فلسفة الصلاة

فلسفة الصلاة0%

فلسفة الصلاة مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 257

فلسفة الصلاة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: علي الكوراني
تصنيف: الصفحات: 257
المشاهدات: 61848
تحميل: 8288

توضيحات:

فلسفة الصلاة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 257 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 61848 / تحميل: 8288
الحجم الحجم الحجم
فلسفة الصلاة

فلسفة الصلاة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فالإسلام يريد أن يعطي للإنسان حياة لا سلوكاً فحسب، ولا يمكن لرسالة هذه طبيعتها أن تترك المحتوى الداخلي للإنسان وتنظر إليه من مظهره الخارجي فحسب.

ومن الناحية الأُخرى: ينظر الإسلام إلى العمل بوصفه التعبير الخارجي عن الإطار الروحي، والجو الفكري الذي نمت فيه بذرة العمل، فلا يمكن أن يُجرّد عن طابع ذلك الإطار، ومزاج ذلك الجو، ولا يُنكر الإسلام بطبيعة الحال: أنّ العمل الذي ينشأ عن إطارات وفي أجواء فكريّة وروحيّة غير صالحة قد يكون عملاً مفيداً ونافعاً، بالرغم من كونه عملاً ناشئاً عن طمع شخصي أو غرض خبيث...

ولكنّنا إذا سمحنا لتلك الإطارات والأجواء غير الصالحة أن تنمو وتترعرع، في ظلّ قيم ومقاييس خُلقيّة كهذه التي تسود العرف غير الإسلامي... فمن يضمن لنا أنّها سوف تدفع الفرد إلى العمل المفيد والنافع دائماً؟! وكيف يمكن أن نترقّب حينئذٍ هذا العمل المفيد والنافع، إذا كان يتعارض مع مصالح الفرد الخاصّة وأغراضه العاجلة؟!

وهكذا تعرف أن ربط العمل بالمحتوى الداخلي هو الطريقة الواقعيّة التي تضمن استمرار العمل المفيد وتنميته والتشجيع عليه.

مقتبس من مقالة لشهيد الإسلام السيد محمد باقر الصدر (قدّس سرّه) - مجلة الأضواء - العدد السابع - السنة الثانية - 1382.

العمل المقبول:

في عدّة نصوص من القرآن الكريم والسنّة الشريفة، ورد وصف العمل بالقبول من الله عزّ وجلّ، أو بعدم القبول.

والعمل المقبول هو: العمل الصالح، أو العمل الكامل الصلاحية.

قال عزّ وجلّ: ( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) 27 - المائدة.

وقال عزّ وجلّ: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا... ) 16 - الأحقاف.

١٨١

وقال عزّ وجلّ: ( قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ ) 53 - التوبة.

وقال عز وجل: ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ... ) 85 - آل عمران.

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (والله إنّه ليأتي على الرجل خمسون سنة وما قِبَل الله منه صلاة واحدة، فأيّ شيءٍ أشدّ من هذا؟! والله إنّكم لتعرفون من جيرانكم وأصحابكم، من لو كان يصلّي لبعضكم ما قبلها منه، لاستخفافه بها، إنّ الله لا يقبل إلاّ الحسن، فكيف يقبل ما يُستخف به؟!) الوسائل ج3 ص15.

وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (إنّ العبد ليُرفع له من صلاته نصفها، أو ثلثها، أو ربعها، أو خمسها، فما يُرفع له إلاّ ما يُقبِل عليها منها بقلبه...) الوسائل ج3 ص52.

وما دامت قيمة العمل بنظر الإسلام تابعة للمحتوى النفسي الذي وراءه، كما نصّت القاعدة الشريفة: (إنّما الأعمال بالنيّات، ولكلّ امرئٍ ما نوى)، فإنّ الأعمال الصالحة والمقبولة تتفاوت بدرجات كثيرة.

* فقد يكون الدافع بكلّه صالحاً، وقد يكون مركّباً من عناصر صالحة وأُخرى سيّئة.

* وقد تكون صلاحيّة الدافع أو الدوافع بدرجة ضعيفة أو قويّة، فيكتسب العمل هذه الدرجة.

* وبما أنّ المحتوى النفسي للإنسان متفاعل ككلّ، فإنّ الدافع يرتبط ويتأثّر بمجموع المحتوى النفسي أيضاً، فحاله كحال الدرجة على مادّة تتأثّر قيمتها في النتيجة بدرجات بقيّة الموادّ، أو كدرجة الامتحان في فصل تتأثّر بالنهاية بدرجات بقيّة الامتحانات.

ولذلك وغيره؛ فإنّ التقييم الصحيح والدقيق لصلاح أعمال الإنسان وقبولها، يختصّ بالعليم بذات الصدور تبارك وتعالى، ولا نملك نحن البشر إلاّ

١٨٢

المقياس الظاهري والعامّ لذلك.

( مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ ) 52 - الأنعام.

نعم يستطيع أحدنا أن يعرف دوافعه ويقيم أعماله بشكل عام، خاصّة السيئ فيها: ( بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ) .

* * *

وعلى ضوء تقييم الإسلام لصلاحية الأعمال الإنسانية وقبولها، وضع شروطاً تعود بالنتيجة إلى المضمون النفسي، والنيّة الدافعة إلى العمل... منها شروط عامّة لكلّ الأعمال، كالإيمان والتقوى، وشروط خاصّة ببعض الأعمال.

وتختلف الشروط الخاصّة من عمل إلى آخر، وغرضنا منها شروط قبول الصلاة، وقد عثرتُ منها على ما يلي:

1 - أداء الزكاة : فعن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: (إنّ الله عزّ وجلّ أمر بثلاثة مقرونٌ بها ثلاثة أخرى: أمر بالصلاة والزكاة، فمن صلّى ولم يزكِّ، لم تقبل منه صلاته...) الخصال - 15.

ويُقصد بالزكاة: الضريبة الماليّة التي أوجبتها الشريعة على الإنتاج أو الفائض السنوي.

2 - عدم شرب الخمر: فعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (من شَرِب الخمر فسكر منها، لم تُقبل صلاته أربعين يوماً...) الخصال - 534.

3 - عدم الظلم : فقد ورد أنّ من تعدّى على حقوق الآخرين، لم تقبل صلاته، كالحاكم الجائر، والمرأة الناشز دون عذر. الخصال - 242.

4 - الإقبال في أداء الصلاة : فعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (إنّ العبد ليُرفع له من صلاته نصفها، أو ثلثها، أو ربعها، أو خمسها، فما يُرفع له إلاّ ما يقبل عليه منها بقلبه...) الوسائل ج3 ص52.

هذا وأُرجّح وجود شروط أخرى في الشرعيّة لقبول الصلاة، ولكنّ

١٨٣

استقصائها يحتاج إلى تتبّع في مصادر السنّة الشريفة.

وأوثق هذه الشروط علاقة بالصلاة: شرط الإقبال، ويُقصد به الانتباه إلى الصلاة حال أدائها، أي: التركيز الذهني على أفعالها وتلاواتها، ويعبّر عن هذه الحالة بالتوجّه والالتفات، في مقابل سهو القلب وانشغاله بغير الصلاة، ولكنّ التعبير بالإقبال بالقلب - الذي عبّر به المعصومون عليهم السلام - يبقى أصحّ من تعبير التركيز والتوجّه والالتفات.

لأنّه يشمل التركيز العقلي والشعوري في آنٍ واحد، فإنّ (القلب) يستعمل في القرآن الكريم والسنّة الشريفة للقوّة الجامعة بين العقل والشعور.

والإقبال بالقلب إلى الصلاة، أعمّ من الخشوع الذي ذكره الله عزّ وجلّ في قوله: ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ ) .

لأنّ الخشوع حالة رقّةٍ وانفعال في العقل والشعور، قد تنتج عن الإقبال وقد لا تنتج، فيكون الحدّ الأدنى للقبول هو مجرّد الإقبال على الصلاة، وإن لم يثمر الخشوع؛ بسبب غِلظة المشاعر أو ضعف التركيز، أمّا المديح في النصّ القرآني الشريف فهو الانتباه الكامل، الذي يُثمر حالة الخشوع.

وينبغي الالتفات إلى أنّ؛ الإقبال المطلوب إسلاميّاً في الصلاة هو: الإقبال على الصلاة، وليس على الله عزّ وجلّ، والفرق بين الأمرين واضح، فإنّ الإقبال على الله يعني الشعور بحالة الحضور والمناجاة، التي هي حالة الدعاء.

بينما الإقبال على الصلاة يعني: الإقبال على هذه العمليّة بطبيعتها ومحتواها... صحيح أنّ طبيعة الصلاة نحوٌ من الحضور بين يدي الله عزّ وجلّ، وأنّ محتواها يتضمّن شيئاً من الدعاء، والتكلّم مع الله عزّ وجلّ، ولكن مرّ معك في تلاوات الصلاة؛ أنّ الطبيعة الغالبة في الصلاة هي تقرير الحقائق مع النفس بين يدي الله عزّ وجلّ، فالإقبال على الصلاة الذي هو شرط القبول لا بدّ أن يكون إقبالاً على هذا العمل كما هو في طبيعته...

أمّا إذا جعل المصلّي صلاته خطاباً لله تعالى، وأغفل ناحية تقرير الحقائق على نفسه، فقد حوّل الصلاة عن طبيعتها... ولكنّ ذلك لا يمنع من مزيد التركيز على الحضور والمثول بين يدي الله، والشعور به عزّ وجلّ مع الحفاظ على

١٨٤

أسلوب التقرير التربوي السائد في الصلاة.

كما ينبغي الالتفات أيضاً إلى، أنّ الإقبال المطلوب في الصلاة هو: انتباه منطقي مسترسل، يُثمر ألواناً من المشاعر الواضحة الواعية، وليس توجّهاً مبهماً يثمر مشاعر غامضة...

والفرق بين هذين اللونين من الإقبال واضح أيضاً؛ فالإقبال المُبهم يعني: أنّ المصلّي يعتصر نفسه، فيكوّن حالة شعوريّة معيّنة نحو الله، أو نحو الصلاة، ثمّ يواصل إجبار نفسه على عيش أفعال الصلاة، وحقائقها بهذه الحالة الشعوريّة... فيكون بالحقيقة قد اصطنع في نفسه تأثيراً مسبقاً وافترضه للصلاة، ثمّ واصل الضغط على أعصابه في أثناء الصلاة؛ ليحتفظ بما اصطنع وينسبه إلى الصلاة.

أمّا الإقبال المنطقي المنفتح فيعني: ممارسة المصلّي لأفعال الصلاة وتلاواتها بوعيٍ وترسّل، بحيث يتركها تؤثّر أثرها وتُملي ثمارها على عقله وشعوره، فيكون مَثله مَثل الذي يدخل بوعي وبساطة إلى واحةٍ غنيّة من الطبيعة، ويدعها تؤثّر في نفسه.

* * *

أمّا كيف نحصل على الإقبال المطلوب في الصلاة، فإنّ ذلك يتوقّف على أمور ثلاثة:

*الأوّل

الجديّة العامّة في السلوك : ونقصد بها الانتباه والتركيز على أفعالنا اليوميّة التي نقوم بها، فإنّ حالة الناس الفكريّة والنفسيّة لدى ممارستهم أعمالهم اليومية تختلف...

فمنهم من يمارس أعماله بقدرٍ قليل من التركيز، بسبب إنشداد أفكاره ومشاعره إلى أمر آخر غير ما يقوم به، أو بسبب تشتت أفكاره ومشاعره وتشوشها، ومنهم من يركّز ذهنه ومشاعره على كلّ عمل يقوم به... وتستطيع أن تلاحظ ذلك بيسر في نفسك ومن حولك.

إنّ التركيز في النشاط الإنساني مسألة بالغة الأهميّة، لشدّة انعكاسها على شخصيّة الإنسان وسلوكه، حيويّة وجديّة واتقاناً، واتّساقاً، وإنّ الشخصيات الناجحة هي التي تملك قدراً كبيراً من التركيز على أعمالها.

ومهما تكن تشعبات الفكر والشعور الإنساني واسعة، ومهما يكن ضغط

١٨٥

المؤثّرات الفكريّة، والعاطفيّة المختلفة شديداً، فإنّ باستطاعة الإنسان أن يربّي نفسه على التركيز ويؤصّله فيها، حتى تصبح الحيويّة والمنطقيّة طابعاً لشخصيته، وما يصدر عنها من عمل صغير أو كبير.

والصلاة ، لمّا كانت واحداً من الأعمال التي يقوم بها الإنسان، كان الإقبال عليها خاضعاً لحالة التركيز والإقبال القلبي، الذي يتمتّع به المصلّي في شخصيّته وسلوكه العام...

ولذلك نجد الأنبياء والأئمّة وكبار المؤمنين (عليهم السلام)، يتوفّرون في صلاتهم على درجات عجيبة من الإقبال والخشوع؛ ببركة الجديّة العامّة، والحيويّة الدائمة، التي وهبهم الله إيّاها من التربّي بمنهجه القويم.

*الثاني

فَهْم الصلاة : فبمقدار ما يملك الإنسان من وعي الصلاة، لأفعالها وتلاواتها، ووعي لموقعها من حياته، يكون نصيبه من الإقبال عليها والإفادة منها، وهكذا يخضع التربّي بالصلاة لدرجة فهم الإنسان لحقائق ارتباط الإنسان في صدوره وسلوكه بالله تبارك وتعالى.

فإذا توفّر للإنسان قدر من الجدّ العامّ في سلوكه، وقدر من الوعي للصلاة وموقعها من حياته، لم يبق عليه إلاّ العزم عند البدء في الصلاة، والانتباه إلى دخوله في حرمها المقدّس الجميل...

وهذا هو الأمر الثالث: الذي يتمّ به الإقبال على الصلاة.

إنّ الإقبال بالقلب على الصلاة حالة فكريّة، وشعوريّة تتفاوت كمالاً ونقصاً، نتيجة للعوامل الثلاثة المتقدّمة، ولكنّ الأهمّ من ذلك أنّها تختلف فينا وجوداً وعدماً، بين يوم ويوم وصلاة، بل وفي الصلاة الواحدة، والركعة الواحدة.!

وعلنيا إذا ابتلينا بفقدان الإقبال على الصلاة، أو ابتلينا بسرح القلب بين حين وحين في أثناء الصلاة، أن لا يشكّل ذلك في أنفسنا ألماً ولا يأساً.

فهذه طبيعة القلب البشري، وهو يقطع الأيّام والسنين بين المؤثّرات المختلفة المتكثّرة، فهو يمتلئ منها ويتأثّر بها،ولكنّ الممارسة والمثابرة على إعارة القلب - كلمّا وقع فريسة للضواغط، أو سرح عن حقل الصلاة - تعيد حالة الإقبال المباركة وترسخّها، ومن الأمور النافعة للعودة بالقلب إلى الصلاة؛ أن تسكت هُنَيْهة أثناء

١٨٦

الصلاة، ثمّ تستأنف أجزاءها بإقبال جديد.

ومن الأمور النافعة في مختلف الظروف، أن تعطيَ إقبالك على الصلاة صبغةَ الحالةَ التي تعيشها وتتأثّر بها، إنّه لا بأس إذا كان التأثّر الذي نعيشه منطقيّاً، أن نطبع به إقبالنا على الصلاة، فيكون في حينٍ إقبالاً فرحاً؛ نتيجة لفرح نعيشه، وفي حين إقبالاً حزيناً؛ بسبب ألم نعيشه، أو نطبعه بأيّ حالةٍ منطقيّة تطفح على قلبنا.

إنّ إعطاء الإقبال الطابع الفعلي المُعاش لنا، لا ييسّر علينا الحصول على الإقبال فحسب؛ بل ويعوّدنا على التربّي بالصلاة في حالات، فرحِنا، وحزنِنا، وحبّنا، وبغضنا، وخوفنا، ورجائنا... الخ.

وسنجد للصلاة في هذه الحالات طعوماً جديدة ومردوداً بالغاً.

ويظهر من نصوص السيرة الشريفة، أنّ إقبال النبي: (صلّى الله عليه وآله وسلم) على صلاته، كان يأخذ طابع حالته النفسيّة الشريفة، وكذلك الأئمّة الأبرار (عليهم السلام).

١٨٧

النوافل

النافلة في اللغة : العطية، والهبة، والزيادة، وقد سمّيت الصلاة المستحبّة نافلة؛ لأنّها صلاة زائدة على الفريضة، يتطوّع بها المسلم تقرّباً إلى الله عزّ وجلّ.

وفي نصوص الإسلام في الصلوات النوافل تستوقفنا هذه الأمور:

1- دعوة هذه النصوص المؤكّدة إلى الإكثار من الصلاة.

2 - كثرة هذه النصوص وتفصيلها لأنواع النوافل، وأوقاتها، وأحكامها، حتى لتضاهي النصوص الواردة في الفرائض.

3 - نجد من خلال نصوص النوافل، أنّ الإكثار من الصلاة كان سلوكاً سائداً متّبعاً لدى فئات المؤمنين، المعاصرين للنبي والأئمّة الأطهار (عليهم السلام)، حتى إنّهم كانوا يقضون ما ربّما يفوتهم منها، وكان بعضهم يخشى الإثم من فوت النوافل، فيتوجّه مشفقاً بالسؤال إلى الرسول والأئمّة (عليهم السلام). الوسائل ج3 ص49 - 50.

4 - أهمّ النوافل التي حثّ عليها الإسلام، (النوافل الراتبة) اليوميّة، التي تبلغ أربعاً وثلاثين ركعة موزّعة قبل الفرائص الخَمس أو بعدها، وبضمنها نافلة الليل قبل الفجر، إحدى عشر ركعة وهي: أهمّها على الإطلاق...

ثمّ تليها نوافل المناسبات وأهمّها نافلة شهر رمضان، ونافلة أوّل الشهر، ويوم الجمعة، والأعياد... ثمّ تلِيها النوافل المطلقة، حيث ورد أنّ: (الصلاة خيرُ موضوع، فمن شاء استقلّ ومن شآء استكثر)، وأنّ: (الصلاة قُربان كلّ تقي)، وأن: أفضل عمل بعد المعرفة هو الصلاة، كما سيمرّ بك.

١٨٨

الإكثار من الصلاة

أذاً ؛ بالإضافة إلى الفرائض اليوميّة التي تبلغ سبع عشرة ركعة، ويستغرق أداؤها قرابة الساعة، يدعوا الإسلام إلى التطوّع بالنوافل اليوميّة التي تبلغ أربعاً وثلاثين ركعة، ويستغرق أداؤها قرابة الساعتين...

والسؤال: إنّ الثلاث ساعات وقت كثير، أفلا يؤثّر صرفها في الصلاة على هدف إعمار الأرض، وإقامة الحياة السعيدة فيها؟

قد تجيب: بأنّ الإسلام لم يُلزم الناس بالنوافل، فباستطاعة الإنسان أن يقتصر على الفريضة، ويكون إنساناً مقبولاً في نظر الإسلام، غير إنّ الدعوة المؤكّدة إلى النوافل تعني: أنّ الإسلام يفضّل للإنسان أن يقضي من يومه ساعتين أو ثلاثاً في الصلاة... فكيف نفسّر حرص الإسلام على العمل الجادّ في إعمار الأرض، وبناء الحياة، ودعوته الحارّة إلى الإكثار من الصلاة؟

أوّلاً: علنيا أن نعرف الأوقات التي حدّدها الإسلام للنوافل، فإنّ ذلك يعطينا صورة للنشاط اليومي في رأيه.

إنّ صلاة النافلة لا تشرع من بعد صلاة الفجر إلى الظهر، ولا من بعد صلاة العصر إلى المغرب، ولا من بعد صلاة العشاء إلى منتصف الليل.

عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، لا يصلّي من النهار شيئاً حتى تزول الشمس...) الوسائل ج3 ص168.

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا صلّى العشاء الآخرة، آوى إلى فراشه، فلا يصلّي شيئاً إلاّ بعد انتصاف الليل، لا في شهر رمضان ولا في غيره) الوسائل ج3 ص180.

وعنه (عليه السلام) قال: (لا صلاة بعد العصر، حتى تصلّي المغرب...) الوسائل ج3 ص171.

وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): صلاة الضحى بدعة)، (...إنّ عليّاً (عليه السلام) مرّ على رجل وهو يصلّيها، فقال علي (عليه السلام): ما هذه

١٨٩

الصلاة؟ فقال: أدعها يا أمير المؤمنين؟ فقال: (عليه السلام) أكون أنهى عبداً إذا صلّى؟..) وقد علّق الإمام الصادق (عليه السلام) على هذه الحادثة بقوله: (وكفى بإنكار عليّ (عليه السلام) نهياً) الوسائل ج3 ص74 - 75.

فقد استثنى الإسلام إذاً الأوقات اللاّزمة للعمل وللراحة، ووزّع الوقت الذي دعا فيه إلى النوافل على ثلاث فترات: قُبيل الفجر، وقبيل الغداء، وقبيل العشاء... وكفى بذلك حسما للشبهة والتقوّل.

ثانياً: إنّ ساعة النوافل التي دعا إليها الإسلام، أو الساعتين، ليست بعيدة عن نشاط الناس في إقامة حياتهم.

فنحن نعرف أنّ إنتاج الإنسان خاضع لطاقته النفسيّة والجسديّة، ونميّز بين الإنسان الغني في حوافزه النفسيّة وقوّته الجسديّة، وبين الفقير في ذلك، ونعرف إنّ ساعة من العمل الإنساني قد تعدل عشر ساعات؛ بسبب هذا التفاوت في الطاقة الإنتاجيّة للإنسان.

فلو أنّ أحداً دعا الناس إلى توفير ساعتين من نومهم من أجل التقدّم في إعمار الأرض وإغناء الحياة، لاعتبرناها دعوة خاطئة؛ لأنّ الاكتفاء بالنوم اللاّزم ينعكس على الإنتاج الإنساني نشاطاً، وجوده بينما ينعكس نقص النوم شللاً على الإنتاج ورداءة.

وصلاة النافلة في رأي الإسلام، لا تقلّ تأثيراً في جودة الإنتاج وارتفاعه، عن راحة النوم اللاّزمة، كما لا يقلّ فقدانها خسارة عن نقص النوم... غاية الأمر أنّ علاقة النوم بالإنتاج يدركها كلّ الناس، وعلاقة الصلاة بالإنتاج يدركها الواعون من الناس.

إنّ فترات النوافل التي دعا إليها الإسلام تنعكس حيويّة وجديّة على النشاط اليومي للناس، وتشكّل عاملاً إيجابيّاً في إعمار الأرض وإقامة السعادة فيها... ذلك إنّ الصلاة تستمدّ قيمتها - في رأي الإسلام - من إعطائها الرؤية والطاقة للناس في حياتهم وأهدافهم، ومن هنا كانت روح العمل، وخير العمل...

١٩٠

وثالثاً: لو افترضنا أنّ الصلاة النافلة لا تنعكس طاقةً على حركة الحياة، وأنّ فائدتها تنحصر في الآخرة... فإنّا نسأل الذين يستكثرون على الإنسان أن يقضي ساعتين من يومه في الصلاة: هل هم مشفقون على وقت الإنسان وجهده حقّاً؟ وكيف يقضون هم أوقاتهم، وفي سبيل ماذا ينفقون طاقاتهم؟

أنظر إلى المساحة العريضة من الناس لتجد رخْص الأهداف، وقتل الأوقات، وهدر الثروات والطاقات! لتجد القوى المجنّدة، والأعمار المسخّرة للبطالة، والعبث، والإفساد في الأرض!... أفكلّ هذا الإسراف لا يؤثّر على مهمّة الإنسان في إعمار الأرض وإغناء الحياة، وساعة أو ساعتين في مدرسة الصلاة تعدّ إسرافاً! أيّ منطق هذا؟

إنّ على أحدنا حينما يسترخص النوافل، ويقلّل من أهميّة الإكثار من الصلاة أن ينظر إلى أوقاته هل ينفقها في ما هو أكثر أثراً في شخصيّته وحياته من الصلاة؟

إنّ المسألة ليست الحرص على الوقت والجهد والأهداف، بقدر ما هي الاستعمار الذهني، والحجاب النفسي عن رؤية الإسلام وصلاته.

كيف يصبح قلب من يكثُر الصّلاة

اليوم الذي توفّق فيه لشيءٍ من النوافل بإقبال، يمتاز عن سائر أيّامنا بالحيويّة والعطاء، ذلك أنّ النوافل تملئ القلب بالإحساس بالله، والوثوق في السلوك والاطمئنان إلى الحياة وما فيها...

من هذه الأيّام الغنيّة في حياتنا، ومن معرفة النماذج التي نؤدّي النوافل دائماً، نستطيع أن ندرك ثراء القلوب المكثرة من الصلاة.

أعرفُ شابّاً متوسّطاً في وعيه وذكائه، ألقى الله في قلبه حبّ الصلاة، فأخذ يؤدّي فرائضه بوعي، ثمّ أخذ يؤدّي النوافل ما عدا نافلتي الظهر والعصر، ولم تمض مدّة حتى ظهر عطاء النوافل في هذا المسلم... لقد مزجته الصلاة، بالنور حتى تبلورت قسماته وتفتّح ذهنه وأطمأنّ قلبه، أصبح يستوعب ما يقرأ، ويجيد

١٩١

أن يفكر، ويؤثّر حينما يتكلّم... ولم أجد سبباً لهذا التكامل؛ إلاّ أن الإكثار من الصلاة أعطاه لفحاً باطنيّاً انعكس على قسماته وحياته.

والمؤمنون الواعون في التاريخ وفي عصرنا، الذين تتميّز قلوبهم ونتاجهم بالنبوغ، الذين توحي إليك قسماتهم وحديثهم بالاطمئنان... تفحّص عن عوامل تكوين شخصيّاتهم؛ لتجد أنّ من أهمّها كثرة الصلاة.

والمتانة والحيويّة والحرارة الطمأنينة والحنان الغامر... هذا التميّز الذي نراه في سلوك الأنبياء والأئمّة (عليهم السلام)، إنّما جاء في عقيدتي من لَفْح الباطن، من جذوة النور التي يؤجّجونها في أنفسهم الشريفة على عين الله... وهذه الجذوة المتّقدة مدانة فيما هي مدانة للإكثار من الصلاة.

صحيح أنّهم (عليهم السلام) يأخذون من يومهم ساعات يمضونها في الصلاة، ولكنّهم يأخذون من الصلاة لساعات عملهم طاقةً تجعلها أضعافاً مضاعفة، فهم بالإكثار من الصلاة يضيفون إلى يومهم أيّاماً، وإلى عمرهم أعماراً، ويطبعون نتاجهم بالنور والبركة والخلود.

عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال في صفة صلاة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم):

(كان (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يُؤتى بطهور، فيُخْمر عند رأسه - أي يغطّي الإناء - بخُمرة - قطعة قماش أو خوص - ويوضع سواكه تحت فراشه، ثمّ ينام ما شآء الله، فإذا استيقظ جلس، ثمّ قلّب بصره في السماء، ثمّ تلا الآيات من آل عمران:

( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُِولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ) .

ثمّ يستنّ - أي يغسل ويتطهّر - ثمّ يقوم إلى المسجد فيركع أربع ركعات، على قدر قراءة ركوعه وسجوده، على قدر ركوعه، يركع حتى يقال: متى يرفع رأسه؟! ويسجد حتى يقال: متى يرفع رأسه؟! ثمّ يعود إلى فراشه،

١٩٢

فينام ما شاء الله.

ثمّ يستيقظ فيجلس فيتلوا الآيات من (آل عمران)، ويقلّب بصره في السماء، ثمّ يستنُّ ويتطهّر ويقوم إلى المسجد ويصلّي الأربع ركعات كما ركع قبل ذلك.

ثمّ يعود إلى فراشه فينام ما شاء الله، ثمّ يستيقظ ويجلس فيتلوا الآيات من (آل عمران)، ويقلّب بصره في السماء، ثمّ يستنُّ ويتطهّر، ويقوم إلى المسجد فيوتر ويصلّي الركعتين - أي يصلّي ركعات الوتر الثلاث، ثمّ يصلّي الركعتين نافلة الصبح - ، ثمّ يخرج إلى الصلاة) الوسائل ج5 ص263.

وعنه (عليه السلام) قال: (ما يمنع أحدكم إذا دخل عليه غمّ من غموم الدنيا أن يتوضّأ، ثمّ يدخل المسجد فيركع ركعتين يدعوا الله فيهما، أما سمعت الله يقول: ( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ ) ) الوسائل ج5 ص263.

وعن الحسن بن محمد بن الديلمي رحمه الله قال: (كان علي (عليه السلام) يوماً في حرب صِفّين مشتغلاً بالحرب والقتال، وهو مع ذلك بين الصفّيْن يراقب الشمس، فقال له ابن عباس: يا أمير المؤمنين ما هذا الفعل؟! قال: (عليه السلام)، انظر إلى الزوال حتى نصلّي، فقال له ابن عباس: وهل هذا وقت الصلاة؟! أنّ عندنا لشغلاً بالقتال عن الصلاة، فقال (عليه السلام): فعلى مَ نقاتلهم!... ولم يترك (عليه السلام) صلاة الليل قطّ، حتى ليلة الهرير). - الوسائل ج3 ص179.

وهي ليلة مشهورة في حرب صفين، استمرّ فيها القتال حتى الصباح.

وعن أحمد بن علي الأنصاري قال: سمعت رجاء بن أبي الضّحاك يقول: (بعثني المأمون في إشخاص علي بن موسى الرضا (عليه السلام) من المدينة، وقد أمرني أن آخذ به على طريق البصرة والأهواز وفارس، ولا آخذ به على طريق قم، وأمرني أن أحفظه بنفسي بالليل والنهار، حتى أقْدِم به عليه، فكنت معه من المدينة إلى مرو، فوالله ما رأيت رجلاً كان أتقى لله تعالى منه، ولا أكثر ذكراً لله في جميع أوقاته...

وكان إذا أصبح صلّى الغداة، فإذا سلّم جلس في مصلاّه، يسبّح الله ويحمده، ويكبره ويهلّله، ويصلّي على النبي (صلّى الله عليه وآله) حتى تطلع الشمس...

فإذا زالت الشمس قام فصلّى ستّ ركعات... ثمّ يؤذّن ويصلّي ركعتين، ثمّ يقيم ويصلّي الظهر، فإذا سلّم، سبّح الله وحمده، وكبّره وهلّله ما شاء الله،

١٩٣

ثمّ سجد سجدة الشكر، يقول فيها مئة مرّة: شكراً لله، فإذا رفع رأسه، قام فصلّى ستّ ركعات... ثمّ يؤذّن، ثمّ يصلّي ركعتين... فإذا سلّم، أقام وصلّى العصر، فإذا سلّم، جلس في مصلاّه يسبّح الله ويكبّره، ويحمده ويهلّله، ما شاء الله...

فإذا غابت الشمس، توضأ وصلّى المغرب... ويصلّي أربع ركعات... ثمّ يجلس بعد التسليم في التعقيب ما شاء الله... ثمّ يقوم فيصلّي العشاء الآخرة... فإذا سلّم، جلس في مصلاّه يذكر الله... ما شاء الله...

...فإذا كان الثلث الأخير من الليل، قام من فراشه بالتسبيح والتحميد، والتكبير والتهليل والاستغفار، فإستاك، ثم توضأ، ثمّ قام إلى صلاة الليل... ثمّ يصلّي صلاة جعفر بن أبي طالب - صلاة علّمه إيّاها الرسول فعرفت باسمه - ...فإذا قرب من الفجر، قام فصلّى ركعتي الفجر... فإذا طلع الفجر، أذّن وأقام وصلّى الغداة ركعتين...

وكان إذا أقام في بلدةٍ عشرة أيّام صائماً لا يفطر، فإذا جنّ الليل بدأ بالصلاة قبل الإفطار... وما رأيته صلّى الضحى في سفرٍ ولا حضر...

...وكان يكثر بالليل في فراشه تلاوة القرآن، فإذا مرّ بآية فيها ذكر جنّة أو نار بكى، وسأل الله الجنة وتعوّذ بالله من النار... وإذا قرأ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) ، قال: لبيك اللهمّ لبيك، سرّاً...

وكان لا ينزل بلداً إلاّ قصده الناس، يستفتونه في معالم دينهم، فيجيبهم ويحدثهم ).

مقتطف من عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ص178 - 182).

إنّ الأنبياء والأئمّة وكبار المؤمنين (عليهم السلام)، ما هزّوا العقل والوجدان البشري من الأعماق، ولا شقّوا الطريق للِهدْي الإلهي في حياة الناس برغم كلّ الصعاب... إلاّ لأنّهم كانوا يعيشون قضيّة الله عزّ وجلّ مع عباده، ويتربّون بين يديه ساعات كلّ يوم.

ونحن الذين ندعوا شعوب الأرض إلى الإسلام، ونجابهَ طغاة حَجبوا عن عباد الله رؤية ربّهم وطريقهم، ونعالج أُمّة طال عليها الأمد فقست

١٩٤

قلوبها، وطال عليها الانغلاب فاستعظمت أعداءها... لا بدّ لنا أن نتربّى باستمرار بين يدي صاحب الإسلام عزّ وجلّ.

لا بدّ لنا أن نعيش دائماً قضيّة دعوتنا ومراحل مسيرتنا برؤية واضحة، وشخصيّة واثقة، وخطىً ثابتة، وجهود مضاعفة... ومن أهمّ الأسباب التي جعلها الله عزّ وجلّ لذلك؛ الصلاة الدائمة الواعية.

من نصوص النوافل

في صلاة الليل

قال الله عزّ وجلّ: ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) 78 - 79 الإسراء.

( إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً ) 7 - المزّمّل.

( كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) 17 - 18 الذاريات

أي قليلاً من الليالي ما ينامون عن صلاة الليل.

( أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ ) 9 - الزمر.

( وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ) 49 - الطور.

( وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ) 114 - هود.

وعن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال لجبرائيل (عليه السلام): (عظني، فقال: يا محمد عِشْ ما شئت فإنّك ميّت، وأحبب ما شئت فإنّك مفارقه، واعمل ما شئت فإنّك ملاقيه، واعلم أنّ شرف المؤمن صلاته بالليل، وعزّه كفّ الأذى عن

١٩٥

الناس) الوسائل ج3 ص273.

وعنه (صلّى الله عليه وآله) قال: (الركعتان في جوف الليل، أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها) الوسائل ج3 ص276.

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (عليكم بصلاة الليل فإنّها سنّة نبيّكم، ودأب الصالحين قبلكم، ومطردةُ الداء عن أجسادكم) الوسائل ج3 ص271.

( ( الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) ، وثمان ركعات من آخر الليل زينة الآخرة، وقد يجمعهما الله لأقوام) الوسائل ج3 ص276.

(ما من عملٍ حسن يعمله العبد إلاّ وله ثواب في القرآن، إلاّ صلاة الليل، فإنّ الله لم يبيّن ثوابها لعظيم خطره عنده، فقال: ( تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ) الوسائل ج5 ص280.

في النوافل عموماً

عن النبي (صلّى الله عليه وآله) قال: (إذا قام العبد المؤمن في صلاته، نظر الله عزّ وجلّ إليه، [أو قال: أقبل الله عليه حتى ينصرف]، وأظلّته الرحمة من فوق رأسه إلى أفق السماء، والملائكة تحفّه من حوله إلى أفق السماء، ووكّل الله به ملكاً قائماً على رأسه يقول له: يا أيّها المصلّي لو تعلم من ينظر إليك، ومن تناجي ما التفتّ ولا زِلت عن موضعك أبداً؟!) الوسائل ج3 ص21.

وعن معاوية بن وهب قال: سألت أبا عبد الله الصادق (عليه السلام)، عن أفضل ما يتقرّب به العباد إلى ربّهم، وأحبّ ذلك إلى الله عزّ وجلّ ما هو؟ فقال: (ما أعلم شيئاً بعد المعرفة، أفضل من هذه الصلاة!...) الوسائل ج3 ص25.

وعن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: (الصلاة قُربان كلّ تقيّ) الوسائل ج3 ص30.

١٩٦

وعنه (عليه السلام) قال: (صلاة النوافل قُربان كلّ مؤمن) الوسائل 3 ص54.

وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (أتى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم رجل فقال: أدع الله أن يدخلني الجنّة، فقال (صلّى الله عليه وآله وسلم) له: أعنّي بكثرة السجود) الوسائل ج3 ص75.

* * *

وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (كلّ سهوٍ في الصلاة يطرح منها، غير أنّ الله يتمّ بالنوافل) الوسائل ج3 ص53.

وعنه (عليه السلام) قال: (إنّما جعلت النافلة؛ ليتمّ بها ما يفسد من الفريضة) الوسائل ج3 ص54.

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (...وإنّما أُمرنا بالسنّة؛ ليكمل بها ما ذهب من المكتوبة) الوسائل ج3 ص52.

* * *

وعن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال: (إنّ للقلوب إقبالاً وإدباراً، فإذا أقبلت فتنفّلوا، وإذا أدبرت فعليكم بالفريضة) الوسائل ج3 ص50.

* * *

١٩٧

الفصل الرابع

المُعطيات العامّة مِن الصّلاة

* المُعطى العقلي من الصّلاة

* المُعطى النفسي

* المُعطى الاجتماعي

* المُعطى الصحي

١٩٨

وقفنا في الفصول السابقة على الكثير الوفير من عطاء الصلاة، وآثارها في شخصيّتنا وحياتنا، وقد بقي الكثير الوفير من عطاء هذه العملية التربوية الإلهيّة.

وفي هذا الفصل أحاول أن أسلسل ما يتيسّر من عطاء الصلاة، في حياتنا العقليّة والنفسيّة والاجتماعيّة والصحيّة، متجنّباً تكرار المعطيات المتقدّمة، ومتوخيّاً إكمال الصورة قدر الإمكان، لما تزخر به الصلاة من ثراء.

أقول قدر الإمكان لأنّي على يقين يملئ نفسي، بأنّ عطاء الصلاة في الشخصيّة، والحياة الإنسانيّة، أغنى من أن تحيط به دراسة واحدة، وأنّ الكشف عن أدوار جديدة للصلاة سيبقى مطّرداً، مع تقدّم فهم الإنسان لشخصيتّه وحياته وصلاته...

تماماً كما نكتشف أدواراً جديدة لمواد الغذاء في تركيب جسدنا، ووظائفه كلمّا تقدّم فهمنا لجسدنا وغذائه.

وليس من المبالغة في شيء، أن يكون دور الصلاة في حياتنا مضاهياً لدور الغذاء... فما الذي حكم لنا بضرورة الغذاء والصلاة إلاّ واحداً عزّ وجلّ.

١٩٩

المُعطى العقلي

تطلق كلمة (النفس) في اللغة ويراد بها: مجموعة القوى الكامنة في الإنسان، فتشمل قوى الغرائز، والقوى العاقلة، المدركة، وقوّة الحياة - الروح -.

ولهذا فقد يقال؛ أنّ التفريق بين المُعطى العقلي والمُعطى النفسي خطأ؛ لأنّ العقل قوّة من قوى النفس، فمعطياته جزء من معطياتها...

غير أنّ لكلمة النفس استعمالين آخرين، فهي تارة تطلق على ما يقابل الروح، كما تقول: إنّ نفس النائم غائبة عن جسده، ولكنّ روحه حاضرة في جسده، قال الله عزّ وجلّ: ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) 42 - الزمر.

وتارة تطلق كلمة النفس على ما يقابل العقل تقول: هذا أمر نفسي، وهذا أمر عقلي، ويقصد بالأمور النفسيّة في هذا الاستعمال: المشاعر الانفعاليّة في مقابل الرؤية العقليّة المحضة.

ولمّا كان هذا الاستعمال - للنفس والعقل - اصطلاحاً سائداً في وقتنا الحاضر، جرينا عليه في هذا الفصل، وقصدنا بالمعطيات النفسيّة من الصلاة: الحصيلة الشعورية، وبالمعطيات العقليّة: الحصيلة الإدراكيّة المحضة بقطع النظر عمّا تنتجه من انفعالات شعورية.

وأهمّ العطاء الإدراكي الذي تقدّمه الصلاة إلى العقل نوعان:

* تصعيد درجة اليقين العقلي بالإسلام.

*وتركيز المنهج العقلي أو العقلانيّة في الوعي والسلوك.

٢٠٠