البنك اللاربوي في الإسلام

البنك اللاربوي في الإسلام21%

البنك اللاربوي في الإسلام مؤلف:
تصنيف: فقه استدلالي
الصفحات: 273

البنك اللاربوي في الإسلام
  • البداية
  • السابق
  • 273 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 36623 / تحميل: 7407
الحجم الحجم الحجم
البنك اللاربوي في الإسلام

البنك اللاربوي في الإسلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

البطالة ينافي ما عليه الإسلام ، وما هو معروف من مبادئه من انه ينكر البطالة ويحث عل العمل وعدم الاتكال على الآخرين.

ويقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« ملعون من القى كلّه على الناس »(١) .

ويقول الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام :

« لنقـل الصخر من قلل الجبال

أعز الي من مـنـن الـرجال

يقول الناس لي في الكسب عار

فقلت العار في ذْل السؤال »(٢)

بهذا الأسلوب يواجه الإسلام الأفراد فهو دين العزة والرفعة ، وهو دين الجد والعمل ، ولا يريد للمجتمع أن يعيش أفراده يتسكعون ويتكففون.

فلماذا اذاً يعودهم على الاتكال على غيرهم ؟.

للإجابة على ذلك نقول :

إن الإسلام بتشريعه الانفاق بنوعيه الالزامي والتبرعي لم يرد للأفراد أن يتكلوا على غيرهم في مجال العيش والعمل بل على العكس نراه يحارب بشدة الاتكالية ، والاعتماد على أيديِ الآخرين.

بل الإسلام يكره للفرد أن يجلس في داره وله طاقة على العمل ، ويطلب الرزق من الله فكيف بالطلب من انسان مثله.

يقول الإمام الصادقعليه‌السلام :

__________________

(١ و ٢) المحجة البيضاء ٧ / ٤٢٠.

٤١

« أربعة لا تستجاب لهم دعوة رجل جالس في بيته يقول : اللهم أرزقني فيقال له : ألم آمرك بالطلب ؟ »(١) .

وفي حديث آخر عنهعليه‌السلام فيمن ترد دعوته :

« ورجل جلس في بيته وقال : يا رب ارزقني »(٢) .

وهناك احاديث أخرى جاءت بهذا المضمون ان الله الذي قال في أكثر من آية( ادعوني أستجب لكم ) ، ووعد بالاستجابة بمجرد دعاء عبده ليكره على لسان هذه الأخبار وغيرها أن يدعوا العبد بالرزق ، وهو جالس لا يبدي أي نشاط وفعالية بالاسباب التي توجب الرزق.

واذاً فالإسلام عندما شرع بنوعية الإلزامي والتبرعي لم يشرعه لمثل هؤلاء المتسولين بل حاربهم ، واظهر غضبه عليهم.

فعن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنه قال :

« ثلاثة يبغضهم الله ـ الشيخ الزاني ، والفقير المحتال ، والغني الظلوم »(٣) .

إنما شرع الإنفاق للفقير الذي لا يملك قوت سنته ، وقد اضطره الفقر لأن يجلس في داره.

وقد تضمنت آية الزكاة مصرف الزكاة فحصرت الاصناف الذين يستحقونها في ثمانية اثنان منهم الفقراء ، والمساكين ، وستة أصناف لم يؤخذ الفقر صفة لهم بل لمصالح خاصة استحقوها :

__________________

(١ و ٢) أصول الكافي ٢ / ٥١١ ـ طبعة طهران ـ تصحيح وتعليق الغفاري.

(٣) الدر المنثور في تفسير الآية ٢٧١ من صورة البقرة.

٤٢

يقول سبحانه :

( إنما الصّدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرّقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل ) (١) .

وأما مصرف بقية موارد الانفاق الإلزامي من كفارات ، والإنفاق التبرعي فكلفه للفقراء.

والفقراء في المصطلح الشرعي هم الذين يستحقون هذا النوع من المساعدة كلهم اخذ فيهم أن لا يملكوا قوت سنتهم ، أو كان ما عنده من المال لا يكفيه لقوت سنته أما من كان مالكاً لقوت سنته وأخذ منها فهو محتال وسارق لقوت غيره.

ولا يعطى من الصدقات ، وإذا اعطي من الصدقات فمن التبرعية لا الإلزامية وله عند الله حسابه لو عوّد نفسه على التكفف والتسول والأخذ من الصدقات التبرعية ، وبه طاقة على العمل.

__________________

(١) سورة التوبة / آية : ٦٠.

٤٣

الطرق التي سلكها القرآن الكريم

للحث على الإنفاق

وكما قلنا إن الأساليب التي اتخذها القرآن الكريم لحث الفرد على هذه العملية الإنسانية كثيرة وبالامكان بيان ابرز صورها وهي :

١ ـ الترغيب والتشويق إلى الإنفاق.

٢ ـ التنأيب على عدم الإنفاق.

٣ ـ الترهيب والتخويف على عدم الإنفاق.

١ ـ التشويق إلى الإنفاق والبذل والحث عليه :

ولم يقتصر هذا النوع من التشويق على صورة واحدة بل سلك القرآن في هذا المجال مسالك عديدة وصور لتحبيب الإنفاق صوراً مختلفة :

٤٤

الصورة الأولى من التشويق :

الضمان بالجزاء

لقد نوخت الآيات التي تعرضت إلى الإنفاق والتشويق له أن تطمئن المنفق بأن عمله لم يذهب سدى ، ولم يقتصر فيه على كونه عملية تكافلية إنسانية لا ينال الباذل من ورائها من الله شيئاً ، بل على العكس سيجد المنفق أن الله هو الذي يتعهد له بالجزاء على عمله في الدنيا وفي الآخرة.

أما بالنسبة إلى الجزاء وبيان ما يحصله الباذل ازاء هذا العمل فإن الآيات الكريمة تتناول الموضوع على نحوين :

الأول : وقد تعرضت إلى بيان أن المنفق سيجازيه الله على عمله ويوفيه حقه أما ما هو الحزاء ونوعيته فإنها لم تتعرض لذلك ، بل أوكلته إلى النحو الثاني الذي شرح نوعية الجزاء وما يناله المنفق في الدنيا والآخرة.

١ ـ الآيات التي اقتصرت على ذكر الجزاء فقط :

يقول تعالى :

( وما تنفقوا من خير يوفّ إليكم وانتم لا تظلمون ) (١) .

وفي آية أخرى قال سبحانه :

__________________

(١) سورة البقرة / آية : ٢٧٢.

٤٥

( وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوفّ إليكم وأنتم تظلمون ) (١) .

ويظهر لنا من مجموع الآيتين أنهما تعرضتا لأمرين :

الأول : اخبار المنفق واعلامه بأن ما ينفقه يوقى إليه ، وكلمة ( وفى ) في اللغة تحمل معنيين :

أحدهما : انه يؤدي الحق تاماً.

ثانيهما : انه يؤدي بأكثر.

وقوله سبحانه :( يُوَفَ إليكُم ) تشتمل بإطلاقها المعنيين أي يعطى جزاءه تاماً بل بأكثر مما يتصوره ويستحقه والمنفق.

الثاني : تطمين المنفق بأنه لا يظلم إذا أقدم على هذه العملية الإنسانية وهذا تأكيد منه سبحانه لعبده وكفى بالله ضامناً ومتعهداً في الدارين ويستفاد ذلك من تكرار الآية الكريمة وبنفس التعبير في الأخبار بالوفاء ، وعدم الظلم وحاشا له وهو الغفور الرحيم أن يظلم عبداً أنفق لوجهه ، وبذل تقرباً إليه.

هذا النوع من الإطمئنان للمنفق بأنه لا يظلم بل يؤدى إليه حقه كاملاً بل بأكثر.

وفي آية أخرى نرى التطمين من الله عز وجل يكون على شكل آخر فيه نوع من الحساب الدقيق مع المنفقين.

( الّذين ينفقون أموالهم باللّيل والنّهار سراً وعلانية فلهم

__________________

(١) سورة الانفال / آية : ٦٠.

٤٦

أجرهم عند ربّهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) (١) .

ولم يتعرض سبحانه لنوعية الجزاء من الأجر بل أخفاه ليواجههم به يوم القيامة فتزيد بذلك فرحتهم.

( ولا خوف عليهم ) من فقرٍ ، أو ملامة لأن الله عز وجل هو الذي يضمن لهم ، ثم ممن الخوف ؟

من اعتراض المعترضين ؟ ، وقد جاء في الحديث ( صانع وجهاً يكفيفك الوجوه ) ، أم من الفقر ، ونفاد المال ؟ وقد صرحت الآيات العديدة بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يقسم بين الناس معايشهم كما ذكرنا ذلك في الآيات السابقة.

( ولا هم يحزنون ) .

وقد ورد في تفسير هذه الآية أنها نزلت في الإمام علي بن أبي طالب أمير المؤمنينعليه‌السلام : « كانت عنده أربع دراهم فانفق بالليل درهماً ، وفي النهار درهماً وسراً درهماً وعلانيةً درهماً »(٢) .

وتتفاوت النفوس في الإيمان والثبات فلربما خشي البعض من العطاء فكان في نفسه مثل ما يلقاه المتردد في الاقدام على الشيء.

لذلك نرى القرآن الكريم يحاسب هؤلاء ويدفع بهم إلى الإقدام على الانفاق وعدم التوقف فيقول سبحانه :

( قل إنّ ربّي يبسُطُ الرّزقَ لمن يشاءُ من عبادِهِ ويقدِرُ له وما

__________________

(١) سورة البقرة / آية : ٢٤٧.

(٢) الدر المنثور : في تفسيره لهذه الآية.

٤٧

أنفقتُم من شَيءٍ فهو يخلفُهُ وهو خيرُ الرّازقينَ ) (١) .

ومع الآية الكريمة فإنها تضمنت مقاطع ثلاثة :

١ ـ قوله :( قل أن ربي يبسط الرّزقَ لمن يشاءُ من عبادهِ ويقدِرُ له ) .

٢ ـ قوله :( وما أنفقتُم من شيء فهوَ يخلفْهُ ) .

٣ ـ قوله :( وهو خيرُ الرازقين ) .

أولاً :

( قل إن ربي يبسُطُ الرزق لمن يشاءُ ) .

ولا بد للعبد أن يعلم أن الرازق هو الله وأن بيده جميع المقاييس والضوابط فالبسط منه والتقتير منه أيضاً وفي كلتا الحالتين تتدخل المصالح لتأخذ مجراها في هاتين العمليتين ، وليس في البين أي حيف وميل بل رحمة وعطف على الغني بغناه ، وعلى الفقير بفقره فكلهم عبيده وعباده وحاشا أن يرفع البعض على اكتاف الآخرين.

أما ما هي المصالح ؟.

فإن علمها عند الله وليس الخفاء فيها يوجب القول بعدم وجودها.

وفي الحديث عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن الله سبحانه يقول :

__________________

(١) سورة سبأ / آية : ٣٩.

٤٨

( عبدي أطعني بما أمرتك ولا تعلمني ما يصلحك ) .

ثانياً :

( وما أنفقتُم من شيءٍ فهو يخلفْهُ ) .

فعن جابر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله :

« كل معروف صدقة ، وما وقى به الرجل عرضه فهو صدقة ، وما انفق المؤمن من نفقة فعلى الله خلفها ضامناً »(١) .

ثالثاً :

( وهو خير الرازقين ) .

أما أنه خير الرازقين فلأن عطاءه يتميز عن عطاء البشر.

عطاؤه يأتي بلا منة.

وعطاء البشر مقرون بمنة.

وعطاؤه من دون تحديد نابع عن ذاته المقدسة الرحيمة الودودة التي هي على العبد كالأم الرؤوم بل وأكثر من ذلك ، وعطاء البشر محدود.

وكذب من قال انه محدود العطاء :

( بل يداهُ مبسوطتانِ ينفِقُ كيفَ يشاءُ ) (٢) .

وقد جاء عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :

__________________

(١) مجمع البيان في تفسيره لهذه الآية.

(٢) سورة المائدة / آية : ٦٤.

٤٩

« ان يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سخاء بالليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه »(١) .

وقد جاء الوعد بالجزاء فقط في آيات أخرى فقد قال سبحانه :

( وما تُنفقوا من خيرٍ فأنَّ اللهَ به عليمٌ ) (٢) .

( وما أنفقتُم من نفقةٍ أو نذرتُم من نذرٍ فأنَّ الله يعلَمَهُ ) (٣) .

( وما تُنفقُوا من شيءٍ فإنَّ الله به عليمٌ ) (٤) .

وقد فسر قوله «عليم » أو «يعلمه » بالجزاء لأنه عالم فدل ذكر العلم على تحقيق الجزاء.

وفي تفسير آخر للآيات الكريمة أن معنى عليم أو يعلمه في هذه الآيات أي يجازيكم به قل أو كثر لأنه عليم لا يخفى عليه شيء من كل ما فعلتموه وقدمتموه لوجهه ولمرضاته عز وجل.

٢ ـ الآيات التي تطرقت لنوعية الجزاء :

يختلف لسان الآيات بالنسبة لبيان نوعية الجزاء فهي تارة : تذكر الجزاء ولا ذكر فيه للجنة.

وأخرى : تذكر الجنة وتبشر المنفق بأنها جزاؤه.

وما ذكر فيه الجنة أيضاً جاء على قسمين :

__________________

(١) الدر المنثور في تفسيره لهذه الآية.

(٢) سورة البقرة / آية : ٢٧٣.

(٣) سورة البقرة / آية : ٢٧٠.

(٤) سورة آل عمران / آية : ٩٢.

٥٠

فمرة : نرى الآية تقتصر على ذكر الجنة جزاء.

وثانية : تحبب إلى المنفق عمله فتذكر الجنة وما فيها من مظاهر تشتاق لها النفس كالانهار والاشجار وما شاكل.

ومن الاجمال إلى التفصيل :

يقول سبحانه :

( إنما المؤمنونَ الذينَ إذا ذُكِرَ اللهُ وجلَتْ قلوبُهُم وإذا تليَتْ عليهِم آياتُهُ زادتهُم إيماناً وعلى ربِّهِم يتوكَّلُون *الذينَ يقيمونَ الصَّلاةَ وممّا رزقناهُم يُنفِقون *أولئِكَ هُمُ المؤمنونَ حقّاً لهم درجاتٌ عندَ ربِّهِم ومغفرَةٌ وَرِزقٌ كَريمٌ ) (١) .

( إنما المؤمنون ) إنما أداة حصر تفيد أن ما بعدها هم المؤمنون هؤلاء الذين عددت الآية الكريمة صفاتهم وهم الذين جمعوا هذه الصفات.

وكانت صفة الانفاق من جملة مميزات المؤمنين وصفاتهم التي بها نالوا هذا التأكيد من الله سبحانه بقوله :

( أولئِكَ هُمُ المُؤمِنونَ حقّاً ) (٢) .

أما ما أعد لهم من جزاء فهو :

( درجات عند ربهم ) وهي الحسنات التي استحقوا بها تلك المراتب العالية.

__________________

(١) سورة الانفال / آية : ٢ ـ ٤.

(٢) سورة الانفال / آية : ٤ و ٧٤.

٥١

( ومغفرة ) لذنوبهم من غير حساب على ما فعلوه في هذه الدنيا من مخالفات.

( ورزق كريم ) : وهو رزق لا يصيبه ضرر ولا يخاف من نقصانه لأنه من الله جلت عظمته ، وما كان من الله ينمو وتكون فيه البركة فهو رزق طيب ومن كريم.

وفي آية كريمة أخرى يقول عز وجل :

( إنّ المسلمينَ والمسلماتِ والمؤمنينَ والمؤمناتِ والقانتينَ والقانتاتِ والصّادقينَ والصّادقاتِ والصّابرينَ والصّابراتِ والخاشعينَ والخاشعاتِ والمُتصدّقينَ والمُتصدّقاتِ ـ إلى قوله تعالى ـأعدَّ اللهُ لهم مغفرةً وأجراً عظيماً ) (١) .

( والمتصدقين والمتصدقات ) .

هؤلاء من جملة من أعد الله لهم المغفرة والأجر العظيم جزاء على هذه الصفة وهذا الشعور التعاطفي بالنحو على الضعيف.

وأما الأيات التي ذكرت الجنة جزاء للمنفق فمنها قوله تعالى :

( أفمن يعلمُ أنّما أُنزلَ إليكَ من ربّكَ الحقُّ كمن هو أعمَى إنّما يتذكّرُ أولُوا الألبابِ *الّذينَ يُوفُونَ بعهدِ اللهِ ولا يُنقضُونَ الميثاقَ *والّذين يصلُونَ ما أمرَ اللهُ بهِ أنْ يوصَلَ ويخشونَ ربّهم ويَخافونَ سوءَ الحساب *والّذينَ صَبَرُوا ابتغاءَ وجهِ ربّهم وأقامُوا الصّلاة وأنفَقُوا ممّا رزقناهُم سرّاً وعلانِيَةً ويدْرَءُونَ بالحَسَنَةِ السّيِّئَةَ أولئك لهم عقبى الدّارِ *جنّاُت عدنٍ يَدخلونَهَا ) (٢) .

__________________

(١) سورة الأحزاب / آية : ٣٥.

(٢) سورة الرعد / آية : ١٩ ـ ٢٣.

٥٢

يقف الإنسان عند هذه الآيات وهو يرتلها بخشوع ليلحظ من خلالها إنها فرقت بين صنفين من الناس كافر ، ومؤمن ، وقد وصفت الكافر أنه( أعمى ) لا يتذكر ولا ينفع معه شيء.

أما المؤمن ، وهو من يتذكر فأنه ينظر بعين البصيرة ، وقد شرعت ببيان أوصاف هؤلاء المؤمنين ، ومن جملة صفاتهم أنهم الذين ينفقون مما رزقناهم سراً وعلانيةً.

في السر : فإنما هي لرعاية الفقير وحفظ كرامته لئلا يظهر عليه ذل السؤال.

ويحدثنا التاريخ عن أئمة أهل البيتعليهم‌السلام إنهم كانوا إذا أرادوا العطاء أعطوا من وراء ستار حفاظاً منهم على عزة السائل وكرامته ، وتنزيهاً للنفس لئلا يأخذ العجب والزهو فتمن على السائل بهذا العطاء فيذهب الأجر.

أما في العلانية : فإنما هو لتشجيع الأخرين على التسابق على الخير والاحسان أو لدفع التهمة عن النفس لئلا يرمى المنفق بالبخل والامتناع عن هذا النوع من التعاطف الإنساني.

أما جزاؤهم : فهو العاقبة الحسنة ، وأن لهم الجنة جزاء قيامهم بهذه الأعمال وتفقدهم لهؤلاء الضعفاء في جميع الحالات سراً وعلانيةً.

وفي آيات أخرى نرى القرآن لا يقتصر على ذكر الجنة فقط كجزاء للمنفق بل يتطرق لبيان ما فيها وما هي ليكون ذلك مشوقاً للمنفق في أن يقوم بهذه الأعمال الخيرة لينال جزاءه في الآخرة.

٥٣

قال تعالى :

( وسارعُوا إلى مغفرةٍ من ربّكُم وجنّةٍ عرضُهَا السماواتُ والأرضُ أعدَّت للمُتّقينَ *الّذين ينفقونَ في السّرّاءِ والضّرّاءِ والكاظِمِينَ الغيظَ والعافينَ عن النّاسِ واللهُ يحبُّ المُحسنينَ ) (١) .

وقال جلت عظمته :

( قل أؤنبّئكمُ بخيرٍ من ذلكُم للذينَ اتّقَوا عندَ ربّهم جنّاتٌ تجري من تحتها الأنهارُ خالدينَ فيها وأزواجٌ مطهّرةٌ ورضوانٌ من اللهِ واللهُ بصيرٌ بالعبادِ *الّذين يقولونّ ربّنا إنّنا آمَنّا فأغفِر لنا ذُنُوبَنَا وقِنا عذابَ النّار *الصّابرينَ والصّادقينَ والقانتينَ والمُنفقينَ والمُستغفرينَ بالأسحارِ ) (٢) .

وقد تضمنت الآيات نحوين من الجزاء :

الأول : جزاء حسي.

الثاني : جزاء روحي.

أما الجزاء الحسي : فيتمثل بقوله تعالى في الآية الأولى :

( جنة عرضُها السماواتُ والأرضُ ) .

وفي الآية الثانية فيتمثل بقوله تعالى :

( جنّاتٌ تجري من تَحتِها الأنهارُ خالدينَ فيها وأزواجٌ مطهرةٌ ) .

وتأتي هذه الصفات أو المشوقات للجنة من كونها بهذا الحجم الواسع عرضاً فكيف بالطول لأن العرض غالباً يكون أقل من الطول ،

__________________

(١) سورة آل عمران / آية : ١٣٣ ـ ١٣٤.

(٢) سورة آل عمران / آية : ١٥ ـ ١٦ ـ ١٧.

٥٤

ومن أن فيها الأشجار ، ومن تحت تلك الأشجار الأنهار الجارية وفيها أزواج ، وتلك الأزواج مطهرة من دم الحيض والنفاس ، ومن كل الأقذار والقبائح وبقية الصفات الذميمة.

تأتي كل هذه الصفات مطابقة لما تشتهيه النفس ، وما اعتادت على تذوقه في الدنيا من مناظر الأشجار والأنهار والنساء وأن ذلك غير زائل بل هو باقٍ وكل هذه الأمور محببة للنفس وقد استحقها المنفق جزاء تعاطفه وإنفاقه في سبيل الله ونيل مرضاته جلت عظمته.

أما الجزاء الروحي : فيتمثل بقوله تعالى في الآية الأولى :

( والله يحبُ المحسنين ) .

( ورضوانٌ من اللهِ ) .

رضا الله ومحبته له والتفاته وعطفه كل هذه غاية يتوخاها الإنسان يبذل بازائها كل غالٍ ونفيس ، وما أسعد الإنسان وهو يرى نفسه محبوباً لله سبحانه راضياً عنه.

على أن في الأخبار بالرضا والمحبة في آيتين تدرجاً ظاهراً وواضحاً فإن المحبة أمر أعمق من مجرد الرضا وواقع في النفس من ذلك.

وصحيح ان الإنسان يسعى جاهداً ويقوم بكل عبادة ليحصل على رضا الله ، ولكن محبة الله له هي معنى له تأثيره الخاص في النفس.

ان عباد الله المؤمنين يشعرون بهذه اللذة وهذه الراحة النفسية عندما يجد الفرد منهم أنه مورد عناية الله في توجهه إليه.

٥٥

الصورة الثانية من التشويق :

جعل المنفقين من المتقين أو المؤمنين

ويتحول القرآن الكريم إلى إعطاء صورة أخرى من صور التشويق للانفاق والبذل والعطاء فنراه يرفع من مكانة هؤلاء المحسنين ، ويجعلهم بمصاف النماذج الرفيعة من الذين اختارهم وهداهم إلى الطريق المستقيم.

ففي آية يعدّهم من أفراد المتقين ، وفي أخرى من المؤمنين ، وفي ثالثة يقرنهم بمقيم الصلاة ، والمواظبين عليها ، وهو تعبير يحمل بين جنباته بأن هؤلاء من المطيعين لله والمواظبين على امتثال أوامره يقول سبحانه عز وجل :

( ذلكَ الكتابُ لا ريبَ فيه هدىً للمُتّقينَ *الذينَ يؤمنونَ بالغيبِ ويقيمونَ الصّلاةَ وممّا رزقناهُم يُنفقونَ ) (١) .

ومن خلال هذه الآية نلمح صفة الإنفاق وما لها من الأهمية بحيث كانت إحدى الركائز الثلاثة التي توجب إطلاق صفة المتقي على الفرد.

__________________

(١) سورة البقرة / آية : ٢ ـ ٣.

٥٦

فمن هم المتقون ؟.

ويأتينا الجواب عبر الآية الكريمة بأنهم :

( الّذين يؤمنونَ بالغيبِ ويُقيمونَ الصلاةَ ومما رزقناهم يُنفقونَ ) .

( يُؤمنونَ بالغيبِ ) :

يؤمنون بما جاء من عند الله من أحكامه وتشريعاته وما يخبر به من المشاهد الآتية من القيامة والحساب والكتاب والجنة والنار وما يتعلق بذلك من مغيبات يؤمنون بها ، ولا يطلبون لمثل هذا الايمان مدركاً يرجع إلى الحس والنظر والمشاهدة بل تكفيهم هذه الثقة بالله وبما يعود له.

( ويقيمونَ الصلاة ) :

فمنهم في مقام اداء فرائضهم مواظبون ولا يتأخرون ويتوجهون بعملهم إلى الله يطلبون رضاه ، ولا يتجهون إلى غيره ، يعبدونه ولا يشركون معه أحداً ، وأداء الصلاة هو مثال الخضوع والعبودية بجميع الأفعال ، والأقوال. يقف الفرد في صلاته خاشعاً بين يدي الله ويركع ويسجد له ، ويضع أهم عضو في البدن وهو الجبهة على الأرض ليكون ذلك دليلاً على منتهى الإطاعة والخضوع ، ويرتل القرآن ليمجده ويحمده ويسبحه ويهلله فهي إذاً مجموعة أفعال وأقوال يرمز إلى الاذعان لعظمته ، والخضوع لقدرته وبذلك تشكل عبادة فريدة من نوعها لا تشبهها بقية العبادات.

( ومما رزقناهم ينفقون ) :

كل ذلك من الجوانب الروحية ، وأما من الجوانب المالية ،

٥٧

فإن المال لا يقف في طريق وصولهم إلى الهدف الذي يقصدونه من الاتصال بالله فهم ينفقون مما رزقناهم غير آبهين به ولا يخافون لومة لائم في السر والعلن ، وفي الليل والنهار كما حدّث القرآن الكريم في آيات أخرى مماثلة.

هؤلاء هم المنفقون الذين كات الإنفاق من جماة مميزاتهم ، وقد مدحهم الله جلت قدرته بقوله :

( أولئكَ على هدىً من ربّهم وأولئكَ هُمُ المُفلحونَ ) (١) .

( هدىً من ربهم ) :

بلى : هدى وبصيرة فلا يضلون ولا يعمهون في كل ما يعود إلى دينهم ودنياهم.( وأولئك هم المفلحون ) :

بكل شيء مفلحون في الدينا بما ينالهم من عزٍ ورفعة لأنهم خرجوا من ذل معصية الله إلى عز طاعته تماماً كما يقول الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام :

« إذا أردت عز بلا عشيرة وهيبةً بلا سلطان فاخرج من ذل معصية الله إلى عز طاعته »(٢) .

ومفلحون في الآخرة التي وعدهم بها كما جاء ذلك في آيات عديدة من كتابه الكريم.

ولم يقتصر الكتاب على هذه الآية في عد الانفاق من جملة صفات المتقين بل درج مع الذين ينفقون من المتقين حيث قال سبحانه :

__________________

(١) سورة البقرة / آية : ٥.

(٢) من كلماتهعليه‌السلام في نهج البلاغة.

٥٨

( وسارعُوا إلى مغفرةٍ مِن ربّكُم وَجنَّةً عرضُهَا السَمَاواتُ و الأرضُ أعِدَّتْ للمتّقينَ *الّذين يُنفقونَ في السّرّاءِ والضّرّاءِ والكاظمينَ الغيظَ والعافينَ عن النّاسِ واللهُ يُحبُّ المُحسنينَ ) (١) .

ومن خلال هذه الآية نرى الأهمية للإنفاق تبرز بتقديم المنفقين على غيرهم من الأصناف الذين ذكرتهم الآية والذين أعدت لهم الجنة من الكاظمين والعافين.

هؤلاء المنفقون الذين لا يفترون عن القيام بواجبهم الإجتماعي في حالتي اليسر والعسر في السراء والضراء يطلبون بذلك وجه الله والتقرب إلى ساحته المقدسة.

وعندما نراجع الآية الكريمة في قوله تعالى :

( الم *تلك آياتُ الكتابِ الحكيمِ *هدىً ورحمةً للمحسنينَ *الذينَ يقيمونَ الصّلاةَ ويؤتونَ الزّكاةَ وهم بالأخرةِ هُم يوقنونَ *أولئكَ على هدىً من ربّهِم وأولئكَ هُمُ المُفلحونَ ) (٢) .

نرى نفس الموضوع تكرره الآية هنا ، ولكن في الآية السابقة قالت عن المنفق بأنه من المتقين ، وهنا من المحسنين.

وفي الآية السابقة الانفاق بكل ما ينفق وهنا عن الانفاق بالزكاة ، فالنتيجة لا تختلف كثيراً ، والصورة هي الصورة نفسها إنفاق من العبد ، وتشويق من الله ، ومدح له بنفس ما مدح المتقي سابقاً.

__________________

(١) سورة آل عمران / آية : ١٣٣ ـ ١٣٤.

(٢) سورة لقمان / آية : ١ ـ ٥.

٥٩

والحديث في الآيتين عن المتقين والمحسنين ، ومن جملة صفاتهم الإنفاق وأداء ما عليهم من الواجب الإجتماعي المتمثل في الإنفاق التبرعي ، أو الإلزامي ، وقد قال عنهم في نهاية المطاف بنفس ما مدح به المتقين في الآية السابقة.

( أولئكَ على هدىً من ربّهم وأولئكَ هُمُ المفلحونَ ) (١) .

وفي وصف جديد في آية كريمة أخرى يصفهم الله بأنهم من المخبتين.

( وبشِّرِ المخبتينَ *الذين إذا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قلوبهم والصّابرينَ على ما أصابَهُم والمُقيمي الصّلاةِ وممّا رزقناهُم يُنفقونَ ) (٢) .

( والمخبتون ) هم المتواضعون لله المطمئنون إليه.

وعندما شرعت الآية بتعدادهم قالت عنهم :

( الذين إذا ذُكِرَ الله وجلتْ قلوبهُمْ ) .

انها النفوس المطمئنة التي إذا ذكر الله ، ـ وذكر الله هنا التخويف من عقابه وقدرته وسطوته ـ وجلت قلوبهم أي دخلها الخوف ولكنه خوف مشوب برجاء عطفه ورحمته.

ولا يأس معه من روح الله لأنه :

( لا يايئسُ من روحِ اللهِ إلا القومُ الكافرونَ ) (٣) .

__________________

(١) سورة لقمان / آية : ٥.

(٢) سورة الحج / آية : ٣٤ ، ٣٥.

(٣) سورة يوسف / آية : ٨٧.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

القسم الثالث من وظائف البنك:

الاستثمار

ويقصد بالاستثمار توظيف البنك لجزءٍ من أمواله الخاصّة أو الأموال المودَعة لديه في شراء الأوراق المالية، والتي تكون غالباً على شكل سنداتٍ توخّياً للربح وحفاظاً على درجةٍ من السيولة التي تتمتّع بها تلك الأوراق المالية ؛ لإمكان تحويلها السريع إلى نقودٍ في أكثر الأحيان.

واتّجار البنك بالسندات يعتبر من الناحية الفقهية كاتّجار أيّ شخصٍ آخر بشراء وبيع تلك السندات.

وتُميِّز البنوك من الناحية الفنية بين الاستثمارات والقروض بعدّة اعتبارات:

منها: أنّ القرض يقوم غالباً على استعمال الأموال لفترةٍ قصيرةٍ نسبياً، خلافاً للاستثمارات التي تؤدّي إلى استعمالٍ للأموال في آمادٍ أطول وإن كان العكس قد يصدق أحياناً.

ومنها: اختلاف دور البنك ومركزه في الاستثمار والقرض، ففي الاستثمار هو الذي يبدأ المعاملة ويدخل السوق عارضاً المال ليوظّف في فترةٍ طويلة، وفي القرض يكون الابتداء من العميل المقترض. كما أنّ دور البنك في القرض دور رئيسي ؛ لأنّه أهمّ المقرِضين، بينما دوره في الاستثمار ليس بتلك الدرجة ؛ لأنّه

١٦١

يدخل إلى سوق الأوراق المالية كواحدٍ من المستثمِرين.

وهذه تَميّزات من وجهة النظر الفنّية.

وأمّا من وجهة النظر الفقهية فيمكن تكييف تعاطي السندات على أساسين:

الأوّل: أن نفسّر العملية على أساس عقد القرض، فالجهة التي تصدّر السند بقيمةٍ اسميةٍ نفرضها (١٠٠٠) دينار، وتبيع السند ب- (٩٥٠) ديناراً مؤجّلاً إلى سنةٍ هي في الواقع تمارس عملية اقتراض، أي أنّها تقترض (٩٥٠) ديناراً من الشخص الذي يتقدّم لشراء السند، وتدفع إليه دَينَه في نهاية المدّة المقررة، وتعتبر الزيادة المدفوعة وهي (٥٠) ديناراً في المثال الذي فرضناه فائدةً ربويةً على القرض.

الثاني: أن نفسّر العملية على أساس عقد البيع والشراء بأجل، فالجهة التي تصدّر السند في المثال السابق تبيع (١٠٠٠) دينارٍ مؤجّل الدفع إلى سنةٍ ب- (٩٥٠) ديناراً حاضراً، ولا بأس أن يختلف الثمن عن المثمن في عقد البيع ويزيد عليه، ولو كانا من جنسٍ واحدٍ ما لم يكن هذا الجنس الواحد مكيلاً أو موزوناً.

والواقع أنّ تفسير العملية على أساس بيعٍ ليس إلاّ مجرّد تغطيةٍ لفظيةٍ للعملية التي لا يمكن إخفاء طبيعتها بوصفها قرضاً مهما اتّخذت من تعبير ؛ لأنّ العنصر الأساسيّ في القرض هو أن يملك شخص مالاً من شخصٍ آخر وتصبح ذمّته مثقلةً بمثله له، وهذا هو تماماً ما يقع في عمليات شراء السندات، أو تمليك الجهة المصدّرة للسندات (٩٥٠) ديناراً حاضراً وتصبح ذمّتها مثقلةً بالمبلغ مع زيادة.

فالعملية إذن عملية إقراض من البنك، ولا تختلف من الناحية الفقهية عن إقراض البنك لأيّ عميلٍ من عملائه الذين يتقدمون إليه بطلب قروض، والزيادة التي يحصل عليها البنك نتيجةً للفرق بين القيمة الاسمية للسند وقيمته المدفوعة

١٦٢

فعلاً من قبل البنك هي رباً، وحكمها حكم سائر الفوائد التي يتقاضاها البنك على قروضه. وعلى هذا فإنّ البنك اللاربوي لا يتعاطى هذه العملية الربوية إلاّ بالنسبة إلى سنداتٍ تصدّرها الحكومة أو جهة من الجهات التي يسمح البنك اللاربوي لنفسه أن يأخذ الفائدة منها، وفقاً للنقطة الرابعة من المعالم الرئيسية لسياسة البنك اللاربوي التي تقدّمت في الفصل الأوّل.

فالبنك اللاربوي يمكنه أن يوظّف جزءاً من أمواله في شراء الأوراق المالية إذا كانت تمثّل سنداتٍ حكوميةً أو سنداتٍ مصدّرةً من جهةٍ أخرى يجوز أخذ الفائدة منها للبنك اللاربوي، ولا يمكنه أن يتعاطى بيع وشراء السندات خارج نطاق هذه الحدود.

١٦٣

١٦٤

الملاحق الفقهية

١٦٥

١٦٦

الملحق (١)

[ مناقشة التخريجات التي تحوّل الفائدة إلى كسب محلّل ]

يعالج هذا الملحق - على مستوىً موسّعٍ من الناحية الفقهية - التخريجات المتعدّدة التي تستهدف تحويل الفائدة إلى كسبٍ محلّلٍ وتطويرها بشكلٍ مشروع، مع مناقشة تلك التخريجات.

لاحظنا في وضع سياسة البنك اللاربوي تجاه الفوائد الربوية على القروض أن تصاغ بشكلٍ يميّزها بقدر الإمكان نصّاً وروحاً عن فكرة الربا المحرَّم في الإسلام.

وأمّا إذا قطعنا النظر عن هذه الملاحظة فهناك تخريجات فقهية متعدّدة يمكن تصويرها بصدد محاولة تحويل الفائدة إلى وجهٍ مشروع. ولكي يستكمل البحث عناصره الفقهية نذكر في ما يلي أهمّ ما يمكن أن يقال أو قيل فعلاً من هذه التخريجات مع مناقشتها:

[ التخريج الأوّل:]

إنّه في القرض يتمثّل عنصران: أحدهما المال المقترَض من الدائن للمدين، والآخر نفس الإقراض بما هو عمل يصدر من المقرض. والربا: هو وضع زيادةٍ

١٦٧

بإزاء المال المقترَض. فالفائدة حيث توضع في مقابل المال المقترَض تصبح رباً محرَّماً، ولكنّها إذا فرضت بإزاء نفس الإقراض بما هو عمل يصدر من الدائن على أساس الجُعالة تخرج بذلك عن كونها رباً.

فالشخص الذي يحاول أن يحصل على قرضٍ يقوم بإنشاء جُعالةٍ يعيّن فيها جُعلاً معيّناً على الإقراض، فيقول: من أقرضني ديناراً فله درهم. وهذه الجعالة تُغري مالك الدينار فيتقدم إليه ويقرضه ديناراً، وحينئذ يستحق عليه الدرهم، وهذا الاستحقاق لا يجعل القرض ربوياً ؛ لأنّه بموجب عقد القرض، بل هو استحقاق بموجب الجعالة.

ولهذا لو فرض أنّ الجعالة انكشف بطلانها بوجهٍ من الوجوه ينتفي بذلك استحقاق المقرِض للدرهم وإن كان عقد القرض ثابتاً ؛ لأنّ استحقاق الدرهم نتج عن الجعالة، لا عن عقد القرض. والدرهم في الجعالة موضوع بإزاء الإقراض بما هو عمل، لا بإزاء المبلغ المقترَض بما هو مال.

فهذا نظير من يجعل جعالةً لمن يبيع بيته، فلو قال شخص: من باعني داره كان له درهم، كان البائع مستحقّاً للدرهم لا بموجب عقد البيع، بل بموجب الجعالة، وهو بإزاء نفس البيع والتمليك بعوضٍ بما هو عمل، لا بإزاء الدار المبيعة. ولهذا لا يسري على الدرهم حكم العوضين.

والكلام حول هذا التقريب من جهتين: الأولى من جهة الصغرى. والثانية من جهة الكبرى.

أمّا من جهة الصغرى فقد فرض في هذا التقريب أنّ الدرهم موضوع بإزاء نفس عملية الإقراض، لا على المال المقترَض، ولكن يمكن أن يقال بهذا الصدد: إنّ الارتكاز العقلائي قائم على كون الدرهم في مقابل المال المقترَض، لا في

١٦٨

مقابل نفس الإقراض، وجعله بإزاء عملية الإقراض مجرّد لفظ.

وعليه فلا نتصور الجعالة في ذلك ؛ لأنّ الجعالة فرض شيءٍ على عمل لا على مال. وبعد إرجاع الدرهم في محلّ الكلام بالارتكاز العقلائي إلى كونه مجعولاً في مقابل المال لا تكون هناك جعالة، بل يكون الدرهم ربوياً ؛ لأنّه زيادة على المال المقترَض.

وأمّا من جهة الكبرى بمعنى أنّا لو افترضنا أنّ المتعاملَين - الدائن والمدين - تحرّرا من ذلك الارتكاز العقلائي واتّجهت إرادة المدين حقيقةً إلى جعل الدرهم بإزاء نفس عملية الإقراض فهل هذه الجعالة صحيحة أو لا ؟

ولكي نعرف جواب ذلك لا بدّ أن نعرف حقيقة الجُعالة، فإنّه يمكن القول فيها: إنّ استحقاق الجعل المحدّد في الجعالة ليس في الحقيقة إلاّ بملاك ضمان عمل الغير بأمره به لا على وجه التبرّع، فأنت حين تأمر الخيَّاط الخاصّ بأن يخيط لك الثوب فيتمثل لأمرك تضمن قيمة عمله وتشتغل ذمّتك باُجرة المثل. وهذا نحوٌ من ضمان الغرامة في الأعمال على حدِّ ضمان الغرامة في الأموال، وبإمكانك في هذه الحالة أن تحوِّل أجرة المثل منذ البدء إلى مقدارٍ محدّد، فنقول: من خاط الثوب فله درهم، أو إذا خِطْتَ الثوب فلك درهم، فيكون الضمان بمقدار ما حدّد في هذا الجعل، ويسمّى هذا جعالة.

فالجعالة بحسب الارتكاز العقلائيّ تنحلّ إلى جزأين: أحدهما الأمر الخاصّ أو العام بالعمل، أي بالخياطة مثلاً. والآخر تعيين مبلغٍ معيّنٍ بإزاء ذلك.

والجزء الأوّل من الجعالة هو ملاك الضمان، والضمان هنا من قبيل ضمان الغرامة، لا الضمان المعاوضي.

والجزء الثاني يحدّد قيمة العمل المضمونة بضمان الغرامة، حيث إنّ أجرة

١٦٩

المثل هي الأصل في الضمان ما لم يحصل الاتفاق على الضمان بغيرها.

وإذا تحقّق هذا فيترتّب عليه أنّ الجعالة لا تُتَصوّر إلاّ على عملٍ تكون له أجرة المثل في نفسه وقابل للضمان بالأمر به، كالخياطة والحلاقة. وأمّا ما لا ضمان له في نفسه ولا تشمله أدلّة ضمان الغرامة فلا تصحّ الجعالة بشأنه ؛ لأنّ فرض الجعل في الجعالة ليس هو الذي ينشئ أصل الضمان، وإنّما يحدّد مقداره.

وعلى هذا الأساس لا تصحّ الجعالة على الإقراض بما هو عمل ؛ لأنّ مالية الإقراض في نظر العقلاء إنّما هي مالية المال المقترض، وليس لنفس العمل بما هو مالية زائدة. ومع فرض كون مالية المال المقترَض مضمونةً بالقرض فلا يتصوّر عقلائياً ضمان آخر لمالية نفس عملية الإقراض.

وبتعبيرٍ واضح ليس عندنا في نظر العقلاء إلاّ ماليَّة واحدة، وهي مالية المال المقترض، وتضاف إلى نفس عملية الإقراض باعتبار ذلك المال، فليس هناك إلاّ ضمان غرامةٍ واحد، ولا يتصوّر في الارتكاز العقلائي ضمانان من ضمانات الغرامة: أحدهما للعمل، والآخر للمال المقترض، والمفروض أنّ المال المقترَض مضمون بعقد القرض، والضمان الحاصل بعقد القرض هو من نوع ضمان الغرامة، وليس ضماناً معاوضياً، ومعه فلا مجال لفرض ضمان غرامةٍ آخر لنفس عملية الإقراض.

وبناءً على ذلك لا تصحّ الجُعالة على الإقراض ؛ لأنّ الجُعالة دائماً تقع في طول شمول أدلّة ضمان الغرامة للعمل المفروض له الجعل، ففي موردٍ لا تشمله أدلّة ضمان الغرامة ولا يكون العمل فيه مضموناً بالأمر على الآمر لا تصحّ فيه الجعالة.

١٧٠

[ التخريج الثاني: ]

إنّ الفائدة إنّما تحرم بوصفها تؤدّي إلى ربويَّة القرض، والقرض الربويّ حرام. وأمّا إذا حوّلنا العملية من قرضٍ إلى شيءٍ آخر فلا تكون الفائدة رباً قرضياً، وتصبح بالتالي جائزة. وأمّا تحويل العملية من قرضٍ إلى شيءٍ آخر فيتمّ إذا استطعنا أن نميِّز بين الحالتين التاليتين:

الأولى : إذا افترضنا أنّ زيداً مَدينٌ لخالد بعشرة دنانير ومطالب بوفائها فيأتي إلى البنك ويقترض عشرة دنانير ويسدّد بها دَيْنه.

الثانية : أنّ زيداً في الفرض السابق يتّصل بالبنك ويأمره بتسديد دَيْنه ودفع عشرة دنانير إلى خالد وفاءً لِما لَه في ذمّته.

والنتيجة واحدة في الحالتين، وهي أنّ زيداً سوف تبرأ ذمّته من دين خالد عليه، وسوف يصبح مديناً للبنك بعشرة دنانير، ولكنّ الفارق الفقهي بين الحالتين أنّ زيداً في الحالة الأولى يمتلك من البنك عشرة دنانير معيّنةً على أن يصبح مديناً بقيمتها، وهذا هو معنى القرض، فإنّه تمليك على وجه الضمان. وأمّا في الحالة الثانية فزيد لا يمتلك شيئاً، وإنّما تشتغل ذمّته ابتداءً بعشرة دنانير للبنك من حين قيام البنك بتسديد دينه. واشتغال ذمّته بذلك قائم على أساس أنّ البنك بوفائه من ماله الخاصّ لدَين زيدٍ قد أتلف على نفسه هذا المال، ولمّا كان هذا الإتلاف بأمرٍ من زيدٍ فيضمن زيد قيمة التالف، فالعشرة التي دفعها البنك إلى دائن زيدٍ لم تدخل في ملكية زيد، وإنّما هي ملك البنك ودخلت في ملكية دائن زيدٍ رأساً ؛ لأنّ وفاء دين شخصٍ بمال شخصٍ آخر أمر معقول، كما حقّقناه في محلّه، وهذا معناه أنّه لم يقع قرض في الحالة الثانية، وإنّما وقع أمر بإتلافٍ على وجه الضمان. فلو التزم

١٧١

زيد للبنك حين إصدار الأمر له بالوفاء بأن يعطيه أكثر من قيمة الدين إذا امتثل الأمر لم تكن هذه الزيادة الملتزم بها موجبةً لوقوع قرضٍ ربوي ؛ لأنّ الضمان ليس ضماناً قرضياً، وإنّما هو ضمان بسبب الأمر بالإتلاف.

وبتعبيرٍ آخر: أنّ الربا المحرّم إنّما يكون في المعاملة كعقد القرض أو البيع أو الصلح ونحو ذلك، وأمّا ضمان الغرامة بقانون الأمر بالإتلاف فهو لا يستبطن تمليكاً معاملياً فلا يجري فيه الربا المحرّم، فلا يكون فرض زيدٍ في هذه الحالة فائدةً للبنك من الفائدة القرضية المحرّمة.

ويمكن المناقشة في هذا التقريب بأمرين:

الأوّل : أنّ الدليل الدالّ على حرمة إلزام الدائن مدينَه بزيادةٍ على الدين الذي حصل بالقرض يدلّ عرفاً - وبإلغاء الخصوصية بالارتكاز العرفي - على حرمة إلزام الدائن مدينَه بالزيادة فيما إذا كان الدين حاصلاً لا بسبب القرض، بل بسبب الأمر بالإتلاف، كما في المقام بحسب الفرض ؛ لأنّ التفرقة بين الحالتين تعني أنّ المدين إذا أصبح مديناً في مقابل تملّك شيءٍ بالقرض فلا يجوز إلزامه بالزيادة، وإذا أصبح مديناً لا في مقابل تملّك شيءٍ فيجوز إلزامه بالزيادة، فكأنّ تملّك شيءٍ له دخل في الإرفاق به وتحريم إلزامه بالزيادة، وهذا على خلاف الارتكاز العرفي، وعليه فتثبت حرمة الإلزام بالزيادة في الحالة الثانية أيضاً.

الثاني : أنّا إذا سلّمنا عدم حرمة الإلزام بالزيادة في الحالة الثانية لعدم كونها زيادةً في عقد القرض فلا بدّ من سببٍ معامليّ يجعل المدين ملزماً بدفع الزيادة، والمفروض عدم وجود عقد القرض لكي يُشترط على المدين في ضمن ذلك العقد دفع الزيادة.

وقد يراد تصوير هذا السبب عن طريق جُعالةٍ يجعلها زيد فيقول للبنك: إذا

١٧٢

سددت ديني البالغ عشرة دنانير فلك دينار، فيستحقّ البنك حينئذٍ عشرة دنانير بقانون ضمان الغرامة، وديناراً بقانون الجُعالة بإزاء عمله وهو تسديد الدين، وهذه الجعالة تختلف عن الجعالة التي مرّت بنا في الوجه السابق ؛ لأنّ تلك جعالة على عملية الإقراض، أي بإزاء التمليك على وجه الضمان. وأمّا هذه فليست جعالةً على التمليك ؛ لِمَا تقدّم من أنّه لا يوجد تمليك من البنك لزيدٍ في الحالة الثانية التي ندرسها الآن، وإنّما هي جعالة على تسديد البنك لدين زيدٍ على أساس أنّ هذا التسديد عمل محترم يمكن فرض جعالةٍ له.

ولكن بالرغم من هذا فإنّ هذه الجعالة تواجه نفس الاعتراض الذي أثرناه على الجعالة المتقدّمة في التقريب السابق ؛ لأنّ تسديد البنك لدين زيدٍ ليس له ماليَّةٌ إضافية وراء مالية نفس المال الذي يسدّده لخالد بعنوان الوفاء. والمفروض أنّ هذا المال المسدَّد مضمون فلا يتحمّل المورد ضماناً آخر لنفس عملية التسديد. وإذا لم يُتصوّر الضمان لم تصحَّ الجعالة ؛ لِمَا تقدّم من أنّها لا تنشئ الضمان، وإنّما تحدِّده في الجعل المعيَّن.

نعم، إذا افترضنا أنّ تسديد البنك لدين زيدٍ كانت له قيمة مالية زيادةً على القيمة المالية للمال المسدَّد جاء فيه ضمان الغرامة، وبالتالي صحَّت الجعالة فيه، وذلك كما إذا كان تسديد البنك لدين زيدٍ يتمثّل في جهدٍ زائدٍ على مجرّد دفع المال إلى دائن زيد، وذلك حين يكون دائن زيدٍ في بلدٍ آخر مثلاً ويأمر زيدٌ البنكَ بإرسال مبلغٍ من المال إلى ذلك البلد ودفعه إلى دائنه، فإنّ ممارسة البنك لهذه العملية لها قيمة مالية زائدة على القيمة المالية لنفس المال المدفوع، وهذه القيمة المالية الزائدة مضمونة على زيدٍ بسبب أمره للبنك بتسديد دينه وتحويله إلى دائنه، وفي مثل هذه الحالة يمكن لزيدٍ أن يقوم بجعالةٍ معيّنةٍ فيجعل للبنك جعلاً خاصّاً على عملية التحويل والتسديد.

١٧٣

[ التخريج الثالث: ]

وهنا تقريب يختصّ ببعض القروض، وهي ما كان من قبيل القروض التي تدفع إلى المدين خارج البلاد. فمثلاً: قد يتقدّم شخص إلى البنك في بغداد طالباً منه أن يزوِّده بخطابٍ إلى وكيله في الهند يأمره فيه بإقراضه مبلغاً معيّناً من المال، فيزوّده البنك بهذا الخطاب، ثمّ يقدِّمه الشخص إلى الوكيل في الهند ويقترض بموجبه المبلغ المحدَّد. وعقد القرض هنا وقع في هذا المثال في الهند.

ومن حقّ المقِرض - بمقتضى إطلاق عقد القرض - إلزام المقترِض بالوفاء في نفس مكان القرض ؛ لأنّ مكان وقوع القرض هو الأصل في مكان الوفاء بمقتضى الإطلاق. وعليه فيكون من حقّ البنك أن يطالب مدينَه بالوفاء في نفس المكان الذي تَمَّ في إقراضه عن طريق وكيله في الهند، غير أنّ المدين غير مستعدٍّ لذلك، فإنّه يريد الوفاء في العراق حالة رجوعه من سفره، لا في الهند، فيمكن للبنك في هذه الحالة أن يطالب بمقدار الفائدة لا بإزاء المال المقترض، بل بإزاء تنازله عن الوفاء في ذلك المكان المعيّن. وليس هذا رباً ؛ لأنّ البنك في الواقع قد أقدم على الإقراض مستعدّاً لقبول نفس المبلغ إذا دفع له في نفس المكان، وإنّما يطالب بالزيادة لقاء تنازله عن المكان، فيكون المقترض بين أمرين: فإمَّا أن يقتصر على دفع نفس المبلغ على أن يدفعه في نفس المكان الذي وقع فيه القرض، وإمَّا أن يدفع زيادةً عليه لقاءَ إسقاط الدائن حقّه في الوفاء في المكان المعيّن. وسوف يختار المقترض الأمر الثاني.

وفي الواقع أنّ هذا الوجه هو الذي جوّزنا للبنك على أساسه أن يأخذ عمولةً على التحويل، كما يأتي مفصَّلاً. ولكن لا يمكن استخدام البنك اللاربوي

١٧٤

لهذا الوجه لكي يطالب بكامل مقدار الفائدة الربوية بإزاء إسقاط حقّ المكان إلاّ بأن ينقلب القرض ربوياً ؛ وذلك لأنّه إمّا أن يوافق على تسلّم نفس المبلغ دون زيادةٍ إذا دفع إليه في مكان القرض، وإمّا أن يرفض تسلّم المبلغ بدون زيادةٍ ولو دفع إليه في ذلك المكان. فإن كان يرفض تَحَوَّل القرض بذلك إلى قرضٍ ربوي، وإن كان يوافق فبإمكان المدين حين يحلّ أجَل دَينِه وهو في العراق وتتوفّر لديه قيمة الدين الذي اقترضه أن يتّصل ببنكٍ آخر من البنوك الأخرى الربوية، ويطلب منه تحويل قيمة الدين إلى مكان القرض - أي الهند في المثال المتقدّم - ولا تطلب منه البنوك الربوية حينئذٍ إلاّ أجرة زهيدةً على التحويل ؛ لأنّه سوف يدفع القيمة إليها نقداً.

[ التخريج الرابع: ]

ما هو شائع في بعض الأوساط الفقهية من إمكان تحويل القرض إلى بيع فيخرج بذلك عن كونه ربوياً ما دام النقد من الأوراق النقدية التي لا تمثّل ذهباً ولا فضةً، ولا تدخل في المكيل أو الموزون، فبدلاً عن أن يقرض البنك ثمانية دنانير بعشرةٍ فيكون قرضاً ربوياً، يبيع البنك ثمانية دنانير بعشرةٍ مؤجّلةٍ إلى شهرين مثلاً، والثمن هنا وإن زاد على المثمن مع وحدة الجنس ولكنّ ذلك لا يحقّق الربا المحرَّم في البيع ما لم يكن العوضان من المكيل أو الموزون. والدينار الورقي ليس مكيلاً ولا موزوناً، فيتوصّل البنك بهذا الطريق إلى نتيجة القرض الربوي عن طريق البيع.

وقد يقال: إنّ هذا لا يحقّق كلّ مكاسب القرض الربوي المحرَّم ؛ لأنّ الشخص الذي أخذ ثمانية دنانير مع تأجيل الوفاء إلى شهرين مثلاً لو كان أخذها

١٧٥

على أساس القرض الربوي فبإمكان البنك المقرِض على هذا الأساس أن يلزمه بفائدةٍ جديدةٍ فيما إذا تأخّر عن الدفع بعد شهرين. وأمّا إذا كان قد أخذها على أساس الشراء بمعنى أنّه اشترى ثمانية دنانير بعشرةٍ مؤجّلةٍ إلى شهرين، فليس للبنك أن يطالبه إلاّ بالثمن المحدَّد في عقد البيع والشراء - وهو عشرة - حتى لو تأخّر عن الدفع بعد شهرين. ولو طالبه بفائدةٍ على التأخّر كان ذلك فائدةً على إبقاء الدين، ويعود حينئذٍ محذور الربا المحرَّم.

ولكن بالإمكان التخلّص من ذلك: بأن يشترط بائع الثمانية بعشرةٍ على المشتري في عقد البيع أن يدفع درهماً مثلاً في كلّ شهرٍ يتأخّر فيه المشتري عن دفع الثمن المقرّر من حين حلول أجله، ولا يكون هذا رباً، فإنّ إلزام المدين هنا بدفع الدرهم يكون بحكم البيع، لا بحكم عقد القرض، وليس في مقابل الأجل، فكما كان يمكن للبائع أن يشترط على المشتري أن يهب له درهماً في كلِّ شهرٍ إلى سنةٍ ويكون المشتري ملزماً حينئذٍ بذلك كذلك له أن يشترط عليه أن يدفع له درهماً في كلّ شهرٍ يتأخّر فيه عن دفع الثمن. فليس الشرط هو شرط أن يكون له درهماً في جميع الشهور التي تسبق دفع الثمن من حين حلول الأجل، وحيث إنّه شرط في عقد البيع فيكون لازماً.

والحاصل: أنّ اشتراط دفع شيءٍ في عقد القرض غير جائز ؛ لأنه يُصيِّر القرض ربوياً. كما أنّ اشتراط كون شيءٍ في مقابل الأجل بنحو شرط النتيجة غير جائز ولو وقع ضمن عقد بيع ؛ لأنّه من اشتراط الربا. وفي المقام: الشرط المدّعى لا هو واقع في عقد القرض ليؤدّي إلى وجود قرضٍ ربوي، ولا هو من اشتراط كون شيءٍ في مقابل الأجل ليكون من اشتراط الربا المحرَّم، فلا مانع من نفوذه.

١٧٦

وبذلك يحصل البنك المقرِض على تمام مكاسب الربا.

والتحقيق: أنّ بيع ثمانية دنانير بعشرةٍ في الذمّة لا يجوز تبعاً للسيّد الأستاذ (دام ظلّه الوارف)(١) ؛ لأنّه في الحقيقة وبحسب الارتكاز العرفي قرض قد ألبس ثوب البيع، فيكون من القرض الربوي المحرَّم.

وليس هذا بتقريب أنّ البيع لا يصدق على مثل هذه المعاملة ؛ لأنّ البيع متقوّم بالمغايرة بين الثمن والمثمن، ولا مغايرة في المقام بينهما ؛ لأنّ الثمن ينطبق على نفس المثمن مع زيادة. فإنّ هذا التقريب يندفع بكفاية المغايرة الناشئة من كون المثمن عيناً خارجيةً والثمن أمراً كلّياً في الذمّة، ومجرّد قابليته للانطباق ضمناً على تلك العين لا ينافي المغايرة المصحِّحة لعنوان البيع، وإلاّ لَلزم البناء على عدم صحة بيع القيمي بجنسه في الذمّة مع الزيادة، كبيع فرسٍ بفرسين في الذمّة، مع أنّ هذا منصوص على جوازه في بعض الروايات(٢) . وهذا يكشف عن المغايرة المقوِّمة لحقيقة البيع يكفي فيها هذا المقدار، فليس الإشكال إذن من جهة عدم تحقّق المغايرة.

بل المهمّ في الإشكال دعوى صدق القرض على هذه المعاملة وإن أنشئت بعنوان البيع، وذلك بتحكيم الارتكاز العرفي إمّا بلحاظ الصغرى، أي تشخيص المراد الجدّي للمتعاملين، فيقال: إنّ المراد المعاملي لهما جدّاً بقرينة الارتكاز هو القرض، وليس الإنشاء بالبيع إلاّ من باب تغيير اللفظ. , وإمّا بلحاظ الكبرى، أي بتوسعة دائرة القرض بحسب الارتكاز العرفي بحيث يشمل هذه المعاملة وإن اُريد بها البيع جدّاً.

____________________

(١) منهاج الصالحين (للسيّد الخوئي) ٢: ٥٤ - ٥٥، المسألة ٢٢٠.

(٢) وسائل الشيعة ١٨: ١٥٣، الباب ١٦ من أبواب الربا، الحديث ٣.

١٧٧

أمّا تحكيم الارتكاز العرفي بلحظ الصغرى وجعله قرينةً على تشخيص المراد الجدّي للمتعاملَين فقد يقال في دفعه: إنّ المقصود بالمراد الجدّي الذي يستكشف بلحاظ الارتكاز إن كان هو الغرض الشخصي للبائع والمشتري من المعاملة، فمن الواضح أنّ مجرّد كون الغرض الشخصي من هذه المعاملة نفس الغرض الشخصي في موارد القرض لا يخرجها عن كونها بيعاً ؛ لأنّ الأغراض الشخصية للمتعاملين ليست مقوّمةً لأنواع المعاملات المختلفة.

وإن كان المقصود بالمراد الجدّي المنشأ جدّاً في المعاملة فمن الواضح أيضاً أنّ الإنشاء الجدّي سهل المؤونة ؛ لأنّه يرجع إلى الاعتبار، ولا معنى لتحكيم ارتكازٍ خارجيّ على اعتبارات المتعاملَين، إذ بإمكان البائع والمشتري أن يُنشئا التمليك بعوضٍ في مقام الجعل والاعتبار بدلاً عن إنشاء التمليك على وجه الضمان.

ودعوى: أنّ التمليك بعوضٍ في مقام بيع ثمانية دنانير بمثلها في الذمّة عين التمليك على وجه الضمان ؛ ولهذا يكون قرضاً، مدفوعة: بأنّ التمليك بعوضٍ يشتمل على جعل الضمان المعاوضي، ولهذا يحصل التمليك والتملّك بنفس العقد في البيع، وأمّا التمليك على وجه الضمان فهو لا يشتمل على الضمان المعاوضي، بل على التمليك بنحوٍ يستتبع جريان قانون ضمان الغرامة بتفصيلٍ لا يسعه المقام. ولهذا كان نفوذ القرض على القبض، ولم يكن عقد القرض مشتملاً على المعاوضة.

وهكذا يتّضح أنّ التمليك بعوضٍ والتمليك على وجه الضمان مجعولان اعتباريان مختلفان، وإن تصادفا بحسب النتيجة في مورد تبديل ثمانية دنانير خارجيةٍ بمثلها في الذمّة.

١٧٨

ولهذا فقد يكون من الأفضل التمسّك بالارتكاز العرفي وتحكيمه بلحاظ الكبرى، بحيث يقال: إنّه لمَّا كان القرض بمقتضى الأصل في الارتكاز العقلائي هو تبديل المال المثليِّ الخارجيِّ بمثله في الذمّة - وتعميمه للقيميات ليس إلاّ بنحوٍ من العناية - فيصدق عرفاً عنوان القرض على المعاملة التي تتكفّل بهذا التبديل ولو كان المنشأ فيها عنوان التمليك بعوض. فالعرف لا يريد من كلمة (القرض) إلاّ المعاملة التي تؤدّي إلى ذلك النحو من التبديل، ومعه يصبح بيع ثمانية دنانير بمثلها في الذمّة قرضاً عرفياً، وتلحقه أحكام القرض التي منها عدم جواز الزيادة.

[ التخريج الخامس: ]

وقد يقال انطلاقاً من فكرة تبديل القرض ببيع: إنّ الدنانير الثمانية في المثال السابق لا تُباع بثمانية دنانير في الذمّة مع زيادة دينارين - أي بعشرةٍ - ليقال: إنّ هذا يعتبر في النظر العرفي قرضاً ؛ لأنّه تبديل للشيء إلى مثله في الذمّة، بل تباع بعملةٍ أخرى تزيد قيمتها على الدنانير الثمانية بحسب أسعار الصرف بمقدار ما تزيد العشرة على الثمانية.

مثلاً: تباع ثمانية دنانير ب- (٢٠٠) تُومان في الذمّة، وحيث إنّ النقود الورقية من هذا القبيل لا يجري عليها أحكام بيع الصرف فلا يجب فيها التقابض في المجلس، بل يجوز أن يكون الثمن مؤجّلاً إلى شهرين، وفي نهاية شهرين يمكن للبائع أن يتقاضى من المشتري (٢٠٠) تومان، أو ما يساوي ذلك من الدنانير العراقية من باب وفاء الدين بغير الجنس.

وهكذا تحصل نفس النتيجة المقصودة لمن يريد أن يقرض قرضاً ربوياً دون قرض.

١٧٩

ولئن قبل في بيع ثمانية دنانير بعشرةٍ: إنّه قرض لكونه تبديلاً للشيء بمثله في الذمّة، فلا يقال هذا في بيع ثمانية دنانير ب- (٢٠٠) تومان ؛ لعدم المماثلة فيكون طابع البيع هو الطابع الوحيد لهذه المعاملة.

ولكنّ هذا إنّما يتمّ فيما إذا لم نَدَّعِ قَرضيَّة هذه المعاملة أيضاً بحسب النظر العرفي بضمّ ارتكاز إلى الارتكاز السابق الذي كان فحواه: أنّ كلّ معاملةٍ مؤدّاها تبديل الشيء بمثله في الذمّة تعتبر قرضاً عرفاً. والارتكاز الجديد الذي لا بدّ من ضمّه هو ارتكاز النظر في باب النقود إلى ماليّتها دون خصوصياتها، وهذا الارتكاز معناه أنّ المنظور إليه عرفاً من بيع ثمانية دنانير بكذا توماناً هو تبديل ماليةٍ بمالية، وحينئذٍ يشمله عنوان القرض بالنحو المقرّر في الارتكاز السابق ؛ إذ يصدق عليه أنّه تبديل للشيء إلى مثله في الذمّة، إذ بعد أن كان المركوز في النظر العرفي ملاحظة المالية فقط في الدنانير والتُوامين التي وقعت مثمناً وثمناً، فلا يبقى تغاير بين الثمن والمثمن إلاّ في كون أحدهما خارجياً والآخر ذمّياً، وهذا معنى تبديل الشيء إلى مثله في الذمّة الذي هو معنى القرض بمعناه الارتكازي الأوسع الذي يشمل بعض البيوع أيضاً.

فهذا التقريب لا يتمّ أيضاً إذا تمّت الارتكازات المشار إليها، وإلاّ أمكن تصحيحه إذا توفّرت الإرادة الجدّية لمبادلة ثمانية دنانير ب- (٢٠٠) تومان ولم تكن التوامين مجرّد ثمن مأخوذٍ في مقام اللفظ، أو في مقام اعتبارٍ غير جدّيّ يغطّي وراءه الثمن الحقيقي الذي هو عشرة دنانير.

[ التخريج السادس: ]

يمكن للبنك أن يعتبر نفسه وكيلاً عن المودِعين في الإقراض من أموالهم، فهو حين يقرض من الودائع التي لديه يحتفظ لهذه الودائع بملكية أصحابها

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273