البنك اللاربوي في الإسلام

البنك اللاربوي في الإسلام21%

البنك اللاربوي في الإسلام مؤلف:
تصنيف: فقه استدلالي
الصفحات: 273

البنك اللاربوي في الإسلام
  • البداية
  • السابق
  • 273 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 36605 / تحميل: 7400
الحجم الحجم الحجم
البنك اللاربوي في الإسلام

البنك اللاربوي في الإسلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

وهذا التحويل المصرفي جائز شرعاً، ويمكن تكييفه فقهياً بأحد الأوجه الأربعة التي تقدّمت لتكييف الحوالات الداخلية مع أخذ عاملٍ واحدٍ للفرق بين الحوالة الداخلية، وهذا التحويل الخارجي بعين الاعتبار، وهو أنّ القيمة التي يملكها الآمر بالتحويل في الحوالات الداخلية على ذمّة البنك وقيمة الدين الذي يريد تسديده لدائنه عن طريق هذا التحويل كلتاهما بالعملة الداخلية. وأمّا هنا فالعميل الطالب للتحويل المصرفي الخارجي له رصيد دائن في البنك يمثّل على الأغلب ديناً له على البنك بالعملة الداخلية، وأمّا الدين الذي يريد العميل تسديده للمصدّر الأجنبي فهو بالعملة الأجنبية.

وعلى هذا الأساس إذا فسّرنا التحويل بأنّه محاولة لتسديد البنك الدَينَ الذي لعميله عليه عن طريق وفاء دين العميل فهو من الوفاء بغير الجنس، ويجوز شرعاً مع رضا الدائن. وإذا فسّرنا التحويل بأنّه حوالة من العميل لدائنه على البنك فهي هنا حوالة على بريء ؛ لأنّ البنك غير مدينٍ بعملةٍ أجنبيةٍ للعميل، بينما هي هناك - في الحوالات الداخلية - تكون حوالةً على مدين.

ويمكن أن تصبح الحوالة هنا حوالةً على مدينٍ أيضاً إذا سبقها عقد بيعٍ وشراء اشترى العميل الطالب للتحويل بموجبه عملةً أجنبيةً في ذمّة البنك بما يعادل قيمتها من العملة الداخلية التي يملكها العميل في ذمّة البنك ويتمثّل فيها رصيده الدائن، فإنّ هذا الشراء يجعل البنك مديناً حينئذٍ للعميل الطالب للتحويل بعملةٍ أجنبية، ويكون تحويل المصدّر الأجنبي عليه من الحوالة على مدين.

كما أنّ بالإمكان أن نفسِّر عملية التحويل المصرفي الخارجي بأنّ البنك في هذه العملية يبيع العميل - في حدود قيمة التحويل - ما يملكه من عملةٍ أجنبيةٍ في ذمّة البنك المراسل في الخارج لقاءَ ما يعادل قيمتها من العملة الأهلية التي يملكها العميل في ذمّته، فيصبح العميل بذلك دائناً للبنك المراسل - بحكم عقد البيع

١٤١

المتقدّم - بقيمة التحويل بالعملة الأجنبية، فيحوِّل عليه دائنه المصدِّر، فيكون التحويل المصرفي الخارجي مزدوجاً من عمليّتين: إحداهما بيع الدين، والأخرى حوالة الدين.

وكلّ ذلك جائز وصحيح شرعاً.

كما أنّ العمولة جائزة شرعاً، ويمكن تخريجها على أساس ما تقدّم من مبرّراتٍ للعمولة في الحوالات الداخلية.

ونضيف إلى ذلك هنا: أنّ التحويل إذا فهمناه على أنّه بيع الدين ثمّ حوالة الدين فبإمكان البنك أن يضيف العمولة إلى الثمن الذي يبيع به العملة الأجنبية على عميله.

الحوالات المصرفية الواردة:

وهي نفس الحوالات المصرفية الصادرة منظوراً إليها من زاوية الفرع أو المراسل الذي سحب بنك المستورد التحويل عليه بناءً على طلب عميله.

وهذه الحوالات المصرفية حين تَرِد إلى الفرع أو المراسل المحوَّل عليه يدفع قيمة التحويل نقداً إلى المستفيد، أو يقيّدها في حسابه الجاري، أو يحوِّلها لحسابه في بنكٍ آخر حسب طلب المستفيد. وكلّ ذلك جائز ما دام بالإمكان تخريج الحوالة المصرفية على أساس الحوالة الفقهية التي يصبح المصدِّر بموجبها دائناً للبنك المراسل الذي ترِده الحوالة بمجرّد قبوله - أي المصدِّر - لها، فيكون بإمكانه أن يتّخذ تجاه دينه الذي يملكه على البنك المراسل أيَّ قرارٍ بحلوله.

وأمّا إذا كانت الحوالة المصرفية مجرّد أمرٍ بالدفع فلا يصبح المصدِّر بذلك مالكاً لقيمة التحويل في ذمّة البنك المراسل الذي ترِده الحوالة ما لم يتسلّم المبلغ، أو يقبضه شخص آخر، أو جهة أخرى - وحتّى البنك نفسه - نيابةً عنه، فلا يمكن

١٤٢

للمصدِّر بدون تسلّم للمبلغ أن يأمر بقيده في الحساب الجاري أو تحويله إلى حسابه في بنكٍ آخر.

الشيكات المصرفية:

كما قد يسحب العميل صاحب الحساب الجاري عند البنك شيكاً عليه، كذلك قد يسحب البنك نفسه شيكاً على مراسله في بلدٍ آخر لمصلحة عميله، فيتقدّم العميل إلى البنك المسحوب عليه الشيك لصرف قيمته، وتخصم قيمة الشيك من حساب البنك الساحب لدى المسحوب عليه.

والعميل المستفيد من الشيك المصرفي إمّا أن يكون له رصيد دائن بالعملة الداخلية، وإمّا أن يكون الشيك المصرفي تسهيلاً مصرفياً له دون غطاء.

ففي الحالة الأولى يمكن تكييف الشيك المصرفي فقهياً بأحد الأوجه التالية:

فهو إمّا تفويض من البنك المدين الساحب للشيك لعميله الدائن لمستفيدٍ من الشيك بأن يتسلّم قيمة الشيك من البنك المراسل كوفاءٍ لِمَا يملكه في ذمّة البنك الساحب ويعتبر من الوفاء بغير الجنس ؛ لأنّه وفاء بعملةٍ أخرى، وهو جائز برضا الدائن.

وإمّا حوالة من البنك الساحب لدائنه المستفيد على البنك المراسل، وتكون هذه الحوالة مسبوقةً ضمناً بعقد بيعٍ يحوِّل فيه المستفيد والبنك دينَهما من العملة الأهلية إلى العملة الأجنبية ؛ لكي يُتاح أن يُحيل المستفيد على البنك المراسل المدين له بالعملة الأجنبية

وإمّا أنّ الشيك يقوم على أساس بيع الدين، بمعنى أنّ البنك يبيع في حدود قيمة الشيك العملة الأجنبية التي يملكها في ذمّة البنك المراسل بما يساوي قيمتها

١٤٣

من العملة الداخلية التي يملكها المستفيد في ذمّته.

وفي الحالة الثانية يعتبر الشيك أمراً من البنك الساحب للبنك المسحوب عليه بإقراض العميل المستفيد قيمةَ الشيك مع ضمان البنك الساحب للقرض، أو أمراً له بدفع قرضٍ للمستفيد من رصيده الدائن لدى البنك المسحوب عليه، أو قائماً على أساس عقد بيع يبيع بموجبه البنك الساحب - في حدود قيمة الشيك - ما يملكه في ذمّة البنك المسحوب عليه من عملةٍ أجنبيةٍ بسعرٍ في ذمّة المستفيد مقدّرٍ بالعملة الداخلية(١) .

وكلّ ذلك جائز شرعاً. وأخذ العمولة جائز شرعاً ؛ لإمكان تخريجه في كلتا الحالتين بشكلٍ من الأشكال.

خطابات الاعتماد الشخصية:

خطابات الاعتماد الشخصية هي خطابات يفوِّض فيها البنك عميله الذي أصدر الخطاب لصالحه بالسحب على حسابه لدى مراسليه الذي يحدّدهم على ظهر تلك الخطابات، وتطالب البنوك في الغالب بكامل قيمة خطابات الاعتماد الشخصية من العملاء عند استصدارها، وتتقاضى عمولةً خاصّةً على الخطاب.

وهذا الخطاب يعتبر من الناحية الفقهية بالنسبة للمستفيد الذي كان له رصيد دائن في ذلك البنك، أو أوجد له رصيداً كذلك عند طلب الحصول على خطاب الاعتماد لتغطية الطلب، إنّ هذا الخطاب بالنسبة إليه يعتبر إمّا توكيلاً لذلك المستفيد الدائن في استيفاء دينه من حساب البنك لدى البنوك المراسلة في

____________________

(١) ويلاحظ هنا أنّه يجب أن لا يكون الثمن مؤجّلاً في عقد البيع ؛ لئلاّ يكون من بيع الدَين بالدَين. ويمكن تأجيله باتّفاقٍ مستقلّ خارج نطاق عقد البيع. (المؤلّف قدس‌سره ).

١٤٤

الخارج، ويعتبر هذا الاستيفاء من الاستيفاء بغير الجنس، وهو جائز شرعاً مع رضا الدائن. وإمّا تفويضاً له بنقل دينه على البنك متى شاء من العملة الداخلية إلى العملة الأجنبية التي تمثّل نفس القيمة، وبقبول التحويل بتلك العملة الأجنبية على أيِّ بنكٍ من البنوك التي يحدِّدها خطاب الاعتماد.

وقد يرغب طالب الحصول على خطاب الاعتماد بأن يكون خطاب الاعتماد بعملةٍ أجنبيةٍ خاصّةٍ كالإسترليني مثلاً ؛ يحدّد سعر صرفها مع العملة الداخلية حين استصدار خطاب الاعتماد ؛ ليتفادى العميل المستفيد من الخطاب خطر الارتفاع في قيمة الإسترليني بالنسبة للعملة الداخلية، ويمكن تفسير ذلك حينئذٍ بأنّه يحتوي على وقوع عقد بيعٍ بالفعل باع البنك بموجبه - في حدود قيمة الخطاب - مقداراً محدَّداً من الإسترليني بما يساوي قيمته فعلاً من العملة الداخلية، وفوّض العميل المستفيدَ من خطاب الاعتماد بقبول الحوالة بذلك المقدار من الإسترليني على أيّ بنكٍ من البنوك المحدّدة في نفس الخطاب.

ويمكن للبنك أن يتقاضى عمولةً على إصدار خطابات الاعتماد الشخصية ؛ وذلك بأحد الأوجه الآتية:

أولاً : إذا كان البنك مديناً للعميل الطالب للحصول على الخطاب - أي أنّ الخطاب كان مغطّى - فهو يأخذ العمولة اتّجاه قبوله بالوفاء في مكانٍ آخر.

ثانياً : إذا كان خطاب الاعتماد غير مغطّىً وكان البنك متّجهاً إلى إقراض قيمة الخطاب لطالب الحصول عليه كتسهيلاتٍ مصرفيةٍ فهو قرض يتمّ في الخارج ؛ لأنّ القرض يتمّ بالقبض ويصبح المستفيد بقبض المبلغ في الخارج مديناً للبنك، ويمكن للبنك إلزام المدين في عقد القرض بأن يقوم بالوفاء في نفس المكان الذي تسلّم فيه المبلغ المقترض.

١٤٥

تسلّم القرض، فيجوز للبنك أن يطالب المستفيد بمالٍ لقاء عدم إلزامه بالوفاء في نفس مكان قبض المبلغ المقترض.

ومن ناحيةٍ أخرى فإنّ المستفيد يعتزم تسديد الدين بغير جنسه ؛ لأنّه سوف يقبض عملةً أجنبيةً ويسدّد دينه للبنك بعد ذلك بعملةٍ داخلية. ويمكن للبنك أن لا يقرّ هذا النوع من الوفاء إلاّ لقاء مبلغٍ معيَّنٍ من المال.

ثالثاً : إذا فسّرنا خطاب الاعتماد بأنّه تفويض للمستفيد بأن يشتري - في حدود قيمة الخطاب - عملةً أجنبيةً من رصيد البنك المصدِّر للخطاب في البنوك الأخرى بعملةٍ داخليةٍ فبإمكان البنك أن يأخذ عمولةً كجُعالةٍ على هذا التفويض(١) .

وعلى أيِّ حالٍ فالتكييفات الفقهية للعمولة كثيرة ونتيجتها واحدة، وهي جواز العمولة شرعاً.

اختلاف أقسام النقود في أحكام الصرف

حتّى الآن كنّا ندرس أحكام الصرف الخارجي ووسائل التأدية المصرفية وعمليات بيع وشراء العملات الأجنبية مع افتراض أنّ النقود نقود ورقية ذات سعرٍ إلزامي ؛ لأنّ أحكام الصرف في الفقه الإسلامي تختلف من نوعٍ من النقود إلى نوعٍ آخر.

وبقي علينا أن ندرس عمليات الصرف إذا كانت النقود من شكلٍ آخر، وذلك بأن نفرض:

____________________

(١) راجع للتوسّع في المناقشة من الناحية العلمية الملحق رقم (١٢) (المؤلّف قدس‌سره ).

١٤٦

أوّلاً : النقود المعدنية الذهبية أو الفضيّة.

ثانياً : النقود الورقية النائبة التي تمثّل جزءاً من رصيدٍ ذهبيّ موجودٍ فعلاً في خزائن الجهة التي تصدِّر تلك الأوراق النائبة.

ثالثاً : النقود الورقية التي تمثِّل تعهّداً من الجهة المصدّرة لتلك الأوراق بصرف قيمتها ذهباً عند الطلب.

رابعاً : النقود الورقية السابقة بعد صدور قانونٍ بإعفائها من صرف قيمة الورقة ذهباً عند الطلب.

القسم الأوّل: النقود الذهبية والفضية:

أمّا القسم الأوّل فيجب أن نعرف أنّه داخل في نطاق التعامل بالذهب والفضّة شرعاً، والتعامل بالذهب والفضّة شرعاً يتوقّف على شرطين لدى مشهور الفقهاء:

الأوّل : المساواة في الكمّية بين الثمن والمثمن عند مبادلة الذهب بالذهب أو الفضّة بالفضّة، فإذا زاد أحدهما على الآخر كان رباً، وهو محرّم بالضرورة. وأمّا إذا كان الثمن والمثمن مختلفين - أي كان أحدهما ذهباً والآخر فضّةً - فلا مانع من زيادة أحدهما على الآخر.

الثاني : أن تُنهى المعاملة بكلّ مراحلها فعلاً، أي أن يتمّ التسليم والتسلّم بين بائع النقد بالنقد والمشتري في مجلس العقد، فإذا افترقا دون أن يقبض كلّ منهما النقد الذي اشتراه اعتبر البيع باطلاً.

وهذا الشرط يعتبره مشهور الفقهاء لازماً في بيع الذهب أو الفضّة بمثلها أو بالنوع الآخر، ولكنّه في رأيي إنّما يلزم في بيع الذهب بالفضة أو الفضة بالذهب، وأمّا في

١٤٧

حالات بيع الذهب بالذهب أو الفضة بالفضة فلا يلزم التقابض في مجلس العقد، ويصحّ البيع بدونه(١)

____________________

(١) لأنّ الروايات والأحاديث التي دلّت على اشتراط القبض جاءت في بيع الذهب والفضة - الدرهم بالدينار(*) - وأمّا بيع الذهب بالذهب أو الفضة بالفضة فلم يرد فيه نصّ يدلّ على وجوب التقابض، وعلى هذا فالأصل عدم اعتبار التقابض فيه تمسّكاً بالعمومات والمطلقات.

فإن قال قائل: نحن نفهم من وجوب التقابض في حالة بيع الذهب بالفضة وجوبه في حالة بيع الذهب بالذهب أيضاً، إذ لا فرق بينهما.

قلنا: بل احتمال الفرق موجود ؛ لأنّه في بيع الذهب بالذهب لا يمكن افتراض زيادة أحد العوضين على الآخر ؛ لأنّ ذلك مخالف للشرط الأوّل. وأمّا في بيع الذهب بالفضة فيمكن افتراض زيادة أحدهما على الآخر، فلو لم يلزم المتعاملان بالتقابض فوراً لأمكن الاتّفاق على تأخير التسليم من أحد الطرفين وتأجيله في مقابل أن يزاد فيه لأجل التأجيل، فلعلّ حرص الشارع على سدّ هذا الباب أوجب أن يشترط التقابض في بيع الذهب بالفضة دون بيع الذهب بالذهب.

نعم، قد يمكن أن يستفاد اشتراط النقد في مقابل النسبة في بيع الذهب أو الفضة بالجنس أيضاً من بعض الروايات الواردة في بيع السيوف المحلاّة بالفضة أو بالنقد (**)، حيث اشتراط في جواز بيعها نسيئة أن ينقد المشتري مثل ما في الفضة. ومقتضى الإطلاق الشمول، إلاّ إذا كان الثمن فضةً أيضاً. غير أنّ التدبّر في تلك الروايات لا يسمح بالاستدلال بها على أكثر من اشتراط النقد في مقابل النسيئة، لا اشتراط القبض في مجلس العقد. وتفصيل الكلام في هذه المسألة موكول إلى محلّه. (المؤلّف قدس‌سره ).

(*) وسائل الشيعة ١٨: ١٦٨- ١٦٩، الباب ٢ من أبواب الصرف، الحديث ٣ و ٧.

(**) وسائل الشيعة ١٨: ١٩٨، الباب ١٥ من أبواب الصرف.

١٤٨

وفي هذا الضوء يكون التعامل بالذهب أو الفضة مرتبطاً بشرطٍ واحد ؛ لأنّ الثمن والمثمن إذا كانا معاً من الذهب أو الفضة فالشرط هو المساواة بينهما، ولا يجب التقابض فوراً. وإذا كان الثمن من ذهبٍ أو فضةٍ والمثمن من النوع الآخر فالشرط هو التقابض فوراً، ولا تجب المساواة في الكمية بين الثمن والمثمن. وعلى هذا الأساس يجب أن يخضع النقد في حالة كونه ذهبياً أو فضّياً لهذا الشرط.

القسم الثاني: الأوراق النائبة عن الذهب.

وإذا كانت النقود أوراقاً نائبةً عن الذهب فالشرط الوحيد المعتبر فيها هو أن لا تزيد ولا تنقص كمّية الذهب التي تمثّلها الورقة المباعة عن كمّية الذهب التي تمثّلها الورقة المشتراة، ولا يعتبر التقابض فوراً في التعامل بهذه الأوراق ؛ لأنّها جميعاً تمثّل الذهب، فالتعامل بها من بيع الذهب بالذهب لا من بيع الذهب بالفضة، وتنفيذ اشتراط المساواة بين الكمّيتين المتبادلتين من الذهب في التعامل بالأوراق النائبة يعني أنّه لا يجوز مواكبة أسعار الصرف لهذه الأوراق التي تتغيّر صعوداً وهبوطاً نتيجةً لعوامل عديدة، وتتولّد عن ذلك صعوبات كثيرة لا مجال للتوسّع الآن في شرحها وتذليلها، ولا أهميّة لذلك ؛ لأنّ النقود الذهبية والفضية المعدنية أو الأوراق النائبة عنها غير موجودةٍ فعلاً على مسرح النقد العالمي.

القسم الثالث: النقود الورقية المتعهّدة:

وأمّا النقود الورقية التي تمثّل تعهّداً من الجهة المصدِّرة بصرف قيمتها ذهباً عند الطلب فيكن تفسيرها على أساسين مختلفين:

الأوّل : أن يكون تعهّد الجهة المصدِّرة لتلك الأوراق بدفع قيمتها ذهباً عند

١٤٩

الطلب مجرّد التزامٍ مستقلّ من تلك الجهة يكسب الورقة قيمةً ماليةً في المجتمع ؛ لثقة أفراده بتلك الجهة وبوفائها بتعهّدها.

الثاني : أن يكون تعهّد الجهة المصدِّرة لتلك الأوراق بدفع قيمتها ذهباً معناه اشتغال ذمّة تلك الجهة بقيمة الورقة من الذهب. وليست الورقة على هذا الضوء إلاّ سنداً ووثيقةً على ذلك الدين، ولا توجد لها قيمة أصلية.

والفرق بين هذين التصوّرين كبير، فإنّه على التصور الأوّل حينما تصدِّر الجهة المصدِّرة للنقد أوراقاً نقديةً وتتعهّد بقيمتها ذهباً وتدفعها كأثمانٍ لسلعٍ أو خدماتٍ فهي في الواقع قد أعطت بذلك سنداً على قيمة تلك السلع أو الخدمات ذهباً في ذمّتها، وبذلك تصبح مدينةً بقيمة الورقة ذهباً لبائع السلعة أو الخدمة، وإذا اشترى هذا البائع بتلك الورقة شيئاً فهو لا يشتري في الواقع بهذه الورقة، بل بالدين الذي يملكه في ذمّة الجهة المصدِّرة لها، وليست الورقة إلاّ سنداً على ذلك الدين، وهذا يعني أنّ النقود الورقية التي تصدِّرها البنوك من هذا القبيل لا تختلف عن السندات العادية في تكييفها القانوني.

وأمّا على التصوّر الثاني فالأمر يختلف ؛ لأنّ الجهة المصدِّرة حينما تدفع تلك الأوراق لتسديد أثمان السلع والخدمات فهي تسدِّد تلك الأثمان بهذه الأوراق حقيقةً، وحين يشتري بائع السلعة بتلك الورقة شيئاً فهو يشتري بالورقة لا بدينٍ يملكه في ذمّة الجهة المصدِّرة، غير أنّ الذي أكسب الورقة قيمتها المالية ثقة أفراد المجتمع بتعهّد البنك المصدِّر بصرف قيمتها ذهباً عند الطلب.

ويختلف الحكم الشرعيّ لهذه الأوراق تبعاً لتكييفها وفقاً لهذا التصوّر أو لذاك. فإذا أخذنا بالتصوّر الأوّل كان معنى التعامل بتلك الأوراق هو التعامل بقيمتها ذهباً في ذمّة الجهة المصدِّرة لتلك الأوراق، أي التعامل في الذهب، فيجب

١٥٠

عندئذٍ أن يتساوى العوضان في عقد البيع، فلا يمكن شراء كمّيةٍ من أوراق البنكنوت(١) التي تمثِّل كمّيةً من الذهب في ذمّة الجهة المصدّرة لها بأوراقٍ نقديةٍ أخرى تمثِّل كمّية أكبر أو أقلّ، وهذا يعني أنّه لا يجوز مواكبة أسعار الصرف لهذه الأوراق التي تتغيّر صعوداً وهبوطاً نتيجةً لعوامل عديدة.

وأمّا إذا أخذنا بالتصوّر الثاني، فهو يعني أنّ التعامل بتلك الأوراق ليس تعاملاً بالذهب، فلا تجري عليه أحكام التعامل بالذهب، ويصبح بالإمكان أن يطَّق عليها في عمليات الصرف نفس ما يطبَّق على الأوراق النقدية الإلزامية.

وممّا يؤيّد تكييف هذه الأوراق المدعَمة بالتعهّد بصرف قيمتها ذهباً على الأساس الثاني لا الأوّل أنّ الأساس الأوّل يفترض كونها سنداً على الدين، ومن الواضح أنّ استهلاك السند أو سقوطه عن الاعتبار لا يعني تلاشي الدين، ونحن نرى أنّ أيَّ شخصٍ تتلاشى لديه الورقة النقدية أو تُسقِط الحكومة اعتبارها ولا يسارع إلى استبدالها بالنقود الجديدة لا تعتبر الجهة المصدِّرة نفسها مسؤولةً أمامه عن دفع قيمة الورقة المتلاشية أو التي سقط اعتبارها وتماهل في استبدالها. فكأنّ هناك تعهّداً بدفع القيمة ذهباً لمن يملك الورقة، لا أنّ الورقة تعطى لمن يملك قيمتها ذهباً في ذمّة الجهة المصدّرة. ولهذا يميِّزها القانون عن سائر الأوراق التجارية من شيكاتٍ وكمبيالات ؛ حيث يمنحها صفة النقد والإلزام بالوفاء بها دون الأوراق الأخرى التي لا تخرج عن كونها مجرّد سندات.

____________________

(١) أوراق البنكنوت ( Banknotes ) عُملة ورقيّة بدأت في أول أمرها كسندات إذنيّة لحاملها تدفع له عند الطلب، ثمّ تحوّلت إلى أوراق مصرفيّة تحت الطلب، تصدرها المصارف المركزيّة وتعلن الدولة من جانبها أنّ هذه الأوراق ذات قوّة إبراء قانونيّة وغير محدودة. الموسوعة الاقتصادية، د. سميع مسعود: ٢٦.(لجنة التحقيق) .

١٥١

القسم الرابع: الأوراق.

وأمّا ما أُعفي بقانونٍ خاصّ من صرف قيمته ذهباً، فتقديره مرتبط بالموقف المتّخذ من القسم السابق. فإذا أخذنا في القسم السابق بالأساس الثاني واعتبرنا حكم الأوراق النقدية المدعَمة بالتعهّد حكم الأوراق النقدية الإلزامية فالقسم الرابع يتّفق معه في الحكم أيضاً، ويصبح حكمها جميعاً هو حكم الأوراق الإلزامية، فلا يجب فيها أن تطبَّق شروط التعامل بالذهب من التساوي بين الثمن والمثمن في عمليات الصرف.

وأمّا إذا أخذنا في القسم السابق بالأساس الأوّل ؛ واعتبرنا التعامل بالأوراق المدعَمة بالتعهّد داخلاً في نطاق التعامل بالذهب، فنحتاج لمعرفة حكم القسم الرابع إلى تفسير قانون الإعفاء وتكييفه من الناحية الفقهية.

فإن كان قانون الإعفاء يعني إلغاء الديون التي كانت الأوراق النقدية سنداتٍ عليها وتحويلها إلى أوراقٍ نقديةٍ إلزاميةٍ فهذا يؤدِّي إلى خروج التعامل بها عن نطاق التعامل بالذهب، وتصبح خاضعةً لنفس أحكام الأوراق النقدية الإلزامية.

وأمّا إذا كان قانون الإعفاء يعني السماح للجهة المصدِّرة بعدم وفاء الدين الذي تمثِّله الورقة النقدية في نطاق التعامل الداخلي حرصاً على الذهب وتوجيهاً له إلى التعامل مع الخارج، مع الاعتراف قانونياً ببقاء الديون التي تمثِّلها تلك الأوراق، فلا تخرج بذلك عن حكمها قبل الإعفاء.

١٥٢

القسم الثاني من وظائف البنك:

تقديم القروض والتسهيلات

تقوم البنوك إلى جانب خدماتها السابقة بتسهيلاتٍ مصرفيةٍ وتقديم قروض.

وبالرغم من أنّ التسهيل المصرفي قد يتلاحم مع خدمةٍ مصرفيةٍ أو يندمج بها غير أنّنا نتناول الآن التسهيلات المصرفية مجزَّأةً عن الخدمات المصرفية التي قد تندمج بها، لندرسها بصورةٍ مستقلّة.

فالاعتمادات المستندية وخطابات الضمان وخطابات الاعتماد الشخصية - مثلاً - هي خدمات مصرفية كما تقدّم، ولكنّها إذا كانت غير مغطّاةٍ غطاءً كاملاً اعتبرت تسهيلاتٍ في نفس الوقت بالمقدار المكشوف من غطائها، وهي بقدر ما تعتبر تسهيلاتٍ تندرج في نطاق القروض التي تقدمها البنوك إلى عملائها، أو يُترقَّب بها أن تندرج في ذلك النطاق.

ومصطلح التسهيل المصرفي أعمّ من مصطلح القروض في لغة البنوك ؛ لأنّ التسهيلات المصرفية تشمل ما كان من قبيل الكفالات والضمانات التي قد تنتهي إلى قرضٍ بالفعل، وقد لا تنتهي إلى شيءٍ من ذلك.

والضمانات والكفالات تارةً ندرسها بوصفها تعزيزاتٍ لموقف المضمون

١٥٣

بقطع النظر عمّا إذا أدَّت إلى إقراضه مالاً أو لا. وأخرى ندرسها بما ينجم عن عملية التسهيل من قرضٍ حين يضطرّ المصرف إلى تسديد مبالغ معيّنةٍ عوضاً عن العميل المضمون. وهي بالوصف الأوّل لا تخرج عن كونها خدمةً مصرفيةً في رأينا. وقد تكلّمنا عنها وعن عمولتها بهذا الاعتبار في القسم الأوّل. وأمّا حين نلاحظها بالوصف الثاني فحكمها حكم سائر القروض، ولا فرق بين القروض الابتدائية والتسهيلات التي تتحوّل إلى قروض. ونتكلّم عن الجميع في ما يلي:

تقسَّم القروض المصرفية عادةً إلى تسليفاتٍ طويلة الأجل، ومتوسّطة الأجَل، وقصيرة الأجَل. وتتّخذ عمليات التسليف هذه تارةً صورة قرضٍ عاديّ يتقدّم العميل بطلبه من البنك ويتسلّم بموجبه مقداراً محدّداً من النقود، وتتّخذ أخرى صورة فتح الاعتماد، ويقصد به وضع البنك تحت تصرّف عميله مبلغاً معيَّناً من النقود لمدّةٍ محدودةٍ بحيث يكون لهذا العميل الحقّ في أن يسحب منه من حينٍ إلى آخر.

وفتح الاعتماد في الواقع هو وعد بقروضٍ متعاقبة، وفي كلّ ذلك تتقاضى البنوك الربوية فوائدَ على هذه القروض، وتعتبر هذه الفوائد فوائدَ ربويةً محرَّمة، ويجب على البنك اللاربوي تطويرها وانتهاج السياسة العامة التي وضعناها في أطروحة البنك اللاربوي للقروض، وهي تتمثّل:

أولاً : في تحويل ما يمكن من القروض والتسليفات إلى مضارباتٍ يتوسّط فيها البنك بين العامل وصاحب المال، أي بين المستثمِر والمودِع.

وثانياً : أن يقرض حيث لا يمكن تحويل الطلب إلى مضاربةٍ في حدودٍ خاصّةٍٍ شرحناها في الأطروحة سابقاً.

وثالثاً : أن يشترط في القرض على المدين دفع أجرة المثل لقاء كتابة الدين

١٥٤

وضبطه، وما يتوقّف عليه ذلك من تكاليف، ويلغى الزائد على ذلك من عناصر الفائدة فلا يطالب بها كفائدةٍ على القرض.

ورابعاً : أن يشترط دفع مقدار الفائدة عند الوفاء - مطروحاً منه ما يقبضه بموجب الشرط السابق - كقرضٍ مؤجّلٍ إلى عدّة سنين.

وخامساً : إذا تنازل المقترِض عن هذا المقدار ودفعه كحَبوةٍ للبنك لا كقرضٍ اعتبره البنك زبوناً من الدرجة الأولى، وقَدَّم طلبه للقرض في المرّة التالية على غيره ممّن لم يتنازل عن ذلك المبلغ ودَفَعه قرضاً لا حبوة.

خصم الأوراق التجارية:

وخصم الأوراق التجارية هو شكل من أشكال التسليف المصرفي ؛ إذ يتقدَّم المستفيد بالورقة التجارية ذات الأجَل المحدود قبل حلول موعد وفائها إلى بنكٍ معيَّنٍ ليحصل على قيمتها، فيدفع له البنك قيمتها بعد استنزال مبلغٍ معيّنٍ يتَكوَّن من فائدة المبلغ المذكور في الورقة التجارية من يوم الدفع حتّى يوم الاستحقاق، ومن عمولةٍ خاصّةٍ يتقاضاها البنك نظير الخدمة التي يؤدّيها، ومن مصاريف التحصيل التي يتقاضاها البنك إذا كانت الورقة التجارية تدفع في مكانٍ غير المكان الموجود به.

وحين حلول موعد الوفاء يطالب البنك محرّر الورقة بقيمتها، وتكون القيمة المستحصلة من حقّ البنك، وفي حالة تخلّف المدين عن دفع قيمة الورقة المستحقّة عليه يعتبر المجير الأخير الذي خصم له البنك الورقة هو المسؤول أمام البنك عن دفع المبلغ. وإذا اتّفق تأخّر الدفع بعد حلول الموعد فإنّ البنك يحتسب فائدةً على مدّة التأخير وفقاً للسعر العامّ للفائدة على القرض، ويتقاضى هذه

١٥٥

الفائدة من المدين المحرّر للكمبيالة.

وواضح أنّ عملية خصم الورقة التجارية هي في الواقع تقديم قرضٍ من البنك إلى المستفيد لتلك الكمبيالة - مثلاً - مع تحويل المستفيد البنك الدائن على محرّر الكمبيالة. وهذا التحويل من الحوالة على المدين.

وهناك عنصر ثالث إلى جانب القرض والتحويل، وهو تعهّد المستفيد الذي خصم الورقة لدى البنك بوفاء محرّر الورقة عند حلول أجلها، فبحكم القرض يصبح المستفيد مالكاً للمبلغ الذي خصم البنك به الكمبيالة، وبحكم الحوالة يصبح البنك دائناً لمحرّر تلك الكمبيالة، وبحكم تعهّد المستفيد بالوفاء يحقّ للبنك أن يطالبه بتسديد قيمة الكمبيالة إذا تخلّف محرّرها عن ذلك عند حلول موعدها، وبحكم كون المحرّر مديناً للبنك نتيجةً للتحويل يتقاضى البنك منه فوائد على تأخير الدفع عن موعده المحدّد.

وعلى هذا الأساس يصبح ما يقتطعه البنك الخاصم للكمبيالة من قيمة الكمبيالة لقاء الأجل الباقي لموعد حلول الدفع ممثّلاً للفائدة التي يتقاضاها على تقديم القرض إلى المستفيد الطالب للخصم، وهو محرَّم ؛ لأنّه ربا. وأمّا ما يقتطعه كعمولةٍ لقاء الخدمة أو لقاء تحصيل المبلغ إذا كان يدفع في مكانٍ آخر فهو جائز ؛ لأنّ العمولة لقاء الخدمة هي أجرة كتابة الدين ؛ التي تقَّم أنّ بإمكان البنك أن يتقاضاها في كلّ قرضٍ يقدِّمه.

وأمّا العمولة لقاءَ تحصيل المبلغ في مكانٍ آخر، فهي من حقّ البنك أيضاً ؛ نظراً إلى أنّ البنك بخصم الكمبيالة أصبح دائناً للمستفيد الذي خصمت له الورقة بعقد القرض، ومن حقّ الدائن المطالبة بالوفاء في نفس المكان، فإغراؤه بإسقاط هذا الشرط لكي يحوِّل على دينٍ في مكانٍ آخر يمكن أن يتمّ بفرض جعالةٍ له

١٥٦

على إسقاط هذا الشرط الذي يتيح للخاصم أن يحيله حينئذٍ على الدين الذي تمثّله الكمبيالة والذي يدفع في مكانٍ آخر.

وعلى هذا الأساس فإذا أردنا أن نلغي من عملية خصم الكمبيالة، التي تقع فعلاً، ما ينافي الشريعة الإسلامية منه، فيجب أن نلغي ما يخصمه البنك من قيمة الكمبيالة، إلاّ ما كان منه لقاءَ خدمته ولقاءَ تنازله عن مكانٍ معيّن، ونستبدل الخصم الذي ألغيناه بأسلوبَي القرض المماثل والحَبوة.

ولكنّ هذا البديل لا يكفي لوقاية البنك ؛ لأنّ البنك إذا أمكنه أن يشترط على من يتقدّم إليه طالباً خصم الكمبيالة تقديم قرضٍ مماثلٍ قد يتحوّل بعد ذلك إلى حَبوة، فليس بإمكانه أن يتّخذ نفس الأسلوب تجاه محرّر الكمبيالة الذي أصبح مديناً للبنك بموجب حوالةٍ ضمنيّةٍ من المستفيد للبنك عليه ؛ لأنّه لم ينشأ بين البنك وبين محرّر الكمبيالة أيّ عقدٍ لكي يفرض عليه في ذلك العقد شروطه.

ولهذا أرى أن يطوّر تكييف عملية الخصم من الناحية الفقهية، فبينما كانت في شرحنا المتقدّم متألّفةً من عناصر ثلاثة، وهي: القرض، والحوالة، والتعهّد، يمكن أن تكيَّف على أساسٍ آخر، فيفرض فيها قرض يتمثّل في المبلغ الذي يتسلّمه المستفيد من البنك عند خصمه للكمبيالة، وتوكيل من المستفيد للبنك في تحصيل قيمة الكمبيالة من محرّرها عند حلول موعدها، واقتطاع قيمة الدين الذي حصل عليه المستفيد فعلاً من قيمة الكمبيالة، ومن حقّ البنك أن يأخذ من قيمة الكمبيالة ما يساوي أجرة المثل على كتابة الدين وما تتطلّبه من نفقات وعلى تحصيل الدين الذي تمثّله الكمبيالة من محرّرها.

وبناءً على هذا التكييف لعمليات الخصم يظلّ محرّر الكمبيالة مديناً للمستفيد الذي خصم تلك الورقة، لا للبنك وإنّما البنك دائن للمستفيد ووكيل عنه

١٥٧

في قبض قيمة الكمبيالة عند موعد حلولها، وحينئذٍ يستعمل البنك مع المستفيد الذي خصم الورقة له أسلوبَ اشتراط القرض المماثل الذي قد يتحوّل حين الدفع إلى حبوةٍ وفقاً لما تقدّم شرحه في أطروحة البنك اللاربوي.

تكييف خصم الكمبيالة على أساس البيع:

وهناك اتّجاه فقهيّ إلى تكييف عملية خصم الكمبيالة على أساس البيع ؛ وذلك بافتراض أنّ المستفيد الذي تقدّم إلى البنك طالباً خصم الورقة يبيع الدين الذي تمثّله الورقة، وهو مثلاً (١٠٠) دينارٍ ب - (٩٥) ديناراً حاضراً، فيملك البنك بموجب هذا البيع الدَين الذي كان المستفيد يملكه في ذمّة محرّر الكمبيالة لقاءَ الثمن الذي يدفعه فعلاً إليه، فيكون من بيع الدين بأقلّ منه.

وعلى أساس هذا التكييف لعملية الخصم يتّجه كثير من الفقهاء إلى جوازه شرعاً ؛ لأنّ بيع الدين بأقلّ منه جائز شرعاً إذا لم يكن الدين من الذهب أو الفضة، أو مكيل أو موزون آخر. ونظراً إلى أنّ الدين المباع بأقلّ منه بعمليات الخصم ليس من الذهب والفضة، وإنّما هو دين بأوراقٍ نقديةٍ، فيجوز بيعها بأقلّ منها. وإذا أمكن تخريج الخصم على أساس البيع فيمكن تخريج مسؤولية المستفيد عن وفاء الدين أمام البنك عند عدم وفاء محرّر الكمبيالة، على أساس أنّ المستفيد إلى جانب بيعه للدين متعهّد بوفائه أيضاً، أو على أساس أنّ البنك اشترط عليه في عقد شراء الدين منه أن يوفيه عند حلوله إذا طالبه البنك بذلك.

والأساس الأوّل - أي التعهّد - يجعل المستفيد مسؤولاً عن وفاء الدين عند تخلّف المدين عن تسديده للبنك.

والأساس الثاني - أي الشرط - يمكن أن يجعل المستفيد ملزماً بوفاء

١٥٨

الدين ؛ حتى إذا رجع البنك إليه ابتداءً وطالبه بذلك قبل أن يتبيّن تخلّف المدين عن وفاء الدين. ولكنّ أصل تخريج خصم الكمبيالة على أساس بيع الدين بأقلّ منه موضع بحث ؛ لأنّ هذا المبلغ وإن لم يكن ربوياً ؛ لأنّ الدين المبيع ليس من الذهب والفضة، ولكن هناك روايات خاصّة دلّت على أنّ الدائن إذا باع دينه بأقلّ منه فلا يستحقّ المشتري من المدين إلاّ بقدر ما دفع إلى البائع، ويعتبر الزائد ساقطاً من ذمّة المدين رأساً. وهذا يعني أنّ البنك - إذا فسّرنا عملية الخصم لديه بأنّها شراء للدين بأقلّ منه - لا يستحقّ على المدين إلاّ بمقدار ما دفع، ويعتبر تنازل الدائن عن الزائد لصالح المدين دائماً لا لصالح المشتري وإن قصد الدائن ذلك.

فمن تلك الروايات: خبر أبي حمزة، عن الإمام محمد بن علي الباقرعليه‌السلام قال: سألته عن الرجل كان له على رجلٍ دَين فجاءَه فاشتراه منه بعوض، ثمّ انطلق إلى الذي عليه الدين فقال: أعطني ما لفلان عليك فإنّي قد اشتريته منه، كيف يكون القضاء في ذلك ؟ فقال الإمام: (يردّ الرجل الذي عليه الدين ماله الذي اشترى به من الرجل الذي له الدين)(١) .

وخبر محمد بن الفضيل، قال: قلت لعلّي بن موسى الرضاعليه‌السلام : رجل اشترى ديناً على رجلٍ ثمّ ذهب إلى صاحب الدين فقال له: ادفع إليّ ما لفلان عليك فقد اشتريت منه، قال الإمامعليه‌السلام : (يدفع إليه قيمة ما دفع إلى صاحب الدين، وبرئ الذي عليه المال من جميع ما بقي عليه)(٢) .

____________________

(١) وسائل الشيعة ١٨: ٣٤٧، الباب ١٥ من أبواب الدين والقرض، الحديث ٢.

(٢) المصدر السابق: ٣٤٨، الحديث ٣.

١٥٩

لا أنسجم نفسياً ولا فقهياً مع الأخذ بالرأي المعاكس، ولا أجد في نفسي وحدْسي الفقهي ما يبرِّر لي بوضوحٍ ترك هاتين الروايتين والأخذ برأي يناقضهما.

وعلى هذا الضوء فليس بإمكان البنك اللاربوي أن يمارس عملية خصم الكمبيالة على أساس شراء الدين بأقلّ منه ثمّ يستأثر بالمقدار المخصوم لنفسه ؛ لأنّ بيع الدين بأقلّ منه ينتج دائماً بموجب الروايات المتقدّمة سقوط الزائد من ذمّة المدين وبراءَتها منه.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

٢٠٥ ـ رواية الحسن بن كثير :

وقد روى الحسن بن كثير وعبد خير ، قالا : لما وصل عليعليه‌السلام إلى كربلا وقف وبكى ، وقال : بأبي أغيلمة يقتلون ههنا. هذا مناخ ركابهم ، هذا موضع رحالهم ، هذا مصرع الرجل.

ـ رواية أخرى :(شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج ٣ ص ١٧١)

عن الحسن بن كثير ، عن أبيه ، أن علياعليه‌السلام أتى كربلاء ، فوقف بها ، فقيل له :

يا أمير المؤمنين ، هذه كربلاء. فقال : ذات كرب وبلاء. ثم أومأ بيده إلى المكان ، فقال : ههنا موضع رحالهم ومناخ ركابهم.

ثم أومأ بيده إلى مكان آخر ، فقال : ههنا مهراق دمائهم. ثم مضى إلى ساباط.

٢٠٦ ـ شهداء كربلاء مثل شهداء بدر (رض):

(أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين ، ج ٤ ص ١٤٣)

في منتخب كنز العمال عن الطبراني في الكبير ما لفظه عن شيبان بن محرم ، قال :إني لمع عليعليه‌السلام إذ أتى كربلاء ، فقال : يقتل في هذا الموضع شهداء ليس مثلهم إلا شهداء بدر.

ـ شهداء كربلاء لا يسبقهم سابق :(المنتخب للطريحي ، ص ٨٧)

عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال : مر أمير المؤمنينعليه‌السلام بكربلاء ، فبكى حتى اغرورقت عيناه بالدموع ، وقال : هذا مناخ ركابهم ، هذا ملقى رحالهم ، ههنا تراق دماؤهم. طوبى لك من تربة عليها يراق دم الأحبة. مناخ ركاب ومنازل شهداء ، لا يسبقهم من كان قبلهم ولا يلحقهم من كان بعدهم.

٢٠٧ ـ إخبار عليعليه‌السلام أن الحسينعليه‌السلام يقتل وموضع ذلك ، وما في ذلك من معجزات :(مدينة المعاجز لهاشم البحراني ، ص ١٢٠)

روى الشيخ الصدوق بسنده عن ابن عباس ، قال : كنت مع عليعليه‌السلام في خروجه من صفين. فلما نزلنا نينوى ـ وهي بشط الفرات ـ قال بأعلى صوته : يابن عباس أتعرف هذا الموضع؟ قلت : لا أعرفه يا أمير المؤمنين. فقال عليعليه‌السلام : لو عرفته كمعرفتي لم تكن تجوزه حتى تبكي لبكائي. قال فبكىعليه‌السلام طويلا حتى اخضلت لحيته وسالت الدموع على صدره ، وبكينا معه ، وهو يقول : أوه أوه ، مالي

٢٢١

ولآل أبي سفيان مالي ولآل حزب الشيطان وأولياء الكفر. صبرا صبرا يا أبا عبد الله ، فقد لقي أبوك مثل الذي تلقى منهم. ثم دعا بماء فتوضأ وضوء الصلاة ، فصلى ما شاء الله أن يصلي.

وذكر نحو كلامه ، إلا أنه نعس عند انقضاء صلاته وكلامه ساعة ، ثم انتبه فقال :يابن عباس. قلت : ها أنذا. فقال : ألا أحدثك عما رأيت في منامي آنفا عند رقدتي؟ فقلت : نامت عينك ورأيت خيرا يا أمير المؤمنين. قالعليه‌السلام : رأيت كأني برجال قد نزلوا من السماء ، معهم أعلام بيض ، قد تقلدوا سيوفهم ، وهي بيض تلمع ، وقد خطّوا حول هذه الأرض خطة. ثم رأيت كأن النخيل قد ضربت بأغصانها الأرض ، تضرب بدم عبيط (أي طري) ، وكأني بالحسين سخلي وفرخي ومضغتي ومخي ، قد غرق فيه ، يستغيث فلا يغاث. وكأن الرجال البيض (الذين) نزلوا من السماء ، ينادونه ويقولون : صبرا آل الرسول ، فإنكم تقتلون على يدي شرار الناس ، وهذه الجنة يا أبا عبد الله مشتاقة إليك. ثم يعزّونني ويقولون : يا أبا الحسن أبشروا فقد أقرّ الله عينك يوم يقوم الناس لرب العالمين. ثم انتبهت هكذا.

والذي نفس علي بيده ، لقد حدثني الصادق المصدق أبو القاسمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أني سأمر بها في خروجي إلى أهل البغي علينا. وهي أرض كرب وبلاء ، يدفن فيها الحسينعليه‌السلام وسبعة عشر رجلا من ولدي وولد فاطمةعليها‌السلام . وإنها لفي السموات معروفة تذكر أرض كرب وبلاء ، كما تذكر بقعة الحرمين وبقعة بيت المقدس. ثم قال : يا بن عباس ، اطلب حولها بعر الظباء ، فو الله ما كذبت ولا كذبت ، وهي مصفرة ، لونها لون الزعفران. فطلبتها فوجدتها مجتمعة. فناديته : يا أمير المؤمنين قد أصبتها على الصفة التي وصفتها لي. فقال عليعليه‌السلام : صدق الله ورسوله.

ـ قصة مرور عيسىعليه‌السلام بكربلاء :

ثم قام عليعليه‌السلام يهرول حتى جاء إليها فحملها وشمها ، وقال : هي هي ، أتعلم يابن عباس ما هذه الأبعار؟ هذه قد شمها عيسى بن مريم ، وذلك أنه مرّ بها ومعه الحواريون ، فرأى ههنا ظباء مجتمعة وهي تبكي ، فجلس عيسىعليه‌السلام وجلس الحواريون. فبكى وبكى الحواريون ، وهم لا يدرون لم جلس ولم بكى. فقالوا : يا روح الله وكلمته ما يبكيك؟ قال : أتعلمون أي أرض هذه ، هذه أرض من يقتل فيها

٢٢٢

فرخ رسول الله أحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفرخ الحرة الطاهرة البتول ، شبيهة أمي ، ويلحد فيها أطيب من المسك ، لأنها طينة الفرخ المستشهد ، وهكذا تكون طينة الأنبياء وأولاد الأنبياء. فهذه الظباء تكلمني وتقول : انها ترعى هذه الأرض شوقا إلى تربة الفرخ المبارك ، وزعمت أنها آمنة في هذه الأرض.

ثم ضرب بيده البعيرات فشمها ، وقال : هذه بعر الظباء على هذا الطيب لمكان حشيشها. اللهم فأبقها أبدا حتى يشمها أبوه ، فتكون له عزاء وسلوة. فبقيت إلى يومنا هذا وقد اصفرت لطول زمنها ، وهذه أرض كرب وبلاء.

ثم قال بأعلى صوته : يا رب عيسى بن مريم ، لا تبارك في قتلته والمعين لهم والخاذل له. ثم بكى طويلا وبكينا معه حتى سقط لوجهه وغشي عليه طويلا. ثم أفاق فأخذ البعر فصّره في ردائه وأمرني أن أصرها كذلك.

ثم قال : يابن عباس ، إذا رأيتها تتفجر دماء عبيطا ويسيل منها دم عبيط ، فاعلم أن أبا عبد اللهعليه‌السلام قد قتل بها ودفن.

قال ابن عباس : فوالله لقد كنت أحفظها أشد من حفظي لما افترض اللهعزوجل علي ، وأنا لا أحلها من طرف كمي. فبينا أنا نائم في البيت فإذا هي تسيل دما عبيطا ، وان كمي قد امتلأ دما عبيطا. فجلست وأنا باك ، وقلت : قتل والله الحسين ، والله ما كذبني قط في حديث ، ولا أخبر بشيء أن يكون إلا كان كذلك ، لأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخبره بأشياء لا يخبر بها غيره. ففزعت وخرجت وذلك عند الفجر ، فرأيت والله المدينة كأنها ضباب لا يستبين منها أثر عين. ثم طلعت الشمس فرأيت كأنها منكسفة ، ورأيت كأن حيطان المدينة عليها دم عبيط. فجلست وأنا باك ، وقلت قتل والله الحسينعليه‌السلام .

وسمعت صوتا من ناحية البيت ، وهو يقول : اصبروا آل الرسول قتل الفرخ النحول ، نزل الروح الأمين ببكاء وعويل. ثم بكى بأعلى صوته وبكيت. فأثبتّ عندي تلك الساعة ، وكان شهر محرم يوم عاشور لعشر مضين منه ، فوجدته قتل يوم ورد علينا خبره ، وتاريخه كذلك. فحدثت بهذا الحديث الذين كانوا معه فقالوا :والله لقد سمعنا ما سمعت ونحن في المعركة ، ولا ندري ما هو. قلت : أترى أنه الخضرعليه‌السلام .

٢٢٣

٢٠٨ ـ إخبار الإمام عليعليه‌السلام حين مر بكربلاء وهو سائر إلى صفين :

(وقعة صفين لنصر بن مزاحم ص ١٤٠ ط ٢)

قال نصر بن مزاحم : حدثني مصعب بن سلام عن هرثمة بن سليم ، قال :غزونا مع علي بن أبي طالبعليه‌السلام غزوة صفين. فسار حتى انتهى إلى كربلاء ، فنزل إلى شجرة فصلى إليها ، فلما سلم رفع إليه من تربتها فشمها ، ثم قال : واها لك أيتها التربة ، ليحشرن منك (وفي رواية : ليقتلن بك) قوم يدخلون الجنة بغير حساب.

فلما رجع هرثمة من غزوته إلى امرأته ـ وهي جرداء بنت سمير ، وكانت شيعة لعليعليه‌السلام ـ فقال لها زوجها هرثمة : ألا أعجّبك من صديقك أبي الحسن؟ لما نزلنا كربلا رفع إليه من تربتها فشمها ، وقال : «واها لك يا تربة ، ليحشرن منك قوم يدخلون الجنة بغير حساب». وما علمه بالغيب؟! فقالت : دعنا منك أيها الرجل ، فإن أمير المؤمنين لم يقل إلا حقا.

فلما بعث عبيد الله بن زياد البعث الذي بعثه إلى الحسين بن عليعليه‌السلام وأصحابه ، قال هرثمة : كنت فيهم في الخيل التي بعث إليهم ، فلما انتهيت إلى القوم وحسين وأصحابه ، نظرت إلى الشجرة ، فذكرت الحديث وعرفت المنزل الذي نزلنا فيه مع عليعليه‌السلام ، والبقعة التي رفع إليه من ترابها ، والقول الذي قاله ، فكرهت مسيري. فأقبلت على فرسي حتى وقفت على الحسينعليه‌السلام ، فسلمت عليه وحدثته بالذي سمعت من أبيه في هذا المنزل.

فقال الحسينعليه‌السلام : فأنت معنا أم علينا؟ فقلت : يابن رسول الله لا معك ولا عليك. تركت أهلي وولدي وعيالي ، أخاف عليهم من ابن زياد.

فقال الحسينعليه‌السلام : فولّ في الأرض هربا حتى لا ترى لنا مقتلا ، فو الذي نفس محمد بيده لا يرى مقتلنا اليوم رجل ولا يغيثنا إلا أدخله الله النار. قال هرثمة :فأقبلت في الأرض هاربا حتى خفي علي مقتله.

ملاحظة : هذه الفقرة هي جمع عدة روايات مع بعض ، إحداها وردت في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، ج ٣ ص ١٦٩ ط مصر ـ تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم.

٢٠٩ ـ إخبار الإمام عليعليه‌السلام بما سيحدث في كربلاء :

(المصدر السابق ، ص ١٤١)

حدّث نصر بن مزاحم عن مصعب بن سلام عن سعيد بن وهب ، قال : بعثني

٢٢٤

مخنف بن سليم إلى عليعليه‌السلام عند توجهه إلى صفين. فأتيته بكربلاء ، فوجدته يشير بيده ويقول : ههنا! فقال له رجل : وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال : ثقل آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينزل ههنا ، فويل لهم منكم ، وويل لكم منهم!.

فقال له الرجل : ما معنى هذا الكلام يا أمير المؤمنين؟ قال (ويل لهم منكم) تقتلونهم ، (وويل لكم منهم) يدخلكم الله بقتلهم إلى النار.

٢١٠ ـ حديث الإمام الحسنعليه‌السلام عن مصرع أخيه الحسينعليه‌السلام :

(مناقب ابن شهراشوب ، ج ٣ ص ٢٣٨ ط نجف)

روى الإمام الصادق عن آبائهعليهم‌السلام قال : دخل الحسين على أخيه الحسنعليهما‌السلام يوما ، فلما نظر إليه بكى. فقال له الحسنعليه‌السلام : ما يبكيك يا أبا عبد الله؟ قال :أبكي لما يصنع بك. فقال له الحسنعليه‌السلام : إن الذي يؤتى إليّ سم يدس إلي فأقتل به(١) ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبد الله. يزدلف إليك ثلاثون ألف رجل يدّعون أنهم من أمة جدك محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وينتحلون بك الإسلام ، فيجتمعون على قتلك وسفك دمك ، وانتهاك حرمتك ، وسبي ذراريك ونسائك ، وانتهاب ثقلك ، فعندها تحلّ ببني أمية اللعنة ، وتمطر السماء دما ورمادا ، ويبكي عليك كل شيء ، حتى الوحوش في الفلوات ، والحيتان في البحار.

٢١١ ـ إخبار الحسينعليه‌السلام بمقتله :

عن معاوية بن قرة قال : قال الحسينعليه‌السلام : والله ليعتدن عليّ كما اعتدت بنو اسرائيل في السبت.

قال : وأنبأنا علي بن محمد ، عن جعفر بن سليمان الضبعي ، (قال) قال الحسينعليه‌السلام : والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي ، فإذا فعلوا ذلك سلط الله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل من فرم الأمة.

__________________

(١) اللهوف على قتلى الطفوف ، ص ١٤.

٢٢٥

أخبار أخرى

٢١٢ ـ ورود سلمان (رض) كربلاء :

(وسيلة الدارين في أنصار الحسين للسيد إبراهيم الزنجاني ، ص ٧١)

في الخبر عن المسيب بن نجبة الفزاري ، قال : خرجت أستقبل سلمان الفارسي حين أقبل من المدينة إلى المدائن. فلما وصل إلى كربلاء تغير حاله وبكى ، وقال :هذه مصارع إخواني. هذا موضع رحالهم ، وهذا مناخ ركابهم ، وهذا مهراق دمائهم. يقتل بها خير الأولين وابن خير الآخرين.

٢١٣ ـ إخبار أبي ذر الغفاري بمقتل الحسينعليه‌السلام ونتائج ذلك :

(الإرشاد للشيخ المفيد ، ص ٢٣٦)

في (كامل الزيارة) عن عروة بن الزبير ، قال : سمعت أبا ذر ، وهو يومئذ قد أخرجه عثمان إلى الربذة ، فقال له الناس : يا أبا ذر أبشر ، فهذا قليل في الله. فقال ما أيسر هذا ، ولكن كيف أنتم إذا قتل الحسين بن عليعليه‌السلام قتلا (أو قال : ذبح ذبحا)؟. والله لا يكون في الإسلام بعد قتل الخليفة (يعني علي بن أبي طالب) أعظم قتيلا منه. وإن الله سيسل سيفه على هذه الأمة لا يغمده أبدا. ويبعث ناقما من ذريته فينتقم من الناس. وإنكم لو تعلمون ما يدخل على أهل البحار ، وسكان الجبال في الغياض والآكام ، وأهل السماء من قتله ، لبكيتم والله حتى تزهق أنفسكم. وما من سماء يمر بها روح الحسينعليه‌السلام إلا فزع له سبعون ألف ملك ، يقومون قياما ترعد مفاصلهم إلى يوم القيامة. وما من سحابة تمر وترعد وتبرق إلا لعنت قاتله. وما من يوم إلا وتعرض روحه على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيلتقيان.

٢١٤ ـ ملازمة رجل من بني أسد أرض كربلاء :

(تاريخ ابن عساكر ـ الجزء الخاص بالحسين ، ص ٢١٢)

قال العريان بن الهيثم : كان أبي يتبدى فينزل قريبا من الموضع الذي كانت فيه معركة الحسينعليه‌السلام . فكنا لا نبدو إلا وجدنا رجلا من بني أسد هناك. فقال له أبي : أراك ملازما هذا المكان!. قال : بلغني أن حسيناعليه‌السلام يقتل ههنا ، فأنا أخرج إلى هذا المكان ، لعلي أصادفه فأقتل معه.

قال ابن الهيثم : فلما قتل الحسينعليه‌السلام قال أبي : انطلقوا بنا ننظر ، هل الأسدي فيمن قتل مع الحسينعليه‌السلام . فأتينا المعركة وطوّقنا ، فإذا الأسدي مقتول.

٢٢٦

(أقول) لعل هذا الشهيد هو أنس بن الحرثرحمه‌الله . وهذا درس يعلمنا أن المؤمن النبيه يسعى نحو الحق حتى يدركه ، فينال أعلى درجات السعادة والكرامة ، كما فعل أنس بن الحرث الأسدي.

٤ ـ أخبار بمن يقتل الحسينعليه‌السلام

٢١٥ ـ الحسينعليه‌السلام يخبر بأن عمر بن سعد سيقتله :

(كشف الغمة ٢ / ٩ وإرشاد المفيد ص ٢٨٢ والبحار ٤٤ / ٢٦٣)

روى سالم بن أبي حفصة ، (قال) قال عمر بن سعد للحسينعليه‌السلام : يا أبا عبد الله ، إن قبلنا أناسا سفهاء يزعمون أني أقتلك. فقال له الحسينعليه‌السلام : إنهم ليسوا سفهاء ، ولكنهم حلماء. أما إنه يقر عيني أن لا تأكل من برّ العراق بعدي إلا قليلا.

٢١٦ ـ إخبار الإمام عليعليه‌السلام بأن عمر بن سعد يقتل ابنه الحسينعليه‌السلام :

عن الأصبغ بن نباتة ، قال : بينا أمير المؤمنينعليه‌السلام يخطب الناس ، وهو يقول :سلوني قبل أن تفقدوني ، فو الله لا تسألوني عن شيء مضى ولا شيء يكون إلا أنبأتكم به. فقام إليه سعد بن أبي وقاص ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أخبرني كم في رأسي ولحيتي من شعرة. فقال : أما والله لقد سألتني عن مسألة حدثني خليلي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنك ستسألني عنها. وما في رأسك ولحيتك من شعرة إلا وفي أصلها شيطان جالس ، وإن في بيتك لسخلا يقتل ابني الحسينعليه‌السلام . وكان عمر بن سعد يومئذ يدرج بين يديه.

(أقول) : فلما كان من أمر الحسينعليه‌السلام ما كان ، تولى عمر بن سعد قتل الحسينعليه‌السلام ، وكان الأمر كما قال أمير المؤمنينعليه‌السلام .

وفي رواية (الإرشاد) للمفيد ص ٢٠ قال له عليعليه‌السلام :

وآية ذلك مصداق ما خبّرتك به. ولو لا أن الذي سألت عنه يعسر برهانه لأخبرتك به ، ولكن آية ذلك ما أنبأتك به من لعنتك وسخلك الملعون.

قال ابن سيرين : وقد ظهرت كرامات علي بن أبي طالبعليه‌السلام في هذا ، فإنه لقي قاتل الحسينعليه‌السلام وهو شاب ، فقال : ويحك ، كيف بك إذا قمت مقاما تخير فيه بين الجنة والنار ، فتختار النار؟

وسيرد هذا الخبر عند الحديث عن عمر بن سعد ، الذي تولى قيادة الجيش لقتال

٢٢٧

الحسينعليه‌السلام ، وقد نصحه الحسينعليه‌السلام كثيرا ، ولكن حب الدنيا أعمى قلبه.

تنبيه حول السائل :ذكر فخر الدين الطريحي في (المنتخب) ص ١٦٦ : أن الذي سأل الإمامعليه‌السلام : كم شعرة في رأسي ، هو يزيد والد خولي بن يزيد الأصبحي.ولعل بعض الروايات تشير إلى أنه سنان بن أنس ، والله أعلم.

يقول العلامة المجلسي في البحار ، ج ٤٤ ص ٢٥٧ : لا يخفى ما في الحديث من تسمية الرجل السائل المتعنت بأنه سعد بن أبي وقاص ، حيث أن سعد بن أبي وقاص اعتزل عن الجماعة وامتنع عن بيعة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فاشترى أرضا واشتغل بها ، فلم يكن ليجيء إلى الكوفة ويجلس إلى خطبة الإمام عليعليه‌السلام .ومن جهة أخرى إن عمر بن سعد قد ولد في السنة التي مات فيها عمر بن الخطاب وهي سنة ٢٣ ه‍ فكان عمره حين خطب الإمامعليه‌السلام هذه الخطبة بالكوفة غلاما بالغا أشرف على العشرين ، لا أنه سخل في بيته.

ولما كان أصل القصة مسلمة مشهورة ، عدل الشيخ المفيد في (الإرشاد) عن تسمية الرجل ، وتبعه الطبرسي في (إعلام الورى) ص ١٨٦. ولعل الصحيح ما ذكره ابن أبي الحديد ، حيث ذكر الخطبة في شرحه على النهج ، ج ١ ص ٢٥٣ عن كتاب (الغارات) لابن هلال الثقفي عن زكريا بن يحيى العطار عن فضيل عن محمد الباقرعليه‌السلام وقال في آخره : والرجل هو سنان بن أنس النخعي.

٢١٧ ـ إخبار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يزيد هو قاتل الحسينعليه‌السلام :

أخرج الطبراني عن معاذ بن جبل ، أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : يزيد ، لا بارك الله في يزيد. نعي إليّ الحسينعليه‌السلام وأتيت بتربته ، وأخبرت بقاتله. والذي نفسي بيده لا يقتل بين ظهراني قوم لا يمنعونه ، إلا خالف الله بين صدورهم وقلوبهم ، وسلط عليهم شرارهم وألبسهم شيعا (أي جماعات متفرقين).

وأخرجه ابن عساكر عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا بلفظ : يزيد ، لا بارك الله في يزيد ، الطّعان اللعّان ، أما إنه نعي إلي حبيبي وسخلي حسين ، أتيت بتربته ورأيت قاتله. أما إنه لا يقتل بين ظهراني قوم فلا ينصرونه ، إلا عمّهم الله بعقاب.

وأخرج أبو يعلى عن أبي عبيدة (قال) قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يزال أمر أمتي قائما بالقسط حتى يكون أول من يثلمه رجل من بني أمية ، يقال له : يزيد.

وأخرج ابن أبي شيبة وأبو يعلى والروياني والحافظ أبوبكر محمد بن اسحق ابن

٢٢٨

خزيمة السلمي النيسابوري والبيهقي وابن عساكر والضياء ، عن أبي ذر ، أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : أول من يبدل سنتي رجل من بني أمية. وزاد الروياني : يقال له يزيد.

٢١٨ ـ رواية أخرى :

(معجم الطبراني ص ١٣٠ ومقتل الخوارزمي ص ١٦٠ وكنز العمال ١٣ / ١١٣ وأمالي الشجري ص ١٦٩)

في معجم الطبراني عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن معاذ بن جبل أخبره قال :خرج علينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متغير اللون ، فقال : أنا محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوتيت فواتح الكلام وخواتمه ، فأطيعوني ما دمت بين أظهركم ، فإذا ذهب بي فعليكم بكتاب اللهعزوجل ، أحلوا حلاله وحرموا حرامه ، (فإذا) أتتكم الموتة أتتكم بالروح والراحة.كتاب الله من الله سبق ، أتتكم فتن كقطع الليل المظلم ، كلما ذهب رسل جاء رسل ، تناسخت النبوة فصارت ملكا. رحم الله من أخذها بحقها ، وخرج منها كما دخلها.

أمسك يا معاذ واحص!. قال : فلما بلغت خمسة ، قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يزيد ، لا بارك الله في يزيد. ثم ذرفت عيناه. ثم قال : نعي إلي حسين ، وأوتيت بتربته ، وأخبرت بقاتله. والذي نفسي بيده لا يقتل بين ظهراني قوم لا يمنعونه ، إلا خالف الله بين صدورهم وقلوبهم ، وسلط عليهم شرارهم وألبسهم شيعا.

ثم قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : واها لفراخ آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خليفة مستخلف مترف ، يقتل خلفي وخلف الخلف.

أمسك يا معاذ. فلما بلغت عشرة ، قال : الوليد(١) اسم فرعون ، هادم شرائع الاسلام ، يبوء بدمه رجل من أهل بيته ، يسل الله سيفه فلا غماد له ، ويختلف الناس فكانوا هكذا ، وشبك بين أصابعه.

ثم قال : وبعد العشرين والمائة موت سريع وقتل ذريع ، فيه هلاكهم ، ويلي عليهم رجل من ولد العباس.

__________________

(١) لعل المقصود به الوليد بن يزيد بن عبد الملك ، وهو الذي مزّق القرآن وقال :

تهددني بجبار عنيد

فها أنا ذاك جبار عنيد

إذا ما جئت ربك يوم حشر

فقل : يا ربّ مزّقني الوليد

٢٢٩
٢٣٠

الفصل السادس

المآتم الحسينيّة

١ ـ إقامة ذكرى الحسينعليه‌السلام والحزن عليه

ـ إقامة العزاء على الحسينعليه‌السلام

٢ ـ فضل البكاء والحزن على الحسينعليه‌السلام

٣ ـ إقامة ذكرى الحسينعليه‌السلام ومراسم الحزن يوم عاشوراء

ـ اتخاذ بني أمية يوم عاشوراء يوم عيد وفرح

ـ أحاديث موضوعة في فضل يوم عاشوراء وأنه عيد

ـ هل يجوز صيام يوم عاشوراء؟

٤ ـ فلسفة المآتم الحسينية

٢٣١
٢٣٢

الفصل السادس

المآتم الحسينيّة

* مقدمة الفصل :

لا يخفى أن مصيبة الحسينعليه‌السلام الكبيرة قد أقضّت مضجع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستحوذت عليه كل اهتمامه. فلا عجب إذا رأيناه يقيم المأتم على الحسينعليه‌السلام منذ مولده ، وفي عدة مناسبات من حياته. وعلى ذلك سار الأئمة الأطهار ودعوا كل من شايع الحسينعليه‌السلام إلى إقامة الحزن والعزاء عليه في كل مكان وزمان ، ولا سيما يوم العاشر من المحرم ، حتّى صار شعارهم :

«كل أرض كربلا ، وكل يوم عاشورا»

في حين كان بعض المسلمين عمدا أو جهلا يقيمون الفرح في ذلك اليوم ، جريا على السنّة التي اختطها لهم بنو أمية من غابر الزمان.

وسوف نتكلم في هذا الفصل حول إقامة المآتم الحسينية ، ثم فضل الحزن والبكاء على الحسينعليه‌السلام ، ثم إقامة مراسم العزاء والحزن والحداد يوم العاشر من المحرم كل عام. ونتعرض إلى بعض خصوصيات يوم عاشوراء ، والمحاولات المغرضة لتغيير مفهومه وصرفه عن حقيقته. ثم ننهي الفصل بفلسفة المآتم الحسينية ، وتتضمن أهداف ذكرى الحسينعليه‌السلام والفوائد التي تحققها المجالس الحسينية ، وأن هدفها ليس فقط الحزن والبكاء ، وإنما العظة واليقظة والاعتبار ، وتبديل السلوك وتعديل المسار ، والخروج من مستنقع الخطايا والأوزار ، إلى رياض الأخيار وجنان الأبرار.

١ ـ مآتم الحسينعليه‌السلام

مرت في الفصل السابق روايات مستفيضة حول إخبار جبرئيل للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنبأ استشهاد الحسينعليه‌السلام ، ثم إخبار محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهله وأصحابه بذلك. وكان في

٢٣٣

تلك الأحوال يضع الحسين الطفل في حضنه ، ويبكي بكاء شديدا ، ويقبّله من فمه ونحره ، ويشمّه ويضمه إلى صدره ، فكانت تلك المشاهد أول المآتم المقامة على الحسينعليه‌السلام في حياته وقبل مماته. وعلى هذا الهدي المحمدي سار شيعة الحسينعليه‌السلام من بعده ، يقيمون المآتم والعزاء عليه ، بعد موته واستشهاده ، اقتداء بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومشاركة له في محنته ومصيبته.

٢١٩ ـ مأتم الحسينعليه‌السلام في دار فاطمةعليها‌السلام :

(قادتنا : كيف نعرفهم؟ ، ج ٦ ص ١٢٠)

روى الخوارزمي عن علي بن أبي طالبعليه‌السلام قال : زارنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعملنا له حريرة ، وأهدت لنا أم أيمن قعبا من لبن وزبدا وصفحة من تمر. فأكل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأكلنا معه. ثم وضّأت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقام فاستقبل القبلة ، فدعا الله ما شاء. ثم أكبّ على الأرض بدموع غزيرة مثل المطر. فهبنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن نسأله!.

فوثب الحسينعليه‌السلام فقال : يا أبتي رأيتك تصنع ما لم أرك تصنع مثله!.فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا بني إني سررت بكم اليوم سرورا لم أسرّ بكم مثله. وإن حبيبي جبرئيل أتاني فأخبرني أنكم قتلى ، وأن مصارعكم شتى ، فدعوت الله لكم ، وأحزنني ذلك.

فقال الحسينعليه‌السلام : يا رسول الله ، فمن يزورنا على تشتّتنا ، ويتعاهد قبورنا؟.قال : طائفة من أمتي ، يريدون برّي وصلتي. فإذا كان يوم القيامة شهدتها بالموقف ، وأخذت بأعضادها ، فأنجيتها والله من أهواله وشدائده.

٢٢٠ ـ في دار أم سلمة :

(تاريخ ابن عساكر ـ الجزء الخاص بالحسين ، ص ١٧٦)

وروى ابن عساكر بإسناده عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند ، عن أبيه (قال) قالت أم سلمة : كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نائما في بيتي ، فجاء الحسينعليه‌السلام . قالت : فقصد الباب ، فسبقته على الباب مخافة أن يدخل فيوقظه. قالت : ثم غفلت في شيء ، فدبّ فدخل ، فقعد على بطنه.

قالت : فسمعت نحيب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فجئت فقلت : يا رسول الله ، والله ما علمت به. فقال : إنما جاءني جبرئيلعليه‌السلام وهو على بطني قاعد ، فقال لي :

٢٣٤

أتحبّه؟. فقلت : نعم. قال : إن أمتك ستقتله. ألا أريك التربة التي يقتل بها؟.(قال) فقلت : بلى. قال : فضرب بجناحه فأتى بهذه التربة. قالت : فإذا في يده تربة حمراء ، وهو يبكي ويقول : يا ليت شعري من يقتلك بعدي؟!.

وفي رواية أخرى للخوارزمي : (قادتنا ـ ج ٦ ص ١٢٦)

قال : ثم أخذ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تلك القبضة التي أتاه بها الملك ، فجعل يشمّها ويبكي ، ويقول في بكائه : الله م لا تبارك في قاتل ولدي ، وأصله نار جهنم.

ثم دفع تلك القبضة إلى أم سلمة ، وأخبرها بقتل الحسينعليه‌السلام بشاطئ الفرات ، وقال : يا أم سلمة خذي هذه التربة إليك ، فإنها إذا تغيرت وتحولت دما عبيطا ، فعند ذلك يقتل ولدي الحسينعليه‌السلام .

إقامة العزاء على الحسينعليه‌السلام

٢٢١ ـ إقامة العزاء على الحسينعليه‌السلام :

(أسرار الشهادة للدربندي ، ص ٩٣)

يقول الفاضل الدربندي : اعلم أن من تأمل في الأخبار المروية من طرق العامة في فضل الحسن والحسينعليه‌السلام ومناقبهما ، علم أن البكاء على الحسينعليه‌السلام وإقامة تعزيته في كل سنة ، بل في كل شهر ، بل في كل أسبوع ، بل في كل ليلة ، من أفضل العبادات وأشرف الطاعات والقربات. فلعنة الله على كل متعصب من المخالفين ، الذين يأخذون يوم عاشوراء عيدا ، ويسمّون الاجتماع للعزاء والبكاء على سيد الشهداء بدعة ، وذلك كابن حجر العسقلاني ومن مثله.

٢٢٢ ـ ثواب إقامة العزاء على الحسينعليه‌السلام :

(المنتخب للطريحي ، ص ٢٨ ط ٢)

روي أنه لما أخبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ابنته فاطمة بقتل ولدها الحسينعليه‌السلام وما يجري عليه من المحن ، بكت فاطمةعليه‌السلام بكاء شديدا ، وقالت : يا أبتي متى يكون ذلك؟. قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في زمان خال مني ومنك ومن عليعليه‌السلام . فاشتد بكاؤها ، وقالت : يا أبة فمن يبكي عليه؟. ومن يلتزم بإقامة العزاء له؟. فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :يا فاطمة إن نساء أمتي يبكون على نساء أهل بيتي ، ورجالهم يبكون على رجال

٢٣٥

أهل بيتي ، ويجددون العزاء جيلا بعد جيل في كل سنة. فإذا كان يوم القيامة تشفعين أنت للنساء ، وأنا أشفع للرجال. وكل من بكى على مصاب الحسينعليه‌السلام أخذنا بيده وأدخلناه الجنة.

يا فاطمة ، كل عين باكية يوم القيامة ، إلا عين بكت على مصاب الحسينعليه‌السلام ، فإنها ضاحكة مستبشرة بنعيم الجنة.

٢ ـ فضل البكاء والحزن على الحسينعليه‌السلام

٢٢٣ ـ البكاء على أمناء الرحمن :

(المنتخب للطريحي ، ص ١٦ ط ٢)

يقول فخر الدين الطريحي : فيا إخواني ، كيف لا نبكي على أمناء الرحمن ، وسادات أهل الزمان؟. وكيف لا نجدد النوح والأحزان ، في كل آن ومكان؟. على الشهيد العطشان ، النائي عن الأهل والأوطان ، المدفون بلا غسل ولا أكفان؟.فعلى الأطائب من أهل بيت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فليبك الباكون ، وإياهم فليندب النادبون ، ولمثلهم تذرف الدموع من العيون.

٢٢٤ ـ فضيلة البكاء من خشية الله :

(أخبار الدول للقرماني ص ١١١)

قال الإمام محمّد الباقرعليه‌السلام : ما اغرورقت عين بمائها من خشية الله ، إلا وحرّم اللهعزوجل وجه صاحبها على النار. فإن سالت على الخدين دموعه ، لم يرهق وجهه قتر ولا ذلّة. وما من شيء إلا له جزاء إلا الدمعة ، فإن الله تعالى يكفّر بها بحور الخطايا. ولو أن باكيا بكى في أمة ، لحرّم الله تلك الأمّة على النار.

(أقول) : ومن هذا القبيل بكاء المؤمن على الإمام الحسينعليه‌السلام .

٢٢٥ ـ البكاء من خوف الله وخشيته :

(أسرار الشهادة ، ص ٤٨)

يقول الفاضل الدربندي : ومنها أن البيت المبني من الطين إذا انهدم أمكن إصلاحه بقرب من الماء ، فكذلك الإنسان المخلوق أصله من الطين ، إذا فسد أمره بارتكاب المعصية ، أمكنه تداركه بإرسال العبرات على الحسرات. كما قال أمير

٢٣٦

المؤمنين ، وسيد الموحدين ، وتاج رؤوس البكّائينعليه‌السلام : أمحوا المثبّتات من العثرات بالمرسلات من العبرات.

٢٢٦ ـ البكاء على الحسينعليه‌السلام هو من خشية الله :

(المصدر السابق ، ص ٤٩)

ويقول الفاضل الدربندي : واعلم أن البكاء على مصاب أهل بيت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا سيما على مصاب سيد الشهداء روحي له الفداء ، ليس أمرا مغايرا للبكاء من خوف الله تعالى. حتّى يتمشّى سؤال : أهل البكاء من خوف الله تعالى أفضل ، أم البكاء على سيد الشهداءعليه‌السلام ؟. بل إن البكاء عليه هو البكاء في محبة الله ، والبكاء المنبعث عن التقرب إلى الله.

٢٢٧ ـ البكاء من خوف الله قسمان :

(المصدر السابق)

ثم يقول الفاضل الدربندي : فإن شئت أن توضّح المطلب في غاية الإيضاح فقل :إن البكاء من خوف الله تعالى ينحلّ إلى نوعين وينقسم إلى قسمين :

الأول : أن يكون منشأ البكاء معاصي الإنسان ، وتذكّره لحالة الاحتضار وأهوال البرزخ والمحشر والعقوبات التي يستحقها. فهذا البكاء وإن كان يطلق عليه أيضا أنه بكاء من خوف الله وقسم منه ، إلا أنه في الحقيقة يرجع إلى بكائه على نفسه وعلى ذنبه.

الثاني : أن يكون ذلك البكاء في مقام محبة الله تعالى ، وملاحظة عظمة صفاته وكبريائه وجبروته ، وفي مقام التفكر في التقصير في عبادته. وهذا في مقام ذوق حلاوة مناجاته ومحبته التي انبعثت عنها المحبة والموالاة لأوليائه وحججه ، فلا يلاحظ في هذا القسم أصلا رجاء الثواب ولا الخوف من العقاب. فلا شك أن هذا القسم من البكاء هو أفضل من القسم الأول. ومما لا شك فيه أن البكاء على مصاب آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذا القسم ، إذ قد عرفت أن المحبة والموالاة لهم مما يرجع إلى محبة الله وموالاته. ويتضح هذا المطلب عند الفطن المتدبر ، إذا لا حظ عوم الأئمة الطاهرين ، وسباحة حجج الله المعصومين ، في بحار البلايا وقواميس المصائب ، لأجل محبة الله تعالى.

شرح : القواميس : جمع قاموس ، وهو البحر العظيم.

٢٣٧

٢٢٨ ـ ثواب البكاء عامة على الحسين ومصيبة سائر الأئمةعليه‌السلام :

(الخصال الأربعمائة ٢ / ٦٣٥ والبحار ٤٤ / ٢٨٧)

قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : إن الله تبارك وتعالى اطّلع إلى الأرض فاختارنا ، واختار لنا شيعة ينصروننا ، ويفرحون لفرحنا ، ويحزنون لحزننا ، ويبذلون أموالهم وأنفسهم فينا ، أولئك منا وإلينا.

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كل عين باكية إلا عين بكت على مصاب الحسينعليه‌السلام ، فإنها ضاحكة مستبشرة بنعيم الجنة».

وقال الإمام الرضاعليه‌السلام للريان بن شبيب : إن سرّك أن تكون معنا في الدرجات العلى من الجنان ، فاحزن لحزننا ، وافرح لفرحنا ، وعليك بولايتنا. فلو أن رجلا تولّى حجرا حشره الله معه يوم القيامة.

وقال الإمام عليعليه‌السلام : كل عين يوم القيامة باكية ، وكل عين يوم القيامة ساهرة ، إلا عين من اختصه الله بكرامته ، وبكى على ما ينتهك من الحسين وآل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . (راجع مقتل العوالم ص ٥٢٥).

٢٢٩ ـ من قطرت عينه قطرة على الحسينعليه‌السلام :

(مجالس المفيد ، ص ٣٤٠ وأمالي الطوسي ١ / ١١٦ والبحار ٤٤ / ٢٧٩)

عن الإمام الحسينعليه‌السلام قال : ما من عبد قطرت عيناه فينا قطرة ، أو دمعت عيناه فينا دمعة ، إلا بوّأه الله تعالى بها في الجنة (غرفا يسكنها) حقبا. (وفي رواية) : أحقابا أحقابا.

شرح : الحقبة من الدهر : مدة لا وقت لها ، جمعها : حقب. وهي كناية عن الدوام.

٢٣٠ ـ فضيلة البكاء على الحسينعليه‌السلام :

(مقتل العوالم ، ج ١٧ ص ٥٢٦)

في (تفسير علي بن إبراهيم) عن الإمام محمّد الباقرعليه‌السلام قال : كان علي ابن الحسينعليه‌السلام يقول : أيّما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين بن عليعليه‌السلام دمعة ، حتّى تسيل على خده ، بوّأه الله بها في الجنة غرفا يسكنها أحقابا. وأيما مؤمن دمعت عيناه (دمعا) حتّى يسيل دمعه على خده ، لأذى مسّنا من عدونا في الدنيا ، بوّأه الله مبوّأ صدق في الجنة. وأيما مؤمن مسّه أذى فينا ، فدمعت عيناه حتّى يسيل

٢٣٨

دمعه على خديه ، من مضاضة ما أوذي فينا ، صرف الله عن وجهه الأذى ، وآمنه يوم القيامة من سخطه والنار.

٢٣١ ـ البكاء على الحسينعليه‌السلام يحطّ الذنوب :

(بحار الأنوار للمجلسي ، ج ٤٤ ص ٢٨٢)

عن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام قال لفضيل : تجلسون وتتحدثون؟. قال : نعم جعلت فداك. قال : إن تلك المجالس أحبّها ، فأحيوا أمرنا يا فضيل ، فرحم الله من أحيا أمرنا.

يا فضيل ، من ذكرنا أو ذكرنا عنده ، فخرج من عينه مثل جناح الذباب ، غفر الله له ذنوبه ، ولو كانت أكثر من زبد البحر.

٢٣٢ ـ حديث : نفس المهموم لظلمنا تسبيح :

(مجالس المفيد ، ص ٣٣٨ وأمالي الطوسي ١ / ١١٥ والبحار ٤٤ / ٢٧٨)

عن أبان بن تغلب ، عن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام قال : نفس المهموم لظلمنا تسبيح ، وهمهّ لنا عبادة ، وكتمان سرّنا جهاد في سبيل الله.

ثم قالعليه‌السلام : يجب أن يكتب هذا الحديث بالذهب.

٢٣٣ ـ حديث : من دمعت عينه فينا دمعة :

(مجالس المفيد ، ص ١٧٤ وأمالي الطوسي ١ / ٩٧ والبحار ٤٤ / ٢٧٩)

عن محمّد بن أبي عمارة الكوفي ، قال : سمعت جعفر بن محمّدعليه‌السلام يقول :من دمعت عينه فينا دمعة ، لدم سفك لنا ، أو حقّ لنا أنقصناه ، أو عرض انتهك لنا أو لأحد من شيعتنا ، بوّأه الله تعالى بها في الجنة حقبا.

٢٣٤ ـ حديث : من ذكرنا عنده :

(كامل الزيارات ، ص ١٠٤ والبحار ٤٤ / ٢٨٥)

عن فضيل بن فضالة ، عن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام قال : من ذكرنا عنده ففاضت عيناه ، حرّم الله وجهه على النار.

وروي عن الصادقعليه‌السلام قال : لكل سرّ ثواب ، إلا الدمعة فينا.

٢٣٩

٢٣٥ ـ حديث الإمام الصادقعليه‌السلام لمسمع كردين :

(كامل الزيارات ، ص ١٠١ والبحار ٤٤ / ٢٨٩)

سأل الإمام الصادقعليه‌السلام مسمع كردين ، وهو من أهل العراق : هل يبكي على الحسينعليه‌السلام ؟ فقال : بلى

قال : ثم استعبر واستعبرت معه. فقالعليه‌السلام : الحمد لله الّذي فضّلنا على خلقه بالرحمة ، وخصّنا أهل البيت بالرحمة.

يا مسمع ، إن الأرض والسماء لتبكي منذ قتل أمير المؤمنين رحمة لنا. وما بكى لنا من الملائكة أكثر. وما رقأت دموع الملائكة منذ قتلنا. وما بكى أحد رحمة لنا ولما لقينا ، إلارحمه‌الله قبل أن تخرج الدمعة من عينيه. فإذا سالت دموعه على خده غفر الله ذنوبه ، ولو كانت مثل زبد البحر. فلو أن قطرة من دموعه سقطت في جهنم ، لأطفأت حرّها حتّى لا يوجد لها حرّ. وإن الموجع لنا قلبه ليفرح يوم يرانا عند موته ، فرحة لا تزال تلك الفرحة في قلبه حتّى يرد علينا الحوض. وإن الكوثر ليفرح بمحبّنا إذا ورد عليه ، حتّى أنه ليذيقه من ضروب الطعام ما لا يشتهي أن يصدر عنه.

٢٣٦ ـ حديث : من تذكر مصابنا وبكى :

(أمالي الصدوق ، ص ٦٨ وبحار الأنوار ٤٤ / ٢٧٨)

قال الإمام الرضاعليه‌السلام : من تذكّر مصابنا وبكى لما ارتكب منا ، كان معنا في درجاتنا يوم القيامة. ومن ذكّر بمصابنا فبكى وأبكى ، لم تبك عينه يوم تبكي العيون. ومن جلس مجلسا يحيي فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب.

٢٣٧ ـ الحسينعليه‌السلام قتيل العبرة :

(أمالي الطوسي ، ص ١٢١)

عن الإمام الصادقعليه‌السلام (قال) قال الحسين بن عليعليه‌السلام : أنا قتيل العبرة ، قتلت مكروبا ، وحقيق على الله أن لا يأتيني مكروب قط ، إلا ردّه الله وأقلبه إلى أهله مسرورا.

وعن الحسينعليه‌السلام قال : أنا قتيل العبرة ، لا يذكرني مؤمن إلا استعبر.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273