فلسفة الصلاة

فلسفة الصلاة0%

فلسفة الصلاة مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 257

فلسفة الصلاة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: علي الكوراني
تصنيف: الصفحات: 257
المشاهدات: 61830
تحميل: 8288

توضيحات:

فلسفة الصلاة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 257 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 61830 / تحميل: 8288
الحجم الحجم الحجم
فلسفة الصلاة

فلسفة الصلاة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بها التزاماً شكليّاً وهو مُستغرق في الدنيا، وبين الذي له نصيب من آفاق العقيدة الإسلامية، وهو يخشع في صلاته أحياناً ويتفكّر... إلخ، وهذا التفاوت ليس في درجة الاقتناع النفسي فحسب، بل في الفهم الفكري العقلي لهذه الإجابات أيضاً.

وما ذلك إلاّ لأنّ الاقتناع بضرورة الصلاة من ناحية نظريّة ونفسيّة معاً، يتوقّف على الاقتناع بالله تعالى والغيب والآخرة، والمنهج السلوكي الإسلامي الذي يتبنّى ضرورة أن يُمارس الإنسان حياته في هذا الإطار وهذه الآفاق، ويرتبط بعبادات ومفاهيم وأحكام على مدار أيّامه تشدّه إليها وتمنعه من الانحراف عنها...

كما يتوقّف على التجربة، تجربة أداء الصلاة ولمس تأثيرها في نفسه، والمقارنة بين شخصيّته قبلها وبعدها، أو على المقارنة بين شخصيّة المصلّي وشخصيّة تارك الصلاة.

بل أنصح من يريد الاقتناع العميق بضرورة الصلاة للإنسان؛ أن يتّجه إلى قراءة حالة ترك الصلاة ومدى آثارها الرهيبة على الحالة العقليّة، والنفسيّة، والسلوكيّة، والحضاريّة في شخصيّة الإنسان والمجتمع.

إنّ دراسة الدور الإيجابي للصلاة في حياتنا مُفيد ومُقنع بلا شك، ولكنّي وجدتني بعد كتابة هذه الدراسة واطمئناني إلى صحّة هذه المعطيات للصلاة المباركة، ووجود معطيات جديدة... وجدتني أكثر ما يُقنعني بضرورة الصلاة للإنسان شخصيّة غير المصلّين الجانحة، وحالتهم الخطيرة اللامعقولة.

إنّ حقيقة: ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ )

وحقيقة: ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ )

وحقيقة: ( إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً...... إِلاّ الْمُصَلِّينَ )

وحقيقة: ( إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً )

وحقيقة: ( وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً )

٢١

وغيرها التي قدّمها لنا الإسلام عن الدور الإيجابي للصلاة... كلّها حقائق عميقة وملموسة ومُقنعة، ومعطيات الصلاة منها وفيرة.

ولكن الأكثر إقناعاً لمن يُناقش في ضرورة الصلاة هو: حقيقة الهَلع والهوائيّة في الشخصيّة، وحالة الفُحش والمنكر، وحالة اتباع الشهوات... حالة تارك الصلاة البئيسة المفصومة عن ربّها، والمستغرقة في ظُلمات طينها وحيوانيّتها.

إنّ دراسة الدور السلبي لترك الصلاة في الشخصية والمجتمع، تبقى أشدّ في الإقناع، خاصّة لتاركي الصلاة، وإن كانت صورها قاتمة غير محبّبة... وإنّ الحقائق التي قدّمها لنا الإسلام عنها كثيرة وحيويّة.

ومن نماذجها عن النبي (صلى الله عليه وآله)، قال: (لا يزال الشيطان ذَعِراً من المؤمن، ما حافظ على مواقيت الصّلوات الخَمْس، فإذا ضيّعهنّ اجترأ عليه؛ فأدخله في العظائم)، الوسائل، ج3 ص18.

وجاء إليه رجل فقال: يا رسول الله أوصني؟ فقال: (صلى الله عليه وآله)، (لا تَدَع الصّلاة متعمداً، فإنّ من تركها متعمّداً فقد بَرِئت منه ملّة الإسلام)، الوسائل، ج3 ص29.

ولعلّ هذه الحقيقة هي السبب في أنّ نصوص الإسلام التي تحذّر من سلبيّة وخطورة ترك الصلاة وتاركي الصلاة، أكثر من تلك التي تبيّن إيجابيّة الصلاة وتأثيرها.

٢٢

الصّلاة والإنسان والنسيان

للنسيان ثلاثة معانٍ:

1 - النسيان اللغوي العرفي:

بمعنى زوال صورة الشيء - الشيء الماديّ أو الفكرة أو الشعور - من ذهن الإنسان زوالاً وقتياً أو نهائياً، وهو تارة: نسيان بسيط، ينسى الإنسان فيه الصورة ويتذكّر أنّه ناسٍ لصورة.

وتارة: مركب، حيث ينسى الإنسان الصورة وينسى أنّه ناسٍ لصورة، وهذا النسيان ظاهرة عامّة في الجنس البشري، وتفاوت الناس في غير كبير في العادة، وهو ينشأ عن عوامل متعدّدة ترجع بالنتيجة إلى محدوديّة استيعاب الذهن البشري، على إنّ طاقة ذهن الإنسان على الاستيعاب هائلة.

وقد رفع الله تعالى مسؤولية الإنسان عن النسيان بهذا المعنى، فقد ورد عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قوله: (رُفع عن أُمّتي تسع: الخطأ، والنسيان، وما اضطرّوا إليه، وما أكرهوا عليه، وما لا يُطيقون... إلخ).

وقد يقال: إنّ النسيان أمر غير إرادي فهو داخل في قوله (صلّى الله عليه وآله وسلم): وما لا يُطيقون ، فكيف عدّ أمراً مستقلاً في الحديث الشريف؟!

والجواب: أنّ الأمر المنسي وإن كان التكليف به - بالنتيجة - تكليفاً بغير المقدور، وهو داخل في (ما لا يطيقون)، ولكن يمكن تكليف الإنسان بمقدّمات النسيان الإرادية؛ بأن يُحصّن معلوماته ويرفع مستوى تذكّره، واستحضاره للأمور إلى الحدّ الذي تراه الشريعة المقدّسة ضرورياً.

إنّ نسبةً كبيرة من مقدّمات النسيان داخلة تحت إرادة الإنسان، ولمّا كان من حقّ الشريعة وضعُ التكليف بشأنها، كان من سماحتها رفعه، كما نصّ الحديث الشريف.

2 - النسيان بالمعنى الفلسفي:

المُتبنّى لأفلاطون والفلاسفة الذين أخذوا

٢٣

بنظرته في الاستذكار والمِثْل، ومحصّل هذه النظرية: أنّ الإنسان كان قبل وجوده على الأرض يعيش في عالم مجرّد غير ماديّ هو عالم المثْل، وكان وعيه واستحضاره للأشياء والأفكار كاملاً، ولكنّه بهبوط روحه وحلولها في الجسد يفقد معلوماته دُفعة واحدة... ثمّ يبدأ باستعادة بعض معلوماته وتذكّرها.

وقد أخذ بهذه الفرضيّة أكثر الفلاسفة المسلمين، ما عدا صدر المتألّهين الشيرازي (قدسّ سرّه)، الذي توصّل إلى نظرية الحركة الجوهريّة الشهيرة، القاضية بأنّ: روح الإنسان وجسده مخلوقان من التراب، وقد مرّا بحركةٍ داخليّةٍ في جوهرهما، وافترقا في نوع النموّ والتطوّر، فخرجت النفس عن قواعد المادّة المعروفة، وبقي الجسم خاضعاً لهذه القواعد، ولكنّهما بقيا مُؤتلفين منسجمين...

وهذه النظريّة في وحدةِ أصل الروح والجسد، المنسجمة مع آيات القرآن الكريم في خلْق الإنسان من تراب، تقضي بأنّ المعلومات تَحدث للإنسان بتوفّر شروطها، من نموّ الجسد، والنفس، وليست استرجاعاً واستذكاراً لما كان يعلمه من قَبل: ( وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) النحل - 78.

3- النسيان بالمعنى القرآني:

وقد ورد استعمال النسيان في القرآن الكريم بالمعنى العرفي المتقدم كقوله تعالى: ( وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ) ( كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي ولا يَنسَى ) . لكنا نقصد بالمعنى القرآني المعنى الآخر للنسيان الذي وردت الآيات الكريمة في ذمه والنهي عنه والتحذير من العقاب الخطير الذي يترتب عليه.

قال الله عز وجل: ( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) 19 الحشر. ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ) . 57 - الكهف. ( قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى ) 126 طه. ( فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا ) 14 السجدة.

٢٤

وهذا المعنى من النسيان الذي يَرِد كثيراً في آيات القرآن الكريم، وأحادث السنّة الشريفة في مقابل (الذكر والتذكّر)، ينبغي أن نسمّيه (النسيان العملي)، وهو يختلف عن النسيان العرفي المسموح به في الإسلام، كما إنّه لا يتصّل في شيءٍ بالنسيان الأفلاطوني.

والنسيان بالمعنى العملي مبني على أساس النظرة الإسلامية للإنسان، التي تقضي بأنّ الإنسان مزوّد بفطرة وعقل، يدفعانه لإنْ يعرف عدداً من الحقائق ويعمل وفقها، وأوّلُ هذه الحقائق أن يعرف ربّه وشريعته المنزلة إليه... فإذا لم يسلك الإنسان هذا الطريق الطبيعي في المعرفة والعمل، فهو مُعرض عن الحقائق التي أمامه وناسٍ لها، وإذا سلك هذا المنهج في المعرفة والعمل فهو مُتذكّر.

فالتذكّر والنسيان بهذا المفهوم عملان إراديان للإنسان، وسلوكان يواجه بهما الحقائق التي يملك قوّة الاهتداء إليها في فطرته وعقله...

أمّا لماذا سمّى القرآن الكريم السلوك السلبي نسياناً، مع إنّه مخالفة متعمّدة للفطرة والعقل، وإعراض متعمّد عن الحقائق القائمة...؟ فالذي يبدو من نصوص الإسلام أنّ اختيار التسمية أو المصطلح ليس فقط بسبب أنّ هذا السلوك السلبي والإعراض إهمال وتناس؛ بل لأنّه يَنتج عنه نسيان حقيقي عملي ونظري.

فالمُعرضون والغافلون والناسون لربّهم تعالى، ولمّا قدّمت أيديهم، ولليوم الآخر، هم ناسون حقيقة، ولكنّه نسيان مُدان إسلامياً؛ لأنّه ثمرة طبيعية لمخالفة نداء الفطرة والعقل، ثمّ نداء أوامر الله ونواهيه.

وهذا (النسيان) الخطير على شخصيّة الإنسان، مرّة يكون في أصل الإيمان بالله تعالى ورسالته، فيكون مساوياً للكفر والنفاق... ومرّة يكون في تطبيقات الشريعة على السلوك، فيكون مساوياً للمعاصي والذنوب من المسلمين، كما في قوله تعالى عن المؤمنين: ( رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيناَ أَوْ أَخْطَأْناَ ) 286 - البقرة.

وكلّ منهما درجات متعدّدة يمكن ملاحظتها في مادّة (نَسيَ) ، و (ذَكَرَ) ، في القرآن الكريم...

٢٥

وهكذا يكون مفهوم التذكّر والنسيان قضيّة أساسيّة يجعلها الله تعالى مصطلحاً، ويَطرح الإسلام من زاويتها ويسمّيه: (ذِكراً)، ويسمّي المستجيبين له: (متذكّرين)، ويسمّي الكافرين به، والمنحرفين عنه: (ناسين).

الصّلاة ومعالجة النسيان:

كيف يُعالج الإسلام (حالة النسيان)، الخطيرة في الإنسان؟

طبعاً ليس السؤال عن علاج يكون ضماناً كاملاً لتذكّر الإنسان وعدم نسيانه؛ لأنّ الضمان في هذا المجال يعني: الإجبار أو شبه الإجبار على التذكّر العقيدي والسلوكي: ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً ) .

ولكنّه تعالى لم يُنشئ عالم الإنسان على هذا الأساس، بل على أساس إبقاء معادلة التذكّر والنسيان قائمة، كي يكسب الإنسان بإرادته ومعاناته فضيلة الاهتداء، ويتحمّل بسوء إرادته مسؤولية الكفر والمعصية.

بل نجد في كثير من نصوص الإسلام ودلائل العقل وآيات الحياة أنّ مسألة التكامل بالمعاناة، والتناقض بسوء الاختيار قانون ثابت لا يُمس: ( لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) .

فالمعالجة الإسلامية لحالة النسيان إذاً مجالها فيما دون الضمان الكلّي - الإجبار -، أي في تهيئة الأجواء المتعدّدة المحيطة بالإنسان، من عالمه الداخلي والخارجي التي تساعده وتدفعه إلى التذكّر.

أمّا القسم العقيدي من هذا النسيان، ويرافقه النسيان السلوكي طبعاً، بمعنى نسيان الإنسان لربّه وآخرته، فيعالجها الإسلام فيما يعالجها بـ (الذكْر) أي: بالقرآن، وما فيه من آيات الدعوة إلى الإيمان، التي لا تَدع أفُقاً من آفاق التذكّر إلاّ وتفتحه، ولا لوناً من ألوان معالجة النسيان إلاّ اتّبعته.

فمنها ما يَلْطف حتّى يلمس أعماق القلب فيضيؤها، أو أعماق النفس فيثيرها...

ومنها: ما يَشفُّ حتى يُجري الدمعة الحرّى، أو يُرفرف بالروح في الملأ الأعلى...

ومنها: ما يضع

٢٦

يد الإنسان على مكنون نفسه وأسرار محيطه وحقائق حياته...

ومنها: ما ينزل على هذا الغافل خطاباً منصبّاً من أعلى السماوات...

ومنها: ما يقرع أعماق هذا الناسي وجِلده بالمقارع... ( وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ ) .

وليست معالجة حالة هذا (النسيان الأكبر) من صُلب حديثنا عن الصلاة، فالصلاة يأتي دورها في معالجة (النسيان السلوكي) الذي يتعرّض له الإنسان بعد تذكّره العقيدي وإيمانه بالله تعالى ورسله واليوم الآخر، فيُعرض عن تطبيق شريعته و(ينسى) أوامر الله ونواهيه في سلوكه.

أي إنّ دور الصلاة هو: في معالجة حالة الانحراف في المسلمين، أو الوقاية منها - ما شئت فعبّر - وهو دور هامّ جدّاً؛ لأنّ الانتقال من الكفر إلى الإسلام، من حالة النسيان الكبرى إلى التذكّر العقيدي، يبقى انتقالاً شكليّاً ما لم يتمّ معه التذكّر السلوكي.

إذا نظرنا إلى المجتمع الإسلامي، نجد أنّ الضمانات النسبيّة التي يعتمدها الإسلام لتطبيق أحكامه وقوانينه، متفوّقة في الكمّ والنوعيّة على الضمانات التي تعتمدها كلّ المبادئ المعروفة، بما فيها أحدث المبادئ والتشريعات في إقامة المجتمعات والدول...

فهناك ضمانة السلطة، ففي الحديث الشريف: أما إنّه لا بدّ للناس من سلطان : (إنّ الله لَيَزعّ بالسلطان ما لا يَزَعّ بالقرآن...)، وهذه الضمانة مشتركة في أصلها بين الإسلام وغيره.

وهناك ضمانة ضمير التقوى في المسلم، ويُقابلها في المبادئ الأُخرى ما تستطيع أن تحقّقه في نفس أفرادها من ضمير بقيمها إن كانت، وبقايا الفطرة.

وهناك ضمانة المجتمع، المتمثّلة بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي يتفرّد بها الإسلام، والتي هي مشاركة شعبيّة كاملة ومسؤوليّة عن سلوك الدولة والأفراد.

هذه الضمانات النسبيّة الثلاث تشكّل أجواءً مهمّة تحيط بالإنسان المسلم، فتعالج فيه حالة (النسيان السلوكي)، وتذكّره بالسلوك القويم، ولكنّ موقع الصلاة من هذه الضمانات - كما تدلّنا نصوص الإسلام - يأتي في القلب منها

٢٧

جميعاً، ففي الحديث الشريف: (ما أعلمُ شيئاً - بعد المعرفة - أفضل من هذه الصلاة).

وحتى لو قلنا بأنّ كلّ الضمانات الإسلامية لاستقامة المسلمين ترجع إلى ضمير التقوى في المسلم؛ لأنّ الفرد هو اللبْنة الأساسية في المجتمع، والمجتمع ليس إلاّ الأفراد والعلاقات الناشئة عنهم...

فإنّ الصلاة في الإسلام تبقى هي القلب والجوهر لأعمال المسلم كلّها... فلماذا كانت قلب التقوى وخير أعمال المسلم بعد الإيمان؟

إنّ دُفعة التذكّر التي تعطيها الصلاة ذات قيمة تذكيريّة عالية... لأنّها تتركّز على تذكير الإنسان وربطه بالله عزّ وجلّ... وبما إنّ القاعدة المركزيّة في الإسلام هي: الاعتقاد بالله عزّ وجلّ مُنزل هذا الدين، وبما إنّ كافّة مفاهيم الإسلام وأحكامه مبنيّة ومتفرّعة عن الاعتقاد بالله تعالى وصادرة عنه، ومبلَّغة بواسطة رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلم)...

فإن استذكر الإنسان هذه الحقيقة العظمى باستمرار واستحضرها وترسّخت في فكره وقلبه... فقد أصبح أكثر ما يكون استعداداً للانسجام معها، والابتعاد عمّا يخالفها، بل وأمكن أن يتحوّل استذكاره لله تعالى إلى حضور موجّه دائم، يعيش المسلم معه ويطبّق توجيهه في كلّ الأمور.

صحيح أنّ الالتزام بتذكّر الله تعالى وأحكامه في سلوك الإنسان أمر صعب، فهو يملك عوامل إيجاب كثيرة في فطرة الإنسان ونفسه وحياته وعقيدته... لكنّ المشاغل والمُلهيات والمشوّشات في حياة الإنسان تكاد تكون أكثر وأكبر... خاصّة إذا كانت حياة المسلم حافلة بالظلم والآلام، والمتاعب والهموم والمغريات، كما في عصرنا الحاضر...

إلاّ إنّ عمليّة الاستذكار برغم الظروف الداخليّة والخارجيّة المحيطة، تبقى في رأي الإسلام صعوبة لا بدّ منها؛ لأنّها ضرورة معاناة الإنسان في تكامله، ولا بديّة نَظم أعماله في خطّ الإسلام وأحكام شريعته.

عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (ألا أُخبرك بأشدّ ما فرض الله على خلقه، [ثلاث] قلت بلى، قال: إنصاف الناس من نفسك، ومواساتك أخاك، وذكر الله في كلّ موطن، أما إنّي لا أقول سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاّ الله، والله أكبر، وإن كان هذا

٢٨

من ذاك، ولكن ذكر الله عزّ وجلّ في كلّ موطن، إذا هجمتَ على طاعة أو معصية) الكافي، ج2، ص145.

فاستذكار الله تعالى في السلوك صعوبةٌ تقع في صف صعوبة الإنتصار على الذات، وصعوبة حبّ الناس ومواساتهم...

ومن أجل هذه الصعوبة الضرورية غَمر الله عزّ وجلّ الإنسان بالإشفاق، ووضع له التشريعات التي تذلّلها وتيسّرها

وقد تمثّل الإشفاق:

بغفران السيئات، والتوبة على التائبين.

وبجعل السيّئة بواحدة، والحسنة بعشرة أمثالها.

وبمواصلة إرسال المذكّرين من الأنبياء والرسل.

وبالكتب المنزلة التي يسمّيها عزّ وجلّ بالذكر، وبوجود الأئمّة والعلماء في كلّ جيل...

وبكثير من ألطافه عزّ وجلّ...

وتمثّلت التشريعات التربويّة - مضافاً على عنصر تربية المسلم - على ذكر الله تعالى في كلّ مفاهيم الإسلام وتشريعاته، بتشريعين خاصّين:

أحدهما تشريع التفكير: أي التأمّل العقلي والشعوري في جميع الأشياء والاستنتاج منها، قال عزّ وجلّ: ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) 190 - 191 - آل عمران.

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (أفضل العبادة إدمان التفكّر في الله، وفي قدرته).

وعن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: (ليس العبادة كثرة الصلاة والصوم، إنّما العبادة التفكّر في أمر الله عزّ وجلّ)، يقصد (عليه السلام)، كثرة الصلاة والصيام بدون تفكّر.

٢٩

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (إنّ التفكّر يدعوا إلى البرّ والعمل به) الكافي ج2، ص55.

والنصوص الإسلاميّة من القرآن والسنّة التي تؤكّد على التفكير وإعمال العقل، وتُشيد بهذه العبادة وتندّد بمن لا يؤدّيها... تبلغ في وفْرتها مادّةً لكتاب، وقد قام المرحوم العقّاد بمحاولة لتقديم فريضة التفكير هذه في كتابه (التفكير فريضة إسلامية).

وثاني التشريعين: الصلاة اليوميّة، أكبر عمليّة تركيز عقلي وشعوري لاستذكار الله وأحكامه في عملنا اليومي، قال الله عزّ وجلّ: ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ) 45 - العنكبوت.

نرى أنّه سبحانه يعبّر عن هذه الحقيقة بيسر وبداهة، فيسمّي الصلاة (ذكراً) لوجوده وتوجيهاته في الأمور، ويُفهمنا عزّ وجلّ أن تذكّر وجوده الذي هو: القاعدة الأساس لمنهجه الكامل، هو: طاقةُ الدفع لاستقامة المسيرة والضمان من الإسفاف والانحراف، وإنّ هذا التذكّر - إذا حافظنا على حيوّيته - أكبر فاعليّة في السلوك نحو الأهداف الإسلامية من كلّ مؤثّرات الانحراف على شخصيّة المسلم.

وبيُسر وبداهةٍ يوضّح لنا الرسول الذي أوتي جوامع الكَلِم (صلّى الله عليه وآله)، موقع الصلاة في الحفاظ على نضَارة شخصيّة المسلم من المؤثّرات اليوميّة المختلفة، في مَثل بليغٍ يقول فيه:

(أيسّر أحدكم أن تكون على باب داره حمة، يغتسل منها كلّ يوم خمس مرّات، فلا يبقى من دَرَنهِ شيء؟ قالوا: نعم، قال: (صلّى الله عليه وآله وسلم) فإنّها الصلوات الخَمس)، الوسائل ج3 ص20.

كذلك هو حال النفس البشريّة مع المؤثّرات السلبيّة الداخليّة والخارجيّة... إنّها لا تلبث نصف نهار حتى تشوب نقاءها الأدران، حتى لتكاد تحجب عنها إحساسها بالله تعالى، ومفاهيم دينه وأحكامه، فتحتاج إلى اغتسال بالنبع المعدني الحارّ: الصلاة، ليعود إليها نقاؤها من جديد ويعود تذكّرها وهداها غضّاً

٣٠

نضِراً، فتقطع شوطاً آخر، مستقيمةً في السلوك والأهداف.

عن الإمام الصادق والإمام الرضا (عليهما السلام)، في جواب السؤال عن فائدة الصلاة - مع أنّ فيها مشغلةً للناس عن حوائجهم، ومتعبة لهم في أبدانهم على حدّ تعبير السائل -: (إنّ علّة الصلاة؛ أنّها إقرار بالربوبيّة... والمداومة على ذكر الله عزّ وجلّ بالليل والنهار، لئلا ينسى العبد سيّده ومدبّره وخالقه، فَيبطر ويطغى، ويكون في ذكره لربّه وقيامه بين يديه زاجراً له عن المعاصي، ومانعاً له عن أنواع الفساد)، الوسائل، ج3، ص4 (من مجموع نصيّن).

* * *

إنّ الحاجة إلى فكرة مركزيّة تملأ ذهن الإنسان ومشاعره، وتدفعه إلى العمل وتوجّه سلوكه، حاجة إنسانيّة يشعر بضرورتها كلّ الناس، بل نستطيع القول أنّه لا يوجد إنسان إلاّ ويحمل فكرة مركزيّة تدفعه إلى العمل وتوجّه سلوكه، أيّاً كانت هذه الفكرة.

والإسلام لم يضف هذه الحاجة على حياة الإنسان ولكنّه لبّاها، ودعا إلى اعتماد فكرة توحيد الله عزّ وجلّ قاعدة تدفع إلى العمل وتوجهه... بينما اعتمدت المبادئ الأُخرى أفكاراً أخرى جعلتها القاعدة والمحور، أو تركت الإنسان يتّخذ من ذاته وهواه فكرة مركزيّة ودافعاً وهدفاً.

فالشيوعيّة ، حينما تقدّم فكرتها المركزيّة - الاعتقاد بالديالكتيك والصراع الطبقي - تريدها أن تكون المالئة لذهن الإنسان والدافعة له إلى الصراع والسلوك..

والصهيونية ، حينما تقدّم فكرتها المركزيّة - العنصر اليهودي المختار - تريدها أن تكون الدافعة والموجهة لسلوك اليهود ومكائدهم.

والمسيحيّة ، فكرتها المركزيّة تجسد الله تعالى بالمسيح، وتكفيره عن خطيئة البشر الموروثة بالصلب... إلخ..

والوجوديّة ، قاعدتها المركزيّة لا مسؤولية الإنسان عن أن يحقّق وجوده بما يهوى...

والديمقراطيّة الرأسماليّة ، فكرتها المركزيّة حريّة الإنسان في سلوكه

٣١

الفردي والاقتصادي والسياسي... أي الحريّة للمجتمعات الاستعماريّة، وليست للمجتمعات المُستعمرة طبعاً...

وهكذا... فإنّ العيش بطريقة أيّ مبدأ لا تتمّ للإنسان إلاّ بأن يستحضر في عقله ونفسه (القاعدة المركزيّة) لذلك المبدأ ويجعلها هي الدافع له لأهدافه والموجّه لأعماله...

ومن الفارق بين المبادئ في نوعيّة أفكارها المركزيّة التي تعمل لتركيزها في أذهان الناس، تَنتج الفوارق في تجسيد طريق العيش المطلوبة للمبدأ... تبعاً لصحّة تلك الفكرة وخطأها، وسعتها وضيقها، وصحّة انبثاق المفاهيم والتفاصيل لحياة الإنسان عنها، وتبعاً لانسجامها مع تكوين الإنسان وفطرته، وصلاحيتها لدفع الإنسان نحو الهدف وتقويم سلوكه بمفاهيمها.

ولا يدخل في موضوعنا تقييم الأفكار المركزيّة الأُخرى التي تُريد المبادئ - غير الإسلام - جعلها المحور لحياة الإنسان، وتفصيل الفوارق الكثيرة بينهما...

ولكن غرضنا أن نوضّح أهميّة فكرة وحدانيّة الله عزّ وجلّ، التي هي القاعدة المركزيّة في الإسلام، ومدى دور الصلاة في تركيز هذه القاعدة وملء كيان الإنسان بها، ودفعه بطاقتها الهائلة إلى الهدف وتوجيه سلوكه بموجبها.

* * *

إنّ مَثل الإنسان والصلاة، كمثل راكب في سفينة، وليس لديه ما يعيّن له اتّجاهه إلاّ مواقع النجوم، وهو مصاب بداء نسيان شديد بسبب طبيعته وظروفه، إلى حدّ أنّه ربما ينسى اتّجاهه الذي حدّده قبل خمسين ميلا ً؟!

أفَترى يستقيم أمر هذا الرجل إلاّ أن يقف مرّة كلّ أربعين ميلاً، يطلّ من نافذته ويتأمّل الأُفق فيعيّن اتّجاهه من جديد؟ كذلك الإنسان والصلاة حرفاً بحرف.

إنّ احتمال ضياع الإنسان في بحر الحياة أضعاف احتمال ضياعه في بحر الماء، وليس لديه ما يعيّن له اتّجاهه إلاّ هَدْي خالقه عزّ وجلّ،

٣٢

وداء نسيانه لربّه وأهدافه يصل به إلى حدّ أن ينسى اتّجاهه الذي حدّده في صباح يومه... أفَترى يستقيم أمر هذا الإنسان إلاّ بوقفات طوال الطريق، يتأمّل فيها الوجود ويعرف موقعه منه، ويتكلّم مع مَلِيكه عزّ وجلّ ليؤكّد اتّجاهه من جديد، ويستمرّ في مسيرته على هدى؟

إنّ داء النسيان للقاعدة والهدف هو خصّيصة طبيعية للإنسان، لكنّها خصّيصة إنسانيّة الإنسان، وسرّ قدرته على الجهد والمعاناة، آخذاً بيد نفسه إلى تكامله، مربيّاً نفسه على الاحتفاظ بالقاعدة المركزيّة التي آمن بها واتّخذها محوراً لوجوده، بوقفاتِ تروٍ وتجديدٍ للميثاق مع الله... وقفاتٍ هي سندٌ للقلب، وزاد المسير، جاءت بصيغتها الإسلامية الخالدة آيةً في العطاء والإبداع، شكلاً ومضموناً..

* * *

المبدأ، أيّ مبدأ، ما دام طريقة عيش لهذا الكائن الناسي، فلا بدّ أن يتضمّن عملاً تركيزيّاً دائباً، يمكّن الإنسان من مواكبته في حركته الدائبة.

والفرق كبير بين حاجة المبدأ إلى الإعلام ووسائله المتنوّعة، وبين حاجته إلى عمليّة تربويّة من هذا النوع... فالإعلام حاجة من أجل إيصال القاعدة والمفاهيم والقوانين إلى الأذهان، حاجة من أجل الإقناع النظري، وهي ضرورة كبيرة دون شكّ.

ولكنّ الضرورة الأكبر منها هي: التركيز التربوي في تعامل الإنسان بالمبدأ، والتركيز هذا لا بدّ أن يقوم به الإنسان نفسه، أن يتبنّاه في معاناة ذاتيّة يوميّة يؤكّد فيها اعتقاده بالمبدأ، ويُشرب عروقه بمفاهيمه... وذلك ما لا تنهض به وسائل الإعلام مجتمعة.

قد يمكن للمبادئ غير الإسلامية أن تضع لنفسها صلوات، وتفرض أدائها على الشعوب المؤمنة بها، والخضاعة لها، ولكن أنّى لها بالقاعدة الفكريّة المركزيّة الصالحة التي تستطيع أن تحقّق بها النجاح في صلواتها، كما استطاع الإسلام ويستطيع أن يحقّق بصلاته.

إنّه مهما امتلكت هذه المبادئ من وسائل الإعلام، ومهما ابتكرت للحفاظ

٣٣

على أُسسها في أنفُس الناس من طُرق تركيز تربوي... فستبقى مُخفقة في تحقيق إيمان حيوي بها، وتعامل حقيقي صادر عنها، ما دامت فاقدة للقاعدة المركزيّة الفريدة التي يقوم عليها الإسلام، ولطريقة التركيز الفريدة التي وضعها الإسلام...

( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ ) .

٣٤

الصّلاة والإنسان والغيب

يتناول الإسلام في نصوصه وتشريعاته المسألة الفكريّة والاجتماعيّة (العقيدة والنظام الاجتماعي)، من مستويات متعدّدة ومن زوايا متعدّدة... يتناولها من مستوى اجتماعي فيخاطب المجتمع المتكّون من أفراد وعلاقات... ويتناولها من مستوى فردي؛ لأنّ الفرد أساس المجتمع... وعلى هذا المستوى يتناول المسألة من عدّة أبعاد...

ذلك أنّ أبعاد شخصيّة الإنسان متعدّدة، وأبعاد الظروف المحيطة به كذلك، فالإنسان كالجوهرة الكثيرة الأضلاع والزوايا، تحيط بها ظروف كثيرة الأضلاع والزوايا، ولا بدّ أن يُلقى الضوء على الزوايا المختلفة، لكي تستوفى الصورة ويستكمل الغرض.

وقد رأينا في الفقرة المتقدّمة كيف يتناول الإسلام المسألة من زاوية التذكّر والنسيان، وهما بُعدان في عقل الإنسان وإرادته... وفي هذه الفقرة نرى كيف يتناول الإسلام المسألة من البُعد الزماني والمكاني المحيط بالإنسان، أي من زاوية علاقة الإنسان بالغيب... ودور الصلاة في هذه العلاقة.

معنى الغيب والشهادة:

الموجودات في نظر الإسلام ثلاثة أقسام:

كائن طبيعي مشهود - عالم الشهادة.

كائن طبيعي غير مشهود - عالم الغيب.

كائن غير طبيعي وغير مشهود - عزّ وجلّ.

فالقسم الطبيعي المشهود : هو ما تصل إليه أجهزة حواسّنا (جهاز إدراكنا)، كالأرض، وما نراه من فضاء وكواكب ونجوم... ونسبة هذا العالم إلى العوالم

٣٥

الطبيعية غير المشهودة، كنسبة البيضة إلى الأرض (كما ورد التمثيل بذلك في حديث شريف)...

والقسم الطبيعي غير المشهود: يشمل عوالم: الجنّة، والنار، والملائكة، والجنّ، وعوالم المخلوقات الأخرى، التي ورد في الحديث أنّها كثيرة ومتنوّعة، وأكثر هذه العوالم شبهاً بنا على ما يبدو عوالم الأرضين الأربع، حيث ورد في النصوص الشريفة: أنّ خَمساً من الأرضين السبع معمورة، واثنتين خَرَابان

. والأقرب لنا من الجميع عالم الجنّ، الذي يشترك معنا في جملةٍ من الصفات العامّة، من الخَلْق والتكليف وأصول الرسالة الإلهيّة، ولذلك يخاطبنا الله تعالى معاً في عدد من الآيات...

وهذا القسم الشاسع من عوالم الطبيعة الغائبة يكتنف عالمنا المشهود - عالم البيضة -، ويَتلابس فيه بنوع من التلابُس.

وأمّا القسم الثالث: الكائن غير الطبيعي، فهو الموجود بذاته سبحانه، والمُوجد للعالم الطبيعي المنظور وغير المنظور، وهو عزّ وجلّ وجود متفرّد يكتنف العالمِيْن أجمع، ويتلابس فيها بنوع من التلابُس.

هذي هي الخطوط العامّة للصورة التي يقدّمها الإسلام عن الكون ككل... وإنّ التعبير القرآني بالشهادة والغيب أصحّ من تعبير الفلاسفة بالطبيعة وما وراء الطبيعة؛ وذلك لأنّ كلمة الطبيعة تشمل المشهود وغير المشهود، بينما يَقصد منه الفلاسفة خصوص الطبيعة المشهودة، كما أنّ ما وراء الطبيعة يقصدون به الموجود غير الطبيعي كليّاً، على أنّ ما وراء الطبيعة هذا قد يكون طبيعة غير مشهودة، وقد يكون غير الطبيعة كليّاً (الله تعالى).

ومن النتائج الملحوظة لهذا اللبس لدى الفلاسفة المحْدَثين، أنّهم يفترضون مسبقاً في اصطلاح (ما وراء الطبيعة) أنّه كائن غير طبيعي، مع أنّه لا محتّم لذلك...

إنّ الغيب هو القسم الأكثر والأكبر من الوجود، فإنّ ما نشهده من الوجود هو الأقلّ، وما لا نشهده هو الأكثر...: ( لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) .

٣٦

أمّا - الوجود - الخالق سبحانه وتعالى فلا يُقاس به شيء: ( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا ) .

الترابط بين الشهادة والغيب:

إنّ التقنين والترابط كما هو حقيقة سائدة في عالمنا المشهود، وفي عوالم الطبيعة غير المشهودة كذلك، هو حقيقة سائدة بين عوالم الشهادة والغيب أيضاً: ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ ) 85 - الحجر.

فالطبيعة المشهودة والغائبة مركّب كلّي، تترابط كافّة أجزائه ببعضها، وتتفاعل في ظلّ قوانين موحّدة شاملة، وما مَثل المشهود والغائب من الطبيعة إلاّ كمثل الجسد المنظور والنفس غير المنظورة، فكما إنّهما كيان مترابط موحّد، تتبادل أجزاؤه التفاعل في ظلّ قوانين موحّدة، كذلك يؤلّف المنظور وغير المنظور من الطبيعة كلاًّ موحّداً تتبادل أجزاؤه التفاعل.

ومجرّد عدم اكتشاف أبعاد هذا التفاعل لا ينفي واقعه، كما إنّ عدم اكتشاف قانون الجاذبيّة وقانون ترابط الجسد والنفس لم يكن يُلغي واقعهما ونتائجهما.

لقد قرّر الإسلام هذا التلابُس القائم بين الشهادة والغيب، وأوضح لنا جوانب كثيرة من هذه العلاقة أهمّها وأكثرها أثراً في حياتنا: علاقة سلوك أحدنا بتكوين نفسه للنشأة الثانية، حيث يتقرّر بموجب هذه العلاقة ظرف العيش الذي نؤهّل له أنفسنا في عالم الجنّة أو عالم النار.

ثمّ علاقة الملائكة بحياة الإنسان وهي علاقة واسعة.

ووقوع الإنسان بسوء سلوكه تحت تأثير الأشرار من الجنّ.

وعلاقات أخرى للطبيعة المنظورة بكلّها غير المنظور، لسنا هنا بصددها.

أمّا عن علاقة الشهادة بالموجود غير الطبيعي عزّ وجلّ فقد أوضح الإسلام ذلك أشدّ إيضاح، مؤكّداً أنّ التلابُس والتقنين أمر قائم بين الطبيعة وخالقها سبحانه، وأنّ حقيقة وجود الطبيعة إنّما هو وجود تعلّقي متفرّع عن المُبدع الحكيم جلّت قدرته، وأنّه يتموّن في حركته التطوريّة التكامليّة من المُنشئ والمحيي الكامل الذات سبحانه...

٣٧

وما القيامة في المفهوم الإسلامي إلاّ مرحلة كبرى من حركة الطبيعة المشهودة والغائبة، حيث تتحقّق الوحدة بين عوالمها ويتمّ انفتاحها على الخالق سبحانه...

ولذلك كانت القيامة، من ناحية مرحلة النضج والاكتمال لجميع الطبيعة بما فيها الإنسان، ومن ناحية ثانية لقاء كافّة الموجودات بالخالق سبحانه بما يناسب ذاتها ونضجها من لقاء...

علاقتنا بالغيب:

رأينا في الفقرة المتقدّمة أنّ المسألة الفكريّة والاجتماعية من زاوية مفهوم (التذكّر والنسيان)، هي أن يكون الإنسان متذكّراً أو ناسياً، ومدى الجهد الذي بذله في استحضار القاعدة المركزيّة، والاحتفاظ بحيويتها وتوجيهها، ونرى المسألة من زاوية مفهومي الشهادة والغيب، هي: أن يرضى الإنسان لنفسه أوسع يشمل الشهادة والغيب، ومدى الجهد الذي يبذله للتعامل بهذا الأُفق الرحب.

قد يقول قائل: ما لنا وللعلاقة بالغيب وبالعالمِيْن الأُخرى، والزمن الآخر، وما دخالة ذلك بحياة الإنسان ومشاكلها...؟

ولكن مثل هذا الكلام الناشيء من الميل إلى الحياة بالمحدوديّة الزمانيّة والمكانيّة، يؤكّد أهميّة وعي الإنسان لمسألة علاقته بالغيب، ليس بسبب أنّها واقع علمي موضوعي فحسب، بل لآثارها الكبيرة على حياته.

ما هو التطوّر الأساسي الذي طرأ على الإنسان المُشرك عابد الوثن، بدخوله في الإسلام من هذه الزاوية؟ نجد أنّ الأفق الزماني والمكاني الذي كان فيه هذا الإنسان الذي يمتدّ من جبهته إلى الصنم، إلى محيط حياته الشخصيّة والقبليّة، ولا يتعدّى ذلك.

وبمجرّد دخوله في الإسلام اتسع هذا الأفق إلى الاعتقاد بربّ العالمين، عالم الغيب والشهادة، وبالآخرة، وبمسؤولية حمل الرسالة إلى شعوب الأرض... إنّ البعد الزماني والمكاني الذي انتقل إليه هذا الإنسان هو

٣٨

سرّ التحوّلات الكبيرة في دوافعه وأهدافه...

وللمزيد من التوضيح نطرح التساؤلات التالية:

*ما الفرق بين المُسرف والمقتصد، من غير بُخل؟

الأوّل: يعيش ضمن بُعد زماني محدود، والثاني: يعيش ببعد أوسع يشمل الشهور والسنين الآتية.

* ما الفرق بين من يسكت على الظلم ويعيش لنفسه وعائلته وحاجاتهم الآنية، وبين ثائرٍ يضحّي بحياته ضدّ الظلم؟

الشخص الأوّل: يعيش ضمن بعد مكاني وزماني محدود، والثاني: يعيش في أفق مكاني أوسع، يشمل المظلومين الذين يعمل لهم، وفي أفق زماني أوسع يمتدّ إلى المستقبل الذي يعمل لتحقيقه.

* ما الفرق بين من يعمل لذاته، وبين من يعمل لمجتمعه وأمّته؟

الفرق: أنّ ذات الأوّل محدودة بشخصه وقد تضرّ بآخرين، بينما بُعد الذات عند الثاني تشمل المجتمع والأمّة.

* ما الفرق بين من يعمل للدنيا، ومن يعمل للآخرة...؟

الفرق: أنّ البُعد الزماني والمكاني لدى الأوّل محدود بعمره ومجال حياته، وقد يمتدّ هذا البُعد لما بعد حياته من مجدٍ أو ذكر حسن وما شابه، ولكنّه لا يتعدّى الأرض والحياة عليها... بينما البُعد الزماني والمكاني لدى الآخر يمتدّ ليشمل الآخرة والحياة في الجنّة...

إنّ مسألة البُعد الزماني والمكاني الذي يؤمن به الإنسان ويتحرّك في أفقه، وما يُحدث له من دوافع ومجالات وأهداف... مسألة ذات تأثير أساسي على حياة الإنسان، والمجموعة البشريّة على الأرض، تأثير على نوع الحضارة التي يقيمها الناس، وعلى نوع الدوافع والأهداف لكلّ شخص، وإذا كان كفاح الأنبياء (عليهم السلام)، في التذكير كفاحاً من أجل اليقظة والوعي ضدّ الغفلة والنسيان... فهو من هذه الزاوية كفاح ضدّ الميل الغريزي الطيني الذي يُقوقع

٣٩

الذات في بُعد زماني ومكاني محدود، ونقلها إلى بُعد أرحب في الزمان والمكان.

من أجل هذا اعتبر الإسلام اعتقاد الإنسان بالغيب أساساً من أصول التديّن به، واستثار في قرآنه وسنّته كلّ ما أودعه الله تعالى في النفس البشريّة من غرائز النزوع والأشواق في الكائن المحدود نحو المطلق عزّ وجلّ، ونحو لقائه، والخلود في نعيم الحياة الآخرة... حتى إنّنا نجد الحديث القرآني عن الغيب يستوعب عدداً وفيراً من الآيات الكريمة، ويقدّم هذه الحقيقة من زواياها المختلفة وبالأساليب المختلفة.

ولم يكتف الإسلام بذلك فحسب، بل أدخل مفاهيم الارتباط بالله تعالى، والآخرة، والثواب، والعقاب في تشريعاته لمجالات الحياة المتنوّعة، حتى لنرى البُعد الزماني والمكاني في أحكام النظام الاجتماعي الإسلامي يأبى المحدوديّة بمكانِ وزمانِ جيلٍ من الناس، أو بمكانِ وزمانِ كلّ الحياة على الأرض، بل يتّحد في مساحة واحدة مع بُعد الغيب والحياة الآخرة.

دور الصلاة في التعامل مع الغيب:

الصلاة هذا العمل اليومي المركّز بأفعالها البدنيّة وتلاواتها البليغة، أسلوب فريد لنقل الإنسان من ذاته ومحيطه الصغير وزمانه القريب إلى الأفق الأرحب، وتحسيسه بالله تعالى وغيبه.

إنّ المصلّي بمجرّد دخوله في الصلاة بالإحرام، ينتقل إلى بُعد مكاني وزماني جديدين ويتعامل معهما، ولا نجد مصلّياً يفقه شيئاً من صلاته إلاّ ويحسّ بهذه الحقيقة ويتأثّر بها.

إنّ أهميّة الصلاة في تحسيس الإنسان بمسؤوليّته في الأرض، وتصحيح مسيرته وأعماله كبيرة دون شكّ، ولكنّها تأتي من تحسيسه بالله تعالى وبالآخرة، وإعادة المفاهيم الإسلامية والمقاييس الإسلامية الرحبة إلى وعيه وشعوره.

إنّ مفاهيم المسلم عن الارتباط بالله تعالى، والتوجّه إليه، وعن التطلّع والاشتياق إلى الآخرة، ومفاهيمه في السموّ عمّا ينزل إليه الناس من متاع الدنيا

٤٠