البنك اللاربوي في الإسلام

البنك اللاربوي في الإسلام14%

البنك اللاربوي في الإسلام مؤلف:
تصنيف: فقه استدلالي
الصفحات: 273

البنك اللاربوي في الإسلام
  • البداية
  • السابق
  • 273 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 36607 / تحميل: 7400
الحجم الحجم الحجم
البنك اللاربوي في الإسلام

البنك اللاربوي في الإسلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

سياسة الأطروحة المقترحة

وحديثنا الآن عن أطروحة البنك اللاربوي المقترحة يجب أن يكون بروح الموقف الثاني ؛ لأنّ المفترض بقاء الواقع كما هو من سائر نواحيه: الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والسياسية، ولو كنّا نعالج الموضوع بروح الموقف الأوّل لكان لنا حديث غير هذا الحديث.

وروح الموقف الثاني تفرض علينا أن نفتّش عن صيغةٍ شرعيةٍ معقولةٍ للبنك اللاربوي، ولكي تكون الصيغة المقترحة كذلك يجب أن تتوفّر فيها عناصر ثلاثة:

الأوّل: أن لا يكون البنك المقترح مخالفاً لأحكام الشريعة الإسلامية.

الثاني: أن يكون البنك قادراً على التحرّك والنجاح في الجوّ الفاسد للواقع المعاش، أي أن لا تخلق صيغته الإسلامية فيه تعقيداً وتناقضاً شديداً مع واقع المؤسسات الربوية الرأسمالية وجوّها الاجتماعي العام بالدرجة التي تشلّه عن الحركة والحياة.

نقول هذا فعلاً، بينما لم يكن هذا التناقض الشديد ليشكّل خطراً على البنك اللاربوي لو أتيح لنا الموقف الأوّل ؛ إذ نستأصل حينئذٍ كلّ المؤسّسات الربوية ونجتثّ كلّ جذورها الاقتصادية والاجتماعية والفكرية. وهكذا نعرف أنّ

٢١

الصعوبة لا تكمن في إعطاء صيغةٍ إسلامية لاربوية للبنك، بل في إعطائه هذه الصيغة مع افتراض أن يعيش ضمن الواقع الفاسد ومؤسّساته المختلفة.

الثالث: أن تُمكّن الصيغة الإسلامية البنك اللاربوي لا من النجاح كمؤسسةٍ تجاريةٍ تتوخّى الربح فحسب، بل لابدّ للبنك اللاربوي هذا أن يكون قادراً ضمن تلك الصيغة على النجاح بوصفه بنكاً، أي أن يؤدّي في الحياة الاقتصادية نفس الدور الذي تقوم به البنوك فعلاً، من تجميع رؤوس الأموال العاطلة ودفعها إلى مجال الاستثمار والتوظيف على أيدي الأكفاء من رجال الأعمال، وتمويل القطاعات التجارية والصناعية والقطاعات الأخرى بما تحتاجه من المال، وتكثير وسائل الدفع التي تعوّض عن العملة، وتساهم في اتّساع حركة التبادل ونشاطها من شيكاتٍ (صكوك) وغيرها.

وإضافةً إلى ذلك لا بدّ للبنك - لكي ينجح باعتباره بنكاً في بلدٍ من البلاد النامية - أن يؤدّي دوراً طليعياً في تنمية اقتصاد البلد الذي يشكّل البنك جهازاً من أجهزته المالية الحسّاسة، وأن يساهم مساهمةً فعّالةً في تطوير الصناعة في ذلك البلد ودفعها إلى الأمام.

نستخلص من ذلك: أنّ سياسة البنك اللاربوي المقترَح يجب أن توضع على ثلاثة أسس:

أولاً: أن لا يخالف أحكام الشريعة المقدّسة.

ثانياً: أن يكون قادراً على الحركة والنجاح ضمن إطار الواقع المعاش بوصفه مؤسّسةً تجاريةً تتوخّى الربح.

ثالثاً: أن تمكّنه صيغته الإسلامية من النجاح بوصفه بنكاً، ومن ممارسة الدور الذي تتطلّبه الحياة الاقتصادية والصناعية والتجارية من البنوك، وما تتطلّبه

٢٢

ظروف الاقتصاد النامي والصناعة الناشئة من ضرورة التدعيم والتطوير.

وعلى ضوء هذه السياسة سوف نتحدّث عن الأطروحة المقترحة للبنك دون أن نتقيّد بحصر نشاط البنك المقترَح في نطاق الدائرة التقليدية لنشاطات البنوك التجارية (بنوك الخصم والودائع)، أو الدائرة التقليدية لنشاطات بنوك التخصّص (بنوك العمّال)، أو أيّ دائرةٍ أخرى محدودةٍ من هذا القبيل، بل إنّنا سوف نفكّر في أيّ نشاط يمكن أن يقوم به البنك إذا كان منسجماً مع الأسس الثلاثة المتقدّمة، سواء كان هذا النشاط من اختصاص هذه الدائرة أو تلك.

٢٣

٢٤

المعالم الأساسية

للسياسة المصرفية الجديدة

يمكننا أن نلخّص المعالم الرئيسية للسياسة المصرفية الجديدة التي تحدّد بموجب الأسس المتقدّمة في ما يلي:

أولاً: الاتّجاه إلى إبراز عنصر العمل البشري في النشاطات المصرفية بوصفه مصدرَ دخل، والاتّجاه عكسياً إلى الحدّ من دخل رأس المال. فبينما البنك الربوي يمارس عمله بوصفه شخصيةً رأسماليةً ويركّز على دخله بهذا الوصف، يتّجه البنك اللاربوي إلى التأكيد على صفته كعامل، ويركّز على دخله المستمّد من هذا الوصف.

ويتمثّل هذا الاتّجاه من ناحيةٍ في تأكيد البنك اللاربوي على العمولة بوصفها أجرة عملٍ، واهتمامه بتوسيع نطاق دخله القائم على أساس العمولات. ومن ناحيةٍ أخرى في تعفّفه عن فائدة القرض بوصفها أجرة رأس المال والممثّلة لسلطانه الربوي.

وثانياً: الاتّجاه إلى الاحتفاظ مهما أمكن بروح الوساطة في الدور الذي يمارسه البنك بين المودِعين والمستثمِرين، وصياغة موقفه القانوني منهم بصورةٍ تُجسّد الوساطة.

٢٥

وبالرغم من أنّ الظروف الربوية القاهرة التي تحيط بالبنك اللاربوي تمنعه في كثيرٍ من الأحيان من تجسيد الاتّجاهات التي يتبنّاها تجسيداً كاملاً إلاّ أنّها لا تمنعه - على أيّ حالٍ - من التعبير عنها بشكلٍ من الأشكال. وبذلك يحمل البنك اللاربوي - على أقلّ تقديرٍ - بذرة التغيير الإسلامي الشامل في نظام الصيرفة، ويهيّئ للمسلمين الانفتاح على أطروحةٍ تسير في خطّة هذا التغيير ولو على المستوى النظري أحياناً. هذا، إلى جانب ما يكسبه البنك اللاربوي من شرف الالتزام فعلاً بأحكام الشريعة الإسلامية والتقيّدِ بحدود الله تعالى.

وثالثاً: استعداد البنك اللاربوي لتحمّل أعباء التجربة الجديدة في سبيل إشاعة الروح الإسلامية في نظام البنك اللاربوي، واستعداده للتضحية بشيءٍ من الربح، أو المخاطرة حين يتطلّب إنجاح الأطروحة شيئاً من ذلك ؛ لأنّ مؤسّسي البنك اللاربوي إذا كانوا يريدون أن يقدّموا أطروحةً جديدةً للعالم يُجسَّدون فيها بعض قيم الرسالة الإسلامية وروحها العظيمة فلا بدّ أن يتحلََّوا إلى جانب روحهم التجارية بروحٍ رساليةٍ ودوافع عقائديةٍ تجعلهم يُحِسّون دائماً بأنّ العمل الذي يمارسونه ليس مجرّد عملٍ تجاريّ لأجل الربح فحسب، بل هو إضافةً إلى ذلك - لا بدلاً عن ذلك - أسلوب من أساليب الجهاد في حمل أعباء الرسالة، والإعداد لاستنقاذ الأمة من أوضاع الكفر وأنظمته، وكلّ جهادٍ يتطلّب التضحية ويفرض على المجاهد البذل والعطاء.

فالبنك اللاربوي بحكم إقدامه على هذا العمل الرسالي الضخم - في عالمٍ يزخر بالربا - يجب أن يتّجه إلى دراسة أرباحه لا بلغة الأرقام المادية فحسب، بل يُدخل في أرباحه المكاسب العظيمة التي يحقّقها بعمله بأشرف رسالات السماء على الأرض، وهو أولى بتحمّل أعباء التجربة والتضحية ببعض الأرباح من

٢٦

المودِعين أو المستثمِرين الذين لم يعيشوا الدوافع الرسالية للبنك، ولم يرتفعوا إلى مستوى الهمِّ الكبير الذي دفع أصحاب فكرة البنك اللاربوي إلى تقديم أطروحتهم الجديدة إلى العالم.

ورابعاً: البحث عن متنفَّسٍ للبنك اللاربوي يستطيع عن طريقه أن يمارس عمله الفريد النبيل في الاقتراض بلا فائدة، في عالمٍ يسوده نظام الربا والقروض بفوائد من أقصاه إلى أقصاه. وتقوم الفكرة في هذا المتنفّس على تمييز البنك اللاربوي في تعامله بين الجهات التي صنعت ذلك الوضع الشاذّ الربويّ في العالم وغيرها.

فبينما يُحجِم البنك اللاربوي عن إقراض الأشخاص والهيئات بفائدةٍ تَعفُّفاً عن الربا يسمح لنفسه أن يودِع بفائدةٍ في بنوك أشخاص لا يؤمنون بالإسلام، أو بنوك حكومات لا تطبِّق الإسلام. فالبنك كمقرِض لا يأخذ فائدةً من المقترِض، ولكنّه كمودِع في تلك البنوك يمكنه أن يأخذ الفائدة ؛ والمبرّر الواقعي لذلك هو أنّ الوضع الفعلي لهذه البنوك هو المسئول عن الحرج الذي يلقاه البنك المؤمّن في ممارسة نظامه اللاربوي.

والتخريج الفقهي لذلك يقوم على أساس عدّة أحكامٍ، على رأسها الرأي الفقهيّ القائل بجواز التعامل مع الكافر غير الذمّي بالربا وأخذ الزيادة منه، وهو قول يتّفق عليه علماء المذهب الإمامي، ويذهب إليه غيرهم من علماء المسلمين أيضاً، كإمام المذهب الحنفي(١) .

____________________

(١) مقدمات ابن رشد ضمن المدوّنة الكبرى ٣: ٢٨. ونقله عن أبي حنيفة في المجموع ٩: ٤٨٨.

٢٧

٢٨

نظام البنك اللاربوي

سوف يقع حديثنا عن نظام البنك اللاربوي في فصلين:

أحدهما: في النقطة الرئيسية في البحث، وهي طريقة إنقاذ البنك المزمع إنشاؤه من التعامل بالربا، والذي يتمثّل لدى البنوك القائمة فعلاً بصورةٍ رئيسيةٍ في الإيداع لدى البنك بفائدة، والاقتراض منه بفائدة، والذي يعبِّر عن المصدر الرئيسي للتناقض بين تلك البنوك وبين أحكام الإسلام.

وطريقة إنقاذ البنك من التعامل بالربا والقضاء على أساس التناقض بينه وبين أحكام الإسلام يتمّ بتقديم أطروحةٍ تُنظِّم علاقاته بالمودِعين والمستثمِرين على أساسٍ جديدٍ يختلف عن نظام الإيداع والإقراض بفائدة(١) .

والفصل الآخر: نستعرض فيه الوظائف الأساسية التي تمارسها البنوك القائمة فعلاً، وما تشتمل عليه من خدمات وتسهيلاتٍ واستثمارات، وندرسها في ضوء الأطروحة السابقة ؛ لنعرف حكم الشريعة الإسلامية بشأنها، وموقف البنك

____________________

(١) راجع لأجل التوسّع علمياً في التخريجات الفقهية للفائدة الربوية وتحويلها إلى كسبٍ محلّلٍ الملحق رقم (١) في آخر الكتاب (المؤلف قدس‌سره ).

٢٩

اللاربوي من مختلف تلك النشاطات(١) .

____________________

(١) لم نتّبع في تصنيف البحث المنهج الأكثر شيوعاً الذي ينوّع البحث إلى دراسة مصادر أموال البنك أوّلاً، ودراسة استعمالاته لتلك الأموال ثانياً ؛ لأنّ هذا المنهج ينسجم مع وضع البنك الربوي وطبيعة نشاطه، ولا ينسجم مع أطروحة البنك اللاربوي التي نحاول تقديمها ؛ إذ في البنك الربوي يمكن أن تدرس طريقة حصوله على الودائع الثابتة في نطاق البحث عن مصادر أموال البنك، وتدرس طريقة استعماله لتلك الودائع في التسليف والإقراض في نطاق البحث عن استعمالات البنك لأمواله ؛ لأنّ حصول البنك الربوي على الوديعة الثابتة واستعماله لها في مجال الإقراض عمليتان مستقلّتان يمكن دراستهما تباعاً.

وأمّا في البنك اللاربوي فلا يمكن فصل هذين الأمرين أحدهما عن الآخر ؛ لأنّ حصول البنك اللاربوي على الوديعة الثابتة واستعماله لها يمثّلان معاً جزأين من عمليةٍ واحدة، وهي المضاربة، فلابدّ من دراسة للمضاربة بكلّ عناصرها، ولا تصحّ تجزئتها وتفكيك بعض جوانبها عن بعض.

وهذا ما جعلنا نؤثِر تصنيف البحث بالطريقة التي اتّبعناها ؛ لنُبرِز في الفصل الأوّل عملية المضاربة بكامل جوانبها المترابطة وإن أدّى ذلك إلى دمج الحديث عن بعض استعمالات البنك بالحديث عن مصادر أمواله في فصلٍ واحد.

وهكذا ندرس في الفصل الأوّل الأطروحة المقترحة التي تنبغي أن تقع، و ندرس في الفصل الثاني الواقع القائم للبنوك وما يضمّ من نشاطاتٍ على ضوء تلك الأطروحة. (المؤلف قدس‌سره ).

٣٠

الفصل الأوّل:

الأطروحة الجديدة لتنظيم علاقة البنك بالمودعين والمستثمرين

* تنظيم علاقات البنك في مجال الودائع الثابتة.

* الودائع المتحرّكة.

* ملاحظات عامّة حول البنك اللاربوي.

٣١

٣٢

تتكوّن الموارد المالية للبنك عادةً من رأس المال الممتلك للبنك - أي رأس المال المدفوع مضافاً إليه الأرباح المتراكمة غير الموزّعة - ومن الودائع التي يحصل عليها ويتمثّل فيها الجزء الأكبر من موارده.

وتنصبّ أهمّ نشاطات البنك الربوي على الاقتراض بفائدةٍ أو بدون فائدةٍ - فإنّ قبوله للودائع الثابتة اقتراض بفائدةٍ، وقبوله للودائع المتحرّكة اقتراض بدون فائدة، كما سيأتي - ثمّ الإقراض بفائدةٍ أكبر. ويتكوّن دخله الربوي من الفائدة التي يتقاضاها - في حالة اقتراضه بدون فائدة - أو من الفارق بين الفائدتين في الحالة الثانية.

ويستمدّ البنك الربوي أهمّيته في الحياة الاقتصادية من كونه قوةً قادرةً على تجميع رؤوس الأموال العاطلة ؛ بإغراء الفائدة التي يعطيها للمودِعين ودفعها إلى مجال الاستثمار باسم قروضٍ لرجال الأعمال، ومختلف المشاريع التي تحتاج إلى تمويل.

وعلى هذا الضوء نعرف أنّ العلاقة التي يمارسها البنك مع المودِعين من ناحيةٍ ومع المستثمِرين من ناحيةٍ أخرى هي علاقة وسيطٍ بين رأس المال والعمل إذا نظرنا إلى طبيعتها الاقتصادية.

٣٣

وأمّا إذا نظرنا إلى طبيعتها القانونية أي إلى الصياغة القانونية لتلك العلاقة في المجتمع الرأسمالي نرى أنّ القانون صاغها عن طريق تجزئتها إلى علاقتين قانونيّتين مستقلّتين:

إحداهما: علاقة البنك بالمودِعين بوصفه مديناً وبوصفهم دائنين.

والأخرى: علاقة البنك مع رجال الأعمال المستثمِرين، الذين يلجئون إلى البنك للحصول على المبالغ التي يحتاجونها من النقود، وفي هذه العلاقة يحتلّ البنك مركز الدائن، ورجال الأعمال مركز المَدين.

ومعنى هذا أنّ البنك لم يعد في الإطار القانوني مجرّد وسيطٍ بين رأس المال والعمل، أي بين المودِعين والمستثمِرين، بل أصبح طرفاً أصيلاً في علاقتين قانونيّتين، وانعدمت بحكم ذلك أيّ علاقةٍ قانونيةٍ بين رأس المال والعمل، بين المودِعين والمستثمِرين، فأصحاب الودائع ليس لهم أيّ ارتباطٍ قانونيّ برجال الأعمال، وإنّما هم مرتبطون بالبنك ارتباط دائنٍ بمدين، كما أنّ رجال الأعمال المستثمِرين غير مرتبطين بأحدٍ سوى البنك بالذات الذي يدخلون معه في علاقة مَدين بدائن.

والبنك بوصفه مديناً للمودِعين يدفع إليهم الفائدة إذا لم تكن ودائعهم تحت الطلب، وباعتباره دائناً للمستثمِرين يتسلّم منهم فائدةً أكبر، وبذلك يرتبط نظام الإيداع والإقراض بالربا المحرَّم في الإسلام.

والفكرة الأساسية التي أحاول عرضها لتطوير البنك على أساسٍ إسلاميّ يصونه من التعاطي بالربا ترتكز على تصنيف الودائع التي يتسلّمها إلى: ودائع ثابتة، وأخرى: متحرّكة (جارية) ففي الودائع الثابتة تُرفض الصياغة القانونية الآنفة الذكر بعلاقة البنك بالمودِعين والمستثمِرين، وتُعطى بدلاً عنها صياغة قانونية أخرى تنشأ بموجبها علاقة قانونيّة مباشرة بين المودِعين والمستثمِرين ،

٣٤

ويمارس البنك ضمنها دوره كوسيطٍ بين الطرفين، وبذلك تصبح الصياغة القانونية لعلاقة البنك بالمودِعين والمستثمِرين أكثر انطباقاً على واقع تلك العلاقة.

فكما إذا نظرنا إلى واقع هذه العلاقة بصورةٍ مجرّدةٍ عن أيّ طابعٍ قانونيّ نجد أنّها لا تخرج عن معنى الوساطة يقوم بها البنك لإيصال رؤوس الأموال التي تتطلّب مستثمِراً إلى المستثمِرين الذين يطلبون رأس مالٍ يستثمرونه كذلك حين ننظر إلى علاقة البنك بالطرفين في إطار الصياغة القانونية المقترحة التي تنشأ فيها الصلة بين المودِعين والمستثمِرين مباشرة، فإنّها لا تبتعد ضمن هذه الصياغة عن وضعها الطبيعي كوساطةٍ يمارسها البنك بين رأس المال والعمل. هذا في مجال الودائع الثابتة.

وأمّا الودائع المتحرّكة (الجارية)، فلها وضع آخر في الأطروحة المقترحة يأتي الحديث عنه بعد ذلك.

وسوف نتناول أوّلاً تنظيم علاقات البنك بالمودِعين للودائع الثابتة والمستثمِرين ، ونوضّح كيف تُصاغ بشكلٍ تنشأ فيه الصلة مباشرةً بين المودِعين والمستثمِرين ويمارس البنك اللاربوي دور الوسيط بين الطرفين، ثمّ نتكلّم عن تنظيم علاقات البنك بأصحاب الودائع المتحرّكة. ولكن قبل البدء بذلك لابدّ أن نحدِّد ما نقصده من الودائع الثابتة والمتحرّكة.

٣٥

تقسيم الودائع إلى ثابتةً ومتحرّكة

الودائع الثابتة (الودائع لأمدٍ): عبارة عن المبالغ التي يودِعها أصحابها في البنك بقصد الحصول على دخلٍ عن هذا الطريق يتمثّل في ما يتقاضونه من الفوائد، وهؤلاء قد يستهدفون استثمار أموالهم عن هذا الطريق باستمرار، وقد يُقدِمون على هذا الاستثمار مؤقّتاً بانتظار فرصةٍ مناسبةٍ للتشغيل.

والودائع المتحرّكة (الودائع تحت الطلب التي تُكوِّن الحساب الجاري): هي المبالغ التي يودِعها أصحابها في البنوك بقصد أن تكون حاضرةَ التداول والسحب عليها لحظة الحاجة ؛ وفق متطلّبات العمل التجاري، أو حاجات المودع كمستهلك. ولا يتقاضى هؤلاء عادةً فائدةً من البنوك على هذه الودائع، كما أنّها تكون تحت الطلب دائماً، بمعنى أنّ البنك يلتزم بدفعها متى ما طولب بذلك، خلافاً للودائع الثابتة فإنّ أصحابها يتقاضون فوائد عليها، ولا يلتزم البنك بدفعها فوراً متى طولب بذلك.

وهناكقسم ثالث من الودائع تلتقي فيه خصائص القسمين السابقين، وهو ودائع التوفير التي يودِعها الموفّرون في البنك وينشئون بذلك حساباً في دفترٍ خاصّ واجب الترقيم عند كلِّ سحبٍ أو إيداع. وتلتقي ودائع التوفير مع الودائع المتحرّكة في إمكان السحب منها متى شاء المودِع، خلافاً للودائع الثابتة التي لا يلتزم البنك بوضعها تحت الطلب دائماً. كما أنّ ودائع التوفير تلتقي مع الودائع الثابتة في ما تقرضه البنوك الربوية من فوائد للموفّر كما تفرضها لأصحاب الودائع الثابتة.

ونظراً إلى أنّ البنك يسمح للموفِّر بالسحب من حسابه متى شاء، ورغبةً منه

٣٦

في إغرائه بعدم السحب مهما أمكن يكتفي بتقييد فائدةٍ لحساب العميل الموفّر على أساس أدنى رصيدٍ في حساب التوفير خلال الشهر.

وإذا أردنا أن نقسِّم الودائع تقسيماً يشمل ودائع التوفير أيضاً أمكن أن نقرِّر أنّ الودائع إمّا ودائع تحت الطلب، أو ودائع لأمد. والقسم الأوّل هو الودائع المتحرّكة (الحساب الجاري)، والقسم الثاني ينقسم بدوره إلى: ودائع ثابتة، وودائع توفير. ولكنّا الآن سوف نتحدّث بصورةٍ رئيسيةٍ عن القسمين الأساسيّين، وهما: الودائع الثابتة، والودائع المتحرّكة، وفي ختام الحديث عن الودائع الثابتة سوف ندرس موقف البنك اللاربوي من ودائع التوفير وأوجه الفرق بينه وبين موقفه من الودائع الثابتة.

٣٧

٣٨

تنظيم علاقات البنك

في مجال الودائع الثابتة

إنّ عملية إيداع هذه الودائع الثابتة لدى البنك - أي إقراضها للبنك - وعملية تقديمها من قبل البنك لرجال الأعمال المستثمِرين يمكن دمجها في علاقةٍ واحدةٍ تسمّى في مصطلحات الفقه الإسلامي ب- (المضاربة).

مفهوم المضاربة في الفقه الإسلامي:

والمضاربة يختلف مفهومها في الفقه الإسلامي عن مصطلحها في الاقتصاد الحديث(١) . فهي في الفقه الإسلامي: عقدٌ خاصٌّ بين مالك رأس المال والمستثمِر

____________________

(١) المضاربة ( Speculation ): اصطلاح يعني بمعناه الضيّق شراء عملات آجلة أو بيعها بحيث يحتفظ المضارب عمداً بمركز صرف بقصد الاستفادة من الفرق بين السعر الآجل يوم التعاقد والسعر الحاضر يوم الاستحقاق، وفي هذه الحالة يتصرّف المضارب بدافع يخالف تماماً الدافع الذي يحدو المتعامل في عمليّات التغطية.

أمّا في المعنى الواسع، فتشمل المضاربة أيضاً الاحتفاظ عمداً بمركز صرف قائم، والدافع لذلك هو نفس الدافع على المضاربة بمعناها الضيّق.

وبهذا المفهوم يعتبر المصدّر مضارباً إذا لم يقم بتغطية مركزه كبائع بإجراء عمليّة آجلة ؛=

٣٩

على إنشاء تجارةٍ يكون رأسمالها من الأوّل، والعمل على الآخر، ويحدّدان حصّة كلٍّ منهما من الربح بنسبةٍ مئوية، فإن ربح المشروع تقاسما الربح وفقاً للنسبة المتّفق عليها، وإن ظلّ رأس المال كما هو - لم يزد ولم ينقص - لم يكن لصاحب المال إلاّ رأس ماله، وليس للعامل شيء. وإن خسر المشروع وضاع جزء من رأس المال أو كلّه تحمّل صاحب المال الخسارة، ولا يجوز تحميل العامل المستثمِر وجعله ضامناً لرأس المال، إلاّ بأن تتحوّل العملية إلى إقراض من صاحب رأس المال للعامل، وحينئذٍ لا يستحقّ صاحب رأس المال شيئاً من الربح(١) .

هذه هي الصورة العامة للمضاربة في الفقه الإسلامي.

أعضاء المضاربة المقترحة:

ولكي نقيم العلاقات في البنك اللاربوي على أساس المضاربة بالنسبة إلى الودائع الثابتة يجب أن نتصوّر الأعضاء المشتركين في هذه المضاربة، ونوعية الشروط والالتزامات والحقوق لكلّ واحدٍ منهم.

إنّ الأعضاء المشتركين في المضاربة ثلاثة:

١ - المودِع بوصفه صاحب المال، ونطلق عليه اسم (المضارِب).

٢ - المستثمِر بوصفه عاملاً، ونطلق عليه اسم (العامل، أو المضارَب).

____________________

=نظراً لأنّه يتوقّع ارتفاعاً عند الاستحقاق في السعر الحاضر للعملة التي يحوزها، وبذا يتحمّل مخاطر مماثلة للمخاطر التي يتعرّض لها مشتري العملات الآجلة. (الموسوعة الاقتصاديّة: ٢٤٦).(لجنة التحقيق) .

(١) لاحظ الملحق رقم

(٢) في آخر الكتاب للتوسّع في فهم هذا الحكم من الناحية الفقهية والاستدلالية.(المؤلّف قدس‌سره ) .

٤٠

٣ - البنك بوصفه وسيطاً بين الطرفين ووكيلاً عن صاحب المال في الاتّفاق مع العامل.

ولكي نعرف النظام الذي يتّبعه البنك في المضاربة بالودائع الثابتة لابدّ أن نشرح الشروط التي يجب توفّرها في أعضاء المضاربة، ثمّ نحدِّد حقوق كلِّ واحدٍ منهم.

شروط الأعضاء:

إنّ البنك بوصفه الوسيط بين رأس المال والعمل لا يقوم بدوره هذا في الوساطة والتوكّل عن صاحب المال إلاّ في حالة توفّر شروطٍ معيّنةٍ في المودِع وفي العامل المستثمِر.

الشروط المفروضة على المودِع:

يشترط البنك في توكّله عن المضارب - أي المودِعَ - واستثمار وديعته عن طريق المضاربة ما يلي:

١ - إن يلتزم المودِع بملزِمٍ شرعيّ بإبقاء وديعته مدّةً لا تقلّ عن ستة أشهرٍ تحت تصرّف البنك، فإذا لم يوافق المودِع على ذلك لم يسمح له الاشتراك في عقود المضاربة، ولم يقبل البنك التوكّل عنه في هذا المجال.

٢ - أن يُقِرَّ المودِع ويوافق على الصيغة التي يقترحها البنك للمضاربة، والشروط التي يتبنّى إدراجها في تلك الصيغة.

٣ - أن يفتح المودِع وديعةً ثابتةً حساباً جارياً مع البنك، وهذا الشرط قابل للتغيير تبعاً لظروف الاستثمار وحاجة البنك إلى الودائع ليُضارب بها، فقد يرفع هذا الشرط عند الحاجة إلى ودائع ثابتةٍ للمضاربة ؛ ليكون ذلك مشجِّعاً على

٤١

استقدام مودِعين جُدُد.

ولا يُعتبر بعد ذلك حجم معيّن في الوديعة الثابتة التي تدخل مجال المضاربة، بل يمكن قبولها ولو بلغت من الضآلة إلى درجةٍ لا تُتيح إنشاءَ مضاربةٍ مستقلّةٍ على أساسها ؛ لأنّ البنك لا يربط كلّ وديعةٍ بمضاربةٍ مستقلّة، وإنّما تُمتزج كلّ وديعةٍ بغيرها في بحر الودائع الثابتة، وتنصبّ عقود المضاربة على مجموعاتٍ من هذا البحر، فلا مانع من ضآلة حجم الوديعة الثابتة التي يتقدّم بها المودِع.

الشروط المفروضة على المستثمِر:

وأمّا شروط التوسّط بالنسبة للمضارَب - أي العامل المستثمِر - التي لا يقدم البنك بدونها على التوسّط بينه وبين المودِعين والاتّفاق معه على المضاربة معمولةٍ فهي:

١ - أن يكون أميناً، وأن يشهد على أمانته ووثاقته شخصان يعرفهما البنك.

٢ - أن تحصل للبنك القناعة الكافية بكفاءة المستثمِر وقدرته على استثمار الأموال التي سيأخذها من البنك في مجالٍ قليل المخاطرة، أو على الأقلّ يتوقّع البنك فرصةً طيّبة في ذلك المجال، وأن تكون للمستثمِر خبرة سابقة في المجال الذي سيستثمِر المال فيه.

٣ - أن تكون العملية التي يريد العامل استثمار المال فيها محدَّدةً ومفهومةً لدى البنك بحيث يستطيع البنك أن يقدِّر نتائجها ويدرس احتمالاتها.

٤ - يُفضَّل مَن كان له سبقُ تعاملٍ مع البنك وسابقة حسنة على غيره.

٥ - أن يخضع للشروط التي يُمليها البنك عليه في العرض، وهي:

أ - الشروط التي تتعلّق بتقسيم الأرباح وفقاً لِمَا يأتي بعد لحظات.

ب - أن تكون جميع الأعمال المالية للمستثمِر المتّصلة بذلك الاستثمار

٤٢

الخاصّ بواسطة البنك، بأن يفتح فيه الحساب الجاري للمضاربة ويودِع فيه ودائعها المتحرّكة.

ج - أن يلتزم بسجلاّتٍ دقيقةٍ ومضبوطةٍ في حدود استثمار مال المضاربة، وقد يمكن إلزامه بأن تكون قانونيةً، وذلك بشهادة محاسبٍ قانوني(١) .

د - أن يفتح البنك إضبارةً لكلّ عملية مضاربةٍ يرفق فيها كلّ ما يتعلّق بتلك العملية من مخابراتٍ تبدأ بعقد المضاربة الموقَّع عليه من قبل العامل، ويشترط على العامل أن يزوِّد البنك بجميع المعلومات عن سير دورة حياة عملية المضاربة

____________________

(١) وهذا لا يعني بطبيعة الحال أنّ البنك اللاربوي يمسك عن التعامل مع التجّار والصنّاع الذين لا يمسكون حساباتٍ ولا يعرفون بالتحديد مقدار أرباحهم السنوية، والذين يشكّلون في الدول المتخلّفة عادةً أكثريّةَ رجالِ الأعمال من التجّار والصنّاع، بل إنّ البنك اللاربوي يتعامل مع هؤلاء في مضارباتٍ خاصّةٍ ومحدودة، من قبيل أن يتقدّم أحدهم إلى البنك طالباً تمويله على أساس المضاربة بمبلغٍ محدّدٍ من المال لشراء صفقةٍ معيّنة من الحنطة وتصريفها خلال الموسم، فيتّفق معه البنك على ذلك ويلزمه باتّخاذ سجلاّتٍ دقيقةٍ ومضبوطةٍ في حدود تلك الصفقة التي وقعت المضاربة عليها، وإن لم يكن لدى العميل سجلاّت مضبوطة بالنسبة إلى مجموع عمله التجاري.

هذا في حالة اتّفاق الشخص مع البنك على المضاربة بصفقةٍ تجاريةٍ محدّدة. وأمّا في حالة إنشاء الشخص لمحلّ تجاريّ على أساس المضاربة فلابد أن يكون العمل في المحلّ التجاري كلّه على أساس السجلاّت المضبوطة. وأمّا الإلزام بمحاسبٍ قانونيّ، فهو ممكن فيما إذا كان العامل المضارَب شركةً ذاتَ مسؤولية محدودة أو مساهمة، أو تاجراً كبيراً. وأمّا في صغار التجّار والصنّاع الذين ينشئون محلاّتٍ تجاريةً صغيرةً على أساس المضاربة مع البنك اللاربوي، أو يتّفق معهم البنك على صفقاتٍ معيّنةٍ محدّدةٍ فبإمكان البنك أن يعيّن محاسباً قانونياً أو أكثر لسجلاّت مجموع تلك المضاربات، ويقتطع أجوره من مجموع أرباحها حسب النسبة قبل التوزيع.(المؤلف قدس‌سره ).

٤٣

من ساعة تنفيذ عقد المضاربة، أي من ساعة شراء المادّة المتّفق عليها وما شاكل ذلك حتى انتهاء العقد، وتشمل هذه المعلومات تقلّبات الأسعار الواقعة فعلاً والمحتملة من قبل العميل، وأسعار البيع التي تقلّ عن أسعار الشراء.

وطريقة الاتّصال بالبنك وتزويده بهذه المعلومات يحدِّدها البنك نفسه، وباستطاعته أن يهيّئ استماراتٍ لهذا الغرض، على أن يكون للعميل الحقّ في الاتّصال التلفوني إذا كان ذلك ضرورياً.

وهناك شروط خاصّة بالعمل نفسه وظروفه تختلف من عملٍ إلى آخر لا يمكن تحديدها بصيغةٍ عامّة.

ولدى توفّر شروط التوكّل بالنسبة إلى المودِع والمستثمِر يقوم البنك بدوره كوسيطٍ في المضاربة ؛ بعد أن يدرس رِبحيَّة المشروع الذي تقدّم العامل طالباً تمويله عن طريق المضاربة على ضوء مختلف الظروف الموضوعية.

وعلى البنك أن يسعى جاهداً لتوفير المضاربة الناجحة، ولا يجوز له تأجيل استثمار الودائع الثابتة التي يتسلّمها، ولا التماهل في تهيئة الفرصة المناسبة للمضاربة الناجحة بها بقصد توفير سيولةٍ نقديةٍ في خزانته، أو إيثاراً لاستثمار أمواله الخاصّة على أموال المودِعين.

حقوق الأعضاء

حقوق المودِع:

العضو الأوّل يتمثّل في أصحاب الودائع، أي المجموع الكلّي للمودِعين لتلك الودائع، بمعنى أنّ كلّ وديعةٍ تظلّ محتفظةً بملكية صاحبها لها، ولا تستقل ملكيتها إلى البنك عن طريق القرض كما يقع في البنوك الربوية، غير أنّ الودائع لا يبقى بعضها منعزلاً عن بعض، بل يستعمل البنك بإذن أصحاب الودائع الإجراء

٤٤

الشرعي الذي يجعل مجموع الودائع ملكاً مشاعاً لمجموع المودِعين، ويكون لكلّ مودِع من هذا المجموع بمقدار نسبة وديعته إلى مجموع الودائع. وبذلك يصبح صاحب المال في عقد المضاربة هو المجموع الكلّي للمودِعين الذي يمثّل البنك إرادته بوصفه وكيلاً عنهم، كما سيأتي. وأيّ وديعةٍ ثابتةٍ تَرِد إلى البنك تدخل في بحر الودائع الثابتة الذي يشتمل على المجموع الكلّي لتلك الودائع.

ولدى تحديد حقوق المودِعين لهذه الودائع - الذين يمثِّلون العضو الأوّل في المضاربة - يجب أن تحدَّد هذه الحقوق بالشكل الذي ينسجم مع الإسلام، ويحافظ على الدوافع التي تدفع أصحاب الودائع فعلاً إلى إيداع أموالهم ؛ لأنّنا إذا لم نحتفظ بهذه الدوافع فسوف ينصرف أصحاب الودائع عن الإيداع لدى البنك اللاربوي ويتَّجهون إلى البنوك الربوية.

وإذا درسنا الدافع الذي يدفع المودِعين نجد أنّه مكوَّن من العناصر التالية:

أ - كون الوديعة مضمونة، فإنّ البنوك الربوية تضمن الوديعة لصاحبها بوصفها قرضاً.

ب - الدخل الذي يدفعه البنك الربوي لصاحب الوديعة الثابتة باسم الفائدة.

ج - قدرة المودِع على استرجاع الوديعة أو السحب عليها في نهاية الأجل الذي يحدَّد.

١ - ضمان الوديعة:

أمّا العنصر الأوّل فيمكننا أن نحتفظ به لصاحب الوديعة في البنك اللاربوي بضمان ماله، لا عن طريقة اقتراض البنك للوديعة كما يقع في البنوك الربوية، ولا عن طريق فرض الضمان على المستثمِر ؛ لأنّه يمثِّل دول العامل في عقد

٤٥

المضاربة، ولا يجوز شرعاً فرض الضمان عليه، بل يقوم البنك نفسه بضمان الوديعة والتعهّد بقيمتها الكاملة للمودِع في حالة خسارة المشروع، وليس في ذلك مانع شرعي ؛ لأنّ ما لا يجوز هو أن يضمن العامل رأس المال، وهنا نفترض أنّ البنك هو الذي يضمن لأصحاب الودائع نقودهم، وهو لم يدخل العملية بوصفه عاملاً في عقد المضاربة لكي يحرم فرض الضمان عليه، بل بوصفه وسيطاً بين العامل ورأس المال، فهو إذن جهة ثالثة يمكنها أن تتبرّع لصاحب المال بضمان مالِه، ويقرِّر البنك هذا الضمان على نفسه بطريقةٍ تلزمه شرعاً بذلك(١) ، فيتوفّر بذلك للمودِعين العنصر الأوّل من عناصر الدافع الذي يدفعهم إلى الإيداع.

٢ -الدخل :

وأمّا العنصر الثاني - وهو الدخل الثابت الذي يتقاضاه المودِعون من البنك الربوي باسم الفائدة - فنُعوِّض عنه في أطروحة البنك اللاربوي بوضع نسبةٍ مئويةٍ معيّنة من الربح للمودِعين بوصفهم أصحاب المال في عقد المضاربة، فإنّ لصاحب المال في عقود المضاربة نسبةً مئويةً من الربح يتّفق عليها في العقد بينه وبين العامل.

ويرتبط دخل المودِعين على هذا الأساس بنتائج المشروع الذي يمارسه عامل المضاربة، فإنْ ربح المشروع كانت لهم نسبتهم المقرَّرة من الربح، وإن لم يربح لم يكن لهم شيء، خلافاً للفائدة التي تدفعها البنوك الربوية إلى المودِعين بقطع النظر عن نتائج المشروع التي استغلّت الأموال المودَعة فيه، غير أنّ احتمال عدم الربح بشكل مطلقٍ يعتبر في أكثر الظروف احتمالاً ضعيفاً، وقد يصبح مجرّد احتمالٍ نظري ؛ لأنّ وديعة كلِّ فردٍ لن ترتبط بمفردها بمضاربةٍ مستقلّةٍ لكي يتوقّف

____________________

(١) لاحظ للتوسّع في ذلك من الناحية الفقهية الملحق رقم (٢)(المؤلّف قدس‌سره ).

٤٦

ربح صاحبها على نتائج تلك المضاربة المحدودة، بل إنّها سوف تمتزج بغيرها من الأموال النقدية في بحر الودائع الثابتة، ويدخل المودِع كمضاربٍ في جميع المضاربات التي يعقدها البنك على مجاميع مختلفةٍ من ذلك البحر، وتكونُ حصّته من المضاربة في كلّ عقدٍ بنسبة وديعته إلى مجموع الودائع الثابتة. وعلى هذا فيتوقّف احتمال عدم الربح على أن لا تربح جميع المضاربات التي أنشأها البنك والمشاريع التي ارتبط بها على أساس المضاربة، إذ في حالة ربح بعضها يوزَّع ذلك الربح على الجميع بالنسب بعد تغطية ما قد يتّفق من خسائر.

وأرى - بحكم الظروف الموضوعية التي تحيط بالبنك اللاربوي - أن لا تقلّ النسبة المئوية من الربح التي تخصَّص للمودِعين عن الفائدة التي يتقاضاها المودِع في البنك الربوي ؛ لأنّها إذا قلّت عن الفائدة انصرف المودِعين عن إيداع أموالهم في هذا البنك إلى البنوك الربوية التي تدفع الفائدة.

وعلى هذا الأساس أقترِح أن تحدَّد - منذ البدء - فكرة تقريبية عن نسبة الربح إلى رأس المال وفقاً لظروف العمل التجاري في كلّ ظرف، ويفترض للمودِعين نسبة معيّنة من الربح لا تقلّ نسبتها إلى رأس المال - أي الوديعة - عن نسبة الفائدة إليه.

فعلى سبيل المثال: إذا كان المجموع الكلّي للودائع قد بلغ مئة ألف دينار وكانت الفكرة التقريبية عن نسبة الربح إلى رأس المال المستثمَر طيلة عامٍ كاملٍ هي (٢٠ %)، أي أنَّ ربح المئة ألف في نهاية العام (٢٠) ألف دينارٍ وافترضنا أنّ الفائدة التي تدفعها البنوك الربوية هي (٥%) - أي أنّها تدفع خمسة آلاف دينارٍ فائدةً على وديعةٍ تبلغ مئة ألف دينارٍ - فيجب أن لا تقلّ النسبة المئوية التي تقرَّر في البنك اللاربوي للمودِعين عن (٢٥%) من الربح لكي لا تنقص عن سعر الفائدة.

٤٧

وأُضيف إلى هذا أنّ النسبة المئوية المعطاة للمودِعين من الربح يجب أن تزيد شيئاً ما على سعر الفائدة ؛ لكي يساوي عَرض البنك اللاربوي عروض البنوك الربوية في قوة الإغراء والجذب لرؤوس الأموال ؛ وذلك لأنّ الفائدة حتى إذا تساوت - بموجب التقديرات التقريبية - مع النسبة المقرّرة للمودِع من الربح يظلّ للفائدة الربوية إغراؤها الخاصّ على أساس أنّ البنك الربوي يدفعها على أيّ حال، بينما البنك اللاربوي لا يرى المودِع مستحقّاً لشيء في حالة عدم الربح. وتداركاً لذلك يجب أن يُزاد في النسبة المئوية للربح بدرجةٍ تصبح أكثر من الفائدة.أمّا قدر هذه الزيادة فتحدِّده درجة احتمال عدم الربح التي قد تختلف من ظرفٍ لآخر(١) ، فكلّما تناقصت درجة احتمال عدم الربح تناقصت الزيادة، والعكس صحيح أيضاً، فإذا فرضنا أنّ سعر الفائدة في السوق هو (٥%) وأنّ احتمال عدم الربح هو (١٠%) فإنّ الزيادة ستكون: معدّل سعر الفائدة..×..احتمال

____________________

(١) لا نريد باحتمال عدم الربح أن لا تربح كافّة المشاريع نهائياً ؛ لأنّ هذا الاحتمال قد لا يكون إلاّ نظرياً، لأنّ الربح المطلق موجود لكلّ وديعةٍ على أيّ حال، وإنّما هنالك احتمال أن تقلّ النسبة المقرّرة للمودِع من الربح عن الفائدة الربوية: إمّا نتيجةً لظروفٍ موضوعيةٍ عامةٍ لعمليات الاستثمار أوجَدت هبوط أرباحها، وإمّا لأنّ البنك لم يستطع أن يوظّف كامل حجم الوديعة، فيبقى جزء منه غير مستثمَر، وبالتالي ينقص مجموع الربح عمّا كان مقدّراً.فهناك إذن مخاطرتان: مخاطرة ناتجة عن الظرف العامّ للاستثمار، ومخاطرة ناتجة عن عدم التوظيف الكامل للوديعة من ناحية الحجم أو المدّة، وحين أخذ هاتين المخاطرتين بعين الاعتبار وتقييمها بالطريقة المنَوَّه عنها تكون حصّة المودِع من الربح عندئذٍ مساوية للمعادلة الآتية:

الفائدة..×..مخاطرة عدم الحصول على ربح كافٍ نتيجةً للظرف العام..+..الفائدة..×..مخاطرة عدم التوظيف الكامل..=..حصّة المودِع.(المؤلّف قدس‌سره ).

٤٨

عدم الربح الناتج عن المضاربة، أي ، ويكون مجموع المعطى للمودِع من حجم الوديعة.

ونترجم هذه النسبة إلى (النسبة إلى الربح) المتحقّق نتيجةً للمضاربة، وذلك كما يلي في هذا المثال: لو فرضنا أنّ نسبة الربح المتوقَّع هو (٢٠%) من رأس المال وأنّ رأس المال هو (١٠٠٠) دينارٍ كان هذا يعني أنّ الربح سيكون (٢٠٠) دينار، بينما الربح المستحقّ للمودِع بموجب النسبة السابقة هو (٥٥) ديناراً، وعليه تكون النسبة المئوية لحصّة المودِع من الربح تساوي:

من الربح.

قبل دخول الوديعة مجال الاستثمار:

وبالرغم من أنّا وفّرنا للمودِع حصّةً من الربح تساوي أو تقارب في إغرائها الفائدة التي تعرضها البنوك الربوية على المودِعين فيها، فإنّ هناك فارقاً يبقى بين المودِع في البنك الربوي وبين المودِع في البنك اللاربوي، وهو: أنّ الأوّل يبدأ استثماره لمالِه منذ اليوم الأوّل، إذ تحسب له فوائد الوديعة من حين إيداعها، بينما لا يحصل الثاني على النسبة المئوية من الربح إلاّ من حين استثمار وديعته ودخولها في مجال عقد المضاربة وظهور الربح، أي أنّ كلّ وديعةٍ تمرّ عادةً بفترةٍ زمنيةٍ لا يحسب لها خلال هذه الفترة أي دخل، لا على أساس الفائدة، ولا على أساس الشركة في الربح، وهي الفترة المتخلّلة بين إيداع الوديعة والوقت المفروض لدخولها مجال الاستثمار.

وسوف نعالج هذه النقطة فيما بعد عندما ندرس كيفية تقسيم الأرباح بين البنك والمودِعين، وتحديد حصّة كلّ وديعةٍ من مجموع المضاربات.

٤٩

٣ - قدرة المودِع على سحب الوديعة:

من الواضح أنّ المودِع للوديعة في البنك الربوي قادر على سحبها في آجالٍ معيّنة، ويجب أن تُعطى فرصة من هذا القبيل بشكلٍ من الأشكال في البنك اللاربوي بالرغم من أنّ هذا البنك يواجه صعوبةً كبيرةً بهذا الصدد على أساس أنْ ودائعه تتحوّل إلى مشاريع تجاريةٍ وصناعية، لا إلى مجرّد قروض قصيرة الأجل.

ولكن يمكن للبنك اللاربوي - على أيّ حالٍ - أن يحدِّد نهاية كلّ ستّة أشهر من بداية استثمار الوديعة كأجلٍ يمكن للمودِع عند حلوله سحبُ وديعته وفسخ عقد المضاربة، ويشترط عليه القبول بدفع قيمة وديعته نقداً، لا بشكلها المادّي المستثمَر فعلاً في المشروع التجاري مثلاً.

وإعطاء فرصة السحب للمودِع في نهاية كلّ ستّة أشهرٍ تؤخذ فيه الأمور التالية بعين الاعتبار:

أ - ليس من المفروض أن يحلَّ الأجل الذي يخوَّل للمودِع سحب قيمة وديعته بالنسبة إلى جميع الودائع الثابتة، بل يمكن أن تحلّ آجال الودائع في أوقاتٍ مختلفة.

ل - المفروض في الحالات الاعتيادية أن لا يواجه البنك حين حلول الآجال المتعاقبة طلباً على قيمة الودائع من أصحابها إلاّ بنسبةٍ ضئيلةٍ قد لا تبلغ عُشر المجموع الكلّي للودائع الثابتة.

ج - إنّ الوديعة التي يسحبها صاحبها في الأجل المحدَّد لم تدخل كلّها في مشروع استثمارٍ واحدٍ لكي يكون سحب قيمته منه مؤدِّياً إلى تضعضعه، وإنّما ذابت كلّ وديعةٍ ثابتةٍ في بحر الودائع الثابتة التي استُثمرت في مشاريع عديدة. وعلى هذا فسوف يساهم في تحمّل عبء سحب الوديعة جميع تلك المشاريع

٥٠

بنسبة تركيبها.

د - يفرض البنك على المشاريع التي تمّ استثمار الودائع الثابتة فيها الالتزام بدرجةٍ من السيولة النقدية في أوقاتٍ محدَّدة من كلّ عام، وذلك بالنسبة للمشاريع التي لا تتّصف بموسميةٍ خاصّةٍٍ في أعمالها.

أمّا المشاريع التي تتّصف بالموسمية فإنّ البنك يحدِّد الأوقات التي تتوفّر عادةً مثل هذه السيولة فيها، ويشترط على تلك المشاريع أن تودِع نقودها في حسابٍ جارٍ لا يقلّ رصيده الدائم عن المبلغ المحدَّد والمشترط من قبل البنك في تلك الفترة بالذات. ويقوم البنك بعد ذلك بتوزيع عبء توفير السيولة على بقية المشاريع المضاربات التي لا تتّصف بالموسمية، ويقسّم هذا العبء حسب الأوقات والفترات التي لم تغطِّها سيولة المشاريع الموسمية(١) .

وكلّ مشروعٍ من مشاريع الاستثمار إذا رسم سياسته على هذا الأساس الذي يشترط عليه البنك أمكنه الحصول على درجةٍ من السيولة النقدية في وقتٍ معيَّنٍ من كلّ عام.

ه- - البنك لا يضطرّ إلى السحب من نفسه رؤوس أموال المشاريع القائمة فعلاً على أساس المضاربة، بل يمكنه إذا واجه طلباً من شخصٍ على وديعته الثابتة

____________________

(١) ويمكن استبدال هذه النقطة التي تقوم على أساس التمييز بين المشاريع الموسمية وغيرها بإلزام المؤسّسة التي تتعامل مع البنك اللاربوي على أساس المضاربة بالاحتفاظ بنسبةٍ معيّنةٍ من القرض على شكلِ نقديّ في البنك اللاربوي في كلّ الأحوال كحدّ أدنى، بدون تميّزٍ بين المشاريع الموسميّة وغيرها، ولا بين وقتٍ وآخر. ويشابه هذا ما يطلق عليه في البنوك التجارية الأمريكية اسم: (الأرصدة المعوّضة)، وهذا بالفعل ما اقترحه الأستاذ الفاضل الدكتور خليل الشمّاع حينما قام مشكوراً بدراسة أطروحة البنك اللاربوي.(المؤلّف قدس‌سره ).

٥١

أن يدفع إليه قيمة الوديعة من السائل النقدي الذي يحتفظ به في خزائنه، والذي يتألّف:

أولاً : من الجزء الذي لم يتمكّن بعدُ من استثماره من الودائع الثابتة.

ثانياً : من الودائع المتحرّكة التي يمكن للبنك أن يحتفظ دائماً بجزءٍ منها كاحتياطٍ لتغطية طلبات السحب على الودائع الثابتة.

ثالثاً : من الجزء الذي يحافظ البنك على سيولته من رأس ماله الأصلي ؛ لكي يساهم في تغطية تلك الطلبات.

وفي حالة سداده الوديعة من الودائع الثابتة فإنّ ذلك لن يغيّر من أمر توزيع الأرباح شيئاً، وإنّما يحدث التغيير فيما إذا كان قد سدّد الوديعة المسحوبة من الودائع المتحرّكة، أو من رأس ماله الأصلي، فإنّ البنك سيستحقّ هو بمواصلة المضاربة وحلوله محلّ المضارب السابق الأرباحَ التي تعود للمبلغ المستثمَر من يوم حلوله محلّ السحب، وتُعامَل أموال البنك المستثمَرة في المضاربة على نفس الأساس الذي تُعامَل فيه الودائع الثابتة، كما سنرى في توزيع الأرباح.

ويتلخّص من كلّ ما تقدّم: أنّنا استطعنا أن نُجنِّب المودِع الكسب على أساس الربا المحرّم، وفي نفس الوقت احتفظنا له بالعناصر التي يتكوّن منها دافعه نحو الإيداع، وهي: الضمان، والدخل، وإمكان السحب في أجلٍ محدَّد. والآن ننتقل إلى العضو الثاني في المضاربة، وهو البنك نفسه.

حقوق البنك:

إنّ العضو الثاني يتمثّل في البنك، وهو في الواقع ليس عضواً أساسياً في عقد المضاربة ؛ لأنّه ليس هو صاحب المال، ولا صاحب العمل - أي المستثمِر - وإنّما يتركّز دوره في الوساطة بين الطرفين، فبدلاً عن أن يذهب رجال الأعمال

٥٢

إلى المودِعين يفتّشون عنهم واحداً بعد آخر ويحاولون الاتّفاق معهم يقوم البنك بتجميع أموال هؤلاء المودِعين ويُتيح لرجال الأعمال أن يراجعوه ويتّفقوا معه مباشرةً على استثمار أيِّ مبلغٍ تتوفّر القرائن على إمكان استثماره بشكلٍ ناجح، وهذه الوساطة التي يمارسها البنك تعتبر خدمةً محترمةً يقدّمها البنك لرجال الأعمال، ومن حقّه أن يطلب مكافأةً عليها على أساس الجُعالة.

والجُعالة التي يتقاضاها البنك كمكافأةٍ على عمله ووساطته تتمثّل في أمرين:

الأوّل : أجرٌ ثابت على العمل يمكن أن يفرض مساوياً لمقدار التفاوت بين سعر الفائدة التي يعطيها البنك الربوي وسعر الفائدة التي يتقاضاها، مطروحاً منها زيادة حصّة المودِع من الربح على سعر فائدة الوديعة.

وهذا المقدار بقطع النظر عن الطرح منه هو الذي يمثّل الإيراد الإجمالي الربوي للبنوك، فإنّ إيرادها الربوي يتمثّل في الفارق بين الفائدة التي تدفعها للمودِع والفائدة التي تتقاضاها لدى تسليف الودائع.

غير أنّ اللاربوي الذي نبحث عن صيغته الإسلامية لا يكفي أن يحصل على هذا القدر ؛ لأنّ هذا البنك يختلف عن البنوك الربوية في نقطةٍ جوهرية، هي أنّ ضمان رأس المال المتكوّن من الودائع يقع على عهدته هو، بينما لا تتحمّل البنوك الربوية شيئاً من الخسارة في نهاية الشوط، وإنّما الذي يتحملها رجل الأعمال المقترِض من البنك، ولهذا يجب أن يزيد الجُعل الذي يتقاضاه البنك لقاء عمله على المقدار الذي يحصل عليه البنك الربوي من التفاوت بين سعر الفائدتين، كما سنرى.

الثاني (أي العنصر الثاني من الجُعالة المفروضة للبنك): أن يكون للبنك

٥٣

زائداً على ذلك الأجر الثابت جُعالة مرنة على العامل المستثمر(١) تتمثّل في إعطاء البنك الحقّ في نسبةٍ معيَّنةٍ من حصّةٍ لعاملٍ في الربح، ويمكن أن تقدَّر هذه النسبة بطريقةٍ تقريبيةٍ تجعلها مساويةً للفرق الذي ينعكس في السوقين: النقدي الربوي والتجاري بين أجرة رأس المال المضمون، وأجرة رأس المال المخاطر به، فإنّ رأس المال المضمون تتمثّل أجرته في الأسواق الربوية في مقدار الفائدة التي يتقاضاها البنك الربوي من مؤسّسات الأعمال التي تقترض منه، ورأس المال المخاطر به تتمثّل أجرته في الأسواق التجارية في النسبة المئوية التي تعطى عادةً لرأس المال إذا اتّفق صاحبه مع عاملٍ يستثمِره على أساس المضاربة، وفي العادة تكون النسبة المئوية التي تعطى لرأس المال في حالة المخاطرة بدرجةٍ يتوقّع لها أن تكون أكبر من الفائدة التي يتقاضاها رأس المال المضمون عن طريق القرض.

وهذا الفارق بين الأجرتين يُجعل للبنك كجُعالةٍ على عمله ووساطته.

وهذان الأمران اللذان يتكوّن منهما الجُعل الذي يتقاضاه البنك من المستثمِرين لقاء عمله ووساطته يمكن توضحهما بدرجةٍ أكبر ؛ وذلك بالبيان الآتي:

إنّ في الأسواق التي تتاجر برأس المال حدّاً أدنى لأجر رأس المال

____________________

(١) أو على المالك المضارِب بتعبيرٍ فقهي أصحّ ؛ لأنّ المالك المضارب (المودِع) هو المالك في الأصل للربح كلّه فيمكن للبنك أن يلزمه بشرطِ شرعي، مثلاً: بأن يتنازل عن نسبةٍ معيّنةٍ من أرباحه عند ظهورها، وعدم كون مقدار النسبة محدّداً لا يضرّ بصحة الشرط. وكما يمكن هذا، يمكن أيضاً من الناحية النظرية فقهياً أن يفرض كون حصّة العامل من الربح مشتملةً على تلك النسبة التي يتوقّعها البنك، ويلزم البنك حينئذٍ العامل بملزمٍ شرعيّ بالتنازل عن تلك النسبة من حصّته عند ظهور الأرباح. ولأجل التوسّع في تحقيق ذلك من الناحية الفقهية راجع الملحق رقم (٣) في آخر الكتاب.(المؤلّف قدس‌سره ).

٥٤

المضمون قيمةً ودخلاً، وهذا الحدّ الأدنى هو ما يدفعه البنك الربوي من فوائد للمودِعين الذين يضمنون بإيداعهم لنقودهم فيه قيمة المال ودخلاً ثابتاً باسم الفائدة. وهناك حدّ أعلى لأجر رأس المال المضمون قيمةً ودخلاً، وهو ما يدفعه رجال الأعمال من فوائد إلى البنك الذي يسلفهم ما يحتاجون إليه من نقودٍ مضمونةٍ عليهم قيمةً ودخلاً.

وهناك قسم ثالث : وهو رأس المال الذي يضمن قيمةً لا دخلاً، ومثاله الودائع في البنك اللاربوي من وجهة نظر المودِعين، فإنّه رأس مالٍ مضمون لهم قيمةً ؛ نظراً إلى تعهّد البنك بتدارك الخسارة متى وقعت، ولكنّه غير مضمون الدخل ؛ لأنّ دخل المودِع مرتبط بربح المشاريع التي أنشأها البنك على أساس المضاربة، وقد لا تربح تلك المشاريع، أو لا تحقّق الحدّ الأدنى المفروض من الربح وهو ما يساوي سعر الفائدة.

وأجرة رأس مالٍ من هذا القبيل تتمثّل في نسبةٍ مئويةٍ من الربح يقدر أن تعبّر عن مقدارٍ أكبر من الحدّ الأدنى لأجر رأس المال المضمون قيمةً ودخلاً بمقدار حاصل قسمةِ نسبةِ الفائدة على درجة احتمال عدم الربح.

وهناك قسم رابع : وهو رأس المال الذي يخاطر به قيمةً ودخلاً، كما إذا دفع شخص نقوداً إلى آخر ليتّجر بها على أساس المضاربة بمفهومها الإسلامي دون أن يضمن له أحد نقوده، فهو هنا مخاطر بقيمة النقود ؛ إذ قد يخسر، ومخاطر بالدخل: إذ قد لا يربح. ومكافأة رأس المال هذا الذي يتحمّل المخاطرة بالقيمة والدخل معاً يجب أن تكون أكبر من مكافأة رؤوس الأموال السابقة، أي نسبة مئوية من الربح يقدّر أن تكون أكبر من أجور رؤوس الأموال المضمونة.

ونحن هنا حين نقترض أجر رأس المال المضمون لا نتحدّث عن النظرية الإسلامية في الأجور التي لا ترى لرأس المال النقدي أجراً يستحقّه الدائن على

٥٥

المَدين، وإنّما نتحدّث عن أجور رأس المال في الأسواق النقدية الربوية ؛ لأنّ هذه الأسواق سوف تفرض أجورها في الوسط التجاري ويضطرّ البنك اللاربوي إلى أخذها بعين الاعتبار في تقدير الدخول اللاربوية التي يخطّط لها.

وعلى هذا الأساس إذا درسنا الوديعة التي يتسلّمها البنك اللاربوي في ضوء تلك الأجور وجدنا أنّها من وجهة نظر العامل المستثمِر الذي يحاول الحصول عليها عن طريق البنك اللاربوي رأس مالٍ مخاطر به قيمةً ودخلاً ؛ لأنّ المستثمِر ليس ضامناً لقيمة رأس المال، ولا لدخل معيَّنٍ في حالة عدم الربح. هذا إذا استثنينا الأجر الثابت الذي يتقاضاه البنك على أي حال ؛ إذ إنّ المخاطر بقيمة رأس المال هو البنك الذي ضمن رأس المال للمودِع، والمخاطر بالدخل هو المودِع نفسه الذي كان بإمكانه أن يحصل على دخلٍ ثابتٍ عن طريق البنوك الربوية، فآثر المخاطرة بالدخل بإقامة دخله على أساس الشركة في الربح، فيجب أن يكلّف العامل المستثمِر بدفع مكافأةٍ تتناسب مع رأس المال المخاطر به قيمةً ودخلاً ناقصاً سعر المخاطرة بالجزء الذي يتقاضاه البنك من تلك المكافأة كأجرٍ ثابت.

وهذه المكافأة يستثنى منها مقدار الحدّ الأدنى لأجرة رأس المال المضمون قيمةً ودخلاً زائداً قيمة المخاطرة بالدخل فيعطى للمودِع، والباقي يكون من حقّ البنك اللاربوي.

وجميع المكافأة التي يكلَّف رجل الأعمال المستثمِر بدفعها وتوزّع بعد ذلك بين المودِع والبنك، تقتطع من الربح وترتبط به، فحيث لا ربح لا يكلَّف رجل الأعمال بشيءٍ منها سوى الأجر الثابت الذي يتقاضاه البنك اللاربوي كجُعَالة على عمله، وهو محدّد تقريباً بمقدار الفرق بين سعر الفائدة التي يدفعها البنك الربوي قيمة المخاطرة بالدخل وبين سعر الفائدة التي تتقاضاها البنوك الربوية.

وهذا الأجر الثابت الذي يدفعه المستثمِر إلى البنك يُحسَب له حسابه منذ

٥٦

البدء عند تحديد النسبة من الربح التي سوف تقتطع من العامل المستثمِر وتوزّع بين المودِع والبنك، فإنّ هذه النسبة يجب أن لا تمتصّ كلّ المكافأة التي يحظى بها عادةً رأس المال المخاطَر به قيمة ً ودخلاً في الأسواق التجارية ؛ لأنّها لو امتصّت كلّ تلك المكافأة ولنفرضها (٧٠%)، فمعنى هذا أنّ رجل الأعمال المستثمِر سوف يكلَّف بأكثر من أجرة رأس المال المخاطَر به قيمةً ودخلاً ؛ لأنّه سوف يدفع تلك النسبة كاملةً زائداً الأجرَ الثابت، فلا بد إذن أن يُحسَب للأجر الثابت حسابه لدى تقدير النسبة المقتطعة من ربح مضاربة العامل المستثمِر منذ البدء، فتخفض هذه النسبة بدرجةٍ يقدّر أنّها لا تقلّ عن مقدار الأجر الثابت.

ويجب أن يكون واضحاً أنّ الجُعالة المرنة التي من حقّ البنك اللاربوي الحصول عليها زائداً على الأجر الثابت لقاءَ مخاطرته بضمان رأس المال لا يلزم أن تتجسّد في نسبةٍ محدّدةٍ بشكلٍ واحدٍ في كلّ المشاريع التي تنشئها مضاربات البنك اللاربوي، بل يمكن للبنك في كلّ مضاربةٍ أن يتّفق مع العامل المستثمِر على النسبة التي تحدّدها طبيعة تلك المضاربة ودرجة المخاطرة المتمثّلة فيها ؛ لأنّ المخاطرة تختلف من قطاعٍ اقتصاديّ لآخر، ومن مؤسّسةٍ لأخرى.

وعلى هذا الأساس، فالبنك اللاربوي يقوم بتقسيم الأرباح التي تظهر في كلّ مضاربةٍ وفقاً للاتّفاق الذي توصّل إليه مع العامل في عقد المضاربة، والذي قد يختلف من مضاربةٍ إلى أخرى، فيقتطع من الأرباح ما زاد على الحصّة المقرّرة للعامل في المضاربة الخاصّة التي قامت بينهما، وهذا المقتطع من أرباح مختلف المضاربات هو المجموع الكلّي للربح الذي يجب أن يوزّع بين البنك والمودِعين وفقاً للطريقة التي سوف نعرضها بعد قليلٍ لكيفية توزيع الأرباح.

مضاربة البنك برأس المال الأصلي أو بالودائع المتحركة:

يمكن للبنك أن يُدخِل إلى مجال الاستثمار على أساس المضاربة الأموال

٥٧

التي تعتبر ملكاً خاصّاً به إلى جانب الودائع الثابتة التي يعتبر البنك وكيلاً عليها من قبل مودِعيها. وهذه الأموال التي يملكها البنك ويمكنه أن يستثمرها على أساس المضاربة هي:

أولاً: الجزء الذي يخصّصه للاستثمار عن طريق المضاربة من رأس ماله الأصلي.

وثانياً: الجزء الذي يقدّر البنك بخبرته الخاصة إمكانية سحبه من الودائع المتحرّكة وإدخاله مجال الاستثمار، فإنّ الودائع المتحرّكة يتقبّلها البنك بوصفها قروضاً كما سيأتي، وهي على هذا الأساس تعتبر ملكاً للبنك، ويمكن للبنك أن يحدّد القدر الضروري لتوفير السيولة النقدية اللازمة لحركة الحسابات الجارية وتسهيلاتها، ويستعمل من الفائض عن ذلك في مجال الاستثمار.

وفي حالة استثمار البنك لأمواله الخاصّة من هذين النوعين يصبح هو المضارِب بوصفه المالك لرأس المال، ويتمثّل حقّه حينئذٍ في حصّةٍ من الربح تساوي الحدَّ الأعلى لأجرة رأس المال المضمون + قيمة المخاطرة برأس المال. ولا يتقاضى البنك أجراً ثابتاً على إنشاء عقدِ المضاربة على مالِه.

والبنك ملزم أمام المودِعين للودائع الثابتة بأن يوظّف ودائعهم ويعطيها الأولوية في الاستثمار على أمواله الخاصّة، فلا يحقّ له أن يستثمر أمواله الخاصّة من رأس مالٍ وودائع متحرّكةٍ إلاّ إذا لم تسدّ الودائع الثابتة حاجة المضاربة.

حقوق العامل المستثمِر:

والعضو الثالث في عقد المضاربة يتمثّل في المستثمر الذي يقوم بدور العامل في هذا العقد، ويتّفق البنك معه بوصفه وكيلاً عن المودِعين على شروط العقد.

٥٨

والعامل المستثمِر على أساس المضاربة يعتبر هو صاحب الحقّ المطلق في الربح بعد اقتطاع حقوق البنك والمودِع، كما يعتبر المقترض الذي يتعامل مع البنك الربوي هو صاحب الحقّ المطلق في الربح بعد اقتطاع الفائدة التي يتقاضاها البنك الربوي منه، فالدافع لرجل الأعمال المقترِض إلى الاتّفاق مع البنك اللاربوي على أساس المضاربة هو الدافع له إلى الاتفاق مع البنك الربوي على أساس التسليف والاقتراض، وهو الحصول على الربح.

وإذا قارنّا بين الحقوق التي يجب أن يؤدّيها عميل البنك اللاربوي والحقوق التي يجب أن يؤدّيها عميل البنك الربوي نجد أنّ الفائدة التي يدفعها المستثمِر المقترِض إلى البنك الربوي تساوي مجموع ما يدفعه العامل المضارِب إلى البنك اللاربوي من أجرٍ ثابتٍ ونسبةٍ مئويةٍ من الربح للمودِع.

ولكنّ البنك اللاربوي له زيادةً على ذلك حصّة من الربح الذي يحقّقه عامل المضاربة تساوي مقدار التفاوت بين أجرة رأس المال المضمون وأجرة رأس المال المخاطَر بقيمته، كما تقدّم. وعميل البنك اللاربوي يدفع هذه الزيادة في مقابل ما وفّره له البنك من ضمانٍ لرأس المال وتحمّلٍ لتبعات الخسارة، وهذا يعني أنّ البنك سيضيف إلى مجموع الودائع الأصيلة الثابتة كلّ نقصٍ يحدث في رؤوس الأموال المضارَب بها من هذا الجانب.

خطر تلاعب المستثمرين:

وفي ضوء النظام السابق يتّضح أنّ دخل المودِع والجزء الأكبر من دخل البنك يرتبط بربح المشروع، كما أنّ واقع سير المشروع هو الذي يحدّد أثر الضمان الذي يلتزم البنك بموجبه للمودِع بقيمة الوديعة، فأيّ خسارةٍ في رأس مال المشروع تُكلّف البنك أن يتحمّل أعباءها أمام المودع. وهذا يعني أنّ نتائج

٥٩

المشروع وربحه وخسارته ذات أثرً خطيرٍ على وضع البنك ووضع المودعين، ولهذا يحرص البنك دائماً على أن لا يُنشئ مضاربةً إلاّ بعد أن يعرف نوع العملية التي يستثمر بها المال، ويدرس جميع ظروفها، واحتمالات ربحها، ونجاحها وكمّية الربح المقدّر، كما أنّه يحرص على أن لا يتّفق مع شخصٍ على المضاربة إلاّ بعد التأكّد من خبرته وقدرته على العمل التجاري الذي يريد ممارسته.

ولكنّ هذا كلّه لا يمنع المستثمِر من التلاعب وإخفاء الربح، أو ادّعاء الخسارة لكي يلقي التبعة على البنك ويتهرّب من دفع حقوق الوساطة وحقوق المضارِب (المودِع).

والضمانات التي يتّخذها البنك ضدّ هذا التلاعب يمكن تلخيصها في ما يلي:

أولاً : التأكّد مسبقاً من أمانة العامل المستثمر، كما مرّ في شروط التوكّل بالنسبة إلى المستثمر. ويمكن للبنك إنشاء شعبةٍ خاصّةٍ تعنى بذلك، وبجمع المعلومات والحقائق بهذا الصدد.

ثانياً : أنّ البنك يملك - كما مرّ بنا في تلك الشروط أيضاً - فكرةً كاملةً عن حدود العمل الذي سوف يمارسه المستثمِر ونوع الصفقة التي ضاربه على أساسها، ومعرفة البنك بذلك تتيح له أن يدرس ظروف المشروع واحتمالات الربح والنجاح، الأمر الذي يساعده على اكتشاف حقيقة سير المشروع وكشف التلاعب إذا حاول العامل المستثمر شيئاً من ذلك.

ثالثاً : أنّ البنك يلزم المستثمر - كما تقدّم - بتزويده بكافّة المعلومات عن الأسعار وتقلّبها، وكذلك يلزم المستثمر بإخباره بأسعار البيع التي تقلّ عن سعر الشراء، أو لا تحقّق ربحاً معقولاً قياسياً بأسعار السوق السائدة، ويدعم كلّ ذلك بمبرّراته للبيع بهذه الأسعار.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273