فلسفة الصلاة

فلسفة الصلاة0%

فلسفة الصلاة مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 257

فلسفة الصلاة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: علي الكوراني
تصنيف: الصفحات: 257
المشاهدات: 61862
تحميل: 8288

توضيحات:

فلسفة الصلاة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 257 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 61862 / تحميل: 8288
الحجم الحجم الحجم
فلسفة الصلاة

فلسفة الصلاة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

اليقين العقلي ودور الصلاة فيه

درجات اليقين العقلي

يجب أن نميّز في اليقين - أيّ يقين - بين ناحيتين: إحداهما : القضيّة التي تعلّق بها اليقين، والأُخرى : درجة التصديق التي يمثّلها اليقين.

فحين يوجد في نفسك يقين بأنّ جارك قد مات، تواجه قضيّة تعلّق بها اليقين وهي: أنّ فلاناً مات، وتواجه درجة معيّنة من التصديق يمثّلها هذا اليقين؛ لأنّ التصديق له درجات تتراوح من أدنى درجةٍ للاحتمال إلى الجزم، واليقين يمثّل أعلى تلك الدرجات، وهي درجة الجزم الذي لا يوجد في إطاره أي احتمال للخلاف.

وإذا ميّزنا بين القضيّة التي تعلّق اليقين بها، ودرجة التصديق التي يمثّلها ذلك اليقين، أمكننا أن نلاحظ: أنّ هناك نوعين ممكنين من الحقيقة والخطأ في المعرفة البشريّة.

أحدهما: الحقيقة والخطأ في اليقين من الناحية الأُولى، أي: من ناحية القضيّة التي تعلّق اليقين بها، والحقيقة والخطأ من هذه الناحية مردّهما إلى تطابق القضيّة التي تعلّق بها اليقين مع الواقع، وعدم تطابقها، فإذا كانت متطابقة فاليقين صادق في الكشف عن الحقيقة، وإلاّ فهو مخطئ.

والآخر: الحقيقة والخطأ في اليقين من الناحية الثانية، أي: من ناحية الدرجة التي يمثّلها من درجات التصديق، فقد يكون اليقين مصيباً وكاشفاً عن الحقيقة من الناحية الأُولى، ولكنّه مخطئ في درجة التصديق التي يمثلها.

فإذا تسرّع شخص وهو يلقي قطعة النقد، فجزم بأنّها سوف تبرز وجه الصورة، نتيجة لرغبته النفسيّة في ذلك، وبرز وجه الصورة فعلاً، فإنّ هذا الجزم واليقين المسبّق، يعتبر صحيحاً وصادقاً من ناحية القضيّة التي تعلّق بها؛ لأنّ هذه القضيّة طابقت الواقع، ولكنّه رغم ذلك يعتبر يقيناً خاطئاً من ناحية درجة التصديق التي اتّخذها بصورة مسبّقة، إذ لم يكن من حقّه أن يعطي درجة للتصديق بالقضيّة: (إنّ وجه الصورة سوف يظهر) أكبر من الدرجة التي

٢٠١

يعطيها للتصديق بالقضيّة الأُخرى: (إنّ وجه الكتابة سوف يظهر).

وما دمنا قد افترضنا إمكانية الخطأ في درجة التصديق، فهذا يعني افتراض أنّ للتصديق درجة محدّدة في الواقع، طبق مبررات موضوعيّة، وأنّ معنى كون اليقين مخطئاً أو مصيباً في درجة التصديق: إنّ درجة التصديق التي اتّخذها اليقين في نفس المتيقّن، تطابق أو لا تطابق الدرجة التي تفرضها المبررات الموضوعيّة للتصديق.

ولنأخذ مثلاً آخر: نفترض أنّنا دخلنا إلى مكتبة ضخمة، تضمّ مئة ألف كتاب، وقيل لنا أنّ كتاباً واحداً فقط من مجموعة هذه الكتب قد وقع نقص في أوراقه، ولم يعيّن لنا هذا الكتاب.

ففي هذه الحالة إذا ألقينا نظرة على كتاب معيّن من تلك المجموعة، فسوف نستبعد جدّاً أن يكون هو الكتاب الناقص؛ لأنّ قيمة احتمال أن يكون هو ذاك، هي: 1 / 100.000، ولكن إذا افترضنا أنّ شخصاً ما تسرّع وجزم - على أساس هذا الاستبعاد - بأنّ هذا الكتاب ليس هو الكتاب الناقص، فهذا يعني: أنّ اليقين الذاتي قد وجد لديه، ولكنّنا نستطيع أن نقول بأنّه مخطئ في يقينه هذا، وحتى إذا لم يكن هذا الكتاب هو الكتاب الناقص حقّاً، فإنّ ذلك لا يقلّل من أهمّية الخطأ الذي تورّط فيه هذا الشخص.

وسوف يكون بإمكاننا أن نحاجّه قائلين: وما رأيك في الكتاب الآخر، وفي الكتاب الثالث... وهكذا؟ فإن أكّد جزمه ويقينه الذاتي بأنّ الكتاب الآخر ليس هو الناقص أيضاً، وكذلك الثالث... وهكذا، فسوف يناقض نفسه؛ لأنّه يعترف فعلاً بأنّ هناك كتاباً ناقصاً في مجموعة الكتب، وإن لم يُسرع إلى الجزم في الكتاب الثاني، أو الثالث، طالبناه بالفرق بين الكتاب الأوّل والثاني...

وهكذا، حتى نغيّر موقفه من الكتاب الأوّل، ونجعل درجة تصديقه بعدم نقصانه لا تتجاوز القدر المعقول لها، فلا تصل إلى اليقين والجزم.

فهناك - إذاً - تطابقان في كلّ يقين: تطابق القضيّة التي تعلّق اليقين بها مع الواقع، وتطابق درجة التصديق التي يمثّلها اليقين مع الدرجة التي تحدّدها المبررات الموضوعيّة.

٢٠٢

ومن هنا نصل إلى فكرة التمييز بين اليقين الذاتي، واليقين الموضوعي.

فاليقين الذاتي هو : التصديق بأعلى درجة ممكنة، سواء كان هناك مبررات موضوعيّة لهذه الدرجة أم لا.

واليقين الموضوعي هو : التصديق بأعلى درجة ممكنة، على أن تكون هذه الدرجة متطابقة مع الدرجة التي تفرضها المبررات الموضوعية، أو بتعبير آخر: إنّ اليقين الموضوعي هو: أن تصل الدرجة التي تفرضها المبررات الموضوعيّة إلى الجزم.

وعلى هذا الأساس قد يوجد يقين ذاتي، ولا يقين موضوعي، كما في يقين ذلك الشخص الذي يرمي قطعة النقد ويجزم مسبقاً بأنّ وجه الصورة سوف يبرز، وقد يوجد يقين موضوعي، ولا يقين ذاتي، أي: تكون الدرجة الجديرة وفق المبررات الموضوعيّة هي درجة الجزم، ولكن إنساناً معيّناً لا يجزم فعلاً، نظراً إلى ظرف غير طبيعي يمرّ به.

وهكذا نعرف: أنّ اليقين الموضوعي له طابع موضوعي مستقلّ عن الحالة النفسيّة، والمستوى السيكولوجي الذي يعيشه هذا الإنسان أو ذاك فعلاً، أمّا اليقين الذاتي فهو يمثّل: الجانب السيكولوجي من المعرفة. (من كتاب الأُسس المنطقية للاستقراء).

لشهيد الإسلام السيد محمد باقر الصدر - ص358 - 361.

* * *

السلبي للعامل الذاتي

كما يكون تأثير العامل الذاتي إيجاباً يسبب ارتفاع درجة التصديق، عن الذي تجيزه المبررات الموضوعيّة، كذلك يكون سلباً، فيسبّب انخفاض لتصديق عن الحدّ الذي توجبه المبررات الموضوعية...

ويمكننا ملاحظة ذلك في نفس مِثاليْ قطعة النقد، والكتاب الناقص المتقدّمين، فإنّ المبررات الموضوعية لظهور وجه الصورة، وظهور وجه الكتاب في القطعة النقديّة متساوية، وكذلك كان الواجب الاعتقاد والجزم بهذا التساوي، ولكنّ العامل الذاتي منع منه.

٢٠٣

وهكذا، فإنّ كلّ تأثير ذاتي يسبب ارتفاعاً في درجة التصديق، عن درجة المبررات الموضوعيّة، يقابله تأثير سلبي يسبب انخفاض التصديق عن درجة المبررات الموضوعيّة المقابلة.

كما يمكن ملاحظة التأثير السلبي للعامل الذاتي، في كثير من القضايا التي تملك المبررات الموضوعيّة أي: الأدلة الكافية لأعلى درجات الجزم واليقين، ومع ذلك يمنع العامل الذاتي صاحبه أن ينعم باليقين، حتى إنّك لتجد إنساناً يشكّ في كرويّة الأرض، أو يشكّ في قانون العليّة، أو يشكّ في وجود روحه في جسده، أو يشكّ في ثبوت البداية للطبيعة، وهو يعتقد أنّ لكلّ شيءٍ فيها عمراً، أو يشكّ في وجود الله، وهو يرى خلق الله!

تأثير العامل الذاتي في حقل اليقين

وهناك تأثير آخر للعامل الذاتي، ففي الأمثلة المتقدّمة كان تأثيره تصعيد درجة التصديق من الشكّ إلى الجزم، أو المنع من الجزم وإبقاء الإنسان في حالة الشكّ أو الظنّ، في حين أنّ المبررات الموضوعيّة توجب حصول الجزم.

أمّا هذا التأثير فيقع في حقل الجزم نفسه، فإنّ الجزم، أو اليقين، أو الاعتقاد، أو الإدراك، أو الرؤية العقليّة ما شئت فعبّر تشبه الرؤية البصريّة وتتفاوت وضوحاً وجلاءاً، حيث يبدأ الجزم بنفي احتمال الخلاف، ثمّ يتصاعد إلى درجات عالية من الوضوح... ويلعب العامل الذاتي دوره في تصعيد الجزم،، أو تخفيضه عن الدرجة التي تسمح بها المبررات الموضوعيّة.

دور الصلاة في علاج المشكلة

المشكلة إذاً، إنّ الإنسان مع ما أوتي من قدرة على اليقين، والرؤية في القضايا والحقائق، إلاّ أنّه بسبب ميوله الذاتيّة كثيراً ما يعكّر هذه الرؤية أو يخسرها.

٢٠٤

فهل من سبيل إلى التغلّب على هذه المشكلة، والحفاظ على التطابق بين درجة التصديق، التي تمليها المبررات الموضوعيّة وبين الدرجة التي يتّخذها التصديق في أنفسنا؟ هل باستطاعتنا أن نمنع العامل الذاتي من التدخّل والعبث، صعوداً، وهبوطاً في درجات تصديقنا بالقضايا أو الحقائق؟

أمّا أصحاب المذهب الذاتي في المعرفة، فلا يَرِد عليهم مثل هذا السؤال؛ لأنّ العامل الذاتي في رأيهم، سبب في كلّ اعتقاد، بما في ذلك اعتقادهم بمذهبهم هذا طبعاً.

لكن كلامنا على أساس المذهب الذي يؤمن بالقيمة الموضوعيّة للمعرفة، والذي يتبناه الإسلام.

يقوم الإسلام بعلاج المشكلة من جانبين:

الأوّل : إشاعة الطريقة العقليّة في الناس... حتى تكون هي الأسلوب العام السائد في تفكير الناس وحياتهم...

ومن هذا الجانب فإنّ الإسلام بذاته دعوة تعتمد العقل في إقناع الناس، وتطلب إعْمال العقل في فهم الكون، وإقامة الحياة الاجتماعيّة على الأُسس العقليّة.

ولم تَعرف الحياة البشريّة كالإسلام مبدءاً اعتمد العقل في أصول التفكير الإنساني وتفاصيله، وأشاع ذلك في أُمّته وغيرها من الأُمم، ورسّخ ذلك في حياة مجتمعه وأجياله، حتى أصبح الطابع العقلي واحداً من أبرز معالم الثقافة الإسلاميّة، والحضارة الإسلاميّة.

والثاني: الدعوة إلى تصحيح السلوك؛ باعتباره عاملاً في تكوين وتكثيف الميول التي هي العامل الذاتي، أو في تخفيف هذه الميول الذاتيّة وإزالتها.

قال الله تعالى: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ ) .

وفي الحديث الشريف: (ما من شيءٍ أفسد للقلب من خطيئةٍ، إنّ القلب ليُواقع الخطيئة، فما تزال به حتى تغلِب عليه، فيصير أعلاه أسفله). الكافي ج2 ص268.

٢٠٥

وفي نصوص عديدة، يؤكّد الإسلام على خطورة السلوك، وأنّه قد يشكّل حاجباً عن الرؤية العقليّة، أو يجعل الرؤية معكوسة تماماً، كما يمكن أن يكون نوراً وبصيرة في العقل.

والصلاة اليوميّة برأي الإسلام، ركن أساس من السلوك الإنساني، الذي يعالج مشكلة تأثير العامل الذاتي ويصحّح الرؤية العقليّة.

وتأثير الصلاة في اعتقادي، يشمل معالجة العامل الذاتي تجاه حقائق الحياة التي تتضمّنها الصلاة، وتجاه غيرها من الحقائق الأُخرى.

كما يشمل معالجة العامل الذاتي في مرحلة ما قبل الجزم، كما يشمل معالجته في نفس المسلم إلى درجات عالية من اليقين الموضوعي، الذي تملك مبرراته قضيّة الإسلام... وهذا الشطر الأخير نتناول في الحديث.

إنّ الصلاة تزيل عن العقل أغشية الذنوب، ولبس الأهواء، وأدران الخطايا، فتمكنه من معانية القضايا مواجهةً دونما حجاب، وهو التأثير الذي مثّل له الحديث النبوي الشريف الصلاة بـ - الحمة - أي: بالنبع المعدني الذي ينقّي الجسد من الأدران.

ومن ناحية ثانية، تجسّد الصلاة أهمّ قضايا الإسلام للعقل، وتجعله يتعامل معها ويحسّها.

إنّ فرقاً كبيراً بين موقف العقل وهو يتأمّل قضايا العقيدة الإسلاميّة، فيجدها تملك المبررات الموضوعيّة للاعتقاد والجزم، وبين موقفه في الصلاة، حيث يُدعى ليتّخذ موقفاً عمليّاً من هذه القضايا.

وبهاتين الناحيتين؛ تكون الصلاة قد تناولت بالتأثير كلاًّ من وسيلة الإدراك والقضيّة المدركة، والعامل الذاتي الذي يعوق عن الاحتفاظ باليقين في مستوى المبررات الموضوعيّة، ينشأ من أحد هذين الأمرين...

فالقوّة الإدراكيّة في الإنسان تتعرّض لأنواع من التشويش، فتحتاج إلى صقل وتجديد، والقضيّة المدركة إذا لم تكن من القضايا المعاشة على مستوى الحسّ، تتعرّض للخفوت وتحتاج إلى نوع من التجسيد الحسّي يُيسّر إدراكها

٢٠٦

للعقل... وهذا ما تفعله الصلاة مع القوّة الإدراكيّة فتجلوها، ومع القضيّة المدركة حيث تجسّدها.

* * *

وينبغي الالتفات إلى أنّ هذا العطاء العقلي من الصلاة يتفاوت في الناس، تبعاً لبصيرتهم العقليّة وإقبالهم على الصلاة، وأنّه في الغالب عطاء تلقائي لا يحسّ به الإنسان إلاّ بالتّنبيه، أو بالمقارنة بين رؤية المصلّي، ورؤية غير المصلّي لقضايا الإسلام.

كما ينبغي الالتفات إلى أنّ هذا العطاء العقلي وإن اختصّ بالمؤمنين المعتقدين بالإسلام، فهو لا يفقد قيمته في نظر غير المؤمنين، فكما إنّنا نعترف بأنّ تجسيد المذهب الرأسمالي، أو المذهب الماركسي في دولة، وإمكانات ووسائل، إعلام ذو أثر كبير في تركيز هذين المذهبين في أذهان الناس، بقطع النظر عن امتلاكهما المبررات الموضوعيّة أو عدم امتلاكهما.

كذلك يعترف الرأسمالي أو الماركسي، بأنّ تجسيد المذهب الإسلامي في دولةٍ، وإمكانات، ووسائل إعلام ذو اثر في تركيز الإسلام في أذهان الناس، بقطع النظر عن المبررات الموضوعيّة التي يملكها.

كما يعترف بأنّ تجسيد أصول المذهب الإسلامي في عمليّة تربويّة مبتكرة، ذو أثر في تركيز وتصعيد الاعتقاد بالإسلام، وإن لم يؤدّ هو الصلاة، ولم يصل إلى الاعتقاد بالإسلام.

* * *

وهكذا يتّضح دور الصلاة الفعّال في تصعيد الاعتقاد بالإسلام، إلى درجات عالية من مستوى المبررات الموضوعيّة، ويمكن أن تقدر ما يترتّب على ذلك نتائج في شخصيّة أُمّة وحياتها، إذ تعيش وضوح الرؤية العقليّة لرسالتها، وأن تقدّر قيمة الطريقة الميسّرة التي ابتكرها الله عزّ وجلّ، لتوفير هذا المستوى من الرؤية العقليّة.

٢٠٧

العقلانية في الشخصيّة ودور الصّلاة فيها

الشخصيّة العقلانية

أقصد بالعقلانية في الشخصيّة: الملَكة المنطقيّة في مكونات الشخصيّة الثلاثة، المفاهيم، والمشاعر، السلوك، حتى تكون طبيعة فيها.

ويتفاوت الناس في نصيبهم من هذه العقلانيّة، فقد يكون إنسان في قسم من مفاهيمه موضوعيّاً، عقلانيّاً، واضح الرؤية، ثابت البرهان، مطمئنّ البال، وفي قسم آخر مُغبش الرؤية، مشوش البال.

وقد يكون عقلانيّاً في قسم من مشاعره، عشوائيّاً في القسم الآخر.

وقد يكون عقلانيّاً في قسم من سلوكه، ارتجاليّاً في القسم الآخر.

وقد يكون عقلانيّاً في عامّة مفاهيمه، ولكنّه عشوائي المشاعر، ارتجلي السلوك... إلخ.

وكما تتفاوت مساحة العقلانيّة في أبعاد الشخصيّة الثلاثة، تتفاوت كذلك في حالات الإنسان، وظروفه الداخلية، والخارجيّة، فقد تتقلّص في بعض الحالات، أو تزداد، أو تترسّخ، أو تضعف، أو تزول...

ومن ضرب هذه الأقسام والحالات بعضها ببعض؛ يتحصّل مئات، بل آلاف الأنواع من شخصيّات الناس وحالاتهم.

والنموذج الأعلى للشخصيّة العقلانيّة هو: الإنسان الذي يعيش الموضوعيّة الصرفة المستوعبة الدائمة، يأخذ الحقيقة كما هي ويتعامل معها كما هي، لا يفترض لها إضافة، ولا ينتقص منها نقيصة، كما هو الحال في نخبة الإنسانيّة من الأنبياء والأئمّة وكبار المؤمنين (عليهم السلام)، الذين يعيشون المنهج العقلي

٢٠٨

والأيديولوجية الكاملة الموحّدة في الفكر والشعور والسلوك.

إنّ الواحد من هذه الشخصيّات العقلانيّة لهو مادّة للدراسة الفكريّة والجماليّة... إذا انفتحتَ عليه فهو يستهويك ويملك عليك لبّك.

تجده صادقاً في نفسه، ومع نفسه، ومع الأشياء، حيويّاً جاداً في مفاهيمه، وانفعالاته وتصرفاته.

يعيش وضوح الرؤية، ووحدة المنهج في مجموعة أفكاره، ابتداءاً من مفهومه عن الله والطبيعة، والإنسان والتاريخ والمستقبل، إلى مفهومه عن نفسه وطريقه، وعن الآخرين، وإلى مفاهيمه الجزئيّة الصغيرة...

ونفس هذه المنهجيّة المضيئة في مشاعره من أكبر شعور إلى أصغر شعور، وفي سلوكه ومواقفه المصيريّة والجزئيّة..

وكما يَنْتظم كلّ بُعد من شخصيّته في هذا الصدق الجميل، تنتظم الأبعاد الثلاثة، الأفكار، والمشاعر، والسلوك في كلّ منسجمٍ بديع... إنّك تجد فيه البناء الإنساني المتين، والجمال الإنساني العميق كشجرة متكاملة، متكافلة، ثابتة الأصول، سامقة الفروع، فارعة الجمال، سخيّة الظلال والشذى والثمرات.

الحصول على السمت العقلاني

وكذلك يستطيع المنهج الإلهي أن يصوغ بعقلانيّته الفذّة الإنسان الفذ، وليس الحصول على هذا السمت في الشخصيّة مطلباً خياليّاً كما يظنّ البعض، ولا هو مقصور على شخصيّات مؤمنة ماضية، أُتيح لها أن تضع نفسها في بساطة الهواء الطلق، يوم كانت مغريات الحياة الدنيا قليلة، ومشوشات الفطرة الإنسانيّة ضئيلة...

كلا ، فمتى سمح أحد من الناس للإسلام أن يعمل في شخصيّته ولم يجد الثمرات فعليّة؟ ومتى سمح الناس لهذا المنهج الربّاني أن يسود مجتمعهم بنصّه وروحه، ولم يجدوا إنتاجه من الشخصيّات العقلانيّة؟

الصعوبة إنّما أتت من النُظم الاجتماعيّة التي تحكم حياة الناس، وتصوغ شخصيّاتهم بطرقها الملتوية الكاذبة، وتعيق الإنسان أن يبني نفسه بالإسلام

٢٠٩

وينعم بعقلانيته الجميلة، وليس من ضيرٍ على الإسلام أن لا تتاح له التجربة الاجتماعيّة الكاملة، ما دام يثبت بالبرهان صحّة منهجه في بناء الإنسان، وما دام قدّم للناس ويقدّم عديداً من الشخصيّات العقلانيّة في ظروف تطبيقه الجزئي على حياة الناس، بل وفي أصعب الظروف المضادّة.

وفي حياتنا الحاضرة، وفي ظلّ الأنظمة الاجتماعية والمفاهيم السائدة الضالعة في تزييف فطرة الإنسان، وتشويه عقلانيّته، ما على أحدنا إلاّ أن يوفّر الصدق في نفسه، حتى يجدها بعد خطوات في طريق هذه العقلانيّة.

ثمّ ما عليه إلاّ أن يؤصّل الصدق في نفسه كطريقة دائمة يبني بها أفكاره وشعوره وسلوكه، وما أسرع أن يرى أنّ أشياء الطبيعة من حوله صادقة في أنفسها وحياتها، ويرى أنّ نصيبه من الصدق موكول إليه، ميسّر أمامه.

إنّ دعوة الإسلام إلى هذا السمت العقلاني، إلى الموضوعيّة والصدق في فهم الأشياء والتعامل معها، لا زالت دعوة قائمة موجهة إلى كلّ جيل، وفي كلّ الظروف؛ لأنّها الطريقة الوحيدة أبداً في بناء الإنسان ونجاحه..

ولسنا بحاجة إلى التدليل على أنّ القرآن الكريم والسنّة الشريفة، والسلوك العملي للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة (عليهم السلام)، دعوة حارّة لأخذ الحقيقة الموضوعيّة بصدق والتعامل معها بصدق.

دور الصلاة في ذلك

إنّ الصلاة تفرض السمت العقلاني على الشخصيّة من جانبين:

أوّلاً: بحقائقها الكبيرة التي تقدّمها إلى العقل بأسلوبها الخاصّ... والصلاة زاخرة بالحقائق الكبيرة عن الله والكون والإنسان وموقعه وطريقه، ومتفرّدة في أسلوب تقرير هذه الحقائق، وإثارتها أمام العقل، وإثارة العقل لاستيعابها، ومخامرتها والتفاعل معها، وقد تقدّم من ذلك ما فيه الكفاية، وبالأخصّ في بحث تلاوات الصلاة.

وثانياً: بموقفها الذي تمليه على المصلّي، فإن وقفة الصلاة بحدّ ذاتها تفرض

٢١٠

السمت العقلاني، فما أن يمثل الإنسان بين يدي الله، ويقف بانضباط واعتدال، حتى يشعر أنّه بدأ في عمل جادّ، وأنّه خلّف وراءه الهزل والتسيب.

ولا أحسبي بحاجة إلى التدليل على هذا العطاء للصلاة، فقد أصبح ذلك مثلاً على ألسن الناس، وأصبح خير تعبير عمّن يعيش حالة العقلانيّة والجدّ في أمر من أموره أن يقال عنه: (إنّه في صلاة) .

إنّ أي مصلٍّ ليحسّ بالفارق الجديد في شخصيّته أثناء الصلاة، يحسّ بالعقلانيّة التي يفرضها عليه الموقف الذي يقفه، والحقائق التي يواجهها، حتى إنّ نظرته إلى كثير من الأفكار والقضايا تختلف أثناء الصلاة وبعدها، وتتّسم بالتعقّل والموضوعية...

فالذي كان قبل قليل مندفعاً في شعور كراهية الإنسان، لو عَرض له هذا الشعور وهو في الصلاة لوجده نشازاً لا يلائم وضعه العقلي الجديد، والذي كان مستغرقاً في تصورات جنسيّة لأعراض الناس، سينفر من هذه التصورات لو عرضت له وهو في الصلاة، والذي كان يعيش ذاتيّته الشخصيّة الضيّقة، سيجد نفسه في الصلاة منفتحاً على أفق أوسع وذات أكبر.. وهكذا..

إنّ وقفة الصلاة إنّما هي يد المنطقيّة الإلهيّة تمتدّ إلى الإنسان كلّ يوم، لتنقذه بهدوئها واتّزانها من انحراف المشاعر وارتجال التصرّف، وتمدّه بشحنة من العقل والجدّ، فتصلحه بذلك لحركة الحياة.

٢١١

المُعطى النفسي

أقصد بالعطاء النفسي: التفاعلات الشعوريّة التي تحدثها الصلاة في النفس، نتيجة لما تقدّمه من رؤية عقليّةٍ، أو تنمية لغرائز الخير، أو تهذيب لغرائز الشرّ...

ومن الناس من يقلّل من أهمّية العطاء النفسي، ويقول: إنّه عطاء عاطفي، وانفعال شعوري لا يلبث أن يزول، فلا يصحّ أن نعتبره من مقوّمات بناء الشخصيّة.

ومنشأ هذا القول اختلاط نوعين من العاطفة في نظر هؤلاء، فقد وجدوا أنّ جملة من العواطف البشريّة لا تنبع من أساس ولا تثبت على حال؛ فحكموا على جميع الانفعالات العاطفيّة بعدم القيمة في بناء الشخصيّة، وبأنّ الشخصيّة العاطفيّة شخصيّة غير مستقيمة.

ولكن هذا التعميم ليس في محله، فإنّ من العاطفة ما ينبع من أساس، ويرتكز على قاعدة، ويتّجه إلى غاية، ويسهم في تقويم الشخصيّة.

إنّ الانفعال العاطفي أو الشعوري أو الوحداني، الذي يشكّل نصف الشخصيّة الإنسانيّة، لهو طاقة أساسيّة فينا، ومن الخطأ أن نهمل قيمتها...

نعم يجب أن نميّز بين المشاعر الذاتيّة الطائشة التي تنبع من أساس، وبين المشاعر الموضوعيّة القويمة، التي يسندها العقل ويحكم بضرورة تنميتها، والإفادة منها في حياتنا..

إنّ من آيات الله في أنفسنا أن منحها من الحياة ما تتفاعل به مع الوجود، فتتجاوب مع ضميره، وتكسب لنفسها بذلك خيراً وجمالاً وكمالاً.. وإنّ المشاعر حينما تملك السند المنطقي لهي قوّة فاعلة، تضاهي قوّة العقل في بناء الإنسان والحياة، وسوف نرى أنّ الطاقة التي تعطيها الصلاة للنفس هي من هذا النوع

٢١٢

المنطقي الفعال.

وقبل تسجيل المُعطى النفسي من الصلاة، يجب أن ننبّه إلى خطأ النزعة الصوفيّة في تصور هذا المعطى... فقد اعتاد المتصوّفة أن يجعلوا من صلاتهم أجواء حالمة، وخيالات ناعمة يسرحون فيها كما يشآء لهم الهوى، متصوّرين بذلك أنّهم يناجون الله عزّ وجلّ، أو يستشرقون أنواره، أو ينعمون بالعيش في ملئه الأعلى...

وقد انعكس هذا التصوّر للصلاة في نفوس الناس، حتى أصبحت (صلاة الصوفي) مثلاً للاستغراق في المشاعر الإيمانيّة!

ويكمن الخطأ عند هؤلاء، في تصوّرهم أنّ الصلاة نقلةٌ للروح الإنسانيّة من واقع الحياة إلى عوالم مفترضة، من الأشواق والأنوار، ثمّ في تصوّرهم أنّ كمال النفس الإنسانيّة يكون بالانسلاخ عن واقع الحياة، والإمعان في تلك العوالم المفترضة..

غير أنّ هذين التصوّرين لا أساس لهما من الصحّة، فلا النفس البشريّة تكسب شيئاً من الكمال إن هي هربت من واقع الحياة، ولا أنزل الله الصلاة لتكون وسيلة لهذا الهروب.

إنّ الصلاة الإسلاميّة في هدفها ومحتواها الصريحين؛ إنّما جاءت لتفتح أعين الناس على ما حولهم، وتصلحهم لحركة الحياة وصناعة المستقبل...

أمّا الصلاة التي تغمض العينين عن واقع الحياة، وتفصل الإنسان عن حركتها، فليست من صلاة الإسلام في شيء، بل لا أحسبها في رأي الإسلام إلاّ خمراً أثيمة، تقوم بتهريب الإنسان من حركةِ يومه إلى خيالات سارحة، يتصوّر نفسه مصلّياً قريباً من الله..

وهل من فرق يا ترى بين هروب الفاسق عن الواقع بكأس من الخمر، وهروب الصوفي عن الواقع بركعتين من الصلاة؟ لا أجد فرقاً إلاّ في وسيلة الهروب، وسوف يأتي إن شاء الله بيان دور الإيحاء الذاتي في صلاة المتصوّفة.

أمّا المعطيات الشعوريّة الصحيحة التي تقدّمها الصلاة إلى النفس، فهي كثيرة متنوّعة، ونذكر هنا أهمّ ما بقي منها مضافاً إلى ما مر عليك:

٢١٣

فمن أهمّ المعطيات النفسيّة للصلاة : شعور الإسلام لله أو العبوديّة له عزّ وجلّ. وبعض النفوس تأنف من صفة العبوديّة لله، متأثّرة بنزعة التمرّد الحديثة!

وكأنّ باستطاعة الإنسان أن يتعامى عن قدره، وأن لا يكون عبداً مخلوقاً، وكأنّ من مصلحته أن يتمرّد على العبوديّة الجميلة النافعة ويتمرّغ في عبوديّات مغلقةٍ مهينة!

إنّ الصلاة تفتح العقل الإنساني على موقعه الذي يجب أن ينتظم فيه، وينسجم معه، وتبعث فيه مشاعر الأصالة والحريّة كلمّا أمعن في الشعور بالعبوديّة لله سبحانه، وعاش حقيقة الإسلام لإرادة الله وشريعته عزّ وجلّ.

أمّا السند المنطقي لهذا الشعور فهو: أنّ الإنسان مخلوق من قبل الله، ومموّن بالحياة من لدنه، وموجّه إلى خيره وسعادته بهداه، فمن البداهة المطلقة أن يخضع لقدرته عزّ وجلّ، ولأياديه وتوجيهه...

إنّنا نعيش في كون بكلّه عبدٌ لله، آخذ منه وجوده واستمراره وسائر بعطائه إلى كماله، وإن حظّ أحدنا إنّما هو بانسجامه مع طبيعة الوجود المخلوق، وإمعانه في الشعور بالحاجة والتزود بطاقة الهدى، وليس في محاولة التمرّد الغبيّة الضارّة.

وأمّا مساحة هذا الشعور فهي الصلاة كلّها، بل إنّ شعور المصلّي بالعبوديّة يبدأ من حين نهوضه إلى الصلاة، مستجيباً لأمر المولى عزّ اسمه، يزداد بالوقوف للصلاة، فالتلاوة، فالركوع، حتى يبلغ قمته في السجود.

وأمّا طبيعة هذا الشعور، فهي المزيج من المتانة والمسؤوليّة... المتانة في الموقع حينما يعي الإنسان أنّه عبد لربّ الكون سبحانه مكرّم منه، عزيز عليه عامل لخير وجوده بهداه...

وأيّ شيءٍ يعطي متانة الموقع في الوجود، كالشعور بالعبوديّة لصاحب الوجود جميعاً؟ والمسؤوليّة المشفقة من تبعات العبوديّة التي هي تبعات الوفاء بتكليف الله لنا أن نستقيم، وأن نحذر مغبّة الانحراف والعصيان.

وأمّا آثار هذا الشعور فهي كثيرة عميقة في حياتنا أفراداً وأُمّة... إنّه لا شكّ في أنّ حاجة المجتمع البشري إلى حفنةٍ من العبوديّة، أشدّ من حاجته إلى أطنان من القنابل والخمور... فلو عاش حكّام الأرض شيئاً من هذا الشعور

٢١٤

لارتفع من ظلمهم عن إخوانهم عباد الله، بمقدار نسبة هذا الشعور الجميل إلى مشاعرهم الرديئة، ولو امتلك ضعفاء الأرض شيئاً من هذا الشعور لارتفع من ظلاماتهم بمقدار نسبة هذا الشعور إلى مشاعرهم الخانعة.

وأمّا السبيل إلى استفادة شعور العبوديّة من صلاتك، فيكفي أن تسأل نفسك عند الصلاة: أمر مَنْ البّي في نهوضي إلى الصلاة؟ وبين يدي من أقف؟ وبأمر من أتلوا؟ ثمّ لمن أخضع راكعاً، ولمن أخرّ إلى الأرض ساجداً على الجبين؟

إنّه يكفي أن تكون واعياً لعملك جادّاً فيه، حتى تمتلئ من صلاتك بشعور العبوديّة والإسلام لله عزّ وجلّ، ثمّ لتعيش عديداً من مشاعر الثقة والإشفاق، تنعكس من حياتك على صلاتك، ومن صلاتك في حياتك.

ومن أهمّ المعطيات النفسيّة للصلاة: شعور الارتباط الفعلي بالله، ورسوله، ورسالته.

فمن الانحرافات السائدة في العقيدة: أن يتصوّر الناس أن وجود الله سبحانه، وإرساله الرسل، وتنزيله الدين قضايا تاريخيّة وليست فعليّة... يتصوّرون أنّ الله سبحانه كان وجوداً فعليّاً ظاهراً، حينما خلق الكون وأرسل الرسل، أمّا الآن فهو وجود غائب!

فهم يؤمنون به عزّ وجلّ إلهاً خالقاً، ولكنّهم يكفرون به ربّاً ومعطياً، ويؤمنون به بادئاً، ويكفرون به مموّناً لما بدأ.. أو هم يغفلون عن هذه الحقيقة، وكذلك الأمر في تصورهم للرسل والرسالة، فكأنّهما مسألة تخصّ مرحلة من التاريخ، وفوجاً من الناس..!

أمّا الصلاة فهي تقضي على هذا الانحراف، وتثبت المفهوم الإسلامي عن الله سبحانه، وعن رسله ودينه، فتفتح عقل الإنسان وقلبه على وجود الله وجوداً فعليّاً قيومًا على الكون، ترتبط به ذرّاته وأحياؤه، وظواهره وقوانينه، ارتباطاً فعليّاً مطلقاً.

كما تفتح عقل الإنسان وقلبه على الدين الإلهي، طريقة عيش فعليّة قَرَنها الله بقانون الاختيار، ولا زال هذا القانون قائماً يؤتي ثماره في الناس حتى يبلغ فيهم هدفه... وبهذه الحقائق تبعث الصلاة في النفس أعمق مشاعر الارتباط الفعلي بالله تعالى، ورسله ورسالته.

٢١٥

أمّا مساحة هذه المشاعر فهي الصلاة جميعاً، إذ تدعوك إلى الوقوف أمام الله الحاضر عزّ وجلّ، وتستمرّ في إشعارك به وبهداه إلى ختامها...وأبرز الفقرات التي تعطي شعور الارتباط هذا: سورة الحمد، وخضوع الركوع والسجود، والتشهد...

فالنصف الأوّل من سورة الحمد: يقرّر لمن الامتنان على العطاء الذي يزخر به الكون، كما يقرّر طبيعة العلاقة الملحّة بين الوجود المرحوم وبين الله الراحم، وفي النصف الثاني: تتكلّم أنت مع الله الحاضر سبحانه، معلناً طاعته، ومستعيناً إيّاه في حركة حياتك، ومستهدياً صراطه القائم الذي سارَ به الرسل والمؤمنون، مستعيذاً من طريق المنحرفين الذين يسيرون فعلاً في طريق الغضب والضلال.

وفي خضوع الركوع والسجود تشعرُ بنفسك ذرّة متواضعة من الكون، تخضع أمام منشئها ومعطيها العظيم الأعلى، عزّ وجلّ...وفي التشهّد تُفصح بالإقرار بالله سبحانه، متصرّفاً وحيداً في الكون، وبرسوله محمّد (صلّى الله عليه وآله)، مبلّغاً خاتماً لرسلهِ ورسالاته.

إنّه ليس أبلغ من الصلاة في الانتقال بالإنسان من الإيمان التاريخي الجامد إلى الإيمان الفعلي المتحرّك، وإن التأمّل المجرّد عن الصلاة مهما بلغ من القوّة في استكشاف وجود الله سبحانه، وجوداً حاضراً يقوم به الكون، واستكشاف وجود رسله وجوداً حاضراً يدعونا إلى الهدى - مهما بلغ التأمّل من تقرير هذه الحقائق والبرهنة عليها - فإنّه لا يستطيع أن يقدّمها إليك بقوّتها وجدّتها، كما تقدّمها الصلاة...

ذلك أنّ الصلاة تعاملٌ فعلي مع الله عزّ وجلّ وانسلاك فعلي في خطّ رسالته، فهي أقدر على تقديم شعور الارتباط الفعلي به عزّ اسمه، ارتباطاً مطلقاً من ألف وجودك إلى أحرفه الخالدة.

ويا لسعادة الإنسان وروعة الوجود في عيْنيه حينما يعيش شعور الارتباط الفعلي بالله، والانسلاك الفعلي في خطّ رسله ورسالته ويمتدّ ذلك من صلاته إلى جوانب حياته، ويا لروعة الأُمّة التي تعيش هذا الشعور وتعمل بمستلزماته في الأرض.

٢١٦

ومن أهمّ المعطيات النفسيّة للصلاة: الدفع العلمي.

فلا شكّ أنّ الشخصيّة التي يصنعها الإسلام بعقيدته ومفاهيمه، شخصيّة عمليّة فاعلة... فالله عزّ وجلّ في المفهوم الإسلامي، وجودُ قيّوم يعمل باستمرار، دون أن تأخذه سِنَةٌ ولا نوم ولا ملل، والكون كلّه يعمل ويسير إلى كماله وغايته، والإنسان مكلّف من الله بالعمل ومهديٌ إلى العمل، ومحاسب على العمل، والتفاضل بين كلّ الناس إنّما هو بالعمل بكميته ونوعيته...

إنّه لا مكان للبطالة أو الكسل في مفاهيم الإسلام؛ ولذلك لا مكان لكثير من (أُمّة الإسلام الحاضرة) في رحاب الإسلام والروح العمليّة في الشخصيّة المسلمة مدينةٌ - فيما هي مدينة - للدفع العملي الذي تعطيه الصلاة:

فمن جانب، تقوم الصلاة بنظامها اليومي بالقضاء على الأسباب النفسيّة للكسل والعبث، وحسب الإنسان أن يكون مصلّياً بحقّ حتى ينزع عن نفسه ثوب الخمول واللهو، ويرى أنّه لا متّسع في عمره لتضييع والتقاعس.

ومن جانب آخر، فإنّ الصلاة توقف الإنسان بين يدي الله الدائب في العطاء والرحمة، والتربية للعالمين، وتفتح عينه على الوجود الدائب في مسيرته، وتُلفته إلى يوم الدين، يوم المسؤوليّة عن العمل، وتجعله يطلب من الله الهُدى والطاقة، في طريق الذين هداهم الله إلى العمل المنتج، وتجعله ينحني أمام الله ويسجّل على نفسه مسؤوليّة العمل، والحساب على العمل... ومثل هذا الجو العامر بالحركة والفعل، يبعث في الإنسان أقوى مشاعر التحفّز إلى العمل والإنتاج.

إنّ الصلاة تقول للإنسان: هذا هو الله، وهذا هو الوجود، وهذا هو الطريق، فامض في خدمة وجودك، ثمّ امضِ ولا تركن إلى كسلٍ أو هوى، إنّ مفاهيم الإسلام عن العمل لتتجسَّد في الصلاة، حقائق ومشاعر متحرّكة... وما أيسر أن تجد ذلك من نفسك أثناء الصلاة وبعدها.

ومن أهمّ المعطيات النفسية للصلاة: شعور الانضباط في الشخصيّة:

٢١٧

وأقصد بشعور الانضباط التفات الإنسان إلى تصرفاته اليوميّة الصغيرة والكبيرة، هذا الالتفات الذي يمكّنه أن يُمسك قياد نفسه.

إنّ الانفعال السريع والتصرّفات المرتجلة من أكبر بلاءات النفس البشريّة، وأحسب ذلك بديهياً عند من يراقب تصرّفاته ويحاسب نفسه عليها؛ ولذلك فشعور الانضباط لدى التصرّف يعتبر من أغلى ما نملك؛ لأنه مِقْود سلوكنا، وسبب خيرنا.

باستطاعتك أن تلاحظ دبلوماسياً عريقاً وهو يتحدّث معك، أو يُدلي بتصريح كيف يَزن كلماته ويختارها، وكيف يقدّر مسؤوليته عنها، وكيف يحاول تركيز المفهوم الذي يريد، والإيحاء الذي يريد...

إنّه يعيش روح المسؤوليّة وشعور الانضباط (بِمقياسهِ عن المسؤوليّة والانضباط)، وبسبب ذلك فهو يمسك زمام محادثاته وتصريحاته... فكيف لو ملك أحدنا شعور الانضباط بمقياس الإسلام الخيّر الشامل.

إنّ من السهل للإنسان قبل أن يُقدم على تناول طعامه مثلاً، أن يتروّى هذا الوعي، ويستحضر هذا الشعور، ثمّ يقوم بتناول طعامه بهذه الروحيّة، فتراه مؤدّباً في جلسته مرتاحاً لنعمة الله عليه، غير مسرف في طعامه وشرابه...

ولكن إذا كانت مرافقة شعور الانضباط في وجبة طعام تحتاج إلى مثل هذا الإعداد المسبق، فكم يا ترى تحتاج تصرّفاتنا اليوميّة الواسعة المتنوّعة من إعداد؟ وكيف يمكن أن يعيش أحدنا تجاه حركة حياته كلّها شعور الوعي والانضباط؟.

إنّها مشكلة يضاعف منها ازدحام أوقاتنا بالأعمال، وسرعة شخصيّتنا في الانفعال والارتجال، فهل يمكن أن نحصل على شعور الانضباط في كلّ تصرّفاتنا أو جلّها؟ يرى الإسلام أنّ ذلك ممكن إذا توفّرت الشخصيّة على شحنتين من الوعي والشعور: إحداهما طويلة على مدى العمر، والثانية فعليّة يوميّة.

والشحنة الأُولى هي: مجموعة المفاهيم والمشاعر التي تشكّل النظرة إلى الكون والحياة، والإيمان بالمسؤوليّة والرقابة، والتي يستجليها الإنسان

٢١٨

وينمّيها ويرسّخها في شخصيّته، من خلال نضجه في الوعي والشعور والتجارب...

والشحنة الثانية هي: مجموعة المفاهيم والمشاعر التي تقدّمها الصلاة اليوميّة... فإذا ما توفّر الإنسان على هاتين الشحنتين فإنّه دون شكّ سيعيش روح المسؤوليّة، والخشية من الله، على شكل ملكةٍ في نفسه، وطابع في شخصيّته، وسيرافق تصرّفه شعور الانضباط والوعي إلى درجة كبيرة.

ومن عجائب ما نلاحظ في منهج التربية الإلهي؛ أنّه يؤكّد على هاتين الشحنتين كأساسين لا غنى عنهما للشخصيّة، حتى لتجد مسالة (تعميق الإيمان) ومسألة (الصلاة) من أُولى المسائل التي اهتمّ بها الله عزّ وجلّ وحثّ عليها الإنسان.

ولا تقتصر فقرات الصلاة التي تعطي شحنة الانضباط السلوكي هذه على التحسيس بالمسؤوليّة ورقابة الله فقط، بل إنّ توزيع الصلاة وتوقيتها، وبالأخصّ توقيت صلاة الصبح بين طلوع الفجر وطلوع الشمس، ونوعية الوقوف والانتظام في الصلاة، والإقبال والجد المطلوبين... كلّ أولئك يتعاونون على تقديم شحنة الانضباط وترسيخها في النفس.

لا زال علماء النفس يبحثون عن وسائل لضبط الشخصيّة، والحدّ من جِماحها، وإمساك زمامها، حتى يستطيع الإنسان أن يتفادى شروراً كثيرة، ويكسب خيراً كثيراً، وإذا تقدّمت بحوثهم في هذا المجال، فإنّهم لا شكّ سوف يجدون بغيتهم في الشخصيّة التي تعيش حقيقة الإيمان وحقيقة الصلاة، فهذه الشخصيّة هي التي تملك الوعي في التصرّف، والانضباط في السلوك والتحكّم في العواطف الجامحة.

٢١٩

المُعطى الاجتماعي

ما هي المعطيات الاجتماعيّة البارزة التي ينبغي أن نضيفها إلى عطاء الصلاة في حياة المجتمع؟

*أوّل هذه المعطيات ظاهرة:

حاكميّة الله عزّ وجلّ وربوبيّته للمجتمع المصلّي ، فأوّل انطباع تأخذه عن مجتمع إسلامي يؤدّ صلاته بين يدي الله كلّ يوم؛ أنّه مجتمع يديره الله ويحكم شؤونه.

لا أقصد بذلك المجتمعات المسلمة شكليّاً، التي ترى فيها وجود الحكّام والاستعمار وجوداً كبيراً، ووجود الله سبحانه وجوداً غائباً! وإنذما أقصد المجتمع الإسلامي الذي يعيش في يومه وجود الله تعالى والصلاة بين يديه، فمثل هذا المجتمع ترى الوجود البارز المسيطر فيه هو الله عزّ وجلّ.

لأنّك تراه يعلن الخضوع له مبكّراً قبل شروق الشمس، وظهراً بعد شوط العمل، ومساءً في ختام العمل، يتساوى في هذا الخضوع الحاكم والعمال، والموظفون والتجّار، والفلاحون والسياسيون... تراه مجتمعاً يبرز فيه شعار: (لا إله إلاّ الله) ، وشعار: (الله أكبر) ، وشعار: (الحمد لله) ، وشعار: (باسم الله) ، تتردّد من كلّ فردٍ فيه مرّات كلّ يوم، وتتجاوب بإيقاعها الجنبات والقلوب.

وإنّما قَصُرت الصلاة الفعليّة عن تقديم هذه الظاهرة في مجتمعاتنا؛ لأنّ الذين يؤدّون الصلاة هم الضعفاء من أُمّتنا، فنسبة المصلّين من الأغنياء وأهل النفوذ قليلة جدّا ً، ونسبة المصلّين من السياسيين والحكّام تكاد تكون عدماً، وإذا كان الوجود الفعّال في المجتمع لا يعيش حاكميّة الله عزّ وجلّ ولا يعلن له الخضوع اليومي، لم تنعكس على المجتمع... ومن ناحية ثانية، فإنّ المصلّين من جماهير أُمّتنا لو كانوا يعيشون حاكميّة الله سبحانه، ويرفعون رايتها

٢٢٠