شخصيات ومواقف

شخصيات ومواقف0%

شخصيات ومواقف مؤلف:
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 244

  • البداية
  • السابق
  • 244 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 40363 / تحميل: 7046
الحجم الحجم الحجم
شخصيات ومواقف

شخصيات ومواقف

مؤلف:
العربية

عودة:

والآن.. نعود إلى مروان بن الحكم - مَرَّةً أُخرى - ونسائلُه عن طلبه مِن معاوية الثاني أنْ يجعل الخلافة على نهج السُّنَّة العُمريَّة، أو عن توبيخه لماذا لم يجعلها سُنَّة عُمريَّة؟ أو عن حَثِّه - إنْ كان هناك فُسحة مِن الوقت والحال - أنْ يجعلها سُنَّة عُمريَّة.. ماذا يقصد مروان بالسُّنَّة العُمريَّة؟

ولَنِعْمَ ما أجابه معاوية الثاني: أُغدُ عنِّي، أعن ديني تخدعني؟!(١) وقد قيل له - كما يُروى: اعْهَدْ إلى مَن أحببتَ، فإنَّا له سامعون مُطيعون. فقال: أتزوَّد مرارتَها وأتركها لبني أُميَّة حلاوتَها؟!.

فقال له مروان بن الحكم: سُنَّها فينا عُمريَّة! قال (معاوية الثاني): ما كنت أتقلَّدُكم حيَّاً وميِّتاً..(٢) .

فتبرَّأ مِن الوضع الفاسد الظالم، الذي كان عليه آل أبي سفيان، وتنزَّه عن أنْ يُدخل نفسه في أمرٍ يُسأل عنه غداً، ويتحمَّل مسؤوليَّتَه أمام الله تعالى وأمامَ الناس.

قال ما قال، ثمَّ عمِل بما قال.. فقد ذهب إلى بيته ولم يخرج، وسدَّ الباب في وجه مَن يُريد أنْ يُعاتبه أو يُقنعه بالعودة إلى الخلافة، ولم يخرج مِن منزله ذلك حتَّى أُخرج ميِّتاً.

____________________

١ - حياة الحيوان ١: ٨٨.

٢ - كما جاء في تاريخ اليعقوبي ٢: ٢٥٤.

٢٠١

* قال ابن حجر: ولم يخرج (معاوية الثاني) إلى الناس، ولا صلَّى بهم، ولا أدخل نفسَه في شيءٍ مِن الأُمور..(١) . بعدها قال: ثمَّ تغيَّب في منزله حتَّى مات بعد أربعين يوماً - كما مرَّ - فرحمه الله..(٢) .

وفاته:

اتَّفقت أكثرُ المصادر على أنَّ (معاوية الثاني) مات بعد خلع الخلافة ودخوله منزله بأربعين يوماً، أو أربعين ليلة. هذا ما أكَّده ابن حجر، فقال: ثمَّ تغيَّب في منزله حتَّى مات بعد أربعين يوماً (ـ كما أسلفنا قبل قليل).

* يذكر البلاذريّ أكثر مِن رأي، فيقول: حُدِّثتُ عن ابن الكلبيّ أنَّه قال: وليَ أبو ليلى معاوية بن يزيد أربعين يوماً، وتُوفِّي وهو ابن ثلاث وعشرين سنة وثمانية عشر يوماً. وقبلها قال البلاذريّ: وكان موته سنة أربعٍ وستِّين وهو ابن تسع عشرة سنة. ويُقال: ابن عشرين. ويُقال: ابن ثماني عشرة سنة. ويُقال: ابن إحدى وعشرين سنة، ودُفِن بدمشق(٣) .

الدميريّ هو الآخر ينقل أكثر من رأي في هذا الأمر، فيقول:

____________________

١ - الصواعق المُحرقة: ١٣٤.

٢ - الصواعق المُحرقة: ١٣٤.

٣ - أنساب الأشراف ٥: ٣٨٠ (طبعة دار الفكر - بيروت).

٢٠٢

وتُوفِّي معاوية بن يزيد (رحمه الله) بعد خلعه نفسَه بأربعين ليلة، وقيل: بسبعين. وكان عمره ثلاثاً وعشرين سنة. وقيل: إحدى وعشرين سنة. وقيل: ثماني عشرة.. ولم يُعقِّب(١) .

فيما رأى الشيخ المُفيد أنَّ عمره يوم وفاته كان إحدى وعشرين سنة(٢) ، ويرى اليعقوبيُّ غيرَ ذلك، فيقول: وتُوفِّي وهو ابن ثلاث وعشرين سنة(٣) .. ثمَّ يقول: ودُفِن بدمشق، وكان بها ينزل(٤) .

بينما رأى المُحدِّث القُمِّيّ أنَّ (معاوية الثاني) قد ودَّع الدنيا وعمره اثنتان وعشرون سنة(٥) .

إذاً.. لا يتعدَّى عمرُه أنْ يكون ما بين الثمانية عشر عاماً والثالثة والعشرين عاماً، وهو عمر - كما نعلم - قصيرٌ جدَّاً، يُشَكُّ أنَّه لم ينتهِ بالقتل. لا سِيَّما وأنَّ معاوية الثاني كان مُعارضاً - بشدِّةٍ - للبيت الأُمويّ وهو منه، وكان جريئاً - كما بيَّنا، فهو لا يخشى أنْ يذكر مثالبَ ومخازي هذه الأُسرة الحاكمة بشكل دقيق، لا سِيَّما ما كان في سيرة جَدِّه معاوية وأبيه يزيد بن معاوية.

____________________

١ - حياة الحيوان ١: ٨٩. ولم يُعقِّب: أيْ لم يكن له نسل وذريَّة.

٢ - الاختصاص: ١٣١.. قال: هلك معاوية بن يزيد وهو ابن إحدى وعشرين سنة، وولي الأمر أربعين ليلة.

٣ - تاريخ اليعقوبي ٢: ٢٥٤.

٤ - تاريخ اليعقوبيّ ٢: ٢٥٤.

٥ - تتمَّة مُنتهى الآمال: ٤٨.

٢٠٣

فهو رجلٌ مُعارض.. فإذا كان قد ختم الأمر بأنْ خلع نفسه وانزوى في داره، وربَّما في غرفته، حيث لا يرغب في مُعاشرة أُسرته كما لا ترغب هي في مُعاشرته، فإنَّ فضيحة آل أبي سفيان لم تنتهِ بعد. فقد شرخ فيها (معاوية الثاني) شرخاً كبيراً بعد أنْ كشف عن جرائمها، ومنها سرقتها للخلافة وليست هي بجديرةٍ بها.

ثمَّ إنَّ القلوب لا تزال عليه ناقمة حاقدة، ولا يُشفي غليلَها إلاَّ الانتقام. وما الضمان إذا كبُر (معاوية الثاني) قليلاً، وتهيَّأت بعضُ الفرص أنْ يُشارَ إليه فيُحتجَّ به أنَّه رمز المُعارضة للبيت الأُموي، وقد يكون ذريعةً للبعض أنْ ينتفض باسمه ويجعله شعاراً يضرب به آل أُميَّة مِن داخلهم.

ثمَّ أين نحن مِن مروان بن الحَكَم ومكائده، وهو الماكر الذي لا تُرى أفعاله حتَّى لُقِّب بـ (خيط الباطل)؟! أفلا يُظَنُّ أنَّه قد مَدَّ إليه أصابع الخنق أو أظفار السمِّ، فقضى عليه؟! وإلاَّ.. فشابٌّ في العشرين مِن عمره، يموت ولا يُعلم سببٌ لموته، وهو الماكث في بيت قد كشف القناعَ عن وجهه الإجراميِّ الآثم، كيف يُترك ويُخلَّى عنه؟!

ولهذا وذاك.. يرى البعض أنَّ معاوية الثاني قد اغتيل وقُتِل سِرَّاً داخل منزله، ثمَّ دُفن وقُبِر ذِكْرُه. هكذا أراد له أهلُه وذووه - كما يُظنُّ -.. لا سِيَّما وأنَّ بعض المصادر تذكر أنَّ (معاوية الثاني) قد مات مسموماً.

٢٠٤

منها: كتاب (مروج الذهب)(١) ، في الجزء الثالث، على الصفحة ٨٢ ما نصُّه: وقد تُنوزع في سبب وفاته، فمنهم مَن رأى أنَّه سُقي شربة، ومنهم مَن رأى أنَّه مات حتف أنفه، ومنهم مَن رأى أنَّه طُعِن، وقُبض وهو ابن اثنتين وعشرين سنة، ودُفِن بدمشق، وصلَّى عليه الوليد بن عُتْبة بن أبي سفيان؛ ليكون الأمر له مِن بعده، فلمَّا كبَّر الثانية طُعِن فسقط ميِّتاً قبل تمام الصلاة..

ومنها: كتاب (مجالس المؤمنين)(٢) ، في الجزء الثاني، على الصفحة ٢٥٢، ما ترجمته: (وأخيراً قتلوه بالسمّ...

ومنها: كتاب (مُنتهى الآمال)(٣) ، التتمَّة / على الصفحة ٤٩، ما ترجمته: (وقال البعض: إنَّه سمّوه بشربةِ زهر، بعد ذلك أراد (الوليد بن عتبة بن أبي سفيان) أنْ يُصلِّيَ على جنازته - وكان الوليد هذا طامعاً بالخلافة - فلمَّا كان في التكبيرة الثانية طُعن فأُلحق بمعاوية، فصلَّى عليه غيره، ودُفِن بدمشق.. وبدفنه انقرضت سلطة أل أبي سفيان، وانتقلت إلى آل مروان.

وليس غريباً على بني أُميَّة أنْ يقتلوا ولدَهم (معاوية الثاني) وهُمْ

____________________

١ - للمسعوديّ أبي الحسن عليّ بن الحسين.

٢ - للقاضي الشهيد السيِّد نور الله التستريّ (رحمه الله).

٣ - للمُحدَّث الشيخ عبّاس القُمِّيّ (رحمه الله).

٢٠٥

يَرون أنَّه خانهم وفضحهم، وقضى على مُلكهم(١) . وكان مِن انفعالهم أنْ عمدوا إلى مؤدِّبه فقتلوه.

* يقول الّدَميريّ:.. ثمَّ إنَّ بني أُميَّة قالوا لمؤدِّبه (عمر المقصوص): أنت علَّمته هذا ولقَّنتَه إيَّاه، وصددتَه عن الخلافة، وزيَّنتَ له حُبَّ عليٍّ وأولاده، وحملتَه على ما وسمَنا به مِن الظلم، وحسَّنتَ له البِدعَ حتَّى نطق بما نطق، وقال ما قال؟!! فقال: واللهِ، ما فعلتُه.. ولكنَّه مجبول ومطبوعٌ على حُبِّ عليٍّ. فلم يقبلوا منه ذلك، وأخذوه ودفنوه حيَّاً حتَّى مات(٢) . ولا يخفى أنَّ للتربية أثرَها البالغ.

ورُويَ بما يقرب مِن ذلك:.. وكان له مودِّبٌ يميل إلى عليٍّ، فظنَّ به آلُ أبي سفيان أنَّه دعاه إلى هذه الخُطبة، فأخذوه بعد موته (أيْ بعد موت معاوية الثاني) فدفنوه حيَّاً(٣) .

كما رُوي أنَّه بعد خلع معاوية بن يزيد نفسَه مِن الخلافة.. جاء جماعة مِن بني أُميَّة إلى (عمر بن المقصوص)(٤) مؤدِّبِه، فقالوا له: أنت الذي علَّمتَه حُبَّ عليٍّ وبُغض أُميَّة؟! فقال: ليس هكذا، لكنَّه

____________________

١ - وإنْ كنَّا نحتمل أنَّ مروان هو الذي دبَّر قتله، لا سِيَّما وقد لاحت له الخلافة، ولم يبقَ أحد يُزاحمه عليها، فوثب ومكر.

٢ - حياة الحيوان ١: ٨٩.

٣ - أدب الطفِّ ٣: ١٣ - ١٤.

٤ - وفي نسخة أُخرى: عمر القوصيّ.

٢٠٦

جُبل على ذلك. فلم يسمعوا قوله، فأخذوه ودفنوه حيَّاً(١) .

مَن كان وراء ذلك؟

يرى البعض أنَّ هداية (معاوية الثاني) واستبصاره كان على يد مؤدِّبه ومُعلِّمه (عمر المقصوص)، الذي يُظَنُّ أنَّه كان شيعيَّاً موالياً للإمام عليٍّ أمير المؤمنين (عليه السلام)(٢) . فقد أنفذ الولاءَ والولاية إلى قلب (معاوية الثاني)، وبيَّن له فضائل أهل البيت (عليهم السلام)، ومثالب أعدائهم من آل بني أُميَّة وغيرهم.

على أنَّ ابن فهد الحِلِّيّ رأى أنَّ الذي كان وراء خلع (معاوية الثاني) نفسَه هو ما طرق سمعه مِن حديث جرى بين جَوارٍ له في قصره.. يقول (رضي الله عنه): وقيل: إنَّ السبب المُوجِبَ لنزول معاوية بن يزيد بن معاوية عن الخلافة أنَّه سمع جاريتينِ له تتباحثان، وكانت إحداهما بارعة الجمال، فقالت الأُخرى لها: قد أكسبكِ جمالُك كِبْرَ الملوك. فقالت الحسناء: وأيُّ مُلْكٍ يُضاهي مُلْكَ الحُسْن؟! وهو قاضٍ على الملوك فهو الملْكُ حَقَّاً. فقالت لها الأُخرى: وأيُّ خيرٍ في المُلك.. وصاحبُه إمَّا قائمٌ بحقوقه، وعامل بشكرٍ فيه، فذاك مسلوب اللَّذَّة والقرار، مُنغَّص العيش. وإمَّا مُنقاد لشهواته، ومُؤْثِرٌ

____________________

(١) - كما يرى الشهيد السيِّد نور الله القاضي التستريّ، حيث يعدُّه مِن علماء الشيعة، يُراجع كتابه (مجالس المؤمنين ٢: ٢٥٢).

(٢) - عُدَّة الداعي ونجاح الساعي، لابن فهد الحلِّيّ: ١٢٤ - ١٢٥.

٢٠٧

لِلذَّاته، مُضيِّع للحقوق ومُضرِب عن الشكر، فمصيره إلى النار.

فوقعت الكلمة في نفس معاوية موقعاً مؤثِّراً، وحملته على الانخلاع مِن الأمر، فقال له أهله: اعهدْ إلى أحدٍ يقوم بها مكانك، فقال: كيف أتجرَّع مرارة فقْدِها، وأتقلَّد تبِعةَ عهدها؟! ولو كنتُ مُؤْثراً أحداً لآثرتُ بها نفسي. ثمَّ انصرف وأغلق بابه ولم يأذن لأحدٍ، فلبث بعد ذلك خمساً وعشرين ليلةً ثمَّ قُبِض.

ورُوي أنَّ أُمَّه قالت له - عندما سمعت منه ذلك -: ليتك كنتَ حِيضة! فقال: ليتني كنتُ كما تقولين، ولا أعلم أنَّ للناس جنَّةً ولا ناراً(١) .

وأنْ كنَّا نرى أنَّ هذا هذا كان هو العاملَ الوحيد أو الأهمَّ في دفع (معاوية الثاني) إلى خلع نفسه عن الخلافة. ودليلُنا ما جاء في خُطبته مِن بيانٍ لأسباب ترك الأمر.. وقد تضمَّن الخشيةَ مِن الله تعالى، والورعَ في مُنازعة الإمامةِ أهلَها والتنزُّه عن استلام إمرةٍ ورثها عن الظالمين والمُفسدين، والإشارة إلى مَن هُمْ أَولى بالأمر مِن غيرهم، وهُمْ أهل البيت (عليهم السلام).

مع أنَّ هذا الحادث لا يتعارض مع سابقه مِن تأثير مُعلِّمه ومؤدِّبه (عمر المقصوص) في عقيدته، وإقناعه بأنَّ بني أُميَّة غاضبون للخلافة التي هي مِن حقِّ آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. كما لا تُعارض رواية ابن

____________________

١ - تتمَّة مُنتهى الآمال: ٤٩.

٢٠٨

فهد الحلِّيّ (رضي الله عنه) مع مَن يرى أنَّ فطرةَ (معاوية الثاني) كانت مُستعدَّة لتلقِّي العقيدةِ الحقَّة والآراء السليمة. فكانت روحه مُستعدَّة لمَحبَّة الإمام عليٍّ وأولاده (عليهم السلام)؛ لأنَّهم أهل لذلك، لأنَّهم أهلُ الفضائل والمكارم والمناقب لا يُنازَعون عليها.. كما كانت روحه مُبغضةً لآل أبي سفيان - وإنْ كانوا أجدادَه وأهلَه وذويه وبني رحِمه -؛ لأنَّهم أهلُ الرذائل والمثالب والمآثم والمخازي.

فجِبلَّتُه كانت لا تُحبُّ الظلم وإنْ كان في أُسرته، بلْ كانت تُحبُّ العدل وإنْ كان في أعداء عائلته، كانت تُحبُّ الحقَّ وأهله.. كان مَن كانوا! وتُبغض الباطل وأهلَه.. كان مَن كانوا! وكانت فطرتُه تكره الظالمين إلى حدٍّ تنتفضُ عليهم وإنْ رأى أنَّهم سيقتلونه، وتُحبُّ المظلومين إلى حدٍّ تبوح بمدحهم وإنْ رأى أنَّه سيُقتل بسببهم.

وكأنَّ التقوى قد تمكَّنت مِن قلبه، فرأى هولَ ما عليه أنْ يكون خليفةَ رسول الله، ويُعزل عن الخلافة عليِّ بن الحسين.. ابنُ رسول الله. يتأمَّر على الناس وليس هو أعلَمهم ولا أتقاهم، وبين ظهرانيهم عالِمُ آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم. ومَن يا تُرى يستطيع أنْ ينهض بأعباء هذه المُهمَّة الثقيلة (الخلافة) إلاَّ أهلُها؟! ومَنِ اختارَهم اللهُ تعالى لها!(١) ،

____________________

١ - يُراجَع في الإمامة والإمام: أصول الكافي، للشيخ الكليني ١: ١٥٤ - باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته.

٢٠٩

وأنَّ الذي يُنازعهم عليها لظَلوم جَهول، فالله تعالى يقول - ولَنِعْمَ ما يقول:( إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ) (١) . تلك الأمانة هي الإمامة، أو هي الولاية.. مَن ادَّعاها بغير حقٍّ فقد كفر.

وكأنَّ (معاوية الثاني) هالَه أنْ يدَّعي الإمامة، وعظُم عليه أنْ يُنادى بأمير المؤمنين، وخليفة المسلمين. فأين هو مِن هذا؟! وما أهَّله لمثل هذا؟! وماذا سيُجيب ربَّه إذا سأله عن كلِّ هذا؟!

لذا نُقل عنه أنَّه عندما تذكَّر ما خلَّفه مِن الجرائم أبوه يزيد، وما أورثه مِن الخلافة المغصوبة مِن أهلها جدُّه معاوية.. بكى بكاءً شديداً وهو على المنبر، وبكى بكاءً حارَّاً بعد أنْ نزل عن المنبر، وبكى بكاءً مُرَّاً بعد أنْ دخل منزله. وحين قالت له أُمُّه: ليتكَ كنتَ حِيضةً ولم أسمع بخبرك! قال لها - بلهفة المُتمنِّي -: وددت - واللهِ - ذلك. ثمَّ قال: ويلي إنْ لم يرحمْني ربِّي!(٢) . وكان قد ذكَّر أُمَّه بالآخرة،.. فأرشدها، وبرَّر موقفه لها، فقال لها:أماعلمت أنَّلله تعال ناراً يُعذِّب بها مَن عصاه وأخذ غير حقِّه؟!(٣) . ويعني الخلافة. فالحياة ليست مُلكاً يُستأثر به وحسب، فهناك موت.. وهنالك بعث وقيامةٌ وحساب، وهنالك أشدُّ العقاب، وأمرُّ العذاب.

____________________

١ - الأحزاب: ٧٢.

٢ - حياة الحيوان ١: ٨٩.

٣ - أدب الطفِّ ٣: ١٣.

٢١٠

حسُن ظنّ:

وربَّما اطَّلع الله جلَّ وعلا على قلبه، فرأى فيه صدقاً في طلب الحقِّ، وهِمَّةً في إصابة الحقيقة.. فجلَّى له فطرتَه، ونقَّى له جِبلَّتَه، وهيَّأ له ما يُبصر به الحقَّ، ويُغلغله في أعماق قلبه.. وإنْ كان يعيش في وسط الضلال والفساد. حتَّى شبَّهه السيِّد الشهيد نور الله التُستريّ بمؤمن آل فرعون، وقال: بأنَّ معرفته بأحقِّيَّة أهل البيت بالخلافة كانت عن إلهام ربَّانيّ، وفطرةٍ سليمةِ المباني(١) . وكأنَّه يُريد أنْ يقول: إنّ (معاوية الثاني) كان مؤمن آل أبي سفيان.

ومِن هنا.. ترحَّم عليه كثيرٌ مِن علماء الخاصَّة والعامَّة، وذكروه بعبارات المدح والثناء والتجليل:

* فقال ابن حجر: مات (يزيد) سنة أربع وستِّين، لكنْ عن ولدٍ شابٍّ صالح... ومِن صلاحه الظاهر أنَّه لمَّا وُلِّي صعِد المنبرَ فقال: إنَّ هذه الخلافةَ حبلُ الله، وإنَّ جدِّي نازع الأمرَ أهلَه ومَن هو أحقُّ به منه.. عليَّ بن أبي طالب، وركب بكم ما تعملون، حتَّى أتته منيَّتُه فصار في قبره رهيناً بذنوبه. ثمَّ قَلَّد أبي الأمرَ وكان غيرَ أهلٍ له، ونازع ابن بنت رسول الله (صلَّى الله عليه [ وآله ] وسلَّم)، فقُصف عُمرُه، وانبتر عقبه، وصار في قبره رهيناً بذنوبه. (إلى آخر الخُطبة.. ثمَّ قال ابن حجر:) ثمَّ

____________________

١ - مجالس المؤمنين ٢: ٢٥٢.

٢١١

تغيَّب في منزله حتَّى مات بعد أربعين يوماً. فرحمه الله أنصفُ مِن أبيه، وعرف الحقَّ لأهله(١) .

* وذكره الخوارزميّ فوصفه بأنَّه كان بارَّاً فاضلاً(٢) .

* كما أثنى عليه اليعقوبيّ فقال: وكان له مذهب جميل(٣) .

* وعرَّفه به عماد الدين الحسن بن عليّ الطبرسيّ (مِن علماء القرن السابع الهجريّ)، فذكره في فصل خُلفاء بني أُميَّة، فقال:.. ثمَّ معاوية بن يزيد، وكان شيعيَّاً، أخذ التشيُّع مِن أديبه المُتشيِّع (أي عمر بن مقصوص)، واستُخلف أربعين يوماً وسَمُّوه فمات منه، وقُتل بعده أديبه، ودُفنا في حُفرةٍ واحدة، فصعد المنبر يوماً ولعن أباه وجدَّه وجدَّ جدِّه، وكانت أُمُّه حاضرة، قالت: يا ليتك كنت حيضة في خرقة! فسمع منها هذا الكلام، قال: وددت - يا أُمَّاه - أنِّي كنتُ كذلك!(٤) .

* وتعرَّض له الدميريّ بشيءٍ مِن التفصيل، فقال فيه: ثمَّ قام بالأمر بعده - أيْ بعد يزيد - ابنُه معاوية، وكان خيراً مِن أبيه، فيه دينٌ وعقل(٥) .

____________________

١ - الصواعق المُحرقة: ١٣٤.

٢ - يُراجع: أدب الطفِّ ٣: ١٣.

٣ - تاريخ اليعقوبيّ ٢: ٢٥٤.

٤ - أسرار الإمامة ٣٠٠. وانظر: حياة الحيوان١: ٨٨ - ٨٩، وتاريخ اليعقوبيّ ٢: ٢٥٤.

٥ - حياة الحيوان ١: ٨٨.

٢١٢

* ومدحه السيِّد نور الله القاضي التستريّ، فقال ما ترجمته: معاوية بن يزيد بن معاوية الأُمويّ.. المُلقَّب بـ (الراجع إلى الله)، بمُقتضى الكلام المُعجز، قوله تعالى:( ... يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ... ) (١) . وقد كان ذا سيرة حَسَنة وصاحبَ دين، وكان مُحبَّاً لآل سيِّد الأبرار صلى الله عليه وآله وسلم(٢) .

ولذلك.. يُظَنَّ أنَّه لا تشمله اللعناتُ المُنصبَّة على بني أُميَّة، ممَّا جاءت في صريح الأدعية والزيارات، والأخبار والروايات، إنْ كان (معاوية الثاني) قد تنازل عن الخلافة لعرفانه بأنَّه ليس أهلاً لها، وإنَّما الذين هُمْ أهلٌ لها مَن أوصى بهم النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم، وكان منهم في زمانه الإمام زينُ العابدين، عليّ بن الحسين (عليه السلام)، والذي تظافرت روايات العامَّة والخاصَّة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد ذكره بالاسم واللقب أنَّه وصيُّه بعد الإمام الحسين (عليه السلام)(٣) .

وإذا كان (معاوية الثاني) ناقماً على بني أُميَّة؛ لِما أَتوا به مِن ظلمٍ في حقِّ الرسول وآله (صلوات الله عليه وعليهم).. فهو ليس مِن بني أُميَّة، ولا ينتمي إلى آل أُميَّة؛ ذلكَ لأنَّ آلَ الرجل أتْباعُه، والفعل منه:

____________________

١ - الروم: ١٩.

٢ - مجالس المؤمنين ٢: ٢٥٢.

٣ - يُراجَع في ذلك على سبيل المثال: ينابيع المودَّة - الباب ٧٦ص ٤٤٠و ٤٤٣ طبع سنة ١٣٠٢ه، والباب ٩٣ص ٤٨٦. وفرائد السمطين، للحموينيّ. وكفاية الطالب، للكنجيّ الشافعيّ.

٢١٣

آلَ يَؤول أَوْلاً وماَلاً، أي رجع، وآلُ فلان مَن يؤولون إليه ويرجعون إليه أَولى فأَولى، بالهوى والاعتقاد والمُناصرة.

وقد جاء عن بعض أهل المعنى والمعرفة: إنَّ آل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كلُّ مَن يؤول إليه، وهُمْ قسمان:

الأوَّل: مَن يؤول إليه صلى الله عليه وآله وسلم ماَلاً صوريَّاً جسمانيَّاً، كأولاده صلى الله عليه وآله وسلم ومَن يحذو حذَوَهم مِن أقاربه الصوريِّين، الذين يحرم عليهمُ الصدقة في الشريعة المُحمديّة.

الثاني: مَن يؤول إليه صلى الله عليه وآله وسلم معنويَّاً روحانيَّاً، وهم أولاده الروحانيُّون مِن العلماء الراسخين، والأولياء الكاملين، والحكماء المُتألِّهين المُقتبسين مِن مشكاة أنواره.. ولا شكَّ أنَّ النسبة الثانية آكد مِن الأُولى، وإذا اجتمعت النسبتان كان نوراً على نور، كما في الأئمَّة المشهورين مِن العِترة الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين).

وكما حُرِّم على الأولاد الصوريِّين الصدقةُ الصوريَّة.. كذلك حُرِّم على الأولاد المعنويِّين الصدقةُ المعنويَّة، أعني تقليد الغير في العلوم والمعارف(١) .

فمعاوية الثاني.. إنْ لم يكن أمره قد آل إلى بني أُميَّة فهو ليس مِن بني أُميَّة، ولا تُصيبه اللعنات التي أصابتهم. جاء عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى:( ... أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ

____________________

١ - كتاب الأربعين، للشيخ البهائيّ: ١٦٥.

٢١٤

الْعَذَابِ ) (١) قال:(واللهِ ما عنى إلاَّ ابنتَه) (٢) .

ذلك أنَّ امرأة حزقيل (مؤمن آل فرعون) كانت ماشطة لبنت فرعون، فوقعت المشْطةُ يوماً مِن يدها فقالت: بسم الله، فقالت بنت فرعون: أبي؟! قالت: لا، بلْ ربِّي وربُّكِ وربُّ أبيكِ. فأخبرتْ فرعونَ فدعا بها وبوِلْدها وقال: مَن ربُّكِ؟ فقالت: إنَّ ربِّي وربَّك الله. فأمر بتنُّورٍ مِن نحاسٍ فأُحمي، فدعا بها وبوِلْدها... فأُلقيتْ في التنُّور مع وِلْدها(٣) .

ولم تكنِ امرأةُ فرعون مِن آل فرعون.. فقد كانت (آسية بنت مزاحم) مِن بني إسرائيل، وكانت مؤمنةً خالصة، وكانت تعبد اللهَ سرَّاً، إلى أنْ قتل فرعونُ امرأة حزقيل. فدخل عليها فرعون يُخبرها بما صنع، فقالت: الويل لك - يا فرعون -! ما أجرأك على الله جلّ وعلا! فقال لها: لعلَّكِ اعتراكِ الجنونُ الذي اعترى صاحبتَكِ؟! فقالت: ما اعتراني جنون.. بلْ آمنتْ باللهِ ربِّي وربِّكَ وربِّ العالمين... فأمر بها فرعونُ حتَّى مُدَّت بين أربعة أوتاد، ثمَّ لا زالت تُعذَّب حتَّى ماتت(٤) .

وإنَّما آلُ فرعون مَن آل إليه، يَدينُ بدينه ويُصدِّق ادِّعاءَه بالربوبيَّة. وآل أبي سفيان مَنْ آلُوا إليه، يُناصرونه على مُحاربة الإسلام، وقتل

____________________

١ - غافر: ٤٦.

٢ - معاني الأخبار، للشيخ الصدوق: ٩٤ح ٢.

٣ - قصص الأنبياء، للجزائريّ: ٢٦٠.

٤ - قصص الأنبياء، للجزائريّ: ٢٦٠ - ٢٦١.

٢١٥

رسول الله وأهل بيته (عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام)، فأولئك هُمُ المشمولون باللعنات.

* روي أنَّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لعنَ يوماً (آل فلان) فقيل: يا رسولَ الله، إنَّ فيهم فلاناً، وهو مؤمن. فقال:(إنَّ اللعنة لا تُصيب مؤمناً) (١) .

* وفي ذكر المواطن السبعة التي لعن فيها رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم أبا سفيان: يومَ جاء أبو سفيان بجمع مِن قريش، وجاء عُيينة بن حصن بن بدر بغطَفان، فلعنَ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم القادةَ والأتْباع والساقةَ إلى يوم القيامة. فقيل: يا رسولَ الله، أمَا في الأتْباع مؤمن؟! قال:(لا تُصيب اللعنةُ مؤمناً مِن الأتباع، أمَّا القادةُ فليس فيهم مؤمنٌ ولا مُجيبٌ ولا ناجٍ) (٢) .

فآلُ أُميَّة مَن آبُوا إليهم يُوافقونهم على الكفر والظلم، ويُعاضدون على الإثم والعدوان، لا مَن يُنكرون عليهم ذلك، ويُخالفونهم بالقول والعمل، ويُحبُّون أهلَ بيت النبيِّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

*عن أبي حمزة، قال: دخل سعد بن عبد الملك - وكان أبو جعفر (الباقر) (عليه السلام) يُسمِّيه (سعدَ الخير)، وهو من ولْدِ عبد العزيز بن مروان، على أبي جعفر (عليه السلام). فبينا ينشج كما تنشج النساء قال له أبو جعفر (عليه السلام):(ما يُبكيك يا سعد؟!) ، قال: وكيف لا أبكي وأنا مِن الشجرة

____________________

١ - المُحتضر، للشيخ حسن بن سليمان الحلِّيّ (مخطوطة).

٢ - الاحتجاج: ٢٧٤.

٢١٦

الملعونة في القرآن؟! فقال له:(لستَ منهم، أنت أُمويّ منَّا أهل البيت، أمَا سمعتَ قولَ الله عزَّ وجلَّ يحكي عن إبراهيم (عليه السلام): ( ... فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي... ) ) (١) .

فالانتساب.. إنَّما يكون بالاعتقاد والمُجاراة في الأفعال، أمَّا مَن كان نسبُه السُّلاليّ والعِرقيّ إلى فلان، وهو مُخالف له، فهو ليس منه ولا مِن آله، فالمرء يؤول إلى مَن يتَّبع عقيدةً وعملاً.

ويبدو أنَّ (معاوية الثاني) تخلَّى قلباً وعقلاً عن بني أُميَّة، وتبرَّأ منهم روحاً وعقيدةً وضميراً، وتجرَّد عن معائب أُسرته ومثالبها ومخازيها وجرائمها في حقِّ هذا الدين، وأئمَّته، وفي حقِّ المسلمين.

على النهج:

وهنا يحفظ له التاريخ موقفه ذاك، ويُكرمُه ويُكْبره على ما صدر منه، مِن إعلاءٍ لكلمةِ الحقِّ، ودحضٍ لكلمة الباطل. فأصبح يفتخر به مَن هو على هواه ونهجه، ومنهم الشاعر الأبيورديّ.

ومِنْ هو - يا تُرى - الشاعر الأبيورديّ؟!

هو المُظفّر محمّد بن أحمد بن محمّد بن أحمد، المُلقَّب

____________________

١ - الاختصاص، للشيخ المُفيد: ٨٥، والآية في سورة إبراهيم: ٣٦. ونشج الباكي نشيجاً: تردَّد البكاء في صدره مِن غير انتحاب.

٢١٧

بـ (الأُموي المُعاويّ) و (الأبيورديّ). قيل: ينتهي نسبه إلى (عثمان بن عنبسة بن أبي سفيان صخر بن حرب الأُمويّ).. وفيه يقول في قصيدة يرثي بها الحسين (عليه السلام):

وجَدِّي وهْو عنبسةُ بن صخرٍ بريءٌ مِن يزيدَ ومِن زيادِ(١)

لم تُعرف سنة مولده، لكنْ ذُكِر أنَّه مات بـ (إصبهان)، في العشرين مِن شهر ربيع الأوَّل، عام ٥٠٧ هـ.

و (الأبيورديّ) نسبةً إلى (أَبيورْد).. مدينة في خُراسان. قال ياقوت الحمويّ: كان الأبيورديّ إماماً في كلِّ فنٍّ مِن العلوم، عارفاً بالنحو واللُّغة والنَّسَب والأخبار، ويده باسطة في البلاغة والإنشاء، وله تصانيف في جميع ذلك، وشعره سائر مشهور(٢) .

كان (الأبيورديّ) نسَّابةً، وكان يكتب في نسبه (المُعاويّ)، يُنسَب إلى (معاوية الصغير) أو (معاوية الثاني) في عمود نسبه. أمَّا وفاته.. فكانت بأصبهان، قضى بها مسموماً.

قيل: جاء إلى بغداد، وتولَّى فيها الإشراف على خُزانة دار الكتب النظاميَّة، بعد القاضي أبي يوسف بن سليمان الإسفرائينيّ المُتوفَّى سنة ٤٩٨ هـ. وخاف أخيراً مِن سعي أعدائه عند الخليفة المُستظهر

____________________

١ - مُعجم الأُدباء، لياقوت الحمويّ ١٧: ٢٣٥.

٢ - يُراجَع: أعيان الشيعة، للسيِّد محسن الأمين العامليّ. والكُنى والألقاب، للشيخ عبّاس القُمِّيّ. وأدب الطفِّ ٣: ١٠ وما بعدها. ومُعجم الأُدباء ١٧: ٢٣٥ - ٢٤٤.

٢١٨

العبَّاسيّ المُتوفَّى سنة ٥١٢ هـ، لاتِّهامه بهجو الخليفة ومدح صاحب مصر.. ففرَّ إلى همدان، ثمَّ سكن إصفهان، حتَّى تُوفِّي فجأة أو مسموماًً سنة ٥٠٧ هـ.

وأخذ الأبيورديّ عن جماعة، وذكروا أنَّه كان مِن أخبر الناس بعلم الأنساب، مُتصرِّفاً في فنونٍ جمَّة مِن العلوم، وافرَ العقل.

له ديوان مطبوع مشهور، قسَّمه إلى: (العراقيَّات، والنجديَّات، والوجديَّات). وله تصانيفُ كثيرة، منها: كتاب (ما اختلف وائتلف في أنساب العرب)، و(تاريخ أبيورد ونسا)، و(قبسة العجلان في نسب آل أبي سفيان)، و(الطبقات في كلِّ فنٍّ)، و(تَعِلَّة المُشتاق إلى ساكني العراق)، و(المُجتبى مِن المُجتنى) في الرجال، و(نُهزة الحافظ)، و(الدُّرَّة الثمينة)، و(كوكب المُتأمِّل) يصف فيه الخيل، و(تَعِلَّة المقرور) يصف فيه البرد والنيران، و(صهلة القارح) يردُّ فيه على أبي العلاء المعرِّيّ.

كان فيه تيه وعزَّة نفس وعلوٌّ هِمَّة. ومِن شعره:

يا مَن يُساجلني وليس بمُدركٍ شأْوي وأين له جلالةُ منصبي

لا تَتعَبنَّ فدونَ ما أمَّلتَه خرطُ القَتادة وامتطاءُ الكوكبِ

المجدُ يعلم أيُّنا خيرٌ أباً فاسألْه تعلمْ أيَّ ذي حسَبٍ أبي

جَدِّي معاويةُ الأغرُّ سمَتْ به جرثومةٌ مِن طينِها بُغض النبي

وورثْتُه شرفاً رفعتُ منارَه فبنو أُميَّةَ يفخرون به وبي

٢١٩

قيل: إنَّه كان يفتخر بجدِّه (معاوية الأصغر)، ويرثي الإمام الحسين (عليه السلام) ويمدح أهل البيت (عليهم السلام).

ومِمَّن مدح أهل البيت (عليهم السلام) أيضاً: مروان بن محمّد السروجيّ. قال المرزبانيّ: هو مِن بني أُميَّة مِن أهل سروج بديار مُضر، كان شيعيَّاً.. وهو القائل:

يا بني هاشمِ بنِ عبد منافٍ إنَّني مَعْكُمُ بكلِّ مكانِ

أنتمُ صفوة الإلهِ ومنكم جعفرٌ ذو الجناحِ والطَيَرانِ

وعليٌّ وحمزةٌ أسدُ اللـ ـهِ وبنتُ النبيِّ والحسَنانِ

فلئن كنتُ مِن أُميَّةَ إنِّي لَبريءٌ منها إلى الرحمانِ(١)

وذكر هذه الأبيات القاضي صفيّ الدين أحمد بن صالح اليماني، في كتابه (مطالع البدور ومجمع البحور)، وقال: قال بعض الموالين للعترة الطاهرة، وهو مِن بني أُميَّة (الأبيات).

وقال أبو الفرج الإصبهانيّ: أبو عَدِيّ الأُمويّ شاعر بني أُميَّة.. وهو عبد الله بن عمرو بن عديّ بن ربيعة بن عبد العزَّى بن عبد شمس. كان يكره ما يجري عليه بنو أُميَّة مِن ذكْر عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام) وسبِّه على المنابر، ويُظهر الإنكار لذلك، فشهد عليه قوم مِن بني أُميَّة ذلك وأنكروا عليه، ونهَوه عنه فلم ينتهِ فنفوه مِن مَكَّة إلى المدينة، فقال في ذلك:

____________________

١ - مُعجم الشعراء، للمرزبانيّ: ٣٢١.

٢٢٠