البنك اللاربوي في الإسلام

البنك اللاربوي في الإسلام0%

البنك اللاربوي في الإسلام مؤلف:
تصنيف: فقه استدلالي
الصفحات: 273

البنك اللاربوي في الإسلام

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
تصنيف:

الصفحات: 273
المشاهدات: 35191
تحميل: 6558

توضيحات:

البنك اللاربوي في الإسلام
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 273 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 35191 / تحميل: 6558
الحجم الحجم الحجم
البنك اللاربوي في الإسلام

البنك اللاربوي في الإسلام

مؤلف:
العربية

٢٤١

الملحق (٧)

[ العمولة على التحويل ]

درسنا في الأطروحة العمولَة التي تؤخذ على التحويل عادةً وصحّحناها، وهذا الملحق امتداد للبحث عن مشروعية هذه العمولة، وتوسّع في مناقشة وجهات نظرٍ أخرى.

وقد اتّضح بما ذكرناه النظر في موقف بعض الأعلام(١) ، إذ خرَّج العمولة التي يأخذها البنك بشكلٍ يختصّ ببعض الحالات. فقد أفاد أنّ التحويل له صورتان:

أحدهما: أن يدفع الشخص إلى البنك في النجف مبلغاً من المال ويأخذ بالمبلغ المذكور تحويلاً على البنك في بغداد، وبإزاء هذا التحويل يأخذ البنك من المحوّل عمولةً معيّنة.

والأخرى: أن يأخذ ذلك الشخص المبلغ المعيّن من البنك في النجف ويحوّله في تسلّم المبلغ على مصرفٍ في بغداد، فيدفع البنك النجفي المبلغ ليتسلّمه من البنك البغدادي، ويأخذ بإزاء ذلك عمولة.

____________________

(١) اُنظر: بحوث فقهية: ١١٤.

٢٤٢

أمّا الصورة الأولى فالعمولة فيها جائزة ؛ لأنّ البنك في هذه الصورة يحتلّ مركز الدين، وفرض العمولة يكون لمصلحة المدين لا الدائن، فلا يكون رباً.

وأمّا الصورة الثانية فالبنك يحتلّ فيها مركز الدائن، وعليه يكون أخذه للعمولة حراماً ؛ لربَويّتها. هذا ملخص ما أفيد في المقام.

والتحقيق: أنّ العمولة جائزة وصحيحة على كلّ حال ؛ لأنّ بالإمكان تخريجها فقهياً على أساسٍ يجري حتى في الصورة الثانية، كما يتّضح ممّا عرضناه في المتن، وذلك بجعل العمولة في مقابل تحكّم المدين في تعيين مكان الوفاء لدائنه، أو تحكّم الدائن في تعيين مكان وفاء مدينه له.

ففي الصورة الثانية وإن كان البنك النجفي هو الدائن والمقرض، ولكن لمَّا كان هذا القرض قد وقع منه في النجف فالمكان الطبيعي الذي يقتضيه الإطلاق هو النجف، ويصبح من حقّ البنك أن يطالب المقترِض بالوفاء والدفع في النجف، وحيث إنّ المفروض أنّ المقترِض يريد أن يكلّفه بتسلّم المبلغ من بنكٍ في بلدٍ آخر فبإمكان البنك النجفي أن لا يوافق على ذلك إلاّ بإزاء مقدارٍ معيّنٍ من المال. وليس في ذلك رباً على الإطلاق.

والفكرة الأساسية في هذا التخريج أنّه متى ما أراد الدائن أو المدين أن يُلزِم الطرف الآخر بقبول المبلغ المقتَرض أو دفعه في غير المكان الطبيعي الذي وقع فيه عقد القرض وانصرف إليه، فيصح للطرف الآخر أن يأخذ مالاً في مقابل تجاوبه مع ذلك الإلزام، ورفع اليد عن حقّه في الامتناع.

٢٤٣

الملحق (٨)

[ العمولة على تحصيل الكمبيالة ]

درسنا في الأطروحة أنّ البنك يجوز له شرعاً أخذ عمولةٍ على تحصيل الكمبيالة. وفي هذا الملحق نريد أن ندرس ظرف استحقاقه للعمولة.

هل يستحقّ البنك العمولة من الدائن بمجرّد مطالبته للمدين بقيمة الكمبيالة، أو يتوقّف استحقاقه لها على تحصيل الدين فعلاً ؟

وقد تعرّض بعض الأعلام(١) لذلك، فبنى هذه المسألة على كون العمولة جعالةً أو إجازة، فإن كان أخذ البنك للعمولة من باب الجعالة فلابدّ من تحصيل البنك للمال من المدين، وإلاّ فليس له أخذ تلك العمولة، ويكون ذلك من قبيل ما لو قال الشخص: من وجد ضالّتي فله عليَّ عشرة دنانير ؛ فإنّ استحقاق هذه العشرة يتوقّف على تحصيل الضالّة فعلاً. وأمّا إذا خرّجنا الموقف على أساس الإجارة فإنّ للبنك أخذ العمولة من الدائن بإزاء مطالبته للمدين بالدين. سواء حصل الدين أم لا.

____________________

(١) اُنظر: بحوث فقهية: ١١٨.

٢٤٤

والتحقيق: أنّ استحقاق البنك للعمولة بمجرّد المطالبة أو توقّف الاستحقاق على تحصيل المبلغ فعلاً ليس مبنيّاً على كون المقام من باب الجُعالة أو من باب الإجارة، بل على تشخيص ما أنيط به الجُعل أو الأجرة.

وتحقيق ذلك: أنّ تحصيل الدين إمّا أن يفرض كونه مقدوراً للبنك ولو عن طريق الإلحاح في المطالبة، أو الرجوع إلى القضاء، ونحو ذلك. وإمّا أن يفرض كون البنك عاجزاً عن التحصيل إذا لم تنفع المطالبة الابتدائية في تحصيله، فإن فرض تمكّن البنك من التحصيل، فكما يمكن للدائن أن يجعل له جُعلاً على تقدير التحصيل كذلك يمكنه أن يستأجره على تحصيل الدين بالفعل، وتتّفق حينئذٍ الجُعالة والإجارة معاً في عدم استحقاق البنك للعمولة بمجرّد المطالبة إذا لم يترتّب عليها التحصيل وكان متوقّفاً على مواصلة العمل من البنك ؛ لأنّ الجُعل والأجر وقعا في مقابل التحصيل لا مجرّد المطالبة.

وإذا لم يفرض كون البنك قادراً على تحصيل الدين بالفعل، وإنّما يفرض قدرته على المطالبة به فحسب، فكما يمكن للدائن أن يستأجر البنك على مجرّد المطالبة كذلك يمكنه أن يضع له جُعلاً على مجرّد المطالبة، وتتّفق حينئذٍ الجُعالة والإجارة معاً في استحقاق البنك للعمولة بمجرّد المطالبة ؛ لأنّ الجُعل والأجر وقعا في مقابل المطالبة، لا التحصيل الفعلي للدين. فاتّضح أنّ الجُعل في الجُعالة يمكن تصويره بنحوٍ لا يكون مستحقّاً إلاّ بالتحصيل، كما أنّ الأجرة في الإجارة يمكن تصويرها بنحوٍ لا يكفي في استحقاقها مجرّد المطالبة.

يبقى بعد هذا أن نرى أنّه في فرض عدم قدرة البنك إلاّ على مجرّد المطالبة التي قد تقترن بالتحصيل وقد لا تقترن تبعاً لاستعداد المدين للوفاء إثباتاً ونفياً هل يمكن في مثل هذا الفرض أن نتصوّر الجُعل في الجُعالة والأجرة في الإجارة بنحوٍ يتوقّف استحقاقهما على التحصيل فعلاً ؟

٢٤٥

أمّا في الإجارة فلا إشكال في أنّ صحّتها تتوقّف على كون الفعل المستأجر عليه مقدوراً للأجير، وإلاّ كانت الإجارة باطلة ؛ لأنّ صحة الإجارة فرع كون المؤجر مالكاً للمنفعة لكي يصحّ له تمليكها للمستأجر بعقد الإجارة، وإذا كان الأجير غير قادرٍ على الخياطة مثلاً فلا تكون الخياطة من منافعه المملوكة له بنحوٍ من الملكية لكي يصحّ له تمليك هذه المنفعة من منافعه للغير.

وعلى هذا الأساس فلا يصحّ للدائن أن يستأجر شخصاً لتحصيل دينه من المدين وتسليمه له إلاّ إذا كان التحصيل والتسليم مقدوراً للأجير بأن فرض استعداد المدين للدفع عند المطالبة، ففي مثل ذلك يجوز وقوع الإجارة على تحصيل الدين من المدين وتسليمه إلى الدائن ؛ لأنّه عمل مقدور للأجير بعد فرض أنّ المقدمات غير الاختيارية لهذا العمل حاصلة بسبب استعداد المدين للدفع عند المطالبة.

وأمّا إذا لم يكن المدين مستعدّاً للدفع عند المطالبة ولم يكن الأجير قادراً على إجباره على الدفع فلا يكون تحصيل الدين من المدين وتسليمه إلى الدائن مقدوراً للأجير، فتبطل الإجارة الواقعة عليه.

وأمّا إذا شكّ في قدرة الأجير على العمل كما هو المفروض في المقام ؛ إذ فرضنا الشكّ في استعداد المدين للدفع إذا طولب، وهذا يوجب الشكّ في قدرة الأجير على تحصيل الدين وتسليمه إلى الدائن، فهل تبطل الإجارة الواقعة على عملٍ يشكّ في قدرة الأجير عليه مطلقاً، أو تتبع صحةً وبطلاناً واقع الأمر ؟ فإن كانت القدرة موجودةً عند الأجير صحّت الإجارة ؛ لأنّ الأجير يكون مالكاً في الواقع للفعل فينفذ تمليكه له، وإن لم تكن القدرة ثابتة للأجير في الواقع بطلت الإجارة ؛ لأنّ الأجير يكون قد ملَّك ما ليس من منافعه المملوكة له، وليس هذا من التعليق في الإجارة الموجب للبطلان.

٢٤٦

أمّا أوّلاً: فلإمكان فرض تمليك المنفعة بعوضٍ منجّزٍ وفعليّ من قِبل الأجير ؛ لأنّ شكّه في كونه مالكاً للمنفعة الفلانية لأجل شكّه في القدرة عليها لا يمنع عن صدور إنشاءٍ يملك تلك المنفعة بعوضٍ منه على نحوٍ منجّز، نظير مَن يشكّ في أنّ عيناً من الأعيان ملكه ويبيعها مع هذا بيعاً منجّزاً، فالتعليق في المقام إنّما هو تعليق للحكم بصحة الإجارة، لا للمنشأ المجعول من قبل الأجير والمستأجر في عقد الإجارة.

وثانياً: لو سلّم سريان التعليق إلى نفس المنشأ المجعول منهما فليس هذا من التعليق الباطل ؛ لأنّه من التعليق على تمامية أركان صحة العقد، وليس من التعليق على أمرٍ خارجيّ من قبيل رجوع الحجّاج أو نزول المطر الذي هو المستيقن من الإجماع على مبطلية التعليق.

فإن بنينا على بطلان الإجارة واقعاً مع الشكّ في القدرة ولو كانت القدرة ثابتةً واقعاً، إمّا بتوهّم استلزام الشكّ حينئذٍ للتعليق، وإمّا للغَرر أو نحو ذلك، فلا يمكن في المقام أن تقع الإجارة على نفس تحصيل الدين وتسليمه إلى الدائن ؛ للشكّ في قدرة البنك على ذلك بحسب الفرض، فلا بدّ أن تقع الإجارة على نفس المطالبة، ويستحقّ البنك حينئذٍ الأجرة بمجرّد المطالبة.

وإن بنينا على أنّ الإجارة الواقعة مع الشكّ تتبع الواقع فتصحّ مع وجود القدرة واقعاً، وتبطل مع عدمها كذلك، فيمكن تصوير الإجارة بنحوٍ لا يستحقّ معه الأجير الأجرة إلاّ مع تحصيل الدين بالفعل، وذلك بإيقاعها على نفس تحصيل الدين وتسليمه إلى صاحبه. وحينئذٍ فلا يستحقّ البنك الأجرة بالمطالبة إذا لم تؤدِّ إلى تحصيل الدين فعلاً ؛ إذ ينكشف حينئذٍ عدم القدرة على الفعل المستأجر عليه، وبالتالي يظهر بطلان الإجارة، فلا موجب لاستحقاق الأجرة، بينما لو طالب وحصّل الدين فإنّه يستحقّ بذلك الأجرة ؛ إذ ينكشف كون الفعل مقدوراً له ،

٢٤٧

وبالتالي كون الإجارة صحيحة، فيملك الأجرة بالعقد ويستحقّ تسلّمها بتسليمه للعمل.

ولا يبعد البناء على الثاني، أي على أنّ الإجارة الواقعة مع الشك تتبع الواقع.

ودعوى: أنّ قدرة الأجير على الفعل معتبرة في صحة الإجارة بملاكين:

أحدهما: بلحاظ دخلها في مالكية الأجير للمنفعة التي يملكها للمستأجر في عقد الإجارة ؛ إذ لو لم يكن قادراً على الخياطة مثلاً فلا يكون مالكاً لهذه المنفعة، فلا يصحّ منه تمليكها.

والآخر: بلحاظ أنّ الإجارة يشترط فيها القدرة على التسليم حتى إذا وقعت على منافع الأموال، وحينئذٍ فعجز الأجير عن العمل المستأجر عليه يوجب الإخلال بشرط القدرة على التسليم. وعلى هذا الأساس فوجود القدرة واقعاً مع الشكّ فيها ظاهراً إنّما ينفع في نفي الملاك الأوّل للبطلان ؛ لأنّ القدرة الواقعية تكفي لصيرورة الأجير مالكاً في الواقع للمنفعة، وصحة الإجارة تتوقّف على كون المؤجر مالكاً للمنفعة لا على كونه عالماً بأنه مالك لها. وأمّا الملاك الثاني للبطلان فلا يزول بفرض القدرة الواقعية مع الشكّ فيها ؛ لأنّ مدرك اشتراط القدرة على التسليم هو الغَرَر، والغرر لا ينتفي إلاّ مع العلم بالقدرة على التسليم.

هذه الدعوى مدفوعة بأن القدرة على التسليم على فرض القول باشتراطها في صحة الإجارة وبطلان الإجارة بدونها، فليس المدرك في ذلك النهي عن الغَرَر - لقصوره عن إثبات المطلوب سنداً ودلالةً، كما هو محقّق في محلّه - بل الإجماع، والقدر المتيقّن منه فرض انتفاء القدرة واقعاً.

هذا كلّه في الإجارة.

وأمّا الجُعالة فيكن تصوير الجُعل بنحوٍ لا يستحقّه البنك إلاّ مع تحصيل

٢٤٨

الدين بالفعل ؛ وذلك بأحد وجهين:

الأوّل: أن يكون الجُعل مفروضاً على تحصيل الدين وتسليمه إلى الدائن، لا على مجرّد المطالبة به.

ودعوى: أنّ المعروف بينهم هو اشتراط قدرة المجعول له على الفعل المحدّد في الجُعالة، وعدم صحة الجعالة بدون ذلك، والمفروض في المقام عدم إحراز القدرة.

مدفوعة بأنّ الجعالة حيث إنّها لا تتكفّل تمليك الجاعل منفعة الفاعل، فلا يأتي هنا الملاك الأوّل السابق في الإجارة الذي كان يقتضي اشتراط قدرة الأجير على الفعل تحقيقاً لمالكيته للمنفعة التي هي شرط في نفوذ تمليكه.

كما أنّ الجعالة لا تشتمل على مسؤوليةٍ فعليةٍ على الجاعل إلاّ بعد فرض صدور العمل من المجعول له ؛ لأنّ مفاد الجُعالة قضية شرطية مقدَّمها صدور العمل، وجزاؤها استحقاق الجعل، فلا يأتي هنا أيضاً الملاك الثاني المتوهّم في الإجارة، وهو لزوم الغَرَر مع عدم إحراز القدرة على التسليم ؛ إذ لا خطر ولا غَرَر في المقام على الجاعل يوجّه أصلاً، إذ لا يستحقّ المجعول له شيئاً عليه إلاّ في طول العمل.

وعلى هذا الأساس فلا دليل على اشتراط قدرة المجعول له على العمل في الجعالة إلاّ كونها غير عقلائيةٍ وسفهائية مع فرض عجز المجعول له عن العمل، وهذا المحذور إنّما هو في فرض العلم بالعجز، وأمّا مع احتمال القدرة فتكون الجعالة عقلائيةً ولا مانع من نفوذها. وبناء على ذلك يمكن للدائن في المقام أن يجعل للبنك جُعلاً على تحصيل الدين بالفعل وتسليمه إليه، أو إلى مَن يحبّ ولو مع الشكّ في قدرة البنك على التحصيل.

الثاني : أن يفرض كون الجُعل مفروضاً على المطالبة بالدين التي هي عمل يعلم بقدرة المجعول له عليه، غير أنّ الجُعل ليس مطلقاً، بل هو مقيّد بما إذا كان

٢٤٩

المدين مستعدّاً للوفاء، فالدائن يقول للبنك: إذا كان المدين مستعدّاً لوفاء دَيني عند مطالبتك له به فأنا أعطيك ديناراً إذا طالبته. ومرجع ذلك إلى جُعالةٍ معلّقة، ولا بأس بمثل هذا التعليق في الجُعالة التي ليست هي بحسب التحقيق إلاّ تحديداً لمقتضيات ضمان الغرامة، كما تقدّم سابقاً. وعلى هذا فلا يستحقّ البنك الجُعل إلاّ في فرض استعداد المدين للدفع، وهذا الاستعداد مساوق لترتّب التحصيل على المطالبة.

وهكذا يتّضح من كلّ ما تقدّم أنّ استحقاق البنك للعمولة بالمطالبة أو بتحصيل الدين فعلاً ليس مبنيّاً على كون العمولة جُعالةً أو أجرة، بل هو مبنيّ على تشخيص الفعل الذي فرض له الجعل أو حدِّدت له الأجرة.

٢٥٠

٢٥١

الملحق (٩)

[ التخريج الفقهي لقبول البنك للكمبيالة ]

يعالج هذا الملحق على مستوىً موسّعٍ من الناحية الفقهية حكم قبول الكمبيالة من قبل البنك.

وقبول البنك للكمبيالة نوع من التعهّد من قبل البنك بالدين يسمح للدائن أن يرجع عليه إذا تخلّف المدين عن الوفاء. وقد قلنا في الأطروحة: إنّ قبول البنك للكمبيالة صحيح ؛ لأنّه تعهّد مشروع، ونريد الآن أن نحدّد معنى هذا التعهّد وتخريجه فقهياً.

لا نقصد بهذا التعهّد عقد الضمان بمعناه الفقهي المعروف ؛ لأنّ عقد الضمان ينتج - بناءً على القول المشهور في فقهنا الإمامي - نقلَ الدين من ذمّةٍ إلى ذمّة، لا ضمّ ذمّةٍ إلى ذمّةٍ أو مسؤوليةٍ إلى مسؤوليةٍ. ومن الواضح أنّ البنك في قبوله للكمبيالة لا يقصد نقل الدين من ذمّة المدين إلى ذمّته، وإذا أنشئ عقد الضمان وأريد به أن ينتج ضمّ ذمّةٍ إلى ذمّةٍ كان ذلك باطلاً شرعاً. وعليه فنحن لا نريد أن نفسّر قبول البنك للكمبيالة على أساس عقد الضمان بمعناه الفقهي المعروف، ولكنّا نرى أنّ هناك معنىً ثانياً غير نقل الدين من ذمّة المدين إلى ذمّةِ آخر، وغير جعل الشخص الآخر نفسَه مسؤولاً عن نفس المبلغ الذي يكون المدين مسؤولاً عنه

٢٥٢

على نحو ضمّ مسؤوليةٍ إلى مسؤولية. وهذا المعنى الثالث هو أن يكون الشخص الآخر مسؤولاً عن أداء الدين إلى الدائن، بأن يقول للدائن مثلاً: أنا أتعهّد بأنّ دينك سيؤدّي إليك. فالضمان هنا ليس ضماناً لنفس مبلغ الدين إمّا بدلاً عن المدين الأصلي أو منضمّاً إليه، وإنّما هو ضمان لأدائه مع بقاء الدين في ذمّة المدين الأصلي وتحمّله لمسؤوليته.

ولا ينبغي أن يتوهّم رجوع هذا المعنى الثالث إلى الضمان بمعنى ضمّ ذمّةٍ إلى ذمّةٍ، أو مسؤوليةٍ إلى مسؤوليةٍ بدعوى أنّ كلاًّ من المدين الأصلي والمتعهّد الجديد أصبح يتحمّل المسؤولية، وهذا معنى الضمّ ؛ وذلك لأنّ الجواب على هذا التوهّم هو بإبراز الفرق بين هذا المعنى الثالث وبين الضمان بمعنى الضمّ، فإنّ الضمان بمعنى الضمّ يعني كون كِلا الشخصين من المدين والضامن مسؤولاً عن ذلك المبلغ - ولنفرضه عشرة دنانير - أمام الدائن، فالمسؤوليتان منصبّتان على شيءٍ واحدٍ وهو المبلغ المحدّد من الدين، ولهذا كان للدائن أن يرجع على أيّهما شاء.

وأمّا المعنى الثالث فهو وإن كان يؤدّي إلى تحمّل المدين والضامن معاً للمسؤولية إلاّ أنّ متعلّق المسؤولية مختلف ؛ فإنّ المدين والضامن ليسا في المعنى الثالث مسؤولَين ومشتغلَي الذمّة بذات المبلغ، بل المدين مسؤول ومشغول الذمّة بذات المبلغ، والضامن مسؤول عن أداء ذلك المبلغ، أي أنّه مسؤول عن خروج المدين عن عهدة مسؤوليته وتفريغ ذمّته، وعليه فليس للدائن أن يرجع ابتداءً على الضامن بالمعنى الثالث ويطالبه بالمبلغ المقترض ؛ لأنّ الضامن بهذا المعنى ليس مسؤولاً مباشرةً عن المبلغ المقترَض، بل هو مسؤول ومتعهّد بأداء المدين للدين وخروجه عن عهدة ذلك المبلغ. ومثل هذا التعهّد من الضامن إنّما ينتهي إلى استحقاق الدائن للمطالبة من ذلك الضامن فيما إذا امتنع المدين عن الوفاء، فإنّ

٢٥٣

معنى هذا الامتناع أنّ ما تعهّد به الضامن - وهو أداء المدين للدين - لم يتحقّق، ولمّا كان الأداء بنفسه ذا قيمةٍ مالية، والمفروض أنّه تلف على الدائن بامتناع المدين عنه قصوراً أو تقصيراً، فيصبح مضموناً على من كان متعهِّداً به، وتشتغل ذمّة الضامن حينئذٍ بقيمة الأداء التي هي قيمة الدين.

وهكذا يتّضح أنّ الضمان بالمعنى الثالث هو تعهّد بالأداء، لا تعهّد بالمبلغ في عرض مسؤولية المدين، وأنَّ هذا التعهّد ينتج ضمان قيمة المتعهَّد به إذا تلف بامتناع المدين عن الأداء، ولكن حيث إنّ الأداء ليس له قيمة مالية إلاّ بلحاظ مالية مبلغ الدين فاستيفاء الدائن لقيمة الأداء من الضامن بنفسه استيفاء لقيمة الدين، فيسقط الدين بذلك.

وهذا المعنى الثالث للضمان صحيح شرعاً بحكم الارتكاز العقلائي أولاً، وللتمسّك بعموم( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (١) ثانياً، إلاّ أنّ التمسّك بعموم( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) يتوقّف على أن نثبت قبل ذلك بالارتكاز العقلائي مثلاً عقدية هذا النحو من التعهّد والضمان، أي كون إيجاده المعاملي مُتقوِّماً بالتزامين من الطرفين ليحصل بذلك معنى العقد بناءً على تَقوّم العقد بالربط بين التزامين بحيث يكون أحدهما معقوداً بالآخر. وأمّا إذا كان التعهّد والضمان بالمعنى المذكور ممّا يا يتقوّم إيجاده المعاملي في الارتكاز العقلائي بالتزامين من الطرفين فلا يصدق عليه العقد بناءً على هذا، ويكون إيقاعاً لا تشمله عندئذٍ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) .

أمّا كيف نعرف أنّ المضمون المعاملي هل يتقوّم إيجاده بالتزامٍ من طرفٍ واحدٍ أو بالتزامين من طرفين ؟ فذلك بأن يلاحظ أنّ ما يتكفّله المضمون المعاملي هل جُعل تحت سلطان شخصٍ واحدٍ وضعاً، أو جعل تحت سلطان شخصين بنحو

____________________

(١) المائدة: ١.

٢٥٤

الانضمام ؟ فما كان مضمونه المعاملي من قبيل الأوّل يكون إيقاعاً ولا يكون عقداً ؛ لتقوّمه بالتزامٍ واحدٍ ممّن له السلطان على ذلك المضمون المعاملي، كما في العتق والطلاق. وما كان مضمونه المعاملي من قبيل الثاني فهو عقد ؛ لتقوّمه بالتزامين مترابطين، كالبيع والنكاح وغيرهما.

وعليه ففي المقام لا بدّ أن يلحظ أنّ كون الإنسان مسؤولاً عن أداء دين شخصٍ آخر - الذي هو المضمون المعاملي للضمان بالمعنى الذي بيّنّاه - هل هو بحسب الارتكاز العقلائي تحت سلطان الضامن فقط، أو تحت سلطان الضامن والمضمون له معاً ؟

فعلى الأوّل لا يصحّ الاستدلال على نفوذه بعموم (أوْفوا بالعُقود) بناءً على ما تقدّم. وعلى الثاني يكون الضمان المذكور عقداً في نظر العقلاء ؛ ويشمله عموم (أوْفوا بالعُقود).

ودعوى: أنّ الضمان بهذا المعنى لا يمكن أن يكون عقداً ومحتاجاً إلى التزامٍ من قبل المضمون له أيضاً زائداً على التزام الضامن ح لأنّه لا يشتمل على التصرّف في شؤون المضمون له وحيثياته ؛ لأنّ مجرّد كون الدين الذي يملكه شخص متعهّداً به ليس تصرّفاً في مملوكه، فلا يقاس على عقد الضمان بالمعنى المصطلح الذي يؤدّي إلى نقل الدين من ذمّةٍ إلى ذمّة.

هذه الدعوى مدفوعة بأنّ كون المضمون المعاملي عقدياً ومحتاجاً إلى التزامين من شخصين لا ينحصر ملاكه في الارتكاز العقلائي بكونه تصرفاً في ذَينك الشخصين معاً، بل قد لا يكون مشتملاً إلاّ على التصرّف في أحدهما ومع هذا يعتبر عقلائياً تحت سلطان الشخصين معاً، كما في الهبة التي اعتبرت من العقود مع أنّها مشتملة على التصرّف في مال الواهب فقط.

٢٥٥

وعلى أيِّ حالٍ فالضمان بالمعنى الثالث صحيح.

وأمّا الروايات(١) التي دلّت على أنّ عقد الضمان يُنتج نقلَ الدين من ذمّةٍ فلا يمكن الاستدلال بها في المقام على أبطال الضمان الذي تصوّرناه ؛ لعدم كونه منتجاً لنقل الدين من ذمّةٍ إلى ذمة.

والوجه في عدم إمكان الاستدلال بتلك الروايات على ذلك أنّ تلك الروايات إنّما تنظر إلى عقدٍ يتكفّل ضمان نفس الدين، لا ضمان الأداء، فلا يمكن إبطال هذا المعنى الثالث من الضمان بلحاظ تلك الروايات.

وعلى ضوء جميع ما تقدّم نفسِّر قبول البنك للكمبيالة على أساس هذا المعنى من الضمان، وينتج اشتغال ذمّة البنك بقيمة الكمبيالة، لكن لا في عرض اشتغال ذمّة المدين ولا بدلاً عنه، بل في طول امتناعه عن الأداء بالنحو الذي فصّلناه.

____________________

(١) وسائل الشيعة ١٨: ٤٢٢، الباب ٢ من أبواب كتاب الضمان.

٢٥٦

٢٥٧

الملحق (١٠)

[ التخريج الفقهي لخطابات الضمان النهائية ]

يعالج هذا الملحق على مستوىً موسّعٍ من الناحية الفقهية حكم خطابات الضمان النهائية، وهي خطابات يحتاج إليها المقاولون حينما يتولّون مشروعاً لجهةٍ حكوميةٍ ونحوها، فتشترط عليهم تلك الجهة أن يدفعوا مبلغاً من المال في حالة عدم إنجاز المشروع، ولكي تثق تلك الجهة بالدفع يلجأ المقاول إلى البنك ليصدِّر له خطابَ ضمانٍ يتعهّد فيه لتلك الجهة بالمبلغ المقرّر.

في الموادّ المذكورة التي يصدِّر فيها البنك خطابَ الضمان لعمليه يكون العميل قد ارتبط في عقدٍ بجهةٍ معيّنةٍ واشترط عليه ضمن ذلك العقد أن يدفع كذا مقداراً في حالة التخلّف. وهذا الشرط صحيح في نفسه إذا لم يكن التخلّف يعني بطلان أصل العقد.

نعم، لو كان العقد عقد إجارةٍ وكان مورد الإجارة المنفعة الخارجية لا المنفعة الذمّية وانكشف عقيب العقد أنّ الأجير عاجز عن ممارسة العمل المطلوب فمعنى هذا بطلان نفس الإجارة ؛ لانكشاف عدم كون تلك المنفعة من منافع الأجير، فيبطل بالتبع الشرط المفروض في عقد الإجارة أيضاً، فلابدّ

٢٥٨

احتياطاً لمثل هذه الحالة من فرض الشرط بنحوٍ آخر لكي يكون ملزماً.

وعلى أيِّ حالٍ فبعد صحة الشرط ونفوذه يصبح للجهة المستأجرة حقّ دفع مبلغٍ معيّنٍ على الأجير المقاول في حالة تخلّفه عن القيام بتعهّداته، وهذا الشرط يتصوّر صياغته بأحد أنحاءٍ ثلاثة:

الأوّل : أن يكون بنحو شرط النتيجة بحيث تشترط الجهة الخاصّة على المقاول أن تكون مالكةً لكذا مقداراً في ذمّته إذا تخلّف عن تعهّداته.

الثاني : أن يكون بنحو شرط الفعل، والفعل المشترط هو أن تُملَّك الجهة الخاصّة كذا مقداراً لا أن تكون مالكة.

الثالث : أن يكون بنحو شرط الفعل، والفعل المشترط هو أن يُملِّك المقاول تلك الجهة كذا مقداراً. والفرق بين هذا النحو وسابقه - مع أنّ الشرط في كلٍّ منهما شرط الفعل - هو أنّ الشرط في هذا النحو فعل خاصّ، وهو تمليك المقاول مالاً للجهة الخاصة، وأمّا في النحو السابق فالمشترط وإن كان هو عملية التمليك أيضاً ولكنّ المراد بها جامع التمليك القابل للانطباق على تمليك نفس المقاول وعلى تمليك غيره.

والثمرة بين هذين النحوين تظهر في إمكان تبرّع شخصٍ آخر بالقيام بالشرط على القاعدة بدون حاجةٍ إلى أمرٍ أو توكيلٍ من المقاول، فإنّ الشرط إذا كان هو خصوص الحصّة الخاصّة من التمليك الصادرة من المقاول فلا يمكن لشخصٍ آخر إيجاد الشرط تبرّعاً. وأمّا إذا كان الشرط هو الجامع بين الحصّة الصادرة من المقاول والحصّة الصادرة من غيره فيمكن للغير إيجاد هذا الجامع، وبإيجاده يحصل الوفاء، ولا يعود المقاول مطالباً بشيء، ويكون من قبيل تمكّن الغير من وفاء دين المدين.

ولا يتوهّم أنّ الشرط على المقاول يجب أن يكون خصوص الحصّة

٢٥٩

الصادرة منه لا أوسع من ذلك ؛ إذ لا معنى لأنْ يشترط على شخصٍ إلاّ فعله ؛ لأنّ هذا التوهّم يندفع بأنّ الاشتراط يقتضي كون متعلّقه مقدوراً للمشروط عليه بحث يمكن أن يدخل في عهدته ومسؤوليته. ومن المعلوم أنّ الجامع بين فعله وفعل غيره مقدور له، ولهذا يقال في باب الأحكام التكليفية: إنّه يعقل تعلّق الأمر بالجامع بين فعل المكلّف وفعل غيره بنحو صرف الوجود.

إذا اتّضحت هذا الأنحاء الثلاثة للشرط فنقول: إنّ النحو الأوّل (أي شرط النتيجة) غير صحيح في المقام ح لأنّ النتيجة المشترطة في المقام (وهي اشتغال ذمّة المقاول بكذا درهماً ابتداءً) ليس في نفسه من المضامين المعاملية المشروعة، وأدلّة نفوذ الشرط ليست مشرِّعةً لأصل المضمون، وإنّما هي متكفّلة لبيان محلّه من بحث الشروط.

وأمّا النحوان الآخران من الشرط، فهما معقولان.

والآن بعد أن تعقّلنا الشرط على المقاول بأحد النحوين الأخيرين نتكلّم عن خطابات الضمان التي يُزوّد البنك بها المقاول ويضمن فيها هذا الشرط للجهة التي اشترطته على المقاول.

فنقول: إنّ خطابات الضمان هذه يمكن تخريجها على أساس الضمان بالمعنى الثالث الذي فسّرنا به قبول البنك للكمبيالة، غاية الأمر أنّ المضمون في موارد قبول البنك للكمبيالة هو المدين، والمضمون هنا هو المشروط عليه، فكما يصحّ للبنك أن يتعهّد للدائن بأداء الدين كذلك يصحّ له أن يتعهّد للمشترط بأداء الشرط ؛ لأنّ كلّ ذلك مطابق للارتكاز العقلائي.

ثمّ إنّ اقتضاء هذا التعهّد لاستحقاق المطالبة من المتعهّد (أي البنك مثلاً) بأداء الدين أو أداء الشرط يمكن أن يبيّن بأحد وجهين:

٢٦٠