فلسفة الصلاة

فلسفة الصلاة0%

فلسفة الصلاة مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 257

فلسفة الصلاة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: علي الكوراني
تصنيف: الصفحات: 257
المشاهدات: 61833
تحميل: 8288

توضيحات:

فلسفة الصلاة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 257 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 61833 / تحميل: 8288
الحجم الحجم الحجم
فلسفة الصلاة

فلسفة الصلاة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

لانعكست هذه الظاهرة على قطّاعهم على الأقلّ، ولكنّهم وللأسف يؤدّون لله عزّ وجلّ صلاتهم الشكليّة، ويؤدّون للحكّام والكفّار صلاة حياتهم الطويلة؛ ولذلك لا يرتفع عنهم كابوس الطاغوت.

وحاكميّة الله التي تعكسها الصلاة في المجتمع، حاكميّة فريدة سواء في عمقها واتّساعها وروحيتها... فإنّ الحاكميّة ترتكز على: حقّ المالكيّة وحقّ الأولويّة في الإدارة، وهما ثابتان لله سبحانه بأعمق ما يكون من ثبوت، وأوسع ما يكون من ثبوت.

فملكيّته عزّ وجلّ ليست مُلكيّة حيازة وحسب، بل ملكيّة تكوين، وإحياء، وعطاء، وتوجيه، ومصير إلخ... وأولويّته في الإدارة ليست بسبب أنّه أعلم بالإدارة وأقدر عليها من كلّ وجه بل؛ لأنّه سبحانه يدير الأشياء والناس من أجل خيرهم وكمالهم وسعادتهم، ويتعالى عن أن ينتفع بشيء من ذلك.

وحينما تنشر حاكميّة الله روحيّتها على أهل الأرض، أو على جماعة منهم، فما أعظم الثمرات التي تحقّقها فيهم... وأوّل هذه الثمرات: أن يتنفّس المجتمع الصعداء بزوال الطاغوت البشري عن مسرح التشريع والحكم، ويتساوى جميع عباد الله في التلّقي عن المشرّع والحاكم الواحد الذي يحبّهم جميعاً، ويتنزّه عن الميل والخطأ.

قدّر بنفسك الفارق بين مجتمع يعلو فيه الأقوياء بسلطانهم ومالهم وأنانيّاتهم وظلمهم، ويخضع فيه الضعفاء بمهانتهم وجبنهم... وبين مجتمعٍ يعلو فيه حكم الله وقوانينه، ويعتزّ فيه الناس بتلّقيهم منه، وبانتظامهم في ظلّ شريعته، وتساويهم أمام عدالته وحبّه.

أو قدّر الفارق في نفسك، إذ تعيش في مجتمع تخضع فيه للأنانيّة والطغيان، وللقوانين الظالمة والمقاييس المقلوبة، أو تعيش في مجتمع لا تخضع فيه إلاّ لله، وتتساوى في هذا الخضوع المحبّب مع الحاكم، الذي يعمل في تطبيق شريعة الله على نفسه وعلى الناس.

لا أريد أن أستطرد في خصائص حاكميّة الله في المجتمع الإسلامي، وإنّما أريد القول: إنّ الصلاة باعتبارها خضوعاً يوميّاً يؤدّيه المجتمع بين يدي الله.

٢٢١

تركّز حقيقة حاكمية الله وتوجيهه للمجتمع المسلم، وتجعل ذلك ظاهرة بارزة يعيشها الناس في مفاهيمهم، ومراحل يومهم وحركة حياتهم، ويجنون منها أنفع الثمار.

*وثاني هذه المعطيات:

وحدة المجتمع الإسلامي وتساوي أفراده

وتقوم الصلاة بتقديم هذا المُعطى من ناحيتين:

فهي من ناحية: تُبرز وحدة المجتمع الإسلامي وتساويه، وغنيٌ عن البيان أنّ وحدة التجمّع في الإسلام تقوم على أصول فكريّة، بدل الأصول العرقيّة والإقليميّة التي درجت المجتمعات على القيام بها حتى يومنا هذا... فالدعوة الإسلاميّة هي الدعوة الوحيدة التي تصرّ بطبيعتها على الصفة الفكريّة في الدولة والمجتمع، وترفض كلّ صفة أخرى غيرها.

نعم، لقد نشأت في شعوب الإسلام دول ومجتمعات عرقيّة وإقليميّة، ولكنّها ظلّت ولا تزال غريبة على الإسلام غرابة واضحة لا لبس فيها، وذلك بعكس المجتمعات والدول العرقيّة والإقليميّة في الشعوب الوثنيّة والمسيحيّة والشيوعيّة، التي استطاعت أن نتسجم مع هذه الديانات، بل وأن تحمّلها إطارها العرقي والإقليمي في كثير من الأحيان...

إنّ الصلاة تُبرز الصفة الفكريّة في المجتمع الإسلامي في مظهرين من مظاهرها عريقين في حياة المجتمع المصلّي: مظهر الالتزام بها، ومظهر المجتمع لأدائها.

فالالتزام اليومي بأداء الصلاة من جميع أفراد المجتمع، يشكل ظاهرة من ظواهر الوحدة فيه، خاصّة وأنّ هذا الالتزام يستتبع التزامات أُخرى ذات شأن في حياة الأُسر والأفراد، فالنهوض المبكر من أجل الصلاة، والتطهّر اللاّزم لها، والاستجابة لندائها، وتحديد المواعيد بها قبلاً أو بعداً، وغير ذلك من مستلزماتها؛ يجعلك تشعر بوحدة المجتمع المصلّي على اختلاف جنسيّاته وأقاليمه، وتشعر بما يدل عليه هذا الالتزام الموحّد اليومي الشامل، من أصول فكريّة يقوم عليها المجتمع ويدين بها.

والاجتماع لأداء الصلاة يعكس وحدة المجتمع الإسلامي بشكل ظاهر

٢٢٢

أيضاً، وحسب الإنسان أن ينظر من ظاهرة الصلاة في الاصطفاف اليومي في المساجد، وفي الأعياد، وفي الصلاة في موسم الحجّ، لكي يحكم بأنّ هذا المجتمع المصلّي مجتمع واحد في حقيقته، مهما اختلفت جنسيّاته وأقاليمه، فكيف إذا أضاف إلى ذلك، وحدة الروحيّة في هذا الاصطفاف، ووحدة مركز الاتجاه فيه، ووحدة المحتوى الفكري الذي يعبّر عنه، والتفت إلى ما يستتبعه هذا الالتقاء من وحدة في شؤون أخرى كثيرة، وما يقدّمه من ثمرات كبيرة.

ومن ناحية ثانية، تقوم الصلاة بتعميق الوحدة في المجتمع الإسلامي؛ وذلك لأنّها بذاتها تمثّل وشيجة فكريّة وشعوريّة بين أفراده، ولا نريد أن نكرّر أنّ الصلاة الإسلاميّة ليست عملاً شكليّاً يقصد منه توحيد المجتمع في تقليد جامد.

وأنّها تربٍّ يومي ضروري لإعداد الشخصيّة المسلمة للقيام بدورها الطليعي في الحياة، وأنّها من هذا الأفق آية من آيات الله شكلاً، ومضموناً، وتأثيراً في تكوين شخصيّة الفرد والمجتمع، وتعميق مفاهيم الإسلام عن الأخوّة والتعاطف، والمساواة والحنان، والتكافل بين أفراد مجتمعه... فقد تقدّم من ذلك ما فيه الكافية.

لقد تعوّدنا أن نقرأ وأن نكتب عن الوحدة والمساواة بين الناس، وأن نُشيد بهذه الفكرة، ولكن يجب أن نعرف أن هذه المفاهيم لكي تسود المجتمع فلا بدّ من الانطلاق فيها من قاعدة عقائديّة متينة، ولا بدّ من تجسيدها بتشريعات فعّالة...

إنّه ما أيسر أن يقول الحكّام والأغنياء للناس: نحن أفراد منكم، لنا ما لكم، وعلنيا ما عليكم، ولكن ما أصعب أن يكون هذا الكلام ديناً يدينون به وحقيقة يعيشونها.

إنّ الإسلام يؤمن بأنّه لا يكفي لتحقيق الوحدة والمساواة في المجتمع، أن تسود المفاهيم والتشريعات النظريّة، في حين يبقى الواقع مفصولاً عنها رازحاً تحت وضع مضادّ لها، لذلك لا بدّ في رأيه من القضاء على الهوّة الفاصلة بين المفاهيم الخيّرة وبين الواقع الشرير... ولو أنّ الصلاة الإسلاميّة طبّقت في

٢٢٣

مجتمع ما، لقامت بنصيبها في تجسد الوحدة والمساواة، واقعاً حيّاً تراه العين وتلمسه اليد.

لقد تعوّدنا أن نرى الحاكم معزولاً عن الجماهير، وراء عشرات الأبواب والحجّاب، أو نراه محاطاً بحراسة المدجّجين، وبعناصر الإيهام التي يحشدها حول شخصه، ولم نتعوّد أن نراه يؤدّي صلاته اليوميّة، والأسبوعيّة في أي مسجد إلى جانب أفراد شعبه الذين يدعي أنّه واحد منهم.

تعوّدنا أن نرى الرأسمالي حاكماً صغيراً على الذين يطعمونه من جهدهم وعرقهم، ولم نتعوّد أن نراه يؤدّي صلاته مأموماً خلف عامل تقيّ يعمل عنده.

إنّ الوحدة والمساواة في المجتمع الإسلامي واقع معاش لا نظريات معلّقة، وإنّ دور الصلاة في تجسيد ذلك وتوحيد طول الناس تحت لواء الله، لهو دور مهم.

*وثالث المعطيات الاجتماعيّة للصلاة:

حقوق الأُمّة المصلّية في الأرض والناس

ويبرز هذا المُعطى من الصلاة حينما يكون أهل الأرض دولة واحدة، وأُمّة واحدة، قائمة على هدى الله، عاملة في تحقيق أهدافها التي رسمها لها، معلنة ربانيّتها وانتسابها إليه عزّ وجلّ في أوجه نشاطها اليومي، وفي وقفة الصلاة الواعي الخاشعة...

لكن أحسب أنّ هذا المعطى يبرز بصورة أوضح حينما يكون المصلّون قسماً من أهل الأرض، ففي هذه الحالة يمكننا بيسر أن نجري المقارنة بين انتساب الأُمّة المصلّية إلى وليّها، وانتسابات الأُمم الأُخرى إلى أوليائها، وفي هذه الحالة تظهر بوضوح الصلاحيات التي يعطيها الله للأُمّة المصلّية ويكلّفها بها في الأرض والشعوب.

ولا بدّ لنا لكي نتبيّن هذا المعطى من الصلاة، أن نقدّم صورة موجزة عن المكانة والحقوق التي يقرّرها الله عزّ وجلّ للأُمّة المسلمة، ثمّ ننظر دور الصلاة في هذه الحقوق والمكانة.

٢٢٤

أمّا هذه الحقوق فهي الحقوق الثلاثة التالية:

*حقّ ملكيّة الأرض.

*حقّ إقامة الحكم.

*حقّ هداية الناس.

فغير المسلمين لا يملكون في حكم الله شبراً واحداً من الأرض، ولا يحقّ لهم أن يقيموا دول، كما إنّهم غي مخوّلين من الله بدعوة الناس إلى هداه... وقد وقع الكثير من الكتّاب المسلمين في أخطاء ومفارقات لدى بحثهم عن الأساس القانوني في حروب الإسلام الجهاديّة، وفي تحويله ملكيّة الأراضي إلى المسلمين، وأخذ رسوم السكنى والمواطنة من غير المسلمين، ومنعهم من إقامة دولة...

وكان السبب في هذه الأخطاء: إمّا ضعف قلوب هؤلاء الكتّاب عن الجهر بما قرّره الله لأُمّة الإسلام، وإمّا جهالتهم بهذه الحقوق الثابتة للأُمّة الإسلاميّة، بنصوص لا تقبل الشكّ ولا التأويل:

قال الله عزّ وجلّ: ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) 33 - التّوبة.

( قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ) 29 - التّوبة.

وأمّا قوله تعالى: ( لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) فهو يقرّر مبدأ حريّة الاعتقاد للناس، ويحرّم إجبارهم على العقيدة الإسلاميّة، ولكنّ الذي يضمن هذه الحريّة إنّما هو الحكم الإسلامي، أمّا الحكم غير الإسلامي فهو يجبر الناس على عقيدته، ويمنعهم من إبصار الإسلام واعتناقه؛ ولذا فهو عقبة في طريق حريّة الاعتقاد.

عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (... وذلك أنّ... الأرض لله عزّ وجلّ

٢٢٥

ولرسوله ولأتباعهما من المؤمنين، فما كان من الدنيا في أيدي المشركين والكفّار والظلمة والفجّار... ظلموا فيه المؤمنين... فهو حقّهم أفاءه الله عليهم، وردّه إليهم... وإنّما معنى الفيء: كلّ ما صار إلى المشركين ثمّ رجع... إلى مكانه... فإنّما هي حقوق المؤمنين رجعت إليهم، بعد ظلم الكفّار إيّاهم، فذلك قوله: ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ) ، ما كان المؤمنون أحقّ به منهم، وإنّما أُذن للمؤمنين الذين قاموا بشرائط الإيمان...).

قال السائل: فقلت: فهذه نزلت في المهاجرين بظلمِ مشركي أهل مكّة لهم، فما بالهم في قتالهم كسرى وقيصر، ومن دونهم من مشركي قبائل العرب؟

فقال (عليه السلام) : لو كان إنّما أُذن لهم في قتال من ظلمهم من أهل مكّة فقط... كانت الآية مرتفعة الفرض عمّن بعدهم، إذ لم يبقَ من الظالمين والمظلومين أحد... وليس كما ظننّتَ، ولا كما ذكرتَ، ولكنّ المهاجرين ظلموا...أهل مكّة بإخراجهم من ديارهم وأموالهم، فقاتلوهم بإذن الله لهم في ذلك، وظلمهم كسرى وقيصر، ومن كان دونهم من قبائل العرب والعجم، بما كان في أيديهم، ممّا كان المؤمنون أحقّ به منهم، فقد قاتلوهم بإذن الله عزّ وجلّ لهم في ذلك... وبحجة هذه الآية يقاتل مؤمنوا كلّ زمان...)، (من حديث طويل في الكافي ج5 ص16 - 17).

ولا نريد هنا أن ندخل في تفصيل هذه الحقوق، التي يعطيها الله عزّ وجلّ للأُمّة المسلمة، ولا في بيان سندها القانوني، وحكمتها الاجتماعيّة، ولكن لا بدّ من كلمة لأولئك الذين يستكثرون أن تعطى أُمّة من الناس حقوقاً وامتيازات على الأُمم الأُخرى بسبب معتقدها الديني...

نقول لهؤلاء إنّكم لو نظرتم إلى هذه الامتيازات التي يعطيها الله للمسلمين، لوجدتم أنّها ليست امتيازات بمقدار ما هي واجبات وتكاليف، بنشر الهدى الإلهي وإقامة العدالة في شعوب العالم.

ثمّ لو سلّمنا بأنّها صلاحيات وامتيازات محضة، فليست هي امتيازات عرقيّة أو إقليميّة حتى يكون الحصول عليها وقفاً على جماعة معيّنة، وما دام الشرط الوحيد لهذه الامتيازات هو: إعلان التصديق بقضيّة فكريّة تملك أقوى البراهين، فما أيسر أن تكسبوا هذه الامتيازات ويكون لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم.

٢٢٦

وأمّا دور الصلاة من هذه الحقوق الممنوحة للأُمّة المسلمة فهو: أنّها شرط فيها... قال الله عزّ وجلّ: ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ...الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ) 39 و 41 - الحج.

( وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي ) 12 - المائدة.

وعن أبي عمرو الزبيري، عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: قلت له: أخبرني عن الدعاء إلى الله والجهاد في سبيله، أهو لقومٍ لا يحلّ إلاّ لهم، ولا يقوم به إلاّ من كان منهم؟ أم هو مباح لكلّ من وحّد الله عزّ وجلّ وآمن برسوله (صلّى الله عليه وآله وسلم)...؟ فقال (عليه السلام): (...من قام بشرائط الله عزّ وجل في القتال والجهاد... فهو المأذون له في الدعاء إلى الله عز وجل، ومن لم يكن قائماً بشرائط الله... فليس بمأذون له في الجهاد...إلخ). الكافي ج5 ص13.

واعتبار الصلاة شرطاً في هذه الحقوق يكشف لنا أوّلاً عن:

خطورة هذه الحقوق وثقلها... وماذا أخطر من مهمّة إدارة أرض الله وإعمارها، وتحقيق العدالة بين شعوبها، وتوعيتهم على هدى الله عزّ وجلّ؟

ويكشف لنا ثانياً عن: أنّ الوفاء بهذه المهمّة يتوقّف فيما يتوقّف على التربّي اليومي في معهد الصلاة، المعهد الذي يزوّد الأُمّة بالطاقة المستقيمة، ويشعرها أنّها أُمّة منتمية إلى الله، وقائمة بتكاليفه، وموافية إيّاه عزّ وجلّ في لقاء مسؤول.

أمّا إذا لم تقم الأُمّة بأداء الصلاة فإنّها لا تستحقّ شيئاً من هذه الحقوق؛ لأنّ حالها يكون كحال الأُمم الأُخرى الفاسقة عن أمر ربّها، المحتاجة إلى أُمّة تقوم على شؤونها وتهديها إلى الله.

وهكذا تأخذ الصلاة موقعها في إعداد الأُمّة وتوفير القابلية فيها للقيادة والقيمومة على الأرض وشعوبها، فأين حكّامنا وأين أُمّتنا عن هذه الصلاحيات الإلهيّة المشرّفة، وأين هم عن معهد الصلاة؟

٢٢٧

المُعطى الصحّي

إنّ المعطيات الصحيّة للصلاة، موضوع جدير بدراسة مستقلّة، ولكي تكون هذه الدراسة جيدة، لا بدّ أن يكون المؤلّف مختصّاً، وأن يعطي الموضوع ما يستحقّه من الجهد، وأن يتّبع منهجاً علميّاً سليماً في دراسته.

فما لم يكن المؤلف مختصّاً في الطبّ اختصاصاً يؤهّله لمثل هذه الدراسة، فإنّ استنتاجاته وآراءه ستكون تخمينات ظنّية مهما اتّسعت ثقافته الطبية، بل لا بدّ للكاتب في هذا الموضوع - إلى جانب اختصاصه - أن يكون عارفاً بالمعطيات النفسيّة للصلاة، وملمّاً بالتفاعل المتبادل بين الحالات النفسيّة والوظائف الجسديّة.

وما لم يعط الموضوع حقّه من الدراسة النظريّة والمختبريّة، فإنّ نتائجه لا تجيء قطعيّة ودقيقة، ولهذا كان علينا أن لا ننظر بكثير من التقدير إلى آراء الأطباء الذين يكتبون، أو يصرّحون عن معطيات الصلاة الصحّية، دون أن يدرسوا الصلاة دراسة طبيّة دقيقة، بل أحسب أن ملاحظاتنا الشخصيّة قد تكون أدقّ من كلام الطبيب السطحي.

وكذلك الأمر بالنسبة إلى سلامة المنهج، فإنّ دراسة المعطيات الصحّية للصلاة من نوع الدراسات التي تحلّل التشريعات الإلهيّة على ضوء العلم، وهذه الدراسات تتعرّض عادة للإعجاب بالنتائج العلميّة الظنّية واعتبارها نتائج نهائيّة، كما تتعرّض للإغراق في تحميل التشريعات ما لا تحتمله من المعطيات، ممّا يجعل الربط بينها وبين النظريّات العلميّة ربطاً ركيكاً وغريباً في بعض الأحيان.

الدراسة الطبيّة للصلاة ينبغي أن تبدأ في تقديري بنظرة موجزة عن العناية

٢٢٨

الصحيّة المأخوذة بعين الاعتبار في كلّ تشريعات الإسلام، وينبغي أن يستشهد لذلك بأمثلة من تشريعات الإسلام المختلفة، وبالأخصّ تشريعات التغذية والصوم والطبابة والتطهّر والصلاة... ثمّ تدرّس فقرات الصلاة ذات العلاقة الأكيدة بالصحّة الجسديّة، فتبحث مثلاً:

* الاستيقاظ المبكر وعلاقته بصحة الرئة ونقاء الدم...

* والنوم المبكر وعلاقته بصحّة الجسم بشكلٍ عام...

* والتطهّر بأنواعه وعلاقته بصحّة الجسم بشكلٍ عام...

* والسواك - المستحب قبل كلّ وضوء - وعلاقته بصحّة الفم والمعدة...

* والاستنشاق - المستحب قبل كلّ وضوء ثلاث مرات - وعلاقته بصحّة الأنف والرأس.

* وغسل الأطراف، وعلاقته بصحّة الأطراف والجسم.

* والوقوف للصلاة باطمئنان، وعلاقته بصحّة الأعصاب.

* والركوع - الذي يتكرّر في الأقلّ 17 مرّة يوميّاً - وعلاقته بصحّة العمود الفقري وجهاز الهضم.

* والسجود - الذي يتكرّر في الأقلّ 34 مرّة يوماً- وعلاقته بصحّة الجهاز الهضمي، ودورة الدم في الرئة والرأس.

* والسجود على الأعضاء السبعة - الجبهة والكفّين والركبتين وإبهامي الرجلين - وعلاقة ذلك بصحّة الشرايين.

* وجلسة التورّك المستحبّة في الصلاة وهي: أن يجلس المصلّي على فخذه الأيسر، واضعاً ظاهر قدمه اليمنى على باطن قدمه اليسرى.

* وكراهة الجلوس على القدمين... وعلاقة ذلك بسلامة الفقرات، والجهاز الهضمي.

* وكراهة افتراش الساعدين حال السجود (كما تجلس السباع) وعلاقته

٢٢٩

بشرايين عضلات الأطراف.

ثمّ لا بدّ للدراسة الطبيّة للصلاة أن تُختم ببحث مسألتين مهمّتين:

الأوّل منها: الرياضة التلقائيّة التي تعطيها الصلاة، وأوجه الفرق بينها وبين الرياضة المقصودة.

والثانية: تأثير المُعطى النفسي من الصلاة على الوظائف الجسديّة المتنوّعة.

وها أنت ترى من هذه الفهرسة الأوليّة، أنّ العطاء الصحّي للصلاة موضوع جدير بالعناية والجهد من مختصيّن؛لكي يكشفوا لنا ما يقدّمه الالتزام بهذه الفريضة من نتائج صحيّة في حياتنا، أفراداً وأُمّةً...

ولكن ذلك لا يمنعني من تسجيل ملاحظات حول المسألتين الأخيرتين:

الرياضة التلقائيّة

لقد بلغت الحركة الرياضيّة العالميّة في عصرنا الحاضر من السعة، والتنوّع ما لم تبلغه في أي من العصور الماضية... ونظرة أوليّة إلى الدورات الأولمبيّة كافية للتدليل على ذلك.

وإذا سألت القائمين على الحركة الأولمبيّة العالميّة، عن تقييمهم للأُسس والمبادئ التي تقوم عليها وتسير عليها الحركة، لأجابوا بأنّها: أُسس ومبادئ سليمة للغاية، ولاستدلّوا على ذلك بالتأييد العالمي المنقطع النظير للحركة.

ويأخذ الناس العجب إذا قلت لهم: أنّ الحركة الرياضيّة تنطوي على خطرين كبيرين؟ وأنّه إذا لم يُعمل لتفاديهما فسوف يتفاقمان ويجعلان من الحركة الرياضيّة سلاحاً عالميّاً قتّالاً.

المشكلة الأُولى التي تواجهها الرياضة: تركيز العداء بين شعوب العالم، العداء بين الأنظمة، والعداء العرقي، والعداء الإقليمي... فها هي الحركة الأولمبيّة معرض للتنافس المقيت، بين الأنظمة والعناصر والأقاليم، وكلّ دولة

٢٣٠

تحشّد طاقاتها للفوز بأكبر كميّة من المدَّليات، لكي تسخّر كلّ ذلك في الدعاية إلى نظامها، وعرقها، وإقليمها، أمّا الأُخوّة الدوليّة الرياضيّة فما هي إلاّ نفاق صريح! تحسّ به أيدي الرياضيين المتشابكة، وحكوماتهم، والواعون من الناس، ويغفل عنه السذج من الجماهير...

ولا أجدُني بحاجة إلى التدليل على هذه المشكلة الخطيرة، بعد أن سمعت تصريحاً - أليماً! - لرئيس اللجنة الأولمبيّة يدعوا فيه: إلى الحدّ من استعمال الفوز بالمدَّليات، للدعاية إلى نظام البلد الفائز، والحطّ من أنظمة البلدان الأخرى، ويعلن فيه: أنّ فوز بلدٍ بكميّة أكبر من المدَّليات لا يدلّ على أفضليّة النظام القائم فيه..

والمشكلة الثانية: تحويل الإنسان إلى جسد، فلا خلاف في أن تقييم الإنسان أوّلاً إنّما هو: بفكره وشعوره وسلوكه، وأنّ جسده ليس أساساً في ميزان إنسانيّته.

إنّ هذا المركب الإنساني من روح وجسد، يجب أن ننظر إليه ككيان جسدي وروحي، يتكّون بالمكوّنات الثلاثة الآنفة الذكر، أمّا إذا نظرنا إليه كهيكل جسدي ميكانيكي فقط، فقد خرجنا به عن الإنسان الكامل، إلى الحيوان القوّي الماهر.

وهذا ما تفعله الحركة الرياضيّة العالميّة! وهذا هو الشيء الذي يعجب جماهير العالم من الرياضيين، فتصفّق وتهتف وتصفّر!

لا أريد أن أدخل في تحليل نفسيٍ لإعجاب الجماهير الرياضيّة وحماسها، ولكنّي أسأل: ترى هل كان يختلف هذا الحماس إذا قرّرت اللجنة الأولمبيّة استبدال الرياضيّين من الناس، برياضيّين مدرّبين من، الأسود، والخيول، والأرانب والديَكة...؟

سيبقى الحماس، ويبقى كذلك تشجيع الدول وتسخيرها المدليّات التي تفوز بها حيواناتها، للدعاية إلى نظامها وعنصرها وإقليمها.

ثمّ ما هو الشيء الذي يعجب الرياضيّين من أنفسهم؟ أهو إنسانيّتهم أم أجسادهم؟.

لقد حوّلت الهواية الرياضيّة هؤلاء المساكين إلى عباد أجساد، إنّ أُنفس الكثيرين منهم تطفح من خلال تصفياتهم، وكلامهم! أمّا الخُلق الرياضي والروح الرياضة التي يتمتّع بها هؤلاء، فهي بالحقيقة النفاق الرياضي،

٢٣١

والوحشيّة الرياضيّة، وإلى العقُد النفسيّة، والأحقاد الرياضيّة التي تملئ قلوب أكثر الرياضيّين، وتمتد من ورائهم إلى جماهيرهم!.

وما يقال عن الحركة الرياضيّة على مستوى العالم، يقال بعينه على مستوى كلّ دولة وكلّ مدينة... فماذا أخطر من تيّارٍ عالمي تنساق له الجماهير، وهو يحمل في طياته ترسيخ العداء بين الناس وتعبيد الإنسان لجسده...؟!

إنّه لا بدّ أوّلاً من تأطير الحركة الرياضيّة بإطار إنساني، بدلاً من الإطار الذاتي الذي ترزح تحته الآن...

لماذا لا تُعطى الحرّية في الدورات الأولمبيّة وغيرها للرياضيّين أنفسهم، لكي يقسّموا أنفسهم إلى مجموعات وفِرق، بقطع النظر عن انتمائهم الدولي والعنصري؟ أو لماذا لا يتمّ تقسيمهم إلى فرقٍ بطريقة القرعة من قبل اللجنة الأولمبيّة نفسها؟ لماذا لا تزال هذه الحلبة السياسيّة الماكرة التي تلعب بهؤلاء الكرات، وبأذهان الجماهير من ورائها...؟

ولا بدّ ثانيّاً من حصر الحركة الرياضيّة في أنواع الرياضة التي نحتاجها لحياتنا، فما هي فائدة سباق الحواجز بالخيول؟ وما فائدة سباق رمي الرمح والقلّة؟ وما فائدة العديد من أنواع الرياضة المتبنّاة من اللجنة العالميّة ومن الرياضة العالميّة...

لماذا لا نستبدل هذه الأنواع بأنواع نافعة؟ لماذا لا تدخل في الألعاب الأولمبيّة رياضة القتال للدفاع عن الأوطان، وعن النفس بالذخيرة الشكليّة، وبأنواع الأسلحة؟

ولماذا لا تدخل رياضة التصنيع مثلاً بتعطيل المكائن الصناعيّة ومحاولة المهندسين إعادة تشغيلها في أوقات قصيرة، وللعمّال بكميات الإنتاج ونوعيّاته في مختلف الظروف...؟ ولماذا...؟ ولماذا؟

ولا بدّ ثالثاً من ابتكار نوع من الرياضة، وليسمّى: (الرياضة التلقائيّة) ، فلماذا تنحصر الحركة الرياضيّة بشعار (الرياضة للرياضة) أو (الرياضة للتسلية) ولا يرفع شعار: (الرياضة للعمل) أو (الرياضة للنهوض بالشعوب) ، فتشكل فِرق رياضيّة عالميّة من المهندسين والمهنيين والعمّال، وتقيم مبارياتها في

٢٣٢

دولة ناميّة لتنتج لها في شهر من الزّمان عشرة مشاريع، أو خمسة، تكون عاملاً من عوامل النهوض بها، ثمّ يطلق على كلّ مشروع اسم: الفريق الذي فاز بأكثر المدليّات فيه...؟ ولماذا...؟ ولماذا؟

لا أعتبر هذه الفقرات مشروعاً لتصحيح الحركة الرياضيّة، وإنّما لا بدّ من أخذ هذه العناصر بعين الاعتبار في مشروع تصحيح الحركة الرياضية، وتفادي أخطارها الجسيمة القائمة، كما لا بدّ من أخذها بعين الاعتبار في إنشاء كلّ نشاط رياضي صحيح...

وهل تعلم أنّ هذا هو رأي الإسلام في الرياضة...

نعم ، الإسلام المنهج الربّاني الذي يجهل أهل الأرض عطاء تشريعاته، وإبداعه في مجالات حياته جميعاً.

في المفاهيم والأُطر التي يتبنّاها الإسلام في الحركة الرياضيّة، وفي كلّ نشاطات الناس، لا وجود للتنافس العِرْقي والإقليمي والذاتي؛ لأنّها مفاهيم رفضها الإسلام بحزم، جملةً وتفصيلاً، واستبدلها بالوحدة الإنسانيّة، وبالتنافس بالعمل من أجلها...

إنّ الإسلام يحرّم كافّة النشاطات التي تنمّي هذا التنافس المحرّم، (وأكثر من هذا، فقد حدث في خلافة أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، تفاخر بين اثنين من المسلمين، قام على أثره أحدهما بذبح مئة من إبله، وأباحها للناس، فحرّمها الإمام (عليه السلام)، وأمر بها أن تلقى في كُناسة الكوفة) .

وكذلك يأبى الإسلام أن يسلك في تأييد نظامه الأساليب غير المنطقيّة.

وعن حصر الحركة الرياضيّة في الأنواع النافعة، يمكن أن ترجع إلى مصادر الإسلام الفقهيّة، لتجد أنّها تحرّم أنواع اللهو والعبث، بينما تشرّع المباراة والرهان على نشاطات الفروسيّة، وإعداد القوى اللاّزمة لكيان الأُمّة.

وعن الرياضة التلقائيّة فقد سبق الإسلام أحدث ما يمكن أن يصل إليه الابتكار الرياضي في هذا المضمار، فبالإضافة إلى أنّ الفقه الإسلامي يشّجع التنافس الرياضي في مجالات إعمار الأرض، وإعداد القوّة، ويرحّب بمبدأ الجوائز والمدليّات (الجُعالات) ، ويعتبر ذلك عملاً مبروراً، فقد ضمن في شريعته

٢٣٣

الرائعة لكلّ فرد من الناس نصيبه اللاّزم من الرياضة التلقائيّة اليوميّة والسنويّة.

إنّي لا أشكّ في أنّ تشريع الله عزّ وجلّ لفريضة الصيام الحازمة، وفريضة الصلاة اليوميّة، ذات الحركات الرياضيّة المتقنة المركّبة، قد قصد منه فيما قصد، تزويد الإنسان بما يحتاجه إلى الرياضة الجسديّة، الرياضة التلقائيّة التي تعمّق إنسانيّة الإنسان، ولا تحوّله إلى هيكل جسدي.

وإنّ على الدراسة الصحيحة لفريضة الصلاة، أن تدرس الجانب التلقائي في عطاء الصلاة الرياضي، وتقارنه بعطاء النشاطات الرياضيّة المتعمدة، فإنّي أحسب أنّ الفارق بينهما بالغ.

العلاقة بين النفس والصحّة الجسديّة

سواء كانت حقيقة النفس طاقة مادّية في الجسم، أو مِثالاً نورانيّاً حالاًّ فيه، أو وجوداً مجرّداً يدير الجسم، أو أيّ شيء آخر... فإنّ تبادل التفاعل بينها وبين الجسد حقيقة بديهية لا يسعنا إلاّ الاعتراف بها... فها نحن نتأثّر نفسيّاً فنمرض، ونُمرِّض فنتأثّر نفسيّاً.

وقد أصبحت هذه الحقيقة - خاصّة في العقود الأخيرة - موضع اهتمام الدراسات والمناهج الطبيّة، في كافّة جامعات العالم، وكذلك في بعض العلاج الطبّي.

أمّا ما هي حقول هذا التأثير المتبادل؟ ما هي الأمراض الجسديّة ذات المنشأ النفسي؟ وما هي الأعراض النفسيّة ذات المنشأ الجسدي؟ فإنّك تخرج من القراءات الطبيّة والنفسيّة بنتيجة واحدة هي: أنّ البحوث في هذا العلم (علم النفس الطبّي، أو علم الطبّ النفسي) لا زالت في أولى خطواتها...

وينبغي أن يكون الأمر كذلك؛ لأنّ الصعوبات التي تواجه هذا العلم صعوبات غير عاديّة.

فمن هذه الصعوبات: ما هي حقيقة النفس؟ إنّ معلوماتنا عن هذه الطاقة التي تعمل بين جنبينا لا تكاد تذكر!

٢٣٤

ومن هذه الصعوبات: كثرة الوظائف لأجهزة الجسد وتشعّبها وتشابكها، إنّ علم الطب لا يدّعي إلى الآن أنّه أحاط بكلّ وظائف الجسد، ولا بأكثرها!

ومن هذه الصعوبات : من أين نبدأ؟ فما دام التأثير بين النفس والجسد متبادلاً فما الذي يضع يدنا على المنشأ، وما الذي يضمن في أكثر الأحيان أن لا نحسب السبب نفسيّاً وهو عضوي، أو عضويّاً وهو نفسي...؟

ومن هذه الصعوبات: منهج البحث في هذا العلم الذي يتردّد بين المنهج التجريبي المحض، وبين المنهج العقلي المحض، وبين المنهج العقلي الميتافيزي، أو بين المنهج المزيج الذي لا ندري كيف يمكن أن نكّونه، كما يتردّد المنهج الواحد بين طرق عديدة...

ومن هذه الصعوبات: ما هو الوضع الصحّي السليم للنفس، الذي يضمن عدم تأثيرها على وظائف الجسد، وما هو نظام التغذّي والعيش السليم الذي يضمن عدم تأثير الجسد على النفس...؟ إلى آخر المصاعب الرئيسيّة التي تعترض هذا العلم.

ولكن مع كلّ هذه المصاعب، فقد أصبح لدينا من النتائج الوئيدة لهذا العلم حصيلة من الحقائق والنظريات، لا تدع مجالاً للشكّ، بأنّ توفّر الإنسان على نفسٍ راضية مطمئنّة، هو عامل فعّال في صحّته الجسديّة.

وهذه الحقيقة العلميّة كافية لأنّ تفتح لنا حقلاً لدراسة المُعطى الصحّي للصلاة، ويمكن أن نتّبع في هذا البحث إحدى طريقتين.

الأُولى: الدراسة المختبريّة: بأن نأخذ عدّة نماذج مصلّية، وعدّة نماذج أُخرى غير مصلّية من بيئة وشروط متقاربة، ثمّ نقارن بين المستوى الصحّي لهؤلاء المصلّين وذريّاتهم، وبين المستوى الصحّي لأولئك وذريّاتهم.

والطريقة الثانية: أن ندرس صورةً لمجتمع يؤدّي فريضة الصلاة، بظروفها وشروطها الإسلامية، وصورة مجتمع لا يصلّي، ثمّ نقارن بين النتائج الصحيحة في كلٍّ من المجتمعين المتجانسين في الشروط.

٢٣٥

وإذ نأتي على ختام هذا الفصل الذي ألمَمنا فيه ببعض المعطيات، العقليّة، والنفسيّة، والاجتماعيّة، والصحيّة للصلاة، علينا أن ننظر بتأمّل وتفهّم النصوص الإسلامية المتشدّدة في أمر الصلاة.

إنّ عملاً بهذا المستوى من الضرورة لحياة الفرد والأُمّة، وبهذه المكانة من الثراء والعطاء، لهو عمل جدير بأن يتشدّد الله عزّ وجلّ في أمره، ويجعله فريضة من أركان دينه ومنهجه لحياة الناس... فيأمر به مؤكّداً، ويحذّر من تركه مشدّداً:

( وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ )

( وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ )

( إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً )

( وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ )

( قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى )

( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ )

( مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَر* َقَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ )

وتأتي السنّة الشريفة فتبيّن مكانة هذه الفريضة وتعبّر عن ذلك بأبلغ التعبير.

تارة بأنّها: عماد الإسلام ووجه الإسلام.

وتارة بأنّها: عنوان صحيفة المسلم، والميزان لكافّة أعماله.

وتارة بأنّها: قربان كلّ تقي، وأفضل الأعمال بعد المعرفة، وأنّ لها أربعة آلاف باب...

وتحذّر من مغبّة تركها، فتبيّن أنّ إثم تارك الصلاة من أكبر الآثام، وإنّه لا خير في من لا يصلّي، وأنّ الشيطان يطمع في من لا يصلّي، وتأمر بمقاطعة من لا يصلّي، إذا كان ذلك نافعاً في حمله على الصلاة.

إنّ من يتأمّل في ضرورة الصلاة وآثارها الكبيرة؛ سيجد أنّ من المنطق أن يولِي الإسلام هذه الفريضة هذه المكانة، وهذا التأكيد والتحذير... فما ضرورة الصلاة في حياة الفرد والأُمّة، إلاّ كضرورة الغذاء والهواء، فأمّا إذا انقطع

٢٣٦

الإنسان عن الغداء والهواء فإنّه ينهار في مكانه... وأمّا إذا انقطع عن الصلاة فإنّه يتيه في كلّ طريق، وينهار في كلّ وادٍ.

٢٣٧

الفصل الخامس

الجنايات على الصلاة

* جناية الجهل

* جناية الذاتيّة

* جناية الحكّام والمستعمرين

٢٣٨

جناية الجهل

ممّن لا يصلّون

ليست القدرة على الوعي هي المشكلة في الإنسان، إنّما المشكلة إرادة الوعي... وإرادة الوعي كإرادة الحياة، أمر يملك خياره الإنسان، فهو الذي يقرّ أنّ يسير فيه قِدماً أو يرفضه طريقاً.

كم في الحياة من أشياء وأمور لا تستحقّ أن يصرف الناس عليها وقتاً وذهناً، يعطونها من أنفسهم الكثير، وكم فيها من أشياء وأمور تستحقّ أن يفتحوا لها عقولهم وقلوبهم، ويستوعبوها ويعوها، تراهم يغمضون عنها أعينهم!

ألا تعجب من جماهير يقال لها: إنّ أمامها حياة على غير الأرض، ثمّ هي لا تسأل عن هذه الحياة؟ ولا تتبيّن إليها الطريق؟! يقال لها: إنّ لها ربّاً سيسألها لا محالة عن تصرّفها، ثمّ هي لا تسأل نفسها إن كان ذلك صحيحاً..؟!

والأعجب من ذلك من يدّعي الوعي من الناس، ثمّ ينفق عمره في جزئيّات عاديّة أو تافهة، ولا يحاول أن يبحث مسائل مصيره المطروحة أمامه..!

ترى كيف يسمّى واعياً من تطرق سمعه دعوى كبيرة تخصّ وجوده ومصيره كدعوى الدين، ثمّ لا ينظر ما لهذه الدعوى وما عليها...؟ أو تطرق سمعه دعوى كبيرة كدعوى الصلاة، تقول له: إنّي في أقصى درجات الضرورة لحركة حياتك، ثمّ لا يبحثها ولا يتخّذ منها موقفاً...؟

وكذلك هي الجناية على الصلاة، جزء من الجناية على الإسلام بطريقة (تعمّد الجهالة)، فالعامل الأساس في جهالة الصلاة: تعمّد الإعراض والرضا به، ثمّ يجيء من بعده دور العوامل المساعدة، من مشاغل الحياة، وفراغ وسائل

٢٣٩

الإعلام من توعية الأُمّة على إسلامها، وخلوّ مناهج التربية من تربية الأُمّة على رسالتها، وحاجة المكتبة الإسلاميّة إلى الدراسات والكتب الميسّرة...

فكلّ هذه العوامل لو كانت بجانبها إرادة الوعي لتغلّبت عليها، ولذا كانت الجهالة بالصلاة جناية عليها خاصّة من أولئك (المثقّفين) الذين يقرأون عن أيّ شيءٍ إلاّ عن الإسلام، ويفكرون في أيّ شيءٍ إلاّ في الإسلام، ويبحثون عن حاجتهم لأيّ شيءٍ إلاّ عن حاجتهم إلى الإسلام وصلاته.

إنّ أكثر أبناء الإسلام - فضلاً عن الجمهور - لا تشكّل معلوماتهم عن الإسلام شيئاً يذكر، أمّا معلوماتهم عن الصلاة فقد تكون مجرّد سماع اسمها، أو رؤية من يتمتم بها ويؤدّيها...

لقد أُشربوا في قلوبهم الإعراض عن إسلامهم، والإصرار على جهالته، كما أُشرب بنو إسرائيل بالعجل! وإذا سألتهم عن السبب اعترفوا بجهلهم، واعتذروا بأعذارهم... ولكن ليتهم يعتذرون بالجهل، ويتوقّفون عن إصدار أحكامهم على الإسلام على صلاة الإسلام...

وهل ننتظر في حلّ هذه المشكلة أن تستقيم وسائل الإعلام، وتعتدل مناهج التعليم، وتخلِص الحكومات في توعية الأُمّة على الصلاة؟

إنّ التوعية على الصلاة هي جزء من التوعية على الإسلام، لا يصحّ أن تنتظر فيها تبديل قانون الله، فقد قَرن الله عزّ وجلّ وعي هذا الدين بالجهد البشري... فلا بدّ للواعين لإسلامهم وصلاتهم، أن يواصلوا الجهود ويعملوا في تذليل الصعاب، لا بدّ أن نثير الضمائر وندفعها إلى اتّخاذ الوعي مبدأً بدل الجهالة، ولا بدّ أن ننفض عن العقول الركام المزمن حتى يتحوّل وعي الصلاة وأداؤها إلى تيّار يفرض نفسه على الناس بجدارة.

وإنّي على ثقة بأنّ كثيراً من الجانين على الصلاة بالجهالة سيتحوّلون إلى مصلّين مخلصين، وإلى دعاة إلى الصلاة.

مِنْ مصلّين

والنوع الآخر من الجُناة على الصلاة بالجهالة، مصلّون يؤدّون الصلاة في كلّ يوم! فكثيرون أولئك الذين ترافقهم الصلاة في حياتهم، ولكنّهم لا يكلّفون

٢٤٠