فلسفة الصلاة

فلسفة الصلاة0%

فلسفة الصلاة مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 257

فلسفة الصلاة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: علي الكوراني
تصنيف: الصفحات: 257
المشاهدات: 61840
تحميل: 8288

توضيحات:

فلسفة الصلاة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 257 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 61840 / تحميل: 8288
الحجم الحجم الحجم
فلسفة الصلاة

فلسفة الصلاة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

هو من أجل كبرياء الإنسان، وجعله في مستوى أن ينفي أو يثبت الوحدانيّة والرسالة... بل هو الارتفاع الخاشع المسؤول، الخاشع؛ لأنّه ارتفاع يتحقّق بين يدي الله، وبعد خضوع السجود، وفي حالة الجثوّ على الركبتين... والمسؤول؛ لأنّه ارتفاع مشروط بتكاليفه، تكاليف أن يتلّقى أحدنا مفاهيمه وأحكامه التي يتحرّك بها عن الله الذي يشهد يوميّاً بوحدانيّته، وعن رسوله الذي يشهد يوميّاً برسالته.

حينما أتفكّر أنّي في كلّ يوم من حياتي أسجّل على نفسي تسع مرّات الإقرار بوحدانية الله، ورسالة عبده محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم) تهزّني مسؤوليّة هذا الإقرار، مسؤوليّة التقصير عنه فيما مضى، ومسؤوليّة أن أفيَ بما بقي من عمري بمستلزمات هذا الإقرار، أن أثبُت على التلقّي عن الله ورسوله، في خضمّ الهوى والناس والشيطان...

إنّها مسؤوليّة تهزّ الكيان أن يعلن أحدنا إقراره بوحدانيّة الله المطلقة، وبرسالة رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلم) في آناء أيّامه طوال حياته، ومفارقة كبيرة أن يبدو في صلاته على مستوى هذا الإقرار، ثمّ ينخفض في تكفيره أو تصرّفه في دَركات الإسفاف.

* * *

ولاحظ الإيقاع الحازم العميق في ألفاظ تلاوة التشهد وعبارتها... إيقاعاً يمتدّ بالفكر في استيعابه، وتتروّى النفس من جلاله، وينتفض الضمير لحسمه، وينسجم كلّ ذلك مع مستوى الشاهد الذي ترفعه إليه هذه الجلسة، ومع جديّة المسؤوليّة التي تستوجبها.

* * *

ثمّ لاحظ البلاغة في الانتقال من الشهادة للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) بالرسالة، إلى طلب الصلاة عليه، فإنّ الشهادة للرسول تُحضر أمامك تكليف الله عزّ وجلّ إيّاه بهذه المهمّة، وقيامه بها على أكمل وجه وأثمر جهود، ممّا يدعوك لطلب التبريك عليه، كما يدعوك ذلك إلى تأكيد صلتك بالرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم)؛ باعتباره الهادي إلى الله عزّ وجلّ والمنقذ للبشريّة بأمر

١٦١

الله... فتسجّل شعورك نحوه، معتزّاً بزعامته ومكانته (صلّى الله عليه وآله وسلم).

وفي ضمن هذا الانتقال إلى الصلاة على الرسول، يتم انتقال آخر من ضمير الغيبة إلى الخطاب، إلى التكلّم مع الله عزّ وجلّ، الذي تجثو بين يديه وتشهد له بالوحدانيّة، ولرسوله بالرسالة، أن يبارك على رسوله الذي هداك به، وهو انتقال منسجم أيضاً يفتح لك الخطاب مع الله الواحد ويجعلك تمارس طلباً منه، من أجل عبده ورسوله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، على عظمة هذا العبد الرسول.

* * *

ثمّ لاحظ أخيراً عطف الصلاة على آل الرسول، على الصلاة على الرسول، باعتبارهم امتداد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) في هذه الأُمّة، تثبيتاً للإسلام وجهاداً مخلصاً في سبيل الله...

وآل الرسول ، أو أهل البيت، هذا الاصطلاح الإسلامي الذي حدّده الرسول بأشخاص معيّنين، وأمرَ بالاقتداء بهم، والصلاة عليهم مع الصلاة عليه، وهو المنزّه (صلّى الله عليه وآله وسلم) عن معاني القَبَليّة والأسريّة والذاتيّة، التي تجعل الزعماء الدنيويّين يفرضون امتدادهم على الأمّة في ذويهم: ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ) .

قال أحمد بن حنبل: لمّا نزلت هذه الآية: ( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ... ) ، دعا الرسول (صلّى الله عليه وآله)، عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً رضوان الله عليهم أجمعين، فقال: (اللهمّ هؤلآء أهلي) مسند أحمد بن حنبل ص185.

وفي صحيح البخاري، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: (لقيني كعب بن عجرة فقال: ألا أهدي لك هديّة سمعتها من رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فقلت: بلى فأهدها لي، فقال: سألنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فقلنا يا رسول الله، كيف الصلاة عليكم أهل البيت، فإنّ الله قد علّمنا كيف نسلّم؟ قال:(قولوا اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد...) ج4 ص178 - مطابع الشعب.

١٦٢

قال الكحلاني: ( وحديث الصلاة أخرجه الشيخان عن كعب بن عجرة عن أبي حميد الساعدي، وأخرجه البخاري عن أبي سعيد، والنسائي عن طلحة، والطبراني عن سهل بن سعد، وأحمد والنسائي عن زيد بن خارجة.

والحديث دليل على وجوب الصلاة عليه (صلّى الله عليه وآله) في الصلاة؛ لظاهر (الأمر) ، أعني: (قولوا) ، وإلى هذا ذهب جماعة من السلف والأئمّة والشافعي، وإسحاق، ودليلهم الحديث مع زيادته الثابتة، ويقتضي أيضاً وجوب الصلاة على (الآل)، وهو قول الهادي، والقاسم، وأحمد بن حنبل.

ولا عُذر لمن قال بوجوب الصلاة عليه (صلّى الله عليه وآله وسلم) مستدلاًّ بهذا الحديث، من القول بوجوبها على الآل، إذ المأمور به واحد، ودعوى النووي وغيره الإجماع على أنّ الصلاة على الآل مندوبة، غير مسلّمة، بل نقول: الصلاة عليه (صلّى الله عليه وآله وسلم) لا تتمّ، ويكون العبد مُمتثلاً بها، حتى يأتي بهذا اللفظ النبوي الذي فيه ذكر الآل؛ لأنّه قال السائل: كيف نصلّي عليك، فأجابه بالكيفيّة؛ أنّها الصلاة عليه وعلى آله.

فمن لم يأت بالآل، فما صلّى عليه بالكيفيّة التي أمر بها، فلا يكون مُمتثلاً للأمر، فلا يكون مصلّياً عليه (صلّى الله عليه وآله وسلم)...

... ومن هنا تعلم؛ أنّ حذف لفظ الآل من الصلاة، كما يقع في كتب الحديث ليس على ما ينبغي... وكأنّهم حذفوها خطأً، تقيّة، لمّا كان في الدولة الأُمويّة من يكره ذكرهم، ثمّ استمرّ عليه عمل الناس، متابعة من الآخر للأوّل، فلا وجه له). سبل السلام في شرح بلوغ المرام للعسقلاني ج1 ص193.

التسبيحات الأربع

رويَ في الوسائل، عن عبيد بن زرارة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الركعتين الأخيرتين من الظهر، قال: (تسبّح وتحمد الله وتستغفر لذنبك، وإن شئت فاتحة الكتاب فهي تحميد ودعاء).

وعن علي بن حنظلة قال: سألته عن الركعتين الأخيرين ما أصنع فيهما؟ فقال: (إن شئْت قرأت فاتحة الكتاب، وإن شئْت فاذكر الله، فهو سواء...) الوسائل

١٦٣

ج4 ص781.

وعن زرارة قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): ما يجزي من القول في الركعتين الأخيرتين؟ قال: (أن تقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاّ الله، والله أكبر، وتكبر وتركع).

وعن رجاء بن أبي الضحّاك، أنّه صحب الإمام الرضا (عليه السلام) من المدينة إلى مرو، فكان يسبّح في الأخراوين يقول:(سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاّ الله، والله أكبر، ثلاث مرّات، ثمّ يركع) الوسائل ج4 ص782.

اعتماداً على هذه النصوص، ونصوص أخرى، أفتى الفقهاء: بتخيير المصلّي في الركعة الثالثة والرابعة، بين سورة الحمد وهذه التسبيحات الأربع، كما أفتوا باستحباب الاستغفار بعدها...

وقد نحسب أنّ هذا التركيب الموفّق، بين أربعة أنواع من الذكر إلهامٌ من الله عزّ وجلّ للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم)، لكنّ النصّ الآتي يكشف لنا عن تاريخ عريق لهذه التلاوة...

فعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (جاء نفر اليهود إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، فسألوه عن الكلمات التي اختارهنّ الله لإبراهيم حيث بنى البيت، فقال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم): نعم، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاّ الله، والله أكبر...) الوسائل ج4 ص1207.

وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (مرّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) برجل يغرس غرساً في حائط له، فوقف له وقال: ألا أدلّك على غرسٍ أثبت أصلاً، وأسرع إيناعاً، وأطيب ثمراً وأبقى؟ قال: بلى فدلّني يا رسول الله، فقال: إذا أصبحت وأمسيت فقل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاّ الله، والله أكبر، فإنّ لك إن قلته بكلّ تسبيحة عشر شجرات في الجنّة، من أنواع الفاكهة، وهنّ من الباقيات الصالحات...) الكافي ج2 ص506.

هذه التلاوة إذاً؛ بالإضافة إلى أنّها مركبة من مفردات ومضامين قرآنية... فهي تلاوة مهداة من الله عزّ وجلّ إلى خليله شيخ الأنبياء إبراهيم (عليه

١٦٤

السلام)... وهي مؤكَّدة من قبل الرسول والأئمّة (عليهم السلام) في عدّة نصوص، حتى أصبحت تعرف باسم: (التسبيحات الأربع)؛ لأنّها أربعة أنواع من ذكر الله تبدأ بالتسبيح... وهذه العراقة والتأكيد يعطيان التلاوة قيمة خاصّة بين الأذكار الإسلامية.

وقد مرّت معنا مفردات التسبيحات الأربع في التلاوات المتقدّمة... لكن الذي يُلفت هنا جمعها، وجعلها تلاوة مستقلّة، تُقرأ في حالة الوقوف في الركعة الثالثة والرابعة بإخفات، ثلاثة مرّات... أو أكثر.

أربعة مفاهيم عن الله عزّ وجلّ وصلته بالوجود، كلّ واحد منها من حقل، عُطفت بحرف العطف، فإذا بها تشكّل وحدة فكريّة وشعوريّة لم نكن نعهدها في مفرداتها... فما هو التجانس الذي أعطاها الوحدة والغنى؟

قد تقول: إنّ الجمال الذي نراه في عطف هذه الفقرات نشأ من تجانسها بحدّ ذاتها، باعتبارها، تنزيهاً، وحمداً، وتوحيداً، وتكبيراً لله عزّ وجلّ، فهي جميعاً مفاهيم عن ذاته سبحانه، وصلته بالوجود تتّسق إذا عُطفت، وإن كان لكلّ منها لون.

غير إنّ جمال الاتّساق والغنى في التسبيحات الأربع، لم ينشأ كلّه من التقائها في وصف الله عزّ وجلّ، فإنّ هذا الجمال هو مُعطى الأخبار حينما تتلوها فتقول لك: التنزيه ثابت لله، والحمد ثبات لله، والتوحيد ثابت لله، وإنّ - الله أكبر - من نعوت المخلوقين وخيالهم... فإذا بها أوصاف عظيمة، وأمجاد هائلة، تَتتابع نحو الوجود الإلهي عزّ وجلّ، فتجعلك تترّنح أمامها.

أمّا القدر الآخر من الجمال والثراء، فيعطيك إيّاه انتقال هذه التلاوة بك من حقل إلى حقل، ومن لون إلى لون، يعطيك إيّاه تربّيك أنت بهذه الجولة...

وذلك حينما تتلوها بقصد الإنشاء، فتبدأ بحقل التنزيه المطلق، إذا يتكوّم الوجود أمامك لاطئاً، وتحسّ بالله وجوداً عالياً منزّهاً، ثمّ تدخل حقل العطاء كلّ العطاء في الوجود المتفرّع المترامي، فتسجّل الحمد فيه لله، ثمّ تدخل حقل التوحيد، فتنفي أن يكون في الوجود محبوب أو مُطاع غير الله، ثمّ تثبت في مكانك من الوجود، خاتماً موقفك بأنّ الله أكبر من كلّ الوجود ومن كلّ ما خطر

١٦٥

على قلب.

أو تتلوها كما هي إخبار يشدّ إلى الإنشاء، فيمتزج الجلال بالجمال والذهول، بالاطمئنان في ألوان من المفاهيم والمشاعر... ثمّ تكرّرها ما شئت بقصد الإخبار أو الإنشاء، أو المزيج البلاغي المُعجز منهما...

(سبحان الله... والحمد لله... ولا إله إلاّ الله... والله أكبر...).

تلاوة التسليم

التحيات التي يستعملها غير المسلمين في ملاقاتهم هي: التحيات التقليديّة الموروثة مثل: صباح الخير، ومساء الخير، ونهارك سعيد، ومرحباً، وطاب ليلك، وأنعم صباحاً... وما شابه؛ ذلك لأنّ أديانهم الوضعيّة والمنسوبة إلى الله لا يوجد فيها صيغة تحية للقاء الناس بعضهم مع بعض، أمّا الإسلام فقد وضع للتحيّة أحكاماً، ووضع لها صيغة جميلة... قال عزّ وجلّ: ( ...فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً ) 61 - النور.

وعن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال: (السلام تطوّع، والردّ فريضة)، وقال: (أولى الناس بالله ورسوله، من بدأ بالسلام) الكافي ج2 ص644.

وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (كان سلمان رحمه الله يقول: افشوا سلام الله، فإنّ سلام الله لا يَنال الظالمين) الكافي ج2 ص644.

وإذا أردنا أن نقارن صيغة التحيّة الإسلاميّة (سلام عليكم، أو السلام عليكم، أو عليكم السلام) ، بالتحيّات الأُخرى لوجدناها تتميّز عليها من ناحيتين:

الأُولى: الشمول، فإنّ صيغ التحيّات الأُخرى مخصّصة بوقتٍ أو بحالة، بينما صيغة التحيّة الإسلاميّة شاملة للأوقات والحالات.

١٦٦

والثاني: المحتوى، فإنّ التحيّات الأُخرى تساوي قولك: أتمنّى أن يكون الوقت الذي يمرّ عليك سعيداً وخيراً، والتحيّة الإسلاميّة تساوي قولك: الأمان والطمأنينة من الله عليك.

وفارق كبير بين أن تحيّي من تلاقيه بأمنياتك له بالخير والسعادة، وبين أن تكون مخوّلاً من الله عزّ وجلّ بتحيّته بالأمن والطمأنينة، إنّ هذا العنصر في التحيّة الإسلاميّة يُلفت الذهن حقّاً...

فهي ليست تحيّة من عند الإنسان بل: (من عند الله مباركةً طيّبةً)، وكّلنا عزّ وجلّ أن نُنشئها عنه على أنفسنا كلّما التقينا، بل وخوّلنا إفشاءها على كلّ المسلمين.

إنّ المخلوق لا يملك الخير والأمن والطمأنينة حتى يقدّمها للآخرين... ولكنّها الرحمة الإلهيّة ترتفع بالإنسان إلى مستوى أن يحيّي نفسه وإخوانه بالسلام، نيابة عمّن يملك الأمنَ والسلام عزّ وجلّ.

* * *

ويزداد مُعطى هذه التحيّة البليغة حينما تجدها في الصلاة، وقد جعلها الإسلام تلاوة الختام.

عن النبي (صلّى الله عليه وآله) قال: (افتتاح الصلاة الوضوء، وتحريمها التكبير، وتحليلها السلام) الوسائل ج4 ص1003.

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقد سأله رجل: ما معنى قول - الإمام في ختام الصلاة - السلام عليكم فقال: (إنّ الإمام يُترجم عن الله عزّ وجلّ، ويقول في ترجمته لأهل الجماعة: أمان من عذاب الله يوم القيامة) الوسائل ج4 ص1005.

وعن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: (إنّما جُعل التسليم تحليل الصلاة، ولم يجعل بدلها تكبيراً أو تسبيحاً أو ضرباً آخر؛ لأنّه لمّا كان الدخول في الصلاة تحريم الكلام للمخلوقين، والتوجّه إلى الخالق، كان تحليلها والانتقال عنها وابتداء المخلوقين في الكلام أوّلا بالتسليم) الوسائل ج4 ص1005.

فلئن كانت التحيّة الإسلاميّة في كلّ الحالات تحيّة من عند الله مباركة

١٦٧

طيّبة تبشّر بها عن الله عزّ وجلّ من لاقيت من الناس، فإنّها عقيب الصلاة أكثر بركة وطيباً؛ لأنّك تكون تلقّيتها غضّة عَطِرة من الله الذي وقفت بين يديه تبارك وتقدّس، وتكون أجدر بهذه النيابة، وأقرب للتعبير عن المنوب عنه عزّ وجلّ.

وممّا يلاحظ في تسليم الصلاة، استحباب التسليم على النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم)، قبل سلام الختام، وإنّ هذا التسليم من ضمن الصلاة وليس ختاماً لها.

عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (كلمّا ذكرت الله عزّ وجلّ به، والنبي صلّى الله عليه وآله، فهو من الصلاة، وإن قلت: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فقد انصرفت) الوسائل ج4 ص1012.

* * *

كما يلاحظ وجود صيغتين شرعيّتين للتسليم: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، والسلام عليكم) ، فإن كان المصلّي مفرداً وليس حوله أحد سلّم على نفسه، وعلى عباد الله الصالحين، تحيّة من عند الله سبحانه، وإن كان يصلّي مع جماعة أو حوله أحد سلّم عليهم.

وإذا جمع بين الصيغتين وكان مفرداً سلّم على نفسه وعلى الصالحين أوّلاً، ثمّ سلّم سلاماً مطلقاً قاصداً به الملائكة الذين معه، أو مبقياً له على شموله لكلّ من يستحقّ تحيّة الله، وإن كان مع جماعة سلّم على نفسه وعليهم وعلى الصالحين أوّلاً، ثمّ خصّص أخوانه بالسلام ثانياً.

وللتسليم على النفس بأمر الله عزّ وجلّ، وبتحيّة من عنده مباركةً طيبة، أثر كبير في اطمئنان المسلم وشعوره بالأمان الإلهي الوديع.

* * *

بعد هذا الاستعراض لبلاغة تلاوات الصلاة، يلفتنا فيها أمر جديد لم يكن في الحسبان، يلفتنا أنّها ليست تكلّماً مع الله عزّ وجلّ، باستثناء الآيات الثلاث في نهاية سورة الفاتحة، وفقرة (اللهمّ صلّى على محمد وآل محمد) في تلاوة التشّهد!

١٦٨

نعم ، إنّ الطابع العامّ للصلاة هو: التكلّم مع النفس بين يدي الله، لا التكلّم مع الله.. وهو أمر يستحقّ الوقوف.

صحيح إنّه يستحب في الصلاة الدعاء ومخاطبة الله عزّ وجلّ، ولكن قِوام الصلاة هو: بتلاواتها الواجبة، من التكبير والتحميد والتوحيد والتهليل والتشّهد... وجميعها حقائق عن الله عزّ وجلّ وصلته بالوجود، يقوم المصلّي بتقريرها في نفسه بين يدي الله دون مخاطبته بها... فلماذا غلب هذا الطابع على الصلاة؟

لماذا لا نقول في الصلاة بدل الله أكبر: اللهمّ أنت أكبر، ولماذا لا نقرأ: باسمك اللهمّ، والحمد لك يا ربّ العالمين، أو نقول في الركوع: سبحانك ربّي العظيم وبحمدك، وفي الجلوس: اللهمّ أشهد ألاّ إله إلاّ أنت، وحدك لا شريك لك...؟

يبدو معقولاً أن تكون الصلاة كلّها استغراقاً في التكلّم مع الله، كما ترى في بعض الصلوات غير الإسلامية... لكن الإسلام يخطّئ هذه الطريقة في الصلاة ويراها غير عمليّة... لعدّة أسباب ترجع إلى أصلين، يقوم عليهما تشريعه للصلاة، وتشريعاته في كلّ مجال:

الأصل الأول : أنّ هدف التشريع الإسلامي هو: الإنسان وليس الله، هدفه تربية هذا الإنسان، وضمان استقامته في طريق تكامله...

ماذا يصنع الله بصلاة الإنسان وصومه واعترافه بإلوهيّته وأنبيائه واليوم الآخر، لو لم يكن ذلك ضرورة لازمه لوجود هذا الكائن...

يقول عزّ وجلّ: ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ) 118 - هود، خلقهم للرحمة، لمجرّد الاستفادة من عطائه في تكاملهم.

أمّا قوله تعالى: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِْنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) 56 - الذاريات، فهو بمثابة قوله: ما خلقتهم إلاّ ليتكاملوا بإطاعتي؛ لأنّ إطاعته عزّ وجلّ هي الطريق الوحيد للتكامل، كما تقول: إنّما تعلّمت لكي أعمل... مع إنّ العمل طريق وليس هدفاً.

١٦٩

والأصل الثاني: أنّه لا بدّ في التشريع الإسلامي أن يكون ميسّراً لظروف الناس ومستوياتهم جميعاً؛ لأنّه تشريع لهم جميعاً.

وبموجب هذين الأصلين - الغرض التربوي، والكلفة الأقلّ - اللذيْن هما من طبيعة المنطلق التشريعي في الإسلام، نجد أنّ التكلّم مع الله عزّ وجلّ ليس بحدّ ذاته هدفاً للتشريع الإسلامي، وإنّما أسلوب تربوي يُتّبع حيث يكون أكثر عطاءً ويسراً على العباد.

أمّا إذا كان أكثر كُلفة وأقلّ عطاءً فإنّ الله عزّ وجلّ لا يتردّد في اختيار الأسلوب البديل، وكذلك فعل عزّ وجلّ في الصلاة فاختار لها أسلوب التقرير المعيّن، وجعله الطابع العامّ لها دون أسلوب التكلّم المباشر.

لا أريد التقليل من الأهميّة التربويّة التي نفيدها من التكلّم مع الله عزّ وجلّ... بل أريد التمييز بين هذين الأسلوبين اللذين تتألّف منهما الصلاة: أسلوب التقرير بضمير الغَيْبة، الذي جعله الله الطابع العامّ للصلاة، وأسلوب التكلّم بضمير الخطاب، الذي انحصر في موردين من تلاوات الصلاة الواجبة.

فمن ناحية، نجد أنّ خطاب الحضور مع الله عزّ وجلّ، يستلزم جهداً ذهنيّاً أكثر من خطاب الغَيبة، فلا ننسى أنّ الوجود الإلهي مهما كانت درجة وضوحه في عقل الإنسان، إلاّ إنّه وجود غائب عن حواسّه السائدة، بل حتى عن حاسّة الخيال الشاسعة...

ولذا ، فإنّ من الصعوبة بمكان أن تكون صلاة الناس كلّها تكلّماً مع الله عزّ وجلّ، بينما أسلوب تقرير الحقائق عن الله والوجود مع النفس على عين الله أكثر يُسراً.

ومن ناحية أخرى، فإنّ الصلاة تهدف أن يتربّى الإنسان على تقديس الله، وتحميده، وتوحديه سبحانه، وهذا التربّي يَفي به أسلوب التقرير أكثر ممّا يفي به أسلوب التكلّم؛ لأنّ أسلوب التكلّم يجعل المقدّس المعظّم مُخاطَباً لك، أمّا أسلوب التقرير فيجعلك تقرّر هذه الأوصاف لمقدّس عظيم، وكأنّك تجلّه عن المخاطبة.

وأسلوب التكلّم قد يوميء بأنّ لك نصيباً في تقديس الله عزّ وجلّ؛ لأنّك تقوم بإنشاء هذا التقديس، أمّا أسلوب التقرير فيجعلك تعترف بالتقدس حقيقة كونيّة ثابتة، لا بدّ لك في إثباتها ولا في نفيها، ولا لأيّ مخلوق.

١٧٠

والصلاة تريد للإنسان أن يتربّى في نشاطه اليومي، على الاستقامة في خطّ الإسلام وأن يحسّ بأنّه يتصرّف على مرأى ومسمعٍ من الله عزّ وجلّ.

وأسلوب التقرير أقرب شبهاً بهذا النشاط اليومي المطلوب، فهو أنفع في التربية عليه، أمّا أسلوب التكلّم مع الله سبحانه فهو مادّة تربويّة من غير نوع النشاط اليومي...

بعبارة ثانية: إنّ أسلوب الخطاب يربّي الإنسان على أن ينضبط ويستقيم في تكلّمه مع الله عزّ وجلّ، أمّا أسلوب التقرير فهو يربّي الإنسان على أن ينضبط ويستقيم مع نفسه، على مرأى ومسمع من الله عزّ وجلّ، وهذا اللون من التربية أبعد أثراً في حياتنا اليوميّة.

من أجل ما تقدّم؛ نجد أنّ الصلاة تفرّق بين التربية على التقديس، وبين التربية على الطلب، ففي تربية الإنسان على تقديس الله سبحانه تستعمل أسلوب التقرير بضمير الغائب، وفي التربية على الطلب من الله عزّ وجلّ تستعمل أسلوب التكلّم والخطاب.

ولمّا كانت التربية على التقديس (التوعية على الله والوجود، وصلة الله بالوجود) هي الغرض الأكثر في الصلاة، والتربية على الطلب هي الأقلّ، كان الطابع العامّ لتلاوتها أسلوب التقرير بضمير الغائب.

ثمّ إنّ أسلوب التقرير المتّبع في الصلاة ليس أسلوباً متمحّضاً في (الغيبة)، فهو من ناحية، تقرير على عين الله وبين يديه، ومن ناحية، إخبار يتضمّن ويستبطن الإنشاء كما عرفت...

وهذان العنصران يجعلانه لوناً خاصّاً من الكلام، مزيجا الغَيْبة والخطاب، والإخبار والإنشاء، وهذا في اعتقادي من معاجز الصلاة... فكأنّ الله عزّ وجلّ يقدّم لنا بهذا الأسلوب، نموذجاً رفيعاً للنشاط الإنساني الواعي، ويدعونا لأنّ نجعل نشاطنا اليومي تحرّكاً على عينه، وموجّهاً إليه عزّ وجلّ، مع الالتفات الكامل إلى أنفسنا وموقعنا في هذا التحرّك.

* * *

وأخيراً لا أدري هل وفّيت في التمييز بين الأسلوبين اللذيْن تعتمدهما تلاوات الصلاة...

إنّ أسلوبي الغيْبة والخطاب في الصلاة، ما هما إلاّ جزءين من أسلوبي الغيبة

١٧١

والخطاب الممتدّين في صفحات القرآن الكريم... وهما جديران بدراسة مستقلّة، تكشف عن قواعدهما العلميّة وتميّز بين حقولهما التربوية، دراسة تبيّن لنا متى يتكلّم الله عزّ وجلّ عن نفسه بضمير الغائب ولماذا؟ ومتى يتكلّم عن نفسه بضمير المتكلّم، ولماذا؟ ومتى يكلّمنا بضمير الغائب أو المخاطب، ولماذا؟ ومتى يطلب منّا أن نكلّمه بضمير الغائب أو المخاطب، ولماذا؟... وكذلك الأمر في ضمير المفرد والجماعة.

لا شكّ أنّ القرآن الكريم يعتمد في كلّ ذلك أصولاً علميّة ثابتة، لا تفاوت فيها ولا اختلاف: ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً ) ، كما لا شكّ في أنّ تشريعات الإسلام وسنّة الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وسلوك الأئمّة (عليه السلام) تطبيق أمين لهذه الأصول.

ولذلك فهي ذات فائدة كبيرة في استكشافها وتحديدها... وقد رأيت كيف تميّيز الصلاة بين تربية الإنسان على تقديس الله، وتربيته على الطلب من الله عزّ وجلّ، كما رأيت سابقاً في تميّيزها بين ضمير المفرد والجماعة.

* * *

وآخر ما يلفت في تلاوات الصلاة: إنّها تلاوات تشبع أوضاع الصلاة وتناسبها.

إنّ كثيراً من المواقف تفتقر إلى التعبير الملائم، افتقار الملح إلى الطعام، وافتقار الوردة إلى اللون، وافتقار الأشجار إلى الطيور... فإن هي لم تفعم بهذا التعبير، ظل ّت يتيمة ولْهَى.

وكذلك مواقف الصلاة: الوقوف باعتدال بين يدي الله، والركوع، والسجود، والجلوس بين يدي الله عزّ وجلّ، تفتقر إلى تعبير ملائم...

وتجيء التلاوات فتملئ هذا الفراغ، وتسدّ هذا الافتقار بجدارة، وما ذلك إلاّ لغنى التلاوات بالأفكار والمشاعر، وملاءمتها المطلقة لهذه المواقف... حتى لتجد تلاوة الركوع ركوعاً بذاتها، كما تجد الركوع بذاته موحياً بتعظيم الله عزّ وجلّ والتسبيح بحمده!

وكذلك الأمر في كلّ واحد من هذه التلاوات البديعة الفريدة ابتداءً بتكبير الله... وختاماً بالأمن والسلام من لدنه عزّ وجلّ...

١٧٢

الجهر والاخفات

من شمول حضارة الإسلام ودقّتها، أنّ التشريع الإسلامي تناول مسألة الصوت في سلوك الإنسان، باعتبار ما لدرجات الصوت من أثر على النفس...

والجهر في اللغة هو: الظهور والإعلان، تقول: جَهَر الشيء، أي ظهر وبدا، ورأيته جَهرةً أي: عياناً، وجَهر بالكلام وجهر الكلام: أي أعلن به، وكلام جهر أي: مرتفع، وجهر بصوته، وجهر صوته أي: رفعه، فهو جهر ومجهر وجهوري الصوت، (مقتطف من تاج العروس - مادّة جهر).

والخفت والخفوت والخفات: ضُعف الصوت وسكونه، تقول: خفت الرجل صوته، وخافته وأخفته: أي أضعفه، ومنه خفت الرجل أي: سكن صوته ومات.

فالجهر بالصوت هو: المبالغة في رفعه، مثلاً من درجة ستّين إلى مئة، والإخفات هو: المبالغة في خفضه، مثلاً من درجة عشرة إلى صفر، وما بينهما درجات معتدلة، ليست بالأصل جهراً ولا إخفاتاً، وإن كانت كلّ درجة منها إخفاتاً بالنسبة لما فوقها، وجهراً بالنسبة لما دونها...

وكذلك لا بدّ من التمييز بين الجهر والاخفات في أصل اللغة، والجهر والإخفات النسبيّين، لأنّ المعنيين دخيلان في غرضنا...

ففي قوله تعالى مسجّلاً حكمة لقمان لولده (عليهما السلام): ( وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ) 19 - لقمان.

يعطي القرآن الكريم قاعدة عامّة في أدب الحديث، فينهي عن الجهر بمعناه اللغوي الأصلي - رفع الصوت بدرجات عالية - ويلفت إلى استنكار

١٧٣

الطبع لصوت الحمار بسبب ارتفاعه الفاحش.

وفي قوله تعالى: ( وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاَ وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ ) 110 - الإسراء.

يتّضح التمييز بين معنى الجهر والاخفات، حيث تنهى الآية الكريمة عن الجهر والإخفات الأصليّين، وتأمر بالوسط بينهما، وهو المعنى النسبي الذي افترضناه من درجة عشرة إلى ستين.

ولكن، هل أنّ المصلّي مخيّر بين كافّة هذه الدرجات في صلاته؟

يأتي هنا دور السنّة، فتقوم أوّلاً بتحديد الجهر والإخفات اللذيْن نهت عنهما الآية:

عن سماعة الحضرمي قال سألته - يعني الإمام الصادق (عليه السلام) - عن قول الله عزّ وجلّ، ( وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا ) قال: (المُخافتة: ما دون سمعك، والجهر: أن ترفع صوتك شديداً) الوسائل ج4 ص773.

ثمّ تقوم السنّة بتقسيم السبيل الوسط - المعنى النسبي - إلى إخفاء وجهر، وتحدد الإخفاء بأنّه: الهمس المسموع إلى الهمس العالي، وتحدد الجهر: بأنّه ظهور جوهر الصوت إلى قرابة الارتفاع الفاحش... وتوزع ذلك على صلوات النهار والليل، فتأمر بالإخفاء في صلوات النهار، وبالجهر في صلوات الليل...

عن يحيى بن أكثم، أنّه سأل الإمام الكاظم (عليه السلام) عن صلاة الفجر لِمَ يجهر فيها بالقراءة، وهي من صلوات النهار، وإنّما يجهر في صلاة الليل؟ فقال: (عليه السلام):(لأنّ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) كان يَغلس بها...)- أي يصلّيها أوّل الفجر عند الغَلَس: وهو وقت أقرب إلى الليل. الوسائل ج4 ص764.

وعن الإمام الباقر (عليه السلام)، في رجل جهر فيما لا ينبغي الإجهار فيه، وأخفى فيما لا ينبغي الإخفاء فيه، قال: (أي ذلك فعل متعمّداً فقد نقض صلاته، وعليه الإعادة، فإن فعل ذلك ناسياً أو ساهياً أو لا يدري؛ فلا شيء

١٧٤

عليه، وقد تمّت صلاته) الوسائل ج4 ص766.

ومن طريف ما نلاحظ، أنّ السنّة تعبّر عن الإخفات المطلوب في صلاة الظهر والعصر: بالإخفاء، وتعبر عن الإخفات المنهي عنه في الآية - ما دون سمعك - بالمُخافتة، مراعية الاشتقاق من فعل - خافت - الذي استعملته الآية الكريمة.

ولم أجد كلمة (الإخفات) في نصوص السنّة، إلاّ في رواية مرسلة عن الإمام الباقر (عليه السلام) - الوسائل ج4 ص774 - وأرجّح أنّها مصحفة عن الإخفاء... غير أنّ الفقهاء لم يتنبهوا لهذه الدقّة في نصوص السنّة الشريفة، ودرجوا على التعبير بوجوب الإخفات في الظهرين، والجهر في العشاءين والفجر، تأثّراً بالتضايف القائم بين الجهر والإخفات.

* * *

نَخْلص ممّا تقدّم، إلى أنّ الإسلام يوجب إبراز الصوت في صلوات العُتمة، وإخفاءه في صلاتي النهار... وبهذا التعليل الذي تقدّمه السنّة الشريفة، نضع أيدينا على الحكمة الأُولى من الجهر والإخفات.

فالليل وإن كان ظاهرة طبيعيّة متكرّرة على الناس، إلاّ أنّ له تهويمه على النفس، في عسعسته، وهواجسه، ووحشته، كما إنّ لليل وسَقَه وغَواسِقه.

والوسق: أحمال ما يجيء بها الليل، والغواسق: أرواح ما، أو مؤثّرات ما، على نفس الإنسان، يأمرنا عزّ وجلّ بالالتجاء إلى كنفه منها: ( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ... ) .

إزاء هذه المؤثّرات المنظورة وغير المنظورة، تحتاج أنفُسنا إلى تطمين، كما تحتاج إلى حماية، والذي يهمّنا هذا التطمين وهو الصلاة، وللجهر بتلاوتها أثر في عطاء الطمأنينة ندركه طبيعتنا.

أمّا أثر الصلاة في الحماية من غواسق الليل، ودور الجهر في توفير هذه الحماية،فهو احتمال نرجّحه ولا نعرف تفصيله، فإنّ الإسلام يكشف لنا عن أنّ النفس - هذه الطاقة المعيّنة - داخل أحدنا تقع في معرض التأثير لأُنفسٍ غير

١٧٥

منظورة...

منها إبليس، ومنها الغواسق، ومنها النفاثات، ومنها أنفُس الناس الشريرة، والأنفُس الحاسدة بشكل خاصّ، بل لا يبعد أن أجسادنا في رأي الإسلام واقعة في معرض التأثير لأنفُس وطاقات مادّية معيّنة...

والذي يحمينا من ذلك، أنفس أُخرى مقابلة، سخّرها الله لحمايتنا، قال عزّ وجلّ: ( وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ * إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ) 1 - 4 الطارق.

وقال عزّ وجلّ: ( سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ * لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ) 10 - 11 الرعد.

ويضاف إلى هذه الحماية التكوينيّة، الحماية التي يوفّرها الالتزام بالسلوك الإسلامي، والتي تتصاعد تبعاً لاستقامة هذا السلوك، قال الله عز وجل: ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ) 30 - 31 فصلت.

والصلاة باعتبارها ركناً من السلوك الإسلامي، لا بدّ وأن تكون ذات أثر في الحماية، والجهر الذي أوجبه الله تعالى في قراءة الصلوات الليليّة، يرجّح كذلك أن يكون له دور في توفير الحماية لأنفسنا، كما كان له دور في تطمينها.

أمّا النهار: فهو نشور مبصر، يملئ النفس بالحركة والأحداث، فكان المناسب أن تكون الصلاة فيه انسحاباً رفيقاً من الخِضمّ، وهمساً للنفس بحقائق الحياة، وتقديساً ودعاءً خفيّاً بين يدي الربّ تبارك وتعالى.

إنّ الملاحظة الدقيقة لظاهرة الليل، وآثارها الشعوريّة واللاشعوريّة علينا، وكذلك الملاحظة الدقيقة لامتلاء النفس من حركة النهار، تجعلنا ندرك بوجداننا شدّة الملائمة بين العتمة والجهر، وبين الضياء والإخفاء في تلاوة الصلاة؛ ولذلك فإنّ إدراك هذه الحكمة يعتمد على الحسّ الوجداني، الذي يتجلّى بالملاحظة.

* * *

والحكمة الثانية: أنّ الجهر والإخفاء يتّصلان بطبيعة الربّ المقدّس تبارك اسمه، فإنّه سبحانه: (...ناءٍ لا بمسافة، قريب لا بمُداناة... نأى في قُربه، وقُرب

١٧٦

في نأيه، فهو في نأيه قريب، وفي قُربه بعيد، كيّف الكيف فلا يقال: كيف! وأيّن الأين فلا يقال: أين!) الكافي ج1 ص138.

ففي الوقت الذي هو سبحانه أقرب إلينا من حبل الوريد،هو سامق العلوّ، بحيث يستحيل لعقولنا الإحاطة به، ومثل هذا القُرب والبعد في آنٍ، يتناسب معه الجهر والإخفاء في التقديس والدعاء (فالجهر بالصلاة، يناسب كونه تعالى عليّاً متعالياً، والإخفات، يناسب كونه قريباً أقرب من حبل الوريد، فاتّخاذ الخصلتين جميعاً في الصلاة، أداء لحقّ أسمائه جميعاً) تفسير الميزان ج13 ص241.

* * *

هذا ما ندركه من حكمة الجهر والإخفاء... ولئن كانت هاتان الحكمتان قابلتين للمناقشة، وللنقض بوجوب الإخفاء في تلاوة الركعتين الثالثة والرابعة من صلاتي المغرب والعشاء، وبالتخيير بنين الجهر والإخفاء في بقية أذكار الصلاة، وفي النوافل، وبتخيير المرأة في الصلوات الجهريّة، وباستحباب الجهر في البسملة وقراءة صلاة الظهر من يوم الجمعة...

أقول إذا كانت الحكمتان المتقدّمتان قابلتين للمناقشة بهذا، فإنّ ما لا يقبل المناقشة إنّ مستوى إدراكنا التشريعي لا يخلوّلنا مناقشة ما ثبت في الشريعة المقدّسة، تماماً كما لا تخوّلك معرفتك الطبيّة العامّة، أن تناقش في علاج أجمع الأطباء على ضرورته، على سعة الفارق بين الإدراك الطبّي المتيسّر للبشر، والإدراك التشريعي المختصّ بالله عزّ وجلّ.

إنّ التمييز بين صلوات الليل والنهار في درجة الصوت المطلوبة أمر ثابت على العموم، في الشريعة الإلهيّة المقدّسة، وكفى بذلك دليلاً على ضرورة هذا التمييز للنفس البشريّة، ولا فرق بين أن تكون هذه الضرورة ناشئة من الحكمتين اللتين رجحناهما، أو من حِكم أخرى علّمها الله عزّ وجلّ ولم نؤتَ عِلْمها...

١٧٧

قبول الصلاة

العمل الصالح

... فالحضارة الرأسماليّة : ترى أنّ كلّ عملٍ يحقّق مصلحة للمجتمع، ويساهم في تأكيد المظهر الخارجي، والاجتماعي للعلاقات بين الأفراد، وإقامتها على أساس من الحريّة والمنفعة المتبادلة، فهو عمل شريف جدير بالاحترام وفقاً لمدى توفّر هذه العناصر الخيّرة فيه.

وكلمّا كانت الثمار التي يؤتيها في الحقل الاجتماعي والحياتي العام أكثر، كان العمل أرفع قيمة، وأعظم مجداً في هذا الحساب الخُلقي، أي: إنّ العمل يقاس بمنافعه التي تنشأ عنه، لا بدوافعه النفسيّة التي ينشأ العمل نفسه عنها، وحينما طغى الاتجاه النفعي في الحضارة الرأسماليّة، أصبح بعد كلّ عملٍ يسير في هذا الاتجاه نبيلاً، حتى اعتبر رجل الأعمال محسناً،مهما كانت دوافعه الأنانيّة ومشاعره الخاصّة كما لاحظ بحقّ الدكتور أكلسيس كارل.

* * *

وأمّا الماركسيّة : فهي تتّفق مع هذا إلى حدّ ما، وتختلف عنه بعض الاختلاف، فكلّ عمل يحقّق مصلحةً، ومكسباً للطبقة الجديدة فهو عمل مجيد، ويساهم في تطوير التاريخ، وكلّ عمل يحقّق مصلحة الطبقة القديمة، ويعمّق وجودها الاجتماعي ويطيل فترة صراعها واحتضارها... فهو عمل رجعي دنيء، ما دام لا يتّفق مع الأهداف العليا التي تؤمن الماركسيّة بضرورة تحقيقها، وهي انتصار الطبقة الجديدة، وسحق الطبقة القديمة التي تعارض في زحف التاريخ إلى الأمام.

فالمصلحة، والمنفعة، الطبقيّة التي يحقّقها العمل هي المقياس الخُلقي

١٧٨

والأساس، في تسعير العمل من الناحية المعنويّة.

ولأجل ذلك؛ قال لينين كلمته المشهورة: (لا وجود عندنا للآداب المعتبرة فوق المجتمع، إنّها لأكذوبةٌ سافرة، فالآداب خاضعة عندنا لمنفعة نضال الطبقة العماليّة).

* * *

وأمّا الإسلام: فهو يختلف في دراسته للمسألة، وفي النظرة التي يتبنّاها عمّا مرّت بنا من نظرات، ومردّ هذا الاختلاف إلى الفروق الجوهريّة بين الأهداف العالية التي يرمي الإسلام إلى تحقيقها، ويستوحي منها مفاهيمه الخلقي، وبين الغايات المحدودة التي تستهدفها مجتمعات رأسماليّة ومادّية.

فالإسلام يهتمّ بدوافع العمل لا بمنافعه، ويرى أنّه يستمدّ قيمته من الدوافع لا من المنافع، فلا عمل إلاّ بنيّة، وما لم تتوفّر النيّة الصالحة لا يكون العمل صالحاً مهما كانت منافعه التي تنشأ عنه، لأنّ الإسلام لا ينظر إلى المظهر الخارجي للعلاقات الاجتماعيّة فحسب، ولا يعني بالجانب الموضوعي من التعايش الاجتماعي وحياة الناس فقط، إيماناً منه بأنّ هذا الجانب وذلك المظهر ليس إلاّ صورة عن حقيقةٍ أعمق وأخطر، تعيش في داخل الإنسان، وما لم يتمكّن المذهب من كسب تلك الحقيقة وتطويرها وصبّها في قالبها الخاصّ، لا يستطيع أن يمتلك القيادة الحقيقيّة في المجتمع.

وهكذا نجد : أنّ الإسلام يقيس قيمة الأعمال بالدوافع والمقدّمات، والإطارات الفكريّة العامّة، التي تختمر بذرة العمل ضمن نطاقها، بينما يقيس غيره قيمة الأعمال بالنتائج والمنافع، والمجالات الحياتيّة التي يساهم العمل في إصلاحها.

فالإطار الفكري للعمل الذي يقرّره الإسلام هو: الإيمان بالله واليوم الآخر.

والدوافع هي: العواطف والميول الخيّرة التي تنسجم مع هذا الإطار العام، وتندمج معه في وحدةٍ روحيّة، يتكون منها الإنسان المسلم.

والعمل الصالح هو: العمل الذي ينبثق عن هذه العواطف والميول ضمن

١٧٩

الإطار العام.

وبهذا يفتح الإسلام السبيل أمام أيّ فرد - مهما كانت إمكاناته وقدرته على النفع الاجتماعي، والعمل النافع - للارتقاء إلى أسمى درجة في سلّم النفس البشريّة، ومراحل كمالها، ويفرض على المجتمع أن يقيّم تقديراته للأشخاص، على مقدار ما تكشف عنه الأعمال من أرصدةٍ روحيّة ونفسيّة، لا على المظاهر الخلاّبة الخاوية مهما بدت عظيمة.

* * *

وقد يتبادر إلى بعض الأذهان، أن العُرف غير الإسلامي في تقدير الأعمال أكثر واقعيّة من العرف الإسلامي، الذي يقرّره القرآن؛ لأنّ المهمّ قبل كلّ شيءٍ، توفير مصالح المجتمع وحماية هذه المصالح، فكلّ عمل كان يواكب هذا الهدف فهو عمل مجيد من مصلحتنا جميعاً أن نقدّره ونمجّده؛ لنشجع على الإتيان بمثله.

وماذا يهمّنا - بعد أن نصل عن طريقة إلى مكاسب موضوعيّة - الدافع الذي يختفي وراءه، والظروف النفسيّة التي اكتنفت تصميم العامل على العمل؟!

إنّ الشيء الجدير بالتقدير حقّاً، هو أن يشيد الغني مدرسةً لأبنائنا؛ لأنّ هذا التقدير والإعجاب سوف يشجعه في عمله، فتتضاعف مكاسبنا، ولا يهمّنا أن يكون لهذا الغني طمع شخصي يدفعه، ما دام هذا الطمع يدفعه إلى فعل الخير وخدمة المجتمع.

ولكن نظرة سطحيّة كهذه - تقف عند ظواهر الأعمال ولا تغوص إلى الأعماق - تختلف مع طبيعة الرسالة الإسلاميّة من ناحية، ومع مفهوم الإسلام عن الارتباط الكامل بين العمل ورصيده الروحي والفكري، من ناحية أخرى.

فمن الناحية الأُولى: ليس الإسلام مجرّد تنظيم للسلوك الخارجي، وإنّما هو رسالة تهدف إلى صنع الإنسان قبل كلّ شيء، ومنحه الحياة الجديرة به: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) .

١٨٠