فلسفة الصلاة

فلسفة الصلاة15%

فلسفة الصلاة مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 257

فلسفة الصلاة
  • البداية
  • السابق
  • 257 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 66744 / تحميل: 9305
الحجم الحجم الحجم
فلسفة الصلاة

فلسفة الصلاة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

اليقين العقلي ودور الصلاة فيه

درجات اليقين العقلي

يجب أن نميّز في اليقين - أيّ يقين - بين ناحيتين: إحداهما : القضيّة التي تعلّق بها اليقين، والأُخرى : درجة التصديق التي يمثّلها اليقين.

فحين يوجد في نفسك يقين بأنّ جارك قد مات، تواجه قضيّة تعلّق بها اليقين وهي: أنّ فلاناً مات، وتواجه درجة معيّنة من التصديق يمثّلها هذا اليقين؛ لأنّ التصديق له درجات تتراوح من أدنى درجةٍ للاحتمال إلى الجزم، واليقين يمثّل أعلى تلك الدرجات، وهي درجة الجزم الذي لا يوجد في إطاره أي احتمال للخلاف.

وإذا ميّزنا بين القضيّة التي تعلّق اليقين بها، ودرجة التصديق التي يمثّلها ذلك اليقين، أمكننا أن نلاحظ: أنّ هناك نوعين ممكنين من الحقيقة والخطأ في المعرفة البشريّة.

أحدهما: الحقيقة والخطأ في اليقين من الناحية الأُولى، أي: من ناحية القضيّة التي تعلّق اليقين بها، والحقيقة والخطأ من هذه الناحية مردّهما إلى تطابق القضيّة التي تعلّق بها اليقين مع الواقع، وعدم تطابقها، فإذا كانت متطابقة فاليقين صادق في الكشف عن الحقيقة، وإلاّ فهو مخطئ.

والآخر: الحقيقة والخطأ في اليقين من الناحية الثانية، أي: من ناحية الدرجة التي يمثّلها من درجات التصديق، فقد يكون اليقين مصيباً وكاشفاً عن الحقيقة من الناحية الأُولى، ولكنّه مخطئ في درجة التصديق التي يمثلها.

فإذا تسرّع شخص وهو يلقي قطعة النقد، فجزم بأنّها سوف تبرز وجه الصورة، نتيجة لرغبته النفسيّة في ذلك، وبرز وجه الصورة فعلاً، فإنّ هذا الجزم واليقين المسبّق، يعتبر صحيحاً وصادقاً من ناحية القضيّة التي تعلّق بها؛ لأنّ هذه القضيّة طابقت الواقع، ولكنّه رغم ذلك يعتبر يقيناً خاطئاً من ناحية درجة التصديق التي اتّخذها بصورة مسبّقة، إذ لم يكن من حقّه أن يعطي درجة للتصديق بالقضيّة: (إنّ وجه الصورة سوف يظهر) أكبر من الدرجة التي

٢٠١

يعطيها للتصديق بالقضيّة الأُخرى: (إنّ وجه الكتابة سوف يظهر).

وما دمنا قد افترضنا إمكانية الخطأ في درجة التصديق، فهذا يعني افتراض أنّ للتصديق درجة محدّدة في الواقع، طبق مبررات موضوعيّة، وأنّ معنى كون اليقين مخطئاً أو مصيباً في درجة التصديق: إنّ درجة التصديق التي اتّخذها اليقين في نفس المتيقّن، تطابق أو لا تطابق الدرجة التي تفرضها المبررات الموضوعيّة للتصديق.

ولنأخذ مثلاً آخر: نفترض أنّنا دخلنا إلى مكتبة ضخمة، تضمّ مئة ألف كتاب، وقيل لنا أنّ كتاباً واحداً فقط من مجموعة هذه الكتب قد وقع نقص في أوراقه، ولم يعيّن لنا هذا الكتاب.

ففي هذه الحالة إذا ألقينا نظرة على كتاب معيّن من تلك المجموعة، فسوف نستبعد جدّاً أن يكون هو الكتاب الناقص؛ لأنّ قيمة احتمال أن يكون هو ذاك، هي: ١ / ١٠٠.٠٠٠، ولكن إذا افترضنا أنّ شخصاً ما تسرّع وجزم - على أساس هذا الاستبعاد - بأنّ هذا الكتاب ليس هو الكتاب الناقص، فهذا يعني: أنّ اليقين الذاتي قد وجد لديه، ولكنّنا نستطيع أن نقول بأنّه مخطئ في يقينه هذا، وحتى إذا لم يكن هذا الكتاب هو الكتاب الناقص حقّاً، فإنّ ذلك لا يقلّل من أهمّية الخطأ الذي تورّط فيه هذا الشخص.

وسوف يكون بإمكاننا أن نحاجّه قائلين: وما رأيك في الكتاب الآخر، وفي الكتاب الثالث... وهكذا؟ فإن أكّد جزمه ويقينه الذاتي بأنّ الكتاب الآخر ليس هو الناقص أيضاً، وكذلك الثالث... وهكذا، فسوف يناقض نفسه؛ لأنّه يعترف فعلاً بأنّ هناك كتاباً ناقصاً في مجموعة الكتب، وإن لم يُسرع إلى الجزم في الكتاب الثاني، أو الثالث، طالبناه بالفرق بين الكتاب الأوّل والثاني...

وهكذا، حتى نغيّر موقفه من الكتاب الأوّل، ونجعل درجة تصديقه بعدم نقصانه لا تتجاوز القدر المعقول لها، فلا تصل إلى اليقين والجزم.

فهناك - إذاً - تطابقان في كلّ يقين: تطابق القضيّة التي تعلّق اليقين بها مع الواقع، وتطابق درجة التصديق التي يمثّلها اليقين مع الدرجة التي تحدّدها المبررات الموضوعيّة.

٢٠٢

ومن هنا نصل إلى فكرة التمييز بين اليقين الذاتي، واليقين الموضوعي.

فاليقين الذاتي هو : التصديق بأعلى درجة ممكنة، سواء كان هناك مبررات موضوعيّة لهذه الدرجة أم لا.

واليقين الموضوعي هو : التصديق بأعلى درجة ممكنة، على أن تكون هذه الدرجة متطابقة مع الدرجة التي تفرضها المبررات الموضوعية، أو بتعبير آخر: إنّ اليقين الموضوعي هو: أن تصل الدرجة التي تفرضها المبررات الموضوعيّة إلى الجزم.

وعلى هذا الأساس قد يوجد يقين ذاتي، ولا يقين موضوعي، كما في يقين ذلك الشخص الذي يرمي قطعة النقد ويجزم مسبقاً بأنّ وجه الصورة سوف يبرز، وقد يوجد يقين موضوعي، ولا يقين ذاتي، أي: تكون الدرجة الجديرة وفق المبررات الموضوعيّة هي درجة الجزم، ولكن إنساناً معيّناً لا يجزم فعلاً، نظراً إلى ظرف غير طبيعي يمرّ به.

وهكذا نعرف: أنّ اليقين الموضوعي له طابع موضوعي مستقلّ عن الحالة النفسيّة، والمستوى السيكولوجي الذي يعيشه هذا الإنسان أو ذاك فعلاً، أمّا اليقين الذاتي فهو يمثّل: الجانب السيكولوجي من المعرفة. (من كتاب الأُسس المنطقية للاستقراء).

لشهيد الإسلام السيد محمد باقر الصدر - ص٣٥٨ - ٣٦١.

* * *

السلبي للعامل الذاتي

كما يكون تأثير العامل الذاتي إيجاباً يسبب ارتفاع درجة التصديق، عن الذي تجيزه المبررات الموضوعيّة، كذلك يكون سلباً، فيسبّب انخفاض لتصديق عن الحدّ الذي توجبه المبررات الموضوعية...

ويمكننا ملاحظة ذلك في نفس مِثاليْ قطعة النقد، والكتاب الناقص المتقدّمين، فإنّ المبررات الموضوعية لظهور وجه الصورة، وظهور وجه الكتاب في القطعة النقديّة متساوية، وكذلك كان الواجب الاعتقاد والجزم بهذا التساوي، ولكنّ العامل الذاتي منع منه.

٢٠٣

وهكذا، فإنّ كلّ تأثير ذاتي يسبب ارتفاعاً في درجة التصديق، عن درجة المبررات الموضوعيّة، يقابله تأثير سلبي يسبب انخفاض التصديق عن درجة المبررات الموضوعيّة المقابلة.

كما يمكن ملاحظة التأثير السلبي للعامل الذاتي، في كثير من القضايا التي تملك المبررات الموضوعيّة أي: الأدلة الكافية لأعلى درجات الجزم واليقين، ومع ذلك يمنع العامل الذاتي صاحبه أن ينعم باليقين، حتى إنّك لتجد إنساناً يشكّ في كرويّة الأرض، أو يشكّ في قانون العليّة، أو يشكّ في وجود روحه في جسده، أو يشكّ في ثبوت البداية للطبيعة، وهو يعتقد أنّ لكلّ شيءٍ فيها عمراً، أو يشكّ في وجود الله، وهو يرى خلق الله!

تأثير العامل الذاتي في حقل اليقين

وهناك تأثير آخر للعامل الذاتي، ففي الأمثلة المتقدّمة كان تأثيره تصعيد درجة التصديق من الشكّ إلى الجزم، أو المنع من الجزم وإبقاء الإنسان في حالة الشكّ أو الظنّ، في حين أنّ المبررات الموضوعيّة توجب حصول الجزم.

أمّا هذا التأثير فيقع في حقل الجزم نفسه، فإنّ الجزم، أو اليقين، أو الاعتقاد، أو الإدراك، أو الرؤية العقليّة ما شئت فعبّر تشبه الرؤية البصريّة وتتفاوت وضوحاً وجلاءاً، حيث يبدأ الجزم بنفي احتمال الخلاف، ثمّ يتصاعد إلى درجات عالية من الوضوح... ويلعب العامل الذاتي دوره في تصعيد الجزم،، أو تخفيضه عن الدرجة التي تسمح بها المبررات الموضوعيّة.

دور الصلاة في علاج المشكلة

المشكلة إذاً، إنّ الإنسان مع ما أوتي من قدرة على اليقين، والرؤية في القضايا والحقائق، إلاّ أنّه بسبب ميوله الذاتيّة كثيراً ما يعكّر هذه الرؤية أو يخسرها.

٢٠٤

فهل من سبيل إلى التغلّب على هذه المشكلة، والحفاظ على التطابق بين درجة التصديق، التي تمليها المبررات الموضوعيّة وبين الدرجة التي يتّخذها التصديق في أنفسنا؟ هل باستطاعتنا أن نمنع العامل الذاتي من التدخّل والعبث، صعوداً، وهبوطاً في درجات تصديقنا بالقضايا أو الحقائق؟

أمّا أصحاب المذهب الذاتي في المعرفة، فلا يَرِد عليهم مثل هذا السؤال؛ لأنّ العامل الذاتي في رأيهم، سبب في كلّ اعتقاد، بما في ذلك اعتقادهم بمذهبهم هذا طبعاً.

لكن كلامنا على أساس المذهب الذي يؤمن بالقيمة الموضوعيّة للمعرفة، والذي يتبناه الإسلام.

يقوم الإسلام بعلاج المشكلة من جانبين:

الأوّل : إشاعة الطريقة العقليّة في الناس... حتى تكون هي الأسلوب العام السائد في تفكير الناس وحياتهم...

ومن هذا الجانب فإنّ الإسلام بذاته دعوة تعتمد العقل في إقناع الناس، وتطلب إعْمال العقل في فهم الكون، وإقامة الحياة الاجتماعيّة على الأُسس العقليّة.

ولم تَعرف الحياة البشريّة كالإسلام مبدءاً اعتمد العقل في أصول التفكير الإنساني وتفاصيله، وأشاع ذلك في أُمّته وغيرها من الأُمم، ورسّخ ذلك في حياة مجتمعه وأجياله، حتى أصبح الطابع العقلي واحداً من أبرز معالم الثقافة الإسلاميّة، والحضارة الإسلاميّة.

والثاني: الدعوة إلى تصحيح السلوك؛ باعتباره عاملاً في تكوين وتكثيف الميول التي هي العامل الذاتي، أو في تخفيف هذه الميول الذاتيّة وإزالتها.

قال الله تعالى: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ ) .

وفي الحديث الشريف: (ما من شيءٍ أفسد للقلب من خطيئةٍ، إنّ القلب ليُواقع الخطيئة، فما تزال به حتى تغلِب عليه، فيصير أعلاه أسفله). الكافي ج٢ ص٢٦٨.

٢٠٥

وفي نصوص عديدة، يؤكّد الإسلام على خطورة السلوك، وأنّه قد يشكّل حاجباً عن الرؤية العقليّة، أو يجعل الرؤية معكوسة تماماً، كما يمكن أن يكون نوراً وبصيرة في العقل.

والصلاة اليوميّة برأي الإسلام، ركن أساس من السلوك الإنساني، الذي يعالج مشكلة تأثير العامل الذاتي ويصحّح الرؤية العقليّة.

وتأثير الصلاة في اعتقادي، يشمل معالجة العامل الذاتي تجاه حقائق الحياة التي تتضمّنها الصلاة، وتجاه غيرها من الحقائق الأُخرى.

كما يشمل معالجة العامل الذاتي في مرحلة ما قبل الجزم، كما يشمل معالجته في نفس المسلم إلى درجات عالية من اليقين الموضوعي، الذي تملك مبرراته قضيّة الإسلام... وهذا الشطر الأخير نتناول في الحديث.

إنّ الصلاة تزيل عن العقل أغشية الذنوب، ولبس الأهواء، وأدران الخطايا، فتمكنه من معانية القضايا مواجهةً دونما حجاب، وهو التأثير الذي مثّل له الحديث النبوي الشريف الصلاة بـ - الحمة - أي: بالنبع المعدني الذي ينقّي الجسد من الأدران.

ومن ناحية ثانية، تجسّد الصلاة أهمّ قضايا الإسلام للعقل، وتجعله يتعامل معها ويحسّها.

إنّ فرقاً كبيراً بين موقف العقل وهو يتأمّل قضايا العقيدة الإسلاميّة، فيجدها تملك المبررات الموضوعيّة للاعتقاد والجزم، وبين موقفه في الصلاة، حيث يُدعى ليتّخذ موقفاً عمليّاً من هذه القضايا.

وبهاتين الناحيتين؛ تكون الصلاة قد تناولت بالتأثير كلاًّ من وسيلة الإدراك والقضيّة المدركة، والعامل الذاتي الذي يعوق عن الاحتفاظ باليقين في مستوى المبررات الموضوعيّة، ينشأ من أحد هذين الأمرين...

فالقوّة الإدراكيّة في الإنسان تتعرّض لأنواع من التشويش، فتحتاج إلى صقل وتجديد، والقضيّة المدركة إذا لم تكن من القضايا المعاشة على مستوى الحسّ، تتعرّض للخفوت وتحتاج إلى نوع من التجسيد الحسّي يُيسّر إدراكها

٢٠٦

للعقل... وهذا ما تفعله الصلاة مع القوّة الإدراكيّة فتجلوها، ومع القضيّة المدركة حيث تجسّدها.

* * *

وينبغي الالتفات إلى أنّ هذا العطاء العقلي من الصلاة يتفاوت في الناس، تبعاً لبصيرتهم العقليّة وإقبالهم على الصلاة، وأنّه في الغالب عطاء تلقائي لا يحسّ به الإنسان إلاّ بالتّنبيه، أو بالمقارنة بين رؤية المصلّي، ورؤية غير المصلّي لقضايا الإسلام.

كما ينبغي الالتفات إلى أنّ هذا العطاء العقلي وإن اختصّ بالمؤمنين المعتقدين بالإسلام، فهو لا يفقد قيمته في نظر غير المؤمنين، فكما إنّنا نعترف بأنّ تجسيد المذهب الرأسمالي، أو المذهب الماركسي في دولة، وإمكانات ووسائل، إعلام ذو أثر كبير في تركيز هذين المذهبين في أذهان الناس، بقطع النظر عن امتلاكهما المبررات الموضوعيّة أو عدم امتلاكهما.

كذلك يعترف الرأسمالي أو الماركسي، بأنّ تجسيد المذهب الإسلامي في دولةٍ، وإمكانات، ووسائل إعلام ذو اثر في تركيز الإسلام في أذهان الناس، بقطع النظر عن المبررات الموضوعيّة التي يملكها.

كما يعترف بأنّ تجسيد أصول المذهب الإسلامي في عمليّة تربويّة مبتكرة، ذو أثر في تركيز وتصعيد الاعتقاد بالإسلام، وإن لم يؤدّ هو الصلاة، ولم يصل إلى الاعتقاد بالإسلام.

* * *

وهكذا يتّضح دور الصلاة الفعّال في تصعيد الاعتقاد بالإسلام، إلى درجات عالية من مستوى المبررات الموضوعيّة، ويمكن أن تقدر ما يترتّب على ذلك نتائج في شخصيّة أُمّة وحياتها، إذ تعيش وضوح الرؤية العقليّة لرسالتها، وأن تقدّر قيمة الطريقة الميسّرة التي ابتكرها الله عزّ وجلّ، لتوفير هذا المستوى من الرؤية العقليّة.

٢٠٧

العقلانية في الشخصيّة ودور الصّلاة فيها

الشخصيّة العقلانية

أقصد بالعقلانية في الشخصيّة: الملَكة المنطقيّة في مكونات الشخصيّة الثلاثة، المفاهيم، والمشاعر، السلوك، حتى تكون طبيعة فيها.

ويتفاوت الناس في نصيبهم من هذه العقلانيّة، فقد يكون إنسان في قسم من مفاهيمه موضوعيّاً، عقلانيّاً، واضح الرؤية، ثابت البرهان، مطمئنّ البال، وفي قسم آخر مُغبش الرؤية، مشوش البال.

وقد يكون عقلانيّاً في قسم من مشاعره، عشوائيّاً في القسم الآخر.

وقد يكون عقلانيّاً في قسم من سلوكه، ارتجاليّاً في القسم الآخر.

وقد يكون عقلانيّاً في عامّة مفاهيمه، ولكنّه عشوائي المشاعر، ارتجلي السلوك... إلخ.

وكما تتفاوت مساحة العقلانيّة في أبعاد الشخصيّة الثلاثة، تتفاوت كذلك في حالات الإنسان، وظروفه الداخلية، والخارجيّة، فقد تتقلّص في بعض الحالات، أو تزداد، أو تترسّخ، أو تضعف، أو تزول...

ومن ضرب هذه الأقسام والحالات بعضها ببعض؛ يتحصّل مئات، بل آلاف الأنواع من شخصيّات الناس وحالاتهم.

والنموذج الأعلى للشخصيّة العقلانيّة هو: الإنسان الذي يعيش الموضوعيّة الصرفة المستوعبة الدائمة، يأخذ الحقيقة كما هي ويتعامل معها كما هي، لا يفترض لها إضافة، ولا ينتقص منها نقيصة، كما هو الحال في نخبة الإنسانيّة من الأنبياء والأئمّة وكبار المؤمنين (عليهم السلام)، الذين يعيشون المنهج العقلي

٢٠٨

والأيديولوجية الكاملة الموحّدة في الفكر والشعور والسلوك.

إنّ الواحد من هذه الشخصيّات العقلانيّة لهو مادّة للدراسة الفكريّة والجماليّة... إذا انفتحتَ عليه فهو يستهويك ويملك عليك لبّك.

تجده صادقاً في نفسه، ومع نفسه، ومع الأشياء، حيويّاً جاداً في مفاهيمه، وانفعالاته وتصرفاته.

يعيش وضوح الرؤية، ووحدة المنهج في مجموعة أفكاره، ابتداءاً من مفهومه عن الله والطبيعة، والإنسان والتاريخ والمستقبل، إلى مفهومه عن نفسه وطريقه، وعن الآخرين، وإلى مفاهيمه الجزئيّة الصغيرة...

ونفس هذه المنهجيّة المضيئة في مشاعره من أكبر شعور إلى أصغر شعور، وفي سلوكه ومواقفه المصيريّة والجزئيّة..

وكما يَنْتظم كلّ بُعد من شخصيّته في هذا الصدق الجميل، تنتظم الأبعاد الثلاثة، الأفكار، والمشاعر، والسلوك في كلّ منسجمٍ بديع... إنّك تجد فيه البناء الإنساني المتين، والجمال الإنساني العميق كشجرة متكاملة، متكافلة، ثابتة الأصول، سامقة الفروع، فارعة الجمال، سخيّة الظلال والشذى والثمرات.

الحصول على السمت العقلاني

وكذلك يستطيع المنهج الإلهي أن يصوغ بعقلانيّته الفذّة الإنسان الفذ، وليس الحصول على هذا السمت في الشخصيّة مطلباً خياليّاً كما يظنّ البعض، ولا هو مقصور على شخصيّات مؤمنة ماضية، أُتيح لها أن تضع نفسها في بساطة الهواء الطلق، يوم كانت مغريات الحياة الدنيا قليلة، ومشوشات الفطرة الإنسانيّة ضئيلة...

كلا ، فمتى سمح أحد من الناس للإسلام أن يعمل في شخصيّته ولم يجد الثمرات فعليّة؟ ومتى سمح الناس لهذا المنهج الربّاني أن يسود مجتمعهم بنصّه وروحه، ولم يجدوا إنتاجه من الشخصيّات العقلانيّة؟

الصعوبة إنّما أتت من النُظم الاجتماعيّة التي تحكم حياة الناس، وتصوغ شخصيّاتهم بطرقها الملتوية الكاذبة، وتعيق الإنسان أن يبني نفسه بالإسلام

٢٠٩

وينعم بعقلانيته الجميلة، وليس من ضيرٍ على الإسلام أن لا تتاح له التجربة الاجتماعيّة الكاملة، ما دام يثبت بالبرهان صحّة منهجه في بناء الإنسان، وما دام قدّم للناس ويقدّم عديداً من الشخصيّات العقلانيّة في ظروف تطبيقه الجزئي على حياة الناس، بل وفي أصعب الظروف المضادّة.

وفي حياتنا الحاضرة، وفي ظلّ الأنظمة الاجتماعية والمفاهيم السائدة الضالعة في تزييف فطرة الإنسان، وتشويه عقلانيّته، ما على أحدنا إلاّ أن يوفّر الصدق في نفسه، حتى يجدها بعد خطوات في طريق هذه العقلانيّة.

ثمّ ما عليه إلاّ أن يؤصّل الصدق في نفسه كطريقة دائمة يبني بها أفكاره وشعوره وسلوكه، وما أسرع أن يرى أنّ أشياء الطبيعة من حوله صادقة في أنفسها وحياتها، ويرى أنّ نصيبه من الصدق موكول إليه، ميسّر أمامه.

إنّ دعوة الإسلام إلى هذا السمت العقلاني، إلى الموضوعيّة والصدق في فهم الأشياء والتعامل معها، لا زالت دعوة قائمة موجهة إلى كلّ جيل، وفي كلّ الظروف؛ لأنّها الطريقة الوحيدة أبداً في بناء الإنسان ونجاحه..

ولسنا بحاجة إلى التدليل على أنّ القرآن الكريم والسنّة الشريفة، والسلوك العملي للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة (عليهم السلام)، دعوة حارّة لأخذ الحقيقة الموضوعيّة بصدق والتعامل معها بصدق.

دور الصلاة في ذلك

إنّ الصلاة تفرض السمت العقلاني على الشخصيّة من جانبين:

أوّلاً: بحقائقها الكبيرة التي تقدّمها إلى العقل بأسلوبها الخاصّ... والصلاة زاخرة بالحقائق الكبيرة عن الله والكون والإنسان وموقعه وطريقه، ومتفرّدة في أسلوب تقرير هذه الحقائق، وإثارتها أمام العقل، وإثارة العقل لاستيعابها، ومخامرتها والتفاعل معها، وقد تقدّم من ذلك ما فيه الكفاية، وبالأخصّ في بحث تلاوات الصلاة.

وثانياً: بموقفها الذي تمليه على المصلّي، فإن وقفة الصلاة بحدّ ذاتها تفرض

٢١٠

السمت العقلاني، فما أن يمثل الإنسان بين يدي الله، ويقف بانضباط واعتدال، حتى يشعر أنّه بدأ في عمل جادّ، وأنّه خلّف وراءه الهزل والتسيب.

ولا أحسبي بحاجة إلى التدليل على هذا العطاء للصلاة، فقد أصبح ذلك مثلاً على ألسن الناس، وأصبح خير تعبير عمّن يعيش حالة العقلانيّة والجدّ في أمر من أموره أن يقال عنه: (إنّه في صلاة) .

إنّ أي مصلٍّ ليحسّ بالفارق الجديد في شخصيّته أثناء الصلاة، يحسّ بالعقلانيّة التي يفرضها عليه الموقف الذي يقفه، والحقائق التي يواجهها، حتى إنّ نظرته إلى كثير من الأفكار والقضايا تختلف أثناء الصلاة وبعدها، وتتّسم بالتعقّل والموضوعية...

فالذي كان قبل قليل مندفعاً في شعور كراهية الإنسان، لو عَرض له هذا الشعور وهو في الصلاة لوجده نشازاً لا يلائم وضعه العقلي الجديد، والذي كان مستغرقاً في تصورات جنسيّة لأعراض الناس، سينفر من هذه التصورات لو عرضت له وهو في الصلاة، والذي كان يعيش ذاتيّته الشخصيّة الضيّقة، سيجد نفسه في الصلاة منفتحاً على أفق أوسع وذات أكبر.. وهكذا..

إنّ وقفة الصلاة إنّما هي يد المنطقيّة الإلهيّة تمتدّ إلى الإنسان كلّ يوم، لتنقذه بهدوئها واتّزانها من انحراف المشاعر وارتجال التصرّف، وتمدّه بشحنة من العقل والجدّ، فتصلحه بذلك لحركة الحياة.

٢١١

المُعطى النفسي

أقصد بالعطاء النفسي: التفاعلات الشعوريّة التي تحدثها الصلاة في النفس، نتيجة لما تقدّمه من رؤية عقليّةٍ، أو تنمية لغرائز الخير، أو تهذيب لغرائز الشرّ...

ومن الناس من يقلّل من أهمّية العطاء النفسي، ويقول: إنّه عطاء عاطفي، وانفعال شعوري لا يلبث أن يزول، فلا يصحّ أن نعتبره من مقوّمات بناء الشخصيّة.

ومنشأ هذا القول اختلاط نوعين من العاطفة في نظر هؤلاء، فقد وجدوا أنّ جملة من العواطف البشريّة لا تنبع من أساس ولا تثبت على حال؛ فحكموا على جميع الانفعالات العاطفيّة بعدم القيمة في بناء الشخصيّة، وبأنّ الشخصيّة العاطفيّة شخصيّة غير مستقيمة.

ولكن هذا التعميم ليس في محله، فإنّ من العاطفة ما ينبع من أساس، ويرتكز على قاعدة، ويتّجه إلى غاية، ويسهم في تقويم الشخصيّة.

إنّ الانفعال العاطفي أو الشعوري أو الوحداني، الذي يشكّل نصف الشخصيّة الإنسانيّة، لهو طاقة أساسيّة فينا، ومن الخطأ أن نهمل قيمتها...

نعم يجب أن نميّز بين المشاعر الذاتيّة الطائشة التي تنبع من أساس، وبين المشاعر الموضوعيّة القويمة، التي يسندها العقل ويحكم بضرورة تنميتها، والإفادة منها في حياتنا..

إنّ من آيات الله في أنفسنا أن منحها من الحياة ما تتفاعل به مع الوجود، فتتجاوب مع ضميره، وتكسب لنفسها بذلك خيراً وجمالاً وكمالاً.. وإنّ المشاعر حينما تملك السند المنطقي لهي قوّة فاعلة، تضاهي قوّة العقل في بناء الإنسان والحياة، وسوف نرى أنّ الطاقة التي تعطيها الصلاة للنفس هي من هذا النوع

٢١٢

المنطقي الفعال.

وقبل تسجيل المُعطى النفسي من الصلاة، يجب أن ننبّه إلى خطأ النزعة الصوفيّة في تصور هذا المعطى... فقد اعتاد المتصوّفة أن يجعلوا من صلاتهم أجواء حالمة، وخيالات ناعمة يسرحون فيها كما يشآء لهم الهوى، متصوّرين بذلك أنّهم يناجون الله عزّ وجلّ، أو يستشرقون أنواره، أو ينعمون بالعيش في ملئه الأعلى...

وقد انعكس هذا التصوّر للصلاة في نفوس الناس، حتى أصبحت (صلاة الصوفي) مثلاً للاستغراق في المشاعر الإيمانيّة!

ويكمن الخطأ عند هؤلاء، في تصوّرهم أنّ الصلاة نقلةٌ للروح الإنسانيّة من واقع الحياة إلى عوالم مفترضة، من الأشواق والأنوار، ثمّ في تصوّرهم أنّ كمال النفس الإنسانيّة يكون بالانسلاخ عن واقع الحياة، والإمعان في تلك العوالم المفترضة..

غير أنّ هذين التصوّرين لا أساس لهما من الصحّة، فلا النفس البشريّة تكسب شيئاً من الكمال إن هي هربت من واقع الحياة، ولا أنزل الله الصلاة لتكون وسيلة لهذا الهروب.

إنّ الصلاة الإسلاميّة في هدفها ومحتواها الصريحين؛ إنّما جاءت لتفتح أعين الناس على ما حولهم، وتصلحهم لحركة الحياة وصناعة المستقبل...

أمّا الصلاة التي تغمض العينين عن واقع الحياة، وتفصل الإنسان عن حركتها، فليست من صلاة الإسلام في شيء، بل لا أحسبها في رأي الإسلام إلاّ خمراً أثيمة، تقوم بتهريب الإنسان من حركةِ يومه إلى خيالات سارحة، يتصوّر نفسه مصلّياً قريباً من الله..

وهل من فرق يا ترى بين هروب الفاسق عن الواقع بكأس من الخمر، وهروب الصوفي عن الواقع بركعتين من الصلاة؟ لا أجد فرقاً إلاّ في وسيلة الهروب، وسوف يأتي إن شاء الله بيان دور الإيحاء الذاتي في صلاة المتصوّفة.

أمّا المعطيات الشعوريّة الصحيحة التي تقدّمها الصلاة إلى النفس، فهي كثيرة متنوّعة، ونذكر هنا أهمّ ما بقي منها مضافاً إلى ما مر عليك:

٢١٣

فمن أهمّ المعطيات النفسيّة للصلاة : شعور الإسلام لله أو العبوديّة له عزّ وجلّ. وبعض النفوس تأنف من صفة العبوديّة لله، متأثّرة بنزعة التمرّد الحديثة!

وكأنّ باستطاعة الإنسان أن يتعامى عن قدره، وأن لا يكون عبداً مخلوقاً، وكأنّ من مصلحته أن يتمرّد على العبوديّة الجميلة النافعة ويتمرّغ في عبوديّات مغلقةٍ مهينة!

إنّ الصلاة تفتح العقل الإنساني على موقعه الذي يجب أن ينتظم فيه، وينسجم معه، وتبعث فيه مشاعر الأصالة والحريّة كلمّا أمعن في الشعور بالعبوديّة لله سبحانه، وعاش حقيقة الإسلام لإرادة الله وشريعته عزّ وجلّ.

أمّا السند المنطقي لهذا الشعور فهو: أنّ الإنسان مخلوق من قبل الله، ومموّن بالحياة من لدنه، وموجّه إلى خيره وسعادته بهداه، فمن البداهة المطلقة أن يخضع لقدرته عزّ وجلّ، ولأياديه وتوجيهه...

إنّنا نعيش في كون بكلّه عبدٌ لله، آخذ منه وجوده واستمراره وسائر بعطائه إلى كماله، وإن حظّ أحدنا إنّما هو بانسجامه مع طبيعة الوجود المخلوق، وإمعانه في الشعور بالحاجة والتزود بطاقة الهدى، وليس في محاولة التمرّد الغبيّة الضارّة.

وأمّا مساحة هذا الشعور فهي الصلاة كلّها، بل إنّ شعور المصلّي بالعبوديّة يبدأ من حين نهوضه إلى الصلاة، مستجيباً لأمر المولى عزّ اسمه، يزداد بالوقوف للصلاة، فالتلاوة، فالركوع، حتى يبلغ قمته في السجود.

وأمّا طبيعة هذا الشعور، فهي المزيج من المتانة والمسؤوليّة... المتانة في الموقع حينما يعي الإنسان أنّه عبد لربّ الكون سبحانه مكرّم منه، عزيز عليه عامل لخير وجوده بهداه...

وأيّ شيءٍ يعطي متانة الموقع في الوجود، كالشعور بالعبوديّة لصاحب الوجود جميعاً؟ والمسؤوليّة المشفقة من تبعات العبوديّة التي هي تبعات الوفاء بتكليف الله لنا أن نستقيم، وأن نحذر مغبّة الانحراف والعصيان.

وأمّا آثار هذا الشعور فهي كثيرة عميقة في حياتنا أفراداً وأُمّة... إنّه لا شكّ في أنّ حاجة المجتمع البشري إلى حفنةٍ من العبوديّة، أشدّ من حاجته إلى أطنان من القنابل والخمور... فلو عاش حكّام الأرض شيئاً من هذا الشعور

٢١٤

لارتفع من ظلمهم عن إخوانهم عباد الله، بمقدار نسبة هذا الشعور الجميل إلى مشاعرهم الرديئة، ولو امتلك ضعفاء الأرض شيئاً من هذا الشعور لارتفع من ظلاماتهم بمقدار نسبة هذا الشعور إلى مشاعرهم الخانعة.

وأمّا السبيل إلى استفادة شعور العبوديّة من صلاتك، فيكفي أن تسأل نفسك عند الصلاة: أمر مَنْ البّي في نهوضي إلى الصلاة؟ وبين يدي من أقف؟ وبأمر من أتلوا؟ ثمّ لمن أخضع راكعاً، ولمن أخرّ إلى الأرض ساجداً على الجبين؟

إنّه يكفي أن تكون واعياً لعملك جادّاً فيه، حتى تمتلئ من صلاتك بشعور العبوديّة والإسلام لله عزّ وجلّ، ثمّ لتعيش عديداً من مشاعر الثقة والإشفاق، تنعكس من حياتك على صلاتك، ومن صلاتك في حياتك.

ومن أهمّ المعطيات النفسيّة للصلاة: شعور الارتباط الفعلي بالله، ورسوله، ورسالته.

فمن الانحرافات السائدة في العقيدة: أن يتصوّر الناس أن وجود الله سبحانه، وإرساله الرسل، وتنزيله الدين قضايا تاريخيّة وليست فعليّة... يتصوّرون أنّ الله سبحانه كان وجوداً فعليّاً ظاهراً، حينما خلق الكون وأرسل الرسل، أمّا الآن فهو وجود غائب!

فهم يؤمنون به عزّ وجلّ إلهاً خالقاً، ولكنّهم يكفرون به ربّاً ومعطياً، ويؤمنون به بادئاً، ويكفرون به مموّناً لما بدأ.. أو هم يغفلون عن هذه الحقيقة، وكذلك الأمر في تصورهم للرسل والرسالة، فكأنّهما مسألة تخصّ مرحلة من التاريخ، وفوجاً من الناس..!

أمّا الصلاة فهي تقضي على هذا الانحراف، وتثبت المفهوم الإسلامي عن الله سبحانه، وعن رسله ودينه، فتفتح عقل الإنسان وقلبه على وجود الله وجوداً فعليّاً قيومًا على الكون، ترتبط به ذرّاته وأحياؤه، وظواهره وقوانينه، ارتباطاً فعليّاً مطلقاً.

كما تفتح عقل الإنسان وقلبه على الدين الإلهي، طريقة عيش فعليّة قَرَنها الله بقانون الاختيار، ولا زال هذا القانون قائماً يؤتي ثماره في الناس حتى يبلغ فيهم هدفه... وبهذه الحقائق تبعث الصلاة في النفس أعمق مشاعر الارتباط الفعلي بالله تعالى، ورسله ورسالته.

٢١٥

أمّا مساحة هذه المشاعر فهي الصلاة جميعاً، إذ تدعوك إلى الوقوف أمام الله الحاضر عزّ وجلّ، وتستمرّ في إشعارك به وبهداه إلى ختامها...وأبرز الفقرات التي تعطي شعور الارتباط هذا: سورة الحمد، وخضوع الركوع والسجود، والتشهد...

فالنصف الأوّل من سورة الحمد: يقرّر لمن الامتنان على العطاء الذي يزخر به الكون، كما يقرّر طبيعة العلاقة الملحّة بين الوجود المرحوم وبين الله الراحم، وفي النصف الثاني: تتكلّم أنت مع الله الحاضر سبحانه، معلناً طاعته، ومستعيناً إيّاه في حركة حياتك، ومستهدياً صراطه القائم الذي سارَ به الرسل والمؤمنون، مستعيذاً من طريق المنحرفين الذين يسيرون فعلاً في طريق الغضب والضلال.

وفي خضوع الركوع والسجود تشعرُ بنفسك ذرّة متواضعة من الكون، تخضع أمام منشئها ومعطيها العظيم الأعلى، عزّ وجلّ...وفي التشهّد تُفصح بالإقرار بالله سبحانه، متصرّفاً وحيداً في الكون، وبرسوله محمّد (صلّى الله عليه وآله)، مبلّغاً خاتماً لرسلهِ ورسالاته.

إنّه ليس أبلغ من الصلاة في الانتقال بالإنسان من الإيمان التاريخي الجامد إلى الإيمان الفعلي المتحرّك، وإن التأمّل المجرّد عن الصلاة مهما بلغ من القوّة في استكشاف وجود الله سبحانه، وجوداً حاضراً يقوم به الكون، واستكشاف وجود رسله وجوداً حاضراً يدعونا إلى الهدى - مهما بلغ التأمّل من تقرير هذه الحقائق والبرهنة عليها - فإنّه لا يستطيع أن يقدّمها إليك بقوّتها وجدّتها، كما تقدّمها الصلاة...

ذلك أنّ الصلاة تعاملٌ فعلي مع الله عزّ وجلّ وانسلاك فعلي في خطّ رسالته، فهي أقدر على تقديم شعور الارتباط الفعلي به عزّ اسمه، ارتباطاً مطلقاً من ألف وجودك إلى أحرفه الخالدة.

ويا لسعادة الإنسان وروعة الوجود في عيْنيه حينما يعيش شعور الارتباط الفعلي بالله، والانسلاك الفعلي في خطّ رسله ورسالته ويمتدّ ذلك من صلاته إلى جوانب حياته، ويا لروعة الأُمّة التي تعيش هذا الشعور وتعمل بمستلزماته في الأرض.

٢١٦

ومن أهمّ المعطيات النفسيّة للصلاة: الدفع العلمي.

فلا شكّ أنّ الشخصيّة التي يصنعها الإسلام بعقيدته ومفاهيمه، شخصيّة عمليّة فاعلة... فالله عزّ وجلّ في المفهوم الإسلامي، وجودُ قيّوم يعمل باستمرار، دون أن تأخذه سِنَةٌ ولا نوم ولا ملل، والكون كلّه يعمل ويسير إلى كماله وغايته، والإنسان مكلّف من الله بالعمل ومهديٌ إلى العمل، ومحاسب على العمل، والتفاضل بين كلّ الناس إنّما هو بالعمل بكميته ونوعيته...

إنّه لا مكان للبطالة أو الكسل في مفاهيم الإسلام؛ ولذلك لا مكان لكثير من (أُمّة الإسلام الحاضرة) في رحاب الإسلام والروح العمليّة في الشخصيّة المسلمة مدينةٌ - فيما هي مدينة - للدفع العملي الذي تعطيه الصلاة:

فمن جانب، تقوم الصلاة بنظامها اليومي بالقضاء على الأسباب النفسيّة للكسل والعبث، وحسب الإنسان أن يكون مصلّياً بحقّ حتى ينزع عن نفسه ثوب الخمول واللهو، ويرى أنّه لا متّسع في عمره لتضييع والتقاعس.

ومن جانب آخر، فإنّ الصلاة توقف الإنسان بين يدي الله الدائب في العطاء والرحمة، والتربية للعالمين، وتفتح عينه على الوجود الدائب في مسيرته، وتُلفته إلى يوم الدين، يوم المسؤوليّة عن العمل، وتجعله يطلب من الله الهُدى والطاقة، في طريق الذين هداهم الله إلى العمل المنتج، وتجعله ينحني أمام الله ويسجّل على نفسه مسؤوليّة العمل، والحساب على العمل... ومثل هذا الجو العامر بالحركة والفعل، يبعث في الإنسان أقوى مشاعر التحفّز إلى العمل والإنتاج.

إنّ الصلاة تقول للإنسان: هذا هو الله، وهذا هو الوجود، وهذا هو الطريق، فامض في خدمة وجودك، ثمّ امضِ ولا تركن إلى كسلٍ أو هوى، إنّ مفاهيم الإسلام عن العمل لتتجسَّد في الصلاة، حقائق ومشاعر متحرّكة... وما أيسر أن تجد ذلك من نفسك أثناء الصلاة وبعدها.

ومن أهمّ المعطيات النفسية للصلاة: شعور الانضباط في الشخصيّة:

٢١٧

وأقصد بشعور الانضباط التفات الإنسان إلى تصرفاته اليوميّة الصغيرة والكبيرة، هذا الالتفات الذي يمكّنه أن يُمسك قياد نفسه.

إنّ الانفعال السريع والتصرّفات المرتجلة من أكبر بلاءات النفس البشريّة، وأحسب ذلك بديهياً عند من يراقب تصرّفاته ويحاسب نفسه عليها؛ ولذلك فشعور الانضباط لدى التصرّف يعتبر من أغلى ما نملك؛ لأنه مِقْود سلوكنا، وسبب خيرنا.

باستطاعتك أن تلاحظ دبلوماسياً عريقاً وهو يتحدّث معك، أو يُدلي بتصريح كيف يَزن كلماته ويختارها، وكيف يقدّر مسؤوليته عنها، وكيف يحاول تركيز المفهوم الذي يريد، والإيحاء الذي يريد...

إنّه يعيش روح المسؤوليّة وشعور الانضباط (بِمقياسهِ عن المسؤوليّة والانضباط)، وبسبب ذلك فهو يمسك زمام محادثاته وتصريحاته... فكيف لو ملك أحدنا شعور الانضباط بمقياس الإسلام الخيّر الشامل.

إنّ من السهل للإنسان قبل أن يُقدم على تناول طعامه مثلاً، أن يتروّى هذا الوعي، ويستحضر هذا الشعور، ثمّ يقوم بتناول طعامه بهذه الروحيّة، فتراه مؤدّباً في جلسته مرتاحاً لنعمة الله عليه، غير مسرف في طعامه وشرابه...

ولكن إذا كانت مرافقة شعور الانضباط في وجبة طعام تحتاج إلى مثل هذا الإعداد المسبق، فكم يا ترى تحتاج تصرّفاتنا اليوميّة الواسعة المتنوّعة من إعداد؟ وكيف يمكن أن يعيش أحدنا تجاه حركة حياته كلّها شعور الوعي والانضباط؟.

إنّها مشكلة يضاعف منها ازدحام أوقاتنا بالأعمال، وسرعة شخصيّتنا في الانفعال والارتجال، فهل يمكن أن نحصل على شعور الانضباط في كلّ تصرّفاتنا أو جلّها؟ يرى الإسلام أنّ ذلك ممكن إذا توفّرت الشخصيّة على شحنتين من الوعي والشعور: إحداهما طويلة على مدى العمر، والثانية فعليّة يوميّة.

والشحنة الأُولى هي: مجموعة المفاهيم والمشاعر التي تشكّل النظرة إلى الكون والحياة، والإيمان بالمسؤوليّة والرقابة، والتي يستجليها الإنسان

٢١٨

وينمّيها ويرسّخها في شخصيّته، من خلال نضجه في الوعي والشعور والتجارب...

والشحنة الثانية هي: مجموعة المفاهيم والمشاعر التي تقدّمها الصلاة اليوميّة... فإذا ما توفّر الإنسان على هاتين الشحنتين فإنّه دون شكّ سيعيش روح المسؤوليّة، والخشية من الله، على شكل ملكةٍ في نفسه، وطابع في شخصيّته، وسيرافق تصرّفه شعور الانضباط والوعي إلى درجة كبيرة.

ومن عجائب ما نلاحظ في منهج التربية الإلهي؛ أنّه يؤكّد على هاتين الشحنتين كأساسين لا غنى عنهما للشخصيّة، حتى لتجد مسالة (تعميق الإيمان) ومسألة (الصلاة) من أُولى المسائل التي اهتمّ بها الله عزّ وجلّ وحثّ عليها الإنسان.

ولا تقتصر فقرات الصلاة التي تعطي شحنة الانضباط السلوكي هذه على التحسيس بالمسؤوليّة ورقابة الله فقط، بل إنّ توزيع الصلاة وتوقيتها، وبالأخصّ توقيت صلاة الصبح بين طلوع الفجر وطلوع الشمس، ونوعية الوقوف والانتظام في الصلاة، والإقبال والجد المطلوبين... كلّ أولئك يتعاونون على تقديم شحنة الانضباط وترسيخها في النفس.

لا زال علماء النفس يبحثون عن وسائل لضبط الشخصيّة، والحدّ من جِماحها، وإمساك زمامها، حتى يستطيع الإنسان أن يتفادى شروراً كثيرة، ويكسب خيراً كثيراً، وإذا تقدّمت بحوثهم في هذا المجال، فإنّهم لا شكّ سوف يجدون بغيتهم في الشخصيّة التي تعيش حقيقة الإيمان وحقيقة الصلاة، فهذه الشخصيّة هي التي تملك الوعي في التصرّف، والانضباط في السلوك والتحكّم في العواطف الجامحة.

٢١٩

المُعطى الاجتماعي

ما هي المعطيات الاجتماعيّة البارزة التي ينبغي أن نضيفها إلى عطاء الصلاة في حياة المجتمع؟

*أوّل هذه المعطيات ظاهرة:

حاكميّة الله عزّ وجلّ وربوبيّته للمجتمع المصلّي ، فأوّل انطباع تأخذه عن مجتمع إسلامي يؤدّ صلاته بين يدي الله كلّ يوم؛ أنّه مجتمع يديره الله ويحكم شؤونه.

لا أقصد بذلك المجتمعات المسلمة شكليّاً، التي ترى فيها وجود الحكّام والاستعمار وجوداً كبيراً، ووجود الله سبحانه وجوداً غائباً! وإنذما أقصد المجتمع الإسلامي الذي يعيش في يومه وجود الله تعالى والصلاة بين يديه، فمثل هذا المجتمع ترى الوجود البارز المسيطر فيه هو الله عزّ وجلّ.

لأنّك تراه يعلن الخضوع له مبكّراً قبل شروق الشمس، وظهراً بعد شوط العمل، ومساءً في ختام العمل، يتساوى في هذا الخضوع الحاكم والعمال، والموظفون والتجّار، والفلاحون والسياسيون... تراه مجتمعاً يبرز فيه شعار: (لا إله إلاّ الله) ، وشعار: (الله أكبر) ، وشعار: (الحمد لله) ، وشعار: (باسم الله) ، تتردّد من كلّ فردٍ فيه مرّات كلّ يوم، وتتجاوب بإيقاعها الجنبات والقلوب.

وإنّما قَصُرت الصلاة الفعليّة عن تقديم هذه الظاهرة في مجتمعاتنا؛ لأنّ الذين يؤدّون الصلاة هم الضعفاء من أُمّتنا، فنسبة المصلّين من الأغنياء وأهل النفوذ قليلة جدّا ً، ونسبة المصلّين من السياسيين والحكّام تكاد تكون عدماً، وإذا كان الوجود الفعّال في المجتمع لا يعيش حاكميّة الله عزّ وجلّ ولا يعلن له الخضوع اليومي، لم تنعكس على المجتمع... ومن ناحية ثانية، فإنّ المصلّين من جماهير أُمّتنا لو كانوا يعيشون حاكميّة الله سبحانه، ويرفعون رايتها

٢٢٠

لانعكست هذه الظاهرة على قطّاعهم على الأقلّ، ولكنّهم وللأسف يؤدّون لله عزّ وجلّ صلاتهم الشكليّة، ويؤدّون للحكّام والكفّار صلاة حياتهم الطويلة؛ ولذلك لا يرتفع عنهم كابوس الطاغوت.

وحاكميّة الله التي تعكسها الصلاة في المجتمع، حاكميّة فريدة سواء في عمقها واتّساعها وروحيتها... فإنّ الحاكميّة ترتكز على: حقّ المالكيّة وحقّ الأولويّة في الإدارة، وهما ثابتان لله سبحانه بأعمق ما يكون من ثبوت، وأوسع ما يكون من ثبوت.

فملكيّته عزّ وجلّ ليست مُلكيّة حيازة وحسب، بل ملكيّة تكوين، وإحياء، وعطاء، وتوجيه، ومصير إلخ... وأولويّته في الإدارة ليست بسبب أنّه أعلم بالإدارة وأقدر عليها من كلّ وجه بل؛ لأنّه سبحانه يدير الأشياء والناس من أجل خيرهم وكمالهم وسعادتهم، ويتعالى عن أن ينتفع بشيء من ذلك.

وحينما تنشر حاكميّة الله روحيّتها على أهل الأرض، أو على جماعة منهم، فما أعظم الثمرات التي تحقّقها فيهم... وأوّل هذه الثمرات: أن يتنفّس المجتمع الصعداء بزوال الطاغوت البشري عن مسرح التشريع والحكم، ويتساوى جميع عباد الله في التلّقي عن المشرّع والحاكم الواحد الذي يحبّهم جميعاً، ويتنزّه عن الميل والخطأ.

قدّر بنفسك الفارق بين مجتمع يعلو فيه الأقوياء بسلطانهم ومالهم وأنانيّاتهم وظلمهم، ويخضع فيه الضعفاء بمهانتهم وجبنهم... وبين مجتمعٍ يعلو فيه حكم الله وقوانينه، ويعتزّ فيه الناس بتلّقيهم منه، وبانتظامهم في ظلّ شريعته، وتساويهم أمام عدالته وحبّه.

أو قدّر الفارق في نفسك، إذ تعيش في مجتمع تخضع فيه للأنانيّة والطغيان، وللقوانين الظالمة والمقاييس المقلوبة، أو تعيش في مجتمع لا تخضع فيه إلاّ لله، وتتساوى في هذا الخضوع المحبّب مع الحاكم، الذي يعمل في تطبيق شريعة الله على نفسه وعلى الناس.

لا أريد أن أستطرد في خصائص حاكميّة الله في المجتمع الإسلامي، وإنّما أريد القول: إنّ الصلاة باعتبارها خضوعاً يوميّاً يؤدّيه المجتمع بين يدي الله.

٢٢١

تركّز حقيقة حاكمية الله وتوجيهه للمجتمع المسلم، وتجعل ذلك ظاهرة بارزة يعيشها الناس في مفاهيمهم، ومراحل يومهم وحركة حياتهم، ويجنون منها أنفع الثمار.

*وثاني هذه المعطيات:

وحدة المجتمع الإسلامي وتساوي أفراده

وتقوم الصلاة بتقديم هذا المُعطى من ناحيتين:

فهي من ناحية: تُبرز وحدة المجتمع الإسلامي وتساويه، وغنيٌ عن البيان أنّ وحدة التجمّع في الإسلام تقوم على أصول فكريّة، بدل الأصول العرقيّة والإقليميّة التي درجت المجتمعات على القيام بها حتى يومنا هذا... فالدعوة الإسلاميّة هي الدعوة الوحيدة التي تصرّ بطبيعتها على الصفة الفكريّة في الدولة والمجتمع، وترفض كلّ صفة أخرى غيرها.

نعم، لقد نشأت في شعوب الإسلام دول ومجتمعات عرقيّة وإقليميّة، ولكنّها ظلّت ولا تزال غريبة على الإسلام غرابة واضحة لا لبس فيها، وذلك بعكس المجتمعات والدول العرقيّة والإقليميّة في الشعوب الوثنيّة والمسيحيّة والشيوعيّة، التي استطاعت أن نتسجم مع هذه الديانات، بل وأن تحمّلها إطارها العرقي والإقليمي في كثير من الأحيان...

إنّ الصلاة تُبرز الصفة الفكريّة في المجتمع الإسلامي في مظهرين من مظاهرها عريقين في حياة المجتمع المصلّي: مظهر الالتزام بها، ومظهر المجتمع لأدائها.

فالالتزام اليومي بأداء الصلاة من جميع أفراد المجتمع، يشكل ظاهرة من ظواهر الوحدة فيه، خاصّة وأنّ هذا الالتزام يستتبع التزامات أُخرى ذات شأن في حياة الأُسر والأفراد، فالنهوض المبكر من أجل الصلاة، والتطهّر اللاّزم لها، والاستجابة لندائها، وتحديد المواعيد بها قبلاً أو بعداً، وغير ذلك من مستلزماتها؛ يجعلك تشعر بوحدة المجتمع المصلّي على اختلاف جنسيّاته وأقاليمه، وتشعر بما يدل عليه هذا الالتزام الموحّد اليومي الشامل، من أصول فكريّة يقوم عليها المجتمع ويدين بها.

والاجتماع لأداء الصلاة يعكس وحدة المجتمع الإسلامي بشكل ظاهر

٢٢٢

أيضاً، وحسب الإنسان أن ينظر من ظاهرة الصلاة في الاصطفاف اليومي في المساجد، وفي الأعياد، وفي الصلاة في موسم الحجّ، لكي يحكم بأنّ هذا المجتمع المصلّي مجتمع واحد في حقيقته، مهما اختلفت جنسيّاته وأقاليمه، فكيف إذا أضاف إلى ذلك، وحدة الروحيّة في هذا الاصطفاف، ووحدة مركز الاتجاه فيه، ووحدة المحتوى الفكري الذي يعبّر عنه، والتفت إلى ما يستتبعه هذا الالتقاء من وحدة في شؤون أخرى كثيرة، وما يقدّمه من ثمرات كبيرة.

ومن ناحية ثانية، تقوم الصلاة بتعميق الوحدة في المجتمع الإسلامي؛ وذلك لأنّها بذاتها تمثّل وشيجة فكريّة وشعوريّة بين أفراده، ولا نريد أن نكرّر أنّ الصلاة الإسلاميّة ليست عملاً شكليّاً يقصد منه توحيد المجتمع في تقليد جامد.

وأنّها تربٍّ يومي ضروري لإعداد الشخصيّة المسلمة للقيام بدورها الطليعي في الحياة، وأنّها من هذا الأفق آية من آيات الله شكلاً، ومضموناً، وتأثيراً في تكوين شخصيّة الفرد والمجتمع، وتعميق مفاهيم الإسلام عن الأخوّة والتعاطف، والمساواة والحنان، والتكافل بين أفراد مجتمعه... فقد تقدّم من ذلك ما فيه الكافية.

لقد تعوّدنا أن نقرأ وأن نكتب عن الوحدة والمساواة بين الناس، وأن نُشيد بهذه الفكرة، ولكن يجب أن نعرف أن هذه المفاهيم لكي تسود المجتمع فلا بدّ من الانطلاق فيها من قاعدة عقائديّة متينة، ولا بدّ من تجسيدها بتشريعات فعّالة...

إنّه ما أيسر أن يقول الحكّام والأغنياء للناس: نحن أفراد منكم، لنا ما لكم، وعلنيا ما عليكم، ولكن ما أصعب أن يكون هذا الكلام ديناً يدينون به وحقيقة يعيشونها.

إنّ الإسلام يؤمن بأنّه لا يكفي لتحقيق الوحدة والمساواة في المجتمع، أن تسود المفاهيم والتشريعات النظريّة، في حين يبقى الواقع مفصولاً عنها رازحاً تحت وضع مضادّ لها، لذلك لا بدّ في رأيه من القضاء على الهوّة الفاصلة بين المفاهيم الخيّرة وبين الواقع الشرير... ولو أنّ الصلاة الإسلاميّة طبّقت في

٢٢٣

مجتمع ما، لقامت بنصيبها في تجسد الوحدة والمساواة، واقعاً حيّاً تراه العين وتلمسه اليد.

لقد تعوّدنا أن نرى الحاكم معزولاً عن الجماهير، وراء عشرات الأبواب والحجّاب، أو نراه محاطاً بحراسة المدجّجين، وبعناصر الإيهام التي يحشدها حول شخصه، ولم نتعوّد أن نراه يؤدّي صلاته اليوميّة، والأسبوعيّة في أي مسجد إلى جانب أفراد شعبه الذين يدعي أنّه واحد منهم.

تعوّدنا أن نرى الرأسمالي حاكماً صغيراً على الذين يطعمونه من جهدهم وعرقهم، ولم نتعوّد أن نراه يؤدّي صلاته مأموماً خلف عامل تقيّ يعمل عنده.

إنّ الوحدة والمساواة في المجتمع الإسلامي واقع معاش لا نظريات معلّقة، وإنّ دور الصلاة في تجسيد ذلك وتوحيد طول الناس تحت لواء الله، لهو دور مهم.

*وثالث المعطيات الاجتماعيّة للصلاة:

حقوق الأُمّة المصلّية في الأرض والناس

ويبرز هذا المُعطى من الصلاة حينما يكون أهل الأرض دولة واحدة، وأُمّة واحدة، قائمة على هدى الله، عاملة في تحقيق أهدافها التي رسمها لها، معلنة ربانيّتها وانتسابها إليه عزّ وجلّ في أوجه نشاطها اليومي، وفي وقفة الصلاة الواعي الخاشعة...

لكن أحسب أنّ هذا المعطى يبرز بصورة أوضح حينما يكون المصلّون قسماً من أهل الأرض، ففي هذه الحالة يمكننا بيسر أن نجري المقارنة بين انتساب الأُمّة المصلّية إلى وليّها، وانتسابات الأُمم الأُخرى إلى أوليائها، وفي هذه الحالة تظهر بوضوح الصلاحيات التي يعطيها الله للأُمّة المصلّية ويكلّفها بها في الأرض والشعوب.

ولا بدّ لنا لكي نتبيّن هذا المعطى من الصلاة، أن نقدّم صورة موجزة عن المكانة والحقوق التي يقرّرها الله عزّ وجلّ للأُمّة المسلمة، ثمّ ننظر دور الصلاة في هذه الحقوق والمكانة.

٢٢٤

أمّا هذه الحقوق فهي الحقوق الثلاثة التالية:

*حقّ ملكيّة الأرض.

*حقّ إقامة الحكم.

*حقّ هداية الناس.

فغير المسلمين لا يملكون في حكم الله شبراً واحداً من الأرض، ولا يحقّ لهم أن يقيموا دول، كما إنّهم غي مخوّلين من الله بدعوة الناس إلى هداه... وقد وقع الكثير من الكتّاب المسلمين في أخطاء ومفارقات لدى بحثهم عن الأساس القانوني في حروب الإسلام الجهاديّة، وفي تحويله ملكيّة الأراضي إلى المسلمين، وأخذ رسوم السكنى والمواطنة من غير المسلمين، ومنعهم من إقامة دولة...

وكان السبب في هذه الأخطاء: إمّا ضعف قلوب هؤلاء الكتّاب عن الجهر بما قرّره الله لأُمّة الإسلام، وإمّا جهالتهم بهذه الحقوق الثابتة للأُمّة الإسلاميّة، بنصوص لا تقبل الشكّ ولا التأويل:

قال الله عزّ وجلّ: ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) 33 - التّوبة.

( قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ) 29 - التّوبة.

وأمّا قوله تعالى: ( لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) فهو يقرّر مبدأ حريّة الاعتقاد للناس، ويحرّم إجبارهم على العقيدة الإسلاميّة، ولكنّ الذي يضمن هذه الحريّة إنّما هو الحكم الإسلامي، أمّا الحكم غير الإسلامي فهو يجبر الناس على عقيدته، ويمنعهم من إبصار الإسلام واعتناقه؛ ولذا فهو عقبة في طريق حريّة الاعتقاد.

عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (... وذلك أنّ... الأرض لله عزّ وجلّ

٢٢٥

ولرسوله ولأتباعهما من المؤمنين، فما كان من الدنيا في أيدي المشركين والكفّار والظلمة والفجّار... ظلموا فيه المؤمنين... فهو حقّهم أفاءه الله عليهم، وردّه إليهم... وإنّما معنى الفيء: كلّ ما صار إلى المشركين ثمّ رجع... إلى مكانه... فإنّما هي حقوق المؤمنين رجعت إليهم، بعد ظلم الكفّار إيّاهم، فذلك قوله: ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ) ، ما كان المؤمنون أحقّ به منهم، وإنّما أُذن للمؤمنين الذين قاموا بشرائط الإيمان...).

قال السائل: فقلت: فهذه نزلت في المهاجرين بظلمِ مشركي أهل مكّة لهم، فما بالهم في قتالهم كسرى وقيصر، ومن دونهم من مشركي قبائل العرب؟

فقال (عليه السلام) : لو كان إنّما أُذن لهم في قتال من ظلمهم من أهل مكّة فقط... كانت الآية مرتفعة الفرض عمّن بعدهم، إذ لم يبقَ من الظالمين والمظلومين أحد... وليس كما ظننّتَ، ولا كما ذكرتَ، ولكنّ المهاجرين ظلموا...أهل مكّة بإخراجهم من ديارهم وأموالهم، فقاتلوهم بإذن الله لهم في ذلك، وظلمهم كسرى وقيصر، ومن كان دونهم من قبائل العرب والعجم، بما كان في أيديهم، ممّا كان المؤمنون أحقّ به منهم، فقد قاتلوهم بإذن الله عزّ وجلّ لهم في ذلك... وبحجة هذه الآية يقاتل مؤمنوا كلّ زمان...)، (من حديث طويل في الكافي ج5 ص16 - 17).

ولا نريد هنا أن ندخل في تفصيل هذه الحقوق، التي يعطيها الله عزّ وجلّ للأُمّة المسلمة، ولا في بيان سندها القانوني، وحكمتها الاجتماعيّة، ولكن لا بدّ من كلمة لأولئك الذين يستكثرون أن تعطى أُمّة من الناس حقوقاً وامتيازات على الأُمم الأُخرى بسبب معتقدها الديني...

نقول لهؤلاء إنّكم لو نظرتم إلى هذه الامتيازات التي يعطيها الله للمسلمين، لوجدتم أنّها ليست امتيازات بمقدار ما هي واجبات وتكاليف، بنشر الهدى الإلهي وإقامة العدالة في شعوب العالم.

ثمّ لو سلّمنا بأنّها صلاحيات وامتيازات محضة، فليست هي امتيازات عرقيّة أو إقليميّة حتى يكون الحصول عليها وقفاً على جماعة معيّنة، وما دام الشرط الوحيد لهذه الامتيازات هو: إعلان التصديق بقضيّة فكريّة تملك أقوى البراهين، فما أيسر أن تكسبوا هذه الامتيازات ويكون لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم.

٢٢٦

وأمّا دور الصلاة من هذه الحقوق الممنوحة للأُمّة المسلمة فهو: أنّها شرط فيها... قال الله عزّ وجلّ: ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ...الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ) 39 و 41 - الحج.

( وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي ) 12 - المائدة.

وعن أبي عمرو الزبيري، عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: قلت له: أخبرني عن الدعاء إلى الله والجهاد في سبيله، أهو لقومٍ لا يحلّ إلاّ لهم، ولا يقوم به إلاّ من كان منهم؟ أم هو مباح لكلّ من وحّد الله عزّ وجلّ وآمن برسوله (صلّى الله عليه وآله وسلم)...؟ فقال (عليه السلام): (...من قام بشرائط الله عزّ وجل في القتال والجهاد... فهو المأذون له في الدعاء إلى الله عز وجل، ومن لم يكن قائماً بشرائط الله... فليس بمأذون له في الجهاد...إلخ). الكافي ج5 ص13.

واعتبار الصلاة شرطاً في هذه الحقوق يكشف لنا أوّلاً عن:

خطورة هذه الحقوق وثقلها... وماذا أخطر من مهمّة إدارة أرض الله وإعمارها، وتحقيق العدالة بين شعوبها، وتوعيتهم على هدى الله عزّ وجلّ؟

ويكشف لنا ثانياً عن: أنّ الوفاء بهذه المهمّة يتوقّف فيما يتوقّف على التربّي اليومي في معهد الصلاة، المعهد الذي يزوّد الأُمّة بالطاقة المستقيمة، ويشعرها أنّها أُمّة منتمية إلى الله، وقائمة بتكاليفه، وموافية إيّاه عزّ وجلّ في لقاء مسؤول.

أمّا إذا لم تقم الأُمّة بأداء الصلاة فإنّها لا تستحقّ شيئاً من هذه الحقوق؛ لأنّ حالها يكون كحال الأُمم الأُخرى الفاسقة عن أمر ربّها، المحتاجة إلى أُمّة تقوم على شؤونها وتهديها إلى الله.

وهكذا تأخذ الصلاة موقعها في إعداد الأُمّة وتوفير القابلية فيها للقيادة والقيمومة على الأرض وشعوبها، فأين حكّامنا وأين أُمّتنا عن هذه الصلاحيات الإلهيّة المشرّفة، وأين هم عن معهد الصلاة؟

٢٢٧

المُعطى الصحّي

إنّ المعطيات الصحيّة للصلاة، موضوع جدير بدراسة مستقلّة، ولكي تكون هذه الدراسة جيدة، لا بدّ أن يكون المؤلّف مختصّاً، وأن يعطي الموضوع ما يستحقّه من الجهد، وأن يتّبع منهجاً علميّاً سليماً في دراسته.

فما لم يكن المؤلف مختصّاً في الطبّ اختصاصاً يؤهّله لمثل هذه الدراسة، فإنّ استنتاجاته وآراءه ستكون تخمينات ظنّية مهما اتّسعت ثقافته الطبية، بل لا بدّ للكاتب في هذا الموضوع - إلى جانب اختصاصه - أن يكون عارفاً بالمعطيات النفسيّة للصلاة، وملمّاً بالتفاعل المتبادل بين الحالات النفسيّة والوظائف الجسديّة.

وما لم يعط الموضوع حقّه من الدراسة النظريّة والمختبريّة، فإنّ نتائجه لا تجيء قطعيّة ودقيقة، ولهذا كان علينا أن لا ننظر بكثير من التقدير إلى آراء الأطباء الذين يكتبون، أو يصرّحون عن معطيات الصلاة الصحّية، دون أن يدرسوا الصلاة دراسة طبيّة دقيقة، بل أحسب أن ملاحظاتنا الشخصيّة قد تكون أدقّ من كلام الطبيب السطحي.

وكذلك الأمر بالنسبة إلى سلامة المنهج، فإنّ دراسة المعطيات الصحّية للصلاة من نوع الدراسات التي تحلّل التشريعات الإلهيّة على ضوء العلم، وهذه الدراسات تتعرّض عادة للإعجاب بالنتائج العلميّة الظنّية واعتبارها نتائج نهائيّة، كما تتعرّض للإغراق في تحميل التشريعات ما لا تحتمله من المعطيات، ممّا يجعل الربط بينها وبين النظريّات العلميّة ربطاً ركيكاً وغريباً في بعض الأحيان.

الدراسة الطبيّة للصلاة ينبغي أن تبدأ في تقديري بنظرة موجزة عن العناية

٢٢٨

الصحيّة المأخوذة بعين الاعتبار في كلّ تشريعات الإسلام، وينبغي أن يستشهد لذلك بأمثلة من تشريعات الإسلام المختلفة، وبالأخصّ تشريعات التغذية والصوم والطبابة والتطهّر والصلاة... ثمّ تدرّس فقرات الصلاة ذات العلاقة الأكيدة بالصحّة الجسديّة، فتبحث مثلاً:

* الاستيقاظ المبكر وعلاقته بصحة الرئة ونقاء الدم...

* والنوم المبكر وعلاقته بصحّة الجسم بشكلٍ عام...

* والتطهّر بأنواعه وعلاقته بصحّة الجسم بشكلٍ عام...

* والسواك - المستحب قبل كلّ وضوء - وعلاقته بصحّة الفم والمعدة...

* والاستنشاق - المستحب قبل كلّ وضوء ثلاث مرات - وعلاقته بصحّة الأنف والرأس.

* وغسل الأطراف، وعلاقته بصحّة الأطراف والجسم.

* والوقوف للصلاة باطمئنان، وعلاقته بصحّة الأعصاب.

* والركوع - الذي يتكرّر في الأقلّ 17 مرّة يوميّاً - وعلاقته بصحّة العمود الفقري وجهاز الهضم.

* والسجود - الذي يتكرّر في الأقلّ 34 مرّة يوماً- وعلاقته بصحّة الجهاز الهضمي، ودورة الدم في الرئة والرأس.

* والسجود على الأعضاء السبعة - الجبهة والكفّين والركبتين وإبهامي الرجلين - وعلاقة ذلك بصحّة الشرايين.

* وجلسة التورّك المستحبّة في الصلاة وهي: أن يجلس المصلّي على فخذه الأيسر، واضعاً ظاهر قدمه اليمنى على باطن قدمه اليسرى.

* وكراهة الجلوس على القدمين... وعلاقة ذلك بسلامة الفقرات، والجهاز الهضمي.

* وكراهة افتراش الساعدين حال السجود (كما تجلس السباع) وعلاقته

٢٢٩

بشرايين عضلات الأطراف.

ثمّ لا بدّ للدراسة الطبيّة للصلاة أن تُختم ببحث مسألتين مهمّتين:

الأوّل منها: الرياضة التلقائيّة التي تعطيها الصلاة، وأوجه الفرق بينها وبين الرياضة المقصودة.

والثانية: تأثير المُعطى النفسي من الصلاة على الوظائف الجسديّة المتنوّعة.

وها أنت ترى من هذه الفهرسة الأوليّة، أنّ العطاء الصحّي للصلاة موضوع جدير بالعناية والجهد من مختصيّن؛لكي يكشفوا لنا ما يقدّمه الالتزام بهذه الفريضة من نتائج صحيّة في حياتنا، أفراداً وأُمّةً...

ولكن ذلك لا يمنعني من تسجيل ملاحظات حول المسألتين الأخيرتين:

الرياضة التلقائيّة

لقد بلغت الحركة الرياضيّة العالميّة في عصرنا الحاضر من السعة، والتنوّع ما لم تبلغه في أي من العصور الماضية... ونظرة أوليّة إلى الدورات الأولمبيّة كافية للتدليل على ذلك.

وإذا سألت القائمين على الحركة الأولمبيّة العالميّة، عن تقييمهم للأُسس والمبادئ التي تقوم عليها وتسير عليها الحركة، لأجابوا بأنّها: أُسس ومبادئ سليمة للغاية، ولاستدلّوا على ذلك بالتأييد العالمي المنقطع النظير للحركة.

ويأخذ الناس العجب إذا قلت لهم: أنّ الحركة الرياضيّة تنطوي على خطرين كبيرين؟ وأنّه إذا لم يُعمل لتفاديهما فسوف يتفاقمان ويجعلان من الحركة الرياضيّة سلاحاً عالميّاً قتّالاً.

المشكلة الأُولى التي تواجهها الرياضة: تركيز العداء بين شعوب العالم، العداء بين الأنظمة، والعداء العرقي، والعداء الإقليمي... فها هي الحركة الأولمبيّة معرض للتنافس المقيت، بين الأنظمة والعناصر والأقاليم، وكلّ دولة

٢٣٠

تحشّد طاقاتها للفوز بأكبر كميّة من المدَّليات، لكي تسخّر كلّ ذلك في الدعاية إلى نظامها، وعرقها، وإقليمها، أمّا الأُخوّة الدوليّة الرياضيّة فما هي إلاّ نفاق صريح! تحسّ به أيدي الرياضيين المتشابكة، وحكوماتهم، والواعون من الناس، ويغفل عنه السذج من الجماهير...

ولا أجدُني بحاجة إلى التدليل على هذه المشكلة الخطيرة، بعد أن سمعت تصريحاً - أليماً! - لرئيس اللجنة الأولمبيّة يدعوا فيه: إلى الحدّ من استعمال الفوز بالمدَّليات، للدعاية إلى نظام البلد الفائز، والحطّ من أنظمة البلدان الأخرى، ويعلن فيه: أنّ فوز بلدٍ بكميّة أكبر من المدَّليات لا يدلّ على أفضليّة النظام القائم فيه..

والمشكلة الثانية: تحويل الإنسان إلى جسد، فلا خلاف في أن تقييم الإنسان أوّلاً إنّما هو: بفكره وشعوره وسلوكه، وأنّ جسده ليس أساساً في ميزان إنسانيّته.

إنّ هذا المركب الإنساني من روح وجسد، يجب أن ننظر إليه ككيان جسدي وروحي، يتكّون بالمكوّنات الثلاثة الآنفة الذكر، أمّا إذا نظرنا إليه كهيكل جسدي ميكانيكي فقط، فقد خرجنا به عن الإنسان الكامل، إلى الحيوان القوّي الماهر.

وهذا ما تفعله الحركة الرياضيّة العالميّة! وهذا هو الشيء الذي يعجب جماهير العالم من الرياضيين، فتصفّق وتهتف وتصفّر!

لا أريد أن أدخل في تحليل نفسيٍ لإعجاب الجماهير الرياضيّة وحماسها، ولكنّي أسأل: ترى هل كان يختلف هذا الحماس إذا قرّرت اللجنة الأولمبيّة استبدال الرياضيّين من الناس، برياضيّين مدرّبين من، الأسود، والخيول، والأرانب والديَكة...؟

سيبقى الحماس، ويبقى كذلك تشجيع الدول وتسخيرها المدليّات التي تفوز بها حيواناتها، للدعاية إلى نظامها وعنصرها وإقليمها.

ثمّ ما هو الشيء الذي يعجب الرياضيّين من أنفسهم؟ أهو إنسانيّتهم أم أجسادهم؟.

لقد حوّلت الهواية الرياضيّة هؤلاء المساكين إلى عباد أجساد، إنّ أُنفس الكثيرين منهم تطفح من خلال تصفياتهم، وكلامهم! أمّا الخُلق الرياضي والروح الرياضة التي يتمتّع بها هؤلاء، فهي بالحقيقة النفاق الرياضي،

٢٣١

والوحشيّة الرياضيّة، وإلى العقُد النفسيّة، والأحقاد الرياضيّة التي تملئ قلوب أكثر الرياضيّين، وتمتد من ورائهم إلى جماهيرهم!.

وما يقال عن الحركة الرياضيّة على مستوى العالم، يقال بعينه على مستوى كلّ دولة وكلّ مدينة... فماذا أخطر من تيّارٍ عالمي تنساق له الجماهير، وهو يحمل في طياته ترسيخ العداء بين الناس وتعبيد الإنسان لجسده...؟!

إنّه لا بدّ أوّلاً من تأطير الحركة الرياضيّة بإطار إنساني، بدلاً من الإطار الذاتي الذي ترزح تحته الآن...

لماذا لا تُعطى الحرّية في الدورات الأولمبيّة وغيرها للرياضيّين أنفسهم، لكي يقسّموا أنفسهم إلى مجموعات وفِرق، بقطع النظر عن انتمائهم الدولي والعنصري؟ أو لماذا لا يتمّ تقسيمهم إلى فرقٍ بطريقة القرعة من قبل اللجنة الأولمبيّة نفسها؟ لماذا لا تزال هذه الحلبة السياسيّة الماكرة التي تلعب بهؤلاء الكرات، وبأذهان الجماهير من ورائها...؟

ولا بدّ ثانيّاً من حصر الحركة الرياضيّة في أنواع الرياضة التي نحتاجها لحياتنا، فما هي فائدة سباق الحواجز بالخيول؟ وما فائدة سباق رمي الرمح والقلّة؟ وما فائدة العديد من أنواع الرياضة المتبنّاة من اللجنة العالميّة ومن الرياضة العالميّة...

لماذا لا نستبدل هذه الأنواع بأنواع نافعة؟ لماذا لا تدخل في الألعاب الأولمبيّة رياضة القتال للدفاع عن الأوطان، وعن النفس بالذخيرة الشكليّة، وبأنواع الأسلحة؟

ولماذا لا تدخل رياضة التصنيع مثلاً بتعطيل المكائن الصناعيّة ومحاولة المهندسين إعادة تشغيلها في أوقات قصيرة، وللعمّال بكميات الإنتاج ونوعيّاته في مختلف الظروف...؟ ولماذا...؟ ولماذا؟

ولا بدّ ثالثاً من ابتكار نوع من الرياضة، وليسمّى: (الرياضة التلقائيّة) ، فلماذا تنحصر الحركة الرياضيّة بشعار (الرياضة للرياضة) أو (الرياضة للتسلية) ولا يرفع شعار: (الرياضة للعمل) أو (الرياضة للنهوض بالشعوب) ، فتشكل فِرق رياضيّة عالميّة من المهندسين والمهنيين والعمّال، وتقيم مبارياتها في

٢٣٢

دولة ناميّة لتنتج لها في شهر من الزّمان عشرة مشاريع، أو خمسة، تكون عاملاً من عوامل النهوض بها، ثمّ يطلق على كلّ مشروع اسم: الفريق الذي فاز بأكثر المدليّات فيه...؟ ولماذا...؟ ولماذا؟

لا أعتبر هذه الفقرات مشروعاً لتصحيح الحركة الرياضيّة، وإنّما لا بدّ من أخذ هذه العناصر بعين الاعتبار في مشروع تصحيح الحركة الرياضية، وتفادي أخطارها الجسيمة القائمة، كما لا بدّ من أخذها بعين الاعتبار في إنشاء كلّ نشاط رياضي صحيح...

وهل تعلم أنّ هذا هو رأي الإسلام في الرياضة...

نعم ، الإسلام المنهج الربّاني الذي يجهل أهل الأرض عطاء تشريعاته، وإبداعه في مجالات حياته جميعاً.

في المفاهيم والأُطر التي يتبنّاها الإسلام في الحركة الرياضيّة، وفي كلّ نشاطات الناس، لا وجود للتنافس العِرْقي والإقليمي والذاتي؛ لأنّها مفاهيم رفضها الإسلام بحزم، جملةً وتفصيلاً، واستبدلها بالوحدة الإنسانيّة، وبالتنافس بالعمل من أجلها...

إنّ الإسلام يحرّم كافّة النشاطات التي تنمّي هذا التنافس المحرّم، (وأكثر من هذا، فقد حدث في خلافة أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، تفاخر بين اثنين من المسلمين، قام على أثره أحدهما بذبح مئة من إبله، وأباحها للناس، فحرّمها الإمام (عليه السلام)، وأمر بها أن تلقى في كُناسة الكوفة) .

وكذلك يأبى الإسلام أن يسلك في تأييد نظامه الأساليب غير المنطقيّة.

وعن حصر الحركة الرياضيّة في الأنواع النافعة، يمكن أن ترجع إلى مصادر الإسلام الفقهيّة، لتجد أنّها تحرّم أنواع اللهو والعبث، بينما تشرّع المباراة والرهان على نشاطات الفروسيّة، وإعداد القوى اللاّزمة لكيان الأُمّة.

وعن الرياضة التلقائيّة فقد سبق الإسلام أحدث ما يمكن أن يصل إليه الابتكار الرياضي في هذا المضمار، فبالإضافة إلى أنّ الفقه الإسلامي يشّجع التنافس الرياضي في مجالات إعمار الأرض، وإعداد القوّة، ويرحّب بمبدأ الجوائز والمدليّات (الجُعالات) ، ويعتبر ذلك عملاً مبروراً، فقد ضمن في شريعته

٢٣٣

الرائعة لكلّ فرد من الناس نصيبه اللاّزم من الرياضة التلقائيّة اليوميّة والسنويّة.

إنّي لا أشكّ في أنّ تشريع الله عزّ وجلّ لفريضة الصيام الحازمة، وفريضة الصلاة اليوميّة، ذات الحركات الرياضيّة المتقنة المركّبة، قد قصد منه فيما قصد، تزويد الإنسان بما يحتاجه إلى الرياضة الجسديّة، الرياضة التلقائيّة التي تعمّق إنسانيّة الإنسان، ولا تحوّله إلى هيكل جسدي.

وإنّ على الدراسة الصحيحة لفريضة الصلاة، أن تدرس الجانب التلقائي في عطاء الصلاة الرياضي، وتقارنه بعطاء النشاطات الرياضيّة المتعمدة، فإنّي أحسب أنّ الفارق بينهما بالغ.

العلاقة بين النفس والصحّة الجسديّة

سواء كانت حقيقة النفس طاقة مادّية في الجسم، أو مِثالاً نورانيّاً حالاًّ فيه، أو وجوداً مجرّداً يدير الجسم، أو أيّ شيء آخر... فإنّ تبادل التفاعل بينها وبين الجسد حقيقة بديهية لا يسعنا إلاّ الاعتراف بها... فها نحن نتأثّر نفسيّاً فنمرض، ونُمرِّض فنتأثّر نفسيّاً.

وقد أصبحت هذه الحقيقة - خاصّة في العقود الأخيرة - موضع اهتمام الدراسات والمناهج الطبيّة، في كافّة جامعات العالم، وكذلك في بعض العلاج الطبّي.

أمّا ما هي حقول هذا التأثير المتبادل؟ ما هي الأمراض الجسديّة ذات المنشأ النفسي؟ وما هي الأعراض النفسيّة ذات المنشأ الجسدي؟ فإنّك تخرج من القراءات الطبيّة والنفسيّة بنتيجة واحدة هي: أنّ البحوث في هذا العلم (علم النفس الطبّي، أو علم الطبّ النفسي) لا زالت في أولى خطواتها...

وينبغي أن يكون الأمر كذلك؛ لأنّ الصعوبات التي تواجه هذا العلم صعوبات غير عاديّة.

فمن هذه الصعوبات: ما هي حقيقة النفس؟ إنّ معلوماتنا عن هذه الطاقة التي تعمل بين جنبينا لا تكاد تذكر!

٢٣٤

ومن هذه الصعوبات: كثرة الوظائف لأجهزة الجسد وتشعّبها وتشابكها، إنّ علم الطب لا يدّعي إلى الآن أنّه أحاط بكلّ وظائف الجسد، ولا بأكثرها!

ومن هذه الصعوبات : من أين نبدأ؟ فما دام التأثير بين النفس والجسد متبادلاً فما الذي يضع يدنا على المنشأ، وما الذي يضمن في أكثر الأحيان أن لا نحسب السبب نفسيّاً وهو عضوي، أو عضويّاً وهو نفسي...؟

ومن هذه الصعوبات: منهج البحث في هذا العلم الذي يتردّد بين المنهج التجريبي المحض، وبين المنهج العقلي المحض، وبين المنهج العقلي الميتافيزي، أو بين المنهج المزيج الذي لا ندري كيف يمكن أن نكّونه، كما يتردّد المنهج الواحد بين طرق عديدة...

ومن هذه الصعوبات: ما هو الوضع الصحّي السليم للنفس، الذي يضمن عدم تأثيرها على وظائف الجسد، وما هو نظام التغذّي والعيش السليم الذي يضمن عدم تأثير الجسد على النفس...؟ إلى آخر المصاعب الرئيسيّة التي تعترض هذا العلم.

ولكن مع كلّ هذه المصاعب، فقد أصبح لدينا من النتائج الوئيدة لهذا العلم حصيلة من الحقائق والنظريات، لا تدع مجالاً للشكّ، بأنّ توفّر الإنسان على نفسٍ راضية مطمئنّة، هو عامل فعّال في صحّته الجسديّة.

وهذه الحقيقة العلميّة كافية لأنّ تفتح لنا حقلاً لدراسة المُعطى الصحّي للصلاة، ويمكن أن نتّبع في هذا البحث إحدى طريقتين.

الأُولى: الدراسة المختبريّة: بأن نأخذ عدّة نماذج مصلّية، وعدّة نماذج أُخرى غير مصلّية من بيئة وشروط متقاربة، ثمّ نقارن بين المستوى الصحّي لهؤلاء المصلّين وذريّاتهم، وبين المستوى الصحّي لأولئك وذريّاتهم.

والطريقة الثانية: أن ندرس صورةً لمجتمع يؤدّي فريضة الصلاة، بظروفها وشروطها الإسلامية، وصورة مجتمع لا يصلّي، ثمّ نقارن بين النتائج الصحيحة في كلٍّ من المجتمعين المتجانسين في الشروط.

٢٣٥

وإذ نأتي على ختام هذا الفصل الذي ألمَمنا فيه ببعض المعطيات، العقليّة، والنفسيّة، والاجتماعيّة، والصحيّة للصلاة، علينا أن ننظر بتأمّل وتفهّم النصوص الإسلامية المتشدّدة في أمر الصلاة.

إنّ عملاً بهذا المستوى من الضرورة لحياة الفرد والأُمّة، وبهذه المكانة من الثراء والعطاء، لهو عمل جدير بأن يتشدّد الله عزّ وجلّ في أمره، ويجعله فريضة من أركان دينه ومنهجه لحياة الناس... فيأمر به مؤكّداً، ويحذّر من تركه مشدّداً:

( وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ )

( وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ )

( إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً )

( وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ )

( قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى )

( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ )

( مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَر* َقَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ )

وتأتي السنّة الشريفة فتبيّن مكانة هذه الفريضة وتعبّر عن ذلك بأبلغ التعبير.

تارة بأنّها: عماد الإسلام ووجه الإسلام.

وتارة بأنّها: عنوان صحيفة المسلم، والميزان لكافّة أعماله.

وتارة بأنّها: قربان كلّ تقي، وأفضل الأعمال بعد المعرفة، وأنّ لها أربعة آلاف باب...

وتحذّر من مغبّة تركها، فتبيّن أنّ إثم تارك الصلاة من أكبر الآثام، وإنّه لا خير في من لا يصلّي، وأنّ الشيطان يطمع في من لا يصلّي، وتأمر بمقاطعة من لا يصلّي، إذا كان ذلك نافعاً في حمله على الصلاة.

إنّ من يتأمّل في ضرورة الصلاة وآثارها الكبيرة؛ سيجد أنّ من المنطق أن يولِي الإسلام هذه الفريضة هذه المكانة، وهذا التأكيد والتحذير... فما ضرورة الصلاة في حياة الفرد والأُمّة، إلاّ كضرورة الغذاء والهواء، فأمّا إذا انقطع

٢٣٦

الإنسان عن الغداء والهواء فإنّه ينهار في مكانه... وأمّا إذا انقطع عن الصلاة فإنّه يتيه في كلّ طريق، وينهار في كلّ وادٍ.

٢٣٧

الفصل الخامس

الجنايات على الصلاة

* جناية الجهل

* جناية الذاتيّة

* جناية الحكّام والمستعمرين

٢٣٨

جناية الجهل

ممّن لا يصلّون

ليست القدرة على الوعي هي المشكلة في الإنسان، إنّما المشكلة إرادة الوعي... وإرادة الوعي كإرادة الحياة، أمر يملك خياره الإنسان، فهو الذي يقرّ أنّ يسير فيه قِدماً أو يرفضه طريقاً.

كم في الحياة من أشياء وأمور لا تستحقّ أن يصرف الناس عليها وقتاً وذهناً، يعطونها من أنفسهم الكثير، وكم فيها من أشياء وأمور تستحقّ أن يفتحوا لها عقولهم وقلوبهم، ويستوعبوها ويعوها، تراهم يغمضون عنها أعينهم!

ألا تعجب من جماهير يقال لها: إنّ أمامها حياة على غير الأرض، ثمّ هي لا تسأل عن هذه الحياة؟ ولا تتبيّن إليها الطريق؟! يقال لها: إنّ لها ربّاً سيسألها لا محالة عن تصرّفها، ثمّ هي لا تسأل نفسها إن كان ذلك صحيحاً..؟!

والأعجب من ذلك من يدّعي الوعي من الناس، ثمّ ينفق عمره في جزئيّات عاديّة أو تافهة، ولا يحاول أن يبحث مسائل مصيره المطروحة أمامه..!

ترى كيف يسمّى واعياً من تطرق سمعه دعوى كبيرة تخصّ وجوده ومصيره كدعوى الدين، ثمّ لا ينظر ما لهذه الدعوى وما عليها...؟ أو تطرق سمعه دعوى كبيرة كدعوى الصلاة، تقول له: إنّي في أقصى درجات الضرورة لحركة حياتك، ثمّ لا يبحثها ولا يتخّذ منها موقفاً...؟

وكذلك هي الجناية على الصلاة، جزء من الجناية على الإسلام بطريقة (تعمّد الجهالة)، فالعامل الأساس في جهالة الصلاة: تعمّد الإعراض والرضا به، ثمّ يجيء من بعده دور العوامل المساعدة، من مشاغل الحياة، وفراغ وسائل

٢٣٩

الإعلام من توعية الأُمّة على إسلامها، وخلوّ مناهج التربية من تربية الأُمّة على رسالتها، وحاجة المكتبة الإسلاميّة إلى الدراسات والكتب الميسّرة...

فكلّ هذه العوامل لو كانت بجانبها إرادة الوعي لتغلّبت عليها، ولذا كانت الجهالة بالصلاة جناية عليها خاصّة من أولئك (المثقّفين) الذين يقرأون عن أيّ شيءٍ إلاّ عن الإسلام، ويفكرون في أيّ شيءٍ إلاّ في الإسلام، ويبحثون عن حاجتهم لأيّ شيءٍ إلاّ عن حاجتهم إلى الإسلام وصلاته.

إنّ أكثر أبناء الإسلام - فضلاً عن الجمهور - لا تشكّل معلوماتهم عن الإسلام شيئاً يذكر، أمّا معلوماتهم عن الصلاة فقد تكون مجرّد سماع اسمها، أو رؤية من يتمتم بها ويؤدّيها...

لقد أُشربوا في قلوبهم الإعراض عن إسلامهم، والإصرار على جهالته، كما أُشرب بنو إسرائيل بالعجل! وإذا سألتهم عن السبب اعترفوا بجهلهم، واعتذروا بأعذارهم... ولكن ليتهم يعتذرون بالجهل، ويتوقّفون عن إصدار أحكامهم على الإسلام على صلاة الإسلام...

وهل ننتظر في حلّ هذه المشكلة أن تستقيم وسائل الإعلام، وتعتدل مناهج التعليم، وتخلِص الحكومات في توعية الأُمّة على الصلاة؟

إنّ التوعية على الصلاة هي جزء من التوعية على الإسلام، لا يصحّ أن تنتظر فيها تبديل قانون الله، فقد قَرن الله عزّ وجلّ وعي هذا الدين بالجهد البشري... فلا بدّ للواعين لإسلامهم وصلاتهم، أن يواصلوا الجهود ويعملوا في تذليل الصعاب، لا بدّ أن نثير الضمائر وندفعها إلى اتّخاذ الوعي مبدأً بدل الجهالة، ولا بدّ أن ننفض عن العقول الركام المزمن حتى يتحوّل وعي الصلاة وأداؤها إلى تيّار يفرض نفسه على الناس بجدارة.

وإنّي على ثقة بأنّ كثيراً من الجانين على الصلاة بالجهالة سيتحوّلون إلى مصلّين مخلصين، وإلى دعاة إلى الصلاة.

مِنْ مصلّين

والنوع الآخر من الجُناة على الصلاة بالجهالة، مصلّون يؤدّون الصلاة في كلّ يوم! فكثيرون أولئك الذين ترافقهم الصلاة في حياتهم، ولكنّهم لا يكلّفون

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257