السيد محمد كاظم اليزدي

السيد محمد كاظم اليزدي0%

السيد محمد كاظم اليزدي مؤلف:
الناشر: ذوي القربى
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 813

السيد محمد كاظم اليزدي

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: كامل سلمان الجبوري
الناشر: ذوي القربى
تصنيف: الصفحات: 813
المشاهدات: 284199
تحميل: 12352

توضيحات:

السيد محمد كاظم اليزدي
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 813 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 284199 / تحميل: 12352
الحجم الحجم الحجم
السيد محمد كاظم اليزدي

السيد محمد كاظم اليزدي

مؤلف:
الناشر: ذوي القربى
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

علماء النجف عند خروجهم إلى جبهة العمارة لمدافعة الاحتلال البريطاني عن ثغور الإسلام في الحرب العامة عام 1334هـ.

الجالسون من اليمين إلى اليسار: الشيخ مهدي بن الملاّ كاظم الآخوند الخراساني، الشيخ محمد جواد الجواهري، السيد محمد سعيد الحبّوبي، السيد مصطفى الكاشاني وخلفه نجله السيد أبو القاسم الكاشاني، السيد علي الداماد، السيد محمد بن السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، السيد محمد علي بحر العلوم وخلفه...؟، الشيخ إسحاق الرشتي.

٢٦١

العلوي في شأن العلوم، وتكلّم كذلك السيد أحمد ثم المتصرّف محمد حمزة. ثم أُعطي العلم إلى السيد محمد علي وجماعة أولاد المجتهدين، وقد باتوا في الكوفة ليلة السبت.

وفي ضحى يوم السبت 12 محرّم سنة 1334هـ، قدم الكوفة مجاهدو شقّ العمارة من أهل النجف، قائدهم سلمان أبو غنيم ومحمد أبو گلل أخو عطية، وورد أيضاً كثير من فرسان بني حسن المجاهدين.

وفي عصر هذا اليوم شخص العلماء، وأبناء المجتهدين، ومحمد فاضل باشا، والمتصرّف، وبقيّة المستخدمين، وكثير من حَمَلة السلاح المجاهدين من أهل النجف والكوفة بالعَلَمين العلويين الأول والثاني إلى مسجد الكوفة، استقبل بهما محراب الأمير المشهور فيه، وتلا، ثم دعاء الثغور المأثور عن زين العابدين (ع)، وتكلّم آخرون، وعطعط جمع من المجاهدين، وقد أخذت صورة الجميع منشورة بينهم الأعلام مرتين. وقد أكثر الطلاّب والعلماء من أعمال مسجد الكوفة المندوبة المناسبة لمقتضى الحال، وورد هذا اليوم أيضاً السيد محمد بن السيّد كاظم اليزدي وجماعته لهذا الوجه الذي توجّه إليه العلماء.

وفي يوم الاثنين 13 محرّم سنة 1334هـ، تحمّل القوم في الحرّاقات ( المراكب ) وأصعدوا في الفرات. وممّا يستوقف الأنظار ويسترعي الأفكار أنّ الروحانيين والمجاهدين الذين نهضوا في العام الماضي من النجف وديار الفرات زايلوا ديارهم منحدرين إلى عراق البصرة، في مثل هذه الأيام على هذه الهيئات، أمّا اليوم فقد فعلوا ذلك لكنّهم مصعدين لا منحدرين في الفرات إلى بغداد وأعالي العراق، فسبحان مقلّب الأحوال، على أنّ هناك فوارق كثيرة بين النهضتين.

وقد بلغ عدد الحرّاقات التي تحمّلوا فيها زهاء 30 حرّاقة، باتت تلك الليلة أمام ( الكفل )، وقد لحقت بها في منتصف الليل حرّاقات باقي النجفيين وهم من شق المشراق، قائداهم الشيخ مطلق وشباده، ومن البراق قائدهم السيد هادي الرفيعي، ومن الحويش قائدهم حسين الشافعي، وكانت للقوم خيل وبغال نشاهدها أحياناً بشاطئ الفرات وهي قليلة، ومنهم أيضاً الرماحية، عقيدهم عباس العليّ، وهم أعد النجفيين نفوساً.

وفي صباح يوم الاثنين 14 محرّم أقلعت الحراقات من الكفل، وكانت الريح

٢٦٢

مساعدة، فوردوا طويريج الساعة 11 من ذلك اليوم، وأنزل العلم، معه جماعة من الطلاب وأبناء المجتهدين والمتصرّفون والمستخدمون، وعطعط أمامهم النجفيون، ثم ساروا به توّاً وقد تجمهر الناس إلى رحبة دار الحكومة، وتكلّم الأعظمي، وقد وصل بعد القوم إلى طويريج محمّد فاضل باشا عن طريق البريّة ومعه 250 فارساً من مجاهدي بني حسن المجهّزين، على أن يلتحق بهم بقيّة الفرسان منهم.

وفي يوم الثلاثاء 15 محرّم سنة 1334هـ، اجتمع الناس في رحبة دار الحكومة في طويريج، وحضر العلماء وأبناء المجتهدين، والطلاب، ومحمد باشا بالعلم العلوي، وتكلّم في تقصير الناس وانقطاع أعذارهم شيخ الشريعة الأصفهاني ووعظ عظة حسنة.

ثم رقى المنبر السيد محمد بن السيد اليزدي، وخطب القوم وبلّغ عن تأكيد وجوب الدفاع واستخص الحاضرين، قائلاً:

أدعوكم فنادوني ( لبّيك ) فنودي ( لبيك لبيك من أطراف نجد )، وكان لخطبته تأثير بليغ.

وفي عصر هذا اليوم ورد طويريج عن طريق البرية سعد الحاج راضي النجفي وأولاده الثلاثة، وجماعة من الشمرت.

وفي يوم الأربعاء 16 أقلعت حرّاقات القوم من طويريج ناشرة القلاع، ولمّا صرنا بحيث لا نسمع وغر المدينة، سمعنا صدى المدافع متنقّلاً من ضفاف دجلة إلى ضفاف الفرات.

وفي الساعة 10 من هذا اليوم في السدّة، وافترق القوم نازلين على عدوتي الفرات، وشاهدوا السدّة وبديع ما صنعت الهندسة العلمية الحديثة، ووقفوا باهتين معترفين بالجهل أمام أعظم آثار العلم والمعرفة التي ظهرت في العراق إلى الآن، وألقى في روعهم العجز عن مماتنة الأيدي التي قامت بهذا الأعمال.

ووصلت إلينا ونحن في السدّة الأخبار الكثيرة، تعرب عن انتصار العثمانيين وظهورهم على الإنكليز ظهوراً عظيماً في حروب سلمان باك، والجزيرة التي بدأت في

٢٦٣

يوم 11 محرّم ستة 1334هـ(1) .

وما زال ركب المجاهدين مستمرّاً في مسيرته، لحقت بهم في الأيام التالية جماعات أُخرى من أهالي المدينة. وقد استقبل الجميع بحفاوة بالغة من قِبل إدارة الولاية في بغداد، التي انتدبت لاستقبالهم لجنة من علماء بغداد ورجال الدين فيها، وعدداً من ضبّاط الجيش العثماني. وحضرت حفل استقبالهم ثلة من الدرك والشرطة، ثم استقبل العلماء منهم في مقر إدارة الولاية معاون والي بغداد، الذي قبّل العلم الحيدري وأشاد ببركاته ويمنه(2) .

وقد مكث السيد محمد اليزدي والعلماء وأهالي النجف في الكاظمية، بانتظار أن تقوم السلطة العثمانية بإعداد وسائل سفرهم إلى الجبهة، التي كانت آنذاك في الكوت، حيث حُوصر فيها الجيش البريطاني. ولكنّ مكوثهم طال حتى منتصف شهر شباط من عام 1916. وكانوا خلال تلك المدّة يتوقّعون المسير إلى الجبهة بين يوم وآخر. فعقب الوصول إلى بغداد مباشرة زار السيد محمد اليزدي في الأول من كانون الأول 1915 مستشفيات الهلال الأحمر في بغداد، وقدّم الهدايا للمرضى الراقدين فيها(3) . وبعث إلى أخيه السيد محمود في النجف رسالة مؤرّخة في 29 محرم 1334/ 7 كانون الأول 1915م، يخبره فيها بأنّهم بانتظار السفينة التي ستقلّهم ( غداً أو بعد غد إن شاء الله )(4) .

ولكنّه يبدو أنّ السلطات العثمانية كانت قد تراجعت عن المضي قدماً في الحملة، التي دُعيت بحركة الجهاد الثانية، بعد الشروع بها مباشرة؛ لعدم حاجتها إلى المقاتلين بعد الانتصارات التي أحرزتها على القوات البريطانية آنذاك، والإمدادات النظامية التي كانت تردها من الأناضول. فبعد أربعة أيام من تحرّك جموع العلماء والمقاتلين من النجف، انسحبت القوات البريطانية جنوباً باتجاه الكوت، بعد معارك حامية الوطيس

____________________

(1) مذكّرات الشبيبي ص251.

(2) السيد گاطع العوادي ص85 - 86. مذكّرات الشبيبي ص236 - 254.

(3) نفسه، ص260.

(4) النجف الأشرف وحركة الجهاد، ص87.

٢٦٤

خاضتها مع القوات العثمانية في منطقة ( سلمان باك ) جنوبي بغداد(1) . وكانت ترد على تلك الجموع الأخبار، وهي في طريقها إلى بغداد، بانتصارات كبيرة كان يحرزها الجيش العثماني في ملاحقته للبريطانيين المنسحبين من سلمان باك(2) . ومن ثمّ فقد أهملت السلطات العثمانية أمر العلماء والمقاتلين الذين وصلوا بغداد، بعد أن أحتفت بمقدمهم بصحبة العلم الحيدري احتفاءً كبيراً، ولم تقم بتسفيرهم أوانية إلى الجبهة. وعدّت - كما يبدو - حركة الجهاد الثانية، التي ميّزتها مصاحبة العلم هذا لها، دعماً معنوياً لها فحسب.

ونتيجة لذلك بدأ المقاتلون النجفيون - دون العلماء - بالتسرّب شيئاً فشيئاً من الكاظمية والرجوع إلى مدينتهم(3) . وكان بعضهم، بعد هروبه من الكاظمية، يسلك طرقاً غير مألوفة ابتعاداً عن أعين السلطة، ممّا عرّضه للمتاعب والمشاق. إذ ينقل الشيخ محمد رضا الشبيبي في مذكّراته أنّه ( في يوم 6 صفر فرّ من الكاظمية نحو ثلاثين من مجاهدي النجفيين، وأثخنوا في طريق غير ناهجة إلى الفرات، فعدا عليهم فريق من زوبع وجرحوا جماعة منهم، ثم جرّدوهم السلاح )(4) .

وقد حاولت السلطة العثمانية أن تجد مخرجاً لموضوع العلم والسائرين به إلى جبهات القتال، بعد أن انتفت آنياً حاجتها إليه وإليهم، فبعثت لهم في الكاظمية متصرّف كربلاء حمزة بك، ليفاوضهم في الذهاب إلى إيران لتحشيد الإيرانيين، وحثّهم على قتال الروس، الذين كانوا يطلبون من الإيرانيين الاشتراك معهم في الحرب. ولكنّ هؤلاء لم يستجيبوا لطلب الروس، وكتبوا إلى علماء العراق يستغيثون بهم من ضغوط الروس(5) . ولم يحسم العثمانيون موضوع العلم وحملته إلاّ حسماً ( بروتوكولياً ) شكلياً، بعد تعيين خليل بك والياً على بغداد، وقائداً عاماً

____________________

(1) تحرّك العلماء والمقاتلون من النجف بتاريخ 21/11/1915، وانسحبت القوات البريطانية من موقع معركة ( سلمان باك ) في 25/11/1915.

(2) تنظر: مذكّرات الشبيبي، ص252 - 253.

(3) مذكّرات الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء 1914 - 1915م، ص377. مذكّرات الشبيبي، ص 287، 288.

(4) مذكّرات الشبيبي ص279.

(5) تنظر: مذكّرات الشبيبي، ص281 - 282.

٢٦٥

للقوات العثمانية في العراق في 12/1/1916م(1) .

فقد وردت برقية منه وهو في جبهة الكوت إلى معاون والي بغداد في أواخر ربيع الأول سنة 1334هـ، الموافق لأوائل شهر شباط سنة 1916م، يطلب فيها أن يفد العلماء عليه ومعهم العلم الحيدري لأيام معدودة. ولمّا كانت نوايا العثمانيين قد اختلفت بشأن حركة هؤلاء العلماء كما تبيّن لنا، وكان وضعهم العسكري جيّداً لا يتطلّب الاستعانة بهم، إذ نجح العثمانيون آنذاك لأكثر من شهرين في التضييق على عدوّهم المحاصر في الكوت، فإنّ العلماء قد ارتابوا فيما يبدو من دوافع طلب خليل بك وأهدافه، ( وبعد المراجعات واستطلاع أفكاره الموفّقة، أبلغ بأنّ القصد من هذه الحركة المباركة ملاحظات ثلاثة:

الأُولى: أن يتعرّف إلى العلماء ويعرّفهم بأشخاصهم، كي يجتمع شرف السماع والعيان لديه.

الثانية: أن يستمد النصر من الله سبحانه للجنود الإسلامية ببركات روحانيّة العلم الشريف، وأنفاس أعلام الشريعة المقدّسة.

والثالثة: أن يتذاكر شفاهاً مع تلك الذوات فيما يعود إلى المسألة الإسلامية )(2) .

وبعد الاطمئنان إلى هذا الجواب أقلّت العلماء من بغداد - ومنهم السيد محمد اليزدي - إلى جبهة الكوت باخرة خاصة تُدعى ( برهانية ) في 11 ربيع الثاني 1334هـ / 16 شباط 1916م، حاملين معهم العلم الحيدري. وكان السيد محمد اليزدي عند سفره من الكاظمية مريضاً(3) ، فأبرق إلى والده في النجف حين وصول الباخرة بعد يومين من السفر إلى جبهة الكوت، يطمئنه ويخبره عن حسن استقبال القائد خليل بك للعلماء، ويصف له قوة الجيش العثماني وانتظامه مما يبعث الثقة بالنصر المؤزّر(4) .

وبعد إجراءات تظهر احترام العلماء والعلم الحيدري الذي تشرّف بقدومه الجيش

____________________

(1) بخصوص تاريخ تعيين خليل بك ( باشا فيما بعد ) ينظر كتاب: الإدارة العثمانية في ولاية بغداد، ص 424.

(2) مذكّرات الإمام الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء، ص377.

(3) مذكّرات السيد گاطع العوادي، ص12.

(4) يراجع نص البرقية: مذكّرات الشبيبي، ص313.

٢٦٦

العثماني فأطلقت مدفعيّته عدّة قذائف بهذه المناسبة على مواقع العدو، وبعد شرح قام به القائد خليل بك لسير المعارك من خلال الخرائط والرسومات، وتوضيح موقف القوات العثمانية، وزيارات ميدانية لبعض القطاعات ومواقع المعارك، والاطلاع على غنائم الجيش العثماني، وشهود بعض المعارك حيّة بين العثمانيين والبريطانيين(1) . وقد استغرق ذلك كلّه اثني عشر يوماً أذن بعدها خليل بك للعلماء بالانصراف، فانحدر بعضهم إلى الجنوب وعاد الآخرون، ومنهم السيد محمد اليزدي، في 23 ربيع الثاني 1334هـ / 28 شباط 1916 إلى الكاظمية، فوصلوها على ظاهر الباخرة ( حميدية ) في 25 ربيع الثاني 1334هـ / آذار 1916م(2) .

وفي الكاظمية تعرّض السيد محمد اليزدي إلى حمّى عالية، ووجعاً شديداً تحت أضلاعه اليمنى، وأُحضرت الأطباء، فقيل ذات الجنب، وقيل ذات الرئة، وقيل غير ذلك، ولم يزل يشتد مرضه إلى ليلة الثلاثاء 28 رجب 1337هـ، وقبل الفجر لبّى نداء ربّه وانتقل إلى رحمة الله(3) .

نفقات المجاهدين:

كان علماء الدين والمجاهدون يعتمدون على إمكاناتهم الخاصة في تغطية نفقات الجهاد، وفي ذلك شاهد كبير على مدى تفاعلهم مع حركة الجهاد، وإيمانهم العميق بضرورة التصدّى للاستعمار البريطاني. فمثلاً قدّمت القيادة العثمانية للسيد الحبوبي ألف ليرة، وقيل خمسة آلاف(4) لصرفها على شؤونه وشؤون المجاهدين، فرفض ذلك بإصرار قائلاً: ( إنّي مكلّف بالتضحية في مالي ونفسي، فإذا نفد المال بقيت نوبة النفس، اعتبروني جندياً من الجند آكل ممّا يأكلون وأشرب ممّا يشربون، وجهاد النفس أفضل، لا، لا أقبل درهماً واحداً وقائد الجيش أعرف بمواقع الصرف، ولا أسمح لكل أحد أن يفاتحني في هذا الشأن )(5) .

____________________

(1) للتفاصيل تراجع: مذكّرات الإمام الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء، ص380 - 384.

(2) تنظر: مذكّرات الشبيبي، ص311، 313، 318.

(3) مذكّرات الإمام كاشف الغطاء، ملحق كتاب: النجف الأشرف وحركة الجهاد، ص384.

(4) شعراء الغري، 9/150.

(5) الحقائق الناصعة في الثورة العراقية لسنة 1920 ونتائجها 1/39.

٢٦٧

والمعروف أنّ السيد مهدي الحيدري أيضاً لم يأخذ من العثمانيين مساعدات ماليّة، وهو الذي كان يتزعّم المجاهدين في الخطوط الأمامية(1) ، ويصرف من ماله الخاص.

إنّ حضور المجاهدين العراقيين من أبناء العشائر، وغيرهم، في ساحات القتال تحت قيادة علماء الدين؛ يكشف عن الوعي العام في تشخيص الخطر الذي يتعرّض له العالم الإسلامي من القوى الاستعمارية، وهو في الموقف الذي سبقته مواقف مماثلة عام 1911م وعام 1912م، عندما احتلّت روسيا شمال إيران واحتلّت إيطاليا ليبيا. فلقد كان علماء الدين يتعاملون مع الحدث من بُعده الإسلامي دون سواه(2) .

إنّ موقف النجف الأشرف خلال الحرب العالمية الأُولى، يمثّل تجربة غنيّة في التاريخ الإسلامي المعاصر، ويكشف عن دور العامل العقائدي في تحديد الموقف العام الثابت إزاء الأحداث السياسية، وهذه صفة اتسم بها التأريخ الإسلامي على امتداد مراحله المختلفة(3) .

وللشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء، تلميذ السيد اليزدي، وأحد المقربين إليه، وموفده إلى جبهة الحرب مع ولده السيد محمد اليزدي، مذكّرات سجّل فيها دقائق الرحلة ومجرياتها، أسماها: ( رحلة الجهاد ) أوردناها ملحقاً في آخر الكتاب.

جبهة الصليخ:

جاء في مذكّرات ناجي شوكت ص38، وصف لجبهة أُخرى في مقاومة الاحتلال البريطاني، ولكنّها في منطقة الصليخ ببغداد!

يقول المغفور له ناجي شوكت:

( كنت خلال هذه الفترة أتردد على دار العم مراد سليمان في أغلب الليالي. وكانت الدار المذكورة تضم من المداومين الدائمين السادة: جميل صدقي الزهاوي، وأحمد القيماقچي، وعزّت الفارسي، وعبد الرزاق الشيخ قاسم، والدكتور سامي سليمان. وكان الزهاوي يسمعنا من شعره كل طريف ولذيذ، كما كان يسمعنا عن آرائه في الكون والعلم كل غريب، أما القيماقچي فكان يبتكر لنا الحكايات المضحكة التي تدخل

____________________

(1) الإمام الثائر السيد مهدي الحيدري، ص44.

(2) انظر: دور علماء الشيعة في مواجهة الاستعمار، ص103.

(3) انظر: ن. م 108.

٢٦٨

السرور على قلوبنا. وعنّت لنا فكرة يومذاك، أن نقيم مأدبة عشاء، تعقبها سهرات في ليالي الجمع، وذلك في دار مراد بك الواقعة في الصليخ ( وقد هُدمت هذه الدار بعد اقتران السيد رشيد عالي الگيلاني من كبرى كريمات مراد بك، وحكمت بك، وكامل مهدي باشا، والدكتور سامي سليمان، وصاحب هذه المذكّرات. فكان على كل منّا أن يرتّب مستلزمات الحفلة ويهيّئ الطعام، والشراب والمطربين ( چالغي بغداد )، وله أن يدعو بعض الأصدقاء، كل ذلك على نفقته الخاصة، وكانت هذه النفقات لا تتجاوز الخمس ليرات ذهبية، ( يا للبلاش ) على الرغم من امتلائها بالقوزي المحشي، والسمك المسقوف، والأكلات النادرة، والنقل والشراب، وكان الزهاوي ينقلب في مثل هذه الليالي التي تمتد حتى الصباح، إلى شخصية أُخرى، لا تمت إلى العلم والشعر بصلة، وعند الفجر كنّا نشكّل دائرة ( حلقة ) حول الزهاوي - رحمه الله - ونردّد الأغنية المعروفة ( يا مسعد الصبحية ) حتى إذا أخذ التعب من كل منّا مأخذه، ذهب إلى سريره، ليأخذ قسطاً من النوم والراحة، ومن ثم نعود إلى بغداد. تلك هي الحياة التي كنّا نحياها، على الرغم من أنّ نار الحرب كانت مستعرة، وحالة الطوارئ معلنة في جميع الأرجاء، فكانت هذه السهرات الملاح تنسينا بعض تلك الويلات. وقد مرّت تلك الذكريات والأيام بسرعة خاطفة ).

٢٦٩

حادثة حمزة بك في كربلاء 1333 - 1334هـ

وموقف السيّد اليزدي

عندما خضعت الحكومة العثمانية في أواخر أيامها، حتى أُطلق عليها اسم - الرجل المريض - وصارت تتبع سياسة التتريك لسائر القوميات التي تحكمها، فأبى العرب أن يخضعوا لها، وزاد هذا السبب على سبب آخر، هو دخول هذه الدولة المنهارة الحرب بجانب ألمانيا ضد الحلفاء عام 1914، ممّا أجبرها على إعلان النفير العام، وتجنيد كافة الشباب في الجيش استعداداً لخوض الحرب، ولكن أبناء كربلاء أخذوا يفرّون من الجيش ويختفون في البساتين عن أعين ( الجندرمة )(1) ، ويقوم هؤلاء بمهاجمة مخافر الجندرمة وإطلاق الرصاص عليها، وأصبحوا مصدر قلق يقضّ مضاجع الحكومة، وعقدوا اجتماعات عديدة انتهت بإعلان العصيان على الحكومة، وطردها من البلد بمساعدة أهالي النجف(2) . وكان لهم ما أرادوا، ففي ليلة النصف من شعبان 1333هـ، وبينما كانت كربلاء تغصّ بآلاف الزائرين الواردين إليها من الأطراف - كعادتهم سنوياً - هاجمت جماهير غفيرة من أبناء كربلاء والنجف(3) والعشائر والفارّين من الجيش دورَ الحكومة والمستشفى الحسيني، وثكنة الجند، وثكنة الخيّالة الجندرمة، وأحرقوا بلدية كربلاء، وهمّوا على السجن وأخرجوا المسجونين، وانتهبوا دوائر الحكومة(4) وبيوت الموظّفين، ففرّ المأمورون والموظّفون أجمع، فجاء المتصرّف ( حمزة بك ) وهو كردي الأصل، شديد الحزم، كثير الدهاء، تمّ تعيينه متصرّفاً لكربلاء في ذي القعدة

____________________

(1) بغية النبلاء في تأريخ كربلاء: للسيد عبد الحسين الكليدار 48.

(2) يذكر الشبيبي في مذكّراته ص333: (... وقد ذهبت من النجفيين إمدادات كثيرة إلى أهل كربلاء، جهّزهم محمد علي كمونة زعيم الكربلائيين، الذي حضر إلى النجف في منتصف جمادى الثانية سنة 1334هـ، بعد إيكاله تدبير الفتنة إلى أخيه فخري كمونة، وقد نشبت ثلاثة أيام متوالية ).

(3) حوادث وحركات كربلاء إبّان الحكم التركي: السيد محمد رضا أحمد آل طعمة - خ -.

(4) يذكر الشبيبي في مذكّراته ص 334: (... وفي يوم 12 رجب سنة 1334هـ، ويوم الجمعة 16 رجب سنة 1334هـ ورد المشاهدة ومعهم أحمالهم من المنهوبات التي نُهبت من أهالي كربلاء، لاسيّما من الفرس والسدنة؛ لأنّ السدنة من حزب العثمانيين ).

٢٧٠

1333هـ / 1 تشرين الأول 1916م، مع قوّة، ودخل البلدة من جانبها الشرقي، وتحصّنوا في بعض الخانات والبيوت الحصينة، وصار الطرف الغربي بيد الأهالي، ولم تزل الحرب قائمة بين الطرفين عدّة أيام، وقُتل من الجانبين خلق كثير، وانتهت المعركة بعد قتل ذريع، وخراب أكثر البيوت والمنازل، وهزيمة العسكر، وانتهاب الأهالي أسلحتهم وذخائرهم، وثم طرد الحكومة واستيلاء الثوّار على البلدة(1) .

وفي سنة 1334هـ / 1915م، توسّط العلماء والأشراف بإرجاع الحكومة، وكان الحاج عبد المهدي الحافظ وسيطاً بين الأهلين والحكومة، فعادت الحكومة مشلولة الساعد.

وعلى أثر حادثة كربلاء، وانسحاب الجند والمستخدمين منها، ورد إلى العراق ناظر الحربية ( أنور باشا ) يوم 18 رجب سنة 1334هـ، فأبرق السيد محمد كاظم اليزدي إليه من النجف يسترعي نظره إلى الحادثة، ويتشفّع عنده لأهل كربلاء والنجف.

وفي يوم السبت 24 رجب 1334هـ، وردت برقية جوابية من أنور باشا نصّها: ( مرخجي قوناغ، إدارة تلغراف الحلّة ترسله إلى سيّد محمد كاظم الطباطبائي.

نجيبكم عن تلغرافكم المرسل إلينا بأنّ أهالي النجف وكربلاء خرجوا على الحكومة، وأنّه عاملين مخالفة لرضاء الله ورسوله، ونظراً لحرصنا على الحالة الإسلامية، وحقن الدماء واحترامنا للمجاهدين وعلماء الدين، ورأفة الحكومة بفقراء المحلّين، وشفقتنا عليهم صدر أمرنا لدولة والي الولاية، وقائد جيشها بتمام الرفق عند التعقيب وترتيب المجازاة ).

12 مايس

صهر السلطنة ووكيل الخليفة الأعظم

في قيادة الجيوش الإسلامية ناظر الحربية

أنور

وفي 25 رجب سنة 1334هـ، وردت كربلاء اللّجنة التي أنفذت من قبل الولاية لمفاوضة الكربلائيين، وأكثرها من علماء الشيعة وفيهم السيّد مهدي السيد حيدر،

____________________

(1) تراث كربلاء 390.

٢٧١

والشيخ محمد رضا بن الشيخ محمد تقي الشيرازي، والشيخ عبد الكريم الجزائري، وفيهم الشيخ عبد الحميد خازن مشهد الكاظمين، وحلمي بك معتمد القائد خليل باشا، وحاجب من حجّاب خليل باشا. وقد ائتمروا غير مرّة فأظهر أهل كربلاء الطاعة التامة، وأنّهم ينتظرون عودة حكومتهم غير مشترطين شرطاً، وأبدوا أنّ سبب الفتنة المتصرّف حمزة بك، والقائد عليّ أفندي، ونعمان أفندي الأعظمي، وقالوا: نخشى من أن يسمّم هؤلاء أفكار الحكومة، فأجابهم حلمي بك بأنّي قد اطلعت على أشياء كدّرت وجداني في المسألة، فلا يجدي ما يقول هؤلاء أبداً، وستبقى اللّجنة إلى ورود الجند والمستخدمين الجدد إلى كربلاء(1) .

____________________

(1) مذكّرات الشبيبي ص335.

٢٧٢

أحداث النجف بين عامي 1915 - 1918

وموقف السيد اليزدي

الثورة على الأتراك 1333هـ / 1915م:

عندما أفتى العلماء بوجوب الجهاد ضد الاستعمار البريطاني خلال الحرب العالمية الأُولى؛ استجاب رؤساء النجف لدعوة الجهاد وتحمّسوا لأداء واجبهم الإسلامي، غير أنّ الانتكاسة العسكرية في معركة الشعيبة في 14 نيسان 1915م، وسوء معاملة الأتراك للمجاهدين، مثّل بداية تحوّل في موقف رؤساء النجف. لقد تصاعدت في تلك الفترة درجة التذمّر من الحكم العثماني، ولجأ الكثير من الفارّين من الخدمة العسكرية إلى مدينة النجف الأشرف.

يبدو أنّ هذا الوضع الجديد ساهم في تكوين اتجاه يدعو إلى الثورة على الأتراك، وظهرت في المدينة منشورات تنادي بأنّ محاربة الحكومة العثمانية أولى من محاربة المشركين. وعلى أثر ذلك، أرسل الوالي إلى النجف قوة عسكرية كبيرة، قوامها ألف من المشاة والفرسان بقيادة ( عزت بك )، للقبض على الفارّين من الجندية ( البلط )، وقُبيل منتصف ليلة السبت 8 رجب سنة 1333هـ / 1915م، نفذ إلى البلدة من السور، وقد انضم إليهم طائفة من أبناء النجف، وأعطى قائد القوة إنذاراً للأهالي أمده ثلاثة أيام، لكي يسلّم الفارّون أنفسهم. ولمّا انتهت المدّة أخذ رجال الشرطة يتعقّبون الفارّين، ويداهمون البيوت ليلاً ونهاراً، ويتحسّسون أجساد النساء مخافة أن يكون أحد الفارّين قد تنكّر بزي امرأة(1) .

كان من شأن هذه الإجراءات أن تستفزّ الرأي العام، وتولّد ردود فعل عنيفة، لاسيّما مسألة التعرّض للنساء في مجتمع محافظ كمجتمع النجف. وكان من الطبيعي أن تتحوّل ردة الفعل إلى اتجاه اجتماعي وسياسي عام في المدينة، وأن يتصدّى رؤساء النجف للإجراء الحكومي، باعتبار أنّ التجاوز على البيوت أمر يرتبط مباشرة بموقعهم

____________________

(1) لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، 4/188.

٢٧٣

الاجتماعي واعتباراتهم الشعبية، خصوصاً وأنّ الناس في مثل هذه الحالات يلجأون إلى زعاماتهم المحلّية.

في ليلة 8 رجب 1333هـ / 22 مايس 1915م، اندلعت في النجف ثورة ضد الإدارة التركية، ودارت معارك عنيفة بين الثوّار وبين القوات العثمانية دامت إلى عصر يوم الاثنين 10 رجب 1333هـ / 24 مايس 1915م، حيث اضطرّت الحامية إلى الاستسلام، وجُرّدت من السلاح بعد فقدانها جماعة منها فيهم بعض الضبّاط، وطلب القائد والقائم مقام ( بهيج بك ) والمستخدمون الأمان، وجرت مفاوضات توسّط بها خازن المشهد وبعض رؤساء النجف، تمخّضت عن انسحاب القوة وبعض موظفي الحكومة، وبقاء وجود رمزي لها. وتسلّم النجفيون منذ ذلك اليوم أزمّة الحكم في البلدة، واستمروا سنتين كاملتين، انتهت بتمكّن حكومة الاحتلال من محاولة بسط نفوذها على النجف واحتلالها سنة 1918.

لم يواجه رؤساء النجف مشكلة داخلية في مشروعهم الإداري، بمعنى أنّهم لم يتعرّضوا لردود فعل من أبناء المدينة أو من علماء الدين. ويبدو أنّ موقف السيد اليزدي كان يمكن أن يفهمه رؤساء النجف على أنّه في صالح الثورة، فخلال المعارك أُصيبت مآذن الصحن العلوي الشريف بقذائف الأتراك، ممّا جعل السيد اليزدي يشجب هذا الاعتداء ببرقية أرسلها إلى اسطنبول(1) .

كان موقف السيد اليزدي دقيقاً في حركة الأحداث آنذاك، فالأتراك يخوضون حرباً دفاعية ضد الاستعمار البريطاني، ورغم مؤازرة علماء الشيعة وأبناء العشائر والمدن الشيعية لهم، إلا أنّهم لم يثمّنوا هذه المواقف الكبيرة للشيعة، الذين تناسوا الخزين التاريخي، ووقفوا إلى جانب الأتراك بدافعٍ إسلامي واعٍ.

في مقابل ذلك، فإنّ توسيع نطاق الثورة، واعتمادها كخط سياسي في التعامل مع الحكومة العثمانية، سيشكّل بدون ريب إضعافاً لوجودهم العسكري، وفي ذلك تقوية لأعدائهم البريطانيين.

إذن، فالسيد اليزدي ومعه علماء الشيعة كانوا يقفون إزاء معادلة سياسيّة حسّاسة

____________________

(1) موسوعة العتبات المقدّسة، قسم النجف 1/251.

٢٧٤

وخطيرة، وقد تعاملوا مع الظرف بطريقة واعية دقيقة؛ وذلك باعتماد منهجين أساسيّين في صياغة الموقف:

الأول: الإبقاء على موقفهم السابق في مواجهة الاحتلال البريطاني، والتصدّي لجيوشه الاستعمارية، كخط شرعي ثابت.

والثاني: الحفاظ على المكسب الاستقلالي الذي حقّقه رؤساء النجف، وإنهاء حالة المواجهة والثورة المسلّحة ضد الأتراك، مع تنظيم صيغة رمزية للعلاقة مع الحكومة المركزية، تحفظ هيبتها وصورتها الرسمية أمام الرأي العام.

ورغم دقّة هذه المنهجية السياسية على المستوى التطبيقي، إلاّ أنّه أمكن تنفيذها بنجاح، بحيث إنّ العلاقة مع الدولة العثمانية لم تشهد تصعيداً جديداً، كما أنّ علاقة السيد اليزدي الوثيقة برؤساء النجف ساهمت في إدارة الشؤون العامّة للمدينة بشكل جيّد، فكانت توصياته تُنفّذ من قِبل الرؤساء، وكان ختم السيد اليزدي يُعتمد في الشؤون الإدارية كالأملاك والعقارات، وغير ذلك من المعاملات التي تتصل بحياة الناس وشؤونهم العامّة(1) .

اهتمّ رؤساء النجف الأشرف بإدارة المدينة، وأوّل عمل قاموا به، إصدار أوامرهم بالمحافظة على الأسعار، وهي مسألة ضرورية في تلك الأيام، كما أصدروا أوامرهم بإعادة تنوير المدينة بالفوانيس وتنظيف الشوارع، وعيّنوا موظفين لجباية الرسوم والضرائب بعد أن خفّضوها إلى النصف. وقد شهدت النجف في تلك الفترة من الإدارة الاستقلالية حركة تجارية نشطة، بحيث صارت مركزاً تجارياً هامّاً تستقطب تجّار بغداد وغيرهم(2) . فعاشت المدينة فترة ازدهار اقتصادي لم تشهدها تحت الإدارة العثمانية.

لم تكن تجربة النجف الاستقلالية تسير بطريقة منتظمة، فالوضع العام كان جديداً عليها؛ لذلك كانت تحدث مظاهر خلل نتيجة التحوّل الإداري في المدينة. كما أنّ سلطة الرؤساء الأربعة التي تقوم على الأعوان والأتباع، كانت تفرز مظاهر سلبية غير قانونية من قِبل الأشخاص الذين يستفيدون - عادة - من مثل هذه الأجواء، وهي ظاهرة

____________________

(1) دور علماء الشيعة، عن مقابلة مع السيد عبد العزيز الطباطبائي في 21 رمضان 1414هـ / 4 آذار 1994م.

(2) لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، 4/190.

٢٧٥

مألوفة تشهدها المجتمعات في حالات كهذه. يُضاف إلى ذلك أنّ الفراغ الأمني الذي خلّفه الأتراك، لم يكن من السهولة أن تملأه الإدارة الجديدة، فكانت تقع اشتباكات مسلّحة بين النجف وبعض العشائر المحيطة بها.

النجفيّون وبنو حسن:

إنّ السلطة المستقلّة لرؤساء النجف، دفعتهم إلى توسيع دائرة سلطتهم الجغرافية، وهذا ما خلق لهم أزمات وصلت إلى درجة الاشتباك المسلّح. وقد تمثّلت هذه التجربة في رغبة الرؤساء في ضمّ الكوفة إلى دائرة حكمهم، وهو ما تعارض مع رغبة عشيرة بني حسن المجاورة للكوفة. فتأزّم الموقف بين الطرفين، ووصل إلى معركة دامية بدأت في أوائل جمادى الأُولى سنة 1334هـ، حتى صبيحة يوم 11 منه، حيث تمّ الصلح بين الطرفين.

بعد محاولات أجراها السيد اليزدي لإطفاء هذه الغائلة وإجراء صلح بين الطرفين، حيث ذهب إلى الكوفة عصر يوم الجمعة 5 جمادى الأُولى 1334هـ، ومعه السيد نور الياسري وجماعة من زعماء النجف.

ومكث حتى يوم الثلاثاء 9 جمادى الأُولى دون أن يعقد صلحاً بين الطرفين.

وأخيراً جرت مفاوضات بين زعماء الطرفين، انتهت بالصلح بين الطرفين، واستوثق كل فريق من الآخر(1) ، لكن هذا لم يدم طويلاً، إذ عاد بنو حسن واحتلّوا الكوفة من النجفيين(2) .

إنّ مثل هذه الممارسات تقلّل من قيمة التجربة الاستقلالية، إذا نظرنا إليها من منظار أكبر من الاهتمامات المحلّية المحدودة. إنّها تستفرغ المحتوى السياسي للاستقلال بمفهومه الحقيقي، كما أنّها تخدش صورة أول تجربة استقلالية في تاريخ العراق المعاصر.

وقعت معظم هذه الحوادث في الأشهر الأُولى لحكم رؤساء النجف، ولا ريب أنّ ضخامة التحوّل السياسي كان له الأثر الكبير في معظم ما حدث.

* * *

____________________

(1) مذكّرات الشيخ محمد رضا الشبيبي، ملحق كتاب النجف الأشرف وحركة الجهاد ص322.

(2) لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث 4/212 - 213.

٢٧٦

خلال تلك الفترة، كانت الجيوش العثمانية تعاني من تدهور خطير في معاركها مع القوات البريطانية التي كانت تتقدّم باتجاه بغداد. وقد بعث الإنكليز بجواسيسهم إلى النجف يرغّبون رؤساءها بالاتصال بالإنكليز(1) . لكنّ النزعة الاستقلالية كانت قوية عند بعض الرؤساء، لاسيّما عطية أبو گلل الذي بعث رسالة إلى الإنكليز يحذّرهم فيها من التدخّل بشؤون النجف، ويستفسر عن نوايا الإنكليز بشأن المنطقة، جاء ذلك في تقرير بريطاني مؤرَّخ في 19 آب 1915م / 8 شوّال 1333هـ: ( فيما يلي مقتبس من رسالة وصلتنا أمس من الشيخ عطية أبو گلل، ويسأل فيها عن نوايانا بشأن النجف ومنطقتها، كما يطلب تأكيداً بعدم تدخّل أحد بين الأهالي في منطقة أمير المؤمنين والمنطقة العربية. ويضيف أنّه إذا كانت نيّتنا هي التوجّه إلى ناحيتهم فوراً وبدون قيد أو شرط، فستحدث اضطرابات كبيرة، وتنشأ لهم صعوبات. ويطلب إخبارهم سرّاً عن نوايانا لكي يخبروا رجال القبائل الرئيسيين ويكونوا وسطاء. ويقول كذلك إنّا إذا لم نوافق فستتعقّد الأُمور، وسيضطر أهالي النجف وجميع العشائر للقتال دفاعاً عن دينهم.

حامل الرسالة يفيد أنّ السيد كاظم اليزدي يؤيّد الشيخ عطية في هذا الأمر )(2) .

الرسالة تعكس الاتجاه السياسي عند عطية أبو گلل وحذره من الإنكليز، فهو يحدّد لهم بشكل قاطع رفضه لأيّة محاولة بريطانية للتدخّل في شؤون النجف الأشرف وغيرها، ويحذّرهم من مغبّة ذلك، ويطلب التعرّف على نوايا الإنكليز بطريقة سريّة؛ من أجل أن يتدارس الموقف مع العشائر، وهو في ذلك يريد حصر المفاوضات به لتأكيد رفضه لتدخّل الإنكليز في شؤون المنطقة ورجالها. ورغم أنّ التقرير يبيّن أنّه يريد التفاوض مع الإنكليز في خصوص نواياهم المستقبلية، إلاّ أنّه يعود ويختتم رسالته بتهديد صريح للجانب البريطاني، بأنّهم في حالة عدم الإفصاح عن نواياهم، فإنّ عليهم أن يواجهوا أهالي النجف وجميع العشائر الذين سيقاتلونهم دفاعاً عن دينهم.

كانت مبادرة عطية أبو گلل تتّسم بالحسم والقوة، مع أنّ الموقف العسكري كان في صالح الإنكليز، وكان الاعتقاد السائد أنّ القوات البريطانية ستخرج الأتراك من

____________________

(1) ن. م ص192.

(2) العراق.. نشأة الدولة ص118.

٢٧٧

العراق؛ لكنّه أراد أن يضمن استقلال النجف من موقع قوّة، قبل أن تتحقّق الهزيمة التركية، ويصل الإنكليز إلى النجف.

والمعروف عن عطية أبو گلل أنّه ظل يحتفظ بمشاعر العداء للإنكليز. ورغم محاولاتهم للتقرّب منه بعد احتلال بغداد، ومنحه صلاحيات واسعة لكسبه إلى جانبهم، إلاّ أنّه ظلّ على موقفه العدائي. وقد تسبّب لهم في خلق مضايقات كثيرة قبل أن يترك النجف ليلتحق بعشيرة عجمي السعدون حليف الأتراك.

أدرك الإنكليز حقيقة التوجّه العام في النجف الأشرف، والذي عبّرت عنه الرسالة السابقة؛ لذلك جاء ردّهم حذراً يحاول تهدئة الطرف الآخر، جاء في الجواب:

(... إنّ البريطانيين يكنّون أخلص المشاعر نحو رجال الدين، وأهالي الأماكن المقدّسة، وقد انتهزوا كلّ فرصة للتعبير عنها. وإنّنا سوف نواصل ذلك، ونحن على ثقة بأنّ السيد محمد كاظم اليزدي والشيخ عطية سيكنّان لنا نفس المشاعر، ونرجو أن يتأكّدا أنّه ليس في نيّتنا التدخّل بأيّ شكل من الأشكال في الشؤون الدينية للعتبات )(1) .

إنّ التأكيدات البريطانية، ومحاولات التهدئة التي جاءت في الجواب الرسمي، لم تؤثّر على موقف السيد اليزدي ورؤساء النجف، إذ أعلن السيد اليزدي وبقيّة علماء الدين دعوتهم الثانية للجهاد، دفاعاً عن الدولة العثمانية ضد الاحتلال البريطاني، وذلك في تشرين الثاني محّرم 1334هـ / 1915م.

خلال فترة الدعوة الثانية للجهاد، كانت الأزمة النفسية لا تزال موجودة بين الحكومية العثمانية ورؤساء النجف؛ لذلك لم يتحمّس الرؤساء في البداية لدعوة الجهاد، لكنّهم استجابوا نزولاً عند طلب علماء الدين، وتفاعلوا مع مراسيم إخراج العلم الحيدري من المرقد العلوي الشريف يوم 11 محرم 1334 هـ / 19 تشرين الثاني 1915 م، وأُقيم احتفال كبير في الصحن الشريف حضره علماء الشيعة وأعضاء الوفد العثماني، وجاء حملة السلاح من محلاّت النجف يهتفون بالنصر للدين والدولة(2) .

عندما وصل المجاهدون إلى الكاظمية، لم يظهر الارتياح على مقاتلي النجف،

____________________

(1) العراق.. نشأة الدولة، ص118 - 119.

(2) لمحات اجتماعية 4/236.

٢٧٨

ولعلّ المسئولين الأتراك لم يحسنوا التعامل معهم، فعاد قسم منهم إلى مدينة النجف، وقد أعقب ذلك عودة التوتّر بين رؤساء النجف والموظفين الأتراك في المدينة. ففي 16 كانون الثاني 1916م، شاع خبر في النجف مفاده أنّ حكومة بغداد أرسلت قوة كبيرة للانتقام من النجف. وإثر ذلك وقع اشتباك بين حَمَلة السلاح ورجال الشرطة الأتراك. وفي شباط 1916م أخذ رؤساء النجف يشتدّون في فرض الضرائب على البضائع التجارية.

في 28 جمادى الأُولى 1334هـ / 5 آذار 1916م، استدعى السيد اليزدي رؤساء النجف إلى مدرسته للاجتماع بهم، وعرض عليهم برقية القائد العثماني العام في العراق، التي وصلته قبل يومين من الاجتماع، وفيها يشكر علماء الشيعة على مواقفهم. ثم طلب منهم السيد اليزدي أن ينهوا الأزمة، ويعودوا إلى طاعتها ووعدهم باستحصال العفو عنهم(1) .

استطاع السيد اليزدي أن ينهي الأزمة بين الطرفين، حيث تنازل زعماء النجف عن جباية الضرائب فيما بعد، وقد ظلّت سلطتهم الإدارية قائمة على المدينة إلى جانب الوجود الرمزي للحكومة.

إنّ هذه المواقف الكبيرة لعلماء الشيعة، والتي تنطلق من إخلاصهم، وفهمهم لمتطلّبات الظرف، وضرورة مساندة الدولة ضد الغزو الاستعماري، لم يقابلها الأتراك بما تستحق من تقدير حقيقي، إنّما ظلّت سياستهم المعادية للشيعة تسير على نمطها القديم. فقد أراد الأتراك الانتقام من مدينة الحلّة على ثورتها التي اندلعت عام 1915م، ضمن ثورات مناطق الفرات الأوسط في تلك الفترة. وقد فكّر الأتراك أنّ الانتقام من الحلّة سيكون درساً قاسياً لغيرها من المدن، فلا تفكّر في الخروج على طاعة الحكومة العثمانية كما حدث في النجف.

في تشرين الثاني 1916م، أرسلت الحكومة قوة عسكرية بقيادة ( عاكف بك ) فدخل الحلّة وأخذت قوّاته بحرق وهدم البيوت وقتل الأهالي، ثم نفّذ حكم الإعدام شنقاً بحق

____________________

(1) ن. م. 4/244.

٢٧٩

مئة وستة وعشرين رجلاً(1) . وبلغ عدد القتلى ألف وخمسمئة، وتمّ نفي أعداد من الأهالي بينهم نساء وأطفال، مات قسم منهم خلال الطريق إلى الأناضول(2) .

كان لهذه الفاجعة صداها المؤثّر على المناطق الشيعية، حيث ظنّت أنّ الانتقام التركي سيصلها أيضاً. وكان من الطبيعي أن يكون هذا الهاجس قوياً في مدينة النجف الأشرف، بعد الذي حصل بينها وبين الحكومة، فعقد رؤساء العشائر القريبة من النجف اجتماعاً في المدينة، ألقى فيه رئيس آل فتلة الشيخ مبدر الفرعون خطاباً حماسياً، دعا فيه الحاضرين إلى عدم طاعة العثمانيين لظلمهم(3) .

وفي عام 1916 استطاع أحد الضبّاط الأتراك بمساعدة السيد هادي مگوطر، أن يقنع مبدر الفرعون بالسماح بمرور جيوش تركية إلى عجمي باشا السعدون في البادية، عند ذلك ذهب عبد نور آل فرعون - ابن أخ مبدر - إلى السيد كاظم اليزدي في النجف، وأقنعه على الذهاب إلى الجعّارة لعقد صلح بين آل فتلة والخزاعل، على أساس أن يمتنع الطرفان عن مساعدة أي جيش من الجيوش المتحاربة، وإذا هاجم الأتراك الخزاعل فمن الضروري أن يهبّ آل فتلة لمساعدتهم، وكان شيوخ الخزاعل على اتصال مستمر مع الإنكليز خلال الأشهر الثمانية عشر التي سبقت احتلال بغداد(4) .

وصلت أنباء هذه التطوّرات إلى المجاهدين من أبناء الشيعة في مناطق القتال ضد الإنكليز، وكان تأثيرها سيّئاً عليهم. هذا ما تبيّنه الوثيقة التالية المؤرَّخة في 15 صفر 1335هـ / 11 كانون الأول 1916م، والمرسلة إلى السيد اليزدي:

( السلام عليك يا مولاي يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.

إلى حضرة مولانا وملاذنا حجّة الإسلام، وأبو الأيتام، ومرجع الخاص والعام، جناب السيد سيد كاظم دام بقاه...

بعد تقييل أياديكم الشريفة، نخبر جنابكم الشريف: خرجنا من النجف الأشرف بأمركم قاصدين نصرة الدين والإسلام، حتى إذا وصلنا لواء المنتفك شوّقنا.. وهيّجنا عشايرنا

____________________

(1) تاريخ الحلّة 1/169.

(2) لمحات اجتماعية 4/309.

(3) الحقائق الناصعة في الثورة العراقية 1/45.

(4) العشائر والسياسة، تقرير سرّي لدائرة الاستخبارات البريطانية ص113.

٢٨٠