البنك اللاربوي في الإسلام

البنك اللاربوي في الإسلام14%

البنك اللاربوي في الإسلام مؤلف:
تصنيف: فقه استدلالي
الصفحات: 273

البنك اللاربوي في الإسلام
  • البداية
  • السابق
  • 273 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 37765 / تحميل: 7954
الحجم الحجم الحجم
البنك اللاربوي في الإسلام

البنك اللاربوي في الإسلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

وهذا التحويل المصرفي جائز شرعاً، ويمكن تكييفه فقهياً بأحد الأوجه الأربعة التي تقدّمت لتكييف الحوالات الداخلية مع أخذ عاملٍ واحدٍ للفرق بين الحوالة الداخلية، وهذا التحويل الخارجي بعين الاعتبار، وهو أنّ القيمة التي يملكها الآمر بالتحويل في الحوالات الداخلية على ذمّة البنك وقيمة الدين الذي يريد تسديده لدائنه عن طريق هذا التحويل كلتاهما بالعملة الداخلية. وأمّا هنا فالعميل الطالب للتحويل المصرفي الخارجي له رصيد دائن في البنك يمثّل على الأغلب ديناً له على البنك بالعملة الداخلية، وأمّا الدين الذي يريد العميل تسديده للمصدّر الأجنبي فهو بالعملة الأجنبية.

وعلى هذا الأساس إذا فسّرنا التحويل بأنّه محاولة لتسديد البنك الدَينَ الذي لعميله عليه عن طريق وفاء دين العميل فهو من الوفاء بغير الجنس، ويجوز شرعاً مع رضا الدائن. وإذا فسّرنا التحويل بأنّه حوالة من العميل لدائنه على البنك فهي هنا حوالة على بريء ؛ لأنّ البنك غير مدينٍ بعملةٍ أجنبيةٍ للعميل، بينما هي هناك - في الحوالات الداخلية - تكون حوالةً على مدين.

ويمكن أن تصبح الحوالة هنا حوالةً على مدينٍ أيضاً إذا سبقها عقد بيعٍ وشراء اشترى العميل الطالب للتحويل بموجبه عملةً أجنبيةً في ذمّة البنك بما يعادل قيمتها من العملة الداخلية التي يملكها العميل في ذمّة البنك ويتمثّل فيها رصيده الدائن، فإنّ هذا الشراء يجعل البنك مديناً حينئذٍ للعميل الطالب للتحويل بعملةٍ أجنبية، ويكون تحويل المصدّر الأجنبي عليه من الحوالة على مدين.

كما أنّ بالإمكان أن نفسِّر عملية التحويل المصرفي الخارجي بأنّ البنك في هذه العملية يبيع العميل - في حدود قيمة التحويل - ما يملكه من عملةٍ أجنبيةٍ في ذمّة البنك المراسل في الخارج لقاءَ ما يعادل قيمتها من العملة الأهلية التي يملكها العميل في ذمّته، فيصبح العميل بذلك دائناً للبنك المراسل - بحكم عقد البيع

١٤١

المتقدّم - بقيمة التحويل بالعملة الأجنبية، فيحوِّل عليه دائنه المصدِّر، فيكون التحويل المصرفي الخارجي مزدوجاً من عمليّتين: إحداهما بيع الدين، والأخرى حوالة الدين.

وكلّ ذلك جائز وصحيح شرعاً.

كما أنّ العمولة جائزة شرعاً، ويمكن تخريجها على أساس ما تقدّم من مبرّراتٍ للعمولة في الحوالات الداخلية.

ونضيف إلى ذلك هنا: أنّ التحويل إذا فهمناه على أنّه بيع الدين ثمّ حوالة الدين فبإمكان البنك أن يضيف العمولة إلى الثمن الذي يبيع به العملة الأجنبية على عميله.

الحوالات المصرفية الواردة:

وهي نفس الحوالات المصرفية الصادرة منظوراً إليها من زاوية الفرع أو المراسل الذي سحب بنك المستورد التحويل عليه بناءً على طلب عميله.

وهذه الحوالات المصرفية حين تَرِد إلى الفرع أو المراسل المحوَّل عليه يدفع قيمة التحويل نقداً إلى المستفيد، أو يقيّدها في حسابه الجاري، أو يحوِّلها لحسابه في بنكٍ آخر حسب طلب المستفيد. وكلّ ذلك جائز ما دام بالإمكان تخريج الحوالة المصرفية على أساس الحوالة الفقهية التي يصبح المصدِّر بموجبها دائناً للبنك المراسل الذي ترِده الحوالة بمجرّد قبوله - أي المصدِّر - لها، فيكون بإمكانه أن يتّخذ تجاه دينه الذي يملكه على البنك المراسل أيَّ قرارٍ بحلوله.

وأمّا إذا كانت الحوالة المصرفية مجرّد أمرٍ بالدفع فلا يصبح المصدِّر بذلك مالكاً لقيمة التحويل في ذمّة البنك المراسل الذي ترِده الحوالة ما لم يتسلّم المبلغ، أو يقبضه شخص آخر، أو جهة أخرى - وحتّى البنك نفسه - نيابةً عنه، فلا يمكن

١٤٢

للمصدِّر بدون تسلّم للمبلغ أن يأمر بقيده في الحساب الجاري أو تحويله إلى حسابه في بنكٍ آخر.

الشيكات المصرفية:

كما قد يسحب العميل صاحب الحساب الجاري عند البنك شيكاً عليه، كذلك قد يسحب البنك نفسه شيكاً على مراسله في بلدٍ آخر لمصلحة عميله، فيتقدّم العميل إلى البنك المسحوب عليه الشيك لصرف قيمته، وتخصم قيمة الشيك من حساب البنك الساحب لدى المسحوب عليه.

والعميل المستفيد من الشيك المصرفي إمّا أن يكون له رصيد دائن بالعملة الداخلية، وإمّا أن يكون الشيك المصرفي تسهيلاً مصرفياً له دون غطاء.

ففي الحالة الأولى يمكن تكييف الشيك المصرفي فقهياً بأحد الأوجه التالية:

فهو إمّا تفويض من البنك المدين الساحب للشيك لعميله الدائن لمستفيدٍ من الشيك بأن يتسلّم قيمة الشيك من البنك المراسل كوفاءٍ لِمَا يملكه في ذمّة البنك الساحب ويعتبر من الوفاء بغير الجنس ؛ لأنّه وفاء بعملةٍ أخرى، وهو جائز برضا الدائن.

وإمّا حوالة من البنك الساحب لدائنه المستفيد على البنك المراسل، وتكون هذه الحوالة مسبوقةً ضمناً بعقد بيعٍ يحوِّل فيه المستفيد والبنك دينَهما من العملة الأهلية إلى العملة الأجنبية ؛ لكي يُتاح أن يُحيل المستفيد على البنك المراسل المدين له بالعملة الأجنبية

وإمّا أنّ الشيك يقوم على أساس بيع الدين، بمعنى أنّ البنك يبيع في حدود قيمة الشيك العملة الأجنبية التي يملكها في ذمّة البنك المراسل بما يساوي قيمتها

١٤٣

من العملة الداخلية التي يملكها المستفيد في ذمّته.

وفي الحالة الثانية يعتبر الشيك أمراً من البنك الساحب للبنك المسحوب عليه بإقراض العميل المستفيد قيمةَ الشيك مع ضمان البنك الساحب للقرض، أو أمراً له بدفع قرضٍ للمستفيد من رصيده الدائن لدى البنك المسحوب عليه، أو قائماً على أساس عقد بيع يبيع بموجبه البنك الساحب - في حدود قيمة الشيك - ما يملكه في ذمّة البنك المسحوب عليه من عملةٍ أجنبيةٍ بسعرٍ في ذمّة المستفيد مقدّرٍ بالعملة الداخلية(١) .

وكلّ ذلك جائز شرعاً. وأخذ العمولة جائز شرعاً ؛ لإمكان تخريجه في كلتا الحالتين بشكلٍ من الأشكال.

خطابات الاعتماد الشخصية:

خطابات الاعتماد الشخصية هي خطابات يفوِّض فيها البنك عميله الذي أصدر الخطاب لصالحه بالسحب على حسابه لدى مراسليه الذي يحدّدهم على ظهر تلك الخطابات، وتطالب البنوك في الغالب بكامل قيمة خطابات الاعتماد الشخصية من العملاء عند استصدارها، وتتقاضى عمولةً خاصّةً على الخطاب.

وهذا الخطاب يعتبر من الناحية الفقهية بالنسبة للمستفيد الذي كان له رصيد دائن في ذلك البنك، أو أوجد له رصيداً كذلك عند طلب الحصول على خطاب الاعتماد لتغطية الطلب، إنّ هذا الخطاب بالنسبة إليه يعتبر إمّا توكيلاً لذلك المستفيد الدائن في استيفاء دينه من حساب البنك لدى البنوك المراسلة في

____________________

(١) ويلاحظ هنا أنّه يجب أن لا يكون الثمن مؤجّلاً في عقد البيع ؛ لئلاّ يكون من بيع الدَين بالدَين. ويمكن تأجيله باتّفاقٍ مستقلّ خارج نطاق عقد البيع. (المؤلّف قدس‌سره ).

١٤٤

الخارج، ويعتبر هذا الاستيفاء من الاستيفاء بغير الجنس، وهو جائز شرعاً مع رضا الدائن. وإمّا تفويضاً له بنقل دينه على البنك متى شاء من العملة الداخلية إلى العملة الأجنبية التي تمثّل نفس القيمة، وبقبول التحويل بتلك العملة الأجنبية على أيِّ بنكٍ من البنوك التي يحدِّدها خطاب الاعتماد.

وقد يرغب طالب الحصول على خطاب الاعتماد بأن يكون خطاب الاعتماد بعملةٍ أجنبيةٍ خاصّةٍ كالإسترليني مثلاً ؛ يحدّد سعر صرفها مع العملة الداخلية حين استصدار خطاب الاعتماد ؛ ليتفادى العميل المستفيد من الخطاب خطر الارتفاع في قيمة الإسترليني بالنسبة للعملة الداخلية، ويمكن تفسير ذلك حينئذٍ بأنّه يحتوي على وقوع عقد بيعٍ بالفعل باع البنك بموجبه - في حدود قيمة الخطاب - مقداراً محدَّداً من الإسترليني بما يساوي قيمته فعلاً من العملة الداخلية، وفوّض العميل المستفيدَ من خطاب الاعتماد بقبول الحوالة بذلك المقدار من الإسترليني على أيّ بنكٍ من البنوك المحدّدة في نفس الخطاب.

ويمكن للبنك أن يتقاضى عمولةً على إصدار خطابات الاعتماد الشخصية ؛ وذلك بأحد الأوجه الآتية:

أولاً : إذا كان البنك مديناً للعميل الطالب للحصول على الخطاب - أي أنّ الخطاب كان مغطّى - فهو يأخذ العمولة اتّجاه قبوله بالوفاء في مكانٍ آخر.

ثانياً : إذا كان خطاب الاعتماد غير مغطّىً وكان البنك متّجهاً إلى إقراض قيمة الخطاب لطالب الحصول عليه كتسهيلاتٍ مصرفيةٍ فهو قرض يتمّ في الخارج ؛ لأنّ القرض يتمّ بالقبض ويصبح المستفيد بقبض المبلغ في الخارج مديناً للبنك، ويمكن للبنك إلزام المدين في عقد القرض بأن يقوم بالوفاء في نفس المكان الذي تسلّم فيه المبلغ المقترض.

١٤٥

تسلّم القرض، فيجوز للبنك أن يطالب المستفيد بمالٍ لقاء عدم إلزامه بالوفاء في نفس مكان قبض المبلغ المقترض.

ومن ناحيةٍ أخرى فإنّ المستفيد يعتزم تسديد الدين بغير جنسه ؛ لأنّه سوف يقبض عملةً أجنبيةً ويسدّد دينه للبنك بعد ذلك بعملةٍ داخلية. ويمكن للبنك أن لا يقرّ هذا النوع من الوفاء إلاّ لقاء مبلغٍ معيَّنٍ من المال.

ثالثاً : إذا فسّرنا خطاب الاعتماد بأنّه تفويض للمستفيد بأن يشتري - في حدود قيمة الخطاب - عملةً أجنبيةً من رصيد البنك المصدِّر للخطاب في البنوك الأخرى بعملةٍ داخليةٍ فبإمكان البنك أن يأخذ عمولةً كجُعالةٍ على هذا التفويض(١) .

وعلى أيِّ حالٍ فالتكييفات الفقهية للعمولة كثيرة ونتيجتها واحدة، وهي جواز العمولة شرعاً.

اختلاف أقسام النقود في أحكام الصرف

حتّى الآن كنّا ندرس أحكام الصرف الخارجي ووسائل التأدية المصرفية وعمليات بيع وشراء العملات الأجنبية مع افتراض أنّ النقود نقود ورقية ذات سعرٍ إلزامي ؛ لأنّ أحكام الصرف في الفقه الإسلامي تختلف من نوعٍ من النقود إلى نوعٍ آخر.

وبقي علينا أن ندرس عمليات الصرف إذا كانت النقود من شكلٍ آخر، وذلك بأن نفرض:

____________________

(١) راجع للتوسّع في المناقشة من الناحية العلمية الملحق رقم (١٢) (المؤلّف قدس‌سره ).

١٤٦

أوّلاً : النقود المعدنية الذهبية أو الفضيّة.

ثانياً : النقود الورقية النائبة التي تمثّل جزءاً من رصيدٍ ذهبيّ موجودٍ فعلاً في خزائن الجهة التي تصدِّر تلك الأوراق النائبة.

ثالثاً : النقود الورقية التي تمثِّل تعهّداً من الجهة المصدّرة لتلك الأوراق بصرف قيمتها ذهباً عند الطلب.

رابعاً : النقود الورقية السابقة بعد صدور قانونٍ بإعفائها من صرف قيمة الورقة ذهباً عند الطلب.

القسم الأوّل: النقود الذهبية والفضية:

أمّا القسم الأوّل فيجب أن نعرف أنّه داخل في نطاق التعامل بالذهب والفضّة شرعاً، والتعامل بالذهب والفضّة شرعاً يتوقّف على شرطين لدى مشهور الفقهاء:

الأوّل : المساواة في الكمّية بين الثمن والمثمن عند مبادلة الذهب بالذهب أو الفضّة بالفضّة، فإذا زاد أحدهما على الآخر كان رباً، وهو محرّم بالضرورة. وأمّا إذا كان الثمن والمثمن مختلفين - أي كان أحدهما ذهباً والآخر فضّةً - فلا مانع من زيادة أحدهما على الآخر.

الثاني : أن تُنهى المعاملة بكلّ مراحلها فعلاً، أي أن يتمّ التسليم والتسلّم بين بائع النقد بالنقد والمشتري في مجلس العقد، فإذا افترقا دون أن يقبض كلّ منهما النقد الذي اشتراه اعتبر البيع باطلاً.

وهذا الشرط يعتبره مشهور الفقهاء لازماً في بيع الذهب أو الفضّة بمثلها أو بالنوع الآخر، ولكنّه في رأيي إنّما يلزم في بيع الذهب بالفضة أو الفضة بالذهب، وأمّا في

١٤٧

حالات بيع الذهب بالذهب أو الفضة بالفضة فلا يلزم التقابض في مجلس العقد، ويصحّ البيع بدونه(١)

____________________

(١) لأنّ الروايات والأحاديث التي دلّت على اشتراط القبض جاءت في بيع الذهب والفضة - الدرهم بالدينار(*) - وأمّا بيع الذهب بالذهب أو الفضة بالفضة فلم يرد فيه نصّ يدلّ على وجوب التقابض، وعلى هذا فالأصل عدم اعتبار التقابض فيه تمسّكاً بالعمومات والمطلقات.

فإن قال قائل: نحن نفهم من وجوب التقابض في حالة بيع الذهب بالفضة وجوبه في حالة بيع الذهب بالذهب أيضاً، إذ لا فرق بينهما.

قلنا: بل احتمال الفرق موجود ؛ لأنّه في بيع الذهب بالذهب لا يمكن افتراض زيادة أحد العوضين على الآخر ؛ لأنّ ذلك مخالف للشرط الأوّل. وأمّا في بيع الذهب بالفضة فيمكن افتراض زيادة أحدهما على الآخر، فلو لم يلزم المتعاملان بالتقابض فوراً لأمكن الاتّفاق على تأخير التسليم من أحد الطرفين وتأجيله في مقابل أن يزاد فيه لأجل التأجيل، فلعلّ حرص الشارع على سدّ هذا الباب أوجب أن يشترط التقابض في بيع الذهب بالفضة دون بيع الذهب بالذهب.

نعم، قد يمكن أن يستفاد اشتراط النقد في مقابل النسبة في بيع الذهب أو الفضة بالجنس أيضاً من بعض الروايات الواردة في بيع السيوف المحلاّة بالفضة أو بالنقد (**)، حيث اشتراط في جواز بيعها نسيئة أن ينقد المشتري مثل ما في الفضة. ومقتضى الإطلاق الشمول، إلاّ إذا كان الثمن فضةً أيضاً. غير أنّ التدبّر في تلك الروايات لا يسمح بالاستدلال بها على أكثر من اشتراط النقد في مقابل النسيئة، لا اشتراط القبض في مجلس العقد. وتفصيل الكلام في هذه المسألة موكول إلى محلّه. (المؤلّف قدس‌سره ).

(*) وسائل الشيعة ١٨: ١٦٨- ١٦٩، الباب ٢ من أبواب الصرف، الحديث ٣ و ٧.

(**) وسائل الشيعة ١٨: ١٩٨، الباب ١٥ من أبواب الصرف.

١٤٨

وفي هذا الضوء يكون التعامل بالذهب أو الفضة مرتبطاً بشرطٍ واحد ؛ لأنّ الثمن والمثمن إذا كانا معاً من الذهب أو الفضة فالشرط هو المساواة بينهما، ولا يجب التقابض فوراً. وإذا كان الثمن من ذهبٍ أو فضةٍ والمثمن من النوع الآخر فالشرط هو التقابض فوراً، ولا تجب المساواة في الكمية بين الثمن والمثمن. وعلى هذا الأساس يجب أن يخضع النقد في حالة كونه ذهبياً أو فضّياً لهذا الشرط.

القسم الثاني: الأوراق النائبة عن الذهب.

وإذا كانت النقود أوراقاً نائبةً عن الذهب فالشرط الوحيد المعتبر فيها هو أن لا تزيد ولا تنقص كمّية الذهب التي تمثّلها الورقة المباعة عن كمّية الذهب التي تمثّلها الورقة المشتراة، ولا يعتبر التقابض فوراً في التعامل بهذه الأوراق ؛ لأنّها جميعاً تمثّل الذهب، فالتعامل بها من بيع الذهب بالذهب لا من بيع الذهب بالفضة، وتنفيذ اشتراط المساواة بين الكمّيتين المتبادلتين من الذهب في التعامل بالأوراق النائبة يعني أنّه لا يجوز مواكبة أسعار الصرف لهذه الأوراق التي تتغيّر صعوداً وهبوطاً نتيجةً لعوامل عديدة، وتتولّد عن ذلك صعوبات كثيرة لا مجال للتوسّع الآن في شرحها وتذليلها، ولا أهميّة لذلك ؛ لأنّ النقود الذهبية والفضية المعدنية أو الأوراق النائبة عنها غير موجودةٍ فعلاً على مسرح النقد العالمي.

القسم الثالث: النقود الورقية المتعهّدة:

وأمّا النقود الورقية التي تمثّل تعهّداً من الجهة المصدِّرة بصرف قيمتها ذهباً عند الطلب فيكن تفسيرها على أساسين مختلفين:

الأوّل : أن يكون تعهّد الجهة المصدِّرة لتلك الأوراق بدفع قيمتها ذهباً عند

١٤٩

الطلب مجرّد التزامٍ مستقلّ من تلك الجهة يكسب الورقة قيمةً ماليةً في المجتمع ؛ لثقة أفراده بتلك الجهة وبوفائها بتعهّدها.

الثاني : أن يكون تعهّد الجهة المصدِّرة لتلك الأوراق بدفع قيمتها ذهباً معناه اشتغال ذمّة تلك الجهة بقيمة الورقة من الذهب. وليست الورقة على هذا الضوء إلاّ سنداً ووثيقةً على ذلك الدين، ولا توجد لها قيمة أصلية.

والفرق بين هذين التصوّرين كبير، فإنّه على التصور الأوّل حينما تصدِّر الجهة المصدِّرة للنقد أوراقاً نقديةً وتتعهّد بقيمتها ذهباً وتدفعها كأثمانٍ لسلعٍ أو خدماتٍ فهي في الواقع قد أعطت بذلك سنداً على قيمة تلك السلع أو الخدمات ذهباً في ذمّتها، وبذلك تصبح مدينةً بقيمة الورقة ذهباً لبائع السلعة أو الخدمة، وإذا اشترى هذا البائع بتلك الورقة شيئاً فهو لا يشتري في الواقع بهذه الورقة، بل بالدين الذي يملكه في ذمّة الجهة المصدِّرة لها، وليست الورقة إلاّ سنداً على ذلك الدين، وهذا يعني أنّ النقود الورقية التي تصدِّرها البنوك من هذا القبيل لا تختلف عن السندات العادية في تكييفها القانوني.

وأمّا على التصوّر الثاني فالأمر يختلف ؛ لأنّ الجهة المصدِّرة حينما تدفع تلك الأوراق لتسديد أثمان السلع والخدمات فهي تسدِّد تلك الأثمان بهذه الأوراق حقيقةً، وحين يشتري بائع السلعة بتلك الورقة شيئاً فهو يشتري بالورقة لا بدينٍ يملكه في ذمّة الجهة المصدِّرة، غير أنّ الذي أكسب الورقة قيمتها المالية ثقة أفراد المجتمع بتعهّد البنك المصدِّر بصرف قيمتها ذهباً عند الطلب.

ويختلف الحكم الشرعيّ لهذه الأوراق تبعاً لتكييفها وفقاً لهذا التصوّر أو لذاك. فإذا أخذنا بالتصوّر الأوّل كان معنى التعامل بتلك الأوراق هو التعامل بقيمتها ذهباً في ذمّة الجهة المصدِّرة لتلك الأوراق، أي التعامل في الذهب، فيجب

١٥٠

عندئذٍ أن يتساوى العوضان في عقد البيع، فلا يمكن شراء كمّيةٍ من أوراق البنكنوت(١) التي تمثِّل كمّيةً من الذهب في ذمّة الجهة المصدّرة لها بأوراقٍ نقديةٍ أخرى تمثِّل كمّية أكبر أو أقلّ، وهذا يعني أنّه لا يجوز مواكبة أسعار الصرف لهذه الأوراق التي تتغيّر صعوداً وهبوطاً نتيجةً لعوامل عديدة.

وأمّا إذا أخذنا بالتصوّر الثاني، فهو يعني أنّ التعامل بتلك الأوراق ليس تعاملاً بالذهب، فلا تجري عليه أحكام التعامل بالذهب، ويصبح بالإمكان أن يطَّق عليها في عمليات الصرف نفس ما يطبَّق على الأوراق النقدية الإلزامية.

وممّا يؤيّد تكييف هذه الأوراق المدعَمة بالتعهّد بصرف قيمتها ذهباً على الأساس الثاني لا الأوّل أنّ الأساس الأوّل يفترض كونها سنداً على الدين، ومن الواضح أنّ استهلاك السند أو سقوطه عن الاعتبار لا يعني تلاشي الدين، ونحن نرى أنّ أيَّ شخصٍ تتلاشى لديه الورقة النقدية أو تُسقِط الحكومة اعتبارها ولا يسارع إلى استبدالها بالنقود الجديدة لا تعتبر الجهة المصدِّرة نفسها مسؤولةً أمامه عن دفع قيمة الورقة المتلاشية أو التي سقط اعتبارها وتماهل في استبدالها. فكأنّ هناك تعهّداً بدفع القيمة ذهباً لمن يملك الورقة، لا أنّ الورقة تعطى لمن يملك قيمتها ذهباً في ذمّة الجهة المصدّرة. ولهذا يميِّزها القانون عن سائر الأوراق التجارية من شيكاتٍ وكمبيالات ؛ حيث يمنحها صفة النقد والإلزام بالوفاء بها دون الأوراق الأخرى التي لا تخرج عن كونها مجرّد سندات.

____________________

(١) أوراق البنكنوت ( Banknotes ) عُملة ورقيّة بدأت في أول أمرها كسندات إذنيّة لحاملها تدفع له عند الطلب، ثمّ تحوّلت إلى أوراق مصرفيّة تحت الطلب، تصدرها المصارف المركزيّة وتعلن الدولة من جانبها أنّ هذه الأوراق ذات قوّة إبراء قانونيّة وغير محدودة. الموسوعة الاقتصادية، د. سميع مسعود: ٢٦.(لجنة التحقيق) .

١٥١

القسم الرابع: الأوراق.

وأمّا ما أُعفي بقانونٍ خاصّ من صرف قيمته ذهباً، فتقديره مرتبط بالموقف المتّخذ من القسم السابق. فإذا أخذنا في القسم السابق بالأساس الثاني واعتبرنا حكم الأوراق النقدية المدعَمة بالتعهّد حكم الأوراق النقدية الإلزامية فالقسم الرابع يتّفق معه في الحكم أيضاً، ويصبح حكمها جميعاً هو حكم الأوراق الإلزامية، فلا يجب فيها أن تطبَّق شروط التعامل بالذهب من التساوي بين الثمن والمثمن في عمليات الصرف.

وأمّا إذا أخذنا في القسم السابق بالأساس الأوّل ؛ واعتبرنا التعامل بالأوراق المدعَمة بالتعهّد داخلاً في نطاق التعامل بالذهب، فنحتاج لمعرفة حكم القسم الرابع إلى تفسير قانون الإعفاء وتكييفه من الناحية الفقهية.

فإن كان قانون الإعفاء يعني إلغاء الديون التي كانت الأوراق النقدية سنداتٍ عليها وتحويلها إلى أوراقٍ نقديةٍ إلزاميةٍ فهذا يؤدِّي إلى خروج التعامل بها عن نطاق التعامل بالذهب، وتصبح خاضعةً لنفس أحكام الأوراق النقدية الإلزامية.

وأمّا إذا كان قانون الإعفاء يعني السماح للجهة المصدِّرة بعدم وفاء الدين الذي تمثِّله الورقة النقدية في نطاق التعامل الداخلي حرصاً على الذهب وتوجيهاً له إلى التعامل مع الخارج، مع الاعتراف قانونياً ببقاء الديون التي تمثِّلها تلك الأوراق، فلا تخرج بذلك عن حكمها قبل الإعفاء.

١٥٢

القسم الثاني من وظائف البنك:

تقديم القروض والتسهيلات

تقوم البنوك إلى جانب خدماتها السابقة بتسهيلاتٍ مصرفيةٍ وتقديم قروض.

وبالرغم من أنّ التسهيل المصرفي قد يتلاحم مع خدمةٍ مصرفيةٍ أو يندمج بها غير أنّنا نتناول الآن التسهيلات المصرفية مجزَّأةً عن الخدمات المصرفية التي قد تندمج بها، لندرسها بصورةٍ مستقلّة.

فالاعتمادات المستندية وخطابات الضمان وخطابات الاعتماد الشخصية - مثلاً - هي خدمات مصرفية كما تقدّم، ولكنّها إذا كانت غير مغطّاةٍ غطاءً كاملاً اعتبرت تسهيلاتٍ في نفس الوقت بالمقدار المكشوف من غطائها، وهي بقدر ما تعتبر تسهيلاتٍ تندرج في نطاق القروض التي تقدمها البنوك إلى عملائها، أو يُترقَّب بها أن تندرج في ذلك النطاق.

ومصطلح التسهيل المصرفي أعمّ من مصطلح القروض في لغة البنوك ؛ لأنّ التسهيلات المصرفية تشمل ما كان من قبيل الكفالات والضمانات التي قد تنتهي إلى قرضٍ بالفعل، وقد لا تنتهي إلى شيءٍ من ذلك.

والضمانات والكفالات تارةً ندرسها بوصفها تعزيزاتٍ لموقف المضمون

١٥٣

بقطع النظر عمّا إذا أدَّت إلى إقراضه مالاً أو لا. وأخرى ندرسها بما ينجم عن عملية التسهيل من قرضٍ حين يضطرّ المصرف إلى تسديد مبالغ معيّنةٍ عوضاً عن العميل المضمون. وهي بالوصف الأوّل لا تخرج عن كونها خدمةً مصرفيةً في رأينا. وقد تكلّمنا عنها وعن عمولتها بهذا الاعتبار في القسم الأوّل. وأمّا حين نلاحظها بالوصف الثاني فحكمها حكم سائر القروض، ولا فرق بين القروض الابتدائية والتسهيلات التي تتحوّل إلى قروض. ونتكلّم عن الجميع في ما يلي:

تقسَّم القروض المصرفية عادةً إلى تسليفاتٍ طويلة الأجل، ومتوسّطة الأجَل، وقصيرة الأجَل. وتتّخذ عمليات التسليف هذه تارةً صورة قرضٍ عاديّ يتقدّم العميل بطلبه من البنك ويتسلّم بموجبه مقداراً محدّداً من النقود، وتتّخذ أخرى صورة فتح الاعتماد، ويقصد به وضع البنك تحت تصرّف عميله مبلغاً معيَّناً من النقود لمدّةٍ محدودةٍ بحيث يكون لهذا العميل الحقّ في أن يسحب منه من حينٍ إلى آخر.

وفتح الاعتماد في الواقع هو وعد بقروضٍ متعاقبة، وفي كلّ ذلك تتقاضى البنوك الربوية فوائدَ على هذه القروض، وتعتبر هذه الفوائد فوائدَ ربويةً محرَّمة، ويجب على البنك اللاربوي تطويرها وانتهاج السياسة العامة التي وضعناها في أطروحة البنك اللاربوي للقروض، وهي تتمثّل:

أولاً : في تحويل ما يمكن من القروض والتسليفات إلى مضارباتٍ يتوسّط فيها البنك بين العامل وصاحب المال، أي بين المستثمِر والمودِع.

وثانياً : أن يقرض حيث لا يمكن تحويل الطلب إلى مضاربةٍ في حدودٍ خاصّةٍٍ شرحناها في الأطروحة سابقاً.

وثالثاً : أن يشترط في القرض على المدين دفع أجرة المثل لقاء كتابة الدين

١٥٤

وضبطه، وما يتوقّف عليه ذلك من تكاليف، ويلغى الزائد على ذلك من عناصر الفائدة فلا يطالب بها كفائدةٍ على القرض.

ورابعاً : أن يشترط دفع مقدار الفائدة عند الوفاء - مطروحاً منه ما يقبضه بموجب الشرط السابق - كقرضٍ مؤجّلٍ إلى عدّة سنين.

وخامساً : إذا تنازل المقترِض عن هذا المقدار ودفعه كحَبوةٍ للبنك لا كقرضٍ اعتبره البنك زبوناً من الدرجة الأولى، وقَدَّم طلبه للقرض في المرّة التالية على غيره ممّن لم يتنازل عن ذلك المبلغ ودَفَعه قرضاً لا حبوة.

خصم الأوراق التجارية:

وخصم الأوراق التجارية هو شكل من أشكال التسليف المصرفي ؛ إذ يتقدَّم المستفيد بالورقة التجارية ذات الأجَل المحدود قبل حلول موعد وفائها إلى بنكٍ معيَّنٍ ليحصل على قيمتها، فيدفع له البنك قيمتها بعد استنزال مبلغٍ معيّنٍ يتَكوَّن من فائدة المبلغ المذكور في الورقة التجارية من يوم الدفع حتّى يوم الاستحقاق، ومن عمولةٍ خاصّةٍ يتقاضاها البنك نظير الخدمة التي يؤدّيها، ومن مصاريف التحصيل التي يتقاضاها البنك إذا كانت الورقة التجارية تدفع في مكانٍ غير المكان الموجود به.

وحين حلول موعد الوفاء يطالب البنك محرّر الورقة بقيمتها، وتكون القيمة المستحصلة من حقّ البنك، وفي حالة تخلّف المدين عن دفع قيمة الورقة المستحقّة عليه يعتبر المجير الأخير الذي خصم له البنك الورقة هو المسؤول أمام البنك عن دفع المبلغ. وإذا اتّفق تأخّر الدفع بعد حلول الموعد فإنّ البنك يحتسب فائدةً على مدّة التأخير وفقاً للسعر العامّ للفائدة على القرض، ويتقاضى هذه

١٥٥

الفائدة من المدين المحرّر للكمبيالة.

وواضح أنّ عملية خصم الورقة التجارية هي في الواقع تقديم قرضٍ من البنك إلى المستفيد لتلك الكمبيالة - مثلاً - مع تحويل المستفيد البنك الدائن على محرّر الكمبيالة. وهذا التحويل من الحوالة على المدين.

وهناك عنصر ثالث إلى جانب القرض والتحويل، وهو تعهّد المستفيد الذي خصم الورقة لدى البنك بوفاء محرّر الورقة عند حلول أجلها، فبحكم القرض يصبح المستفيد مالكاً للمبلغ الذي خصم البنك به الكمبيالة، وبحكم الحوالة يصبح البنك دائناً لمحرّر تلك الكمبيالة، وبحكم تعهّد المستفيد بالوفاء يحقّ للبنك أن يطالبه بتسديد قيمة الكمبيالة إذا تخلّف محرّرها عن ذلك عند حلول موعدها، وبحكم كون المحرّر مديناً للبنك نتيجةً للتحويل يتقاضى البنك منه فوائد على تأخير الدفع عن موعده المحدّد.

وعلى هذا الأساس يصبح ما يقتطعه البنك الخاصم للكمبيالة من قيمة الكمبيالة لقاء الأجل الباقي لموعد حلول الدفع ممثّلاً للفائدة التي يتقاضاها على تقديم القرض إلى المستفيد الطالب للخصم، وهو محرَّم ؛ لأنّه ربا. وأمّا ما يقتطعه كعمولةٍ لقاء الخدمة أو لقاء تحصيل المبلغ إذا كان يدفع في مكانٍ آخر فهو جائز ؛ لأنّ العمولة لقاء الخدمة هي أجرة كتابة الدين ؛ التي تقَّم أنّ بإمكان البنك أن يتقاضاها في كلّ قرضٍ يقدِّمه.

وأمّا العمولة لقاءَ تحصيل المبلغ في مكانٍ آخر، فهي من حقّ البنك أيضاً ؛ نظراً إلى أنّ البنك بخصم الكمبيالة أصبح دائناً للمستفيد الذي خصمت له الورقة بعقد القرض، ومن حقّ الدائن المطالبة بالوفاء في نفس المكان، فإغراؤه بإسقاط هذا الشرط لكي يحوِّل على دينٍ في مكانٍ آخر يمكن أن يتمّ بفرض جعالةٍ له

١٥٦

على إسقاط هذا الشرط الذي يتيح للخاصم أن يحيله حينئذٍ على الدين الذي تمثّله الكمبيالة والذي يدفع في مكانٍ آخر.

وعلى هذا الأساس فإذا أردنا أن نلغي من عملية خصم الكمبيالة، التي تقع فعلاً، ما ينافي الشريعة الإسلامية منه، فيجب أن نلغي ما يخصمه البنك من قيمة الكمبيالة، إلاّ ما كان منه لقاءَ خدمته ولقاءَ تنازله عن مكانٍ معيّن، ونستبدل الخصم الذي ألغيناه بأسلوبَي القرض المماثل والحَبوة.

ولكنّ هذا البديل لا يكفي لوقاية البنك ؛ لأنّ البنك إذا أمكنه أن يشترط على من يتقدّم إليه طالباً خصم الكمبيالة تقديم قرضٍ مماثلٍ قد يتحوّل بعد ذلك إلى حَبوة، فليس بإمكانه أن يتّخذ نفس الأسلوب تجاه محرّر الكمبيالة الذي أصبح مديناً للبنك بموجب حوالةٍ ضمنيّةٍ من المستفيد للبنك عليه ؛ لأنّه لم ينشأ بين البنك وبين محرّر الكمبيالة أيّ عقدٍ لكي يفرض عليه في ذلك العقد شروطه.

ولهذا أرى أن يطوّر تكييف عملية الخصم من الناحية الفقهية، فبينما كانت في شرحنا المتقدّم متألّفةً من عناصر ثلاثة، وهي: القرض، والحوالة، والتعهّد، يمكن أن تكيَّف على أساسٍ آخر، فيفرض فيها قرض يتمثّل في المبلغ الذي يتسلّمه المستفيد من البنك عند خصمه للكمبيالة، وتوكيل من المستفيد للبنك في تحصيل قيمة الكمبيالة من محرّرها عند حلول موعدها، واقتطاع قيمة الدين الذي حصل عليه المستفيد فعلاً من قيمة الكمبيالة، ومن حقّ البنك أن يأخذ من قيمة الكمبيالة ما يساوي أجرة المثل على كتابة الدين وما تتطلّبه من نفقات وعلى تحصيل الدين الذي تمثّله الكمبيالة من محرّرها.

وبناءً على هذا التكييف لعمليات الخصم يظلّ محرّر الكمبيالة مديناً للمستفيد الذي خصم تلك الورقة، لا للبنك وإنّما البنك دائن للمستفيد ووكيل عنه

١٥٧

في قبض قيمة الكمبيالة عند موعد حلولها، وحينئذٍ يستعمل البنك مع المستفيد الذي خصم الورقة له أسلوبَ اشتراط القرض المماثل الذي قد يتحوّل حين الدفع إلى حبوةٍ وفقاً لما تقدّم شرحه في أطروحة البنك اللاربوي.

تكييف خصم الكمبيالة على أساس البيع:

وهناك اتّجاه فقهيّ إلى تكييف عملية خصم الكمبيالة على أساس البيع ؛ وذلك بافتراض أنّ المستفيد الذي تقدّم إلى البنك طالباً خصم الورقة يبيع الدين الذي تمثّله الورقة، وهو مثلاً (١٠٠) دينارٍ ب - (٩٥) ديناراً حاضراً، فيملك البنك بموجب هذا البيع الدَين الذي كان المستفيد يملكه في ذمّة محرّر الكمبيالة لقاءَ الثمن الذي يدفعه فعلاً إليه، فيكون من بيع الدين بأقلّ منه.

وعلى أساس هذا التكييف لعملية الخصم يتّجه كثير من الفقهاء إلى جوازه شرعاً ؛ لأنّ بيع الدين بأقلّ منه جائز شرعاً إذا لم يكن الدين من الذهب أو الفضة، أو مكيل أو موزون آخر. ونظراً إلى أنّ الدين المباع بأقلّ منه بعمليات الخصم ليس من الذهب والفضة، وإنّما هو دين بأوراقٍ نقديةٍ، فيجوز بيعها بأقلّ منها. وإذا أمكن تخريج الخصم على أساس البيع فيمكن تخريج مسؤولية المستفيد عن وفاء الدين أمام البنك عند عدم وفاء محرّر الكمبيالة، على أساس أنّ المستفيد إلى جانب بيعه للدين متعهّد بوفائه أيضاً، أو على أساس أنّ البنك اشترط عليه في عقد شراء الدين منه أن يوفيه عند حلوله إذا طالبه البنك بذلك.

والأساس الأوّل - أي التعهّد - يجعل المستفيد مسؤولاً عن وفاء الدين عند تخلّف المدين عن تسديده للبنك.

والأساس الثاني - أي الشرط - يمكن أن يجعل المستفيد ملزماً بوفاء

١٥٨

الدين ؛ حتى إذا رجع البنك إليه ابتداءً وطالبه بذلك قبل أن يتبيّن تخلّف المدين عن وفاء الدين. ولكنّ أصل تخريج خصم الكمبيالة على أساس بيع الدين بأقلّ منه موضع بحث ؛ لأنّ هذا المبلغ وإن لم يكن ربوياً ؛ لأنّ الدين المبيع ليس من الذهب والفضة، ولكن هناك روايات خاصّة دلّت على أنّ الدائن إذا باع دينه بأقلّ منه فلا يستحقّ المشتري من المدين إلاّ بقدر ما دفع إلى البائع، ويعتبر الزائد ساقطاً من ذمّة المدين رأساً. وهذا يعني أنّ البنك - إذا فسّرنا عملية الخصم لديه بأنّها شراء للدين بأقلّ منه - لا يستحقّ على المدين إلاّ بمقدار ما دفع، ويعتبر تنازل الدائن عن الزائد لصالح المدين دائماً لا لصالح المشتري وإن قصد الدائن ذلك.

فمن تلك الروايات: خبر أبي حمزة، عن الإمام محمد بن علي الباقرعليه‌السلام قال: سألته عن الرجل كان له على رجلٍ دَين فجاءَه فاشتراه منه بعوض، ثمّ انطلق إلى الذي عليه الدين فقال: أعطني ما لفلان عليك فإنّي قد اشتريته منه، كيف يكون القضاء في ذلك ؟ فقال الإمام: (يردّ الرجل الذي عليه الدين ماله الذي اشترى به من الرجل الذي له الدين)(١) .

وخبر محمد بن الفضيل، قال: قلت لعلّي بن موسى الرضاعليه‌السلام : رجل اشترى ديناً على رجلٍ ثمّ ذهب إلى صاحب الدين فقال له: ادفع إليّ ما لفلان عليك فقد اشتريت منه، قال الإمامعليه‌السلام : (يدفع إليه قيمة ما دفع إلى صاحب الدين، وبرئ الذي عليه المال من جميع ما بقي عليه)(٢) .

____________________

(١) وسائل الشيعة ١٨: ٣٤٧، الباب ١٥ من أبواب الدين والقرض، الحديث ٢.

(٢) المصدر السابق: ٣٤٨، الحديث ٣.

١٥٩

لا أنسجم نفسياً ولا فقهياً مع الأخذ بالرأي المعاكس، ولا أجد في نفسي وحدْسي الفقهي ما يبرِّر لي بوضوحٍ ترك هاتين الروايتين والأخذ برأي يناقضهما.

وعلى هذا الضوء فليس بإمكان البنك اللاربوي أن يمارس عملية خصم الكمبيالة على أساس شراء الدين بأقلّ منه ثمّ يستأثر بالمقدار المخصوم لنفسه ؛ لأنّ بيع الدين بأقلّ منه ينتج دائماً بموجب الروايات المتقدّمة سقوط الزائد من ذمّة المدين وبراءَتها منه.

١٦٠

القسم الثالث من وظائف البنك:

الاستثمار

ويقصد بالاستثمار توظيف البنك لجزءٍ من أمواله الخاصّة أو الأموال المودَعة لديه في شراء الأوراق المالية، والتي تكون غالباً على شكل سنداتٍ توخّياً للربح وحفاظاً على درجةٍ من السيولة التي تتمتّع بها تلك الأوراق المالية ؛ لإمكان تحويلها السريع إلى نقودٍ في أكثر الأحيان.

واتّجار البنك بالسندات يعتبر من الناحية الفقهية كاتّجار أيّ شخصٍ آخر بشراء وبيع تلك السندات.

وتُميِّز البنوك من الناحية الفنية بين الاستثمارات والقروض بعدّة اعتبارات:

منها: أنّ القرض يقوم غالباً على استعمال الأموال لفترةٍ قصيرةٍ نسبياً، خلافاً للاستثمارات التي تؤدّي إلى استعمالٍ للأموال في آمادٍ أطول وإن كان العكس قد يصدق أحياناً.

ومنها: اختلاف دور البنك ومركزه في الاستثمار والقرض، ففي الاستثمار هو الذي يبدأ المعاملة ويدخل السوق عارضاً المال ليوظّف في فترةٍ طويلة، وفي القرض يكون الابتداء من العميل المقترض. كما أنّ دور البنك في القرض دور رئيسي ؛ لأنّه أهمّ المقرِضين، بينما دوره في الاستثمار ليس بتلك الدرجة ؛ لأنّه

١٦١

يدخل إلى سوق الأوراق المالية كواحدٍ من المستثمِرين.

وهذه تَميّزات من وجهة النظر الفنّية.

وأمّا من وجهة النظر الفقهية فيمكن تكييف تعاطي السندات على أساسين:

الأوّل: أن نفسّر العملية على أساس عقد القرض، فالجهة التي تصدّر السند بقيمةٍ اسميةٍ نفرضها (١٠٠٠) دينار، وتبيع السند ب- (٩٥٠) ديناراً مؤجّلاً إلى سنةٍ هي في الواقع تمارس عملية اقتراض، أي أنّها تقترض (٩٥٠) ديناراً من الشخص الذي يتقدّم لشراء السند، وتدفع إليه دَينَه في نهاية المدّة المقررة، وتعتبر الزيادة المدفوعة وهي (٥٠) ديناراً في المثال الذي فرضناه فائدةً ربويةً على القرض.

الثاني: أن نفسّر العملية على أساس عقد البيع والشراء بأجل، فالجهة التي تصدّر السند في المثال السابق تبيع (١٠٠٠) دينارٍ مؤجّل الدفع إلى سنةٍ ب- (٩٥٠) ديناراً حاضراً، ولا بأس أن يختلف الثمن عن المثمن في عقد البيع ويزيد عليه، ولو كانا من جنسٍ واحدٍ ما لم يكن هذا الجنس الواحد مكيلاً أو موزوناً.

والواقع أنّ تفسير العملية على أساس بيعٍ ليس إلاّ مجرّد تغطيةٍ لفظيةٍ للعملية التي لا يمكن إخفاء طبيعتها بوصفها قرضاً مهما اتّخذت من تعبير ؛ لأنّ العنصر الأساسيّ في القرض هو أن يملك شخص مالاً من شخصٍ آخر وتصبح ذمّته مثقلةً بمثله له، وهذا هو تماماً ما يقع في عمليات شراء السندات، أو تمليك الجهة المصدّرة للسندات (٩٥٠) ديناراً حاضراً وتصبح ذمّتها مثقلةً بالمبلغ مع زيادة.

فالعملية إذن عملية إقراض من البنك، ولا تختلف من الناحية الفقهية عن إقراض البنك لأيّ عميلٍ من عملائه الذين يتقدمون إليه بطلب قروض، والزيادة التي يحصل عليها البنك نتيجةً للفرق بين القيمة الاسمية للسند وقيمته المدفوعة

١٦٢

فعلاً من قبل البنك هي رباً، وحكمها حكم سائر الفوائد التي يتقاضاها البنك على قروضه. وعلى هذا فإنّ البنك اللاربوي لا يتعاطى هذه العملية الربوية إلاّ بالنسبة إلى سنداتٍ تصدّرها الحكومة أو جهة من الجهات التي يسمح البنك اللاربوي لنفسه أن يأخذ الفائدة منها، وفقاً للنقطة الرابعة من المعالم الرئيسية لسياسة البنك اللاربوي التي تقدّمت في الفصل الأوّل.

فالبنك اللاربوي يمكنه أن يوظّف جزءاً من أمواله في شراء الأوراق المالية إذا كانت تمثّل سنداتٍ حكوميةً أو سنداتٍ مصدّرةً من جهةٍ أخرى يجوز أخذ الفائدة منها للبنك اللاربوي، ولا يمكنه أن يتعاطى بيع وشراء السندات خارج نطاق هذه الحدود.

١٦٣

١٦٤

الملاحق الفقهية

١٦٥

١٦٦

الملحق (١)

[ مناقشة التخريجات التي تحوّل الفائدة إلى كسب محلّل ]

يعالج هذا الملحق - على مستوىً موسّعٍ من الناحية الفقهية - التخريجات المتعدّدة التي تستهدف تحويل الفائدة إلى كسبٍ محلّلٍ وتطويرها بشكلٍ مشروع، مع مناقشة تلك التخريجات.

لاحظنا في وضع سياسة البنك اللاربوي تجاه الفوائد الربوية على القروض أن تصاغ بشكلٍ يميّزها بقدر الإمكان نصّاً وروحاً عن فكرة الربا المحرَّم في الإسلام.

وأمّا إذا قطعنا النظر عن هذه الملاحظة فهناك تخريجات فقهية متعدّدة يمكن تصويرها بصدد محاولة تحويل الفائدة إلى وجهٍ مشروع. ولكي يستكمل البحث عناصره الفقهية نذكر في ما يلي أهمّ ما يمكن أن يقال أو قيل فعلاً من هذه التخريجات مع مناقشتها:

[ التخريج الأوّل:]

إنّه في القرض يتمثّل عنصران: أحدهما المال المقترَض من الدائن للمدين، والآخر نفس الإقراض بما هو عمل يصدر من المقرض. والربا: هو وضع زيادةٍ

١٦٧

بإزاء المال المقترَض. فالفائدة حيث توضع في مقابل المال المقترَض تصبح رباً محرَّماً، ولكنّها إذا فرضت بإزاء نفس الإقراض بما هو عمل يصدر من الدائن على أساس الجُعالة تخرج بذلك عن كونها رباً.

فالشخص الذي يحاول أن يحصل على قرضٍ يقوم بإنشاء جُعالةٍ يعيّن فيها جُعلاً معيّناً على الإقراض، فيقول: من أقرضني ديناراً فله درهم. وهذه الجعالة تُغري مالك الدينار فيتقدم إليه ويقرضه ديناراً، وحينئذ يستحق عليه الدرهم، وهذا الاستحقاق لا يجعل القرض ربوياً ؛ لأنّه بموجب عقد القرض، بل هو استحقاق بموجب الجعالة.

ولهذا لو فرض أنّ الجعالة انكشف بطلانها بوجهٍ من الوجوه ينتفي بذلك استحقاق المقرِض للدرهم وإن كان عقد القرض ثابتاً ؛ لأنّ استحقاق الدرهم نتج عن الجعالة، لا عن عقد القرض. والدرهم في الجعالة موضوع بإزاء الإقراض بما هو عمل، لا بإزاء المبلغ المقترَض بما هو مال.

فهذا نظير من يجعل جعالةً لمن يبيع بيته، فلو قال شخص: من باعني داره كان له درهم، كان البائع مستحقّاً للدرهم لا بموجب عقد البيع، بل بموجب الجعالة، وهو بإزاء نفس البيع والتمليك بعوضٍ بما هو عمل، لا بإزاء الدار المبيعة. ولهذا لا يسري على الدرهم حكم العوضين.

والكلام حول هذا التقريب من جهتين: الأولى من جهة الصغرى. والثانية من جهة الكبرى.

أمّا من جهة الصغرى فقد فرض في هذا التقريب أنّ الدرهم موضوع بإزاء نفس عملية الإقراض، لا على المال المقترَض، ولكن يمكن أن يقال بهذا الصدد: إنّ الارتكاز العقلائي قائم على كون الدرهم في مقابل المال المقترَض، لا في

١٦٨

مقابل نفس الإقراض، وجعله بإزاء عملية الإقراض مجرّد لفظ.

وعليه فلا نتصور الجعالة في ذلك ؛ لأنّ الجعالة فرض شيءٍ على عمل لا على مال. وبعد إرجاع الدرهم في محلّ الكلام بالارتكاز العقلائي إلى كونه مجعولاً في مقابل المال لا تكون هناك جعالة، بل يكون الدرهم ربوياً ؛ لأنّه زيادة على المال المقترَض.

وأمّا من جهة الكبرى بمعنى أنّا لو افترضنا أنّ المتعاملَين - الدائن والمدين - تحرّرا من ذلك الارتكاز العقلائي واتّجهت إرادة المدين حقيقةً إلى جعل الدرهم بإزاء نفس عملية الإقراض فهل هذه الجعالة صحيحة أو لا ؟

ولكي نعرف جواب ذلك لا بدّ أن نعرف حقيقة الجُعالة، فإنّه يمكن القول فيها: إنّ استحقاق الجعل المحدّد في الجعالة ليس في الحقيقة إلاّ بملاك ضمان عمل الغير بأمره به لا على وجه التبرّع، فأنت حين تأمر الخيَّاط الخاصّ بأن يخيط لك الثوب فيتمثل لأمرك تضمن قيمة عمله وتشتغل ذمّتك باُجرة المثل. وهذا نحوٌ من ضمان الغرامة في الأعمال على حدِّ ضمان الغرامة في الأموال، وبإمكانك في هذه الحالة أن تحوِّل أجرة المثل منذ البدء إلى مقدارٍ محدّد، فنقول: من خاط الثوب فله درهم، أو إذا خِطْتَ الثوب فلك درهم، فيكون الضمان بمقدار ما حدّد في هذا الجعل، ويسمّى هذا جعالة.

فالجعالة بحسب الارتكاز العقلائيّ تنحلّ إلى جزأين: أحدهما الأمر الخاصّ أو العام بالعمل، أي بالخياطة مثلاً. والآخر تعيين مبلغٍ معيّنٍ بإزاء ذلك.

والجزء الأوّل من الجعالة هو ملاك الضمان، والضمان هنا من قبيل ضمان الغرامة، لا الضمان المعاوضي.

والجزء الثاني يحدّد قيمة العمل المضمونة بضمان الغرامة، حيث إنّ أجرة

١٦٩

المثل هي الأصل في الضمان ما لم يحصل الاتفاق على الضمان بغيرها.

وإذا تحقّق هذا فيترتّب عليه أنّ الجعالة لا تُتَصوّر إلاّ على عملٍ تكون له أجرة المثل في نفسه وقابل للضمان بالأمر به، كالخياطة والحلاقة. وأمّا ما لا ضمان له في نفسه ولا تشمله أدلّة ضمان الغرامة فلا تصحّ الجعالة بشأنه ؛ لأنّ فرض الجعل في الجعالة ليس هو الذي ينشئ أصل الضمان، وإنّما يحدّد مقداره.

وعلى هذا الأساس لا تصحّ الجعالة على الإقراض بما هو عمل ؛ لأنّ مالية الإقراض في نظر العقلاء إنّما هي مالية المال المقترض، وليس لنفس العمل بما هو مالية زائدة. ومع فرض كون مالية المال المقترَض مضمونةً بالقرض فلا يتصوّر عقلائياً ضمان آخر لمالية نفس عملية الإقراض.

وبتعبيرٍ واضح ليس عندنا في نظر العقلاء إلاّ ماليَّة واحدة، وهي مالية المال المقترض، وتضاف إلى نفس عملية الإقراض باعتبار ذلك المال، فليس هناك إلاّ ضمان غرامةٍ واحد، ولا يتصوّر في الارتكاز العقلائي ضمانان من ضمانات الغرامة: أحدهما للعمل، والآخر للمال المقترض، والمفروض أنّ المال المقترَض مضمون بعقد القرض، والضمان الحاصل بعقد القرض هو من نوع ضمان الغرامة، وليس ضماناً معاوضياً، ومعه فلا مجال لفرض ضمان غرامةٍ آخر لنفس عملية الإقراض.

وبناءً على ذلك لا تصحّ الجُعالة على الإقراض ؛ لأنّ الجُعالة دائماً تقع في طول شمول أدلّة ضمان الغرامة للعمل المفروض له الجعل، ففي موردٍ لا تشمله أدلّة ضمان الغرامة ولا يكون العمل فيه مضموناً بالأمر على الآمر لا تصحّ فيه الجعالة.

١٧٠

[ التخريج الثاني: ]

إنّ الفائدة إنّما تحرم بوصفها تؤدّي إلى ربويَّة القرض، والقرض الربويّ حرام. وأمّا إذا حوّلنا العملية من قرضٍ إلى شيءٍ آخر فلا تكون الفائدة رباً قرضياً، وتصبح بالتالي جائزة. وأمّا تحويل العملية من قرضٍ إلى شيءٍ آخر فيتمّ إذا استطعنا أن نميِّز بين الحالتين التاليتين:

الأولى : إذا افترضنا أنّ زيداً مَدينٌ لخالد بعشرة دنانير ومطالب بوفائها فيأتي إلى البنك ويقترض عشرة دنانير ويسدّد بها دَيْنه.

الثانية : أنّ زيداً في الفرض السابق يتّصل بالبنك ويأمره بتسديد دَيْنه ودفع عشرة دنانير إلى خالد وفاءً لِما لَه في ذمّته.

والنتيجة واحدة في الحالتين، وهي أنّ زيداً سوف تبرأ ذمّته من دين خالد عليه، وسوف يصبح مديناً للبنك بعشرة دنانير، ولكنّ الفارق الفقهي بين الحالتين أنّ زيداً في الحالة الأولى يمتلك من البنك عشرة دنانير معيّنةً على أن يصبح مديناً بقيمتها، وهذا هو معنى القرض، فإنّه تمليك على وجه الضمان. وأمّا في الحالة الثانية فزيد لا يمتلك شيئاً، وإنّما تشتغل ذمّته ابتداءً بعشرة دنانير للبنك من حين قيام البنك بتسديد دينه. واشتغال ذمّته بذلك قائم على أساس أنّ البنك بوفائه من ماله الخاصّ لدَين زيدٍ قد أتلف على نفسه هذا المال، ولمّا كان هذا الإتلاف بأمرٍ من زيدٍ فيضمن زيد قيمة التالف، فالعشرة التي دفعها البنك إلى دائن زيدٍ لم تدخل في ملكية زيد، وإنّما هي ملك البنك ودخلت في ملكية دائن زيدٍ رأساً ؛ لأنّ وفاء دين شخصٍ بمال شخصٍ آخر أمر معقول، كما حقّقناه في محلّه، وهذا معناه أنّه لم يقع قرض في الحالة الثانية، وإنّما وقع أمر بإتلافٍ على وجه الضمان. فلو التزم

١٧١

زيد للبنك حين إصدار الأمر له بالوفاء بأن يعطيه أكثر من قيمة الدين إذا امتثل الأمر لم تكن هذه الزيادة الملتزم بها موجبةً لوقوع قرضٍ ربوي ؛ لأنّ الضمان ليس ضماناً قرضياً، وإنّما هو ضمان بسبب الأمر بالإتلاف.

وبتعبيرٍ آخر: أنّ الربا المحرّم إنّما يكون في المعاملة كعقد القرض أو البيع أو الصلح ونحو ذلك، وأمّا ضمان الغرامة بقانون الأمر بالإتلاف فهو لا يستبطن تمليكاً معاملياً فلا يجري فيه الربا المحرّم، فلا يكون فرض زيدٍ في هذه الحالة فائدةً للبنك من الفائدة القرضية المحرّمة.

ويمكن المناقشة في هذا التقريب بأمرين:

الأوّل : أنّ الدليل الدالّ على حرمة إلزام الدائن مدينَه بزيادةٍ على الدين الذي حصل بالقرض يدلّ عرفاً - وبإلغاء الخصوصية بالارتكاز العرفي - على حرمة إلزام الدائن مدينَه بالزيادة فيما إذا كان الدين حاصلاً لا بسبب القرض، بل بسبب الأمر بالإتلاف، كما في المقام بحسب الفرض ؛ لأنّ التفرقة بين الحالتين تعني أنّ المدين إذا أصبح مديناً في مقابل تملّك شيءٍ بالقرض فلا يجوز إلزامه بالزيادة، وإذا أصبح مديناً لا في مقابل تملّك شيءٍ فيجوز إلزامه بالزيادة، فكأنّ تملّك شيءٍ له دخل في الإرفاق به وتحريم إلزامه بالزيادة، وهذا على خلاف الارتكاز العرفي، وعليه فتثبت حرمة الإلزام بالزيادة في الحالة الثانية أيضاً.

الثاني : أنّا إذا سلّمنا عدم حرمة الإلزام بالزيادة في الحالة الثانية لعدم كونها زيادةً في عقد القرض فلا بدّ من سببٍ معامليّ يجعل المدين ملزماً بدفع الزيادة، والمفروض عدم وجود عقد القرض لكي يُشترط على المدين في ضمن ذلك العقد دفع الزيادة.

وقد يراد تصوير هذا السبب عن طريق جُعالةٍ يجعلها زيد فيقول للبنك: إذا

١٧٢

سددت ديني البالغ عشرة دنانير فلك دينار، فيستحقّ البنك حينئذٍ عشرة دنانير بقانون ضمان الغرامة، وديناراً بقانون الجُعالة بإزاء عمله وهو تسديد الدين، وهذه الجعالة تختلف عن الجعالة التي مرّت بنا في الوجه السابق ؛ لأنّ تلك جعالة على عملية الإقراض، أي بإزاء التمليك على وجه الضمان. وأمّا هذه فليست جعالةً على التمليك ؛ لِمَا تقدّم من أنّه لا يوجد تمليك من البنك لزيدٍ في الحالة الثانية التي ندرسها الآن، وإنّما هي جعالة على تسديد البنك لدين زيدٍ على أساس أنّ هذا التسديد عمل محترم يمكن فرض جعالةٍ له.

ولكن بالرغم من هذا فإنّ هذه الجعالة تواجه نفس الاعتراض الذي أثرناه على الجعالة المتقدّمة في التقريب السابق ؛ لأنّ تسديد البنك لدين زيدٍ ليس له ماليَّةٌ إضافية وراء مالية نفس المال الذي يسدّده لخالد بعنوان الوفاء. والمفروض أنّ هذا المال المسدَّد مضمون فلا يتحمّل المورد ضماناً آخر لنفس عملية التسديد. وإذا لم يُتصوّر الضمان لم تصحَّ الجعالة ؛ لِمَا تقدّم من أنّها لا تنشئ الضمان، وإنّما تحدِّده في الجعل المعيَّن.

نعم، إذا افترضنا أنّ تسديد البنك لدين زيدٍ كانت له قيمة مالية زيادةً على القيمة المالية للمال المسدَّد جاء فيه ضمان الغرامة، وبالتالي صحَّت الجعالة فيه، وذلك كما إذا كان تسديد البنك لدين زيدٍ يتمثّل في جهدٍ زائدٍ على مجرّد دفع المال إلى دائن زيد، وذلك حين يكون دائن زيدٍ في بلدٍ آخر مثلاً ويأمر زيدٌ البنكَ بإرسال مبلغٍ من المال إلى ذلك البلد ودفعه إلى دائنه، فإنّ ممارسة البنك لهذه العملية لها قيمة مالية زائدة على القيمة المالية لنفس المال المدفوع، وهذه القيمة المالية الزائدة مضمونة على زيدٍ بسبب أمره للبنك بتسديد دينه وتحويله إلى دائنه، وفي مثل هذه الحالة يمكن لزيدٍ أن يقوم بجعالةٍ معيّنةٍ فيجعل للبنك جعلاً خاصّاً على عملية التحويل والتسديد.

١٧٣

[ التخريج الثالث: ]

وهنا تقريب يختصّ ببعض القروض، وهي ما كان من قبيل القروض التي تدفع إلى المدين خارج البلاد. فمثلاً: قد يتقدّم شخص إلى البنك في بغداد طالباً منه أن يزوِّده بخطابٍ إلى وكيله في الهند يأمره فيه بإقراضه مبلغاً معيّناً من المال، فيزوّده البنك بهذا الخطاب، ثمّ يقدِّمه الشخص إلى الوكيل في الهند ويقترض بموجبه المبلغ المحدَّد. وعقد القرض هنا وقع في هذا المثال في الهند.

ومن حقّ المقِرض - بمقتضى إطلاق عقد القرض - إلزام المقترِض بالوفاء في نفس مكان القرض ؛ لأنّ مكان وقوع القرض هو الأصل في مكان الوفاء بمقتضى الإطلاق. وعليه فيكون من حقّ البنك أن يطالب مدينَه بالوفاء في نفس المكان الذي تَمَّ في إقراضه عن طريق وكيله في الهند، غير أنّ المدين غير مستعدٍّ لذلك، فإنّه يريد الوفاء في العراق حالة رجوعه من سفره، لا في الهند، فيمكن للبنك في هذه الحالة أن يطالب بمقدار الفائدة لا بإزاء المال المقترض، بل بإزاء تنازله عن الوفاء في ذلك المكان المعيّن. وليس هذا رباً ؛ لأنّ البنك في الواقع قد أقدم على الإقراض مستعدّاً لقبول نفس المبلغ إذا دفع له في نفس المكان، وإنّما يطالب بالزيادة لقاء تنازله عن المكان، فيكون المقترض بين أمرين: فإمَّا أن يقتصر على دفع نفس المبلغ على أن يدفعه في نفس المكان الذي وقع فيه القرض، وإمَّا أن يدفع زيادةً عليه لقاءَ إسقاط الدائن حقّه في الوفاء في المكان المعيّن. وسوف يختار المقترض الأمر الثاني.

وفي الواقع أنّ هذا الوجه هو الذي جوّزنا للبنك على أساسه أن يأخذ عمولةً على التحويل، كما يأتي مفصَّلاً. ولكن لا يمكن استخدام البنك اللاربوي

١٧٤

لهذا الوجه لكي يطالب بكامل مقدار الفائدة الربوية بإزاء إسقاط حقّ المكان إلاّ بأن ينقلب القرض ربوياً ؛ وذلك لأنّه إمّا أن يوافق على تسلّم نفس المبلغ دون زيادةٍ إذا دفع إليه في مكان القرض، وإمّا أن يرفض تسلّم المبلغ بدون زيادةٍ ولو دفع إليه في ذلك المكان. فإن كان يرفض تَحَوَّل القرض بذلك إلى قرضٍ ربوي، وإن كان يوافق فبإمكان المدين حين يحلّ أجَل دَينِه وهو في العراق وتتوفّر لديه قيمة الدين الذي اقترضه أن يتّصل ببنكٍ آخر من البنوك الأخرى الربوية، ويطلب منه تحويل قيمة الدين إلى مكان القرض - أي الهند في المثال المتقدّم - ولا تطلب منه البنوك الربوية حينئذٍ إلاّ أجرة زهيدةً على التحويل ؛ لأنّه سوف يدفع القيمة إليها نقداً.

[ التخريج الرابع: ]

ما هو شائع في بعض الأوساط الفقهية من إمكان تحويل القرض إلى بيع فيخرج بذلك عن كونه ربوياً ما دام النقد من الأوراق النقدية التي لا تمثّل ذهباً ولا فضةً، ولا تدخل في المكيل أو الموزون، فبدلاً عن أن يقرض البنك ثمانية دنانير بعشرةٍ فيكون قرضاً ربوياً، يبيع البنك ثمانية دنانير بعشرةٍ مؤجّلةٍ إلى شهرين مثلاً، والثمن هنا وإن زاد على المثمن مع وحدة الجنس ولكنّ ذلك لا يحقّق الربا المحرَّم في البيع ما لم يكن العوضان من المكيل أو الموزون. والدينار الورقي ليس مكيلاً ولا موزوناً، فيتوصّل البنك بهذا الطريق إلى نتيجة القرض الربوي عن طريق البيع.

وقد يقال: إنّ هذا لا يحقّق كلّ مكاسب القرض الربوي المحرَّم ؛ لأنّ الشخص الذي أخذ ثمانية دنانير مع تأجيل الوفاء إلى شهرين مثلاً لو كان أخذها

١٧٥

على أساس القرض الربوي فبإمكان البنك المقرِض على هذا الأساس أن يلزمه بفائدةٍ جديدةٍ فيما إذا تأخّر عن الدفع بعد شهرين. وأمّا إذا كان قد أخذها على أساس الشراء بمعنى أنّه اشترى ثمانية دنانير بعشرةٍ مؤجّلةٍ إلى شهرين، فليس للبنك أن يطالبه إلاّ بالثمن المحدَّد في عقد البيع والشراء - وهو عشرة - حتى لو تأخّر عن الدفع بعد شهرين. ولو طالبه بفائدةٍ على التأخّر كان ذلك فائدةً على إبقاء الدين، ويعود حينئذٍ محذور الربا المحرَّم.

ولكن بالإمكان التخلّص من ذلك: بأن يشترط بائع الثمانية بعشرةٍ على المشتري في عقد البيع أن يدفع درهماً مثلاً في كلّ شهرٍ يتأخّر فيه المشتري عن دفع الثمن المقرّر من حين حلول أجله، ولا يكون هذا رباً، فإنّ إلزام المدين هنا بدفع الدرهم يكون بحكم البيع، لا بحكم عقد القرض، وليس في مقابل الأجل، فكما كان يمكن للبائع أن يشترط على المشتري أن يهب له درهماً في كلِّ شهرٍ إلى سنةٍ ويكون المشتري ملزماً حينئذٍ بذلك كذلك له أن يشترط عليه أن يدفع له درهماً في كلّ شهرٍ يتأخّر فيه عن دفع الثمن. فليس الشرط هو شرط أن يكون له درهماً في جميع الشهور التي تسبق دفع الثمن من حين حلول الأجل، وحيث إنّه شرط في عقد البيع فيكون لازماً.

والحاصل: أنّ اشتراط دفع شيءٍ في عقد القرض غير جائز ؛ لأنه يُصيِّر القرض ربوياً. كما أنّ اشتراط كون شيءٍ في مقابل الأجل بنحو شرط النتيجة غير جائز ولو وقع ضمن عقد بيع ؛ لأنّه من اشتراط الربا. وفي المقام: الشرط المدّعى لا هو واقع في عقد القرض ليؤدّي إلى وجود قرضٍ ربوي، ولا هو من اشتراط كون شيءٍ في مقابل الأجل ليكون من اشتراط الربا المحرَّم، فلا مانع من نفوذه.

١٧٦

وبذلك يحصل البنك المقرِض على تمام مكاسب الربا.

والتحقيق: أنّ بيع ثمانية دنانير بعشرةٍ في الذمّة لا يجوز تبعاً للسيّد الأستاذ (دام ظلّه الوارف)(١) ؛ لأنّه في الحقيقة وبحسب الارتكاز العرفي قرض قد ألبس ثوب البيع، فيكون من القرض الربوي المحرَّم.

وليس هذا بتقريب أنّ البيع لا يصدق على مثل هذه المعاملة ؛ لأنّ البيع متقوّم بالمغايرة بين الثمن والمثمن، ولا مغايرة في المقام بينهما ؛ لأنّ الثمن ينطبق على نفس المثمن مع زيادة. فإنّ هذا التقريب يندفع بكفاية المغايرة الناشئة من كون المثمن عيناً خارجيةً والثمن أمراً كلّياً في الذمّة، ومجرّد قابليته للانطباق ضمناً على تلك العين لا ينافي المغايرة المصحِّحة لعنوان البيع، وإلاّ لَلزم البناء على عدم صحة بيع القيمي بجنسه في الذمّة مع الزيادة، كبيع فرسٍ بفرسين في الذمّة، مع أنّ هذا منصوص على جوازه في بعض الروايات(٢) . وهذا يكشف عن المغايرة المقوِّمة لحقيقة البيع يكفي فيها هذا المقدار، فليس الإشكال إذن من جهة عدم تحقّق المغايرة.

بل المهمّ في الإشكال دعوى صدق القرض على هذه المعاملة وإن أنشئت بعنوان البيع، وذلك بتحكيم الارتكاز العرفي إمّا بلحاظ الصغرى، أي تشخيص المراد الجدّي للمتعاملين، فيقال: إنّ المراد المعاملي لهما جدّاً بقرينة الارتكاز هو القرض، وليس الإنشاء بالبيع إلاّ من باب تغيير اللفظ. , وإمّا بلحاظ الكبرى، أي بتوسعة دائرة القرض بحسب الارتكاز العرفي بحيث يشمل هذه المعاملة وإن اُريد بها البيع جدّاً.

____________________

(١) منهاج الصالحين (للسيّد الخوئي) ٢: ٥٤ - ٥٥، المسألة ٢٢٠.

(٢) وسائل الشيعة ١٨: ١٥٣، الباب ١٦ من أبواب الربا، الحديث ٣.

١٧٧

أمّا تحكيم الارتكاز العرفي بلحظ الصغرى وجعله قرينةً على تشخيص المراد الجدّي للمتعاملَين فقد يقال في دفعه: إنّ المقصود بالمراد الجدّي الذي يستكشف بلحاظ الارتكاز إن كان هو الغرض الشخصي للبائع والمشتري من المعاملة، فمن الواضح أنّ مجرّد كون الغرض الشخصي من هذه المعاملة نفس الغرض الشخصي في موارد القرض لا يخرجها عن كونها بيعاً ؛ لأنّ الأغراض الشخصية للمتعاملين ليست مقوّمةً لأنواع المعاملات المختلفة.

وإن كان المقصود بالمراد الجدّي المنشأ جدّاً في المعاملة فمن الواضح أيضاً أنّ الإنشاء الجدّي سهل المؤونة ؛ لأنّه يرجع إلى الاعتبار، ولا معنى لتحكيم ارتكازٍ خارجيّ على اعتبارات المتعاملَين، إذ بإمكان البائع والمشتري أن يُنشئا التمليك بعوضٍ في مقام الجعل والاعتبار بدلاً عن إنشاء التمليك على وجه الضمان.

ودعوى: أنّ التمليك بعوضٍ في مقام بيع ثمانية دنانير بمثلها في الذمّة عين التمليك على وجه الضمان ؛ ولهذا يكون قرضاً، مدفوعة: بأنّ التمليك بعوضٍ يشتمل على جعل الضمان المعاوضي، ولهذا يحصل التمليك والتملّك بنفس العقد في البيع، وأمّا التمليك على وجه الضمان فهو لا يشتمل على الضمان المعاوضي، بل على التمليك بنحوٍ يستتبع جريان قانون ضمان الغرامة بتفصيلٍ لا يسعه المقام. ولهذا كان نفوذ القرض على القبض، ولم يكن عقد القرض مشتملاً على المعاوضة.

وهكذا يتّضح أنّ التمليك بعوضٍ والتمليك على وجه الضمان مجعولان اعتباريان مختلفان، وإن تصادفا بحسب النتيجة في مورد تبديل ثمانية دنانير خارجيةٍ بمثلها في الذمّة.

١٧٨

ولهذا فقد يكون من الأفضل التمسّك بالارتكاز العرفي وتحكيمه بلحاظ الكبرى، بحيث يقال: إنّه لمَّا كان القرض بمقتضى الأصل في الارتكاز العقلائي هو تبديل المال المثليِّ الخارجيِّ بمثله في الذمّة - وتعميمه للقيميات ليس إلاّ بنحوٍ من العناية - فيصدق عرفاً عنوان القرض على المعاملة التي تتكفّل بهذا التبديل ولو كان المنشأ فيها عنوان التمليك بعوض. فالعرف لا يريد من كلمة (القرض) إلاّ المعاملة التي تؤدّي إلى ذلك النحو من التبديل، ومعه يصبح بيع ثمانية دنانير بمثلها في الذمّة قرضاً عرفياً، وتلحقه أحكام القرض التي منها عدم جواز الزيادة.

[ التخريج الخامس: ]

وقد يقال انطلاقاً من فكرة تبديل القرض ببيع: إنّ الدنانير الثمانية في المثال السابق لا تُباع بثمانية دنانير في الذمّة مع زيادة دينارين - أي بعشرةٍ - ليقال: إنّ هذا يعتبر في النظر العرفي قرضاً ؛ لأنّه تبديل للشيء إلى مثله في الذمّة، بل تباع بعملةٍ أخرى تزيد قيمتها على الدنانير الثمانية بحسب أسعار الصرف بمقدار ما تزيد العشرة على الثمانية.

مثلاً: تباع ثمانية دنانير ب- (٢٠٠) تُومان في الذمّة، وحيث إنّ النقود الورقية من هذا القبيل لا يجري عليها أحكام بيع الصرف فلا يجب فيها التقابض في المجلس، بل يجوز أن يكون الثمن مؤجّلاً إلى شهرين، وفي نهاية شهرين يمكن للبائع أن يتقاضى من المشتري (٢٠٠) تومان، أو ما يساوي ذلك من الدنانير العراقية من باب وفاء الدين بغير الجنس.

وهكذا تحصل نفس النتيجة المقصودة لمن يريد أن يقرض قرضاً ربوياً دون قرض.

١٧٩

ولئن قبل في بيع ثمانية دنانير بعشرةٍ: إنّه قرض لكونه تبديلاً للشيء بمثله في الذمّة، فلا يقال هذا في بيع ثمانية دنانير ب- (٢٠٠) تومان ؛ لعدم المماثلة فيكون طابع البيع هو الطابع الوحيد لهذه المعاملة.

ولكنّ هذا إنّما يتمّ فيما إذا لم نَدَّعِ قَرضيَّة هذه المعاملة أيضاً بحسب النظر العرفي بضمّ ارتكاز إلى الارتكاز السابق الذي كان فحواه: أنّ كلّ معاملةٍ مؤدّاها تبديل الشيء بمثله في الذمّة تعتبر قرضاً عرفاً. والارتكاز الجديد الذي لا بدّ من ضمّه هو ارتكاز النظر في باب النقود إلى ماليّتها دون خصوصياتها، وهذا الارتكاز معناه أنّ المنظور إليه عرفاً من بيع ثمانية دنانير بكذا توماناً هو تبديل ماليةٍ بمالية، وحينئذٍ يشمله عنوان القرض بالنحو المقرّر في الارتكاز السابق ؛ إذ يصدق عليه أنّه تبديل للشيء إلى مثله في الذمّة، إذ بعد أن كان المركوز في النظر العرفي ملاحظة المالية فقط في الدنانير والتُوامين التي وقعت مثمناً وثمناً، فلا يبقى تغاير بين الثمن والمثمن إلاّ في كون أحدهما خارجياً والآخر ذمّياً، وهذا معنى تبديل الشيء إلى مثله في الذمّة الذي هو معنى القرض بمعناه الارتكازي الأوسع الذي يشمل بعض البيوع أيضاً.

فهذا التقريب لا يتمّ أيضاً إذا تمّت الارتكازات المشار إليها، وإلاّ أمكن تصحيحه إذا توفّرت الإرادة الجدّية لمبادلة ثمانية دنانير ب- (٢٠٠) تومان ولم تكن التوامين مجرّد ثمن مأخوذٍ في مقام اللفظ، أو في مقام اعتبارٍ غير جدّيّ يغطّي وراءه الثمن الحقيقي الذي هو عشرة دنانير.

[ التخريج السادس: ]

يمكن للبنك أن يعتبر نفسه وكيلاً عن المودِعين في الإقراض من أموالهم، فهو حين يقرض من الودائع التي لديه يحتفظ لهذه الودائع بملكية أصحابها

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273