلمة - سبحان - تستبطن معنيي الأخبار والإنشاء، فكأنّك تقول: التقديس ثابت لربّي العظيم، وأقدّس ربّي العظيم...

وعين الأمر تجده في تركيب (وبحمده)، حيث أنّ حذف المتعلّق لهذا الجار والمجرور قصداً قصداً؛ لإعطائك الإطلاق في التقدير.

تستطيع أن تقدّر: وبحمده أعترف، وبحمده أعيش، وبحمده يقوم الوجود... أو تبقي الجار والمجرور على إطلاقه المفتوح صالحاً للتعلّق بكلّ اشتقاق مناسب!

١٥٦

وهكذا تجمع لك هذه الصيغة البليغة بين الإخبار عن التسبيح والتحميد، وبين إنشائهما من قِبَلك، وتعطيك السعة في متعلّق الحمد، لتحسّ بثبوته لله عزّ وجلّ، أو تنشئه على ما أحببت من أفعاله ونعمائه...

أربعُ كلماتٍ... تفتح عينيك وعقلك على حقلين خصبين ممتدّين: حقل التقديس لصاحب الوجود، وحقل نعمائه الغامرة في هذا الوجود القائم... فتقطف منها ما تتوفّق إليه من ألوان الأفكار وألوان المشاعر.

* * *

وتلاحظ في هاتين التلاوتين الارتباط الوشيج بين التسبيح والتحميد، وهو ارتباط تربوي يسلكه الإسلام في مختلف المواقف ويؤكّد عليه في مفاهيمه... ذلك أنّ التسبيح: تنزيه لله عن أن يُشبه شيئاً من المخلوقات، وتنزيه لذاته المقدّسة أن تكون من نوع الذرّات والطاقة التي يتركّب منها الكون، وتنزيه لأفعاله أن يشوبها شيءٌ من الضعف والنقص والخطأ الذي يتعرّض له تحرّك الأشياء.

ومثل هذا النفي الشامل قد يجرّ الذهن إلى الإغراق، وتخيّل أنّ الله عزّ وجلّ لا يقوم فعلاً بعمليات التكوين والإدارة في الوجود، وقد وقع بعضهم في هذا الوهم نعوذ بالله، متخيّلاً أنّ مقتضى تنزيه الله عزّ وجلّ أن ينزّهه حتى عن الخلق والإدارة، أو عن قسم من الخلق والإدارة.

وما مَثل هؤلاء إلاّ كمَثل من يمتدح حاكماً فينزّهه عن الظلم والانحراف، ثمّ يُغرق حتى ينزّهه عن الحكم والعدالة، أو كمثل مُتفرْنج خبيث أخذ يمتدح - ذات مرّة - سموَ النظام الإسلامي في جوانبه التربوية والاقتصادية، حتى جعله أسمى من أن يطبّق على حركة الحياة!

إنّ القسم الأوّل من التلاوتين وخاصّة تلاوة السجود - سبحان ربّي الأعلى - ينطلق بالفكر من مجالات التنزيه لذات الله وأفعاله انطلاقاً واسعاً، فكان لا بدّ من معادلة هذا الانطلاق النافي، بانطلاق مقابل في الإيجاب يتّجه إلى تكوين الله وإدارته للوجود، ونعمائه الغامرة في كلّ ذلك، ولم يكن أنسب لهذا الانطلاق الموجَب من مفهوم التحميد بصيغة الجار والمجرور الفريدة، وبعطفها بالواو!

١٥٧

وكذلك تقوم هذه الكلمات الأربع بتركيز المفهوم الإسلامي عن الله عزّ وجلّ، المفهوم النقي الذي يرفض التشبيه والتعطيل في آنٍ... تقوم بذلك في يسر وبساطة، وبأعمق المشاعر وأروعها.

عن الحسين بن سعيد، أنّه سُئل الإمام محمد الجواد (عليه السلام): يجوز أن يقال لله أنّه شيء؟ قال (عليه السلام): (نعم يُخرجه من الحدّين: حدّ التعطيل، وحدّ التشبيه) الكافي ج1 ص82.

وعن هشام بن الحكم قال: (سألت أبا عبد الله الصادق (عليه السلام) عن سبحان الله فقال: (أنفة [ا]لله) الكافي ج1 ص118.

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقد سُئل عن معنى سبحان الله فقال: (كلمةٌ رضيها الله تعالى لنفسه، فأوصى بها) تاج العروس - مادّة سَبح.

* * *

وتلاحظ أخيراً في تلاوتي الركوع والسجود الشريفتيّن: اختيار صفة (العظيم) للربّ تبارك وتعالى في الركوع، وصفة (الأعلى) في السجود.

وتتّضح حكمة هذا الاختيار، من ملاحظة الفرق بين وضعي الركوع والسجود، فمع أنّ الركوع خضوع مستقلّ، إلاّ أنّه بمثابة المقدّمة والمرحلة لخضوع السجود، ومن هنا ناسب أن تكون صفة الربّ عزّ وجلّ - التي يتلوها المصلّي في الركوع - بمثابة الإعداد للصفة الأعمق التي يتلوها في تذلّل السجود.

وكذلك هو الحال في صفة - العظيم - وصفة - الأعلى - ... فمع أنّ الصفتين من أسماء الله الحُسنى، التي أمر القرآن الكريم بتسبيح الله بها: ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ) ، ( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) ، إلاّ أنّ صفة العظيم بحكم كونها من (أمثلة المبالغة) صفة للذات المقدّسة بما هي.

وأمّا صفة - الأعلى - فهي بحكم كونها من (أفعل التفضيل)، صفة للذات المقدّسة بما هي منسوبة إلى الوجود، وتقديس الذات بالنسبة إلى كلّ الوجود، أبلغ وأعمق من تقديسها بما هي.

ثمّ إنّ طبيعة انحناء الركوع تتناسب مع الشعور بعظمة الخالق عزّ وجلّ، والتعبير عنها.

أمّا طبيعة وضع الجبين على التراب، وإلقاء الذات وإفنائها بين يدي الله عزّ وجلّ، فتتناسب مع الشعور بسموّه تبارك وتعالى، والتعبير عن هذا السموّ بصفة الأعلى... مطلقة شاملة.

١٥٨

تلاوة التشهّد

الأذان ؛ أنّ الشهادة في الأساس: إقرار يؤخذ من الشاهد أمام قاضٍ في محكمة، ولكنّها بلاغة الإسلام نقلتها من جلسة في محكمة إلى وقفة مفتوحة أمام الناس، والأشياء، وجعلت الوجود كلّه محكمة يُدلي المؤذّن بشهادته على أسماعه، ويدعوه إلى تسجيلها وتصديقها... أمّا هنا في الصلاة فللشهادة مُعطى من لون آخر، لا يبعد أن يكون أكثر بلاغة وعمقاً.

إنّ المسلم هو: الإنسان المقتنع الموقن بعقيدة الإسلام وشريعته، ولكنّ هذا اليقين معرّض للنسيان اليومي في حركة السلوك، فنحن أبناء آدم من طبيعتنا أن ننسى، كما نسيَ أبونا آدم (عليه السلام) من قبل: ( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ) .

ومن ثمّ يرى الإسلام أنّ من الضروري لابن آدم - كجزء من تربِّيه اليومي بالصلاة - أن يُسجّ ل على نفسه الإقرار بإسلامه لله، إقراراً مجموعاً في كلمات، مصوغاً في شهادة يُدلي بها المصلّي وهو جاثٍ على ركبتيه، تسع مرّات في آناء اليوم، علّه يعيش مفهومه الذي يؤمن به عن الكون، ويوافق تحرّكه الواسع في الأرض مع شريعة هذا المفهوم، علّه يحسّ بمسؤوليّة هذه الشهادة، فلا ينحرف عنها...

ثمّ يتبع هذا الإقرار بالاتجاه إلى الله عزّ وجلّ، طالباً التبريك على مُبلّغ هذا الهدى وآله، والمجاهدين في تثبيته وتوضيحه (اللّهم صلّ على محمد آله محمد) .

أمّا بلاغة صيغة التشهّد، فما عليها من مزيد...

لاحظ انصباب الشهادة الأُولى على الوحدانيّة، حتى لكأنّ المسألة مسألة وحدانيّة الله، وليس الشهادة بوجوده عزّ وجلّ... وكذلك هو الأمر، فالمشكلة الأوسع في العالم هي الوحدانيّة.

هذا عالمنا أكثر من تسعة أعشاره يؤمنون بوجود الله، ولكن كم من هؤلاء من يوحّدون الله حقّ توحيده؟ وكم من الموحّدين نظريّاً يعيشون توحيد الله في سلوكهم، فلا يتلقّون عن غير الله، ولا يطيعون غير الله...؟

مسألة الاعتراف بوجود الله عزّ وجلّ هي الأساس، ولكنّها تملك البرهان

١٥٩

من عقل الإنسان وكونه، ثمّ لا تحتاج أكثر من الرهان... أمّا مسألة التوحيد فهي وإن امتلكت البرهان أيضاً من عقل الإنسان وكونه، لكنّها المسألة الأطول التي تواكبنا في فكرنا وسلوكنا، والمرحلة الأهمّ والأخطر في ضميرنا...

ومن هنا ناسب التربّي عليها وانصباب الشهادة عليها، بصيغة النفي لكافّة الإلوهيّات المتصوّرة، وإثبات إلوهيّة الإله الواحد عزّ وجلّ، وناسب توضيحها بنوعين من التأكيد، لكلّ منهما دور في تركيز التوحيد، فكلمة (وحده) تعني: أنّ وحدانيّة الله عزّ وجلّ قضيّة قائمة واجبة لا ممكنة بحسب التعبير المنطقي.

وكلمة (لا شريك له)، تنفي مساهمة أحدٍ أو شيءٍ مع الله عزّ وجلّ في شؤون الإلوهيّة، شؤون الخلق والإدارة والتشريع والأمر والحكم، كما ناسب في مستهلّ الشهادة الثانية وصف الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) بالعبد المخلوق المأمور، إبعاداً للشهادة بالرسالة عن أن تشي بأدنى مشاركةٍ لله في شيء، وإنّما هي مهمّة رسالةٍ وتبليغ، وإن كانت أعظم مهمّة قام بها إنسان.

* * *

ثمّ لاحظ المستوى الذي يرفع إليه - الفرد من الناس - الإدلاء بهذه الشهادة، مستوى أن يشهد أحدنا بوحدة الإلوهيّة وبالنبوّة!

متى احتاج الله عزّ وجلّ لأنّ يشهد بتوحيده أحد؟... ومن يكون زيد وعمرو في الوجود؟ ومن يكون الوجود بالنسبة إلى وجوده عزّ وجلّ، الوجود الحقيقي الصمد؟...

ومتى احتاج الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم)، إلى شهادة أحد بإرساله من قِبل الله؟ وكفى بالله شهيداً له...

ولكنّه تواضع الرحمة من الله سبحانه، يقول لكلّ فرد من الناس: أنت بحاجة لأن تستشعر وحدانيّتي فتتلقّى عنّي وحدي، وتأتمر بأمري وحدي، فارتفع إلى مستوى احتياجك، وأشهد لي بالوحدانيّة، ولعبدي بالرسالة، وانهض بمسؤوليّة هذا المستوى..!

ثمّ لاحظ المسؤوليّة التي يتضمّنها هذا الإقرار، فكما إنّ ارتفاع الإنسان إلى مستوى الشهادة بالإلوهيّة والنبوّة، ليس من أجل الله ورسوله، فكذلك ليس

١٦٠